الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)صاحب الذوق لا بد أن يرى لتركه طلب الدنيا و الرغبة فيها أثرا إلهيا في قلبه فلو لم يكن للأمر وجود عند اللّٰه و اعتبار ما صح أن يكون له أثر في التجلي الإلهي لصاحب هذا الحال و هو الصحيح [مقام الزهد و حاله و مستوياته]فلنقل إن للزهد الذي ذكرناه مقاما و حالا فمقامه الإلهي مطلق و هو زهده في كل اسم إلهي يحول بينه و بين عبوديته و الرباني مقيد بصفة التنزيه عن حكم هذا الاسم عليه و الرحماني هو صرفه على ما يستحقه أعني هذا المزهود فيه فأما في الملك من كونه مسلما فالزهد في الأكوان و هو الحجاب الأبعد الأقصى و أما في الجبروت من كونه مؤمنا فالزهد في نفسه و هو الحجاب الأدنى الأقرب و أما في الملكوت من كونه محسنا فالزهد في كل ما سوى اللّٰه و هنا يرتفع الحجاب عند الطائفة [مقولة أبي يزيد الأكبر في الزهد]قال أبو يزيد الأكبر ليس الزهد عندي بمقام إني كنت زاهدا ثلاثة أيام أول يوم زهدت في الدنيا و اليوم الثاني زهدت في الآخرة و اليوم الثالث زهدت في كل ما سوى اللّٰه فناداني الحق ما ذا تريد فقلت أريد أن لا أريد لأني أنا المراد و أنت المريد و قد انتقد عليه هذا القول بعض أهل الطريق و جهل مقام أبي يزيد في ذلك و قد تكلمنا على قصده بهذا القول و بينا فساد هذا القول أعني قول المعترض عليه في غير هذا الموضع [متى ينبغي للعبد أن يزهد و متى ينبغي له أن لا يزهد]و هو من المقامات المستصحبة للعبد ما لم ينكشف له فإذا كشف الغطاء عن عين قلبه لم يزهد و لا ينبغي له أن يزهد فإن العبد لا يزهد فيما خلق له و لا يكون زاهدا إلا من يزهد فيما خلق من أجله و هذا لا يصح كونه فالزهد من القائل به جهل في عين الحقيقة لأنه ما ليس لي لا اتصف بالزهد فيه و ما هو لي لا يمكنني الانفكاك عنه فأين الزهد فلنقل صاحب هذا الحكم هذا هو الزهد الذي يستحق هذا الاسم و لنا في هذا المقام الزهدي نظم العيب منك و أنت لا تدري *** فالزهد مثل صلاتي الوتر و سراج نفسك نوره متعلق *** بجميع ما في الكون من أمر فأطف السراج يزول كل تعلق *** فالزهد فيك كليلة القدر شهي من غروب الشمس حتى تنتهي *** بالحكم فيك كمطلع الفجر يقول لو رأيت الحق لم تزهد فإن اللّٰه ما زهد في الخلق و ما ثم تخلق إلا بالله فبمن تتخلق في الزهد انظر إلى هذا المعنى فإنه دقيق جدا [الباب الرابع و التسعون في ترك الزهد]الزهد ترك و ترك الترك معلوم *** بأنه مسك ما في الكف مقبوض الأرض قبضته و هو الغني فأين *** الترك فهو محال فيك مفروض لا ينعم الحق بالنعما فأنت لها *** و قد زهدت فهذا اللفظ تعريض فالزهد ليس له في العلم مرتبة *** و تركه عند أهل الجمع مفروض [ترك الزهد هو عين رجوعك إلى ما زهدت فيه]اعلم أن ترك الترك إمساك و الزهد ترك و ترك الزهد ترك الترك فهو عين رجوعك إلى ما زهدت فيه لأن العلم الحق ردك إليه و الحال يطلبه فما له حقيقة في باطن الأمر لكن له حكم ما في الظاهر فيصح هذا القدر منه و بقي هل يقع الإمساك الذي هو ترك الزهد عن رغبة في الممسوك أو لا عن رغبة فاختلفت أحوال الناس فيه [اختلاف أحوال الناس في ترك الزهد]فمن أمسك لا عن رغبة فهو زاهد أمين على إمساك حقوق الغير حتى يؤديها إلى أربابها في الأوقات المقدرة المقررة و قد يكون عن كشف و علم صحيح بأعيان أصحابها و قد لا يكون غير أنه لا يتناول منها شيئا في حق نفسه إذ كان بهذه المثابة و من أمسك عن رغبة في الممسوك و هم رجلان الواحد راجع عن مقام الزهد بلا شك لمرض قام به في نفسه فهذا ليس بشيء و الرجل الآخر و هم الأنبياء و الكمل من الأولياء فأمسكوا باطلاع عرفاني أنتج لهم أمرا عشقه بما في الإمساك من المعرفة و التحلي بالكمال لا عن بخل و ضعف يقين «أرسل اللّٰه على أيوب رجل جراد من ذهب فسقط عليه فأخذ يجمعه في ثوبه فأوحى اللّٰه إليه أ لم أكن أغنيتك عن هذا فقال لا غنى لي عن خيرك» فانظر ما أعطته معرفته [ما زهد من زهد إلا لطلب الأكثر فزهد في الأقل]و ما زهد من زهد إلا لطلب الأكثر فزهد في الأقل ﴿قُلْ مَتٰاعُ الدُّنْيٰا قَلِيلٌ﴾ [النساء:77] فأين الزهد فما تركوا الدنيا إلا حذرا أن يزرأهم في الآخرة فهذا عين الطمع و الرغبة فيما يتخيل فيه أنه زهد و هذا هو مقام ترك الزهد و أما حاله فالزهد في الدنيا و لهذا لا يثبت |
|
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |