و ذوات ملك القدس على نوعين في التقديس فمنهم ذوات مقدسة لذاتها و هي كل ذات كونية لم تلتفت قط إلى غير الاسم الإلهي الذي عنه تكونت فلم يطرأ عليها حجاب يحجبها عن إلهها فتتصف لذلك الحجاب بأنها غير مقدسة أي لا تضاف إلى القدس فتخرج عن ملك القدس و هم الذين ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:20] أي ينزهون ذواتهم عن التقديس العرضي بالشهود الدائم و هذا مقام ما ناله أحد من البشر إلا من استصحب حقيقته من حين خلفت شهود الاسم الإلهي الذي عنه تكونت و بقي عليها هذا الشهود حين أوجد اللّٰه لها مركبها الطبيعي الذي هو الجسم ثم استمر لها ذلك إلى حين الانتقال إلى البرزخ من غير موت معنوي و إن مات حسا و هذا و اللّٰه أعلم ناله محمد صلى اللّٰه عليه و سلم «فإنه قال كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين» يريد أن العلم بنبوته حصل له و آدم بين الماء و الطين و استصحبه ذلك إلى أن وجد جسمه في بلد لم يكن فيه موحد لله و لم يزل على توحيد اللّٰه لم يشرك كما أشرك أهله و قومه ثم إنه لما استقامت آلاته الحسية و تمكن من العمل بها بحسب ما وجدت له و استحكم بنيان قصر عقله و خزانة فكره و اعتدلت مظاهر قواه الباطنة لم يصرفها إلا في عبادة خالقه فكان يخلو بغار حرا للتحنث فيه إلى أن أرسله اللّٰه إلى الناس كافة «فكان يذكر اللّٰه على كل أحيانه كما ذكرت عنه عائشة أم المؤمنين رضي اللّٰه عنها» و «قد قال صلى اللّٰه عليه و سلم عن نفسه و هو الصادق إنه تنام عينه و لا ينام قلبه» فأخبر عن قلبه أنه لا ينام عند نوم عينه عن حسه فكذلك موته إنما مات حسا كما نام حسا فإن اللّٰه يقول له ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ [الزمر:30] و كما أنه لم ينم قلبه لم يمت قلبه فاستصحبته الحياة من حين خلقه اللّٰه و حياته إنما هي مشاهدة خالقه دائما لا تنقطع و قد أخبر ذو النون المصري حين سئل عن قوله تعالى في أخذ الميثاق فقال كأنه الآن في أذني يشير إلى علمه بتلك الحال فإن كان عن تذكر فلم يلحق بالملائكة في هذا المقام و إن لم يكن عن تذكر بل استصحاب حال من حين أشهد إلى حين سئل فيكون ممن خصه اللّٰه بهذا المقام فلا أنفيه و لا أثبته و ما عندي خبر من جانب الحق تعالى في ذلك مروي و لا غير مروي أنه ناله أحد من البشر و إنما ذكرنا ذلك في حق رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم أعني أنه ناله على طريق الاحتمال لا على القطع فإنه لا علم لي بذلك و الظاهر أنه تخلله في هذا المقام ما يتخلل البشر فإنه كثيرا ما أوحي إليه في القرآن أن يقول ﴿قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف:110] فاستروحنا من هذا أن حكمه حكم البشر إلا ما خصه اللّٰه به من التقريب الإلهي الذي ورد و ثبت عندنا و
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية