﴿ثُمَّ هَدىٰ﴾ [ طه:50] أي بين أن من قام به الفضول فهو المعبر عنه بالمشتغل بما لا يعنيه و جهله بالأمر الذي يعنيه و الفقر في عينه كامل الخلق لا قدم له في الغني و الغني في حاله كامل الخلق لا قدم له في الفقر و لو تداخلت الأمور لكان الفقر عين الغني و الغني عين الفقر إذ كان كل واحد منهما من مقومات صاحبه و الضد لا يكون عين الضد و إن اجتمعا في أمر ما فلا يجتمع الغني و الفقر أبدا فليس للفقر منزلة عند اللّٰه في وجوده و ليس للغني منزلة عند العبد في وجوده فكما لا يقال اللّٰه أفضل من الخلق أو الخلق كذلك لا يقال الغني أفضل من الفقر أو الفقر أفضل من الغني فالفقر صفة الخلق و الغني صفة الحق و المفاضلة لا تصح إلا فيمن يجمعهما جنس واحد و لا جامع بين الحق و الخلق فلا مفاضلة بين الغني و الفقر قال تعالى في الغني ﴿فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ﴾ [آل عمران:97] و قال في الفقر ﴿يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15] فمن قال بعد علمه بهذا الغني أفضل من الفقر أم الفقر أفضل كمن قال من أفضل اللّٰه أم الخلق و كفى بهذا جهلا من قائله و أما الذي بأيدي الناس الذي يسمونه غني فكيف يكون غني و أنت فقير إليه غير مستغن في غناك عن غناك فغناك عين فقرك و هذا على الحقيقة لا يسمى غنى فكيف تقع المفاضلة ما بين ما له وجود حقيقي و هو الفقر و بين ما ليس له وجود حقيقي و هو غناك و إذا سمي الإنسان غنيا فهو عبارة عن وجود السبب المؤثر عنده فيما له فيه غرض في الوقت فيكون بذلك السبب غنيا فيما يفتقر إليه لوجوده به فهو الفقير الذاتي في غناه العرضي و إذا لم يكن عنده وجود السبب المؤثر فيما افتقر إليه سمي فقيرا من غير غنى فالفقر له في الحالين معا لأن ذاته له في الحالين معا و الأمر إذا كان على هذا فطلب المفاضلة جهل بين الوصف الحقيقي و الإضافي العرضي و مما يتضمنه هذا المنزل ما يلزم العالم و المتعلم و السائل و المسئول فلنبين من ذلك طرفا لمسيس الحاجة إليه فإنه يقع من الناس في غالب الأوقات و ذلك أن الجاهل إذا جاء ليسأل العالم في أمر لا يعلمه من الوجه الذي يسأل عنه و يعلم منه قدر الوجه الذي دعاه إلى السؤال عنه كمن سمع حسا من خلف حجاب فيعلم قطعا إن خلف الحجاب أمرا لا يدري ما هو أو لا يدري محل ذلك الحس و لعله ليس خلف ذلك الستر فيسأل من يعلم محل ذلك الستر هل خلفه ما يمكن أن يحس أم لا و إذا كان فما هو فيتصور السؤال من السائل عما لا يعلم لوجه ما معلوم عنده يتضمن ما لا يعلم إلا بعد السؤال عنه و على هذا المقام أورد بعض النظار أشكالا و بهذا القدر ينفصل عن ذلك الإشكال و ليس كتابنا مما قصد به النسب الفكرية النظرية و إنما هو موضوع للعلوم الوهبية الكشفية فجرت العادة عند العلماء القاصرين عما ذكرناه أن المتعلم السائل إذا جاء ليسأل العالم عن أمر لا يعلمه فإن كانت المسألة بالنظر إلى حالة السائل عظيمة قال له لا تسأل عما لا يعنيك و هذا ليس قدرك و تقصر عن فهم الجواب على هذا السؤال و ليس الأمر كذلك عندنا و لا في نفس الأمر و إنما القصور في المسئول حيث لم يعلم الوجه الذي تحتمله تلك المسألة بالنظر إلى هذا السائل فيعلمه به ليحصل له الفائدة فيما سأل عنه و يستر عنه الوجوه التي فيها مما لا يحتمله عقله و لا يبلغ إليه فهمه فيسر السائل بجواب العالم و يصير عالما بتلك المسألة من ذلك الوجه و هو وجه صحيح إن فات علمه للعالم الفهم الفطن فقد فاته من المسألة بقدر ذلك الوجه فاستوى الفهم الفطن مع الفدم في عدم استيعاب وجوه تلك المسألة فما سأل سائل قط في مسألة ليس فيه أهلية لقبول جواب عنها و لقد علمنا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم من هذا الباب في تأديب الصحابة ما يتأدب به في ذلك و ذلك «أن رجلا جاء إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم و هو بين ظهراني أصحابه فقال يا رسول اللّٰه إني أسألك عن ثياب أهل الجنة أ خلق تخلق أم نسيج تنسج فضحك الحاضرون من سؤاله فغضب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم و قال أ تضحكون أن جاهلا سأل عالما يا هذا الرجل إنها تشقق عنها ثمر الجنة» فأجابه بما أرضاه و علم أصحابه الأدب مع السائل فأزال خجله و انقلب عالما فرحا و قال اللّٰه تعالى
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية