الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() قال اللّٰه تعالى ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:1] و قد قلنا بأن الخليل على دين خليله و هؤلاء الموصوفون بأنهم أعداء اللّٰه مع كون اللّٰه يحسن إليهم فذلك لجهلهم به و حجب الأسباب دونه في أعينهم فلا يعلمون إلا ما شاهدوه فمن أراد تحصيل هذا المقام و أن يكون خليلا للرحمن يجمع بين الآية في قوله ﴿لاٰ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:1] مع جهل الأعداء به إن الإحسان منه تعالى و هو محسن إليهم مع عداوتهم و لم يجعل في قلوبهم الشعور بذلك فينبغي للإنسان الطالب مقام الخلة أن يحسن عامة لجميع خلق اللّٰه كافرهم و مؤمنهم طائعهم و عاصيهم و أن يقوم في العالم مع قوته مقام الحق فيهم من شمول الرحمة و عموم لطائفه من حيث لا يشعرهم أن ذلك الإحسان منه و يوصل الإحسان إليهم من حيث لا يعلمون فمن عامل الخلق بهذه الطريقة و هي طريقة سهلة فإني دخلتها و ذقتها فما رأيت أسهل منها و لا ألطف و ما فوق لذتها لذة فإذا كان العبد بهذه المثابة صحت له الخلة و إذا لم يستطع بالظاهر لعدم الموجود أمدهم بالباطن فدعا اللّٰه لهم في نفسه بينه و بين ربه هكذا تكون حالة الخليل فهو رحمة كله و لو لا الرحمة الإلهية ما كان اللّٰه يقول ﴿وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا﴾ [الأنفال:61] و ما كان اللّٰه يقول ﴿حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ [التوبة:29] أ ليس هذا كله إبقاء عليهم و لو لا ما سبقت الكلمة و كان وقوع خلاف المعلوم محالا ما تألمت ذرة في العالم فلا بد من نفوذ الكلمة ثم يكون المال للرحمة التي ﴿وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:156] فهو في الدنيا يرزق مع الكفر و يعافي و يرحم فكيف مع الايمان و الاعتراف في الدار الآخرة على الكشف كما كان في قبض الذرية فعقابهم و عذابهم تطهير و تنظيف كأمراض المؤمنين و ما ابتلوا به في الدنيا من مقاساة البلايا و حلول الرزايا مع إيمانهم ثم دخول بعض أهل الكبائر النار مع إيمانهم و توحيدهم إلى أن يخرجوا بالشفاعة ثم إخراج الحق من النار من لم يعمل خيرا قط حتى الساكنين في جهنم لهم فيها حال يستعذبونها و بهذا سمي العذاب عذابا فالخليل على عادة خليله و هو «قوله ﷺ المرء على دين خليله» أي على عادة خليله قال إمرؤ القيس كدينك من أم الحويرث قبلها *** و جارتها أم الرباب بمأسل يقول كعادتك فمن كانت عادته في خلق اللّٰه ما عودهم اللّٰه من لطائف مننه و أسبغ عليهم من جزيل نعمه و أعطف بعضهم على بعض فلم يظهر في العالم غضب لا تشوبه رحمة و لا عداوة لا تتخللها مودة فذلك يستحق اسم الخلة لقيامه بحقها و استيفائه شروطها لو لم يكن من عظيم الرجاء في شمول الرحمة إلا قوله ﴿اَلرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ﴾ [ طه:5] فإذا استقرت الرحمة في العرش الحاوي على جميع أجسام العالم فكل ما يناقضها أو يريد رفعها من الأسماء و الصفات فعوارض لا أصل لها في البقاء لأن الحكم للمستولي و هو الرحمن ف ﴿إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [هود:123] فابحث على صفات إبراهيم عليه السّلام و قم بها عسى اللّٰه أن يرزقك بركته فإنه بالخلة قام بها ما هي أوجبت له الخلة فلهذا دللناك على التخلق بأخلاق اللّٰه و «قد قال ﷺ بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» و معنى هذا أنه لما قسمت الأخلاق إلى مكارم و إلى سفساف و ظهرت مكارم الأخلاق كلها في الشرائع على الأنبياء و الرسل و تبين سفسافها من مكارمها عند الجميع و ما في العالم على ما يقوم عليه الدليل و يعطيه الكشف و المعرفة إلا أخلاق اللّٰه فكلها مكارم فما ثم سفساف أخلاق فبعث رسول اللّٰه ﷺ بالكلمة الجامعة إلى الناس كافة و أوتي جوامع الكلم و كل نبي تقدمه على شرع خاص فأخبر ﷺ أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق لأنها أخلاق اللّٰه فالحق ما قيل فيه إنه سفساف أخلاق بمكارم الأخلاق فصار الكل مكارم أخلاق فما ترك ﷺ في العالم سفساف أخلاق جملة واحدة لمن عرف مقصد الشرع فأبان لنا مصارف لهذا المسمى سفساف أخلاق من حرص و حسد و شره و بخل و فزع و كل صفة مذمومة فأعطانا لها مصارف إذا أجريناها على تلك المصارف عادت مكارم أخلاق و زال عنها اسم الذم و كانت محمودة فتمم اللّٰه به مكارم الأخلاق فلا ضد له كما أنه لا ضد للحق و كل ما في الكون أخلاقه فكلها مكارم و لكن لا تعرف و ما أمر اللّٰه باجتناب ما يجتنب منها إلا لاعتقادهم فيها إنها سفساف أخلاق و أوحى إلى نبيه أن يبين مصارفها ليتنبهوا فمنا من علم و منا من جهل فهذا معنى قوله إنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق و به كان خاتما (الباب الثمانون و مائة في معرفة مقام الشوق و الاشتياق و هو من نعوت المحبين العشاق)id="p4097" class=" G" /> |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |