و معنى ﴿لاٰ يَبْغِيٰانِ﴾ [الرحمن:20] أي لا يختلط أحدهما بالآخر و إن عجز الحس عن الفصل بينهما و العقل يقضي أن بينهما حاجزا يفصل بينهما فذلك الحاجز المعقول هو البرزخ فإن أدرك بالحس فهو أحد الأمرين ما هو البرزخ و كل أمرين يفتقران إذا تجاورا إلى برزخ ليس هو عين أحدهما و فيه قوة كل واحد منهما و لما كان البرزخ أمرا فاصلا بين معلوم و غير معلوم و بين معدوم و موجود و بين منفي و مثبت و بين معقول و غير معقول سمي برزخا اصطلاحا و هو معقول في نفسه و ليس إلا الخيال فإنك إذا أدركته و كنت عاقلا تعلم أنك أدركت شيئا وجوديا وقع بصرك عليه و تعلم قط ما بدليل أنه ما ثم شيء رأسا و أصلا فما هو هذا الذي أثبت له شيئية وجودية و نفيتها عنه في حال إثباتك إياها
[الخيال كالبرزخ لا موجود و لا معدوم لا معلوم و لا مجهول]
فالخيال لا موجود و لا معدوم و لا معلوم و لا مجهول و لا منفي و لا مثبت كما يدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه و يعلم قطعا أنه ما أدرك صورته بوجه لما يرى فيها من الدقة إذا كان جرم المرآة صغيرا و يعلم أن صورته أكبر من التي رأى بما لا يتقارب و إذا كان جرم المرآة كبيرا فيرى صورته في غاية الكبر و يقطع أن صورته أصغر مما رأى و لا يقدر أن ينكر أنه رأى صورته و يعلم أنه ليس في المرآة صورته و لا هي بينه و بين المرآة و لا هو انعكاس شعاع البصرة إلى الصورة المرئية فيها من خارج سواء كانت صورته أو غيرها إذ لو كان كذلك لأدرك الصورة على قدرها و ما هي عليه و في رؤيتها في السيف من الطول أو العرض يتبين لك ما ذكرنا مع علمه أنه رأى صورته بلا شك فليس بصادق و لا كاذب في قوله إنه رأى صورته ما رأى صورته فما تلك الصورة المرئية و أين محلها و ما شأنها فهي منفية ثابتة موجودة معدومة معلومة مجهولة أظهر اللّٰه سبحانه هذه الحقيقة لعبده ضرب مثال ليعلم و يتحقق أنه إذا عجز و حار في درك حقيقة هذا و هو من العالم و لم يحصل عنده علم بحقيقته فهو بخالقها أعجز و أجهل و أشد حيرة و نبهه بذلك أن تجليات الحق له أرق و ألطف معنى من هذا الذي قد حارت العقول فيه و عجزت عن إدراك حقيقته إلى أن بلغ عجزها أن تقول هل لهذا ماهية أو لا ماهية له فإنها لا تلحقه بالعدم المحض و قد أدرك البصر شيئا ما و لا بالوجود المحض و قد علمت أنه ما ثم شيء و لا بالإمكان المحض
[النوم و ما بعد الموت إلى حين البعث و حال المكاشفة]
و إلى مثل هذه الحقيقة يصير الإنسان في نومه و بعد موته فيرى الأعراض صورا قائمة بنفسها تخاطبه و يخاطبها أجسادا لا يشك فيها و المكاشف يرى في يقظته ما يراه النائم في حال نومه و الميت بعد موته كما يرى في الآخرة صور الأعمال توزن مع كونها أعراضا و يرى الموت كبشا أملح بذبح و الموت نسبة مفارقة عن اجتماع فسبحان من يجهل فلا يعلم و يعلم فلا يجهل ﴿لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:6]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية