فمعنى ﴿يَنٰالُهُ التَّقْوىٰ﴾ [الحج:37] أنه يتناولها منك ليلبسك إياها بيده تشريفا لك حيث خلع عليك بغير واسطة إذ لبسها غير المتقي من غير يد الحق و سواء كانت الخلعة من رفيع الثياب أو دنيئها فذلك راجع إليك فإنه ما ينال منك إلا ما أعطيته و إن جمع ذلك التقوى فإنه لا يأخذ شيئا سبحانه من غير المتقي فلهذا وصف نفسه بأن التقوى تناله من العباد و إنما وصف الحق سبحانه بأن التقوى تصيبه و اللحوم و الدماء لا تصيبه لما كانت الإصابة بحكم الاتفاق لا بحكم القصد أضاف النيل إلى المخلوق لأنه يتعالى أن يعلم فيقصد من حيث يعلم و لكن إنما يصاب بحكم الاتفاق مصادفة و الحق منزه أن يعلم الأشياء بحكم الإصابة فيكون علمه للأشياء اتفاقا فإذا ناله التقوى من المتقي و خدم بين يديه و جعل ذاته بين يديه مستسلما لما يفعله فيه فيخلع سبحانه عند ذلك من العلم على المتقي و من شأن هذا العلم أن يحصل من اللّٰه تعالى للعبد بكل وجه من وجوه العطاء حتى يأخذ كل آخذ منه بنصيب فمنهم من يأخذه من يد الكرم و منهم من يأخذه من يد الجود و منهم من يأخذه من يد السخاء و منهم من يأخذه من يد المنة و الطول إلا الإيثار فإنه ليس له يد في هذه الحضرة الإلهية إذ كان لا يعطي عن حاجة لكن الأسماء الإلهية لما كانت تريد ظهور أعيانها في وجود الكون و أحكامها يتخيل أن إعطاءها من حاجة إلى الأخذ عنها فتتنسم من هذا رائحة الإيثار و ليس بصحيح و إنما وقع في ذلك طائفة قد أعمى اللّٰه بصيرتهم و لذلك العارفون اتصفوا بأصناف العطاء في التخلق بالأسماء لا بالإيثار فإنهم في ذلك أمناء لا يؤثرون إذ لا يتصور الإيثار الحقيقي لا المجازي عندهم و العارف لا يقول أعطيتكم و إنما يقول أعطيتك لأنه لا يشترك اثنان في عطاء قط فلهذا يفرد و لا يجمع فالجمع في ذلك توسع في الخطاب و الحقيقة ما ذكرناه و للكلام في هذا المنزل مجال رحب لا يسعه الوقت ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4]
منازل الحوض و أسراره *** مراتب العلم و أنواره
و هو من العلم الذي لم يزل *** صفاؤه شيب بأكداره
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية