الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)الفقر أمر يعم الكون أجمعه *** عينا و حكما و لكن ليس ينطلق إلا على ممكن أسماء خالقه *** تبغيه فهي لهذا الأمر تستبق إن القوي بالاستعداد قوته *** مثل الضعيف ففي الأحكام تتفق إن الحقائق تجري في ميادنها *** و كل حق له في نفسه طلق إن الفقير الذي استولت خصاصته *** عليه في كل شيء ثوبه خلق في كل حال من الأحوال تبصره *** كأنه طبق من فوقه طبق و ليس يمنعه عن عين موجدة *** على طريقته الآفات و العلق (و من ذلك) الفقر حكم و لكن ليس يدركه *** إلا الذي جل عن أهل و عن ولد الفقر حكم يعم الكون أجمعه *** و لا أحاشي من الأعيان من أحد لأنها كلها بالذات تطلبه *** و الفقر يطلبها بالذات في البلد فكلها عدد لأنها عدد *** و الكل شفع سوى المدعو بالأحد و ما سواه من الأعيان فهو كما *** قلناه كالواهب المحسان و الصمد سبحانه جل أن يحظى به أحد *** فلا يولد في عقل و في جسد [أيها الناس أنتم الفقراء إلى اللّٰه]قال اللّٰه تعالى ﴿يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15] يعني بأسمائه كما نحن فقراء إلى أسمائه و لذلك أتى بالاسم الجامع للأسماء الإلهية حقيقة سره ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيٰاءُ﴾ [آل عمران:181] فلو اتصفوا اتصفوا بحقيقة ﴿سَنَكْتُبُ مٰا قٰالُوا﴾ [آل عمران:181] سببه ﴿وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ﴾ [الحديد:18] نزاهته ﴿قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة:245] بيانه و دليله الإحسان أن تعبد اللّٰه كأنك تراه جزاؤه ﴿وَ مٰا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ [آل عمران:115] و باب الفقر ليس فيه ازدحام لاتساعه و عموم حكمه و الفقر صفة مهجورة و ما يخلو عنها أحد و هي في كل فقير بحسب ما تعطيه حقيقته و هي ألذ ما ينالها العارف فإنها تدخله على الحق و يقبله الحق لأنه دعاه بها و الدعاء طلب و تقرب منها أختها و هي الذلة قال أبو يزيد قال لي الحق تقرب إلي بما ليس لي الذلة و الافتقار فذله و حجبه فهاتان صفتان في اللسان نعتان للممكنات ليس لواجب الوجود منهما نعت في اللسان تعالى اللّٰه حجاب مسدل و باب مقفل مفتاحه معلق عليه يراه البصير و لا يحس به الأعمى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ﴾ [الزمر:9] و في هذه الآية أعني آية قوله ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ﴾ [فاطر:15] تسمى الحق لنا باسم كل ما يفتقر إليه غيرة منه أن يفتقر إلى غيره فالفقير هو الذي يفتقر إلى كل شيء و لا يفتقر إليه شيء و هذا هو العبد المحض عند المحققين فتكون حاله في شيئية وجوده كحاله في شيئية عدمه دواء نافع لداء عضال قوله ﴿وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم:9] قضية في عين قضية عامة ﴿أَ وَ لاٰ يَذْكُرُ الْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ [مريم:67] تنبيه على شرف الرتبة ﴿هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ [الانسان:1] مع وجود عينه لأن الحين الدهري أتى عليه فالفقر احتياج ذاتي من غير تعيين حاجة لجهله بالأصلح له و من أسماء اللّٰه المانع و هو قد ﴿أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ [ طه:50] حتى الغرض لما خلقه فينا أعطاه خلقه فلإنزال أصحاب أغراض فما يمنع إلا للمصلحة كما يملي لقوم ﴿لِيَزْدٰادُوا إِثْماً﴾ [آل عمران:178] فقد أعطاهم الإثم كما أعطى الإثم خلقه فالحق لا يتقيد إنعامه و القوابل تقبل بحسب استعداداتها فمنعه عطاء لعلمه بالمصالح لذلك حكي عن بعضهم أنه سئل عن الفقير ما هو فقال من ليست له إلى اللّٰه حاجة يعني على التعيين و نبه أن الاحتياج له ذاتي و اللّٰه قد ﴿أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ [ طه:50] فقد أعطاك ما فيه المصلحة لك لو علمت فما بقي لصاحب هذا المقام ما يسأل اللّٰه فيه و ما شرع السؤال إلا لمن ليس له هذا الشهود و رآه يسأل الأغيار فغار فشرع له أن يسأله و لما سبق في علمه أنه يخلق قوما و يخلق فيهم السؤال إلى الأغيار و يحجبهم عن العلم به أنه المسئول في كل عين مسئولة يفتقر إليها من جماد و نبات و حيوان و ملك و غير ذلك من المخلوقات أخبرنا أن الناس فقراء إلى اللّٰه أي هو المسئول على الحقيقة فإنه ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [المؤمنون:88] فالفقر إلى اللّٰه هو الأصل فالعلماء بالله هم الذين يحفظون أحوالهم (وصل) [الغني بالله]الغني بالله فقير إليه فالنسبة بلفظ الفقر إلى اللّٰه أولى من النسبة بالغنى لأن الغني نعت ذاتي يرفع المناسبة بين ذات الحق و الخلق |
|
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |