الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() قالت ذلك مريم حياء من الناس لما علمته من طهارة بيتها و آبائها فخافت من إلحاق العار بهم من أجلها و لما ذكرنا أن العالم كان مستورا في غيب اللّٰه و كان ذلك الغيب بمنزلة الظل للشخص فلو سلخ من الظل جميعه أمر ما لخرج على صورة الظل و الظل على صورة ما هو ظل له فالخارج من الظل المسلوخ منه على صورة الشخص أ لا ترى النهار لما سلخ من الليل ظهر نورا فظهرت الأشياء التي كانت مستورة بالليل ظهرت بنور النهار فلم يشبه النهار الليل و أشبه النور في ظهور الأشياء به فالليل كان ظل النور و النهار خرج لما سلخ من الليل على صورة النور كذلك العالم في خروجه من الغيب خرج على صورة العالم بالغيب كما قررناه فقد تبين لك من العلم بالله من هذا المقام ما فيه كفاية إن عرفت قدره ﴿فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ الْجٰاهِلِينَ﴾ [الأنعام:35] و أما مسألة روح صورة هذا العالم و أرواح صور العالم العلوي و السفلي فها أنا أبسطها لك في هذه المسألة من هذا المنزل في الدرجة الثامنة منه فإن هذا المنزل يحوي على سبعة عشر صنفا من العلم هذا أحدها فنقول إن روح العالم الكبير هو الغيب الذي خرج عنه فافهم و يكفيك أنه المظهر الأكبر الأعلى إن عقلت و عرفت قوله ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان:45] و بعد أن بان لك روح العالم الكبير فبقي لك أن تعلم أرواح صور العالم هل هي موجودة عن صورة أو قبلها أو معها و منزلة الأرواح من صور العالم كمنزلة أرواح صور أعضاء الإنسان الصغير كالقدرة روح اليد و السمع روح الأذن و البصر روح العين [إن الأرواح المدبرة للصور كانت موجودة في حضرة الجمال]فاعلم إن الناس اختلفوا في هذه المسألة على ما ذكرنا تفصيله و التحقيق في ذلك عندنا إن الأرواح المدبرة للصور كانت موجودة في حضرة الجمال غير مفصلة لأعيانها مفصلة عند اللّٰه في علمه فكانت في حضرة الإجمال كالحروف الموجودة بالقوة في المداد فلم تتميز لأنفسها و إن كانت متميزة عند اللّٰه مفصلة في حال إجمالها فإذا كتب القلم في اللوح ظهر صور الحروف مفصلة بعد ما كانت مجملة في المداد فقيل هذا ألف و باء و جيم و دال في البسائط و هي أرواح البسائط و قيل هذا قام و هذا زيد و هذا خرج و هذا عمرو و هي أرواح الأجسام المركبة و لما سوى اللّٰه صور العالم أي عالم شاء كان الروح الكل كالقلم و اليمين الكاتبة و الأرواح كالمداد في القلم و الصور كمنازل الحروف في اللوح فنفخ الروح في صور العالم فظهرت الأرواح متميزة بصورها فقيل هذا زيد و هذا عمرو و هذا فرس و هذا فيل و هذه حية و كل ذي روح و ما ثم إلا ذو روح لكنه مدرك و غير مدرك فمن الناس من قال إن الأرواح في أصل وجودها متولدة من مزاج الصورة و من الناس من منع من ذلك و لكل واحد وجه يستند إليه في ذلك و الطريقة الوسطى ما ذهبنا إليه و هو قوله ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ [المؤمنون:14] و إذا سوى اللّٰه الصور الجسمية ففي أية صورة شاء من الصور الروحية ركبها إن شاء في صورة خنزير أو كلب أو إنسان أو فرس على ما قدره العزيز العليم فثم شخص الغالب عليه البلادة و البهيمية فروحه روح حمار و به يدعى إذا ظهر حكم ذلك الروح فيقال فلان حمار و كذلك كل صفة ﴿تُدْعىٰ إِلىٰ كِتٰابِهَا﴾ [الجاثية:28] فيقال فلان كلب و فلان أسد و فلان إنسان و هو أكمل الصفات و أكمل الأرواح قال تعالى ﴿اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّٰاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [الإنفطار:7] و تمت النشأة الظاهرة للبصر ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مٰا شٰاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الإنفطار:8] من صور الأرواح فتنسب إليها كما ذكرنا و هي معينة عند اللّٰه فامتازت الأرواح بصورها ثم إنه إذا فارقت هذه المواد فطائفة من أصحابنا تقول إن الأرواح تتجرد عن المواد تجردا كليا و تعود إلى أصلها كما تعود شعاعات الشمس المتولدة عن الجسم الصيقل إذا صدأ إلى الشمس و اختلفوا هنا على طريقين فطائفة قالت لا تمتاز بعد المفارقة لأنفسها كما لا يمتاز ماء الأوعية التي على شاطئ النهر إذا تكسرت فرجع ماؤها إلى النهر فالأجسام تلك الأوعية و الماء الذي ملئت به من ذلك النهر كالأرواح من الروح الكل و قالت طائفة بل تكتسب بمجاورتها الجسم هيئات رديئة و حسنة فتمتاز بتلك إلهيات إذا فارقت الأجسام كما إن ذلك الماء إذا كان في الأوعية أمور تغيره عن حالته إما في لونه أو رائحته أو طعمه فإذا فارق الأوعية صحبه في ذاته ما اكتسبه من الرائحة أو الطعم أو اللون و حفظ اللّٰه عليها تلك الهيئات المكتسبة و وافقوا في ذلك بعض الحكماء و طائفة قالت الأرواح المدبرة لا تزال مدبرة في عالم الدنيا فإذا انتقلت إلى البرزخ دبرت أجسادا برزخية و هي الصورة التي يرى الإنسان نفسه فيها في النوم و كذلك هو الموت و هو المعبر عنه بالصور ثم تبعث يوم القيامة في الأجسام الطبيعية كما كانت في الدنيا و إلى هنا انتهى خلاف أصحابنا في الأرواح بعد المفارقة و أما اختلاف غير أصحابنا في ذلك فكثير و ليس مقصودنا إيراد كلام من ليس من |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |