الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)علوا معارج من عقل و من همم *** لحضرة دخلوا فيها و ما خرجوا جاءوا بأمر عظيم القدر منه و ما *** عليهم في الذي جاءوا به حرج [الشريعة التزام العبودية بنسبة الفعل إليك]الشريعة السنة الظاهرة التي جاءت بها الرسل عن أمر اللّٰه و السنن التي ابتدعت على طريق القربة إلى اللّٰه كقوله تعالى ﴿وَ رَهْبٰانِيَّةً ابْتَدَعُوهٰا﴾ [الحديد:27] و «قول الرسول صلى اللّٰه عليه و سلم من سن سنة حسنة» فأجاز لنا ابتداع ما هو حسن و جعل فيه الأجر لمن ابتدعه و لمن عمل به و أخبر أن العابد لله بما يعطيه نظره إذا لم يكن على شرع من اللّٰه معين أنه يحشر أمة وحده بغير إمام يتبعه فجعله خيرا و ألحقه بالأخيار كما قال في إبراهيم ﴿إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ﴾ [النحل:120] و ذلك قبل إن يوحى إليه و «قال عليه السلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فمن كان على مكارم الأخلاق فهو على شرع من ربه و إن لم يعلم ذلك و «سماه النبي صلى اللّٰه عليه و سلم خيرا في حديث حكيم بن حزام و إنه كان يتبرر في الجاهلية بأمور من عتق و صدقة و صلة رحم و كرم و أمثال ذلك فقال له رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم لما سأله عن ذلك أسلمت على ما أسلفت من خير» فسماه خيرا و جازاه اللّٰه به فالشريعة إن لم تفهم هكذا و إلا فما فهمت الشريعة و أما تتمة مكارم الأخلاق فهي تعريتها مما نسب إليها من السفسفة فإن سفساف الأخلاق أمر عرضي و مكارم الأخلاق أمر ذاتي لأن السفساف ليس له مستند إلهي فهو نسبة عرضية مبناها الأغراض النفسية و مكارم الأخلاق لها مستند إلهي و هو الأخلاق الإلهية فتتمة النبي صلى اللّٰه عليه و سلم مكارم الأخلاق ظهر في تبيينه مصارفها فعين لها مصارف تكون بها مكارم أخلاق و تعرى بذلك عن ملابس سفساف الأخلاق فما في الكون إلا شريعة [الشريعة أتت بلسان ما تواطأت عليه الأمة]ثم اعلم أن الشريعة أتت بلسان ما تواطأت عليه الأمة التي شرع اللّٰه لها ما شرع فمنه ما كان عن طلب من الأمة و منه ما شرعه ابتداء من الأحكام و لهذا «كان يقول صلى اللّٰه عليه و سلم اتركوني ما تركتكم» فإن كثيرا من الشريعة نزل بسؤال من الأمة لو لم يسألوه ما نزل و أسباب الأحكام دنيا و آخرة معلومة عند العلماء بأسباب النزول و الحكم يقال شرعت الرمح قبله أي قصدته به مستقبلا و الشريعة من جملة الحقائق فهي حقيقة لكن تسمى شريعة و هي حق كلها و الحاكم بها حاكم بحق مثاب عند اللّٰه لأنه حكم بما كلف إن يحكم به و إن كان المحكوم له على باطل و المحكوم عليه على حق فهل هو عند اللّٰه كما هو في الحكم أو كما هو في نفس الأمر فمنا من يرى أنه عند اللّٰه كما هو في الحكم و منا من يرى أنه عند اللّٰه كما هو في نفس الأمر و في هذه المسألة نظر يحتاج إلى سبر أدلة فإن العقوبة قد أوقعها اللّٰه في رمى المحصنات و إن صدقوا إذ ﴿لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ﴾ [النور:4] و قال في قضية خاصة في ذلك كان الرامي كاذبا فيها فقال ﴿لَوْلاٰ جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ﴾ [النور:13] كما قرر في الحكم ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اللّٰهِ هُمُ الْكٰاذِبُونَ﴾ [النور:13] فقوله أولئك هل يريد بهذه الإشارة هذه القضية الخاصة أو يريد عموم الحكم في ذلك فجلد الرامي إنما كان لرميه و لكونه ما جاء بأربعة شهداء و قد يكون الشهداء شهداء زور في نفس الأمر و تحصل العقوبة بشهادتهم في المرمي فيقتل و له الأجر التام في الأخرى مع ثبوت الحكم عليه في الدنيا و على شهود الزور و المفتري العقوبة في الأخرى و إن حكم الحق في الدنيا بقوله و شهادة شهود الزور فيه و لهذا «قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم إنما أنا بشر و إنكم لتختصمون إلي و لعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فقد قضى له بما هو حق لأخيه و جعله له حقا مع كونه معاقبا عليه في الآخرة كما يعاقب على الغيبة و النميمة مع كونهما حقا فما كان حق في الشرع تقترون به السعادة و لما كان الشريعة عبارة عن الحكم في المشروع له و التحكم فيه بها كان المشروع له عبدا فالتزم عبوديته لكون الحكم لا يتركه يرفع رأسه بنفسه فما له من حركة و لا سكون إلا و للشرع في ذلك حكم عليه بما يراه فلذلك جعلت الطائفة الشريعة التزام العبودية فإن العبد محكوم عليه أبدا و أما قولهم بنسبة الفعل إليك فإنك إن لم تفعل ما يريده السيد منك و إلا فما وجب عليك الأخذ به و لذلك رفع القلم عمن لا عقل له و يكفي هذا القدر في علم الشريعة ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4] «الباب الثالث و الستون و مائتان في معرفة الحقيقة»و هي سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه أنه الفاعل بك فيك منك لا أنت ﴿مٰا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّٰ هُوَ آخِذٌ بِنٰاصِيَتِهٰا﴾ |
|
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |