الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)
قال اللّٰه تعالى ﴿وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ رَمىٰ﴾ [الأنفال:17] فهذا إثبات الإنيتين و إثبات حكمهما ثم نفى الحكم عن إحداهما بعد إثباته و هو الصادق القول [أن إنية الشيء حقيقته في اصطلاح القوم]فاعلم أن إنية الشيء حقيقته في اصطلاح القوم فهي في جانب الحق إني أنا ربك و في جانب الخلق الكامل إني رسول اللّٰه فهاتان أنيتان ضبطتهما العبارة و هما طرفان فلكل واحدة من الإنيتين حكم ليس للأخرى و ذاك الذي قالوا و ذاك الذي عنوا *** و ما ثم إلا اللّٰه ليس سواه و كلف و التكليف يطلب حادثا *** و يطلب من يدري و ما ثم إلا هو فالإنية الإلهية قائلة و الإنية القابلة سامعة و ما لها قول إلا بالتكوين فلا يقال لإنية الخلق في حال وجودها و ما القول إلا لمن هو في حال العدم فلا تكليف إلا في المعدوم لعدم نسبة الإيجاد للحادث فلا يقال للمنفعل انفعل فقد انفعل بقبوله الوجود و لا إيجاد يكون عنه فلا قول له و ما ثم عبث فإذا كلف قال لما كلف به كن في حال عدمه فيكون في محل هذا الحادث فينسب إليه و ليس إليه فلهذا كانت الإنيتان طرفين فتميزتا إلا أن لإنية الحادث منزلة الفداء و الإيثار لجناب الحق بكونها وقاية و بهذه الصفة من الوقاية تندرج إنية العبد في الحق اندراجا في ظهور و هو قوله تعالى ﴿إِنَّنِي أَنَا اللّٰهُ﴾ [ طه:14] فلو لا نون العبد التي أثر فيها حرف الياء الذي هو ضمير الحق فخفض النون فظهر أثر القديم في المحدث و لولاه لخفضت النون من أن و هي إنية الحق كما أثرت في قوله ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ [ طه:12] فإنه لا بد لها من أثر فلما لم تجد إنية العبد التي هي نون الوقاية أثرت في إنية الحق فخفضتها و مقامها الرحمة التي هي الفتح فما أزاله عن مقامه إلا هو و لا أثر فيه سواه فأقرب ما يكون العبد من الحق إذا كان وقاية بين إنية الحق و بين ضميره فيكون محصورا قد أحاط به الحق من كل جانب و كان به رحيما لبقاء صفة الرحمة فبابها مفتوح و بها حفظ على المحدث وجوده فبقي عين نون الوقاية الحادثة في مقام العبودية الذي هو الخفض المتولد عن ياء ضمير الحق فظهر في العبد أثر الحق و هو عين مقام العبد الذلة و الافتقار فما للعبد مقام في الوصلة بالحق تعالى أعظم من هذا حيث له وجود العين بظهور مقامه فيه و هو في حال اندراج في الحق محاط به من كل جانب فعرف نفسه بربه حين أثر فيه الخفض فعرف ربه حين أبقاه على ما هو عليه من الرحمة فإنه الرحمن الرحيم فما زال عنه الفتح بوجود عين العبد فلا يشهده أبدا إلا رحمانا و لا يعلمه أبدا إلا مؤثرا فيه فلا يزال في عبوديته قائما و هذا غاية القرب و لما حار أبو يزيد في القرب من اللّٰه قبل أن يشهد هذا المقام قال لربه يا رب بما ذا أتقرب إليك فقال بما ليس لي فقال يا رب و ما ليس لك و كل شيء لك فقال الذلة و الافتقار فعلم عند ذلك ما لإنية الحق و ما لإنية العبد فدخل في هذا المقام فكان له القرب الأتم فجمع بين الشهود و الوجود إذ كان كل شيء هالك فإن الشهود عند القوم فناء حكم لا فناء عين و في هذا المقام شهود بلا فناء عين و هو محل الجمع بيننا و بين الطائفة و بلا فناء حكم فإنه أبقى للحق ما يستحقه من الفتح الرحموتي إذ لولاه أعني لو لا هذا القرب المعين لعاد الأثر على إنية الحق و لهذا أظهر في ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ [ طه:12] ليعلم أن الأثر إذا صدر من الحق لا بد له من ظهور حكم و ما وجد إلا الحق فعاد عليه فجاء العبد فدخل بين الإنية الإلهية و المؤثر فعمل فيه فانية الخلق مضبوطة *** و إنية الحق ما تنضبط فيأخذ من ذا و يعطيه ذا *** و كل بأحواله مغتبط فربط الوجود بعين الشهود *** مقام جليل لمن يرتبط و ليس ينال مقام الدنو *** عبيد إذا سره قد شحط و ما فرحت بشيء قط مما وهبنيه الحق من المنح التي تقبلها الأكوان فرحى بهذا المقام إذ حلاني به ربي و هو أعلى المقامات و أسناها و هو مقام كل ما سوى اللّٰه و لا يشعر به و ليست العناية من اللّٰه ببعض عباده إلا أن يشهده هذا المقام من نفسه فما يزيد على العالم كله إلا بالعلم به حالا و ذوقا و لا يجني أحد ثمرة الإيثار مثل ما يجنيها صاحب هذا المقام فإن ثمرة الإيثار على قدر من تؤثره على نفسك و الذي تؤثره على نفسك هنا إنما هو الحق فينسب إليك الفرح بما تجنيه من ثمرة هذا الإيثار على صورة نسبة الفرح إلى الحق فانظر ما أعظمها من لذة و ابتهاج و هذا أخصر |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
| الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |
||||||||||




