«قوله تعالى سبقت رحمتي غضبي» و من وجه لا ينافيه فإن الحقائق تعطي أن الفضل لا يحكم في العدل و أن العدل لا يحكم في الفضل فإنه ليس كل واحد من النعتين محلا لحكم الآخر و إن محل حكم الصفة أنما هو في المفضول عليه أو المعدول فيه و إنا قد علمنا من اللّٰه تعالى إن اللّٰه يتفضل بالمغفرة على طائفة من عباده قد عملوا الشر و لم يقم عليهم ميزان العدل و لا آخذهم بعدله و إنما حكم فيهم بفضله و لا يقال في مثل هذا إنه حكم فضله في عدله و هو الذي يليق بابن قسي رحمه اللّٰه إنه أنبأ عن حقيقة كما هو الأمر عليه في نفسه و إذا خالف الكشف الذي لنا كشف الأنبياء عليه السّلام كان الرجوع إلى كشف الأنبياء عليه السّلام و علمنا إن صاحب ذلك الكشف قد طرأ عليه خلل بكونه زاد على كشفه نوعا من التأويل بفكره فلم يقف مع كشفه كصاحب الرؤيا فإن كشفه صحيح و أخبر عما رأى و يقع الخطاء في التعبير لا في نفس ما رأى فالكشف لا يخطئ أبدا و المتكلم في مدلوله يخطئ و يصيب إلا أن يخبر عن اللّٰه في ذلك فأما ميزان العلم العقلي فهو على قسمين قسم يدركه العقل بفكره و هو المسمى بالمنطق في المعاني و بالنحو في الألفاظ و هذا ليس هو طريق أهل هذا الشأن أعني علم ما اصطلحوا عليه من الألفاظ المؤدية إلى العلم به من البرهان الوجودي و الجدلي و الخطابي و الكلية و الجزئية و الموجبة و السالبة و الشرطية و غير الشرطية و إن اجتمعنا معهم في المعاني و لا بد من الاجتماع فيها و لكن لا يلزم من الاجتماع في المعنى أن لا يكون ذلك إلا من طريق هذه الألفاظ و كذلك لا يلزمنا معرفة المبتدأ و الابتداء و الفاعل و المفعول و المضاف و المصدر و الإضافة و اسم كان و اسم إن و الإعراب و البناء و إن علمنا المعاني و لكن لا يلزم أن نعرف هذه الألفاظ فصاحب الكشف على بصيرة من ربه فيما يدعو إليه خلقه و لكن للعقل قبول كماله فكر و لذلك القبول في الكشف ميزان قد عرفه فيقيمه في كل معلوم يستقل العقل بإدراكه لكن لا يعلمه هذا الولي من طريق الفكر و ميزان المنطق فالذي دخل في طريقنا من ميزان العلم العقلي هو إذا ورد العلم الذي يحصل عقيب التقوى من قوله تعالى ﴿وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّٰهُ﴾ [البقرة:282] و من قوله ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً﴾ [الأنفال:29] فالعارف عند ذلك ينظر في تقواه و ما اتقى اللّٰه فيه من الأمور و ما كان عليه من العمل و ينظر في ذلك العلم و يناسب بينه و بين تقواه في العمل الذي كان عليه فإن موازين المناسبات لا تخطئ فإذا رأى المناسبة محققة بين العلم المفتوح عليه به و بين ذلك العمل و رأى أن ذلك العمل يطلبه فذلك العلم مكتسب له بعمله فإذا رآه خارجا عن الميزان و ترتفع المناسبة أو يكون ما زاد من جنس ما حصل و لكن لا يقتضيه قوة عمله لضعف أو نقص كان في عمله فما زاد على هذا المقدار فهو من علوم الوهب و إن كان له أصل في الكسب فيتعين عليه أن يشكر اللّٰه سبحانه على ما منحه فيكون ذلك الشكر يجبر له ما نقص من العمل الذي لو عمله نتج له هذا الذي وهب له فهذا مسبب قد تقدم سببه بل عاد سببا لما كان ينبغي أن يكون مسببا عنه و يزيده اللّٰه لذلك الشكر فتحا في قلبه على الحد الذي ذكرناه و تؤخذ جميع الأعمال على ذاكم فهذا حد الميزان العقلي في الطريق و اختلفنا فيما يستقل العقل بإدراكه إذا أخذه الولي من طريق الكشف و الفتح هل يفتح له مع دليله أم لا فذهبنا نحن إلى أنه قد يفتح له فيه و لا يفتح له في دليله و قد ذقناه و ذهب بعضهم منهم صاحبنا الشيخ الإمام أبو عبد اللّٰه الكتاني بمدينة فاس سمعته يقول لا بد أن يفتح له في الدليل من غير فكر و يرى ارتباطه بمدلوله فعلمت إن اللّٰه ما فتح عليه في مثل هذا العلم إلا على هذا الحد فقال أيضا ذوقه فإخباره أنه كذا رآه صحيح و حكمه أنه لا يكون إلا هكذا باطل فإن حكمه كان عن نظره لا عن كشفه فإنه ما أخبر عن اللّٰه أنه قال له هكذا أفعله و أن غير هذا الرجل من أهل هذا الشأن قد أدرك ما ذهبنا إليه و لم يعرف دليله العقلي فأخبر كل واحد بما رآه و صدق في إخباره و ما يقع الخطاء قط في هذا الطريق من جهة الكشف و لكن يقع من جهة التفقه فيه فيما كشف إذا كان كشف حروف أو صور و أما الميزان الشرعي فهو إن اللّٰه إذا أعطاك علما من العلوم الإلهية لا من غيرها فإنا لا نعتبر الغير في هذا الميزان الخاص فننظر في الشرع إن كنا عالمين به و إلا سألنا المحدثين من علماء الشرائع لا نسأل أهل الرأي فنقول لهم هل رويتم عن أحد من الرسل أنه قال عن اللّٰه كذا و كذا فإن قالوا نعم فوازنه بما علمت و بما قيل لك و اعلم أنك وارث ذلك النبي في تلك المسألة أو ينظر هل يدل عليها القرآن و هو قول الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب و السنة فهو الميزان و ليس يلزم في هذا الميزان عين المسألة أن تكون مذكورة في الكتاب أو السنة و إنما الذي يطلب عليه القوم أن يجمعهما أصل واحد في الشرع المنزل من كتاب أو سنة على أي لسان نبي كان من آدم عليه السّلام إلى محمد ﷺ فإن أمورا كثيرة نرد في الكشف على الأولياء و في التعريف الإلهي لا تقبلها العقول و ترمي بها فإذا قالها الرسول أو النبي عليه السّلام قبلت إيمانا و تأويلا و لا تقبل من غيره و ذلك لعدم الإنصاف فإن الأولياء إذا عملوا بما شرع لهم هبت عليهم من تلك الحضرة الإلهية نفحات جود إلهي كشف لهم من أعيان تلك الأمور الإلهية التي قبلت من الأنبياء عليه السّلام ما شاء اللّٰه فإذا جاء بها هذا الولي كفر و الذي يكفره يؤمن بها إذا جاء بها الرسول فما أعمى بصيرة هذا الشخص و أقل الأمور أن يقول له إن كان ما تقوله حق إنك خوطبت بهذا أو كشف لك فتأويله كذا و كذا إن كان ذلك من أهل التأويل و إن كان ظاهريا يقول له قد ورد في الخبر النبوي ما يشبه هذا فإن ذلك ليس هو من شرط النبوة و لا حجره الشارع لا في كتاب و لا سنة و من هذا الباب في هذا المنزل يعلم الإنسان ميزانه من الحضرة الإلهية في
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية