[العالم عالمان عالم الغيب و عالم الشهادة]
ثم نقول و العالم عالمان ما ثم ثالث عالم يدركه الحس و هو المعبر عنه بالشهادة و عالم لا يدركه الحس و هو المعبر عنه بعالم الغيب فإن كان مغيبا في وقت و ظهر في وقت للحس فلا يسمى ذلك غيبا و إنما الغيب ما لا يمكن أن يدركه الحس لكن يعلم بالعقل إما بالدليل القاطع و إما بالخبر الصادق و هو إدراك الايمان فالشهادة مدركها الحس و هو طريق إلى العلم ما هو عين العلم و ذلك يختص بكل ما سوى اللّٰه ممن له إدراك حسي و الغيب مدركه العلم عينه و فيما ذكرناه تاهت العقول و حارت الألباب ثم إن الإنسان إذا دخل هذه الطريقة التي نحن عليها و أراد أن يتميز في علمائها و ساداتها فينبغي له أن لا يقيد نفسه إلا بالله وحده و هو التقييد الذاتي له الذي لا يصح له الانفكاك عنه جملة واحدة و هي عبودية لا تقبل الحرية بوجه من الوجوه و ملك لا يقبل الزوال و إذا لم يقيد الإنسان نفسه إلا بما هو مقيد به في ذاته و هو كما قلنا تقييده بالله الذي ﴿خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ فينبغي له إذ كانت له هذه المرتبة و لا بد أن لا يقف بنفسه إلا في البرزخ و هو المقام المتوهم الذي لا وجود له إلا في الوهم بين عالم الشهادة و الغيب بحيث أن لا يخرج شيء من الغيب المغيب الذي يتصف في وقت بالشهادة لا بالغيب الذي لا يستحيل عليه إن يكون شهادة بوجه من الوجوه إلا و هذا الواقف يعلمه فإذا برز إلى عالم الشهادة و أدركه فلا يخلو إما أن يبقى في عالم الشهادة أو لا يبقى كالأعراض فإن لم يبق فلا بد أن يفارق الشهادة و إذا فارق الشهادة فإنه يدخل إلى الغيب الذي لا يمكن أن يدرك أبدا شهادة و لا يكون له رجوع بعد ظهوره إلى الغيب الذي خرج منه لأن مقام الغيب الذي خرج منه هو الغيب الإمكانى و الذي انتقل إليه بعد حصوله في الشهادة الغيب المحالي فذلك الغيب المحالي لا يظهر عنه أبدا شيء يتصف بالشهادة و لما لم يكن هذا الذي انتقل إليه يتصف بالشهادة وقتا ما أو حالا ما لذلك دخل في ذلك الغيب و لم يرجع إلى الغيب الذي خرج منه و إذا وقف الإنسان في هذا المقام و تحقق به أخذه الحق و أوقفه بينه و بين كل ما سواه من نفسه و من غيره أعني من نفس العبد فيرى نفسه و عينه و هو خارج عنها في ذلك المقام الذي أوقفه و يراها مع من سواه من العالم و هو عينه كما رأى آدم نفسه و ذريته في قبضة الحق و هو خارج عن قبضة الحق التي رأى نفسه فيها في حال رؤيته نفسه خارجا عنها كما ورد في الخبر الإلهي فإذا وقف في هذا المقام و هو أرفع مقامات الكشف و كل مقام فهو دونه و هذا كان مقام الصديق رضي اللّٰه عنه الذي فضل به على من شهد له رسول اللّٰه ﷺ أنه فضل عليه إما من الحاضرين أو من الأمة لا يدري أي ذلك أراد ﷺ إلا من جاءه الخبر الصدق في كشفه لا غير فإذا وقف في هذا المقام استشرف على الغيبين الغيب الذي يوجد منه الكائنات و الغيب الذي ينتقل إليه بعض الكائنات بعد اتصافها بالشهادة و هذه مسألة جليلة القدر لا يعلمها كثير من الناس أعني هذه الأمور التي خرجت من الغيب إلى الشهادة ثم انتقلت إلى الغيب و هي الأعراض الكونية هل هي أمور وجودية عينية أو هي أحوال لا تتصف بالعدم و لا بالوجود و لكن تعقل فهي نسب و هي من الأسرار التي حار الخلق فيها ليست هي اللّٰه و لا لها وجود عيني فتكون من العالم أو تكون مما سوى اللّٰه فهي حقائق معقولة إذا نسبتها إلى اللّٰه عزَّ وجلَّ قبلها و لم تستحل عليه و إذا نسبتها إلى العالم قبلها و لم تستحل عليه ثم إنها تنقسم إلى قسمين في حق اللّٰه فمنها ما يستحيل نسبته إلى اللّٰه فلا تنسب إليه و منها ما لا تستحيل عليه فالذي لا يستحيل على اللّٰه يقبله العالم كله إلا نسبة الإطلاق فإن العالم لا يقبله و نسبة التقييد يقبله العالم و لا يقبله اللّٰه و هذه الحقائق المعقولة لها الإطلاق الذي لا يكون لسواها فيقبلها الحق و العالم و ليست من الحق و لا من العالم و لا هي موجودة و لا يمكن أن ينكر العقل العالم بها فمن هنا وقعت الحيرة و عظم الخطب و افترق الناس و حارت الحيرات فلا يعلم ذلك إلا اللّٰه و من أطلعه اللّٰه على ذلك و ذلك هو الغيب الصحيح الذي لا يوجد منه شيء فيكون شهادة و لا ينتقل إليه بعد الشهادة و ما هو محال فيكون عدما محضا و لا هو واجب الوجود فيكون وجودا محضا و لا هو ممكن يستوي طرفاه بين الوجود و العدم و ما هو غير معلوم بل هو معقول معلوم فلا يعرف له حد و لا هو عابد و لا معبود و كان إطلاق الغيب عليه أولى من إطلاق الشهادة لكونه لا عين له يجوز أن تشهد وقتا ما فهذا هو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه حيث قال ﴿عٰالِمُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام:73]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية