الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() المال فإن اللّٰه سبحانه قد جعل مصالح العبد في استعمال أعيان بعض الأشياء و هي من العالم فلا غنى له عن استعمالها فلا غنى له عن العالم فلذلك خصصه بالمال فلا يوصف بالغنى عن العالم إلا اللّٰه تعالى من حيث ذاته جل و تعالى و الغني في الإنسان من العالم فليس الإنسان بغني عن الغني فهو فقير إليه [أن الغني و العزة صفتان لا يصح للعبد]و اعلم أن الغني و إن كان بالله و العزة و إن كانت بالله فإنهما صفتان لا يصح للعبد أن يدخل بهما على اللّٰه تعالى و إن كان بالله فيهما فلا بد أن يتركهما فيدخل فقيرا ذليلا و معنى الدخول التوجه إلى اللّٰه فلا يتوجه إلى اللّٰه بغناه به و لا بعزته به و إنما يتوجه إلى اللّٰه بذله و افتقاره فإن حضرة الحق لها الغيرة ذاتية فلا تقبل عزيزا و لا غنيا و هذا ذوق لا يقدر أحد على إنكاره من نفسه قال تعالى مؤدبا لنبيه ﷺ في ظاهر الأمر و هو يؤدبنا به لنتعلم ﴿أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّٰى﴾ فكان مشهود محمد ﷺ الصفة الإلهية و هو الغني فتصدى لها لما تعطيه حقيقتها من الشرف و النبي في ذلك الوقت في حال الفقر في الدعوة إلى اللّٰه و أن تعم دعوته و علم إن الرؤساء و الأغنياء تبع الخلق لهم أكثر من تبع من ليس له هذا النعت فإذا أسلم من هذه صفته أسلم لإسلامه خلق كثير و النبي ﷺ له على مثل هذا حرص عظيم و قد شهد اللّٰه تعالى عندنا له بذلك فقال ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة:128] أي عنادكم يعز عليه للحق المبين ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة:128] في إن تسلموا و تنقادوا إلى ما فيه سعادتكم و هو الايمان بالله و ما جاء من عند اللّٰه و مع هذا الحضور النبوي أوقع العتب عليه تعليما لنا و إيقاظا له فإن الإنسان محل الغفلات و هو فقير بالذات و قد استحق الجاه و المال أن يستغني بهما من قاما به و لذلك قال ﴿أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ﴾ [عبس:5] و ما قال أما من هو غني فإنه على التحقيق ليس بغني بل هو فقير لما استغنى به «فقال ﷺ إن اللّٰه أدبني فأحسن أدبي» [من مكارم الأخلاق الإقبال على الفقراء و الإعراض عن الأغنياء]فمن مكارم الأخلاق الإقبال على الفقراء و الإعراض عن الأغنياء بالعرض من جاه أو مال فإذا رىء ممن هذه صفته الفقر و الذلة بنزوله عن هاتين المرتبتين وجب على أهل اللّٰه الإقبال عليهم فإنهم إن أقبلوا عليهم و هم مستحضرون لما هم عليه من الجاه و المال تخيلوا أن إقبال أهل اللّٰه عليهم لجاههم و لمالهم فيزيدون رغبة في بقاء ما هم عليه فلذلك منع اللّٰه أهله أن يقبلوا عليهم إلا بصفة الزهد فيهم فإذا اجتمع في مجلس أهل اللّٰه من هو فقير ذليل منكسر و غني بماله ذو جاه في الدنيا أظهر القبول و الإقبال على الفقير أكثر من إظهاره على الغني ذي الجاه لأنه المقصود بالأدب الذي أدب اللّٰه تعالى به نبيه ﷺ غير إن صاحب هذه الصفة يحتاج إلى ميزان الحق في ذلك فإن غفل عنه كان الخطاء أسرع إليه من كل شيء و صورة الوزن فيه أن لا يرى في نفسه شغفا عليه و لا يخاطبه أعني لا يخاطب هذا الغني و لا ذا الجاه بصفة قهر تذله فإنه لا يذل تحتها بل ينفر و يزيد عظمة و أنت مأمور بالدعوة إلى اللّٰه فادعوه كما أمر اللّٰه نبيه ﷺ أن يدعو الناس تعليما له و لنا فإنا مخاطبون بالدعاء إلى اللّٰه كما قال ﴿أَدْعُوا إِلَى اللّٰهِ عَلىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي﴾ و قال له ﴿اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل:125] فإن جادلوك ف ﴿جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:125] و قال ﴿لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159] هذه هي الصفة اللازمة التي ينبغي أن يكون الداعي عليها و لا يجعل في نفسه عند دعائه لمن هذه نعوته من عباد اللّٰه طمعا فيما في أيديهم من عرض الدنيا و لا فيما هو عليه من الجاه فإن العزة لله ﴿وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8] فلا تخلعن ثوبا ألبسكه اللّٰه و ليس له تصرف إلا في هذا الموطن فهذا معنى الحكمة و «ما عتب اللّٰه نبيه ﷺ في الأول إلا لعزة قامت بنفس أولئك النفر مثل الأقرع بن حابس و غيره فقالوا لو أفرد لنا محمد مجلسا جلسنا إليه فإنا نأنف أن نجالس هؤلاء الأعبد يعنون بذلك بلالا و خبابا و غيرهما فرغب النبي ﷺ لحرصه على إيمانهم و لعلمه أنه يرجع لرجوعهم إلى اللّٰه بشر كثير فأجابهم إلى ما سألوا و تصدى إليهم لما حضروا و أعرض عن الفقراء فانكسرت قلوبهم لذلك فأنزل اللّٰه ما أنزل جبرا لقلوب الفقراء فانكسر الباقي من نفوس أولئك الأغنياء الأعزاء» و قيل له ﴿فَإِنَّمٰا عَلَيْكَ الْبَلاٰغُ﴾ [آل عمران:20] و ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدٰاهُمْ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ﴾ [البقرة:272] و نزل اللّٰه عليه ﴿عَبَسَ وَ تَوَلّٰى﴾ [عبس:1] الآيات و أنزل عليه ﴿وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الكهف:28] الآيات و فيها ﴿وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شٰاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شٰاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29] ثم ذكر ما للظالمين عند اللّٰه في الآخرة فطريقة الإرشاد و الدعاء إلى اللّٰه ميزانها الغني بالله عما في أيديهم و ما يكون بسببهم فإن لم تكن في نفسك بهذه المثابة فلا تدع و اشتغل بدعاء نفسك إلى الاتصاف بهذه الصفات المحمودة عند اللّٰه و لا تتعد الحد الذي أنت عليه و لا تخط في غير ما تملكه |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |