لأنها تكره المنة عليها لما خلقت و جبلت عليه النفوس من حب النفاسة و صاحب الحياء يمنعه الحياء بما غمره من الإحسان أن يعتاص على المحسن فيما يدعوه إليه فهو مجبور بالإحسان في إتيانه و قبوله لما يريده منه هذا المحسن حياء و وفاء و ليجعل ذلك أيضا جزاء لإحسانه الأول حتى يزول عن حكم المنة و هذا من دسائس النفوس فلا جبر أعظم من جبر الإحسان لمن سلك سبيله ﴿وَ قَلِيلٌ مٰا هُمْ﴾ [ص:24] و أما الجبر بطريق القهر و المغالبة فهو و إن قبل في الظاهر و لم يقدر على الامتناع و المقاومة المجبور لضعفه فإنه لا يقبل الجبر بباطنه فلا أثر له إلا في الظاهر بخلاف جبر المحسن فإن له الأثر الحاكم في الظاهر و الباطن بحكم الطمع أو الحياء أو الجزاء كما قررنا و أما الجبر الذاتي فهو عن التجلي في العظمة الحاكمة على كل نفس فتذهل عن ذاتها و عزتها و تعلم عند ذلك أنها مجبورة بالذات فلا تجهل نفسها فالعارف هنا ينظر من الحاكم عليه فلا يجد إلا قيام العظمة به فيعلم أنه ما حكم عليه إلا ما قام به و ما قام به إلا محدث فيعظم عنده الجبر فيعلم عند ذلك جبروت الحق و أما جبروت العبد بمثل هذه الصفة فممقوت عند اللّٰه لأنه ليس له ذلك و لا يستحقه و إنما جبر المخلوق في المخلوق بالإحسان خاصة و ذلك هو الجبر المحمود شرعا و عقلا و كل عبد أظهر القهر في العالم بغير صفة الحق و أمره فهو جاهل في غاية الجهل و لهذه الحضرة الجبروتية حكمان أو وجهان كيف شئت قل الوجه الواحد العظمة و هو قول أبي طالب المكي و غيره ممن يقول بقوله و الوجه الآخر البرزخية فلهذا المقام الجمع بين الطرفين بما هو برزخ فيعلم نفسه و يعلم بطرفيه ما هو به برزخ بين شيئين فيكون جامعا من هذا الوجه عالي المقام و بين فضله على الطرفين فإن كل طرف لا يعلم منه إلا الوجه الذي يليه فهو عالم أعني الجبروت إن شاء تجلى في صورة برزخية و إن شاء تجلى في صورة إحدى طرفيها كيف شاء تجلى فيكون شبهه بالحق أتم و نسبة هذا الجبروت إلى الحق نسبة لطيفة لا يشعر بها كثير من الناس و هو أن الحق بين الخلق و بين ذاته الموصوفة بالغنى عن العالمين فالألوهة في الجبروت البرزخى فتقابل الخلق بذاتها و تقابل الذات بذاتها و لهذا لها التجلي في الصور الكثيرة و التحول فيها و التبدل فلها إلى الخلق وجه به يتجلى في صور الخلق و لها إلى الذات وجه به تظهر للذات فلا يعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ و هو الألوهة و لا تحكم الذات في المخلوق بالخلق إلا بهذا البرزخ و هو الألوهة و تحققناها فما وجدناها سوى ما ندعوه به من الأسماء الحسنى فليس للذات جبر في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية و لا يعرف العالم من الحق غير هذه الأسماء الإلهية الحسنى و هي أعيان هذه الحضرات التي في هذه الباب فهذا قد أنبأناك بالجبروت الإلهي ما هو على الاقتصار و الاختصار ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية