و لا يصح الافتقار لهم إليه في وجودهم لأنهم موجودون و إنما كان ذلك الافتقار منهم لوجودهم في حال عدمهم فلهذا أوجدهم فمتعلق الافتقار أبدا إنما هو العدم ليوجده لهم إذ بيده إيجاد ذلك و أما غيرنا فرأوا ذلك من اللّٰه عقدا لا حالا و هم المسلمون الأكثرون عالمهم و جاهلهم و من الناس من يرى ذلك من اللّٰه أصلا لا عقدا و لا حالا و هم القائلون بالعلل و المعلولات و هم أبعد الطوائف من اللّٰه و من الناس من لا يرى ذلك من اللّٰه لا أصلا و لا عقدا و لا حالا و هم المعطلة و ما من طائفة مما ذكرنا إلا و تجد الافتقار من ذاتها و من المحال أن يقع الغني من اللّٰه لأحد من هؤلاء الطوائف على الإطلاق أبدا و لكن قد يقع لهم الغني المقيد دائما لا ينفكون عنه و أما فرض الطريق إليه فهو ذاتي أيضا من حيث هو طريق و إنما الذي يتعلق به الاكتساب سلوك خاص في هذا الطريق لمن يفتقر إليه و إذا كان السلوك بهذه المثابة تعين التحريض عليه و تبيينه لمن جهله فمن عدل عن تبيينه لمن يستحقه و هو عالم به فهو صاحب حرمان و خذلان و قد نبه عليه السلام على مرتبة من مراتب ذلك «بقوله صلى اللّٰه عليه و سلم من سئل عن علم فكتمه ألجمه اللّٰه بلجام من نار» و السؤال قد يكون لفظا و حالا و المسئول عنه الذي تعلق به الوعيد لا بد أن يكون واجبا عليه السؤال عنه فلا بد أن يجب على العالم الجواب عنه و سؤالات الافتقار كلها بهذه المثابة قال اللّٰه تعالى ﴿يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ﴾ [فاطر:15] ففي هذا الخطاب تسمية اللّٰه بكل اسم هو لمن يفتقر إليه فيما يفتقر إليه فيه و هو من باب الغيرة الإلهية حتى لا يفتقر إلى غيره و الشرف فيه إلى العالم بذلك و في هذا الخطاب هجاء للناس حيث لم يعرفوا ذلك إلا بعد التعريف الإلهي في الخطاب الشرعي على ألسنة الرسل عليهم السلام و مع هذا أنكر ذلك خلق كثير و خصوه بأمور معينة يفتقر إليه فيها لا في كل الأمور من اللوازم التابعة للوجود التي تعرض مع الآنات للخلق و كان ينبغي لنا لو كنا متحققين بفهم هذه الآية أن نبكي بدل الدموع دما حيث جهلنا هذا الأمر من نفوسنا إلى أن وقع به التعريف الإلهي فكيف حال من أنكره و تأوله و خصصه فهذا قد بينا نبذة من الفصل الثاني المتعلق بهذا المنزل و أما الفصل الثالث من فصول هذا المنزل فاعلم إن اللّٰه تعالى قد عرف عباده أن له حضرات معينة لأمور دعاهم إلى طلب دخولها و تحصيلها منه و جعلهم فقراء إليها فمن الناس من قبلها و من الناس من ردها جهلا بها فمنها حضرة المشاهدة و هي على منازل مختلفة و إن عمتها حضرة واحدة فمنهم من يشهده في الأشياء و منهم قبلها و منهم بعدها و منهم معها و منهم من يشهده عينها على اختلاف مقامات كثيرة فيها يعلمها أهل طريق اللّٰه أصحاب الذوق و الشرب و منها حضرة المكالمة و منها حضرة الكلام و منها حضرة السماع و منها حضرة التعليم و منها حضرة التكوين و غير ذلك فإنها كثيرة لا يتسع هذا التصنيف لذكرها فحضرة المكالمة من خصائص هذا المنزل فمن عدل عنها فقد حرم ما يتضمنه من المعارف الإلهية و الالتذاذ بالمحادثة الربانية و كان ممن قيل فيه ﴿مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [الأنبياء:2] و ﴿مِنَ الرَّحْمٰنِ﴾ [مريم:45] على حسب التجلي ﴿مُحْدَثٍ إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ [الشعراء:5] و هي طائفة معينة و أخرى ﴿اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنبياء:2] فأهل طريقنا لم يشتغلوا عند ورود هذا الكلام بما يلهيهم عما يتضمنه من الفوائد فإن اقتضى جوابا أجابوا ربهم و إن اقتضى غير ذلك بادروا إلى فعل ما يقتضيه ذلك الخطاب و هم يسارقون النظر في تلك الحالة إلى المتكلم لتقر أعينهم بذلك كما تنعمت نفوسهم من حيث السماع غير أنهم لا يتحققون بالنظر في هذه الحال لمعرفتهم بأن مراد الحق فيهم فيها الفهم عنه فيما يكلمهم به فيخافون من النظر مع شوقهم أن يفنيهم عن الذي طولبوا به من الفهم فيكونون ممن آثروا حظوظ نفوسهم على ما أراده الحق منهم فهم في كلا الحالين عبيد فقراء غير أن الأدب في كل حضرة من هذه الحضرات الوفاء بما تستحقه الحضرة التي يقام العبد فيها و لمطلوبه حضرة أخرى هي غير هذه فلا يستعجل فيحرم ﴿وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّٰهُ إِلاّٰ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ [الشورى:51] ينوب عنه في الكلام و هو الترجمان قال تعالى ﴿فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلاٰمَ اللّٰهِ﴾ [التوبة:6] يريد على لسان الترجمان الذي هو رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم فسمعت بعض الشيوخ يقول ما دام في بشريته فالكلام له من وراء حجاب و لكن إذا خرج عن بشريته ارتفع الحجاب و هذا الشيخ هو عبد العزيز بن أبي بكر المهدوي المعروف بابن الكرة سمعته منه بمنزلة بتونس رحمه اللّٰه فأصاب فيه و أخطأ فأما إصابته فإثباته و تقريره للكلام من وراء الحجاب و إنه لم يجمع بينه و بين