الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
||||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() الزور مالوا إلى جانب العدم و رجحوه على الوجود و وصفوا بالكون ما ليس بكائن و جعله اللّٰه على لسان رسوله من الكبائر لأنه ما مدلول قولهم إلا العدم و مع هذا كله إن استطاع من هو من أهل طريق اللّٰه التعريض لا التصريح حتى يفهم عنه ما يريد إذا علم إن في ذلك منفعة دينية فليفعل فهو أولى و يحصل الغرض و يكون اللسان قد وفى ما تعين عليه من غير فحش في المنطق و هذا كله ما دام يسمى مؤمنا و أما إن كان هذا الشخص في مقام من كان الحق سمعه و بصره و لسانه فحاله غير حال المؤمن مع أنه من أهل الايمان [الدواء العامي و الدواء الملكي]و اعلم أن اللّٰه تعالى ما خلق داء إلا و خلق له دواء و الأدوية على نوعين دواء العامة و هو الذي يقدر عليه كل أحد و الدواء الآخر دواء ملكي و هو الذي لا يقدر عليه إلا الملوك و الأغنياء لنفاسته و غلو ثمنه فلا يقدر عليه إلا المتمكن من المال و السلطان و هكذا قسم الأدوية أهل الطب و صادفوا الحق في ذلك فأما الدواء العام النافع الداخل تحت قدرة كل أحد من غني و فقير و سوقة و ملوك من داء جميع الذنوب و المعاصي فهو التوبة و إرضاء الخصوم من شروطها مما يقدر عليه من ذلك و عينه عليه الشارع إذا كان ذلك الداء مما ينبغي أن يرضى فيه الخصوم و إذا كان مما لا ينبغي فيتوب و لا يرضى خصمه فإنه إن أرضاه قد يقع في محظور أشد مما كان قد تاب عنه فلا يغفل عنه [الدواء الملكي لا يستعمله إلا العارفون]و أما الدواء الملكي فلا يستعمله إلا العارفون السادة من رجال اللّٰه و هم الذين يكون الحق سمعهم و بصرهم و لسانهم و هو قوله عقيب قوله ﴿وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات:12] هذا خطاب عام ثم قال ﴿وَ اتَّقُوا اللّٰهَ﴾ [البقرة:189] هذا هو الدواء و معناه اتخذوه وقاية بينكم و بين هذه الأمور المذمومة التي الغيبة منها فإذا اتخذتموه جنة تعاورت هذه الجنة سهام هذه الأفعال و هي قوية لا تنفذها هذه السهام فيكون المتقي بها في حمايتها و لا يكون الحق وقاية للعبد حتى يتلبس به العبد كما يتلبس المتوقى بالجنن من الدرع الحصينة و غيرها و صورة تلبسه أن يكون الحق سمعه و لسانه و جميع قواه و جوارحه في حال تصرفها فيما هي له فيكون نورا كله [التنبيه في القرآن على الدواء الملكي السلطاني]فنبه اللّٰه في كتابه على هذه الأدواء الملكية السلطانية مثل قوله تعالى ﴿فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا﴾ [الشمس:8] و الغيبة من الفجور ﴿وَ تَقْوٰاهٰا﴾ [الشمس:8] أي الذي يتخذه وقاية من هذا الفجور و لم يجعل الفجور من أوصافها و إنما جعله مجعولا فيها من الملهم لها كما أيد هذا بقوله ﴿أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً﴾ [فاطر:8] فما جعل التزيين له بل قال ﴿زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ﴾ [النمل:4] و قال ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [النمل:24] و لما أضاف التزيين إليه سبحانه قال ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل:4] أي يحارون و الحيرة من صفات الأكابر و صفة الحيرة في مثل هذا أنه الأمر في إيجاده للملهم المزين و المجعول فيه الملهم و المزين له مأمور باجتنابه و هو الاتصاف بما ألهم له و ما زين من قبل أن يظهر بالفعل فهو مذموم غير مؤاخذ به حتى يتلبس به في الظاهر ثم قال في أمور من هذا الباب إنه ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:90] و هو البعيد من الرحمة ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:90] أي و كونوا مع الاسم القريب من الرحمة و من أسمائه سبحانه البعيد فمن اتخذ الحمق جنة و وقاية كما أمر لم تضره هذه الأشياء فإن اللّٰه تعالى ما نبهه على استعمال هذه الأدواء إلا لإقامة العذر منه إذا سئل عن مثل هذا و المؤمن غيب خلف جنته فهو في حمى فلا يخرج عن حماه و الفاسق الذي لا غيبة فيه ليس بغائب خلف جنته بل هو خارج عنها لأن الفسوق الخروج «فقال لا غيبة في فاسق» [من أخرج غيبا إلى شهادة فقد أخطأ]فمن أخرج غيبا يستحق أن يكون غيبا إلى شهادة فقد أخطأ و لهذا أضاف الغيبة إلينا فقال ﴿وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ [الحجرات:12] فجعلنا نشأة واحدة ذات أبعاض فإن الجزء و التفصيل إنما يرد على الكل فما خرجنا عنا و لا وقعنا إلا فينا فشدد الأمر علينا في ذلك فإن القاتل نفسه حرمت عليه الجنة و هي الساترة فإن الشيء لا يستتر عن نفسه و كل من ذكر غائبا فقد صيره شهادة و غربه عن موطنه و موت الغريب شهادة [المغتاب فاعل خير في حق من اغتابه و ان كره ذلك منه]فالمغتاب فاعل خير في حق من اغتابه و إن كان يكره ذلك ففيه منفعة كشارب الدواء الكرة ﴿وَ عَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:216] و إذا كان فاعل خير من غير قصد فهو ممن أجرى اللّٰه الخير لزيد على يديه فيكون جزاؤه جزاء من وفق لعمل خير من غير قصد في حق من اغتابه لكن ذلك مقصود لمن ألهمه إياه و سماه فجورا في حقه فيصلح اللّٰه يوم القيامة بين عباده لما يراه المظلوم من الخير الواصل إليه على يدي أخيه فيشكره على ذلك فيسعدان جميعا و في الخبر الصحيح ﴿فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1] فإن اللّٰه يصلح بين عباده يوم القيامة فالغيبة و إن كانت مذمومة فهي من ذلك الوجه محمودة في حق من اغتيب فمال ذلك إلى الخير إذ كانت الجنة و الوقاية الحائلة بينهما |
|
||||||||||
![]() |
![]() |
||||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |