الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() المجموع و هو الأولى و قد وردت لفظة الإنسان على ما ذهبت إليه كل طائفة ثم اختلفنا في شرفه هل هو ذاتي له أو هو بمرتبة نالها بعد ظهوره في عينه و تسويته كاملا في إنسانية إما بالعلم و إما بالخلافة و الإمامة فمن قال إنه شريف لذاته نظر إلى خلق اللّٰه إياه بيديه و لم يجمع ذلك لغيره من المخلوقين و قال إنه خلقه على صورته فهذا حجة من قال شرفه شرف ذاتي و من خالف هذا القول قال لو أنه شريف لذاته لكنا إذا رأينا ذاته علمنا شرفه و الأمر ليس كذلك و لم يكن يتميز الإنسان الكبير الشريف بما يكون عليه من العلم و الخلق على غيره من الأناسي و يجمعهما الحد الذاتي فدل إن شرف الإنسان بأمر عارض يسمى المنزلة أو المرتبة فالمنزلة هي الشريفة و الشخص الموصوف بها نال الشرف بحكم التبعية كمرتبة الرسالة و النبوة و الخلافة و السلطنة و اللّٰه يقول أ و لم ير ﴿(أَ وَ لاٰ يَذْكُرُ)الْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ و قال ﴿هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ [الانسان:1] أي قد أتى على الإنسان و قد قالت الملائكة فيه من حيث ذاته ما قالت و صدقت فما علم شرفه إلا بما أعطاه اللّٰه من العلم و الخلافة فليس لمخلوق شرف من ذاته على غيره إلا بتشريف اللّٰه إياه و أرفع المنازل عند اللّٰه أن يحفظ اللّٰه على عبده مشاهدة عبوديته دائما سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع فهذه أشرف منزلة تعطي لعبد و هو قوله تعالى ﴿وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [ طه:41] و قوله سبحانه ﴿سُبْحٰانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء:1] فقرن معه تنزيهه قال بعض المحبين في هذا المقام لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي فليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها و لهذا لم يكن لمخلوق شرف إلا بالوجه الخاص الذي له من الحق لا من جهة سببه المخلوق مثله و في هذا الشرف يستوي أول موجود و هو القلم أو العقل أو ما سميته و أدنى الموجودات مرتبة فإن النسبة واحدة في الإيجاد و الحقيقة واحدة في الجميع من الإمكان فأخر صورة ظهر فيها الإنسان الصورة الآدمية و ليس وراءها صورة أنزل منها و بها يكون في النار من شقي لأنها نشأة و تركيب تقبل الآلام و العلل و أما أهل السعادة فينشئون نشأة و تركيبا لا يقبل ألما و لا مرضا و لا خبثا و لهذا لا يهرم أهل الجنة و لا يتمخطون و لا يبولون و لا يتغوطون و لا يسقمون و لا يجوعون و لا يعطشون و أهل النار على النقيض منهم و هي نشأة الدنيا و تركيبها فهي أدنى صورة قبلها الإنسان و قد أتت عليه أزمنة و دهور قبل إن يظهر في هذه الصورة الآدمية و هو في الصورة التي له في كل مقام و حضرة من فلك و سماء و غير ذلك مما تمر عليه الأزمان و الدهور و لم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية و لهذا ما ابتلاه قط في صورة من صوره في جميع العالم إلا في هذه الصورة الآدمية و لا عصى الإنسان قط خالقه إلا فيها و لا ادعى رتبة خالقه إلا فيها و لا مات إلا فيها و لهذا يقبل الموت أهل الكبائر في النار ثم يخرجون فيغمسون في نهر الحياة فيتركبون تركيبا لا يقبل الألم و لا الأسقام فيدخلون بتلك الصورة الجنة [أن الصراط هو صراط الهدى]و اعلم أن الصراط الذي إذا سلكت عليه و ثبت اللّٰه عليه أقدامك حتى أوصلك إلى الجنة هو صراط الهدى الذي أنشأته لنفسك في دار الدنيا من الأعمال الصالحة الظاهرة و الباطنة فهو في هذه الدار بحكم المعنى لا يشاهد له صورة حسية فيمد لك يوم القيامة جسرا محسوسا على متن جهنم أوله في الموقف و آخره على باب الجنة تعرف عند ما تشاهده أنه صنعتك و بناؤك و تعلم أنه قد كان في الدنيا ممدودا جسرا على متن جهنم طبيعتك في طولك و عرضك و عمقك و ثلاث شعب إذ كان جسمك ظل حقيقتك و هو ظل غير ظليل لا يغنيها من اللهب بل هو الذي يقودها إلى لهب الجهالة و يضرم فيها نارها فالإنسان الكامل يعجل بقيامته في الموطن الذي تنفعه قيامته فيه و تقبل فيه توبته و هو موطن الدنيا فإن قيامة الدار الأخرى لا ينفع فيها عمل لأنه لم يكلف فيها بعمل فإنه موطن جزاء لما سلف في الدار الدنيا و هو قوله تعالى ﴿ثُمَّ هَدىٰ﴾ [ طه:50] أي بين ما يقتضيه المواطن ليكون الإنسان المخاطب في كل موطن بما قرن به من العمل بالذي يرضيه و هو ممزوج بما ينافيه مثل خلق الأجسام الطبيعية سواء فإن الحرارة تنافر البرودة و إن الرطوبة تنافر اليبوسة و أراد الحق أن يجمع الكل على ما هم عليه من التضاد في جسم واحد فضم الحرارة إلى اليبوسة فخلق منهما المرة الصفراء ثم زوج بين الحرارة و الرطوبة فكان لهذا المزاج الدم و جعله مجاورا لهما جعل الرطوبة التي في الدم مما يلي اليبوسة التي في الصفراء بحكم المجاورة حتى تقاومها في الفعل فلا تترك |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |