من الجن و الإنس مؤمنا و كذلك شرك بينهما في الشيطنة فقال تعالى ﴿شَيٰاطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ﴾ [الأنعام:112] و قال ﴿اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّٰاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّٰاسِ﴾ و قد علمنا إن النفس بذاتها و إن كانت مقيدة لا تشتهي التقييد بذاتها و تطلب السراح و التصرف بما يخطر لها من غير تحجير فإذا رأيت النفس قد حبب إليها التحجير فقامت به طيبة و كره إليها تحجير آخر فقامت به إن قامت غير طيبة مكرهة فتعلم قطعا إن ذلك التحجير مما ألقى إليها من غير ذاتها كان التحجير ما كان فإذا حبب إلى نفوس العامة القيام بتحجير خاص فتعلم قطعا إن ذلك التحجير هو الباطل الذي يؤدي العمل به إلى شقاوة العامل به و الواقف عنده فإن الشيطان الذي يوسوس في صدره يوسوس إليه دائما و يحببه إليه لأن غرضه أن يشقيه و إذا رأيته يكره ذلك التحجير و يطلب تأويلا في ترك العمل به فتعلم إن ذلك تحجير الحق الذي يحصل للعامل به السعادة إلا أهل الكشف الذين حبب اللّٰه إليهم الايمان و زينه في قلوبهم و كره إليهم الكفر و الفسوق و العصيان : و إن لم يعرفوا أنهم كشف لهم و لكن علمناه نحن منهم و هم لا يعلمونه من نفوسهم و لهذا نرى من ليس بمسلم يثابر على دينه و ملازمته كأكثر اليهود و النصارى أكثر مما يثابر المسلم على إقامة جزئيات دينه و مثابرته على ذلك دليل على أنه على طريق يشقى بسلوكه عليها و هذا من مكر اللّٰه الخفي الذي لا يشعر به كل أحد إلا من كان على بصيرة من ربه و هذا الصنف قليل و لا يوجد في الجن لا في مؤمنهم و لا في كافرهم من يجهل الحق و لا من يشرك و لهذا ألحقوا بالكفار و لم يلحقهم اللّٰه بالمشركين و إن كانوا هم الذين يجعلون الإنس أن يشركوا فإذا أشركوا تبرءوا ممن أشرك كما قال تعالى ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطٰانِ إِذْ قٰالَ لِلْإِنْسٰانِ اكْفُرْ﴾ [الحشر:16] و هو وحي الشيطان إلى وليه ليجادل بالباطل أهل الحق فإذا كفر يقول له ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخٰافُ اللّٰهَ رَبَّ الْعٰالَمِينَ﴾ [الحشر:16] فوصف الشيطان بالخوف من اللّٰه و لكن على ذلك الإنسان لا على نفسه فخوف الشيطان على الذي قبل إغواءه لا على نفسه كما تخاف الأنبياء عليه السّلام يوم القيامة على أممهم لا على أنفسهم و سبب ارتفاع الخوف من الشيطان على نفسه علمه بأنه من أهل التوحيد و لهذا قال ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص:82] فأقسم به تعالى لعلمه بربه كأنه يرى الحق أنه قد علم من نشأة الإنسان قبوله لكل ما يلقي إليه فلما سأل ذلك أجاب اللّٰه سؤاله فأمره بما أغوى به الإنس فقال له اذهب يعني إلى ما سألته مني و ذكر له جزاءه و جزاءه و جزاء من اتبعه من الإنس فكان جزاء الشيطان إن رده إلى أصله الذي منه خلقه و جزاء الإنسان الذي اتبعه كذلك و لكن غلب جزاء الإنسان على جزاء إبليس فإن اللّٰه ما جعل جزاءهما إلا جهنم و فيها عذاب إبليس فإن جهنم برد كلها ما فيها شيء من النارية فهو عذاب لإبليس أكثر منه لمتبعه و إنما كان ذلك لأن إبليس طلب أن يشقي الغير فحار وباله عليه لما قصده فهو تنبيه من الحق لنا أن لا نقصد وقوع ما يؤدي إلى الشقاء لأحد فإن ذلك نعت إلهي و لذلك أبان اللّٰه طريق الهدى من طريق الضلالة فالعبد المستقيم هو الذي يكون على صراط ربه مع أن الشيطان تحت أمر ربه في قوله ﴿اِذْهَبْ﴾ [المائدة:24] و ﴿اِسْتَفْزِزْ﴾ [الإسراء:64] و ﴿أَجْلِبْ﴾ [الإسراء:64] و ﴿شٰارِكْهُمْ﴾ [الإسراء:64] و ﴿عِدْهُمْ﴾ [البقرة:253] و هذه كلها أوامر إلهية فلو كانت ابتداء من اللّٰه ما شقي إبليس و لما كانت إجابة له لما قال ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص:82] و ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ [الإسراء:62] شقي بها كما تعب المكلف فيما سأله من التكليف فإن الشرع منه ما نزل ابتداء و منه ما نزل عن سؤال و لو لا إن الرحمة شاملة لكان الأمر كما ظهر في العموم و لما قيدت هذا الوصل غفوت غفوة فرأيت في المبشرة يتلى على ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مٰا وَصّٰى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مٰا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى:13] من الوحدة فهو كثير بالأحكام فإن ﴿لِلّٰهِ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنىٰ﴾ [الأعراف:180] و كل اسم علامة على حقيقة معقولة ليست هي الأخرى و وجوه العالم في خروجه من العدم إلى الوجود كثيرة تطلب تلك الأسماء أعني المسميات و إن كانت العين واحدة كما إن العالم من حيث هو عالم واحد و هو كثير بالأحكام و الأشخاص ثم تلي على ﴿اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى:13] و ما ذكر لشقي هنا نعتا و لا حالا بل ذكر الأمر بين اجتباء و هداية ثم قيل لي من علم الهداية و الاجتباء علم ما جاءت به الأنبياء و كلا الأمرين إليه فمن اجتباه إليه جاء به إليه و لم يكله إلى نفسه و من هداه إليه أبان له الطريق الموصلة إليه ليسعده و تركه و رأية ف ﴿إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً﴾ [الانسان:3] ﴿إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ﴾ [الانسان:3] و لما جاء تعالى في هذه الآية العامة و لم يذكر للشقاوة اسما و لا عينا و ذكر الاجتباء و الهداية و هو البيان هنا و جعل الأمرين إليه علمنا إن الحكم للرحمة التي ﴿وَسِعَتْ﴾ [الأعراف:156]