و رأيت فيه علم خزائن مزيد العلوم و تنزلها على قلوب العارفين و بمن تحق و من يقسمها على القلوب و ما ينزل منها عن سؤال و عن غير سؤال فإذا سأل الإنسان مزيد العلم فليسأل كما أمر اللّٰه تعالى نبيه أن يسأل إذ قال له ﴿وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [ طه:114] فنكر و لم يعين فعم فأي علم نزل عليه دخل تحت هذا السؤال فإن النزول عن سؤال أعظم لذة من النزول عن غير سؤال فإن في ذلك إدراك البغية و ذلة الافتقار و إعطاء الربوبية حقها و العبودة حقها فإن العبد مأموران يعطي كل شيء حقه كما أعطى اللّٰه كل شيء خلقه و في العلم المنزل عن السؤال من علو المنزلة ما لا يقدر قدر ذلك إلا اللّٰه و رأيت علم حصر الآيات في السمع و البصر فأما شهود و إما خبر و رأيت التوراة و علم اختصاصها بما كتبها اللّٰه بيده و تعجبت من ذلك كيف كتبها بيده و لم يحفظها من التبديل و التحريف الذي حرفه اليهود أصحاب موسى فلما تعجبت من ذلك قيل لي في سرى اسمع الخطاب بل أرى المتكلم و أشهده في اتساع رحمة أنا فيها واقف و قد أحاطت بي فقال لي أعجب من ذلك إن خلق آدم بيديه و ما حفظه من المعصية و لا من النسيان و أين رتبة اليد من اليدين فمن هذا فأعجب و ما توجهت اليدان إلا على طينته و طبيعته و ما جاءته الوسوسة إلا من جهة طبيعته لأن الشيطان وسوس إليه و هو مخلوق من جزء ما خلق منه آدم فما نسي و لا قبل الوسوسة إلا من طبيعته و على طبيعته توجهت اليدان ثم مع هذا فما حفظه مما حمله في طينته من عصاة بنيه فلا تعجب لتغيير اليهود التوراة فإن التوراة ما تغيرت في نفسها و إنما كتابتهم إياها و تلفظهم بها لحقه التغيير فنسب مثل ذلك إلى كلام اللّٰه فقال ﴿يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مٰا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:75] أن كلام اللّٰه معقول عندهم و أبدوا في الترجمة عنه خلاف ما هو في صدورهم عندهم و في مصحفهم المنزل عليهم فإنهم ما حرفوا إلا عند نسخهم من الأصل و أبقوا الأصل على ما هو عليه ليبقى لهم العلم و لعلمائهم و آدم مع اليدين عصى بنفسه و لم يحفظ حفظ كلام اللّٰه فهذا أعجب و إنما عصم كلام اللّٰه لأنه حكم و الحكم معصوم و محله العلماء به فما هو عند العلماء محرف و هم يحرفونه لأتباعهم و آدم ما هو حكم اللّٰه فلا يلزمه العصمة في نفسه و تلزمه العصمة فيما ينقله عن ربه من الحكم إذا كان رسولا هو و جميع الرسل و هذا علم شريف فإن اللّٰه ما جعل في العالم هدى لا يصح أن يعود عمى فإنه أبان لمن أوصله إليه فما اتصف بالعمى إلا من لم يصل إليه الهدى من ربه و من قيل له هذا هدى لا يقال إنه وصل إليه حتى يكون هو الذي أنزل عليه الهدى و حصل له العلم بذلك فإن هذا لا يكون عنده عمى أبدا فما استحب العمى على الهدى إلا من هو مقلد في الأمرين لأبناء جنسه فالعمى يوافق طبعه و الهدى يخالف طبعه فلذلك يؤثره عليه فرأيت فيها علم من اتأد و على اللّٰه اعتمد و هذا هو التوكل الخامس و هو قوله تعالى في سورة المزمل ﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً﴾ [المزمل:9] و رأيت فيها علم ما ينال بالورث و علم ما ينال بالكسب و رأيت فيها علم الفرق بين شكر المكلف و شكر العبد و رأيت فيها علم تنوع الأحكام لتنوع الأزمان فإنه من المحال أن يقع شيء في العالم إلا بترتيب زماني و تقدم و تأخر و مفاضلة لأن اللّٰه أشهدني أسماءه فرأيتها تتفاضل لاشتراكها في أمور و تميزها في أمور مع الاشتراك و كل اسم لا يقع فيه اشتراك مع اسم لا مفاضلة بين ذاتك الاسمين فاعلم ذلك فإنه علم عزيز و رأيت فيها علم تسليط العالم بعضه على بعض و ما سببه فرأيته من حكم الأسماء الإلهية في طلبها ظهورها و ولايتها و ما هي عليها من الغيرة و رأيتها تستعين بالمشارك لها من الأسماء فهي المعانة المعينة و لذلك خرج الخلق على صورتها فمنها المعان و المعين و لما وقع الأمر هكذا خاطبهم بحكم التعاون فقال ﴿وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ﴾ [المائدة:2] فيكون ما فطروا عليه عباده فإنهم قد يتعاونون بتلك الحقيقة ﴿عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ﴾ [المائدة:2] و رأيت علم الجبر فرأيته آخر ما تنتهي إليه المعاذر و هو سبب مال الخلق إلى الرحمة فإن اللّٰه يعذر خلقه بذلك فيما كان منهم فإنهم لا يبقى منهم إلا التضرع الطبيعي و لو لا إن نشء الآخرة مثل نشء الدنيا ذو جسم طبيعي و روح ما صح من الشقي طلب و لا تضرع إذ لو لم يكن هناك أمر طبيعي لم يكن للنفس إذا جهلت من ينبهها على جهلها لعدم إحساسها إذ لا حس لها إلا بالجزء الطبيعي الذي هو الجسد المركب و بالجهل شقاؤها فكانت النفس بعد المفارقة إذا فارقت و هي على جهالة كان شقاؤها جهلها و لا تزال فيه أبدا فمن رحمة اللّٰه بها إن جعل لها هذا المركب الطبيعي في الدنيا و الآخرة و ما كل أحد يعلم حكمة هذا المركب الذي لا يخلو حيوان عنه و رأيت علم الرجعة و هو علم البعث و حشر الأجساد في الآخرة و أن الإنسان إذا انتقل عن الدنيا لن يرجع إليها أبدا لكنها تنتقل معه