[عجبا للعقل يتبع فكره و لا يتبع ربه]
هذا و من أعجب الأمور عندنا إن يكون الإنسان يقلد فكره و نظره و هو محدث مثله و قوة من قوى الإنسان التي خلقها اللّٰه فيه و جعل تلك القوة خديمة للعقل و يقلدها العقل فيما تعطيه هذه القوة و يعلم أنها لا تتعدى مرتبتها و أنها تعجز في نفسها عن إن يكون لها حكم قوة أخرى مثل القوة الحافظة و المصورة و المتخيلة و القوي التي هي الحواس من لمس و طعم و شم و سمع و بصر و مع هذا القصور كله يقلدها العقل في معرفة ربه و لا يقلد ربه فيما يخبر به عن نفسه في كتابه و على لسان رسوله صلى اللّٰه عليه و سلم فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط
[حدود آفاق العقل من حيث قواه الظاهرة و الباطنة]
و كل صاحب فكر تحت حكم هذا الغلط بلا شك إلا من نور اللّٰه بصيرته فعرف إن اللّٰه قد ﴿أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ [ طه:50] فأعطى السمع خلقه فلا يتعدى إدراكه و جعل العقل فقيرا إليه يستمد منه معرفة الأصوات و تقطيع الحروف و تغيير الألفاظ و تنوع اللغات فيفرق بين صوت الطير و هبوب الرياح و صرير الباب و خرير الماء و صياح الإنسان و يعار الشاة و ثؤاج الكباش و خوار البقر و رغاء الإبل و ما أشبه هذه الأصوات كلها و لبس في قوة لعقل من حيث ذاته إدراك شيء من هذا ما لم يوصله إليه السمع و كذلك القوة البصرية جعل اللّٰه العقل فقيرا إليها فيما توصله إليه من المبصرات فلا يعرف الخضرة و لا الصفرة و لا الزرقة و لا البياض و لا السواد و لا ما بينهما من الألوان ما لم ينعم البصر على العقل بها و هكذا جميع القوي المعروفة بالحواس ثم إن الخيال فقير إلى هذه الحواس فلا يتخيل أصلا إلا ما تعطيه هذه القوي ثم إن القوة الحافظة إن لم تمسك على الخيال ما حصل عنده من هذه القوي لا يبقى في الخيال منها شيء فهو فقير إلى الحواس و إلى القوة الحافظة ثم إن القوة الحافظة قد تطرأ عليها موانع تحول بينها و بين الخيال فيفوت الخيال أمور كثيرة من أجل ما طرأ على القوة الحافظة من الضعف لوجود المانع فافتقر إلى القوة المذكرة فتذكره ما غاب عنه فهي معينة للقوة الحافظة على ذلك ثم إن القوة المفكرة إذا جاءت إلى الخيال افتقرت إلى القوة المصورة لتركب بها مما ضبطه الخيال من الأمور صورة دليل على أمر ما و برهان تستند فيه إلى المحسوسات أو الضرورات و هي أمور مركوزة في الجبلة فإذا تصور الفكر ذلك الدليل حينئذ يأخذه العقل منه فيحكم به على المدلول و ما من قوة إلا و لها موانع و أغاليط فيحتاج إلى فصلها من الصحيح الثابت فانظر يا أخي ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئا مما ذكرناه إلا بوساطة هذه القوي و فيها من العلل ما فيها فإذا أنفق للعقل أن يحصل شيئا من هذه الأمور بهذه الطرق ثم أخبره اللّٰه بأمر ما توقف في قبوله و قال إن الفكر يرده فما أجهل هذا العقل بقدر ربه كيف قلد فكره و جرح ربه
[طريق العقل إلى اللّٰه من جهة الشرع أقرب إليه من جهة الفكر]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية