الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)
كانت لعين الحق عن انكسار من العبد و ذلة فلما وصف الحق نفسه بأنه يكرم عباده بنزوله إليهم حصل في نفس المخلوق إن اللّٰه ما اعتنى به هذه العناية إلا و للمخلوق في نفس هذا العظيم ذي الجلال تعظيم فرأى نفسه معظما فلذلك زاد في تعظيم الحق في نفسه إيثارا لجنابه لاعتناء الحق به على عظمته فزاد الحق بالكرم تعظيما في نفس هذا العبد أعظم من العظمة الأولى هذا إذا أخذ الجلال و حمله على العظمة فإن أخذه السامع و حمله على نقيض العظمة فإنه يحصل أيضا في نفسه القنوط لأنه حقير و قد استند إلى مثله فمن أين يأتيه من تكون له منه رفعة و الذي استند إليه جليل فيقول له لسان الصفة و مع هذا فإنه ذو إكرام و الدليل على أنه ذو إكرام امتنانه عليك بوجودك و لم تكن شيئا موجودا و لا مذكورا فلو لا كرمه لبقيت في العدم فكرامته بك في إعطائه الوجود إياك أعز من كرامته بك بعد وجودك بما يمنحك به من نيل أغراضك فيتنبه هذا الناظر في هذا الاسم و حمله على نقيض العظمة و يقول صحيح ما قال من أكرمني بالوجود الخير و حال بيني و بين الشر المحض و هو العدم لا بد أن يكون قادرا على إيجاد ما يسرني و دعه يكون في نفسه ما كان إنما الغرض أن يكون له الاقتدار على تكوين ما أريده منه و ما جعل عنده هذا إلا قوله ﴿وَ الْإِكْرٰامِ﴾ [الرحمن:27] و انظر إلى «قول النبي ﷺ و ما أعجبه في نهيه أن يقال عن العنب الكرم» و غيرته ﷺ على هذا الاسم [إن الكرم قلب المؤمن]ثم قال فإن الكرم قلب المؤمن فإن قلبت المؤمن وجدت الحق في قلبك إياه «فإن اللّٰه يقول وسعني قلب عبدي المؤمن» و الحق باطن المؤمن و هو قلب الظاهر و الحق هنا هو الكريم لأن القلب هو الكرم فهو محل الكرم و جاء بالاسم الكريم على هذه البنية لكونها تقتضي الفاعل و المفعول فهو تعالى كريم بما وهب و أعطى و جاد و امتن به من جزيل الهبات و المنح و هو مكرم و متكرم عليه بما طلب من القرض فأقرض العبد ربه عن أمره و بما عبده خلقه لأنه ما خلقهم إلا ليعبدوه و جعل لهم الاختيار فلما جعل لهم الاختيار ربما أداهم ذلك إلى البعد عما خلقوا له من العبادة و لما علم الحق ذلك ظهر في صورة كل شيء و أخبر عباده بذلك فقال ﴿فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ﴾ [البقرة:115] و لا بد لكل مخلوق من التولي إلى أمر ما و قال الحق تعالى في ذلك الذي توليت إليه وجهي و ما أعلمهم بذلك إلا ليتصفوا بصفة الكرم على اللّٰه بتوليهم لأنهم لو لم يعلموا ذلك بإعلامه مع وجود الاختيار الذي يعطي التفرق في الأشياء لتخيلوا أنهم قد خرجوا عن حكم ما خلقوا له من التكرم على ربهم بعبادتهم إياه فربما كانوا يجدون في نفوسهم من ذلك حرجا حيث خالفوا ما خلقوا له مع كرمه بهم بإيجادهم فأزال اللّٰه عنهم ذلك الحرج كرما منه و اعتناء بهم بقوله ﴿فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ﴾ [البقرة:115] فانطلقوا في اختيارهم إذا علموا أنهم حيث تولوا ما ثم إلا وجه اللّٰه فوقفوا على علم ما خلقوا له و قد كان قبل هذا يتخيلون أنهم يتبعون أهواءهم و الآن قد علموا إن أهواءهم فيها وجه الحق و لهذا جاء بالاسم اللّٰه لأنه الجامع لكل اسم فقال ﴿فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ﴾ [البقرة:115] و ذلك الأين يعين بحقيقته اسما خاصا من أسماء اللّٰه فلله الإحاطة بالأينيات بأحكام مختلفة لأسماء إلهية مختلفة تجمعها عين واحدة فمن كرمه قبول كرم عباده فقبل عطاياهم قرضا و صدقة فوصف نفسه بالجوع و الظماء و المرض ليتكرم عليه في صورة ذلك الكون الذي الحق وجهه بالعيادة و الإطعام و السقي و الكرم على الحاجة أعظم وقوعا في نفس المتكرم عليه من الكرم على غير حاجة لأنه مع الحاجة ينظره إحسانا مجردا يثمر له الشكر و لا بد و الشكر يثمر الزيادة من العطاء و الكرم على غير الحاجة من المتكرم عليه يظهر له الحال الذي هو عليه وجوها من التأويل قد يخرجه من نظره إنه أحسن إليه فربما يتخيل فيه أمرا يرد به فلهذا أنزل الحق إلى عباده في طلب الكرم منهم إلى الظهور بصفة الحاجة ليعلمهم أنه ما ينظر في أعطياتهم إلا الإحسان مجردا فهي بشرى من اللّٰه جاءت منه إلى عباده من قوله ﴿لَهُمُ الْبُشْرىٰ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا﴾ [يونس:64] و هذه منها فهذا اسم الكريم من حضرة الكرم فبكرمه تكرمت عليه كما قررنا ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4] «حضرة المراقبة»إن الرقيب لزيم حيثما كان *** لذاك يحفظ أعيانا و أكوانا وقتا يكون على ذات مصرفة *** عن أمره كان ذاك الأمر ما كانا |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
| الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |
||||||||||





