و أما تعيين المراتب لولاة الأمر فهو العلم بما تستحقه كل مرتبة من المصالح التي خلقت لها فينظر صاحب هذا العلم في نفس الشخص الذي يريد أن يوليه و يرفع الميزان بينه و بين المرتبة فإذا رأى الاعتدال في الوزن من غير ترجيح لكفة المرتبة ولاة و إن رجح الوالي فلا يضره و إن رجحت كفة المرتبة عليه لم يوله لأنه ينقص عن علم ما رجحه به فيجور بلا شك و هو أصل الجور في الولاة و من المحال عندنا إن يعلم و يعدل عن حكم علمه جملة واحدة و هو جائز عند علماء الرسوم و عندنا هذا الجائز ليس بواقع في الوجود و هي مسألة صعبة و لهذا يكون المهدي يملؤها قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما يعني الأرض فإن العلم عندنا يقتضي العمل و لا بد و إلا فليس بعلم و إن ظهر بصورة علم و المراتب ثلاثة و هي التي ينفذ فيها حكم الحاكم و هي الدماء و الأعراض و الأموال فيعلم ما تطلبه كل مرتبة من الحكم الإلهي المشروع و ينظر في الناس فمن رأى أنه جمع ما تطلبه تلك المرتبة نظر في مزاج ذلك الجامع فإن رآه يتصرف تحت حكم العلم علم أنه عاقل فولاه و إن رآه يحكم على علمه و أن علمه معه مقهور تحت حكم شهوته و سلطان هواه لم يوله مع علمه بالحكم قال بعض الملوك لبعض جلسائه من أهل الرأي و النظر الصحيح حين استشاره فقال له من ترى إن أولي أمور الناس فقال ول على أمور الناس رجلا عاقلا فإن العاقل يستبرئ لنفسه فإن كان عالما حكم بما علم و إن لم يكن عالما بتلك الواقعة ما حكمها حكم عليه عقله إن يسأل من يدري الحكم الإلهي المشروع في تلك النازلة فإذا عرفه حكم فيها فهذا فائدة العقل فإن كثيرا ممن ينتمي إلى الدين و العلم الرسمي تحكم شهوتهم عليهم و العاقل ليس كذلك فإن العقل يأبى إلا الفضائل فإنه يقيد صاحبه عن التصرف فيما لا ينبغي و لهذا سمي عقلا من العقال و أما الرحمة في الغضب فلا يكون ذلك إلا في الحدود المشروعة و التعزير و ما عدا ذلك فغضب ليس فيه من الرحمة شيء و لذلك قال أبو يزيد بطشي أشد لما سمع القارئ يقرأ ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج:12] فإن الإنسان إذا غضب لنفسه فلا يتضمن ذلك الغضب رحمة بوجه و إذا غضب لله فغضبه غضب اللّٰه و غضب اللّٰه لا يخلص عن رحمة إلهية تشوبه فغضبه في الدنيا ما نصبه من الحدود و التعزيرات و غضبه في الآخرة ما يقيم من الحدود على من يدخل النار فهو و إن كان غضبا فهو تطهير لما شابه من الرحمة في الدنيا و الآخرة لأن الرحمة لما سبقت الغضب في الوجود عمت الكون كله و وسعت كل شيء فلما جاء الغضب في الوجود وجد الرحمة قد سبقته و لا بد من وجوده فكان مع الرحمة كالماء مع اللبن إذا شابه و خالطه فلم يخلص الماء من اللبن كذلك لم يخلص الغضب من الرحمة فحكمت على الغضب لأنها صاحبة المحل فينتهي غضب اللّٰه في المغضوب عليهم و رحمة اللّٰه لا تنتهي فهذا المهدي لا يغضب إلا لله فلا يتعدى في غضبه إقامة حدود اللّٰه التي شرعها بخلاف من يغضب لهواه و مخالفة غرضه فمثل هذا الذي يغضب لله لا يمكن أن يكون إلا عادلا و مقسطا لا جائرا و لا قاسطا و علامة من يدعي هذا المقام إذا غضب لله و كان حاكما و أقام الحد على المغضوب عليه يزول عنه الغضب على ذلك الشخص عند الفراغ منه و ربما قام إليه و عانقه و آنسه و قال له أحمد اللّٰه الذي طهرك و أظهر له السرور و البشاشة به و ربما أحسن إليه بعد ذلك هذا ميزانه و يرجع لذلك المحدود رحمة كله و قد رأيت ذلك لبعض القضاة ببلاد المغرب قاضي مدينة سبتة يقال له أبو إبراهيم بن يغمور و كان يسمع معنا الحديث على شيخنا أبي الحسين بن الصائغ من ذرية أبي أيوب الأنصاري و على أبي الصبر أيوب الفهري و على أبي محمد بن عبد اللّٰه الحجري بسبتة في زمان قضائه بها و ما كان يأتي إلى السماع راكبا قط بل يمشي بين الناس فإذا لقيه رجلان قد تخاصما و تداعيا إليه وقف إليهما و أصلح بينهما غزير الدمعة طويل الفكرة كثير الذكر يصلح بين القبيلتين بنفسه فيصطلحان ببركته و القاضي إن بقي معه الغضب على المحدود بعد أخذ حق اللّٰه منه فهو غضب نفس و طبع أو لأمر في نفسه لذلك المحدود ما هو غصب لله فلذلك لا يأجره اللّٰه فإنه ما قام في ذلك مراعاة لحق اللّٰه و هذا من قوله تعالى
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية