The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة منزل مفاتيح خزائن الجود

رجال ولهذا رجال وفيه علم الإيلاء وأقسامه وأحكامه في المولى وصورة الإيلاء وما يكون لله من ذلك وما يكون للعبد وفيه علم كون العالم العامل في دنياه في جنة معجلة في نفسه وإن كان ردى‏ء الحال فنعيمه في نفسه أعظم النعيم وفيه علم المداخلة في القرآن مع كونه محفوظا من عند الله فلا يصح في القرآن تحريف ولا تبديل كما وقع في غيره من الكتب المنزلة وفيه علم النسخ ما هو وفيه علم حكم من يخالف ظاهره باطنه عن شهود وفيه علم دفع الإنسان عن نفسه إعظاما لها لما رأى من تعظيم الله حقها في تحريم الجنة على من قتل نفسه وإن كان قاتل نفسه لا يدخل جهنم إلا بنفسه الحيوانية لأن جهنم ليست موطنا للنفس الناطقة ولو أشرفت عليها طفئ لهيبها بلا شك لأن نورها أعظم فإن الذي قتل نفسه عظم جرمه لحق الجوار الأقرب وحال بذلك بينها وبين ملكها وما سوى نفسه فبعيد عن هذا القرب الخاص الذي لنفسه وفيه علم ما حلل وحرم هل حرم أو حلل لنفسه أو لأمور مخصوصة وأحوال في المحرم والمحرم عليه ولا محلل ولا محرم إلا الله بلسان الشرع لسان الرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أو المجتهد من علماء الرسوم كالفقهاء وفيه علم تغير الإقبال الإلهي لتغير الأحوال وفيه علم إقامة العظيم مقام الجماعة وفيه علم السياسات في المخاطبات من العلماء والعارفين الدعاة إلى الله وفيه علم الجزاء بالمماثل في أي نوع كان وفيما يحمد من ذلك كله وفيما يذم وفيه علم المعية الإلهية والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب التاسع والستون وثلاثمائة في معرفة منزل مفاتيح خزائن الجود»

قلت لما أن قال قومي بأني *** قلت ما قلت والكؤس تدار

من مدير الكؤس قلت حبيبي *** وهو شربي الذي عليه المدار

ثم قالوا فما يقول حبيب *** في إله له القلوب تعار

ولسان الكريم يعطيك مالا *** ثم يأتيك سائلا فتحار

كرما منه وامتنانا وفضلا *** ولك الحكم بعد ذا والخيار

إن تشأ قلت أنت مالك هذا *** أو تشأ ضده فليس يغار

كل هذا أباحه لك فضلا *** حكم الجبر فيه والاضطرار

[ما من شي‏ء أوجده الله في العالم إلا وله أمثال في خزائن الجود]

اعلم أيدنا الله وإياك أنه ما من شي‏ء أوجده الله في العالم الذي لا أكمل منه في الإمكان إلا وله أمثال في خزائن الجود وهذه الخزائن في كرسيه وهذه الأمثال التي تحتوي عليها هذه الخزائن لا تنتهي أشخاصها فالأمثال من كل شي‏ء توجد في كل زمان فرد في الدنيا والآخرة لبقاء كل نوع وجد منه ما وجد واختلف أصحابنا في هذا النوع الإنساني هل تنقطع أشخاصه بانتهاء مدة الدنيا أم لا فمن لم يكشف قال بانتهائه ومن كشف قال بعدم انتهائه وإن التوالد في الآخرة في هذا النوع الإنساني باق في المثل في نكاح الرجل المرأة الآدمية الإنسانية على صورة أذكرها والتوالد أيضا بين جنسين مختلفين وهما بنو آدم والحور اللاتي أنشأهن الله في الجنان على صورة الإنسان ولسن بأناسي فتوالدهما بنكاح بينهما في الإنس والحور ويتناكحان في الزمن الفرد ينكح الرجل إذا أراد جميع من عنده من النساء والحور من غير تقدم ولا تأخر مثل فاكهة الجنة لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ بل بقطف دان من غير فقد مع وجود أكل وطيب طعم فإذا أفضى الرجل إلى الحوراء أو الإنسية له في كل دفعة شهوة ولذة لا يقدر قدرها لو وجدها في الدنيا غشى عليه من شدة حلاوتها فتكون منه في كل دفعة ريح مثيرة نخرج من ذكره فيتلقاها رحم المرأة فيتكون من حينه فيها ولد في كل دفعة ويكمل نشؤه ما بين الدفعتين ويخرج مولودا مصورا مع النفس الخارج من المرأة روحا مجردا طبيعيا فهذا هو التوالد الروحاني في البشري بين الجنسين المختلفين والمتماثلين فلا يزال الأمر كذلك دائما أبدا ويشاهد الأبوان ما تولد عنهما من ذلك النكاح وهم كالملائكة الذين يدخلون البيت المعمور ولا يعودون إليه أبدا هذا صورة توالد هذا النوع الإنساني ولا حظ لهؤلاء الأولاد في النعيم المحسوس ولا بلغوا مقام النعيم المعنوي فنعيمهم برزخي كنعيم صاحب الرؤيا بما يراه في حال نومه وذلك لما يقتضيه النش‏ء الطبيعي فلا يزال النوع الإنساني يتوالد ولكن حكمه ما ذكرناه وأما توالد

الأرواح البشرية فإن لهما في الآخرة مثل ما لهما في الدنيا اجتماعات برزخيات مثل ما يرى النائم في النوم أنه ينكح زوجته ويولد له فإذا أقيم العبد في هذا المقام سواء كان في الدنيا أو في الآخرة ونكح الرجل من حيث روحه زوجته من حيث روحها يتولد بينهما من ذلك النكاح أولاد روحانيون ما يكون حكمهم حكم المولدين من النكاح الحسي في الأجسام والصور المحسوسات التي تقدم ذكرها فيخرج الأولاد ملائكة كراما لا بل أرواحا مطهرة وهذا هو توالد الأرواح ولكن لا بد أن يكون ذلك عن تجل برزخي فتجلى الحق في الصور المقيدة فإن البرزخ أوسع الحضرات جودا وهو مجمع البحرين بحر المعاني وبحر المحسوسات فالمحسوس لا يكون معنى والمعنى لا يكون محسوسا وحضرة الخيال التي عبرنا عنه بمجمع البحرين هو يجسد المعاني ويلطف المحسوس ويقلب في عين الناظر عين كل معلوم فهو الحاكم المتحكم الذي يحكم ولا يحكم عليه مع كونه مخلوقا إلا إن الأنفاس التي تظهر من تنفس الحوراء أو الآدمية إذا كانت صورة ما ظهرت فيه من نفس النكاح يخرج مخالفا للنفس الذي لا صورة فيه يميزه أهل الكشف ولا يدرك ذلك في الآخرة إلا أهل الكشف في الدنيا وصورة هذا النش‏ء المتولد عن هذا النكاح في الجنة صورة نش‏ء الملائكة أو الصور من أنفاس الذاكرين الله وما يخلق الله من صور الأعمال وقد صحت الأخبار بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وإنما جعلنا الكرسي موضع هذه الخزائن لأن الكرسي لغة عبارة عن العلم كما قال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والْأَرْضَ أي علمه وكذلك هو هنا فإن الخزائن فيها أشخاص الأنواع وهذه الأشخاص لا تتناهى وما لا يتناهى لا يدخل في الوجود إذ كل ما يحصره الوجود فإنه متناه فلا بد أن يكون الكرسي هنا علمه فإن علمه محيط بما لا يتناهى فلا تتخيل في الكرسي الذي ذكرناه أنه هذا الكرسي الذي فوق السموات ودون العرش فإنه كرسي محصور موجود متناهى الأجزاء

[أن أفضل ما جاد به الله تعالى على عباده العلم‏]

واعلم أن أفضل ما جاد به الله تعالى على عباده العلم فمن أعطاه الله العلم فقد منحه أشرف الصفات وأعظم الهبات والعلم وإن كان شريفا بالذات فإن له شرفا آخر يرجع إليه من معلومه فإنها صفة عامة التعلق وتشرف المفاتيح بشرف الخزائن وتشرف الخزائن بقدر شرف ما اختزن فيها فالموجود الحق أعظم الموجودات وأجلها وأشرفها فالعلم به أشرف العلوم وأعظمها وأجلها ثم ينزل الأمر في الشرف إلى آخر معلوم وما من شي‏ء إلا والعلم به أحسن من الجهل به فالعلم شرفه ذاتي له والشرف الآخر مكتسب والخزائن محصورة بانحصار أنواع المعلومات ومرجعها وإن كثرت إلى خزانتين خزانة العلم بالله وخزانة العلم بالعالم وفي كل خزانة من هاتين الخزانتين خزائن كالعلم بالله من حيث ذاته بالإدراك العقلي ومن حيث ذاته بالإدراك الشرعي السمعي والعلم به من حيث أسماؤه والعلم به من حيث نعوته والعلم به من حيث صفاته والعلم به من حيث النسب إليه وكل ذلك من حيث النظر الفكري ومن حيث السمع وهو من حيث السمع كما هو من حيث الكشف والخزانة الأخرى التي هي العلم بالعالم تحوي على خزائن وفي كل خزانة خزائن فالخزائن الأول العلم بأعيان العالم من حيث إمكانه ومن حيث وجوبه ومن حيث ذواته القائمة بأنفسها ومن حيث أكوانه ومن حيث ألوانه ومن حيث مراتبه ومن حيث مكانه وزمانه ونسبه وعدده ووضعه وتأثيره وكونه مؤثرا فيه منه ومن غيره إلى أمثال هذا من العلوم وعلم الدنيا والبرزخ والآخرة والملإ الأعلى والأدنى فأول مفتاح من هذه الخزائن أعطاه العالم بالله مفتاح خزانة العلم بالوجود مطلقا من غير تقييد بحادث ولا قديم وبما ذا تميز هل بنفسه أو بغيره وهو العدم فالوجود ظهور الموجود في عينه فإن به تظهر جميع الأحكام من نفي وإثبات ووجوب وإمكان وإحالة ووجود وعدم ولا وجود ولا عدم هذا كله لا يثبت ولا يصح إلا من موجود يكون عينه وماهيته ووجوده لا يقبل التكثر إلا بحكمه عليه فإن الحقائق التي تبرز إليه فيه لوجوده فنقول بالكثرة في عينه وهو واحد ولكل حقيقة اسم فله أسماء

تجسدت أسمائي فكنت كثيرا *** ولم يرني غير فكنت بصيرا

فيا قائلا بالغير أين وجوده *** وأين يكون الغير كنت غيورا

تعالى على من أو بعز فليس ثم *** فبالحق كان الحق فيه غفورا

فو الله لو لا الله ما كان كونه *** غنيا ولا كان الغني فقيرا

بمن أو إلى من علق الفقر والغني *** فسل بالذي قام الوجود خبيرا

فإذا كان الوجود أول خزائن الجود وأعطاك الحق مفتاح هذه الخزانة كالذي كان عرفك بك فعرفته فأنت أول معلوم وهو آخر معلوم وأنت آخر موجود وهو أول موجود فإنه ليس في قوتك إن تعلم المعدوم لأن العلم شهود وإن لم يكن كذلك فليس بعلم هذا هو الحق الذي لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فأوجد من كل خزانة عينا قائمة أو عينا في عين أو لا عينا في عين وأعني بقولي لا عين في عين النسب فإنه ليست لها أعيان وحكمها يحكم على الوجود لا عيان بها ولا وجود لها إلا بالحكم فلما أوجد ما ذكرناه عمد إليك فأوجدك كاملا لانتهاء طرفي الدائرة فظهرت في وجودك وإن كنت آخرا بصورة الأول فانحصر العالم بينك وبينه فلا مخلص له منكما فلم نتميز عنه ولا تميز عنك في الحكم وظهرت فيك صور العالم كلها التي أخرجها من تلك الخزائن فشاهدتك فحصل لك العلم بها فعلمت من العالم ما لم يعلم العالم من نفسه من الحكم فردا فردا وقال لك كلما بقي في الخزائن مما لا يتناهى فهو مثل ما علمت فمن أحاط علما بواحد من الجنس فقد أحاط علما بالجنس فإنه ما ثم إلا أمثال فما التقى طرفا الدائرة حتى حدث المحيط ودل المحيط على نقطة الدائرة فحدثت الخطوط من النقطة إلى المحيط ولم تتجاوزه فإن انتهاء الخط إنما يكون إلى نقطة من المحيط فانتهى إلى ما منه خرج فصورة أوليته عين صورة آخريته فيصير من حكم نقطة آخره الذي انتهى إليها من المحيط من كذا إلى محيط آخر نصفه من داخل المحيط الأول ونصفه من خارجه

لحكم الظاهر والباطن ويلتقي طرفاه أيضا كالتقاء المحيط الأول حتى يكون على صورته لأنه من المحال أن يخرج على غير صورته ثم يظهر من الحكم في المحيط ما ظهر في المحيط الأول إلى ما لا يتناهى وهو ما يبرز من تلك الخزائن الذي لا يتناهى ما تحوي عليه وهو الخلق الجديد الذي الكون فيه دائما أبدا وبعض الناس أو أكثر الناس في لبس من ذلك كما قال تعالى بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ مع الأنفاس ولكن بصورة ما ذكرناه فالنقطة سبب في وجود المحيط والمحيط سبب في حصول العلم بالنقط فالمحيط حق وخلق والنقطة حق وخلق فهذان حكمان يسريان في كل دائرة ظهرت من الدائرة الأولى ولما ظهرت الدوائر بالغا ما بلغت ولا تزال تظهر صارت الدائرة الأولى التي أحدثت هذه الدوائر خفية لا تعرف ولا تدرك لأن كل دائرة قربت منها أو بعدت عنها فهي على صورتها فكل دائرة يقال فيها تشهدها ما تشهدها فهذا هو غيب في شهادة فالدوائر الظاهرة في الدائرة الأولى عددها مساو لعدد خزائن الأجناس كانت ما كانت لا يزاد فيها ولا ينقص منها وما يخرج ويحدث عنها من الدوائر إلى ما لا يتناهى دوائر أشخاص تلك الأجناس إلى ما لا يتناهى وتدل عين دائرة الشخص على أمر يسمى نوعا وهو ما بين الجنس والشخص فيحدث عندك أنواع في أنواع ولكن منحصرة ولا تعرف إلا من الأشخاص لأن النوع معقول بين الجنس الأعم والشخص وكل متوسط بين طرفين إن شئت قلت إن الطرفين أظهرا له حكم التوسط وإن شئت قلت إن التوسط أظهر حكم الطرفين وهذا عين معرفة الحق بالخلق والخلق بالحق‏

فلو لا شهود الخلق بالحق لم يكن *** ولو لا شهود الحق بالخلق لم تكن‏

فمن قال كن فهو الذي قد شهدته *** وما ثم إلا من يكون بقول كن‏

فمن علمه بالخلق يعرف حقه *** ومن علمه بالحق كان ولم يكن‏

فالمحيط يحفظ النقطة علما والنقطة تحفظ المحيط وجودا فكل واحد منهما حافظ محفوظ ولاحظ ملحوظ قال تعالى وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ فالكل مشهود وشاهد والكل فاضل ومفضول فإن قال أحدهما أنا قال الآخر أنا وإن قال أحدهما أنت قال الآخر له أنت فلا يظهر كل واحد للآخر إلا بما يبدأ به كل واحد والقولان صحيحان‏

فيا حقي ويا خلقي *** لمن تفني لمن تبقي‏

شربت شربة منه *** وقد غص بها حلقي‏

وما ثم سوى عين *** فمن يقبل ما تلقى‏

فقال لي الذي أعني *** إذا ما قلت فاستبقي‏

فإن الأمر محصور *** بين الخلق والحق‏

ولو لا ذاك ما كنا *** فأخف الذكر في الحق‏

فأنت‏

يا ولي الذكر المنزل فأنت المحفوظ وما نزل إلا بك فأنت الحافظ فلا تفن عينك فإنه في نفس الأمر ما يفنى وغايتك إن‏

تقول أنا هو فمدلول هو ما هو مدلول أنا فما يتخلص لك ما ترومه أبدا وإذا عز عن التخلص فقل به وقل بك وتميز عنه وميزه عنك تميز الأول عن الآخر والآخر عن الأول وتميز عن العالم وميزه عنك تميز الظاهر من الباطن والباطن من الظاهر فإنك من العالم روح العالم والعالم صورتك الظاهرة ولا معنى للصورة بلا روح فلا معنى للعالم دونك فإذا ميزت عينك من الحق ومن العالم عرفت قدرك بمعرفة الحق وعرفت منزلتك بمعرفة العالم‏

فكنت لذا ربا وكنت لذا عبدا *** وأنزلت عهدا مثل ما أنزل العهدا

فإن كنت ذا لب وغوص وفطنة *** فلا تلتزم ذما ولا تلتزم حمدا

ولا تفعلن شيئا إذا ما فعلته *** بسهو وحرر عند فعلتك القصدا

فما أنت ذاك الشخص إن كان سهوكم *** يغالبكم فاعمد إلى تركه عمدا

فهذا الذي أنبأتك به مفتاح من مفاتح خزائن الجود فلا تضيعه فإنه يعمل عمل كل مفتاح ولا يعمل مفتاح عمله فبه يفتح كل مغلق ولا يفتح بغيره ما أغلقه هذا المفتاح ومفتاح الغيب لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فلا تعلم إلا منه فلا تطمع أن تصل إلى علمها بك ومن طمع في غير مطمع فقد شهد على نفسه بالجهل ولَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ في السَّماواتِ والْأَرْضِ وما ثم الا سماء وأرض ولَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ فله صورة في كل سماء وأرض وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِلهٌ وفي الْأَرْضِ إِلهٌ وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ من كونه في الأرض وجَهْرَكُمْ من كونه في السماء ومن حيث النشأة يعلم سركم من كونه في السماء وهو معناكم الذي خفي عن الأبصار عينه وظهر حكمه وله العلو فهو في السماء وهو الباطن ويعلم أيضا جهركم من كونه في الأرض وهو ظاهركم الذي ظهر للابصار عينه وخفي حكمه لأن حكمه في روحه فإنه الذي تفيده العلوم بحواسه فله النزول فهو الأرض فهو الظاهر

فقد بان أن الحق بالحق ينطق *** وأن الذي قلناه أمر محقق‏

فلا تعدلن إن كنت للحق طالبا *** فعكس الذي قلناه لفظ ملفق‏

فيقول العبد الكامل الذي لا أكمل منه لي وقت لا يسعني فيه غير ربي ويقول الأصل لي وقت لا يسعني فيه غير نفسي فإن الأوقات كلها استغرقها العالم في الجانبين ولهذا كان الإنسان الكامل خليفة له تعالى فلهذا سبق علمه بنفسه على علمه بربه وبهذا

جاء الخبر من عرف نفسه عرف ربه‏

فإن من استخلفه علم العالم من علمه بنفسه والخليفة على صورة من استخلفه فعلم ربه من علمه بنفسه وعلم إن كل من اتصف بالوجود فهو متناه أي كل ما دخل في الوجود وبقيت الحيرة في العلم بالله من كونه موجودا هل يتصف بالتناهي لكونه موجودا أو لا يتصف بالتناهي فإن أرادوا بالتناهي كون عين الموجود موصوفا بالوجود فهو متناهى كما هو كل موجود وإن عينه موجودة وإن أرادوا بالتناهي انتهاء مدة وجوده ثم ينقطع فهذا لا يصح عقلا في الحق لأنه واجب الوجود لذاته فلا يقبل التناهي وجوده ولأن بقاءه ليس بمرور المدد عليه المتوهمة فهو محال من وجهين تناهيه وكذلك في أهل الآخرة أعني في أعيانهم وفي الدار الآخرة سمعا ولا يتناهى بقاؤهم في الآخرة ولا استمرار المدد عليهم فنسبة البقاء إلى الله تخالف نسبة البقاء للعالم فالإطلاق في العلم والحصر في الوجود

كل ما في الكون محصور *** والذي في العلم مطلق‏

فتدبر قول حبر *** بوجوده تحقق‏

إن علمي بوجودي *** من وجود الحق أسبق‏

فإذا علمت كوني *** جاء علم الله يلحق‏

[إن العالم لا بقاء له إلا بالله تعالى‏]

ولما كان العالم لا بقاء له إلا بالله وكان النعت الإلهي لا بقاء له إلا بالعالم كان كل واحد رزقا للآخر به يتغذى لبقاء وجوده محكوما عليه بأنه كذا

فنحن له رزق تغذى بكوننا *** كما أنه رزق الكيان بلا شك‏

فيحفظنا كونا ونحفظ كونه *** إلها وهذا القول ما فيه من إفك‏

فلا غرو أن الكون في كل حالة *** يقر لملك الملك بالرق والملك‏

فالوجود الحادث والقديم مربوط بعضه ببعضه ربط الإضافة والحكم لا ربط وجود العين فالإنسان مثلا موجود العين من حيث ما هو إنسان وفي حال وجوده معلوم الأبوة إذا لم يكن له ابن يعطيه وجوده أو تقدير وجوده نعت الأبوة وكذلك أيضا هو معدوم نعت المالك ما لم يكن له ملك يملكه به يقال إنه مالك وكذلك الملك وإن كان موجود العين لا يقال فيه ملك حتى يكون له مالك يملكه فالله من حيث ذاته ووجوده غني عن العالمين ومن كونه ربا يطلب المربوب بلا شك فهو من حيث العين لا يطلب ومن حيث الربوبية يطلب المربوب وجودا وتقديرا وقد ذكرنا أن كل حكم في العالم لا بد أن يستند إلى نعت إلهي إلا النعت الذاتي الذي يستحقه الحق لذاته وبه كان غنيا والنعت الذاتي الذي للعالم بالاستحقاق وبه كان فقيرا بل عبدا فإنه أحق من نعت الفقر وإن كان الفقر والذلة على السواء ولهذا قال الحق لأبي يزيد تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار والقادر على الشي‏ء والانفعال الذاتي عن الشي‏ء لا يتصف ذلك القادر ولا الذي عنه انفعل ما انفعل بالافتقار بخلاف المنفعل فإنه موصوف بالذلة والافتقار فتميز الحق من الخلق بهذا وإن كان الخلق بالحق والحق بالخلق مرتبطا بوجه فالأمر كما قررناه وهذا المنزل قد حواه فيقول القائل فلما ذا يستند الحكم بالهوى وهو موجود في الكون والحق لا يحكم بالهوى فالأهواء ما مستندها قلنا إن تفطنت لقول الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فلم يصف نفسه بالتحجير عليه في حكمه والكون موصوف بالتحجير فتوجه عليه الخطاب بأنه لا يحكم بكل ما يريد بل بما شرع له ثم إنه لما قيل فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ أي لا تحكم بكل ما يخطر لك ولا بما يهوى كل أحد منك بل احكم بما أوحى به إليك فإن الله تعالى قال جبر القلب خلفائه قل يا محمد رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي ولا تفعل ما تريد فليكن حكمك في الأمم يوم القيامة بما شرعت لهم وبعثتنا به إليهم فإن ذلك مما يراد فإنك ما أرسلتنا إلا بما تريد حتى يثبت صدقنا عندهم وتقوم الحجة عليهم إذا حكم الحق في كل أمة بما أرسل به نبيه إليهم وبهذا تكون لله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فدل التحجير على الخلق في الأهواء أن لهم الإطلاق بما هم في نفوسهم ثم حدث التحجير في الحكم والتحكم كما أنه فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ثم إنه ما حكم إلا بما شرع وأمر عبده أن يسأله تعالى في ذلك حتى يكون حكمه فيه عن سؤال عبده كما كان حكم العبد بما قيده من الشرع عن أمر ربه بذلك فليست الأهواء إلا مطلق الإرادات فقد علمت لما ذا استندت الأهواء واستند التحجير ثم لتعلم إن الهوى وإن كان مطلقا فلا يقع له حكم إلا مقيدا فإنه من حيث القابل يكون الأثر فالقابل لا بد أن يقيده فإنه بالهوى قد يريد القيام والقعود من العين الواحدة التي تقبلهما على البدل في حال وجود كل واحد منهما في تلك العين والقابل لا يقبل ذلك فصار الهوى محجورا عليه بالقابل فلما قبل الهوى التحجير بالقابل علمنا إن هذا القبول له قبول ذاتي فحجر الشرع عليه فقبل وظهر حكم القابل في الهوى ظهوره في مطلق الإرادة فيمن اتصف بها فلما خلق الله النفس الناطقة أو الخليفة قل ما شئت خلق فيه قوى روحانية معنوية نسبية معقولة وإن كانت هذه القوي عين من اتصف بها كالاسماء والصفات الإلهية التي مرجعها وكثرتها إلى نسب في عين واحدة لا تقبل الكثرة في عينها ولا العدد الوجودي العيني فكان من القوي التي خلقها في هذا الخليفة بل في الإنسان الكامل والحيوان وهو مطلق الإنسان قوة تسمى الوهم وقوة تسمى العقل وقوة تسمى الفكر وميز الحضرات الثلاثة لهذا الخليفة وولاه عليها حضرة المحسوسات وحضرة المعاني المجردة في نفسها عن المواد وإن لم يظهر بعضها إلا في بعض المواد وحضرة الخيال وجعل الخيال حضرة متوسطة بين طرفي الحس والمعنى وهو خزانة الجبايات التي تجبيها الحواس وجعل فيه

قوة مصورة تحت حكم العقل والوهم يتصرف فيها العقل بالأمر وكذلك الوهم أيضا يتصرف فيها بالأمر وقوى‏

في هذه النشأة سلطان الوهم على العقل فلم يجعل في قوة العقل أن يدرك أمرا من الأمور التي ليس من شأنها أن تكون عين مواد أو تكون لا تعقل من جهة ما إلا في غير مادة كالصفات المنسوبة إلى الله المنزه عن إن يكون مادة أو في مادة فعلمه المنسوب إليه ما هو مادة ولا ينسب إلى مادة فلم يكن في قوة العقل مع علمه بهذا إذا خاض فيه أن يقبله إلا بتصور وهذا التصور من حكم الوهم عليه لا من حكمه فالحس يرفع إلى الخيال ما يدركه وتركب القوة المصورة في الخيال ما شاءته مما لا وجود له‏

في الحس من حيث جملته لكن من حيث أجزاء تلك الجملة فإن كانت القوة المصورة قد صورت ذلك عن أمر العقل بقوة الفكر فذلك لطلبه العلم بأمر ما والعلم مقيد بلا شك وإن كان ما صورته المصورة عن أمر الوهم لا من حيث ما تصرف به العقل من حكم الوهم بل من الوهم نفسه فإن تلك الصورة لا تبقي فإن الوهم سريع الزوال لإطلاقه بخلاف العقل فإنه مقيد محبوس بما استفاده ولما كان الغالب على الخلق حكم الأوهام لسلطنة الوهم على العقل فإنه أثر فيه إنه لا يقبل معنى يعلم قطعا أنه ليس بمادة ولا في مادة إلا بتصور وذلك التصور ليس غير الصورة التي لا يحكم بها إلا الوهم فصار العقل مقيدا بالوهم بلا شك فيما هو به عالم بالنظر وأما علمه الضروري فليس للوهم عليه سلطان وبه يعلم أن ثم معاني ليست بمواد ولا في أعيان مواد وإن لم يقبلها بالنظر إلا في مواد من خلف حجاب رقيق يعطيه الوهم ولما علم الحق ما ركب عليه العالم المكلف مما ذكرناه أرسل الرسل إلى الناس والمكلفين فوقفوا في حضرة الخيال خاصة ليجمعوا بين الطرفين بين المعاني والمحسوسات فهو موقف الرسل عليه السلام فقالوا لبعض الناس من هذه الحضرة اعبد الله كأنك تراه ثم نبه هذا المخاطب المكلف بعد هذا التقرير على أمر آخر الطف منه لأنه علم إن ثم رجالا علموا إن ثم معاني مجردة عن المواد فقال له فإن لم تكن تراه أي تقف مع دليلك الذي أعلمك أنك لا تراه فإنه يعني الله يراك أي ألزم الحياء منه والوقوف عند ما كلفك فعدل في الخطاب إلى حكم وهم ألطف من الحكم الأول فإنه لا بد لهذا المكلف أن يعلم أنه يراه إما بعقله أو بقول الشرع وبكل وجه فلا بد أن يقيده الوهم فإن العبد بحيث يراه الله فأخرجه عنه فحده إذ ميزه مع علمه أنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فحيره وهذه الحيرة سارية في العالم النوري والناري والترابي لأن العالم ما ظهر إلا على ما هو عليه في العلم الإلهي وما هو في العلم لا يتبدل فالمرتبة الإلهية تنفي بذاتها التقييد عنها والقوابل تنفي الإطلاق عنها بالوقوع فعلمت سبب الحيرة في الوجود ما هو قال تعالى ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي ما حكم به العلم وسبق به الكتاب فعرفنا ذلك من العلم والكتاب إذ كان له الحكم والخلفاء إنما هم خلفاء العلم والكتاب‏

[العلم والكتاب حجابان عن الحق‏]

فالعلم والكتاب حجابان عن الحق الذي هو غني عن العالمين فمرجع الكون للعلم والكتاب فتنتج الأهواء مع إطلاقها ما تنتجه العقول مع تقييدها فلا يسلم لعقل حكم أصلا بلا وهم في هذه النشأة لأن النشأة لها ولادة على كل من ظهر فيها وما ثم أعلى من الحق رتبة ومع هذا تخيلته وقال لها تخيليني أمرها بذلك لكونه لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ووسعها ما تعطيه حقيقتها وجعل سعادتها في ذلك التخيل ثم قال لها لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فجمعت بين التنزيه فقيدته وبين التشبيه فقيدته فإنها مقيدة فلا تعلم إلا التقييد الذي هو حقيقتها

فالعقل ينتج ما الأهواء تنتجه *** فإنه عن هوى قد كان مخرجه‏

فليس يحكم في شي‏ء بغير هوى *** إلا الضروري والفكر يخرجه‏

وقد نبه الحق عباده في كتابه العزيز إن عنده خزانة خزائن كل شي‏ء والخزائن تقتضي الحصر والحصر يقتضي التقييد ثم بين أنه ما ينزل شيئا منها إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وهو تقييد ولو لا التقييد بين المقدمتين الذي يربطهما ما ظهرت بينهما نتيجة أصلا ولا ظهر خلق عن حق أصلا ولهذا سرى النكاح في المعاني والمحسوسات للتوالد قديما وحديثا ولكن لا يفقهون حديثا أي أنتم يا محجوبون لا تعلمون ما نحدثكم به فإن الشرع كله حديث وخبر إلهي بما يقبله العقل والوهم حتى تعم الفائدة ويكون كل من في الكون مخاطبا ويا علماء بالله وبالأمر لا تعلمون حديثا بل تعلمون قديما وإن حدث عندكم فما هو حديث العين ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وما هو إلا كلام الله المنعوت بالقدم فحدث عندهم حين سمعوه فهو محدث بالإتيان قديم بالعين وجاء في مواد حادثة ما وقع السمع ولا تعلق إلا بها وتعلق الفهم بما دلت عليه هذه الأخبار والذي دلت عليه منه ما هو موصوف بالقدم ومنه ما هو موصوف بالحدوث فله الحدوث من وجه والقدم من وجه ولذلك قال من قال إن الحق يسمع بما به يبصر بما به يتكلم والعين واحدة والأحكام تختلف قال تعالى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فعلق الذهاب بالمشيئة وقال وإِنَّا عَلى‏ ذَهابٍ به لَقادِرُونَ فعلق الذهاب بالاقتدار فما به قدرته أراد وشاء

[أن متعلق القدرة الإيجاد لا الإعدام‏]

وهنا علم شريف وهو أن متعلق القدرة الإيجاد لا الإعدام فيتعرض هنا أمران الأمر الواحد أن الذهاب المراد هنا

ليس الإعدام وإنما هو انتقال من حال إلى حال فمتعلق القدرة ظهور المحكوم عليه بالحال التي انتقل إليها فأوجدت القدرة له ذلك الحال فما تعلقت إلا بالإيجاد والأمر الآخر إن وصفه بالاقتدار على الذهاب أي لا مكره له على إبقائه في الوجود فإن وجود عين القائم بنفسه أعني بقاءه إنما هو مشروط بشرط بوجود ذلك الشرط يبقى الوجود عليه وذلك الشرط يمده الله به في كل زمان وله أن يمنع وجود ذلك الشرط ولا بقاء للمشروط إلا به فلم يوجد الشرط فانعدم المشروط وهذا الإمساك ليس من متعلق القدرة وقد وصف نفسه بالقدرة على ذلك فلم يبق إلا فرض المنازع الذي يريد بقاءه فهو قادر على دفعه لما لم يرد الله بقاءه فيقهر المنازع فلا يبقى ما أراد المنازع بقاءه والقهر حكم من أحكام الاقتدار ولما علمنا هذا وتقرر لدينا علمنا من تقدم وحكمه ومن تأخر وحكمه كما قدمنا إن الشي‏ء يكون متقدما من وجه متأخرا من وجه وفي هذا المنزل من العلوم علم المثلثات الواقعة في الوجود ومن أين أصلها وما يتصل منها وما ينفصل وفيه علم مناسبة القرآن للكتاب وكون التوراة وغيرها كتابا وليست بقرآن وفيه علم تقليل النظير في المحمود والمذموم وفيه علم حكمة السبب في وجود ما لا يوجد إلا بسبب هل يجوز وجوده بغير سبب أم لا عقلا وفيه علم تهيؤ القوابل بذاتها لما يرد عليها مما تقبله وفيه ترك الإهمال من ترك ما يترك لمنفعة وكله ترك وفيه علم تأخير الوعيد ممن لا مانع له فهل ذلك لمانع لا يمكن رفعه أو هل هو عن اختيار إن صح وجود الإنسان في العالم فإنه ليس له مستند وجودي في الحق وإنما هو أمر متوهم ذكرناه في الباب الذي يليه هذا الباب فقد تقدم وفيه علم الآجال في الأشياء والترتيب في الإيجاد مع تهيؤ الممكنات لقبول الإيجاد فما الذي أخرها والفيض الإلهي غير ممنوع والقوابل مهياة للقبول والتأخير والتقديم مشهود فلما ذا يرجع فلا بد في هذا الموطن من حكم يسمى المشيئة ولا بد ولا يمكن رفع هذا الحكم بوجه من الوجوه وفيه علم ما ستر عن العالم أن يعلمه هل ينقسم إلى ما لا يزال مستورا عنه فلا يعلمه أبدا وإلى ما يعلمه برفع الستور وهل علم ما لا يرفع ستره ممكن أن يعلم لو رفع الستر أو ستره عينه فلا يمكن أن يعلم لذاته وفيه علم سبب طلب البينة من المدعي اسم فاعل وقبول الطالب لذلك شهادة البينة من غير حكم الحاكم ولا يكون ذلك حتى يتذكر المدعي عليه بشهادة البينة فهل قبوله شهادتهم للذكرى أم لأمر آخر وهو عدم التهمة لهم فيما شهدوا به وجوزوا النسيان منه لما شهدوا به عليه وذلك لإنصافهم وفيه علم تأخير البيان عند الحاجة مع التمكن منه لا يجوز وفيه علم إقامة الجماعة مقام الواحد وإقامة الواحد مقام الجماعة وفيه علم رد الدلائل للأغراض النفسية هل يكون ردها عن خلل عنده في كون تلك الدلائل كما هي في نفسها صحيحة أو لا عن خلل وفيه علم من حفظ من العالم وبما ذا حفظ وممن حفظ ولما ذا حفظ وفيه علم ما تحوي عليه الأرض من الكنوز وما يظهر عليها مما يخرج منها أنه على حد معلوم لا يقبل الزيادة والنقص وفيه علم رزق العالم بعضه بعضا وفيه علم ترك الادخار من صفة أهل الله الذاكرين منهم وفيه علم نش‏ء الحيوان على اختلاف أنواعه وفيما ذا يشترك وبما ذا يتميز صنف عن صنف وفيه علم التعريف الإلهي من شاء الله من عباده وفيه علم سبب سجود الملائكة لآدم إنما كان لأجل الصورة لا لأن علمهم الأسماء فأمروا بالسجود قبل أن يعرفوا فضله عليهم بما علمه الله من الأسماء ولو كان السجود بعد ظهوره بالعلم ما أبى إبليس ولا قال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ولا استكبر عليه ولهذا قال أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً وقال خَلَقْتَنِي من نارٍ وخَلَقْتَهُ من طِينٍ ثم بعد ذلك أعلم الله الملائكة بخلافته فقالوا ما أخبر الله عنهم ولهذا قال تعالى في بعض ما كرره من قصته وإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فأتى بالماضي من الأفعال وبأداة إذ وهي لما مضى من‏

الزمان فاجعل بالك لهذه المسألة لتعلم فضل آدم بعلمه على فضله بالسجود له لمجرد ذاته ولما ذا نهي في الشرع أن يسجد إنسان لإنسان فإنه سجود الشي‏ء لنفسه فإنه مثله من جميع وجوهه والشي‏ء لا يخضع لنفسه ولهذا

لما سئل صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الرجل إذا لقي الرجل أ ينحني له قال لا قيل له أ يصافحه قال نعم‏

وفيه علم ما السبب في عداوة الأمثال هل لكون المثلين ضدين أو لأمر آخر وفيه علم ما جهل الأعلى من الأدنى حين افتخر عليه وما له شرف إلا به فإنه لو لا الأدنى ما ظهر فضل الأعلى فأي فائدة لافتخاره والحال يشهد له بذلك ولم يكتف ولهذا

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنا سيد ولد آدم ولا فخر

أي ما قصدت الفخر عليكم بذلك فإنه معلوم بالمقام والحال أنه سيد الناس وفيه علم حكمة من‏

سأل أمرا فيه شقاؤه فأجابه المسئول مع علمه بذلك ولم ينبهه على ما عليه من الشقاء في ذلك وفيه علم إن المأمور يمتثل أمر سيده ثم يعاقبه السيد على امتثال أمره ما حكم هذا

الفعل من السيد وفيه علم الفرق بين من أخذ بالحجة وبين من أخذ بالقهر وفيه علم الخمسة عشر وفيه علم التساوي بين الضدين فيما اجتمعا فيه وفيه علم المبادرة لكرامة الضيف النازل عليك وإن لم تعرفه بما ذا تقابله وأنت لا تعرف منزلته فتكرمه بقدر ما تعرف من منزلته وتعامله بذلك فإن الكرامة على قسمين القسم الواحد يعم المعروف وغير المعروف والقسم الآخر ما يفضل بها المعروفون وفيه علم التعريف بما يقع به الأمان للخائف والأنس للمستوحش وفيه علم النصائح وفيه علم التذكير والمواعظ وفيه علم من ينبغي أن يصحب ممن لا ينبغي أن يصحب ومن ينبغي أن يتبع ممن لا ينبغي أن يتبع ومن ينبغي أن يعرف من غير صحبة ولا اتباع ومن يصحب ويتبع ولا يعرف وفيه علم ما لا بد من العلم به وهو العلم بطريق نجاتك‏

«وصل» [الأول‏]

هذا المنزل بينه وبين الباب السبعين ومائتين وصلة بنسبة خاصة فألحقنا منه في هذا المنزل هذا القدر الذي أذكره إن شاء الله وذلك أن الله تعالى لما خلق الأرواح النورية والنارية أعني الملائكة والجان شرك بينهما في أمر وهو الاستتار عن أعين الناس مع حضورهم معهم في مجالسهم وحيث كانوا وقد جعل الله عز وجل بينهما وبين أعين الناس حِجاباً مَسْتُوراً فالحجاب مستور عنا وهم مستورون بالحجاب عنا فلا نراهم إلا إذا شاءوا أن يظهروا لنا ولهذا سمى الله الطائفتين من الأرواح جنا أي مستورين عنا فلا نراهم فقال في حق الملائكة في الذين قالوا إن الملائكة بنات الله وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً يعني بالجنة هنا الملائكة لقولهم ما ذكرناه آنفا وكانوا يكرهون نسبة البنات إليهم فأخبرنا الله بذلك في قوله ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ فإنهم كانوا يكرهون البنات وبهذا أخبرنا الله عنهم في قوله تعالى وإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى‏ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى‏ من الْقَوْمِ من سُوءِ ما بُشِّرَ به أَ يُمْسِكُهُ عَلى‏ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ وهو قوله تعالى وإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وأنكر الله عليهم نسبة الأنوثة إلى الملائكة في قوله أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وهُمْ شاهِدُونَ فلما شرك الله تعالى بين الملائكة وبين الشياطين في الاستتار سمي الكل جنة فقال في الشياطين من شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ من الْجِنَّةِ والنَّاسِ يعني بالجنة هنا الشياطين وقال في الملائكة وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً يعني الملائكة ولَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ والملائكة رسل من الله إلى الإنسان موكلون به حافظون كاتبون أفعالنا والشياطين مسلطون على الإنسان بأمر الله فهم مرسلون إلينا من الله وقال عن إبليس إنه كانَ من الْجِنِّ يعني الملائكة فَفَسَقَ أي خرج أي عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي من الذين يستترون عن الإنس مع حضورهم معهم فلا يرونهم كالملائكة فلما شرك بينهم في الرسالة أدخله أعني إبليس في الأمر بالسجود مع الملائكة فقال وإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فأدخله معهم في الأمر بالسجود فصح الاستثناء وجعله منصوبا بالاستثناء المنقطع فقطعه عن الملائكة كما قطعه عنهم في خلقه من نار فكأنه يقول إلا من أبعده الله من المأمورين بالسجود ولا ينطلق على الأرواح اسم جن إلا لاستتارهم عنا مع حضورهم معنا فلا نراهم فحينئذ ينطلق عليهم هذا النعت فالجنة من الملائكة هم الذين يلازمون الإنسان ويتعاقبون فينا بالليل والنهار ولا نراهم عادة وإذا أراد الله عز وجل أن يراهم من يراهم من الإنس من غير إرادة منهم لذلك رفع الله الحجاب عن عين الذي يريد الله أن يدركهم فيدركهم وقد يأمر الله الملك والجن بالظهور لنا فيتجسدون لنا فنراهم أو يكشف الله الغطاء عنا فنراهم رأى العين فقد نراهم أجسادا على صور وقد نراهم لا على صور بشرية بل نراهم على صورهم في أنفسهم كما يدرك كل واحد منهم نفسه وصورته التي هو عليها وأن الملائكة أصل أجسامها نور والجن نار مارج والإنسان مما قيل لنا ولكن كما استحال الإنس عن أصل ما خلق منه كذلك استحال الملك والجن عن أصل ما خلقا منه إلى ما هما عليه من الصور فقد بان لك ما اشترك فيه الجان والملك وما تميز به بعضهما عن بعض فيعتبر الله في التعبير لنا عن كل واحد منهما إما بالصفة المشتركة بينهما أو بما ينفرد كل جنس منهما به كيف شاء لمن نظر نظرا صحيحا في ذلك وخلق الله الجان شقيا وسعيدا وكذلك الإنس وخلق الله الملك سعيدا لا حظ له في الشقاء فسمى شقي الإنس والجان كافرا وسمي السعيد

من الجن والإنس مؤمنا وكذلك شرك بينهما في الشيطنة فقال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ والْجِنِّ وقال الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ من الْجِنَّةِ والنَّاسِ وقد علمنا إن النفس بذاتها وإن كانت مقيدة لا تشتهي التقييد بذاتها وتطلب السراح والتصرف بما يخطر لها من غير تحجير فإذا رأيت النفس قد حبب إليها التحجير فقامت به طيبة وكره إليها تحجير آخر فقامت به إن قامت غير طيبة مكرهة فتعلم قطعا إن ذلك التحجير مما ألقى إليها من غير ذاتها كان التحجير ما كان فإذا حبب إلى نفوس العامة القيام بتحجير خاص فتعلم قطعا إن ذلك التحجير هو الباطل الذي يؤدي العمل به إلى شقاوة العامل به والواقف عنده فإن الشيطان الذي يوسوس في صدره يوسوس إليه دائما ويحببه إليه لأن غرضه أن يشقيه وإذا رأيته يكره ذلك التحجير ويطلب تأويلا في ترك العمل به فتعلم إن ذلك تحجير الحق الذي يحصل للعامل به السعادة إلا أهل الكشف الذين حبب الله إليهم الايمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وإن لم يعرفوا أنهم كشف لهم ولكن علمناه نحن منهم وهم لا يعلمونه من نفوسهم ولهذا نرى من ليس بمسلم يثابر على دينه وملازمته كأكثر اليهود والنصارى أكثر مما يثابر المسلم على إقامة جزئيات دينه ومثابرته على ذلك دليل على أنه على طريق يشقى بسلوكه عليها وهذا من مكر الله الخفي الذي لا يشعر به كل أحد إلا من كان على بصيرة من ربه وهذا الصنف قليل ولا يوجد في الجن لا في مؤمنهم ولا في كافرهم من يجهل الحق ولا من يشرك ولهذا ألحقوا بالكفار ولم يلحقهم الله بالمشركين وإن كانوا هم الذين يجعلون الإنس أن يشركوا فإذا أشركوا تبرءوا ممن أشرك كما قال تعالى كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وهو وحي الشيطان إلى وليه ليجادل بالباطل أهل الحق فإذا كفر يقول له إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ فوصف الشيطان بالخوف من الله ولكن على ذلك الإنسان لا على نفسه فخوف الشيطان على الذي قبل إغواءه لا على نفسه كما تخاف الأنبياء عليه السلام يوم القيامة على أممهم لا على أنفسهم وسبب ارتفاع الخوف من الشيطان على نفسه علمه بأنه من أهل التوحيد ولهذا قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأقسم به تعالى لعلمه بربه كأنه يرى الحق أنه قد علم من نشأة الإنسان قبوله لكل ما يلقي إليه فلما سأل ذلك أجاب الله سؤاله فأمره بما أغوى به الإنس فقال له اذهب يعني إلى ما سألته مني وذكر له جزاءه وجزاءه وجزاء من اتبعه من الإنس فكان جزاء الشيطان إن رده إلى أصله الذي منه خلقه وجزاء الإنسان الذي اتبعه كذلك ولكن غلب جزاء الإنسان على جزاء إبليس فإن الله ما جعل جزاءهما إلا جهنم وفيها عذاب إبليس فإن جهنم برد كلها ما فيها شي‏ء من النارية فهو عذاب لإبليس أكثر منه لمتبعه وإنما كان ذلك لأن إبليس طلب أن يشقي الغير فحار وباله عليه لما قصده فهو تنبيه من الحق لنا أن لا نقصد وقوع ما يؤدي إلى الشقاء لأحد فإن ذلك نعت إلهي ولذلك أبان الله طريق الهدى من طريق الضلالة فالعبد المستقيم هو الذي يكون على صراط ربه مع أن الشيطان تحت أمر ربه في قوله اذْهَبْ واسْتَفْزِزْ وأَجْلِبْ وشارِكْهُمْ وعِدْهُمْ وهذه كلها أوامر إلهية فلو كانت ابتداء من الله ما شقي إبليس ولما كانت إجابة له لما قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ولَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ شقي بها كما تعب المكلف فيما سأله من التكليف فإن الشرع منه ما نزل ابتداء ومنه ما نزل عن سؤال ولو لا إن الرحمة شاملة لكان الأمر كما ظهر في العموم ولما قيدت هذا الوصل غفوت غفوة فرأيت في المبشرة يتلى على شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ ومُوسى‏ وعِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من الوحدة فهو كثير بالأحكام فإن لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ وكل اسم علامة على حقيقة معقولة ليست هي الأخرى ووجوه العالم في خروجه من العدم إلى الوجود كثيرة تطلب تلك الأسماء أعني المسميات وإن كانت العين واحدة كما إن العالم من حيث هو عالم واحد وهو كثير بالأحكام والأشخاص ثم تلي على الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ من يَشاءُ ويَهْدِي إِلَيْهِ من يُنِيبُ وما ذكر لشقي هنا نعتا ولا حالا بل ذكر الأمر بين اجتباء وهداية ثم قيل لي من علم الهداية والاجتباء علم ما جاءت به الأنبياء وكلا الأمرين إليه فمن اجتباه إليه جاء به إليه ولم يكله إلى نفسه ومن هداه إليه أبان له الطريق الموصلة إليه ليسعده وتركه ورأية ف إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ولما جاء تعالى في هذه الآية العامة ولم يذكر للشقاوة اسما ولا عينا وذكر الاجتباء والهداية وهو البيان هنا وجعل الأمرين إليه علمنا إن الحكم للرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ

وما ذكر في المشرك إلا كون هذا الذي دعي إليه كبر عليه لأنه دعي من وجه واحد وهو يشهد لكثرة من وجوده الذي جعله الحق دليلا عليه في‏

قوله من عرف نفسه عرف ربه‏

وما عرف نفسه إلا واحدا في كثير أو كثيرا في واحد فلا يعرف ربه إلا بصورة معرفته بنفسه فلذلك كبر عليه دعاء الحق إلى الأحدية دون سائر الوجوه وذلك لأن المشرك ما فهم عن الله مراد الله بذلك الخطاب فلما علم الحق أن ذلك كبر عليه رفق به وجعل الأمر إليه تعالى بين اجتباء وهداية فشرك بالاجتباء والهداية ووحد بإليه في الأمرين رفقا به وأنسا له ليعلم أنه الغفور الرحيم بالمسرفين على أنفسهم ولما رأى إبليس منة الله قد سرت في العالم طمع في رحمة الله من عين المنة لا من عين الوجوب الإلهي فعبده مطلقا لا مقيدا ففي أي وجهة تصرف لم يخرج عن حق كما إن الشرع الذي وصى به من ذكره في هذه الآية متنوع الأحكام ينسخ بعضه بعضا والكل قد أمروا بإقامته وأن لا يتفرق فيه للافتراق الذي فيه فهو يدعو بالكثرة إلى عين واحدة أو بالوحدة إلى حقائق كثيرة كيف شئت فقل ما شئت مما لا يغير المعنى‏

فالكل في حكم الوجود *** كالكل في عين الشهود

لتعم رحمته الورى *** وتبين أعلام الجحود

فيكون رحمانا بمن *** يدعي الشقي أو السعيد

هذا بدار جهنم *** هذا بجنات الخلود

والله جل بذاته *** عن الانحصار عن الحدود

وهذا الوصل واسع المجال فيه علم الأوامر المختصة بالشارع وحده وهو الرسول وعلم ما يتقى به من الأسماء الإلهية وعلم مالك الملك ومدلول اسم الإله ونعته بالأحدية في قوله ما من إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وإضافته إلى الضمير مثل إِلهُكُمْ وإلى الظاهر مثل وإِلهُ مُوسى‏ وإِلهِ النَّاسِ هل الحكم واحد أو يتغير بتغير الإضافة أو بالنعت وعلم الربوبية وكونها لم تأت قط من عند الله من غير تقييد وعلم الإلهام واختلاف الاسم عليه بالطرق التي منها يأتي‏

«الوصل الثاني‏

من هذا الباب» وهو ما يتصل به من المنزل الثاني من المنازل المذكورة في هذا الكتاب وهو يتضمن علوما منها علم الفصل بين ما يقع به الإدراك للأشياء وبين ما لا يدرك به إلا نفسه خاصة وعلم اختزان البزرة والنواة والحبة ما يطهر منها إذا بزرت في الأرض وكيف تدل على علم خروج العالم من الغيب إلى الشهادة لأن البزرة لا تعطي ما اختزن الحق فيها إلا بعد دفنها في الأرض فتنفلق عما اختزنته من ساق وأوراق وبزور أمثالها من النواة نوى ومن الحبة حبوب ومن البزرة بزور فتظهر عينها في كثير مما خرج عنها فتعلم من هذا ما الحبة التي خرج منها العالم وما أعطت بذاتها فيما ظهر من الحبوب ولما ذا يستند ما ظهر منها من سوى أعيان الحبوب فلو لا ما هو مختزن فيها بالقوة ما ظهر بالفعل فاعلم ذلك وهذا كله من خزائن الجود ويتضمن علم الأمر المطلق في قوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ والمقيد بعمل مخصوص واختلاف الصيغ في ذلك‏

[الشر ليس من الله‏]

ويتضمن علم إضافة الشرور إلى غير الله لأنها معقولة عند العالم‏

فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم والشر ليس إليك‏

فأثبته في عينه ونفى إضافته إلى الحق فدل على إن الشر ليس بشي‏ء وأنه عدم إذ لو كان شيئا لكان بيد الحق فإن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وهو خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وقد بين لك ما خلق بالآلة وبغير الآلة وبكن وبيده وبيديه وبأيد وفصل وأعلم وقدر وأوجد وجمع ووحد فقال إني ونحن وأنا وإنا ولهذا كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فإن معقول نحن ما هو معقول إني وجاء الخطاب بإليه فوحد وما رأوا للجمع عينا فكبر ذلك عليهم ونون العظمة في الواحد قول من لا علم له بالحقائق ولا بلسان العرب ويتضمن علم ظلمة الجهل إذا قامت بالقلب فأعمته عن إدراك الحقائق التي بإدراكها يسمى عالما قال تعالى أَ ومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ أراد العلم والجهل وما كل ما يدرك ولا يدرك به يكون ظلمة فإن النور إذا كان أقوى من نور البصر أدركه الإنسان ولم يدرك به ولهذا ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الله أن حجابه النور فلا يقع الكشف إلا بالنور الذي يوازي نور البصر أ لا ترى الخفافيش لا تظهر إلا في النور الموازي نور بصرها وهو نور الشفق ويتضمن علم‏

الشبهات وهو كل معلوم يظهر فيه وجه للحق ووجه لغير الحق فيكون في الأرزاق ما هو حلال بين وحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن لاحت له وقف عندها حتى يتبين له أمرها فأما إن يلحقها بالحلال وإما أن يلحقها بالحرام فلا يقدم عليها ما دامت في حقه شبهة فإنها في نفس الأمر مخلصة لأحد الجانبين وإنما اشتبه على المكلف لتعارض الأدلة الشرعية عنده في ذلك وفي المعقولات كالأفعال الظاهرة على أيدي المخلوقين فيها وجه يدل أنها لله ووجه يدل أنها للمخلوق التي ظهرت في الشهادة عليه وهي في نفس الأمر مخلصة لأحد الجانبين وكذلك السحر والمعجزة فالسحر له وجه إلى الحق فيشبه الحق وله وجه إلى غير الحق فيشبه الباطل مشتق من السحر وهو اختلاط الضوء والظلمة فلا يتخلص لأحد الجانبين ولما سحر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فكان يخيل إليه أنه يأتي نساءه وهو لم يأتهن فأتاهن حقيقة في عين الخيال ولم يأتهن حقيقة في عين الحس فهو لما حكم عليه وهذه مسألة عظيمة وإذا أراد من أراد إبطال السحر ينظر إلى ما عقده الساحر فيعطي لكل عقدة كلمة يحلها بها كانت ما كانت فإن نقص عنها بالكلمات بقي الأمر عليه فإنه ما يزول عنه إلا بحل الكل وهو علم إلهي‏

فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول إن روح القدس نفث في روعي‏

ولا يكون النفث إلا ريحا بريق لا بد من ذلك حتى يعم فكما أعطاه من روحه بريحة أعطاه من نشأته الطبيعية من ريقه فجمع له الكل في النفث بخلاف النفخ فإنه ريح مجرد وكذلك السحر وهو الرئة وهي التي تعطي الهواء الحار الخارج والهواء البارد الداخل وفيها القوتان الجاذبة والدافعة فسميت سحرا لقبولها النفس الحار والبارد وبما فيها من الرطوبة لا تحترق بقبول النفس الحار ولهذا يخرج النفس وفيه نداوة فذلك مثل الريق الذي يكون في النفث الذي ينفثه الروح في الروع والساحر في العقدة ويتضمن علم الفرق بين من يريد بسط رحمة الله على عباده طائعهم وعاصيهم وبين من يريد إزالة رحمة الله عن بعض عباده وهو الذي يحجر رحمة الله التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ولا يحجرها على نفسه وصاحب هذه الصفة لو لا إن الله سبقت رحمته غضبه لكان هذا الشخص ممن لا يناله رحمة الله أبدا

[أن الله تعالى لما أوجد الأشياء وصف نفسه بأنه مع كل شي‏ء]

واعلم أن الله تعالى لما أوجد الأشياء عن أصل هو عينه وصف نفسه بأنه مع كل شي‏ء حيث كان ذلك الشي‏ء ليحفظه بما فيه من صورته لإبقاء ذلك النوع في الوجود فظهرت كثرة الصور عن صورة واحدة هي عينها بالحد وغيرها بالشخص كما قلنا في الحبوب عن الحبة الواحدة فهي خزانة من خزائن الجود لما يشبهها ولما يلزمها وإن خالفها في الصورة إذ الخزانة تخزن خزائن وتخزن ما في تلك الخزائن من المخزون فيها فهو وإن خرج عن غير صورتها فلا بد من جامع يجمع بينهما وأظهرها الجسمية في الحبة والورق والثمر والجسد والفروع والأصول وهذا مشهود لكل عين من الحبة الواحدة أو البزرة الواحدة زائدا على الأمثال فالكامل من الخلفاء كالحبوب من الحبة والنوى من النواة والبزور من البزرة فيعطي كل حبة ما أعطته الحبة الأصلية لاختصاصها بالصورة على الكمال وما تميزت إلا بالشخص خاصة وما عدا الخلفاء من العالم فلهم من الحق ما للأوراق والأغصان والأزهار والأصول من النواة أو البزرة أو الحبة ومن هنا يعلم فضل الإنسان الخليفة على الإنسان الحيوان الذي هو أقرب شبها بالإنسان الكامل ثم على سائر المخلوقات فافهم ما بيناه فإنه من لباب العلم بالله الذي أعطاه الكشف والشهود فإن قلت بما ذا أعلم من نفسي هل أنا من الكمل أو من الحيوان الذي يسمى إنسانا قلنا نعم ما سألت عنه فاعلم إنك لا تعلم أنك على الصورة ما لم تعلم‏

قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم المؤمن مرآة أخيه‏

فيرى المؤمن نفسه في مرآة أخيه ويرى الآخر نفسه فيه وليس ذلك إلا في حضرة الاسم الإلهي المؤمن وقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وقال المؤمن كثير بأخيه كما أنه واحد بنفسه‏

فيعلم إن الأسماء الإلهية كلها كالمؤمنين إخوة فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ يعني إذا تنافروا كالمعز والمذل والضار والنافع وأما ما عدا الأسماء المتقابلة فهم إخوان عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وليس يصلح بين الأسماء إلا الاسم الرب فإنه المصلح والمؤمن من حيث ما هو مرآة فمن رأى نفسه هكذا علم أنه خليفة من الخلفاء بما رآه من الصورة وهذا الإنسان الحيوان لا مرآة له وإن كان له شكل المرآة لكنها ما فيها جلاء ولا صقالة قد طلع عليها الصدا والران فلا تقبل صورة الناظر فلا تسمى‏

مرآة إلا بالرؤية فإذا أقامك الحق في العبودة المطلقة التي ما فيها ربوبية فأنت خليفة له حقا فإنه لا حكم للمستخلف فيما ولى فيه خليفة عنه جملة واحدة فاستخلفه في العبودة فلا حظ للربوبية فيها لأن الخليفة استقل بها استقلالا ذاتيا فهو بيد الله وفي ملك الله قال تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ فجعل عبدا محضا وجرده عن كل شي‏ء حتى عن الإسراء فجعله يسرى به وما أضاف السري إليه فإنه لو قال سبحان الذي دعي عبده لأن يسرى إليه أو إلى رؤية آياته فسرى لكان له أن يقول ولكن المقام منع من ذلك فجعله مجبورا لا حظ له من الربوبية في فعل من الأفعال‏

«الوصل الثالث» من خزائن الجود فيما يناسبه‏

ويتعلق به من المنزل الثالث وهو يتضمن علم الأمر الواقع عند السؤال فإن الأوامر منها ما يقع ابتداء ومنها ما يقع جوابا ويتضمن علم الهوية والفرق بين الهوية والأحدية والواحدية ويتضمن علم مسمى الله ما هو ولما ذا ينعت ولا ينعت به وحقيقة الهوية هل لها شبه بشي‏ء من العالم في شي‏ء من الوجوه أو لا شبه فيها بوجه من الوجوه وصورة ما يتقيد به الاسم الله إذا ورد بقرائن الأحوال ويتضمن علم ظهور العالم هل هو ظهور ذاتي لذات الحق أو لحكم ما تقرر في العلم الإلهي أو ظهر بحكم الاختيار فيكون العالم لما يضاف إليه حتى تتبين المراتب ويتضمن علم نفي المماثل الذي لو ثبت صح أن يكون العالم بينهما فما هو لنا أب ولا نحن أبناء بل هو الرب ونحن العبيد فيطلبنا عبيدا ونطلبه سيدا

تعالى عن التحديد بالفكر والخبر *** كما جل عن حكم البصيرة والبصر

فليس لنا منه سوى ما يرومه *** على كل حال في الدلالات والعبر

فاعلم أني ما تحققت غيره *** واعلم إني ما علمت سوى البشر

لذا منع الرحمن في وحيه على *** لسان رسول الله في ذاته النظر

فقال ولا تَقْفُ الذي لست عالما *** به فيكون الناظرون على خطر

ف لَمْ يُولَدْ الرحمن علما ولَمْ يَلِدْ *** وجودا فحقق من نهاك ومن أمر

ولما لم يكن في الإمكان أن يخلق الله فيما خلق قوة في موجود يحيط ذلك الموجود بالله علما من حيث قيامها به لم يدرك بعقل كنه جلاله ولم يدرك ببصر كنه ذاته عند تجليه حيثما تجلى لعباده فهو تعالى المتجلي الذي لا يدرك الإدراك الذي يدرك فيه هو نفسه لا علما ولا رؤية فلا ينبغي أن يقفو الإنسان علم ما قد علم أنه لا يبلغ إليه قال الصديق رضي‏

الله عنه العجز عن درك الإدراك إدراك فمن لا يدرك إلا بالعجز فكيف يوصف المدرك له بتحصيله‏

كلما فيه نكاح وازدواج *** هو مقصود لأرباب الحجاج‏

فإذا انتجني أنتجه *** فترانا في نكاح ونتاج‏

فالذي يظهر من أحوالنا *** هو ما بين اتضاح واندماج‏

فكما نحن به فهو بنا *** إن عين الضيق عين الانفراج‏

[أن من خزائن الجود أن يعلم الإنسان أنه لا جامع له بين العبودة والربوبية]

واعلم أن من خزائن الجود أن يعلم الإنسان أنه لا جامع له بين العبودة والربوبية بوجه من الوجوه وإنهما أشد الأشياء في التقابل فإن المثلين وإن تقابلا فإنهما يشتركان في صفات النفس والسواد والبياض وإن تقابلا فلم يمكن اجتماعهما والحركة والسكون وإن تقابلا فلم يمكن اجتماعهما فإن الجامع للبياض والسواد اللون والجامع للحركة والسكون الكون والجامع للاكوان والألوان العرضية فكل ضدين وإن تقابلا أو مختلفين من العالم فلا بد من جامع يجتمعان فيه إلا العبد والرب فإن كل واحد لا يجتمع مع الآخر في أمر ما من الأمور جملة واحدة فالعبد من لا يكون فيه من الربوبية وجه والرب من لا يكون فيه من العبودية وجه فلا يجتمع الرب والعبد أبدا وغاية صاحب الوهم أن يجمع بين الرب والعبد في الوجود وذلك ليس بجامع فإني لا أعني بالجامع إطلاق الألفاظ وإنما أعني بالجامع نسبة المعنى إلى كل واحد على حد نسبته إلى الآخر وهذا غير موجود في الوجود المنسوب إلى الرب والوجود المنسوب إلى العبد فإن وجود الرب عينه ووجود العبد حكم يحكم به على العبد ومن حيث عينه قد يكون موجودا

وغير موجود والحد في الحالين على السواء في عينه فإذا ليس وجوده عينه ووجود الرب عينه فينبغي للعبد أن لا يقوم في مقام يشم منه فيه روائح ربوبية فإن ذلك زور وعين جهل وصاحبه ما حصل له مقام العبودة كما هو الأمر في نفسه ولا أزيد من قولي لا تشم فيه رائحة ربوبية إلا عنده في نفسه لا يغفل عن مشاهدة عبودته وأما غيره فقد ينسبون إليه ربوبية لما يرونه عليه من ظهور آثارها فذلك لله لا له وهو في نفسه على خلاف ما يظهر للعالم منه فإن ذلك محال أن لا يظهر للربوبية أثر منها عليه وإذا عرف التلميذ من الشيخ أنه بهذه المثابة فقد فتح الله على ذلك التلميذ بما فيه سعادته فإنه يتجرد إلى جانب الحق تجرد الشيخ فإنه عرف منه واتكل على الله لا عليه وبقي ناظرا في الشيخ ما يجري الله عليه من الحال في حق ذلك التلميذ من نطق بأمر يأمره به أو ينهاه أو بعلم يفيده فيأخذه التلميذ من الله على لسان هذا الشيخ ويعلم التلميذ في نفسه من الشيخ ما يعلمه الشيخ من نفسه أنه محل جريان أحكام الربوبية حتى لو فقد الشيخ لم يقم فقده عند ذلك التلميذ ذلك القيام لعلمه بحال شيخه كأبي بكر الصديق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حين مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فما بقي أحد إلا اضطرب وقال ما لا يمكن أن يسمع وشهد على نفسه في ذلك اليوم بقصوره وعدم معرفته برسوله الذي اتبعه إلا أبا بكر فإنه ما تغير عليه الحال لعلمه بما ثم وما هو الأمر عليه فصعد المنبر وقال قارئا وما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ الآية فتراجع من حكم عليه وهمه وعرف الناس حينئذ فضل أبي بكر على الجماعة فاستحق الإمامة والتقديم فما بايعه من بايعه سدا وما تخلف عن بيعته إلا من جهل منه ما جهل أيضا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أو من كان في محل نظر في ذلك أو متأولا فإنه رضي الله عنه قد شهد له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في حياته بفضله على الجماعة بالسر الذي وقر في صدره فظهر حكم ذلك السر في ذلك اليوم وليس إلا ما ذكرناه وهو استيفاء مقام العبودة بحيث إنه لم يخل منه بشي‏ء في حقه وفي حق رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فعلم محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن أبا بكر الصديق مع من دعاه إليه وهو الله تعالى ليس معه إلا بحكم أنه يرى ما يخاطبه الحق سبحانه به على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في كل خطاب يسمعه منه بل من جميع من يخاطبه وقد علمه الحق في نفسه ميزان ما يقبل من خطابه وما يرد ونرجو إن شاء الله أن يكون مقامنا هذا ولا يجعلها دعوى غير صادقة فإني ذقت هذا المقام ذوقا لا مزاج فيه أعرفه من نفسي وما سمعته عن أحد ممن تقدمني بالزمان غير أبي بكر الصديق إلا واحد من الرجال المذكورين في رسالة القشيري فإنه حكي عنه أنه قال لو اجتمع الناس أن ينزلوا نفسي منزلتها مني من الخسة لم يستطيعوا ذلك وهذا ليس إلا لمن ذاق طعم العبودية لغيره لا يكون ولما شهدت لي جماعة أني على قدم أبي بكر الصديق من الصحابة علمت أنه ليس إلا مقام العبودة المحضة لله الحمد والشكر على ذلك فالله يجعل من نظر إلى مرة واحدة من عمره إن يكون هذا نعته في نفسه دنيا وآخرة وكذلك حكى صاحب البياض والسواد في كتابه عن بعض الرجال أنه قال العارف مسود الوجه في الدنيا والآخرة فإن كنى عن نفسه فهو صاحب المقام وإن عثر عليه من غير إن يكون نعته فقد وفى ما خلق الله الإنسان له حقه لأنه قال وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني ظاهرا وباطنا فما جعل لهم في الربوبية قدما فهكذا ينبغي أن يكون الإنسان في نفسه فيقوم بحق ما خلق له وإن لم يفعل فهو إنسان حيوان والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الوصل الرابع» من خزائن الجود فيما يناسبه‏

ويتعلق به من المنزل الرابع وقد ذكرنا ما يتضمنه من العلوم في موضعه في الباب الثالث والسبعين ومائتين فاعلم أنه من خزائن الجود ما يجب على الإنسان أن يعلمه ذوقا وهو علم ما يستغني به مما لا يستغني به وذلك أن يعلم أن غاية درجة الغني في العبد أن يستغني بالله عما سواه وليس ذلك عندنا مقاما محمودا في الطريق فإن في ذلك قدرا لما سوى الحق وتميزا عن نفسه وصاحب مقام العبودة يسرى ذوقه في كل ما سوى الله أنه عبد كهو لا فرق ويرى أن كل ما سوى الله محل جريان تعريفات الحق له فيفتقر إلى كل شي‏ء فإنه ما يفتقر إلا إلى الله ولا يرى أن شيئا يفتقر إليه في نفسه وإن أفاد الله الناس على يديه فهو عن ذلك في نفسه بمعزل ويرى‏

أن كل اسم تسمى به شي‏ء مما يعطيه فائدة إن ذلك اسم الله غير أنه لا يطلقه عليه حكما شرعيا وأدبا إلهيا والاسم الإلهي المغني هو الذي يعطي مقام الغني للعبد بما شاء مما تستغني به نفسه والغني وإن كان بالله فهو محل الفتنة العمياء فإنه يعطي الزهو على عباد الله ويورث الجهل بالعالم وبنفسه كما قال صاحب الجنيد ومن العالم حتى يذكر مع الله هذا وإن كان الذي قال هذا القول صاحب حال وعلم بأن الله ما خاطب عباده إلا بقدر ما جعل فيهم من القبول لمعرفة خطابه فيتنوع خطابه ليتسع الأمر ويعم فما خلق الله العالم على قدم واحدة إلا في شي‏ء واحد وهو الافتقار فالفقر له ذاتي والغني له أمر عرضي ومن لا علم له يغيب عن الأمر الذاتي له بالأمر العارض والعالم المحقق لا يزال الأمر الذاتي من كل شي‏ء ومن نفسه مشهودا له دائما دنيا وآخرة فلا يزال عبدا فقيرا تحت أمر سيده لا يستغني في نفسه عن ربه أبدا أ لا ترى أن السجود لله تعالى عام في كل مخلوق إلا هذا النوع الإنساني فإنه لم يعمه السجود لله ومع هذا فقد عمه السجود فإنه لا يخلو أن يكون ساجدا لأن السجود له ذاتي لأنه عبد فقير محتاج يتألم فالحاجة به منوطة قائمة فأما إن يسجد لله وإما أن يسجد لغير الله على إن ذلك السجود له عنده إما لله وإما لمن يقرب إلى الله في زعمه لا بد من هذا التوهم ولهذا رحم الله عباده بما كلفهم وأمرهم به من السجود لآدم وللكعبة ولصخرة بيت المقدس لعلمه بما جعل في عباده إن منهم من يسجد للمخلوقات عن غير أمر الله فأمر من أمر من ملك وإنسان بالسجود للمخلوق وجعل ذلك عبادة يتقرب بها إليه سبحانه ليقل السؤال يوم القيامة عن الساجدين لغير الله عن غير أمر الله فلا يبقى للحق عليهم مطالبة إلا بالأمر فيقول لهم من أمركم بذلك ما يقول لهم لا يجوز السجود لمخلوق فإنه قد شرع ذلك في مخلوق خاص حسا وخيالا كرؤيا يوسف عليه السلام الذي رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدين له فكان ذلك أباه وخالته وإخوته فوقع حساما كان إدراكه خيالا والقصة فيه معروفة متلوة قرآنا في صورة كوكبية فلما دخلوا عليه خَرُّوا لَهُ سُجَّداً فقال يوسف عليه السلام لأبيه هذا تَأْوِيلُ أي مال رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي حقا في الحس وقد كانت حقا في الخيال في موطن الرؤيا فما ثم إلا حق وما كان الله ليسرمد عذابا على من أتى حقا فإن الله لما قسم الحق إلى ما هو مأمور به ومنهي عنه فأراد الحق أن يفرق بين من أتى المأمور به وبين من أتى المنهي عنه ليتميز الطائع من العاصي فتتميز المراتب فإذا عرف كل أحد قدره وما أتى عمت الرحمة الجميع كل صنف في منزله من حيث إنه ما جاء إلا بحق وإن كان منهيا عنه فإن المفتري صاحب حق خيالي لا حق حسي فإنه لا يفتري المفتري حتى يحضر في خياله الافتراء والمفترى عليه ويقيمه في صورة ما افترى به عليه فإذا تخلية مثل صورة النوم سواء أخبر عنه بحق خيالي لكنه سكت عن التعريف بذلك للسامع فأخذه السامع على أنه حق محسوس فأراد الله الفرقان بين طبقات العالم ومراتبه فلذلك أعقب صاحب هذا النعت بالعقوبة على ذلك أو بالمغفرة بأيهما شاء لأن من هؤلاء العصاة المعاقب والمغفور له كما أنه من الطائعين العالم بالأمر على ما هو عليه في نفسه وهم العاملون على بصيرة أهل الكشف والوجود ومنهم المحجوب عن ذلك مع كونه مطيعا فلم يجعل الله أهل الطاعة على رتبة واحدة فما في الوجود المعنوي والحسي والخيالي إلا حق فإنه موجود عن حق ولا يوجد الحق إلا الحق ولهذا

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه يخاطب ربه تعالى والخير كله في يديك والشر ليس إليك‏

فإنه ضد الخير فما صدر عن الخير إلا الخير والشر إنما هو عدم الخير فالخير وجود كله والشر عدم كله لأنه ظهور ما لا عين له في الحقيقة فهو حكم والأحكام نسب وإنما قلنا ظهور فيه لأن ذلك لغة عربية قال إمرؤ القيس لو يشرون مقتلي أي يظهرون ولذلك قال تعالى عن نفسه فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وهو إخفاء ما له عين وأَخْفى‏ وهو إظهار ما لا عين له فيتخيل الناس أن ذلك حق والله يعلم أنه ليس له وجود عين في نفس الحكم فيعلم السر وأخفى أي أظهر في الخفاء من السر كما قال ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها يعني في الصغر وهكذا هذا هو أظهر في الخفاء من السر والشي‏ء الخافي هو الظاهر لغة منقولة قال تعالى في تأييد ما ذكرناه كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فكل شي‏ء هو موجود نشاهده حسا ونعلمه عقلا فليس بها لك فكل شي‏ء وجهه ووجه الشي‏ء حقيقته فما في الوجود إلا الله فما في الوجود إلا الخير وإن تنوعت الصور

فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد أخبرنا أن التجلي الإلهي يتنوع‏

وقد أخبرنا الله تعالى أنه كل يوم في شأن فنكر وما هو إلا اختلاف ما هو فيه فكل ما ظهر فما هو إلا هو ولنفسه ظهر فما يشهده أمر

ولا يكثره غير ولذلك قال لَهُ الْحُكْمُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي من يعتقد أن كل شي‏ء جعلناه هالكا وما عرف ما قصدناه إذا رآه ما يهلك ويرى بقاء عينه مشهودا له دنيا وآخرة علم ما أردنا بالشي‏ء الهالك وأن كل شي‏ء لم يتصف بالهلاك فهو وجهي فعلم إن الأشياء ليست غير وجهي فإنها لم تهلك فردها إلى حكمها فهذا معنى قوله وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وهو معنى لطيف يخفى على من لم يستظهر القرآن فإذا كان الغني عبارة عمن هذه صفته والغني عبارة عن هذه الصفة فلا غنى إلا الله وكذلك الغني صفته ونحن ما تكلمنا إلا في العبد لا في الحق فالعبد له الفقر المطلق إلى سيده والحق له الغني المطلق عن العالم فالعالم لم يزل مفقود العين هالكا بالذات في حضرة إمكانه وأحكامه يظهر بها الحق لنفسه بما هو ناظر من حقيقة حكم ممكن آخر فالعالم هو الممد بذاته ما يظهر في الكون من الموجودات وليس إلا الحق لا غيره فتحقق يا ولي هذا الوصل فإنه وصل عجيب حكمه خلق في حق بحق ولا خلق في نفس العين مع وجود الحكم وقبول الحق لحكم الخلق وهو قبول الوجود لحكم العدم وليس يكون إلا هكذا ولو لا ذلك لم يظهر للكثرة عين وما ثم إلا الكثرة مع أحدية العين فلا بد من ظهور أحكام الكثير وليس إلا العالم فإنه الكثير المتعدد والحق واحد العين ليس بكثير وقد رميت بك على الطريق لتعلم ما الأمر عليه فتعلم من أنت ومن الحق فيتميز الرب من العبد وعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ‏

«الوصل الخامس» من خزائن الجود فيما يناسبه‏

ويتعلق به من المنزل الخامس ويتضمن هذا المنزل الخامس من العلوم الإلهية علم تفصيل الرجوع الإلهي بحسب المرجوع إليه من أحوال العباد وهو علم عزيز فإن الله يقول وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ويقول وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وهنا رجوع الحق إلى العباد من نفسه مع غناه عن العالمين فلما خلقهم لم يمكن إلا الرجوع إليهم والاشتغال بهم وحفظ العالم فإنه ما أوجده عبثا فيرجع إليه سبحانه بحسب ما يطلبه كل شخص شخص من العالم به إذ لا يقبل منه إلا ما هو عليه في نفسه من الاستعداد فيحكم باستعداده على مواهب خالقه فلا يعطيه إلا ما يقتضيه طلبه ولما كان الأمر على ما ذكرناه وأدخل الحق نفسه تحت طلب عباده فأطاعهم كلفهم إن يطيعوه على ألسنة الرسل فمن أطاعه منهم ظهر له بصفة الحق التي ظهر للعباد بها في إعطاء ما طلبوه منه ومن عصاه علم عند ذلك ما السبب الذي أدى هذا العاصي إلى أن يعصي ربه فلم يكن ذلك إلا إظهار الحكمة عموم الرجوع الإلهي إلى العباد بحسب أحوالهم فإنه عام الرجوع فرجع على الطائعين بما وعد ورجع على العاصين بالمغفرة وإن عاقب وظهرت المعصية في أول إنسان والإباية في أول جان ثم انتشرت المعاصي في الأناسي والجن بحسب الأوامر والنواهي وكان ذلك على قدر ما علم الحق من الرجوع الإلهي إليهم بهذه المخالفات فلم يقدر مخلوق على إن يطيع الله تعالى طاعة الله بما يطلبه العبد منه بحاله مما يسوءه ومما يسره فإن الحال الذي قام فيه العبد إذا كان سوء فإن لسان الحال يطلب من الحق ما يجازيه به ويرجع به عليه إما على التخيير وذلك ليس إلا لحال المعصية القائم بالعاصي وإما على الوجوب بالتعيين فالرجوع الإلهي على العاصي إما بالأخذ وإما بالمغفرة والرجوع على الطائع بالإحسان فما أعطى الحق برجوعه للعبد إلا ما طلب منه العبد بلسان حاله وهو أفصح الألسنة وأقوم العبارات فأصل المعاصي في العباد يستند إلى نسبة إلهية وهي أن الله هو الآمر عباده والناهي تعالى والمشيئة لها الحكم في الأمر الحق المتوجه على المأمور إما بالوقوع أو بعدم الوقوع فإن توجهت بالوقوع سمي ذلك العبد طائعا ويسمى ذلك الوقوع طاعة فإنه أطاعت الإرادة الأمر الإلهي وإن لم تتوجه المشيئة بوقوع ذلك الأمر عصت الإرادة الأمر وليس في قوة الأمر الحكم على المشيئة فظهر حكم المشيئة في العبد المأمور فعصى أمر ربه أو نهيه وليس ذلك إلا للمشيئة الإلهية فقد تبين لك من العاصي ومن الطائع وإلى أي أصل ترجع معصية المكلف أو طاعته فلا رجوع إلا لله على العباد ورجوع العباد إلى الله برجوع الحق عليهم كما قال تعالى ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا فلو لا توبة الله عليهم ما تابوا والتوبة الرجوع فالله أكثر رجوعا إلى العباد من العباد إليه فإن رجوع العباد إلى الله بإرجاع الله فما رجعوا إلى الله إلا بالله وبعد أن أوجد الله العالم وأبقى الوجود عليه لم يتمكن إلا بحفظه فإنه لا بقاء له إلا بالحفظ الإلهي فالعبد يرجع إلى الله من نفسه ويرجع إلى نفسه من الله والحق ما له رجوع إلا إلى عباده من عباده فما كانت له رجعة من نفسه إلا الأولى المعبر عن ذلك بابتداء لعالم ولو كانت المشيئة تقتضي‏

الاختيار لجوزنا رجوع الحق إلى نفسه وليس الحق بمحل للجواز لما يطلبه الجواز من الترجيح من المرجح فمحال على الله الاختيار في المشيئة لأنه محال عليه الجواز لأنه محال أن يكون لله مرجح يرجح له أمرا دون أمر فهو المرجح لذاته فالمشيئة أحدية التعلق لا اختيار فيها ولهذا لا يعقل الممكن أبدا إلا مرجحا إلا أن الحق من كونه غفورا أرسل ستره وحجابه بين بعض عباده وبين إحالة رجوع الحق إلى نفسه في غناه عن العالم فقال في ذلك الستر فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وهذا ليس يتمكن الحكم به إلا ولا عالم أو يكون متعلق المشيئة الاختيار وكلا الأمرين مع وجود العالم لا يكون ولا واحد منهما فالمحجوب بهذا الحجاب يقول فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ولا يعلم صورة الأمر كيف هو والمرفوع عنه من العباد هذا الستر إذا قالها تلاوة وعلم متعلقها وما هو الأمر عليه الآن وما كان عليه الأمر وترك متعلق غناه فيما بقي من الممكنات لم يوجد فإنها غير متناهية بالأشخاص فلا بد من بقاء ما لم يوجد فبه تتعلق صفة الغني الإلهي عن العالم فإن بعض العالم يسمى عالما فمن فهم الغني الإلهي هكذا فقد علمه وأما تنزيه الحق عما تنزهه عباده مما سوى العبودية فلا علم لهم بما هو الأمر عليه فإنه يكذب ربه في كل حال يجعل الحق فيه نفسه مع عباده وهذا أعظم ما يكون من سوء الأدب مع الله أن ينزهه عما نسبه سبحانه إلى نفسه بما نسبه إلى نفسه فهو يؤمن ببعض وهو قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ويكفر ببعض ف أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا فجعل العبد نفسه أعلم منه بربه نفسه وأكثر من هذا الجهل فلا يكون والعبد المؤمن ينبغي له أن ينسب إلى الحق ما نسبه الحق إلى نفسه على حد ما يعلمه الله من ذلك إذا لم يكن ممن كشف الله عن بصيرته حتى رأى الأمر على ما هو عليه وهذا هو الشرك الخفي فإنه نزاع لله تعالى خفي في العبد لا يشعر به كل أحد ولا سيما الواقع فيه ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت ولهذا أمر الحق تعالى أن يسبح بحمده أي بما أثنى على نفسه وما وصف تعالى نفسه بشي‏ء إلا في معرض الثناء عليه بذلك الوصف وهذا المنزه الجاهل ينزهه عن ذلك الوصف الذي وصف به الحق نفسه وأخذ يثني عليه بما يرى أنه ثناء على الله والله ما أمره أن ينزهه إلا بحمده أي بما أثنى على نفسه به في كتبه وعلى السنة رسله وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ إلا هذا الإنسان فإن بعضه يسبحه بغير حمده ويكذب الحق في بعض ما أثنى به على نفسه وهو لا يشعر بذلك ولهذا قال تعالى ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً فلم يؤاخذكم على ما تركتم من الثناء عليه مما أثنى به على نفسه ولم يعجل عليكم العقوبة غَفُوراً بما ستره عنكم من علم ذلك ممن هو بهذه المثابة فإذا أراد العبد نجاة نفسه وتحصيل أسباب سعادته فلا يحمد الله إلا بحمده كان ما كان على علم الله في ذلك من غير تعيين فإن قبضه الله تعالى على ذلك اطلع على الأمر على ما هو عليه إذا لم يكن من أهل الكشف في الحياة الدنيا وإن لم يفعل وتأول فهو لما تأوله وحرمه الله كل ما خرج عن تأويله فلم يره فيه وهذا أعظم الحرمان وعند الكشف الأخروي يرى ما كان عليه من سوء الأدب مع الله والجهل به كما ورد أن أهل هذا المقام إذا تجلى لهم الحق تعالى في الآخرة ينكرونه ولا يقرون به لأنهم ما عبدوا ربا إلا مقيدا بعلامة فإذا ظهر لهم بتلك العلامة أقروا له بالربوبية وهو عين ما أنكروه وأي جهل أعظم من أن يقر بما هو له منكر ويتضمن هذا المنزل علم الوافدين على الله وعلم أنواع الفتوح ومجي‏ء المعاني بمجي‏ء من قامت به فينسب المجي‏ء إليها لا إليه وعلم الزمان‏

«الوصل السادس» من خزائن الجود فيما يناسب‏

ويتعلق به المنزل السادس‏

من ستر الحق ولم يفشه *** فذلك الشخص الذي قد كفر

وليس مخفيا على ناظر *** فيه بعين العقل أو بالبصر

تبارك الله الذي لم يزل *** يظهر فيما قد بدا من صور

فإنه منشئها دائما *** في كل ما يظهر أو قد ظهر

[أن عبادة الله بالغيب عين عبادته بالشهادة]

اعلم أيدك الله أن عبادة الله بالغيب عين عبادته بالشهادة فإن الإنسان وكل عابد لا يصح أن يعبد معبوده إلا عن شهود إما بعقل أو ببصر أو بصيرة فالبصيرة يشهده العابد بها فيعبده وإلا فلا تصح له عبادة فما عبد إلا مشهودا لا غائبا فإن أعلمه بتجليه في الصور للبصر حتى يميزه عبده أيضا على الشهود البصري ولا يكون ذلك إلا بعد أن يراه بعين بصيرته فمن جمع بين‏

البصيرة والبصر فقد كملت عبادته ظاهرا وباطنا ومن قال بحلوله في الصور فذلك جاهل بالأمرين جميعا بل الحق إن الحق عين الصور فإنه لا يحويه ظرف ولا تغيبه صورة وإنما غيبه الجهل به من الجاهل فهو يراه ولا يعلم أنه مطلوبه‏

فقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم اعبد الله كأنك تراه‏

فأمره بالاستحضار فإنه يعلم أنه لا يستحضر إلا من يقبل الحضور فاستحضار العبد ربه في العبادة عين حضور المعبود له فإن لم يعلمه إلا في الحد والمقدار حده وقدره وإن علمه منزها عن ذلك لم يحده ولم يقدره مع استحضاره كأنه يراه وإنما لم يحده ولم يقدره العارف به لأنه يراه جميع الصور فمهما حده بصورة عارضته صورة أخرى فانخرم عليه الحد فلم ينحصر له الأمر لعدم إحاطته بالصور الكائنة وغير الكائنة له فلم يحط به علما كما قال ولا يُحِيطُونَ به عِلْماً مع وصفه بأنه أقرب إلى الإنسان من حبل وريده فالحق أقرب إليه من نفسه فإنه أتى بأفعل من فثم قريب وأقرب الأشياء قرب الظاهر من

الباطن فلا أقرب من الظاهر إلى الباطن إلا الظاهر عينه ولا أقرب من الباطن إلى الظاهر إلا الباطن عينه وهو أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ فهو عين المنعوت بأن له حبل الوريد فعلمنا أنه عين كل صورة ولا نحيط بما في الوجود من صور فلا نحيط به علما فإن قلت فأنت من الصور قلنا وكذلك نقول إلا أن الصور وإن كانت عين المطلوب فإنها أحكام الممكنات في عين المطلوب فلا نبالي بما ينسب إليها من الجهل والعلم وكل وصف فإني أعلم كيف أنسب وأصف وأنعت ف لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ فالحق حق وإن لم تكن كما هو الحق حق وإن كنت لا فرقان فللظاهر حكم لا يكون للباطن من حيث ما قلت فيه باطن في العبادة وللباطن حكم لا يكون للظاهر من حيث ما قلت فيه ظاهر في العبادة وكل حكم له مقام معلوم وكل مقام له حكم معلوم فلا يعلم شي‏ء إلا به فلا يعبد إلا به ولهذا نبه الحق من لا علم له بما ذكرناه على رتبة العلماء بالله فقال إنه سمع العبد وبصره فما أبصرته إلا به ولا سمعته إلا به فعينه عين سمعك وبصرك فما عبدته إلا به وليس بعد إعلام الحق عز اسمه وجل ذكره إعلام ولا بعد أحكامه فيما حكم فيه أحكام‏

فليس إلا عينه بالخبر *** وليس إلا غيره بالبصر

فأين أهل الفكر في ذاته *** قد ركبوا فيه عظيم الخطر

تعارض الأمر لديهم فما *** لهم به علم بحكم النظر

إن قيل هو قيل لهم ليس هو *** لأنه مطلوبكم بالفكر

أو قيل ما هو قيل هو إنه *** عين الذي تشهده في الصور

(واقعة)

رأيت عينا من لبن حليب ما رأيت لبنا مثله في البياض والطيب في جرمه دخلت فيه حتى بلغ ثديي وهو يتدفق فتعجبت لذلك وسمعت كلاما غريبا إلهيا يقول من سجد لغير الله عن أمر الله قربة إلى الله طاعة لله فقد سعد ونجا ومن سجد لغير الله عن غير أمر الله قربة إلى الله فقد شقي فإن الله عز وجل يقول وأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَداً فإن الله مع الخلق ما الخلق مع الله لأنه يعلمهم ف هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا في ظرفية أمكنتهم وأزمانهم وأحوالهم ما الخلق معه تعالى جل جلاله فإن الخلق لا تعرفه حتى تكون معه فمن دعا الله مع الخلق ما هو كمن دعا الخلق مع الله فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَداً ولا يصح السجود إلى غير الله إلا لكون الله مع الخلق حيث كانوا فلا نعلمه ولا نجده إلا بالخلق فالسجود على الحقيقة لله الموصوف بالمعية مع الخلق ولهذا شرعت القبلة كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله في قبلة المصلي‏

فالقبلة ما هي الله والله فيها فأمرنا بالسجود لها لكون الله فيها ومعها فمن رأى الخلق ببصره فقد رأى الحق ببصيرته مطلقا وليس له إذا رأى ذلك أن يسجد له إلا إذا أمره بالسجود وإن كان لله فلا يقع في الحس إلا لغير الله أبدا لأنه لا يصح أن يقع السجود لله لأن الله بكل شي‏ء محيط فالجهات كلها نسبتها أو نسبة الحق إليها على السواء ومن خر على قفاه فما سجد لله وإن كان الله خلفه كما هو أمامه لكن الله ما راعى إلا وجهه لم يراع من جهات العبد سوى وجهه فلذلك لا يصح السجود لغير الله إلا عن أمر الله قال الله تعالى اسْجُدُوا لِآدَمَ فالسجود لغير الله والعبادة لله لا تكون لغير الله أبدا فإنه لا أعظم من الشرك وقد قال المشرك ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فما عبدوا الشركاء لأعيانهم فما أوخذوا إلا لكونهم عبد وهم فإن الله لا يأمر خلقه ولا يصح أن يأمر خلقه بعبادة مخلوق ويجوز أن يأمرنا بالسجود للمخلوق فمن سجد

عبادة لمخلوق عن أمر الله أو عن غير أمر الله فقد شقي ومن سجد غير عابد لمخلوق فإن كان عن أمر الله كان طاعة فسعد وإن سجد لمخلوق غير عابد إياه عن غير أمر الله كانت رهبانية ابتدعها فما رعاها حَقَّ رِعايَتِها ... إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله لأنه ما قصدها إلا قربة إلى الله فما خلت هذه الحالة عن الله والله عند ظن عبده به لا يخيبه فليظن به خيرا فلا بد من أخذ المشركين لتعديهم بالاسم غير محله وموضوعة ولم يرد عليه أمر بذلك من الله ومن المحال أن ترد عبادة وإن ورد سجود ولو لا وضع اسم الألوهية على الشريك ما عبدوه فإن نفوس الأناسي بالأصالة تأنف من عبادة المخلوقين ولا سيما من أمثالها فأصحبوا عليها الاسم الإلهي حتى لا يتعبدهم غير الله لا يتعبدهم مخلوق فما جعل المشرك يشرك بالله في وضع هذا الاسم على المخلوق إلا التنزيه لله الكبير المتعالي لأن المشرك لا بد له في عبادته من حركات ظاهرة تطلب التقييد ولا بد من تصور خيالي لأنه ذو خيال ولا بد من علم عن دليل عقلي يقضي بتنزيه الحق عن التقييد ونفي المماثلة فلذلك نقلوا الاسم للشريك والنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول لجبريل عليه السلام في معرض التعليم لعباد الله اعبد الله كأنك تراه‏

فأمره بتصوره في الخيال مرئيا فما حجر الله على العباد تنزيهه ولا تخيله وإنما حجر عليه إن يكون محسوسا له مع علمه بأن الخيال من حقيقته أن يجسد ويصور ما ليس بجسد ولا صورة فإن الخيال لا يدركه إلا كذلك فهو حس باطن بين المعقول والمحسوس مقيد أعني الخيال وما قرر الحق هذا كله إلا للرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حتى إذا رحم من وقع الأخذ به عرف الخلق أن هذه الرحمة الإلهية قد تقدم الإعلام بها من الحق في الدار الدنيا دار التكليف فلا ينكرها العالمون فما أخرج الله العالم من العدم الذي هو الشر إلا للخير الذي أراده به ليس إلا الوجود فهو إلى السعادة موجود بالأصالة وإليها ينتهي أمره بالحكم فإن الدار التي أشرك فيها دار مزج فهي دار شبهة وهي الدنيا فلها وجه إلى الحق بما هي موجودة ولها وجه لغير الحق بما ينعدم ما فيها وينتقل عنها إلى الأخرى والشبهة نسبة الحل إليها والحرمة على السواء وما جعلها الله على هذه الصفة إلا لإقامة عذر العباد إذا أراد أن يرحمهم رحمة العموم فما ألطف الله بخلقه فإن الصانع له اعتناء بصنعته فالمؤمن العالم ما جحد إن المشرك عبد الله فإنه سمعه يقول ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ والمشرك ما جحد الله تعالى بل أقر به وأقر له بالعظمة والكبرياء على من اتخذه قربة إليه فإذا علمت من أين أخذ من أخذ وأن الأخذ الأخروي كالحدود في الدنيا لا تؤثر في الايمان بوجود الله ولا في أحدية العظمة له التي تفوق كل عظمة عند الجميع فإنه من رحمة الله إن جعل الله من يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله وحرمات الله والشعائر الإعلام والمناسك قربة إلى الله وإن ذلك من تَقْوَى الْقُلُوبِ فهذا أيضا من المشاركة في العظمة وهي مشروعة لنا فما عظم المشرك الشريك إلا لعظمة الله لما رأى أن العظمة في المخلوقات سارية يجدها كل إنسان في جبلته ومع ذلك فأفرد المشرك عظم عظمة الله في قلبه إلى الله فما وقعت المؤاخذة إلا لكون ما وقع من ذلك عن غير أمر الله في حق أشخاص معينين ونقل الاسم إلى أولئك الأشخاص‏

«وصل» وأما الأصول فمحفوظة بالفطرة

التي فطر الله الخلق عليها أ لا ترى إلى ما قال بعضهم وما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ

فقال الله تعالى في الوحي الصريح الصحيح لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر تراه‏

قال هذا وجاء به سدى لا والله بل جاء به رحمة لعباده فإن الدهر عند القائلين به ما هو محسوس عندهم وإنما هو أمر متوهم صورته في العالم وجود الليل والنهار عن حركة كوكب الشمس في فلكها المحرك بحركة الفلك الأعظم فلك البروج الذي له اليوم بحركته كما الليل والنهار بظهور كوكب الشمس فيه فقد كان اليوم ولا ليل ولا نهار مع وجود الدرجات والدقائق وأقل من ذلك فلم يصح مع هذا شرك عام ولا تعطيل عام وإنما هي أسماء سموها أطلقوها على أعيان محسوسة وموهومة عن غير أمر الله فأخذوا بعدم التوقيف فقد وجدنا الأمر عين ما وجد منهم عن غير أمر فتحقق هذا الوصل فإنه دقيق جدا انتهى السفر الخامس والعشرون بانتهاء الوصل السادس من الباب التاسع والستين وثلاثمائة

بسم الله الرحمن الرحيم‏

«الوصل السابع» من مفاتح خزائن الجود

من الباب التاسع والستين وثلاثمائة هذه الخزانة فيها وجوب تأخر العبد

عن رتبة سيده وتخليص عبوديته لله من غيره كما أقر له بذلك في قبضة الذرية يريد الحق أن يستصحبه ذلك الإقرار في حياته الدنيا موضع الحجاب والستر فإن الحق له التقدم على الخلق بالوجود من جميع الوجوه وبالمكانة والرتبة فكان ولا مخلوق هذا تقدم الوجود وقدر وقضى وحكم وأمضى إمضاء لا يرد ولا يقضى عليه فهذا تقدم الرتبة ف ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله أن تشاءوا فوجب التأخر عن رتبة الحق من جميع الوجوه فإن العبد أعطى الكثرة لتكون الأحدية له تعالى وأعطى كل مخلوق أحدية التمييز لتكون عنده الأحدية ذوقا فيعلم إن ثم أحدية ليعلم منها الأحدية الإلهية حتى يشهد بها لله تعالى إذ لو لم يكن لمخلوق أحدية ذوقا يتميز بها عما سواه ما علم إن لله أحدية يتميز بها عن خلقه فلا بد منها فللكثرة أحدية الكثرة ولكل عدد أحدية لا تكون لعدد آخر كالاثنين والثلاثة إلى ما فوق ذلك مما لا يتناهى وجودا عقليا فلكل كثرة من ذلك أحدية تخصه وعلى كل حال أوجب الحق على عبده أن يتأخر عن رتبة خالقه كما أخر سبحانه علمنا به عن علمنا بأنفسنا فوجود العلم المحدث به متأخر بالوجود عن وجود العلم المحدث بنا وجعل المفاضلة في العالم بعضه على بعض لنعرف المفاضلة ذوقا من نفوسنا فنعلم من ذلك فصل الحق علينا وإن تأخر علمنا به عن علمنا بنفوسنا لنعلم أن علمنا بنفوسنا إنما كان للدلالة على علمنا به فعلمنا أنا مطلوبون له لا لأنفسنا وأعياننا لأن الدليل مطلوب للمدلول لا لنفسه ولهذا لا يجتمع الدليل والمدلول أبدا فلا يجتمع الخلق والحق أبدا في وجه من الوجوه فالعبد عبد لنفسه والرب رب لنفسه فالعبودية لا تصح إلا لمن يعرفها فيعلم أنه ليس فيها من الربوبية شي‏ء والربوبية لا تصح إلا لمن يعرفها فيعرف أنه ليس فيها من العبودية شي‏ء فأوجب على عباده التأخر عن ربوبيته فشرع له الصلاة ليسميه بالمصلي وهو المتأخر عن رتبة ربه ونسب الصلاة إليه تعالى ليعلم أن الأمر يعطي تأخر العلم الحادث به عن العلم الحادث بالمخلوق فقال هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ وقال فَصَلِّ لِرَبِّكَ ولما علمنا أنه من تأخر عن أمر فقد انقطع عنه علمنا إن كل واحد قد تميز في رتبته عن الآخر بلا شك وإن أطلق على كل واحد ما أطلق على الآخر فيتوهم الاشتراك وهو لا اشتراك فيه فإن الرتبة قد ميزته فيقبل كل واحد ذلك الإطلاق على ما تعطيه الرتبة التي تميز بها فإنا نعلم قطعا إن

الأسماء الإلهية التي بأيدينا تطلق على الله وتطلق علينا ونعلم قطعا بعلمنا برتبتنا وبعلمنا برتبة الحق إن نسبة تلك الأسماء التي وقع في الظاهر الاشتراك في اللفظ بها إلى الله غير نسبتها إلينا فما انفصل عنا إلا بربوبيته وما انفصلنا عنه إلا بعبوديتنا فمن لزم رتبته منا فما جنى على نفسه بل أعطى الأمر حقه‏

فقد بان لك الحق *** وقد بان لك الخلق‏

فقل ما شئت أو سمه *** فكل قوله حق‏

فما في كونه مين *** وما في كوننا صدق‏

وفي هذا المعنى قول لبيد

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في هذا البيت أصدق بيت قالته العرب قول لبيد

يعني هذا النصف منه قلنا وهذه رتبة ما خص الله بها أحدا من الناس وأثنى عليه بها إلا الذاكر وذلك أن الذاكر هو الذي كان له علم بأمر ما ثم نسيه لما جبل عليه الإنسان من النسيان كما قال الله عز وجل نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ وصورة نسيانهم إنهم توهموا بما أضاف الله إليهم من الأعمال والأموال والتمليك أن لهم حظا في الربوبية أو ضرب الله لهم بسهم فيها بقوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فلما اعتنى الله تعالى بمن اعتنى منهم وآتاه رحمة من عنده ذكر اسم ربه‏

والله يقول أنا جليس من ذاكرني‏

والذاكرون هم جلساء الحق فأورثه الذكر مجالسة الحق وأورثته المجالسة مشاهدة الحق ورؤيته في الأشياء يقول الصديق ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله وعمر معه وغيره بعده وغيره فيه وغيره ما رأيت شيئا من غير ارتباط بشي‏ء وأورثته رؤية الحق تأخره عما كان يتوهم من أن الله تعالى ضرب له بسهم في الربوبية وإنها من نعوته وله فيها قدم بوجه ما فتأخر عن ذلك بالذكر فقال وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أي تأخر إلى مقام عبودته وأفرد الربوبية لله تعالى فأفلح من جميع وجوهه وليست هذه الصفة مشاهدة لغير الذاكر فالذاكر عبد مخلص لله تعالى أ لا ترى إلى ما قال في الذي اتصف بنقيض هذه الحال لما جاءه ذكر ربه وهو القرآن يذكره بنفسه وبربه فَلا صَدَّقَ من أتى به أنه من عند ربه ولا صَلَّى يقول ولا تأخر عن دعواه وتكبره وقد سمع قول الله الحق ولو لم يكن من عند الله فينبغي للعاقل إذا سمع الحق‏

ممن سمعه أن يرجع إليه ويقول به ليكون من أهله من رد الحق فما صدق ذلك القول فيما دل عليه قاله من قاله فذمه الله وقال ولكن استدراك لتمام القصة كذب من أتى به إليه وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وكذب الحق إما بجهله فلم يعلم أنه الحق وإما بعناد وهو على يقين أنه حق في نفس الأمر فغالط نفسه لكون هذا الرسول جاء به كما قال في حق من هذه صفته وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا ثم قال وتولى بعد تكذيبه بالحق وبمن جاء به فتولى عن الحق ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى وهذا شغل المتكبر المشغول الخاطر المفكر الحائر الذي كسله ما سمعه فإنه بالوجه الظاهر يعلم أنه الحق لأن المعجزة لم يأت بها الله إلا لمن يعلم أن في قوته قبولها بما ركب الله فيه من ذلك ولذلك اختلفت الدلالات من كل نبي وفي حق كل طائفة ولو جاءهم بآية ليس في وسعهم أن يقبلوها لجهلهم ما آخذهم الله بإعراضهم ولا بتوليهم عنها فإن الله عليم حكيم عادل ومن تأخر عن حق غيره إلى ما يستحقه في نفسه فقد أنصف من نفسه ولم يتوجه لصاحب حق عليه طلب فحاز الخير بكلتي يديه فوقفه الله على جوامع الخير كله فإنه من أوتي الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فإن الحكيم هو الذي ينزل كل شي‏ء في مرتبته ويعطي كل ذي حق حقه فله الحجة البالغة والكلمة الدامغة ولم تنقطع مشاهدته ولم تتأخر المعونة الإلهية في عبادته عن مساعدته فإنا فرضناه عبد السيد ما فرضناه ملكا فإن الملك قد يكون فيمن يعقل عبوديته وفيمن لا يعقلها فالعبد حاله السمع والطاعة لسيده وما عدا العبد فهو ملك يتصرف فيه المالك كيف يشاء من غير أن يتعلق به ثناء يعدم منعه من التصرف فيه بخلاف من يعقل وهو العبد فإذا قام في تصريف الحق فيه مقام الأموال أثنى الله عليه بذلك لأن الله قد خصه في نشأته بقوة المنع والرد لكلمة الحق ومكنه من الطاعة والمعصية فهو لما استعمله من ذلك فوقع الثناء عليه كما أثنى الله على الملائكة بقوله لا يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فلو لم يكن في قوتهم ونشأتهم ما يقتضي رد أمر الله وما يقتضي قبوله ما أثنى الله عليهم بما أثنى به من نفي العصيان عنهم وفعلهم ما أمرهم به فإن المجبور لا ثناء عليه أ لا ترى إلى المصلي إذا وقف بين يدي ربه في الصلاة يتكتف شغل العبد الذليل بين يدي سيده في حال مناجاته والسنة قد وردت بذلك وهو أحسن من إسبال اليدين وذلك أن الله تعالى لما قسم الصلاة بينه وبين عبده نصفين فجزء منها مخلص له تعالى من أول الفاتحة إلى قوله يَوْمِ الدِّينِ فهذا بمنزلة اليد اليمنى من العبد لأن الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فأعطيناه اليمين والجزء الآخر مخلص للعبد من قوله اهْدِنَا إلى آخر السورة فهذا الجزء بمنزلة اليد اليسرى وهي الشمال فإنه الجناب الأضعف والعبد هذه مرتبته فإنه خلق من ضعف ابتداء ورد إلى ضعف انتهاء وجزء منها بين الله وبين عبده فجمع هذا الجزء بين الله وعبده وهو قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فلهذا الجمع جمع العبد بين يديه في الصلاة إذا وقف فكملت صلاة العبد بجمعه بين يديه وصورة هذا التكتيف أن يجعل اليمنى على اليسرى كما قررناه من أن اليمين لله فلها العلو على الشمال وصورتها أن يجعل باطن كفه اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد ليجمع بالإحاطة جميع اليد التي أمر الله عبده في الوضوء للصلاة أن يعمها بالطهارة فأخذ الرسغ وما جاوره من الكف والساعد فانظر إلى هذه الحكمة ما أجلاها لذي عينين ثم‏

نهى النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يرفع المصلي عينيه إلى السماء في صلاته فإن الله في قبلة العبد

ولا يقابله في وقوفه إلا الأفق فهو قبلته التي يستقبلها ويحمد له أن ينظر إلى موضع سجوده فإنه المنبه له على معرفة نفسه وعبوديته ولهذا جعل الله القربة في الصلاة في حال السجود وليس الإنسان بمعصوم من الشيطان في شي‏ء من صلاته إلا في السجود فإنه إذا سجد اعتزل عنه الشيطان يبكي على نفسه ويقول أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار

«الوصل الثامن» من خزائن الجود

وهو متعلق بهذا الوصل الذي فرغنا منه وهو أن العبد متأخر في نفس الأمر عن رتبة خالقه وقد حيل بينه وبين شهود ذلك بما جعل الله فيه من النسيان والسهو والغفلة فيتخيل إن له قدما في السيادة والحال تشهد بخلاف ذلك فهو بالحال محقق وفي نفس الأمر على ما هو عليه صاحب الشهود ولا سعادة له في ذلك بل له الشقاء وهذا غاية الحرمان ولا يزال كذلك حتى ينكشف الغطاء فيحتد البصر فيرى الأمر على ما هو عليه فيؤمن به فما ينفعه إيمانه فإن الايمان لا يكون إلا بالخبر لا بالعيان فليس المؤمن إلا من يؤمن بالغيب وهو الخبر الذي جاء من عند الله فإن الخبر بما هو خبر يقبل الصدق والكذب كالممكن يقبل‏

الوجود والعدم واعلم أنه ما أتى على أحد إلا من الغفلة عما يجب عليه من الحقوق التي أوجب الشرع عليه أداءها فمن أحضرها نصب عينيه وسعى جهده في أدائها ثم حالت بينه وبين أدائها موانع تقيم له العذر عند الله فقد وفى الأمر حقه ووفى الله بذمته ولا حرج عليه ولا جناح ولا خاطبه الحق بوجوب حق عليه مع ذلك المانع والموانع على نوعين نوع يكون مع الحضور ونوع يكون مع عدم الحضور وهو الغفلة فأما النوع الذي يكون مع الحضور فينقسم قسمين قسم يرجع إلى النظر في ذلك الواجب هل هو واجب عليه أم لا فيجتهد جهد وسعه الذي كلفه الله في طلب الدليل على وجوب ذلك الأمر فلا يجده وهو من أهل الاجتهاد فلا يجب عليه إلا ما يقتضيه دليله وهو واجب في نفس الأمر عند الله ولكن أخطأ هذا المجتهد فهو مأجور عند الله بنص الله ونص رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وما كلفه الله إلا ذلك وقد أدى ما كلفه الله من الاجتهاد في طلب الدليل فلم يجده وليس للمجتهد أن يقلد غيره في حكم لا يعرف دليله ولكن من اجتهاده إذا لم يعثر على دليل أن يسأل في ذلك الأمر أهل الاجتهاد الذين حكموا عليه بالوجوب وصورة سؤاله أن يقول لهم ما دليلكم على ما أوجبتموه في هذا الأمر ولا يقلدهم في الحكم فإذا عرفوه بدليلهم فإن كان ذلك الدليل مما قد حصل له في اجتهاده فقدح فيه فلا يجب عليه النظر فيه ولا الحكم به فإنه قد تركه وراءه وإن كان لم يعثر عليه فيما عثر من نظره فله عند ذلك النظر في دليل ذلك المجتهد المسئول هل هو دليل في نظر هذا السائل المجتهد أو ليس بدليل فإن أداه اجتهاده في إن ذلك هو دليل كما هو عند من اتخذه دليلا تعين عليه العمل به وإن قدح فيه بوجه لم يعثر ذلك الآخر عليه فإنه ليس له الأخذ به وتقليد ذلك المسئول في الحكم الذي حكم هذا الدليل عليه عند ذلك المجتهد فهذا مانع والقسم الآخر أن يعلم وجوب ذلك عليه من فعل أو ترك ثم يحول بينه وبين ذلك إن كان تركا اضطرار وإن كان أمرا فعدم استطاعة وما ثم مانع آخر هذا مع الحضور والنوع الآخر من الموانع الغفلة وهي على نوعين غفلة عن كذا وغفلة في كذا فالغفلة عن كذا ترك ذلك بالكلية وهو غير مؤاخذ بذلك عند الله فإن الله قد رفع عن عباده رحمة بهم الخطاء وهو حال المجتهد الذي ذكرناه آنفا والنسيان وهو الغفلة وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به فإن الكلام عمل فيؤاخذ به من حيث ما هو متلفظ به فإن كان ليس لذلك المتلفظ به عمل إلا عين التلفظ كالغيبة والنميمة فإنه يؤاخذ بذلك بحسب ما يؤدي إليه ذلك التلفظ وإن كان تلفظ به وله عمل زائد على التلفظ به فلم يعمل به فما عليه إلا عين ما تلفظ به فهو مسئول عند الله من حيث لسانه ولا يدخل الهم بالشي‏ء في حديث النفس فإن الهم بالشي‏ء له حكم آخر في الشرع خلاف حديث النفس فإن لذلك مواطن فإنه من يرد في الحرم المكي بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ من عَذابٍ أَلِيمٍ سواء وقع منه ذلك الظلم الذي أراده أو لم يقع وأما في غير المسجد الحرام المكي فإنه غير مؤاخذ بالهم فإن لم يفعل ما هم به كتب له حسنة إذا ترك ذلك من أجل الله خاصة فإن لم يتركها من أجل الله لم يكتب له ولا عليه فهذا الفرق بين الحديث النفسي والإرادة التي هي الهم فهذا وأمثاله رحمة من الله بعباده وأما الغفلة في كذا فهو تكليف صعب لو كلفه الإنسان لكن الله ما آخذ عباده بالغفلة في كذا كما لم يؤاخذهم بالغفلة عن كذا فإنه إذا غفل في كذا فإنه غفل عن جزء من أجزاء ما هو فيه شارع أو عامل فهو من غفلت عن كذا وقد شرع الله للغفل في كذا في بعض الأعمال حكما كالساهي في صلاته فإنه قد شرع له سجود السهو جبرا لما سها عنه وترغيما للشيطان الذي وسوس له حتى وقع منه السهو والغفلة فيما هو فيه عامل فإن تغافل حتى أوجب له ذلك التغافل الغفلة آخذه الله بها فإنه متعمل قاصد فيما يحول بينه وبين ما

أوجب الله عليه فعله أو تركه فإذا غفل الإنسان أو سها عن عبوديته ورأى له فضلا على عبد آخر مثله ولا سيما إن كان العبد الآخر ملك يمينه أو يكون هذا الغافل من أولي الأمر كالسلطان والوالي فيرى لنفسه مزية على غيره ما يرى تلك المزية للمرتبة التي أقيم فيها إن كان من أولي الأمر ولا للصفة القائمة به من حيث الاختصاص الإلهي له بها كالعلم وكرم الأخلاق فلم يفرق بين نفسه والمرتبة ولا بين الصفة والموصوف بها فإنه صاحب جهل وغفلة مردية ولهذا يقول في حالها وأنت مثلي أو فلان مثلي أو يعادلني ومن هو فلان وأي شي‏ء قيمة فلان وهل هو إلا عبدي أو من رعيتى أو هو كذا من كل أمر مذموم ينزه نفسه عنه وينوطه بذلك الآخر بخلاف من ليس بغافل عن نفسه فإنه يجعل الفضل للصفة والمرتبة لا لنفسه فإنه لم ينلها

باستحقاق وإنما نالها بامتنان إلهي إما لشقاوته إن كفر بها أو لسعادته إن شكرها ولو لا حكم الجهل فيمن هذه صفته ما اتصف بهذا وإن كان عالما بهذا كله وتغافل فإنه مباهت فهذا أعظم في الجور بل هو في هذه الحالة كصاحب اليمين الغموس والغافل كصاحب لغو اليمين فإذا كان مستحضرا لحقيقته عالما بأن الذي هو عليه مما حرمه غيره جائز أن يسلب عنه ويخلع على ذلك الغير الذي قد ازدراه لإهمال الله إياه فشكر نعمة الله عليه ودعا الله لذلك الغير أن ينيله مثل ما أعطاه الله وأدركته الشفقة فإنه وإن كان كافرا فهو أخوه من حيث إنه وإياه من نفس واحدة وإن كان مؤمنا فهو أخوه أخوة اختصاص ديني سعادي‏

[الشفقة على خلق الله والرحمة بعباد الله‏]

فعلى كل حال وجبت عليه الشفقة على خلق الله والرحمة بعباد الله‏

يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم انصر أخاك ظالما أو مظلوما

فأما نصرة المظلوم فمعلومة عند الجميع وأما نصرة الظالم فرحمة نبوية خفية فإنه علم إن الظلم ليس من شيم النفوس لأنها طاهرة الذات بالأصالة فكلما ينقص طهارتها فهو أمر عرضي عرض لها لما عندها من القبول في جبلتها والذي من شيمها إنما هو القهر والظهور ومن هنا دخل عليها إبليس بوسوسته ولقد جهل القائل الذي قال‏

الظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم‏

وما أنصف وما قال حقا فلو قال بدل الظلم القهر من شيم النفوس فالظلم الذي يصدر من زيد في حق من كان ما هو منه وإنما هو ممن يلقي إليه وهو الشيطان وللإنسان فيه مدافعة يجدها من نفسه لأن ذلك ليس من شيم النفوس وإنما الذي من شأنها إنما هو جلب المنافع ودفع المضار فدفع المضار به تشارك الحيوان كله وجلب المنافع مما تختص به النفس الإنسانية فإذا رأيت الحيوان يجلب المنافع فليس ذلك إلا لدفع المضار لا لأمر آخر فكل ضرر يطرأ من الحيوان في حق حيوان آخر أو في حق إنسان إنما هو لدفع المضار عن نفسه خاصة ولما كانت نفس الإنسان بهذه المثابة ووقع منه الظلم في حق أحد فيسمى ظالما فنصرة الظالم أن تنصره على إبليس الذي يوسوس في صدره بما يقع منه من الظلم بالكلام الذي تستحليه النفوس وتنقاد إليه فتعينه على رد ما وسوس إليه الشيطان من ذلك فهذه نصرته إذا كان ظالما ولذا جاء في الخبر في نصرة الظالم أن يأخذ على يده والمراد به ما ذكرناه ولهذا جاء بلفظ النصرة التي أوجبتها الأخوة لأنه لا بد أن تكون النصرة على شي‏ء وما ثم إلا ما ذكرناه لأن العدو الموسوس إليه في صدره يقول مقسما بربه لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وهم الذين أخلصهم الله إليه مما ألقي إليهم وفيهم من نور الحفظ والعصمة ولذلك قال تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي قوة وقهر وحجة لأن الله تولى حفظهم وتعليمهم بما جعل فيهم من التقوى فلما اتخذوا الله جل جلاله وقاية لم يجد اللعين من أين يدخل عليهم بشي‏ء فإنه أينما تولى منه ليدخل عليه بما يخرجه عن دينه وعلمه وجد في تلك الجهة وجه الله يحفظه فلا يستطيع الوصول إليه بالوسوسة فيتجسد له في صورة إنسان مثله فيتخيل أنه إنسان ويأتيه بالإغواء من قبل أذنه فيدخل له فيما حجر عليه تأويلا أدناه أن يبيح له ذلك فلا يضره الوقوع فيه بسبب ذلك التأويل لعلمه بأن الإنسان لا يقدم على معصية الله ابتداء دون وسوسة من العدو الذي يزين له سوء عمله فيراه حسنا فإذا جاء بهذه المثابة للعالم الذي ما له عليه سلطان بما ذكرناه من التأويل فيما يريد إيقاعه به صار ذلك العالم من أهل الاجتهاد فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران فهو مأجور على كل حال فما تم له مراده وإن نسي كما نسي آدم فإن الله تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبين حكمهما رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ كما رفعها في حق المجتهد فما تحرك الإنسان إلا في أمر مشروع فقد أحاط بالإنسان وجه الله ظاهرا وباطنا فأينما تولاه الشيطان من ظاهر وباطن فثم وجه الله يحفظه فما له عليه سلطان وهو قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في حق القرين أعانني الله عليه فأسلم برفع الميم على جهة الخبر فما له عليه سلطان أي حجة لأن الحجة هنا شرعية فهو لو ألقى على ظاهره أو باطنه وفي الشرع حكم برفع المؤاخذة فيما أتى به هذا العدو فما له عليه سلطان لأن الحجة الشرعية له فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وقوله فأعانني الله عليه هي نصرة الله له بالحجة فلا يبالي ولهذا شرع لعباده أن يقولوا وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي بك نستنصر وما ثم إلا العلم فهو خبر ناصر يعطيه الله عبده والذي نسي آدم إنما هو قوله تعالى له إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ولِزَوْجِكَ فنسي ما أخبره الله به من عداوته فقبل نصيحته ولما علم إبليس أن آدم محفوظ من الله ورأى الله قد نهاه عن قرب الشجرة لا قرب الثمرة جاء بصورة الأكل لا بصورة القرب فإنه علم أنه لا يفعل لنهي ربه إياه عن قرب الشجرة

فأتاه بثمرها فأكل آدم وزوجته حواء وصدقا إبليس وهو الكذوب في قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى‏ وكذلك كان أورثه ذلك الأكل منها الخلد في الجنة والملك الذي لا يبلى وما قال له متى وجعل ذلك من خاصية تلك الشجرة فيمن أكل منها فأورثه الاجتباء الإلهي فأهبطه الله للخلافة في الأرض تصديقا لما قاله للملائكة إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً وأهبط حواء للنسل وأهبط إبليس للاغواء ليحور عليه جميع ما يغوي به بنى آدم إذا عمت الناس رحمة الله فجعل الله كل مخالفة تكون من الإنسان من إلقاء العدو وإغوائه فقال الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ويَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي بإظهارها يعني بذلك وقوعها منكم لما علم إن الإنسان قد رفع عنه الحق ما حدث به نفسه وما هم به من السوء إلا أن يظهر ذلك على جوارحه بالعمل وهو الفحشاء فقال تعالى والله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ لما وقع منكم من الفحشاء التي أمركم بها الشيطان وفضلا لما وعدكم به من الفقر وهذه أعظم آية وأشدها مرت على سمع إبليس فإنه علم أنه لا ينفعه إغواؤه ولهذا لا يحرص إلا على الشرك خاصة لكونه سمع الحق يقول إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به وتخيل أن العقوبة على الشرك لا ينتهي أمدها والله ما قال ذلك فلا بد من عقوبة المشرك ومن سكناه في جهنم فإنه ليس بخارج من النار فهو مؤبد السكنى ولم يتعرض لانتهاء مدة العذاب فيها بالشقاء وليس الخوف إلا من ذلك لا من كونها دار إقامة لمن يعمرها فصدق الله بكون المشرك مأخوذا بشركه فهو بمنزلة إقامة الحد على من تعين عليه سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة فهي حدود إلهية يقيمها الحق على عبده إذا لم يغفر له أسبابها وجهل إبليس انتهاء مدة عقوبة المشرك من أجل شركه ولهذا طمع إبليس في الرحمة الإلهية التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وطمعه فيها من عين المنة لإطلاقها لأنه علم في نفسه أنه موحد وإنما سماه الله كافرا في قوله تعالى وكانَ من الْكافِرِينَ لأنه يستر عن العباد طرق سعادتهم التي جاء بها الشرع في حق كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك فقال فيه أَبى‏ واسْتَكْبَرَ وكانَ من الْكافِرِينَ ولم يقل من المشركين لأنه يخاف الله رب العالمين‏

[محاجة عيسى عليه السلام مع إبليس‏]

ويعلم أن الله واحد وقد علم حال مال الموحدين إلى أين يصير سواء كان توحيده عن إيمان أو عن نظر من غير إيمان كما

قال عيسى عليه السلام لإبليس لما عجز إبليس أن يطيعه عيسى عليه السلام فقال له إبليس يا عيسى قل لا إله إلا الله حرص أن يطيعه فقال له عيسى عليه السلام أقولها لا لقولك لا إله إلا الله‏

وقد علم إبليس أن جهنم لا تقبل خلود أهل التوحيد فيها وأن الله لا يترك فيها موحدا بأي طريق كان توحيده فعلى هذا القدر اعتمد إبليس في حق نفسه فعلم من وجه وجهل من وجه إذ لا يعلم الشي‏ء من جميع وجوهه إلا الله عز وجل الذي أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً سواء كان الشي‏ء ثابتا أو موجودا أو متناهيا أو غير متناه‏

قال لي الحق في ضميري *** ما أجهل الخلق بالأمور

ما عرف الأمر غير شخص *** منبئ عالم خبير

مهيأ للهدى معد *** ندب بأمر الورى بصير

قد علم الحق علم ذوق *** ليس بحدس ولا شعور

ولا تناء ولا تدان *** ولا خفاء ولا ظهور

«الوصل التاسع من خزائن الجود»

قال تعالى والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ فهو التفاف لا ينحل فإنه تعالى تمم فقال إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ فأتى بالاسم الذي يعطي الثبات والأمر ملتف بالأمر وإلى الرب المساق فلا بد من ثبات هذا الالتفاف في الدار الآخرة فعين أمر الدنيا عين أمر الآخرة غير إن موطن الآخرة لا يشبه موطن الدنيا لما في الآخرة من التخليص القائم بوجود الدارين فوقع التمييز بالدار والكل آخرة فالتف أمر الدنيا بأمر الآخرة لا عين الدنيا بأمر الآخرة ولا عين الدنيا بعين الآخرة ولكل دار أهل وجماعة والأمر ما هو عليه ذلك الجميع وإن اختلفت الأحوال فلا تزال الناس في الآخرة ينتقلون بالأحوال كما كانوا في الدنيا ينتقلون بالأحوال والأعيان ثابتة فإن الرب يحفظها فالانتقال هو الجامع وفيما ذا ينتقلون فذلك علم آخر يعلم من وجه آخر فمن كون الآخرة دار جزاء كما كانت الدنيا دار جزاء في الخير والشر ظهر في الآخرة ما ظهر من سعادة وشقاء فالشقاء للغضب الإلهي والسعادة

للرضى الإلهي فالرضي بسط الرحمة من غير انتهاء والغضب منقطع بالخبر النبوي فينتهي حكمه ولا ينتهي حكم الرضي ولا سيما

[أن الإنسان ولد على الفطرة وهي العلم بوجود الرب‏]

وقد قدمنا في كتابنا هذا أن الإنسان ولد على الفطرة وهي العلم بوجود الرب إنه ربنا ونحن عبيد له وأن الإنسان لا يقبض حين يقبض إلا بعد كشف الغطاء فلا يقبض إلا مؤمنا ولا يحشر إلا مؤمنا غير إن الله لما قال فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا فما آمنوا إلا ليندفع عنهم ذلك البأس فما اندفع عنهم وأخذهم الله بذلك البأس وما ذكر أنه لا ينفعهم في الآخرة ويؤيد ذلك قوله فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا حين رأوا البأس كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ في الْحَياةِ الدُّنْيا فهذا معنى قولنا فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ في رفع البأس عنهم في الحياة الدنيا كما نفع قوم يونس فما تعرض إلى الآخرة ومع هذا فإن الله يقيم حدوده على عباده حيث شاء ومتى شاء فثبت انتقال الناس في الدارين في أحوالهم من نعيم إلى نعيم ومن عذاب إلى عذاب ومن عذاب إلى نعيم من غير مدة معلومة لنا فإن الله ما عرفنا إلا إنا استروحنا من قوله في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ إن هذا القدر مدة إقامة الحدود والله أعلم فإنه لا علم لي بذلك من طريق الكشف فرحم الله عبدا أطلعه الحق على انتهاء مدة الشقاء فيلحقها في هذا الموضع من كتابي هذا فإني علمت ذلك مجملا من غير تفصيل ولما كان إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ والرب المصلح فإن الله يصلح بين عباده يوم القيامة

هكذا جاء في الخبر النبوي في الرجلين يكون لأحدهما حق على الآخر فيقفان بين يدي الله تعالى فيقول رب خذ لي بمظلمتي من هذا فيقول له ارفع رأسك فيرى خيرا كثيرا فيقول المظلوم لمن هذا يا رب فيقول لمن أعطاني الثمن فيقول يا رب ومن يقدر على ثمن هذا فيقول له أنت بعفوك عن أخيك فيقول قد عفوت عنه فيأخذ بيده فيدخلان الجنة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عند إيراده هذا الخبر فَاتَّقُوا الله وأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فإن الله يصلح بين عباده يوم القيامة

الكريم إذا كان من شأنه أن يصلح بين عباده بمثل هذا الصلح حتى يسقط المظلوم حقه ويعفو عن أخيه فالله أولى بهذه الصفة من العبد في ترك المؤاخذة بحقوقه من عباده فيعاقب من شاء بظلم الغير لا بحقه المختص به ولهذا الأخذ بالشرك من ظلم الغير فإن الله ما ينتصر لنفسه وإنما ينتصر لغيره والذي شاء سبحانه ينتصر له فإن الشركاء يتبرءون من أتباعهم يوم القيامة والرب أيضا المغذي والمربي فهو يربي عباده والمربي من شأنه إصلاح حال من يربيه فمن التربية ما يقع بها الألم كمن يضرب ولده ليؤدبه وذلك من جملة تربيته وطلب المصلحة في حقه لينفعه ذلك في موطنه كذلك حدود الله تربية لعباده حيث أقامها الله عليهم فهو يربيهم بها لسعادة لهم في ذلك من حيث لا يشعرون كما لا يشعر الصغير بضرب من يربيه إياه والرب أيضا السيد والسيد أشفق على عبده من العبد على نفسه فإنه أعلم بمصالحه ولن يسعى سيد في إتلاف عبده لأنه لا تصح له سيادة إلا بوجود العبد فإنها صفة إضافية فعلى قدر ما يزول من المضاف يزول من حكم المضاف إليه كالسلطان إذا لم يكن شغله دائما في أمور رعيته وإلا فما له من السلطنة إلا الاسم وهو معزول في نفس الأمر فإن المرتبة لا تقبله سلطانا إلا بشروطها فعلى قدر ما يشتغل عن رعيته بنفسه في لهوه وطربه فهو إنسان من جملة الناس لا حظ له في السلطنة وينقصه في الآخرة من أجر السلطنة وعزها وشموخها على قد ما فرط فيه من حقها في الدنيا بلهوه ولعبة وصيده وتغافله عن أمور رعيته وإذا سمع السلطان باستغاثة بعض رعيته عليه فلم يلتفت لذلك المستغيث ولا قضى فيه بما تعطيه مسألته إما له وإما عليه فقد شهد على نفسه بهذا الفعل أنه معزول وأنه ليس بسلطان ولا فرق بينه وبين العامة فما يقع مثل هذا إلا من سلطان جاهل لا معرفة له بقدر ما ولاة الله عليه ولا غرو أن هذا الفعل يوجب أن يحور عليه وباله يوم القيامة وتقوم عليه الحجة عند الله لرعيته فيبقى موبقا بعمله ولا ينفعه عند ذلك لهوه ولا ماله ولا بنوه ولا كل ما شغله عما تطلبه السلطنة بذاتها وأما الرب الذي هو المالك فلشدة ما يعطيه هذا الاسم من النظر فيما تستحقه المرتبة فيوفيها حقها فقد بان لك في هذا المساق معنى اختصاص هذا الاسم الرب الذي إليه المساق عند التفاف الساق بالساق فبه انتظم الأمران وثبت الانتقالان ومن علم ثبوت الوجود ومن هو مالكه وسيده ومصلحه والثابت له حكمه فيه علم إن الرب مالكه ومن علم منزلة عبوديته علم منزلة سيادة سيده فخافه ورجاه‏

وصدقه في أمنه إذا أمنه لعلمه بأنه السيد الوفي الصادق الغني ومهما تهدم شي‏ء من بيت الوجود رمه هذا السيد بيد عبده لأنه آلته في ذلك والمستخدم فعلى يده يكون صلاح ما تهدم منه ويأمره سيده في ذلك إما بمشافهة أو بتبليغ مبلغ يبلغ إليه من السيد بإصلاحه أو صورة حال تعطيه إصلاح ذلك من غير توقف على الأمر الآتي من عند السيد كالرهبانية الحسنة التي ابتدعها من ابتدعها فهو مأجور فيها موافقة بصورة الحال لما في نفس السيد وإن لم يأمر بها في النواميس في أهل الفترات فإن الشرع ما جاء إلا لمصالح الدنيا والآخرة فالآخرة لا تعرف إلا بأخبار خالقها وأنها في حكم العقل ممكنة والدنيا ومصالحها معلومة لأنها واقعة مشهودة فللنظر في مصالحها مجال بخلاف الآخرة فلا تتوقف مصالح الدنيا على ما تتوقف عليه مصالح الآخرة ولهذا ما خلت طائفة من ناموس تكون عليه لأن طلب المصالح ذاتي في الحيوان فكيف في الإنسان صاحب الفكر والرؤية فمن تدبر هذا الوصل رأى عجبا وعلم علما يعطيه الرفعة في الدنيا والآخرة وينضم إليه علم الجمع والفرق الذي في عين الجمع وعلم الأحوال والشئون وعلم الزمانين وعلم ما يختص بالكون وعلم القلوب التي وسعت الحق جل جلاله وعلم ما يقع به البقاء لهذا الوجود أعني الموجودات كلها وعلم العاقبة وهو وصل شريف‏

إذا صحت عبودة كل عبد *** تصح له السيادة في الوجود

فيحكم مثل سيده وتبدو *** عليه بذاك أعلام المزيد

ويخبرنا لسان الحال عنه *** بأن الأمر فيه من الشهود

له تعنو الوجوه إذا تبدي *** كما عنت الملائك بالسجود

فيسمو رفعة ويذل عزا *** فيدعي بالمراد وبالمريد

«الوصل العاشر من خزائن الجود»

وهذا وصل الأذواق وهو العلم بالكيفيات فهي لا تقال إلا بين أربابها إذا اجتمعوا على اصطلاح معين فيها وأما إذا لم يجتمعوا على ذلك فلا تنقال بين الذائقين وهذا لا يكون إلا في العلم بما سوى الله مما لا يدرك إلا ذوقا كالمحسوسات واللذة بها وبما يجده من التلذذ بالعلم المستفاد من النظر الفكري فهذا يمكن فيه الاصطلاح بوجه قريب وأما الذوق الذي يكون في مشاهدة الحق فإنه لا يقع عليه اصطلاح فإنه ذوق الأسرار وهو خارج عن الذوق النظري والحسي فإن الأشياء أعني كل ما سوى الله لها أمثال وأشباه فيمكن الاصطلاح فيها للتفهيم عند كل ذائق له فيها طعم ذوق من أي نوع كان من أنواع الإدراكات والبارئ ليس كمثله شي‏ء فمن المحال أن يضبطه اصطلاح فإن الذي يشهد منه شخص ما هو عين ما شهده شخص آخر جملة واحدة وبهذا يعرفه العارفون فلا يقدر عارف بالأمر أن يوصل إلى عارف آخر ما يشهده من ربه لأن كل واحد من العارفين شهد من لا مثل له ولا يكون التوصيل إلا بالأمثال فلو اشتركا في صورة لاصطلحا عليها بما شاء وإذا قبل ذلك واحد جاز أن يقبل جميع العالم فلا يتجلى في صورة واحدة لشخصين من العارفين ولكن قد رفع الله بعض عباده درجات لم يعطها لغير عباده الذين لم يصح لهم هذه الدرجات وهم العامة من أهل الرؤية فيتجلى لهم في صور الأمثال ولهذا تجتمع الأمة في عقد واحد في الله فيعتقد كل واحد من تلك الطائفة المعينة في الله ما يعتقده الآخر منها كمن اتفق من الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة والقدماء فقد اتفقوا على أمر واحد لم تختلف فيه تلك الطائفة فجاز إن يصطلحوا فيما اتفقوا عليه وأما لعارفون أهل الله فإنهم علموا إن الله لا يتجلى في صورة واحدة لشخصين ولا في صورة واحدة مرتين فلم ينضبط لهم الأمر لما كان لكل شخص تجل يخصه ورآه الإنسان من نفسه فإنه إذا تجلى له في صورة ثم تجلى له في صورة غيرها فعلم من هذا التجلي ما لم يعلمه من هذا التجلي الآخر من الحق هكذا دائما في كل تجل علم إن الأمر في نفسه كذلك في حقه وحق غيره فلا يقدر أن يعين في ذلك اصطلاحا تقع به الفائدة بين المتخاطبين فهم يعلمون ولا ينقال ما يعلمون ولا في قوة أصحاب هذا المقام الأبهج الذي لا مقام في الممكنات أعلى منه أن يضع عليه لفظا يدل على ما علمه منه إلا ما أوقعه تعالى وهو قوله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فنفى المماثلة فما صورة يتجلى فيها لأحد تماثل صورة أخرى‏

فعز الأمر أن يدري فيحكي *** وجل فليس يضبطه اصطلاح‏

فتجهله العقول إذا تراه *** تعبر عنه السنة فصاح‏

من أقوام مقلدة عقولا *** لا مكان يكون به الصلاح‏

فهم بالفكر قد جمعوا عليه *** على جهل فخانهم الفلاح‏

وقال العارفون بما رأوه *** فما اصطلحوا فجاءهم النجاح‏

فليس كمثله في الكون شي‏ء *** وليس له بنا إلا السراح‏

فبتقييدنا حكمنا عليه بالإطلاق وأما الأمر في نفسه فغير منعوت بتقييد ولا إطلاق بل وجود عام فهو عين الأشياء وما الأشياء عينه فلا ظهور لشي‏ء لا تكون هويته عين ذلك الشي‏ء فمن كان وجوده بهذه المثابة كيف يقبل الإطلاق أو التقييد هكذا عرفه العارفون فمن أطلقه فما عرفه ومن قيده فقد جهله‏

فالله ليس سواه مشهودا لنا *** وهو المنزه والمجمع بيننا

فالقيد والإطلاق فيه واحد *** وكلاهما حكم عليه له بنا

فانظر إليه بعينه إن كنت ذا *** لب تجده بالسريرة معلنا

هذا هو الحق الصريح لمن يرى *** ما قد رأيت مبرهنا ومبينا

[أن الله تعالى ما جعل للأرواح أجنحة إلا للملائكة]

واعلم أن الله تعالى ما جعل للأرواح أجنحة إلا للملائكة منهم لأنهم السفراء من حضرة الأمر إلى خلقه فلا بد لهم من أسباب يكون لهم بها النزول والعروج فإن موضوع الحكمة يعطي هذا فجعل لهم أجنحة على قدر مراتبهم في الذي يسرون به من حضرة الحق أويعرجون إليه من حضرة الخلق فهم بين الخلق والأمر يترددون ولذلك قالوا وما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فاعلم ذلك فإذا نزلت هذه السفرة على القلوب فإن رأتها قلوبا طاهرة قابلة للخير أعطتها من علم ما جاءت به على قدر ما يسعها استعدادها وإن رأتها قلوبا دنسة ليس فيها خير نهتها عن البقاء على تلك الحال وأمرتها بالطهارة بما نص لها الشارع إن كان في العلم بالله فبالعلم به مما يطلبه الفكر وجاء به الخبر النبوي عن الله وإن كان في الأكوان فبعلم الأحكام واعتقاداتها هذا ويلزمه حكمها في ذلك إذا وجدت القلوب وإذا لم تجدها كقلوب العارفين الذين هم في لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فلا تعرف الملائكة أين ذهبوا فهؤلاء هم الذين يأخذون عن الله من الوجه الخاص ما هم عليه من الأحوال فيجهلون ويؤخذ عليهم ما يأتون به ومن هنا أخذ خضر علمه فهؤلاء ينكر عليهم ولا ينكرون على أحد إلا بلسان الشرع فلسان الشرع هو الذي أنكر لا هم كالمسبح بحمد الله فالله هو الذي أثنى على نفسه بما يعلم نفسه عليه فإن قام فضول بالإنسان واستنبط له ثناء لم يجي‏ء بذلك اللفظ خطاب إلهي فما سبحه بحمده بل بما استنبطه من عنده فينقص عن درجة ما ينبغي فقل ما قاله عن نفسه ولا تزد في الرقم وإن كان حسنا فقد أبنت لك ما إذا عملت به كنت من أهل الحق والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الوصل الأحد عشر من خزائن الجود»

النار ناران نار الله واللهب *** والدار داران دار الفوز والعطب‏

وكلها سبب من كون منشئها *** فاجزع من الكون لا تجزع من السبب‏

وخف من العلم إن العلم يحكمه *** واجنح إلى السلم لا تجنح إلى الحرب‏

[أن النار جاء بها الحق مطلقة وجاء بها مضافة]

اعلم علمك الله أن النار جاء بها الحق مطلقة مثل قوله تعالى النار بالألف واللام حيث جاءت وجاء بها مضافة فمنها نار أضافها إلى الله مثل قوله نارُ الله الْمُوقَدَةُ ونار أضافها إلى غير الله مثل قوله لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ثم نعت هذه النار بنعوت وأخبر عنها بأخبار من الوقد والإطباق وغير ذلك وجعل لها حكما في الظاهر فجعلها ظرفا مثل قوله فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها فجاء بالظرف وحكما في الباطن وهو أن يكون ظاهر العبد ظرفا لها وهي نارُ الله الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ والأفئدة باطن الإنسان فهي تظهر في فؤاد الإنسان وعن هذه النار الباطنة ظهرت النار الظاهرة والعبد منشا

النارين في الحالين فما عذبه سوى ما أنشأه كذلك ما أغضب الحق سوى ما خلقه فلو لا الخلق ما غضب الحق ولو لا المكلف الذي أنشأ صورة النارين بعمله الظاهر والباطن ما تعذب بنار فما جنى أحد على أحد في الحقيقة والنظر الصحيح‏

فلا تعمل فلا تشقى *** فكن عبدا وكن حقا

فما ثم سوى ما قلته *** فانظر تر الحقا

عذاب الخلق بالخلق *** فحقا كنت أو خلقا

«و من ذلك»

فالنار منك وبالأعمال توقدها *** كما بصالحها في الحال تطفيها

فأنت بالطبع منها هارب أبدا *** وأنت في كل حال فيك تنشيها

أما لنفسك عقل في تصرفها *** وقد أتيت إليها اليوم أنبيها

قبل الممات فإن الله قال لنا *** بأنه يوم عرض الخلق يملؤها

[إن الله يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله‏]

واعلم‏

أنه تعالى لما ذكر على السنة رسله عليه السلام إن الله يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وأن الحق إذا قالت النار هَلْ من مَزِيدٍ لأنه وعدها أن يملأها وهي دار الغضب قال فيضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط

أي قد امتلأت وليست تلك القدم إلا غضب الله فإذا وضعه فيها امتلأت فإنها دار الغضب واتصف الحق بالرحمة الواسعة فوسعت رحمته جهنم بما ملأها به من غضبه فهي ملتذة بما اختزنته ورحم الله من فيها أعني في النار الذين هم أهلها فيجعل لهم من هذه الرحمة نعيما فيها كما نعم جهنم بما وضع فيها من الغضب الإلهي فإن المخلوق الذي من حقيقته أن يفنى لا يملؤه مخلوق فإنه كل ما حصل منه فيه أفناه كما ورد في نضج الجلود فلا يملأ مخلوقا إلا الحق وغضب الله حق فأنعم على جهنم به فوضعه فيها فامتلأت بحق كما امتلأت الجنة برضى الحق ورحمته‏

قد وسع الحق كل شي‏ء *** لأنه عين كل شي‏ء

فما ترى فيه غير حق *** في كل نور وكل في‏

«و من ذلك»

فنار الله ليس سوى وجودي *** ونار جهنم ذات الوقود

بآلهة تعبدها أناس *** وهم فيها على حكم الخلود

ولقد رأيت في هذا الوصل مشهدا هالني في الواقعة وتليت على سورة الواقعة بلسان امرأة من صالحات المؤمنات عرضا علي فكان من صورة ما تلته ثُلَّةٌ من الْأَوَّلِينَ ثُلَّةٌ من الْآخِرِينَ بحذف واو العطف ولم يكن عندي من ذلك سر قبل هذا فرددت عليها لتقرأ ذلك بحرف الواو فلم تفعل فرجعت إلى نفسي وعلمت ما نبهني الحق به في ذلك الحذف من الاقتطاع بين العالم فإذ جاء بالواو راعى ما يقع فيه الاشتراك في الصورة الظاهرة والمفهوم الأول وإذا أزال الواو راعى ما يقع به التمييز والانفراد الذي به حقيقة ذلك الشي‏ء لأنه لا حقيقة له إلا بما يتميز به فعلمت ما أراد بحذف الواو من نطقها بذلك وهو الله ليعلم أنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ مع وجود الأشياء وأنه بعدمها ووجودها منفي المماثلة وما بقي الأمر الأهل هو منفي المناسبة أم لا لأن الإيجاد بغير المناسبة لا يتصور وقد حصل الإيجاد وظهر المخلوق فعلمنا إن المناسب لا بد منه ولا يعطي المماثلة أصلا لأن الخلق كله لله والأمر كله لله فلا شركة فارتفعت المماثلة مع وجود المناسب الذي يطلبه الحق بذاته وكل خلق أضيف إلى خلق فمجاز وصورة حجابية ليعلم العالم من الجاهل وفضل الخلق بعضهم على بعض ليتحقق الشكر من الفاضل والطلب والافتقار من المفضول فيزاد الفاضل لشكره ويعطي المفضول لطلبه فكل في مزيد ولا يرتفع التفاضل كلما ارتقى الفاضل بالمزيد درجة ارتقى المفضول خلفه يطلبه درجة فالكل في ارتقاء من غير لحوق‏

ناداني الحق من وجودي *** في كل حال على الشهود

امتلأت ذاتكم فقلنا *** ملا محال هَلْ من مَزِيدٍ

ما يملأ الكون غير من قد *** جاد على الخلق بالوجود

وذلك الحق لا سواه *** ما رتبة الرب كالعبيد

من علم الحق علم ذوق *** لم يدر ما لذة السجود

فنار جهنم لها نضج الجلود وحرق الأجسام ونار الله نار ممثلة مجسدة لأنها نتائج أعمال معنوية باطنة ونار جهنم نتائج أعمال حسية ظاهرة ليجمع لمن هذه صفته بين العذابين كما فعل بأهل الجزية في إعطائها عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ فعذبهم بعذاب إخراج المال من أيديهم وبين الصغار والقهر الذي هو عذاب نفوسهم مما يجدون في ذلك من الحرج أ لا ترى المنافق في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النَّارِ فهو في نار الله لما كان عليه من إصرار الكفر وما له في الدرك الأول مقعد لما أتى به من الأعمال الظاهرة بخلاف الكافر فإن له من جهنم أعلاها وأسفلها فما عنده من يعصمه من نار الله ولا من نار جهنم وأما حكم الذي جحدها واستيقن الحق واعتقده فإنه على ضد أو عكس عذاب المنافق فإنه عالم بالحق يتحقق به في نفسه ولم يظهر ذلك على ظاهر نشأته فأظهر خلاف ما أضمر والنار إنما تطلب من الإنسان من لم تظهر عليه صورة حق من ظاهر وباطن فالعلم للباطن كالعمل للظاهر والجهل للباطن كترك الواجب للظاهر وهنا يتبين للإنسان مراتب وأسباب المؤاخذات الإلهية لعباده في الدار الآخرة فإذا استوفيت الحدود عمت الرحمة من خزانة الجود وهو قوله فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ... خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والْأَرْضُ الآية وهذا هو الحد الزماني لأن التبديل لا بد أن يقع بالسموات والأرض فتنتهي المدة عند ذلك وهو في حق كل إنسان من وقت تكليفه إلى يوم التبديل لأنه غير مخاطب ببقاء السموات والأرض قبل التكليف وهذا في حق السعيد والشقي فهما في نتائج أعمالهما هذه المدة المعينة فإذا انتهت انتهى نعيم الجزاء الوفاق وعذاب الجزاء وانتقل هؤلاء إلى نعيم المنن الإلهية التي لم يربطها الله بالأعمال ولا خصها بقوم دون قوم وهو عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ما له مدة ينتهي بانتهائها كما انتهى الكفر والايمان هنا بانتهاء عمر المكلف وانتهت إقامة الحدود في الأشقياء والنعيم الجزائي في السعداء بانتهاء مدة السموات والأرض إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ في حق الأشقياء إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وكذا وقع الأمر بحسب ما تعلقت به المشيئة الإلهية وما قال تعالى في الأشقياء عذابا غير مجذوذ كما قال تعالى في السعداء فعلمنا بذكر مدة السماء والأرض وحكم الإرادة في الأشقياء والإعراض عن ذكر العذاب إن للشقاء مدة ينتهي إليها حكمه وينقطع عن الأشقياء بانقطاعها وأن جزاء السعيد على مثل ذلك ثم تعم المنن والرضي الإلهي على الجميع في أي منزل كانوا فإن النعيم ليس سوى ما يقبله المزاج وغرض النفوس لا أثر للامكنة في ذلك فحيثما وجد ملاءمة الطبع ونيل الغرض كان ذلك نعيما لصاحبه فاعلم ذلك ومتعلق الاستثناء معلوم في الطائفتين لما كان عليه الكافر من نعيم الحياة الدنيا من نيل أغراضه وصحة بدنه ولما كان عليه المؤمن من عدم نيل أغراضه وأمراضه في الدنيا كل ذلك من زمان تكليف كل واحد من الطائفتين والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الوصل الثاني عشر من خزائن الجود» وهو الإهمال الإلهي‏

فلا يدري صاحبه ما له فإن كل عبد استحق العقاب على مخالفته لما جاء الرسول إليه به فقد أمهله الله وما أخذه وهو تحت حكم سلطان الاسم الحليم فهو كالمهمل فلا يدري هل تسبق له العناية بالمغفرة والعفو قبل إقامة الحد الإلهي عليه بالحكم أو يؤخذ فيقام عليه حدود جناياته إلى أجل معلوم ولما كان هذا الاحتمال يسوغ فيمن أمهله الله كانت صورة صاحب هذا الوصف صورة المهمل فإن الإهمال من جانب الحق ما يصح فإنه في علم الله السابق إما مغفور له وإما مؤاخذ بما جنى على نفسه فهو على خطر وعلى غير علم بما سبق له في الكتاب الماضي الحكم فإن الحكم يحكم على الحاكم العادل كما يحكم على المحكوم عليه فأما بالأخذ وإما بالعفو في الشخص الذي هو على نعت وحال يوجب له أحد الأمرين مما ذكرناه وليس إلا من أمهله الله فلم يؤاخذه في وقت المخالفة وكفى بالترقب للعارف العاصي الممهل الذي هو في صورة المهمل عذابا في حقه لأنه لا يدري ما عاقبة الأمر فيه وما من طائفة إلا وهي تحت ناموس شرعي حكمي أو وضع حكمي فلا تخلو أمة من مخالفة تقع منها لناموسها كان‏

ما كان فلا ينفك صاحب هذه المخالفة من مراقبة العفو أو المؤاخذة على ما قرره عليه واضع ناموسه فقد عمت النواميس جميع الأمم وهو قوله تعالى وإِنْ من أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ فهو إما نذير بأمر الله وإرادته أو نذير بإرادة الله لا بوحي نزل عليه يعلم به أنه من عند الله فأمر الله إنما متعلقة عين إيجاد إنذاره فيه فقيل لإنذاره كن في هذا العبد فكان فوجد الإنذار في نفسه ولم يدر من أين جاء فهذا الفرق بين الشرع الإلهي الذي جاءت به الرسل من عند الله وبين ما وضعته حكماء الأعصار لاتباعها لمصالحهم فمن وفى بحق ناموسه واحترمه ووقف عند حده ابتغاء رضوان الله فقد أحسن في عمله وأن الله لا يضيع أَجْرَ من أَحْسَنَ عَمَلًا والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه أو تعلم أنه يراك فهذا هو الحد الضابط للإحسان في العمل وما عدا هذا فهو سوء عمله فإن كان ممن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فلا يخلو إما أن تكون رؤية سوء العمل حسنا بعد اجتهاد يفي بما في وسع ذلك الشخص المجتهد فقد وفى الأمر حقه وهو صاحب عمل حسن ويكون حكم كونه سوء عمل يراه في اجتهاده سوء عين حكم المصيب للحق صاحب الأجرين ويكون هذا المزين له بهذه الصفة صاحب الأجر الواحد وإن لم يكن عن استيفاء الاجتهاد بقدر الوسع ورآه حسنا عن غير اجتهاد فهو في المشيئة فلا يدري بما ختم له ولما ذا يؤول أمره في مدة إقامة الحدود في الدنيا والآخرة فإنه ممن أسرف على نفسه فإن قنط من رحمة الله فما وفى الأمر حقه وساء ظنا بربه والرب عند ظن عبده به وقد نهى الله المسرف على نفسه عن القنوط فهل قنوطه بارتكاب هذا المنهي عنه الآتي بعد حصول إسرافه معتبر له أثر يحول بين المغفرة وبين صاحبه أو حكمه حكم كل إسراف سواه فهذا أيضا ممهل لا يدري ما الأمر فيه إذا أنصف الناظر لأنه قال إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً مع ارتفاع القنوط أو مع وجوده إلا المشرك الذي لم يبذل وسع نفسه في طلبه عدم الكثرة في الاسم الإلهي فإنه لا بد من مؤاخذته فتعين على العاقل معرفة المدد الزمانية واختلاف الأزمان والدهور والأعصار وما يجري من ذلك إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى في الأشخاص المقول عليها إنها أزمان وما يجري منها إلى غير أجل مسمى وما الحق الذي يوجب الشكر وما الحق الذي يوجب الصبر والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

[إن الايمان أمر عام وكذلك الكفر]

وأما الايمان فهو أمر عام وكذلك الكفر الذي هو ضده فإن الله قد سمي مؤمنا من آمن بالحق وسمي مؤمنا من آمن بالباطل وسمي كافرا من يكفر بالله وسمي كافرا من يكفر بالطاغوت وبين مال هؤلاء وهؤلاء والطريق التي جاءت ببيانها أيده بالدلالات على صحته أنه من عند الله المرجو في كل ملة ونحلة وعند كل طائفة والأعمال الصالحة رأسها الايمان فهي تابعة له كان الايمان بما كان وما في الأمور الوجودية أغمض من هذه المسألة لأن الله قرن العمل السيئ بالتزيين حتى يراه العامل حسنا فيتخذه صالح عمل وعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ فجاء بالألف واللام للشمول في السبيل فإنها كلها سبل يراها من جاهد في الله فأبان له ذلك الجهاد السبل الإلهية فسلك منها الأسد في نفسه وعذر الخلق فيما هم عليه من السبل وانفرد بالله فهو على نور من الله‏

إذا عرف الله من فعله *** فإهماله عين إمهاله‏

فعين تراه بتفصيله *** وعين تراه بإجماله‏

فقوم على حكم إحسانه *** وقوم على حكم إجلاله‏

فيقبض شخصا بتعريفه *** ويبسط شخصا بإهماله‏

فسبحان من حكمه واحد *** بإعراضه أو بإقباله‏

وسبحان من عم إحسانه *** بإدلاله أو بإدلاله‏

وكل بإعداده قابل *** لخسرانه ولإفضاله‏

والله يَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ ويَهْدِي من يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏

«الوصل الثالث عشر من خزائن الجود»

مال الأمر الرجوع من الكثرة إلى الواحد من مؤمن ومشرك لأن المؤمن الذي يعطي كشف الأمور على ما هي عليه يعطي ذلك وهو قوله تعالى فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وذلك قبل خروجه من الدنيا فما قبض أحد إلا على كشف حين يقبض فيميل إلى الحق عند ذلك‏

والحق التوحيد والايمان به فمن حصل له هذا اليقين قبل الاحتضار فمقطوع بسعادته واتصالها فإن اليقين عن النظر الصحيح والكشف الصريح يمنعه من العدول عن الحق فهو على بينة من الأمر وبصيرة ومن حصل له هذا اليقين عند الاحتضار فهو في المشيئة وإن كان المال إلى السعادة ولكن بعد ارتكاب شدائد في حق من أخذ بذنوبه ولا يكون الاحتضار إلا بعد أن يشهد الأمر الذي ينتقل إليه الخلق وما لم يشاهد ذلك فما حضره الموت ولا يكون ذلك احتضارا فمن آمن قبل ذلك الاحتضار بنفس واحد أو تاب نفعه ذلك الايمان والمتاب عند الله في الدار الآخرة وحاله عند قبض روحه حال من لا ذنب له وسواء رده لذلك شدة ألم ومرض أوجب له قطع ما يرجوه من الحياة الدنيا أو غيره فهو مؤمن تائب ينفعه ذلك فإنه غير محتضر فما آمن ولا تاب إلا لخميرة كانت في باطنه وقلبه لا يشعر بها فما مال إلى ما مال إليه إلا عن أمر كان عليه في نفسه لم يظهر له حكم على ظاهره ولا له في نفسه إلا في ذلك الزمن الفرد الذي جاء في الزمان الذي يليه الاحتضار الذي يوجب له الايمان المحصل في المشيئة

فكم بين محكوم له بسعادة *** وما بين من تقضي عليه مشيئته‏

فذلك تخليص عزيز مقدس *** وذاك على حال أرته حقيقته‏

فلولاه ما بانت عليه طريقته *** ولا شهدت يوما عليه خليقته‏

[إن الله جعل في الكون قيامتين قيامة صغرى وقيامة كبرى‏]

فإذا انتقل العبد من الحياة الدنيا إلى حياة العرض الأكبر فإن الله عز وجل قد جعل في الكون قيامتين قيامة صغرى وقيامة كبرى فالقيامة الصغرى انتقال العبد من الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ في الجسد الممثل وهوقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من مات فقد قامت قيامته‏

ومن كان من أهل الرؤية فإنه يرى ربه‏

فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول لما حذر أمته الدجال إن الله لا يراه أحد حتى يموت‏

والقيامة الكبرى هي قيامة البعث والحشر الأعظم الذي يجمع الناس فيه وهو في القيامة الكبرى أعني الإنسان ما بين مسئول ومحاسب ومناقش في حسابه وغير مناقش وهو الحساب اليسير وهو عرض الأعمال على العبد من غير مناقشة والمناقشة السؤال عن العلل في الأعمال فالسؤال عام في الجميع حتى في الرسل كما قال يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ فالسؤال على نوعين سؤال على تقرير النعم على طريق مباسطة الحق للمسئول فهو ملتذ بالسؤال وسؤال على طريق التوبيخ أيضا لتقرير النعم فهو في شدة

فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لأصحابه وقد أكلوا تمرا وماء عن جوع إنكم لتسألون عن نعيم هذا اليوم‏

وهذا السؤال موجه للإنذار والبشارة في قوم مخصوصين وهم أهل ذلك المجلس وهو تنبيه بما هو عليه الأمر في حق الجميع فما خلق الله العالم بعد هذا التقرير إلا للسعادة بالذات ووقع الشقاء في حق من وقع به بحكم العرض لأن الخير المحض الذي لا شر فيه هو وجود الحق الذي أعطى الوجود للعالم لا يصدر عنه إلا المناسب وهو الخير خاصة فلهذا كان للعالم الخير بالذات ولكون العالم كان الحكم عليه بالإمكان لاتصافه بأحد الطرفين على البدل فلم يكن في رتبة الواجب الوجود لذاته عرض له من الشر الذي هو عدم نيل الغرض وملاءمة الطبع ما عرض لأن إمكانه لا يحول بينه وبين العدم فبهذا القدر ظهر الشر في العالم فما ظهر إلا من جهة الممكن لا من جانب الحق ولذلك‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لله في دعائه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم والخير كله في يديك والشر ليس إليك‏

وإنما هو إلى الخلق من حيث إمكانه‏

فلذات الحق نحن السعدا *** ولا مكان الورى كان الشقا

ولقاء الحق حق واجب *** فأبشروا بكل خير في اللقا

فلنا منا فناء وبقاء *** ولنا منه وجود ولقا

فهو خير ما له ضد يرى *** فإذا ما الخير بالخير التقى‏

كان خيرا كل ما كان به *** مذهب الشر وأسباب التقا

[أن الأجسام نواويس الأرواح‏]

واعلم أن الأجسام نواويس الأرواح ومذاقتها وهي التي حجبتها إن تشهد وتشهد فلا ترى ولا ترى إلا بمفارقة هذه الضرائح فناء عنها لا انفصالا فإذا فنيت عن شهودها وهي ذات بصر شهدت موجدها بشهودها نفسها فمن عرف نفسه‏

عرف ربه كذلك من شهد نفسه شهد ربه فانتقل من يقين علم إلى يقين عين فإذا رد إلى ضريحه رد إلى يقين حق من يقين عين لا إلى يقين علم ومن هنا يعلم الإنسان تفرقة الحق بإخباره الصدق بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين فاستقر عنده كل حكم في رتبته فلم تلتبس عليه الأشياء وعلم أنه لم تكذبه الأنباء فمن عرف الله بهذا الطريق فقد عرف وعلم حكمة تكوين الجوهر في الصدف عن ماء فرات في ملح أجاج فصدفته جسمه وملحه طبيعته ولهذا ظهر حكم الطبيعة على صدفته فإن الملحة البياض وهو بمنزلة النور الذي يكشف به فتحقق بهذا الدليل وعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ‏

«الوصل الرابع عشر» من خزائن الجود

يقرع الأسماع ويعطي الاستمتاع ويجمع بين القاع واليفاع لما كان المقصود من العالم الإنسان الكامل كان من العالم أيضا الإنسان الحيوان المشبه للكامل في النشأة الطبيعية وكانت الحقائق التي جمعها الإنسان متبددة في العالم فناداها الحق من جميع العالم فاجتمعت فكان من جمعيتها الإنسان فهو خزانتها فوجوه العالم مصروفة إلى هذه الخزانة الإنسانية لترى ما ظهر عن نداء الحق بجميع هذه الحقائق فرأت صورة منتصبة القامة مستقيمة الحركة معينة الجهات وما رأى أحد من العالم مثل هذه الصورة الإنسانية ومن ذلك الوقت تصورت الأرواح النارية والملائكة في صورة الإنسان وهو قوله تعالى فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا

فإن الأرواح لا تتشكل إلا فيما تعلمه من الصور ولا تعلم شيئا منها إلا بالشهود فكانت الأرواح تتصور في كل صورة في العالم إلا في صورة الإنسان قبل خلق الإنسان فإن الأرواح وإن كان لها التصور فما لها القوة المصورة كما للإنسان فإن القوة المصورة تابعة للفكرة التي هي صفة للقوة المفكرة فالتصور للأرواح من صفات ذات الأرواح النفسية لا المعنوية لا لقوة مصورة تكون لها إلا أنها وإن كان لها التصور ذاتيا فلا تتصور إلا فيما أدركته من صور العالم الطبيعي ولهذا كان ما فوق الطبيعة من الأرواح لا يقبلون التصور لكونهم لا علم لهم بصور الأشكال الطبيعية وليس إلا النفس والعقل والملائكة المهيمون دنيا وآخرة فما فوق الطبيعة لا يشهدون صور العالم وإن كان بعضهم كالنفس الكلي يعطي الإمداد بذاته لعالم الطبيعة من غير قصد كما تعطي الشمس ضوءها لذاتها من غير قصد منها لمنفعة أو ضرر وهذا معنى الذاتي لها ونسبة العلم والعمل نسبة ذاتية لها لعلمها بنفسها لا بما فوقها من علتها وغيرها وأما عملها فينسب إليها العمل كما ينسب إلى الشمس تبييض الشقة وسواد وجه القصار وكما ينسب إلى النار التسخين والإحراق فيقال بيضت الشمس كذا وأظهرت الشمس كذا وأحرقت النار كذا وأنضجت كذا وسخنت كذا فهكذا هو الأمر في العالم إن كنت ذا لب وفطنة والله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ وعَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ولهذا يتجلى في كل صورة فجميع العالم برز من عدم إلى وجود إلا الإنسان وحده فإنه ظهر من وجود إلى وجود من وجود فرق إلى وجود جمع فتغير عليه الحال من افتراق إلى اجتماع والعالم تغير عليه الحال من عدم إلى وجود فبين الإنسان والعالم ما بين الوجود والعدم ولهذا ليس كمثل الإنسان من العالم شي‏ء

فما أنا مخضة الوجود *** إلا لكونى من الوجود

ليس لأمر على حكم *** من عدم يقضي في وجودي‏

فليس لي في الكتاب مثل *** إذاقة لذة المزيد

لذلك اختص بالسجود *** كوني وكونت للسجود

اسجد لي الأمر كل كون *** إلا الذي قال بالجحود

ولما تحلل الجامد تغيرت الصور فتغير الاسم فتغير الحكم ولما تجمد المائع تغيرت الصورة فتغير الاسم فتغير الحكم فنزلت الشرائع تخاطب الأعيان بما هي عليه من الصور والأحوال والأسماء فالعين لا خطاب عليه من ذاته ولا حكم عليه من حقيقته ولهذا كان له المباح من الأحكام المشروعة وفعل الواجب والمندوب والمحظور والمكروه من الملمات الغريبة في وجوده وذلك مما قرن به من الأرواح الطاهرة الملكية وغير الطاهرة الشيطانية فهو يتردد بين ثلاثة أحكام حكم ذاتي له منه عليه وحكمان قرنا به وله القبول والرد بحسب ما سبق به الكتاب وقضى به الخطاب فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسَعِيدٌ كما كان من القرباء مقرب وطريد فهو لمن أجاب وعلى الله تبيان الخطاء من الصواب وغاية الأمر أن الله عنده حسن المآب‏

وما قرن الله قط بالمآب إليه سوء تصريحا وغاية ما ورد في ذلك في معرض التهديد في الفهم الأول وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فسيعلمون من كرم الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ قبل المؤاخذة لمن غفر له وبعد المؤاخذة لانقطاعها عنهم فرحمته واسعة ونعمته سابغة جامعة وأنفس العالم فيها طامعة لأنه كريم من غير تحديد ومطلق الجود من غير تقييد ولذلك حشر العالم يوم القيامة كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ لأن الرحمة منبثة في المواطن كلها فانبث العالم في طلبها لكون العالم على أحوال مختلفة وصور متنوعة الوجوه فتطلب بذلك الانبثاث من الله الرحمة التي تذهب منه تلك الصورة التي تؤديه إلى الشقاء فهذا سبب انبثاثهم في ذلك اليوم وكذلك الجبال الصلبة تكون كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ لما خرجت عنه من القساوة إلى اللين الذي يعطي الرحمة بالعباد ولا يدري ما قلناه إلا أهل الشهود والمتحققون بحقائق الوجود وأما من بقي مع ثقليته فإن الثقلين ما سماهما الله بهذا الاسم إلا ليميزهما به عمن سواهما دائما حيث كانا فلا تزال أرواحهما تدبر أجساما طبيعية وأجسادا دنيا وبرزخا وآخرة وكذلك منازلهما التي يسكنونها من جنس نشأتهما فما لهما نعيم إلا بالمشاكل لطبعهما وأما القائلون بالتجريد فهم مصيبون فإن النفس الناطقة مجردة في الحقيقة عن هذه الأجسام والأجساد الطبيعية وما لها فيها إلا التدبير غير أنهم ما عرفوا إن هذا التدبير لهذه النفوس دائما أبدا فهم مصيبون من هذا الوجه إن قصدوه مخطئون إن قالوا بأنها تنفصل عن التدبير فالنفوس الناطقة عندنا متصلة بالتدبير منفصلة بالذات والحد والحقيقية الشخصية فلا متصلة ولا منفصلة والتدبير لها ذاتي كمثل الشمس فإن لها التدبير الذاتي فيما تنبسط عليه أنوار ذاتها غير إن الفرق بين الشمس والقمر والكواكب وأكثر الأسباب التي جعل الله فيها مصالح لعالم لذاتها لا علم لها بذلك والنفوس الناطقة وإن كان تدبيرها ذاتيا فهي عالمة بما تدبره فالنفوس الفاضلة منها التي لها الكشف تطلع على جزئيات ما هي مدبرة لها بذاتها وغير الفاضلة لا تعلم بجزئيات ذلك وقد تعلم ولا تعلم أنها تعلم وهكذا كل روح مدبرة فمن له التدبير للعالم هو الأعلم بجزئيات العالم وهو الله تعالى العالم بالجزء المعين والكل مع التدبير الذاتي الذي لا يمكن إلا هو فالنفوس السعيدة مراكبها النفوس الحيوانية في ألذ عيش وأرغده يوم القيامة أعطاها ذلك الموطن كما أنها في أشد ألم وأضيق حبس إذا شقيت وحبست في المكان الضيق كما قال تعالى وإِذا أُلْقُوا مِنْها يعني من جهنم مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً هذه الأحوال للنفوس الحيوانية والنفوس الناطقة ملتذة بما تعلمه من اختلاف أحوال مراكبها لأنها في مزيد علم بذلك إلهي مناسب أ لا ترى ذوقا هنا في شخصين لكل واحد منهما نفس ناطقة ونفس حيوانية فيطرأ على كل واحد من الشخصين سبب مؤلم فيتألم به الواحد ويتنعم به الآخر لكون الواحد وإن كان ذا نفس ناطقة فحيوانيته غالبة عليه فتبقى النفس الناطقة منه معطلة الآلة الفكرية النظرية والآخر لم تتعطل نفسه الناطقة عن نظرها وفكرها ومشاهدتها ومن أين قام بنفسها الحيوانية ذلك الأمر المؤلم حتى يوصلها ذلك إلى السبب الأول فتستغرق فيه فتتبعها في ذلك النفس الحيوانية فيزول عنها الألم مع وجود السبب وكلا الشخصين كما قلنا ذو نفس ناطقة وسبب مؤلم فارتفع الألم في حق أحد الشخصين ولم يرتفع في حق الآخر فإن الحيوان بنور النفس الناطقة يستضي‏ء فإذا صرفت النفس الناطقة نظرها إلى جانب الحق تبعها نورها كما يتبع نور الشمس الشمس بغروبها وأفولها فتلتذ النفس الحيوانية بما يحصل لها من الشهود لما لم تره قبل ذلك فلا ألم ولا لذة إلا للنفوس الحيوانية إن كان كما ذكرناه فهي لذة علمية وإن كان عن ملاءمة طبع ومزاج ونيل غرض فلذة حسية والنفس الناطقة علم مجرد لا يحتمل لذة ولا ألما ويطرأ على الإنسان الذي لا علم له بالأمر على ما هو عليه في نفسه تلبيس وغلط فيتخيل إن النفس الناطقة لها التذاذ بالعلوم حتى قالوا بذلك في الجناب الإلهي وإنه بكماله مبتهج فانظر بذلك يا أخي ما أبعد هؤلاء من العلم بحقائق الأمور وما أحسن‏

قول الشارع من عرف نفسه عرف ربه‏

فلم ينسب إليه إلا ما ينسبه لنفسه فتعالى الله عز وجل عن أن يحكم عليه حال أو محل بل لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ عصمنا الله وإياكم من الآفات وبلغ بنا أرفع الدرجات وأبعد النهايات‏

«الوصل الخامس عشر» من خزائن الجود

وهو ما تخزنه الأجسام الطبيعية من الأنوار التي بها يضي‏ء كونها وإن‏

ظهرت في أعيننا مظلمة كما يخرج اللبن من بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ تخزنه ضروع مواشيهم وإبلهم لهم كما يخرج من بطون النحل شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ والله يقول الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولو لا النور ما ظهر للممكنات عين وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه اللهم اجعل في سمعي نورا وفي بصري نورا وفي شعري نورا حتى قال واجعلني نورا

وهو كذلك وإنما طلب مشاهدة ذلك حتى يظهر للابصار فإن النور المعنوي خفي لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فأراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يدرك بالحس ما أدركه بالإيمان والعقل وذلك لا يظهر إلا لأرباب المجاهدات‏

النار في أحجارها مخبوءه *** لا تصطلي ما لم تثرها الأزند

فنحن نعلم أن ثم نار أو لا نرى لها تسخينا في الحجر ولا إحراقا في المرخ والعفار وهكذا جميع الموجودات لمن نظر واستبصر أو من شاهد فاعتبر فالحق مخبوء في الخلق من كونه نورا فإذا قدحت زناد الخلق بالفكر ظهر نور الحق‏

من عرف نفسه عرف ربه‏

فمن عرف القدح وميز الزناد فالنار عنده فهو عَلى‏ نُورٍ من رَبِّهِ متى شاء أظهرها فهو الظاهر ومتى شاء أخفاها فهو الباطن فإذا بطن ف لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وإذا ظهر ف هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فالقادح ما جاء بنور من عنده فالحق معنا أينما كنا في عدم أو وجود فبمعيته ظهرنا فنحن ذو نور ولا شعور لنا

فلله ما لله من عين كوننا *** وللكون ما للكون من نور ذاته‏

فنحن كثير والمهيمن واحد *** توحد في أسمائه وصفاته‏

وإنما قلنا نحن كثير وهو واحد لأن الأزند كثير والنار من كل زناد منها واحد العين فسواء كان الزناد حجرا أو شجرا ولهذا اختلفت المقالات في الله والمطلوب واحد فكل ما ظهر لكل طالب فليس إلا الله لا غيره فالكل منه بدأ وإليه يعود وإنما سمي طالب النار في الزناد قادحا لأن طلب الحق من الخلق ليعرف ذاته قدح في العلم الصحيح بذاته فإنه لا يعلم منه إلا المرتبة وهي كونه إلها واحدا خاصة فإن رام العلم بذاته وهي المشاهدة ولا تكون المشاهدة إلا عن تجليه ولا يكون ذلك إلا بالقدح فيه فإنك لا تراه إلا مقيدا قيده عقلك بنظره وتجلى لك في صورة تقييدك وهذا قدح فيما هو عليه في نفس الأمر ولو لا ما أنت في نفسك ذو نور عقلي ما عرفته وذو نور بصري ما شهدته فما شهدته إلا بالنور وما ثم نور إلا هو فما شهدته ولا عرفته إلا به فهو نور السموات من حيث العقول والأرض من حيث الأبصار وما جعل الله عز وجل صفة نوره إلا بالنور الذي هو المصباح وهو نور أرضي لا سماوي فشبه نوره بالمصباح ورؤيتنا إياه كرؤيتنا الشمس والقمر أي وإن كان كالمصباح فإنه يعلو في الرؤية والإدراك عن رؤية المصباح فهو بنفسه أرضى لأنه لو لا نزوله إلينا ما عرفناه وهو بالرؤية سماوي فانظر ما أحكم علم الشارع بالله أين هو من نظر العقل ولهذا قال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لأنه نور والنور لا يدرك إلا بالنور فلا يدرك إلا به وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ لأنه نور وهُوَ اللَّطِيفُ لأنه يلطف ويخفى في عين ظهوره فلا يعرف ولا يشهد كما يعرف نفسه ويشهدها الْخَبِيرُ علم ذوق وما قال لا تدركه الأنوار

فلو لا النور لم تشهده عين *** ولو لا العقل لم يعرفه كون‏

فبالنور الكوني والإلهي كان ظهور الموجودات التي لم تزل ظاهرة له في حال عدمها كما هي لنا في حال وجودها فنحن ندركها عقلا في حال عدمها وندركها عينا في حال وجودها والحق يدركها عينا في الحالين فلو لا إن الممكن في حال عدمه على نور في نفسه ما قبل الوجود ولا تميز عن المحال فبنور إمكانه شاهده الحق وبنور وجوده شاهده الخلق فبين الحق والخلق ما بين الشهودين فالحق نور في نور والخلق نور في ظلمة في حال عدمه وأما في حال وجوده فهو نور على نور لأنه عين الدليل على ربه وما يحتمل هذا الوصل أكثر من هذا فإن فيه مكرا خفيا لعدم المثل للحق ولا يتمكن أن يشهد ويعلم إلا بضرب مثل ولهذا جعل لنا مثل نوره في السموات والأرض كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ثم قال نُورٌ عَلى‏ نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ من هذين النورين فيعلم المشبه والمشبه به من يَشاءُ ويَضْرِبُ الله الْأَمْثالَ فجعله ضرب مثل للتوصيل ويجوز في ضرب الأمثال المحال الذي لا يمكن وقوعه فكما لا يكون المحال الوجود وجودا بالفرض كذلك‏

لا يكون الخلق حقا بضرب المثل فما هو موجود بالفرض قد لا يصح أن يكون موجودا بالعين ولو كان عين المشبه ضرب المثل لما كان ضرب مثل إلا بوجه فلا يصح أن يكون هنا ما وقع به التشبيه وضرب المثل موجودا إلا بالفرض فعلمنا بضرب هذا المثل إننا على غاية البعد منه تعالى في غاية القرب أيضا ولهذا قبلنا ضرب المثل فجمعنا بين البعد والقرب وتسمى لنا بالقريب والبعيد فكما هو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ هو أقرب من حَبْلِ الْوَرِيدِ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فهو القريب بالمثل البعيد بالصورة لأن فرض الشي‏ء لا يكون كهو ولا عين الشي‏ء وفي هذا الوصل إفاضة الحاج من عرفة إلى جمع ومن جمع إلى مني فإن إفاضة عرفات ليلا وإفاضة جمع نهار الصائم وإن شئت قلت نهارا من غير إضافة والحج يجمع ذلك كله فقبل تفصيل اليوم الزماني الذي هو الليل والنهار كما إن فيه ما يشوش العقول عن نفوذ نورها إلى رؤية المطلوب وهو حجاب لطيف لقربه من المطلوب فإن الشوق أبرح ما يكون إذا أبصر المحب دار محبوبه قال الشاعر

وأبرح ما يكون الشوق يوما *** إذا دنت الديار من الديار

فمن أعجب الأمور أن بالإنسان استتر الحق فلم يشهد وبالإنسان ظهر حتى عرف فجمع الإنسان بين الحجاب والظهور فهو المظهر الساتر وهو السيف الكهام الباتر يشهد الحق منه ذلك لأنه على ذلك خلقه ويشهد الإنسان من نفسه ذلك لأنه لا يغيب عن نفسه وإنه مريد للاتصال بما قد علم أنه لا يتصل به فهو كالحق في أمره من أراد منه أن يأمره بما لا يقع منه فهو مريد لا مريد فلو لا ما هو الحق صدفة أعياننا ما كنا صدفة عين العلم به وفي الصدف يتكون اللؤلؤ فما تكونا إلا في الوجود وليس الوجود إلا هو ولكنه ستر علينا ستر حفظ ثم أظهرنا ثم تعرف إلينا بنا وأحالنا في المعرفة به علينا فإذا علمنا بنا سترنا على علمنا به فلم يخرج الأمر عن صدف ساتر لؤلؤ ولكن تارة وتارة

فذلك التبر ونحن الصدى *** وما لنا كون بغير الندا

فمن يناديه يكن كأنه *** وليس ذاك الكون منه ابتدا

لأنه يحدث عن قوله *** وقوله كن لا يكون سدى‏

فمنه كنا وبه قد بدا *** هذا الذي في عينه قد بدا

فهو الندى ليلا كما كنته *** كما أنا منه نهارا سدى‏

وإن تشأ عكس الذي قلته *** فإنه الليل ونحن الندى‏

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الوصل السادس عشر» من خزائن الجود

اعلم أن الله تعالى ما خلق شيئا من الكون إلا حيا ناطقا جمادا كان أو نباتا أو حيوانا في العالم الأعلى والأسفل مصداق ذلك قوله تعالى وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً فلم يعجل عليكم بالعقوبة غَفُوراً ساترا تسبيحهم عن سمعكم فكل شي‏ء في عالم الطبيعة جسم متغذ حساس فهو حيوان ناطق بين جلي وخفي في كل فصل فصل من فصول هذا الحد فكل ما نقص منه في حد محدود فذلك النقص هو ما خفي منه في حق بعض الناس وما ظهر منه فهو الجلي ولذلك اختلفت الحدود في الجماد والنبات والحيوان والإنسان والكل عند أهل الكشف حيوان ناطق مسبح بحمد الله تعالى ولما كان الأمر هكذا جاز بل وقع وصح أن يخاطب الحق جميع الموجودات ويوحي إليها من سماء وأرض وجبال وشجر وغير ذلك من الموجودات ووصفها بالطاعة لما أمرها به وبالإباءة لقبول عرضه وأسجد له كل شي‏ء لأنه تجلى لكل شي‏ء وأوحى إلى كل شي‏ء بما خاطب ذلك الشي‏ء به فقال للسماء والأرض ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ف أَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها والأرض كذلك أوحى لها وأَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وأَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني محمدا بالخطاب صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم رُوحاً من أَمْرِنا فعم وحيه الجميع ولكن بقي من يطيع ومن لا يطيع وكيف فضل السميع للسميع فمن أعجب الأشياء وصف السامع بالصمم والبصير بالعمى والمتكلم بالبكم فما عقل ولا رجع وإن فهم‏

فالجحد من صفة النفوس إذا أبت *** كالنار تحرق بالقبول وإن خبت‏

لو لا وجود الاختبار وجبرها *** فيه لما أبت النفوس إذا أبت‏

قال الله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ولذلك يقولون لجلودهم إذا شهدت عليهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فتقول الجلود أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فعمت فكانت الجلود أعلم بالأمر ممن جعل النطق فصلا مقوما للإنسان خاصة وعرى غير الإنسان عن مجموع حده في الحيوانية والنطق فمن فاته الشهود فقد فاته العلم الكثير فلا تحكم على ما لم تر وقل الله أعلم بما خلق وأرض الإنسان جسده وقد شهد عليه بما عمل أ تراه شهد عليه بما لم يعلم أ تراه علم من غير وحي إلهي جاءه من عند الله عز وجل كما نشهد نحن على الأمم بما أوحى الله تعالى به إلينا من قصص أنبيائه مع أممهم‏

فيشهد الشخص بما لم يرا *** إذا أتاه الخبر الصادق‏

فالكل قد أوحى إليه الذي *** أوحى به فكله ناطق‏

فانظر فما في كونه غيره *** فهو وجود الخلق والخالق‏

فإذا انحصر الأمر بين خبر صادق وشهود علمنا إن العالم كله مكشوف له‏

ما ثم ستر ولا حجاب *** بل كله ظاهر مبين‏

فيعلم الحق دون شك *** وسره في الحشا دفين‏

فيوحي بالتكوين فيكون ويشهده ما شاء فيرى فشهادته بالخبر الصادق كشهادته بالعيان الذي لا ريب فيه‏

مثل شهادة خزيمة فأقامه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في شهادته مقام رجلين فحكم بشهادته وحده‏

فكان الشهادة بالوحي أتم من الشهادة بالعين لأن خزيمة لو شهد شهادة عين لم تقم شهادته مقام اثنين وبه حفظ الله علينا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ من أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة إذ لم يقبل الجامع للقرآن آية منه إلا بشهادة رجلين فصاعدا إلا هذه الآية لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ من أَنْفُسِكُمْ فإنها ثبتت بشهادة خزيمة وحده رضي الله عنه‏

«وصل وتنبيه»

وأما التحدث بالأمور الذوقية فيصح لكن لا على جهة الأفهام ولكن كل مذوق له مثال مضروب فتفهم منه ما يناسب ذلك المثال خاصة فاذن ما ينبئ عن حقيقة إلا في الذوق المشترك الذي يمكن الاصطلاح عليه كالتحدث بالأمور المحسوسة مع كل ذي حس أدرك ذلك المخبر عنه بحسه وعرف اللفظ الذي يدل عليه بالتواطؤ بين المخاطبين فنحن لا نشك إذا تلي علينا القرآن إنا قد سمعنا كلام الله وموسى عليه السلام لما كلمه الله قد سمع كلام الله وأين موسى منا في هذا السماع فعلى مثل هذا تقع الأخبار الذوقية فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله في نفسه من الله برفع الوسائط ما يمكن أن يساوي في الإدراك من يسمعه بالترجمة عنه فإن الواحد صاحب الواسطة هو مخير في الإخبار بذلك عن الواسطة إن شاء وعن صاحب الكلام إن شاء وهكذا جاء في القرآن قال تعالى في إضافة الكلام إليه فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله فأضاف الكلام إلى الله وقال في إضافة ذلك الكلام إلى الواسطة والمترجم فقال مقسما إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ وقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ فإن فهمت عن الإله ما ضمنه هذا الخطاب وقفت على علم جليل وكذلك ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فأضاف الحدوث إلى كلامه فمن فرق بين الكلام والمتكلم به اسم مفعول فقد عرف بعض معرفة وما أسمع الرحمن كلامه بارتفاع الوسائط إلا ليتمكن الاشتياق في السامع إلى رؤية المتكلم لما سمعه من حسن الكلام فتكون رؤية المتكلم أشد ولا سيما ورسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول إن الله جميل يحب الجمال‏

والجمال محبوب لذاته وقد وصف الحق نفسه به فشوق النفوس إلى رؤيته وأما العقول فبين واقف في ذلك موقف حيرة فلم يحكم أو قاطع بأن الرؤية محال لما في الإبصار من التقييد العادي فتخيلوا إن ذلك التقييد في رؤية الأبصار أمر طبيعي ذاتي لها وذلك لعدم الذوق وربما يتقوى عند المؤمنين منهم إحالة ذلك بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وللابصار إدراك وللبصائر إدراك وكلاهما محدث فإن صح أن يدرك بالعقل وهو محدث صح أو جاز أن يدرك بالبصر لأنه لا فضل لمحدث على محدث في الحدوث وإن اختلفت الاستعدادات فجائز على كل قابل للاستعدادات أن يقبل استعداد الذي قبل فيه‏

أنه أدرك الحق بنظره الفكري فأما إن ينفوا ذلك نفيا جملة واحدة وإما أن يجوزوه جملة واحدة وإما أن يقفوا في الحكم فلا يحكمون فيه بإحالة ولا جواز حتى يأتيهم تعريف الحق نصا لا يشكون فيه أو يشهدونه من نفوسهم وأما الذي يزعم أنه يدركه عقلا ولا يدركه بصرا فمتلاعب لا علم له بالعقل ولا بالبصر ولا بالحقائق على ما هي عليه في أنفسها كالمعتزلي فإن هذه رتبته ومن لا يفرق بين الأمور العادية والطبيعية فلا ينبغي أن يتكلم معه في شي‏ء من العلوم ولا سيما علوم الأذواق وما شوق الله عباده إلى رؤيته بكلامه سدى ولو لا إن موسى عليه السلام فهم من الأمر إذ كلمه الله بارتفاع الوسائط ما جرأه على طلب الرؤية ما فعل فإن سماع كلام الله تعالى بارتفاع الوسائط عين الفهم عنه فلا يفتقر إلى تأويل وفكر في ذلك وإنما يفتقر من كلمه الله بالوسائط من رسول أو كتاب فلما كان عين السمع في هذا المقام عين الفهم سأل الرؤية ليعلم التابع ومن ليست له هذه المنزلة عند الله أن رؤية الله ليست بمحال وقد شهد الله لموسى إنه اصطفاه على الناس برسالاته وبكلامه ثم قال له فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ من الشَّاكِرِينَ وهو تعالى يقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ولا شك أن موسى قد شكر الله على نعمة الاصطفاء ونعمة الكلام شكرا واجبا مأمورا به فيزيده الله لشكره نعمة رؤيته إياه فهل رآه في وقت سؤاله بالشرط الذي أقامه له كما ورد في نص القرآن أو لم يره والآية محتملة المأخذ فإنه ما نفى زمان الحال عن تعلق الرؤية وإنما نفى الاستقبال بأداة سوف ولا شك أن الله تجلى للجبل وهو محدث وتدكدك الجبل لتجليه فحصل لنا من هذا رؤية الجبل ربه التي أوجبت له التدكدك فقد رآه محدث فما المانع أن رآه موسى عليه السلام في حال التدكدك ووقع النفي على الاستقبال ما لذلك مانع لمن عقل ولا سيما وقد قام الصعق لموسى عليه السلام مقام التدكدك للجبل ثم لتعلم أنه من أدرك الحق علما لم يفته من العلم الإلهي مسألة ومن رأى الحق ببصره رأى كل نوع من العالم لا يفوته من أنواعه شي‏ء إذا رآه في غير مادة وإذا علمه بصفة إثبات نفسية فإن علمه بصفة تنزيه لم يكن له هذا المقام وإن رآه في مادة لم يكن له هذا المقام وأما من ذهب إلى أن رؤية الحق إنما هي عبارة عن مزيد وضوح في العلم النظري بالله لا غير فهذه قولة من لا علم له بالله من طريق الكشف والتجلي إلا أن يكون قال ذلك لمعنى كان حاضرا من لا ينبغي أن يسمع مثل هذا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الوصل السابع عشر» من خزائن الجود

قال بعض السادة في هذه الخزانة إنها تتضمن فناء من لم يكن وبقاء من لم يزل وهذه المسألة تخبط فيها من لم يستحكم كشفه ولا تحقق شهوده فإن من الناس من تلوح له بارقة من مطلوبه فيكتفي بها عن استيفاء الحال واستقصائه فيحكم على هذا المقام بما شاهد منه ظنا منه أو قطعا أنه قد استوفاه وقد رأيت ممن هذه صفته رجالا وقد طرأ مثل هذا السهل بن عبد الله التستري المبرز في هذا الشأن في علم البرزخ فمر عليه لمحة فأحاط علما بما هو الناس عليه في البرزخ ولم يتوقف حتى يرى هل يقع فيما رآه تبديل في أحوال مختلفة على أهله أو يستمرون على حالة واحدة فحكم ببقائهم على حالة واحدة كما رآهم فرؤيته صحيحة صادقة وحكمه بالدوام فيما رآهم عليه إلى يوم البعث ليس بصحيح وأما الذين رأيت أنا من أهل هذه الصفة لما رأيتهم سريعين الرجعة غير ثابتين عند ما يؤخذ عن نفسه سألت واحدا منهم ما الذي يردك بهذه السرعة فقال لي أخاف أن تنعدم عيني لما نراه فيخاف على نفسه ومن تكون هذه حالته فلا تثبت له قدم في تحقيق أمر ولا يكون من الراسخين فيه فلو اقتصروا على ما عاينوه ولم يحكموا لكان أولى بهم فيتخيل الأجنبي إذا سمع مثل هذا من صادق وسمع عدم الثبوت في البرزخ على حالة واحدة إن بين القوم خلافا في مثل هذا وليس بخلاف فإن الراسخ يقول بما شاهده وهو مبلغه من العلم وغير الراسخ يقول أيضا بما شاهده ويزيد في الحكم بالثبوت الذي ذهب إليه ولو أقام قليلا لرأى التغيير والتبديل في البرزخ كما هو في الدنيا فإن الله في كل يوم وهو الزمن الفرد في شأن يقول تعالى يَسْئَلُهُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ والخلق جديد حيث كان دنيا وآخرة وبرزخا فمن المحال بقاء حال على عين نفسين أو زمانين للاتساع الإلهي لبقاء الافتقار على العالم إلى الله فالتغيير له واجب في كل نفس والله خالق فيه في كل نفس فالأحوال متجددة مع الأنفاس على الأعيان وحكم الأعيان يعطي في العين الواحدة بحسب حقائقها أن لو صح وجودها لكانت بهذه الأحوال فمن أصحابنا من يرى أن‏

عين الوجود هو الذي يحفظ عليه أحوال أعيان الممكنات الثابتة وإنها لا وجود لها البتة بل لها الثبوت والحكم في العين الظاهرة التي هي الوجود الحقيقي ومن أصحابنا من يرى أن الأعيان اتصفت بالوجود واستفادته من الحق تعالى وإنها واحدة بالجوهر وإن تكثرت وأن الأحوال يكسوها الحق بها مع الأنفاس إذ لا بقاء لها إلا بها فالحق يجددها على الأعيان في كل زمان فعلى الأول يكون قوله حتى يفنى من لم يكن فلا يبقى له أثر في عين الوجود فيكون مسلوب النعوت وذلك حال التنزيه ويبقى من لم يزل على ما هي عليه عينه وهو الغني عن العالمين فإن العالم ليس سوى الممكنات وهو تعالى غني عنها إن تدل عليه فإنه ما ثم من يطلب على ما قلناه الدلالة عليه فإن الممكنات في أعيانها الثابتة مشهودة للحق والحق مشهود للاعيان الممكنات بعينها وبصرها الثابت لا الموجود فهو يشهدها ثبوتا وهي تشهده وجودا وعلى القول الآخر الذي يرى وجود أعيان الممكنات وآثار الأسماء الإلهية فيها وإمداد الحق لها بتلك الآثار لبقائها فتفني تلك الآثار والأعيان القابلة لها عن صاحب هذا الشهود حالا والأمر في نفسه موجود على ما هو عليه لم يفن في نفسه كما فنى في حق هذا القائل به فلا يبقى له مشهود إلا الله تعالى وتندرج الموجودات في وجود الحق وتغيب عن نظر صاحب هذا المقام كما غابت أعيان الكواكب عن هذا الناظر بطلوع النير الأعظم الذي هو الشمس فيقول بفناء أعيانها من الوجود وما فنيت في نفس الأمر بل هي على حالها في إمكانها من فلكها على حكمها وسيرها وكلا القولين قد علم من الطائفة ومن أصحاب هذا المقام من يجعل أمر الخلق مع الحق كالقمر مع الشمس في النور الذي يظهر في القمر وليس في القمر نور من حيث ذاته ولا الشمس فيه ولا نورها ولكن البصر كذلك يدركه فالنور الذي في القمر ليس غير الشمس كذلك الوجود الذي للممكنات ليس غير وجود الحق كالصورة في المرآة فما هو الشمس في القمر وما ذلك النور المنبسط ليلا من القمر على الأرض بمغيب نور الشمس غير نور الشمس وهو يضاف إلى القمر كما قيل في كلام الله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وقيل في قول الرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إنه كلام الله تعالى إذا تلاه وقول كل تال للقرآن ولكل مقالة وجه من الصحة والكشف يكون في كل ما ذكرناه فأهل الله اختلافهم اتفاق لأنهم يرمون عن قوس واحد فالأمر متردد بين فناء عين وفناء حال ولا جامع في العالم بين الضدين إلا أهل الله خاصة لأن الذي تحققوا به هو الجامع بين الضدين وبه عرف العارفون فهو الأول والآخر والظاهر والباطن من عين واحدة ونسبة واحدة لا من نسبتين مختلفتين ففارقوا المعقول ولم تقيدهم العقول بل هم الإلهيون المحققون حققهم الحق بما أشهدهم فهم وما هم وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فأثبت ونفى وحسبنا الله وكفى فكان الشيخ أبو العباس بن العريف الصنهاجى الإمام في هذا الشأن يقول وإنما يتبين الحق عند اضمحلال الرسم وكان الشيخ أبو مدين يقول لا بد من بقاء رسم العبودية ليقع التلذذ بمشاهدة الربوبية وكان القاسم بن القاسم من شيوخ رسالة القشيري يقول مشاهدة الحق فناء ليس فيها لذة وكل قائل صادق‏

[أن الحق لا يكرر على شخص التجلي في صورة واحدة]

فإنه قد قدمنا قبل هذا في هذا الكتاب إن شخصين لا يجتمعان أبدا في تجل واحد وأن الحق لا يكرر على شخص التجلي في صورة واحدة وقد قدمنا إن تجلياته تختلف لأنها تعم الصور المعنوية والروحانية والملكية والطبيعية والعنصرية ففي أي صورة شاء ظهر كما أنه في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ وفي الطريق في أي صورة ما شاء أقامك فالمراكب مختلفة والراكب واحد فمن تجلى له في الصور المعنوية قال بفناء الرسم ومن تجلى له في الصور الطبيعية والعنصرية قال باللذة في المشاهدة ومن قال بعدم اللذة في المشاهدة كان التجلي له في الصور الروحانية فكل صدق وبما شاهد نطق وأي الشهود أعلى وكلناك في ذلك لذوقك حتى تعلم من ذلك ما علمناه ومن هذا الوصل تعلم المفارق وغير المفارق ومن يفرق ومن لا يفرق وتعلم منه من هو عَلى‏ بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ وما هي البينة وتعلم أنواع الطهارات لكل موصوف بالطهارة وتعلم الميل المحمود والميل المذموم وتعلم ما يقع به الاشتراك في الدين وما نسخ منه فلم يجتمع فيه رسولان وتعلم من خلق من المخلوقات من شي‏ء موجود ومن خلق لا من شي‏ء موجود ومراتب العالم في ذلك وتعلم أن كل ما طلب الحق من‏

عباده أن يعاملوه به عاملهم به فعم أحكام الشرائع كلها وحكم بذلك على نفسه كما حكم على خلقه وأن مكارم الأخلاق في الأكوان هي الأخلاق الإلهية

«الوصل الثامن عشر» من خزائن الجود

يتضمن فضل الطبيعة على غيرها وذلك لشبهها بالأسماء الإلهية فإن العجب ليس من موجود يؤثر وإنما العجب من معدوم يؤثر والنسب كلها أمور عدمية ولها الأثر والحكم

فكل معدوم العين ظاهر الحكم والأثر فهو على الحقيقة المعبر عنه بالغيب فإنه من غاب في عينه فهو الغيب والطبيعة غائبة العين عن الوجود فليس لها عين فيه وعن الثبوت وليس لها عين فيه فهي عالم الغيب المحقق وهي معلومة كما إن المحال معلوم غير إن الطبيعة وإن كانت مثل المحال في رفع الثبوت عنها والوجود فلها أثر ويظهر عنها صور والمحال ليس كذلك ومفاتيح هذا الغيب هي الأسماء الإلهية التي لا يعلمها إلا الله العالم بكل شي‏ء والأسماء الإلهية نسب غيبية إذ الغيب لا يكون مفتاحه إلا غيبا وهذه الأسماء تعقل منها حقائق مختلفة معلومة الاختلاف كثيرة ولا تضاف إلا إلى الحق فإنه مسماها ولا يتكثر بها فلو كانت أمورا وجودية قائمة به لتكثر بها فعلمها سبحانه من حيث كونه عالما بكل معلوم وعلمناها نحن باختلاف الآثار منهما فينا فسميناه كذا من أثر ما وجد فينا فتكثرت الآثار فينا فكثرت الأسماء والحق مسماها فنسبت إليه ولم يتكثر في نفسه بها فعلمنا أنها غائبة العين ولما فتح الله بها عالم الأجسام الطبيعية باجتماعها بعد ما كانت مفترقة في الغيب معلومة الافتراق في العلم إذ لو كانت مجتمعة لذاتها لكان وجود عالم الأجسام أزلا لنفسه لا لله وما ثم موجود ليس هو الله إلا عن الله وما ثم واجب الوجود لذاته إلا الله وما سواه فموجود به لا لذاته فالسر معقول النسب وإلا خفي منها أعيانها فبالمشيئة ظهر أثر الطبيعة وهي غيب فالمشيئة مفتاح ذلك الغيب والمشيئة نسبة إلهية لا عين لها فالمفتاح غيب وإن لم تثبت هذه النسب في العلم وإن كانت غيبا وعدما فلم يكن يصح الوجود لموجود أصلا ولا كان خلق ولا حق فلا بد منها فالغيب هو النور الساطع العام الذي به ظهر الوجود كله وما له في عينه ظهور فهو الخزانة العامة التي خازنها منها وإن أردت أن يقرب عليك تصور ما قلت فانظر في الحدود الذاتية للمحدود التي لا يعقل المحدود إلا بها وينعدم المعلوم بعدمها ويكون معلوما بوجودها اتساعا وإن لم توصف بالوجود وذلك إذا أخذت في حد الجوهر مثلا أعني الجوهر الفرد فتقول فيه هو الشي‏ء فجئت بالجنس الأعم والشيئية للأشياء ليست وجودية ولا بد فيدخل فيها كل ما هو محدود بشي‏ء مما يقوم بنفسه ومما لا يقوم بنفسه فإذا أردت أن تبينه ولا تتبين المعلومات إلا بذاتها وهو الحد الذاتي لها فتقول الموجود فجئت بما هو أخص منه فدخل فيه كل موجود وانفصل عنه كل من له شيئية ولا وجود له ثم قلت القائم بنفسه وهذه كلها معان معلومة هي للمحدود المعلوم بها صفات والصفة لا تقوم بنفسها وباجتماع هذه المعاني جاء منها أعيان وجودية تدرك حسا وعقلا فخرج منه كل موجود لا يقوم بنفسه ثم تقول المتحيز فيشركه غيره ويتميز عنه بهذا غير آخر والتحيز حكم وهو ما له قدر في المساحة أو القابل للمكان ثم تقول الفرد الذي لا ينقسم ذاته فخرج عنه الجسم وكل ما ينقسم ثم تقول القابل للاعراض فخرج منه من لا يقبل الأعراض ودخل معه في الحد من يقبل الأعراض وبمجموع هذه المعاني كان المسمى جوهرا فردا كما بالتأليف مع بقية الحدود ظهر الجسم فلما ظهر من ائتلاف المعاني صور قائمة بنفسها وطالبة محال تقوم بها كالأعراض والصفات علمنا قطعا إن كل ما سوى الحق عرض زائل وغرض ماثل وإنه وإن اتصف بالوجود وهو بهذه المثابة في نفسه في حكم المعدوم فلا بد من حافظ يحفظ عليه الوجود وليس إلا الله تعالى ولو كان العالم أعني وجوده لذات الحق لا للنسب لكان العالم مساوقا للحق في الوجود وليس كذلك فالنسب حكم لله أزلا وهي تطلب تأخر وجود العالم عن وجود الحق فيصح حدوث العالم وليس ذلك إلا لنسبة المشيئة وسبق العلم بوجوده فكان وجود العالم مرجحا على عدمه والوجود المرجح لا يساوق الوجود الذاتي الذي لا يتصف بالترجيح ولما كان ظهور العالم في عينه مجموع هذه المعاني فكان هذا المعقول المحدود عرض له جميع هذه المعاني فظهر فما

هو في نفسه غير مجموع هذه المعاني والمعاني تتجدد عليه والله هو الحافظ وجوده بتجديدها عليه وهي نفس المحدود فالمحدودات كلها في خلق‏

جديد الناس منه في لبس فالله خالق دائما والعالم في افتقار دائم له في حفظ وجوده بتجديده فالعالم معقول لذاته موجود بالله تعالى فحدوده النفسية عينه وهذا هو الذي دعا الحسبانية إلى القول بتجديد أعيان العالم في كل زمان فرد دائما وذهلت عن معقولية العالم من حيث ما هو محدود وهو أمر وهمي لا وجود له إلا بالوهم وهو القابل لهذه المعاني وفي العلم ما هو غير جميع هذه المعاني فصار محسوسا أمر هو في نفسه مجموع معقولات فأشكل تصوره وصعب على من غلب عليه وهمه فحار بين علمه ووهمه وهو موضع حيرة وقالت طائفة بتجدد الأعراض على الجوهر والجوهر ثابت الوجود وإن كان لا بقاء له إلا بالعرض وما تفطن صاحب هذا القول لما هو منكر له فغاب عنه شي‏ء فجهله وظهر له شي‏ء فعلمه وقالت طائفة أخرى بتجدد بعض الأعراض وهي المسماة عندهم أعراضا وما عداها وإن كانت في الحقيقة على ما يعطيه العلم أعراضا فيسمونها صفات لازمة كصفرة الذهب وسواد الزنجي وهذا كله في حق من يثبتها أعيانا وجودية وثم من يقول إن ذلك كله نسب لا وجود لها إلا في عين المدرك لها لا وجود لها في عينها وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني على ما وصل إلينا والعهدة على الناقل وأهل الكشف لهم الاطلاع على جميع المذاهب كلها والنحل والملل والمقالات في الله اطلاعا عاما لا يجهلون منه شيئا فما تظهر نحلة من منتحل ولا ملة بناموس خاص تكون عليه ولا مقالة في الله أو في كون من الأكوان ما تناقض منها وما اختلف وما تماثل إلا ويعلم صاحب الكشف من أين أخذت هذه المقالة أو الملة أو النحلة فينسبها إلى موضعها ويقيم عذر القائل بها ولا يخطئه ولا يجعل قوله عبثا فإن الله ما خلق سماء ولا أرضا وما بينهما باطلا ولا خلق الإنسان عبثا بل خلقه ليكون وحده على صورته فكل من في العالم جاهل بالكل عالم بالبعض إلا الإنسان الكامل وحده فإن الله علمه الأسماء كلها وآتاه جوامع الكلم فكملت صورته فجمع بين صورة الحق وصورة العالم فكان برزخا بين الحق والعالم مرآة منصوبة يرى الحق صورته في مرآة الإنسان ويرى الخلق أيضا صورته فيه فمن حصل في هذه المرتبة حصل رتبة الكمال الذي لا أكمل منه في الإمكان ومعنى رؤية صورة الحق فيه إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه كما جاء في الخبر فبهم تنصرون والله الناصر وبهم ترزقون والله الرازق وبهم ترحمون والله الراحم وقد ورد في القرآن فيمن علمنا كماله واعتقدنا ذلك فيه أنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي لترحمهم لما دعا على رعل وذكوان وعصية والتخلق بالأسماء يقول به جميع العلماء فالإنسان متصف يسمى بالحي العالم المريد السميع البصير المتكلم القادر وجميع الأسماء الإلهية من أسماء تنزيه وأفعال تحت إحاطة هذه الأسماء السبعة التي ذكرناها لا يخرج عنها جملة واحدة فلهذا لم نأت بها على التفصيل وقد ذكرنا منها طرفا شافيا في كتابنا المسمى إنشاء الجداول والدوائر صورنا فيه العالم والحضرتين ممثلتين في أشكال ليقرب العلم بها على صاحب الخيال إذ لا يخلو الإنسان مع عقله عن حكم الوهم فيما يعلم أنه محال ومع هذا تصوره وتغلب عليه حكم الوهم إذ كان لا ينضبط لها العلم بذلك إلا بعد تصوره وحينئذ تضبطه القوة الحافظة وتحكم عليه القوة المذكرة إذا غلب على القوة الحافظة فخرج من تحت حكمها فإن المذكرة لا تفرط فيه فلا يزال المعلوم محصورا في العلم ولهذا كان المعلوم محاطا به قال تعالى أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً فمن علم ما ذكرناه في هذا الوصل وما حوت عليه هذه الخزانة علم نفسه وعلم ربه وعلم العالم وما أصله وإذا بدا له منه ما بدا علم من أين جاء وإلى أين يعود وعلم ما يستحقه منه فوفاه حقه فأعطى كل ذي حق حقه كما إن الله أعطى كل شي‏ء خلقه فالذي انفرد به الحق إنما هو الخلق والذي انفرد به من العالم الكامل إنما هو الحق فيعلم ما يستحقه كل موجود فيعطيه حقه وهو المسمى بالإنصاف فمن أعطيته حقه فقد أنصفته فإن تغاليت فما كملت وأنت ناقص فإن‏

الزيادة في الحد نقص في المحدود فلا يتعدى الكامل بالشي‏ء رتبته وقد ذم الله تعالى تعليما لنا في إقامة العدل في الأشياء من تغالى في دينه ونزه الحق تعالى عما يستحقه فهو وإن قصد تعظيما بذلك الفعل في التغالي فقد وقع في الجهل وجاء بالنقص في موضع الكمال فقال لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ فالغلو مثل أن ينسب إلى الله الأحوال وهي ليست إلا أحكام المعاني فالمعاني لله وجودها وإذا وجدت فيمن وجدت فيه أعطت بذاتها الحال المنعوت به ذلك المحل الذي قام به هذا المعنى فهذا من التغالي وهذا مثل العالم‏

والقادر والأبيض والأسود والشجاع والجبان والمتحرك والساكن فهذه هي الأحوال وهي أحكام المعاني المعقولة أو النسب كيف شئت فقل وهي العلم والقدرة والبياض والسواد والحماسة والجبن والحركة والسكون فقال لنا لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ كان ما كان كما نسبوا إليه تعالى الصاحبة والولد وضربوا له الأمثال وجعلوا له أندادا غلوا في دينهم وتعظيما لرسلهم فقالوا عيسى هو الله وقالت طائفة هو ابن الله وقال من لم يغل في دينه هو عبد الله وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ فلم يتعد به ما هو الأمر عليه فمن سلك مسلكنا فقد سلك طريق النجاة والايمان وأعطى الايمان حقه ولم يجر على العقل والفكر في حقه ولا فيما له والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وفي هذه الخزانة من العلوم علم مقام الملائكة كلها وعلم الأنوار والأسرار والفضل الزماني لا الفضل بالزمان ومن هنا تنزل الملائكة على قلوب الإرسال من البشر بالوحي المشروع وعلى قلوب الأولياء بالحديث والإلهام وكل من أدرك هذا سرا أو غيبا فكان له جهرا وشهادة فمن هذه الخزانة فسبحان مرتب الأمور وشارح الصدور وباعث من في القبور بالنشور لا إله إلا هو العليم القدير

«الوصل التاسع عشر» من خزائن الجود

هذه خزانة التعليم ورفعة المعلم على المتعلم وما يلزم المتعلم من الأدب مع أستاذه‏

[أن المعلم على الحقيقة هو الله تعالى‏]

اعلم أن المعلم على الحقيقة هو الله تعالى والعالم كله مستفيد طالب مفتقر ذو حاجة وهو كماله فمن لم تكن هذه أوصافه فقد جهل نفسه ومن جهل نفسه فقد جهل ربه ومن جهل

أمرا فما أعطاه حقه ومن لم يعط أمرا حقه فقد جار عليه في الحكم وعرا عن ملابسة العلم فقد تبين لك أن الشرف كله إنما هو في العلم والعالم به بحسب ذلك العلم فإن أعطى عملا في جانب الحق عمل به وإن أعطاه عملا في جانب الخلق عمل به فهو يمشي في بيضاء نقية سمحاء لا يرى فِيها عِوَجاً ولا أَمْتاً وأول متعلم قبل العلم بالتعلم لا بالذات العقل الأول فعقل عن الله ما علمه وأمره أن يكتب ما علمه في اللوح المحفوظ الذي خلقه منه فسماه قلما فمن علمه الذي علمه أن قال له أدبا مع المعلم ما أكتب هل ما علمتني أو ما تمليه علي فهذا من أدب المتعلم إذا قال له المعلم قولا مجملا يطلب التفصيل فقال له اكتب ما كان وما قد علمته وما يكون مما أمليه عليك وهو علمي في خلقي إلى يوم القيامة لا غير فكتب ما في علمه مما كان فكتب العماء الذي كان فيه الحق قبل أن يخلق خلقه وما يحوي عليه ذلك العماء من الحقائق وقد ذكرناه في هذا الكتاب في باب النفس بفتح الفاء وكتب وجود الأرواح المهيمة وما هيمهم وأحوالهم وما هم عليه وذلك كله ليعلمه وكتب تأثير أسمائه فيهم وكتب نفسه ووجوده وصورة وجوده وما يحوي عليه من العلوم وكتب اللوح فلما فرغ من هذا كله أملى عليه الحق ما يكون منه إلى يوم القيامة لأن دخول ما لا يتناهى في الوجود محال فلا يكتب فإن الكتابة أمر وجودي فلا بد أن يكون متناهيا فأملى عليه الحق تعالى وكتب القلم منكوس الرأس أدبا مع المعلم لأن الإملاء لا تعلق للبصر به بل متعلق البصر الشي‏ء الذي يكتب فيه والسمع من القلم هو المتعلق بما يمليه الحق عليه وحقيقة السمع أن لا يتقيد المسموع بجهة معينة بخلاف البصر الحسي فإنه يتقيد إما بجهة خاصة معينة وإما بالجهات كلها والسمع ليس كذلك فإن متعلقة الكلام فإن كان المتكلم ذا جهة أو في جهة فذلك راجع إليه وإن كان لا في جهة ولا ذا جهة فذلك راجع إليه لا للسامع فالسمع أدل في التنزيه من البصر وأخرج عن التقييد وأوسع وأوضح في الإطلاق فأول أستاذ من العالم هو العقل الأول وأول متعلم أخذ عن أستاذ مخلوق هو اللوح المحفوظ وهذه الاسمية شرعية واسم اللوح المحفوظ عند العقلاء النفس الكلية وهي أول موجود انبعاثي منفعل عن العقل وهي للعقل بمنزلة حواء لآدم منه خلق وبه زوج فثنى كما ثنى الوجود بالحادث وثنى العلم بالقلم الحادث ثم رتب الله الخلق بالإيجاد إلى أن انتهت النوبة والترتيب الإلهي إلى ظهور هذه النشأة الإنسانية الآدمية فأنشأها في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثم نفخ في آدم من روحه وأمر الملائكة بالسجود له فوقعت له ساجدة عن الأمر الإلهي بذلك فجعله لملائكته قبلة ثم عرفهم بخلافته في الأرض فلم يعرفوا عمن هو خليفة فربما ظنوا أنه خليفة في عمارتها عمن سلف فاعترضوا لما رأوا من تقابل طبائعه في نشأته فعلموا إن العجلة تسرع إليه وأن تقابل ما تركب منه جسده ينتج منه نزاعا فيؤثر فسادا في الأرض وسفك دماء فلما أعلمهم أنه خلقه سبحانه على صورته وعلمه الأسماء كلها المتوجهة على إيجاد العالم العنصري وغيره فما

فوقه ثم عرض المسميات على الملائكة فقال أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ الذين توجهتم على إيجادهم أي توجهت الأسماء هل سبحتموني بها وقدستموا لي فإنكم زعمتم أنكم تسبحونى بحمدي وتقدسون إلي فقالت الملائكة لا عِلْمَ لَنا فقال لآدم أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فجعله أستاذا لهم فعلمهم الأسماء كلها فعلموا عند ذلك أنه خليفة عن الله في أرضه لا خليفة عن سلف ثم ما زال يتلقاها كامل عن كامل حتى انتهت إلى السيد الأكبر المشهود له بالكمال محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الذي عرف بنبوته وآدم بين الماء والطين فالماء لوجود البنين والطين وجود آدم وأوتي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم جوامع الكلم كما أوتي آدم جميع الأسماء ثم علمه الله الأسماء التي علمها آدم فعلم علم الأولين والآخرين فكان محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أعظم خليفة وأكبر إمام وكانت أمته خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وجعل الله ورثته في منازل الأنبياء والرسل فأباح لهم الاجتهاد في الأحكام فهو تشريع عن خبر الشارع فكل مجتهد مصيب كما أنه كل نبي معصوم وتعبدهم الله بذلك ليحصل لهذه الأمة نصيب من التشريع وتثبت لهم فيه قدم فلم يتقدم عليهم سوى نبيهم صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فتحشر علماء هذه الأمة حفاظ الشريعة المحمدية في صفوف الأنبياء لا في صفوف الأمم فهم شهداء على الناس وهذا نص في عدالتهم فما من رسول إلا ولجانبه عالم من علماء هذه الأمة أو اثنان أو ثلاثة أو ما كان وكل عالم منهم فله درجة الأستاذية في علم الرسوم والأحوال والمقامات والمنازل والمنازلات إلى أن ينتهي الأمر في ذلك إلى خاتم الأولياء خاتم المجتهدين المحمديين إلى أن ينتهي إلى الختم العام الذي هو روح الله وكلمته فهو آخر متعلم وآخر أستاذ لمن أخذ عنه ويموت هو وأصحابه من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في نفس واحد بريح طيبة تأخذهم من تحت آباطهم يجدون لها لذة كلذة الوسنان الذي قد جهده السهر وأتاه النوم في السحر الذي سماه الشارع العسيلة لحلاوته فيجدون للموت لذة لا يقدر قدرها ثم يبقى رعاع كغثاء السيل أشباه البهائم فعليهم تقوم الساعة وكان الروح الأمين جبريل عليه السلام معلم الرسل وأستاذهم فلما أوحى إلى محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان يعجل بالقرآن قبل أن يقضي إليه وحيه ليعلم الله بالحال أن الله تولى تعليمه من الوجه الخاص الذي لا يشعر به الملك وجعل الله الملك النازل بالوحي صورة حجابية ثم أمره تعالى فيما أوحى إليه لا تُحَرِّكْ به لِسانَكَ لِتَعْجَلَ به أدبا مع أستاذه‏

فإنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول إن الله أدبني فأحسن أدبي‏

وهذا مما يؤيد أن الله تولى تعليمه بنفسه ثم قال مؤيدا أيضا لذلك إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فما ذكر سوى نفسه وما أضافه إلا إليه ولم يجز لغير الله في هذا التعريف ذكر وبهذا جاء لفظ النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في‏

قوله إن الله أدبني فأحسن أدبي‏

ولم يذكر إلا الله ما تعرض لواسطة ولا لملك فإن الله هكذا عرفنا ثم وجدنا ذلك ساريا في ورثته من العلماء في كل طائفة أعني من علماء الرسوم وعلماء القلوب فرجوع التعليم بالواسطة وغير الواسطة إلى الرب ولذلك قال الملك وما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فتبين لك من هذا الوصل صورة التعليم ثم إنه شرع تعالى لكل أستاذ أن لا يرى له مزية على تلميذه وأن لا تغيبه مرتبة الأستاذية عن علمه بنفسه وعبوديته هذا هو الأصل المرجوع إليه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الوصل العشرون» من خزائن الجود

وهذه خزانة الأحكام الإلهية والنواميس الوضعية والشرعية وأن لله تعالى في وحيه إلى قلوب عباده بما يشرع في كل أمة طريقين طريقا بإرسال الروح الأمين المسمى جبريل أو من كان من الملائكة إلى عبد من عباد الله فيسمى ذلك العبد لهذا النزول عليه رسولا ونبيا يجب على من بعث إليهم الايمان به وبما جاء به من عند ربه وطريقا آخر على يدي عاقل زمانه يلهمه الله في نفسه وينفث الروح الإلهي القدسي في روعة في حال فترة من الرسل ودرس من السبل فيلهمه الله في ذلك لما ينبغي من المصالح في حقن الدماء وحفظ الأموال والفروج لما ركب الله في النفوس الحيوانية من الغيرة فيمهد لهم طريقة يرجعون بها إذا سلكوا عليها إلى مصالحهم فيأمنون على أهليهم ودمائهم وأموالهم ويحد لهم حدودا في ذلك ويخوفهم ويحذرهم ويرجيهم ويأمرهم بالطاعة لما أمرهم به ونهاهم عنه وأن لا يخالفوه ويعين لهم زواجر من قتل وضرب وغرم ليردع بذلك ما تقع به المفسدة والتشتيت ويرغب في نظم شمل الكلمة وأن الله تعالى يأجره على ذلك في أصحاب الفترات وأما في الأمة التي فيها رسول أو هم تحت خطاب‏

رسول فحرام عليه ذلك وحرام عليه خروجه عن شرع الرسول ولم تظهر هذه الطريقة الوضعية التي تطلبها الحكمة في نوع من الأنواع إلا في النوع الإنساني خاصة لخلقه على الصورة فيجد في نفسه قوة إلهية تدعوه لتشريع المصالح فإن شرعها أحد غيره وهو الرسول فلا يزال يؤيده ويمهد لأمته وما وضعه لها ذلك الرسول ويبين لهم ما خفي عنهم من رسالته لقصور فهمهم وإن لم يفعل ذلك مع قدرته عليه لم يزل في سفال إلى يوم القيامة كما جاء في الإمام إذا صلى وهو يعلم أن خلفه من هو أحق بالإمامة منه فلم يقدمه وتقدم عليه لم يزل في سفال إلى يوم القيامة إلا أن يقدمه ذلك الأفضل فيتقدم عن أمره كصلاة أبي بكر برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وصلاة عبد الرحمن بن عوف برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لما جاء وقد فاتته ركعة وتقدم لأجل خروج الوقت فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وقد صلوا ركعة فصلى خلفه وشكرهم على ما فعلوا وقال أحسنتم ولو لا إن الشارع قرر حكم المجتهد من علماء هذه الأمة ما ثبت له حكم‏

[أن العلماء بالله على مراتب في أخذهم العلم الإلهي‏]

واعلم أن العلماء بالله على مراتب في أخذهم العلم الإلهي فمنهم من أخذ العلم بالله من الله وهم الذين قيل لهم فاعلموا أنه إله واحد ومنهم من أخذ العلم بالله عن نظر واستدلال وهم الذين نصب الله لهم الأدلة والآيات في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ وأمرهم بالنظر في ذلك حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ مثل قوله أَ ولَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والْأَرْضِ وما خَلَقَ الله من شَيْ‏ءٍ وقوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا وقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من عرف نفسه عرف ربه‏

ومنهم من أخذ العلم بالله من تقوى الله مثل قوله تعالى إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً تفرقون به بين الله وبين الآلهة التي عبدها المشركون وتعرفون ما عبدوا من ذلك مع علمهم إذا سموهم أنهم أحجار وأشجار وكواكب وملائكة وناس وجان ويعلمون حقيقة كل مسمى ولما ذا اختصوا بالعبادة ما اختصوا منها وهي ومن لم يتخذوه معبودا من أمثالها في الحد والحقيقة على السواء وما في هذه الطوائف أعلى ممن حصل العلم بالله عن التقوى فهذا المأخذ أعلى المراتب في الأخذ فإن له الحكم الأعم يحكم على كل حكم وعلى كل حاكم بكل حكم فهو خير الحاكمين ولا يكون هذا العلم ابتداء ولهذا لا يختص به إلا المؤمنون العالمون الذين علموا إن ثم واحدا يرجع إليه ويوصل إلى شهوده وإن لم يعلموا ذلك قصرت هممهم ولو تجلى لهم الحق بنفسه أنكروه وردوه فإنه عندهم مقيد بأمر ما مهما لم يجدوا ذلك الأمر الذي قيدوه به فيمن تجلى لهم وقال لهم أو قيل لهم إنه الله

ردوه ولا بد فلما قصرت هممهم وأعطاهم نظرهم أن الحق لا يراه أحد كالفيلسوف والمعتزلي وإن علم فبالضرورة ينكرونه في تجليه لهم فلا بد للمؤمن أن يعطيه نور إيمانه ما أعطى لموسى عليه السلام في نفسه حتى سأل الرؤية ثم أخبر الله أنه تجلى للجبل والجبل من العالم وتدكدك الجبل عند رؤيته ربه وإذا تجلى لمحدث جاز أن يراه كل محدث إذا شاء وجاز أن يتجلى له فإذا علموا وآمنوا وانبسط نور الايمان على المراتب والمقامات فعلموها كشفا ووجودا وانبسط على نفوسهم فشاهدوا نفوسهم فعرفوها فعرفوا ربهم بلا شك علما وإيمانا ثم عملوا بتقوى الله فجعل الله لهم فرقانا بين ما أدركوه من الله بالعلم الخبري وبالعلم النظري وبالعلم الحاصل عن التقوى وعلموا عند ذلك ما هو التام من هذه العلوم والأتم فمن ادعى التقوى ولم يحصل له هذا الفرقان فما صدق في دعواه فإن الكذب كله عدم أي مدلوله عدم وإن كان مذموما بالإطلاق عرفا محمودا بالتقييد الذي يحمد به والصدق كله حق أي مدلوله حق وإن كان محمودا بالإطلاق عرفا مذموما بالتقييد الذي يذم به‏

أوقفني الحق في شهودي *** جودا وفضلا على وجودي‏

فقمت شكرا به إليه *** أرغب في لذة المزيد

فزادني جوده علوما *** بالله في نسبة الوجود

إليه سبحانه تعالى *** ترى على الكشف والشهود

لا يعرف الله غير قلب *** كالبدر في منزل السعود

يرقى إليه يجي‏ء منه *** ما بين بيض وبين سود

فأما العلماء بالله من طريق الخبر فلا يعلمون من الله إلا ما ورد به خبر الله عن الله في كتاب أو سنة فهم بين مشبه بتأويل‏

وبين واقف وهو الأسلم والأنجى من الرجلين فإنه لا يتمكن له رد الألفاظ ولا رد ما تدل عليه فيقع في التشبيه والآخر وإن لم يكن له رد الألفاظ ولا رد ما تدل عليه فإنه ما نزل ما نزل من ذلك إلا بلغته ورأى التقابل فيما نزل من نفي التشبيه فآمن وصرف علم ذلك إلى الله من غير تعيين لأن المسمى والموصوف لم يره ولم يعلم ما هو عليه إلا من هذه الأخبار الواردة عنه وأما علماء النظر فهم طوائف كثيرة كل طائفة نزعت في الله منزعا بحسب ما أعطاها نظرها في الذي اتخذته دليلا على العلم به فاختلفت مقالاتهم في الله اختلافا شديدا وهم أصحاب العلامات لما ارتبطوا بها وأما علماء الكشف والشهود وهم المؤمنون المتقون فإن الله جعل لهم فرقانا أوقفهم ذلك الفرقان على ما ادعى أهل كل مقالة في الله من علماء النظر والخبر أن يقولوا بها وما الذي تجلى لقلوبهم وبصائرهم من الحق وهل كلها حق أو فيه ما هو حق وما ليس بحق كل ذلك معلوم لهم كشفا وشهودا فيعبده من هذه صفته عبادة أمر وعبادة ذاتية وليس ذلك إلا لهم وللملائكة وأما الأرواح التي لا تعرف الأمر فعبادتهم ذاتية وأما علماء النظر والخبر فعبادتهم أمرية

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه‏

وهذه هي العبادة الذاتية فأخبر أنه ذو عبادتين عبادة أمر وذات وبالعبادة الذاتية يعبده أهل الجنان وأهل النار ولهذا يكون المال في الأشقياء إلى الرحمة لأن العبادة الذاتية قوية السلطان والأمر عارض والشقاء عارض وكل عارض زائل يجري إلى أجل مسمى‏

[ما تقدم لنبي قط قبل نبوته نظر عقلي في العلم بالله‏]

واعلم أنه ما تقدم لنبي قط قبل نبوته نظر عقلي في العلم بالله ولا ينبغي له ذلك وكذلك كل ولي مصطفى لا يتقدم له نظر عقلي في العلم بالله وكل من تقدمه من الأولياء علم بالله من جهة نظر فكري فهو وإن كان وليا فما هو مصطفى ولا هو ممن أورثه الله الكتاب الإلهي وسبب ذلك أن النظر يقيده في الله بأمر ما يميزه به عن سائر الأمور ولا يقدر على نسبة عموم الوجود لله فما عنده سوى تنزيه مجرد فإذا عقد عليه فكل ما أتاه من ربه مخالف عقده فإنه يرده ويقدح في الأدلة التي تعضد ما جاءه من عند ربه فمن اعتنى الله به عصمه قبل اصطفائه من علوم النظر واصطنعه لنفسه وحال بينه وبين طلب العلوم النظرية ورزقه الايمان بالله وبما جاء من عند الله على لسان رسول الله هذا في هذه الأمة التي عمت دعوة رسولها وأما في النبوة الأولى ممن كان في فَتْرَةٍ من الرُّسُلِ فإنه يرزق ويحبب إليه الشغل بطلب الرزق أو بالصنائع العملية أو الاشتغال بالعلوم الرياضية من حساب وهندسة وهيأة وطب وشبه ذلك من كل علم لا يتعلق بالإله فإن كان مصطفى ويكون نبيا في زمان النبوة في علم الله فيأتيه الوحي وهو طاهر القلب من التقييد باله محصور في إحاطة عقله وإن لم يكن نبيا وجاء رسول إلى أمة هو منها قبل ما جاءه به نبيه ذلك لسذاجة محله ثم عمل بإيمانه واتقى ربه رزقه الله عند ذلك فرقانا في قلبه وليس لغيره ذلك هكذا أجرى الله عادته في خلقه وإن سعد صاحب النظر العقلي فإنه لا يكون أبدا في مرتبة الساذج الذي لم يكن عنده علم بالله إلا من حيث إيمانه وتقواه وهذا هو وارث الأنبياء في هذه الصفة فهو معهم وفي درجتهم هذه فاعلم ذلك وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً

[علماء بالله بالفطرة]

وأما علوم الملائكة وما عدا النفوس الناطقة المدبرة لهذه الهياكل الإنسانية والهياكل الإنسانية فكلهم علماء بالله بالفطرة لا عن تفكر ولا استدلال ولهذا تشهد الجلود من هذه النشأة والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل وجميع الجوارح على مدبرها بما أمرها به من التعدي لحدود ربه وما شهادتها إلا إخبار بما جرى فيها من أفعال الله لأنها لا تعرف تعدى الحدود ولا العصيان فيكون ذلك التعريف بتعيين هذه الأفعال شهادة على النفوس المصرفة لها في تلك الأفعال فإن كل ما سوى هذه النفوس المشهود عليها ما تعلم إلا التسبيح بحمد ربها لا غير ذلك لما تجده في فطرتها وما في العلوم أصعب تصورا من هذا العلم لطهارة النفوس الناطقة بحكم الأصل ولطهارة الأجسام وقواها بما فطرت عليه ثم باجتماع النفس والجسم حدث الإنسان وتعلق التكليف وظهرت الطاعات والمخالفات فالنفوس الناطقة لا حظ لها في المخالفة لعينها والنفوس الحيوانية تجري بحكم طبعها في الأشياء ليس عليها تكليف والجوارح ناطقة بحمد الله مسبحة له تعالى فمن المخالف والعاصي المتوجه عليه الذم والعقوبة فإن كان قد حدث بالمجموع للجمعية القائمة بالإنسان أمر آخر كما حدث له اسم الإنسان فهو المذموم بالمخالفة خاصة فإن الإنسان العاقل البالغ هو المكلف لا غير ومن زالت عنه هذه الشروط من هذا النوع فليس بمكلف ولا مذموم على ترك أو فعل منهي عنه‏

[العلماء بالله على أربعة أقسام‏]

ثم‏

العلماء بالله انقسموا على أربعة أقسام لا خامس لها فمنهم من أخذ العلم بالله من الله من غير دليل ظاهر ولا شبهة باطنة ومنهم من أخذه بدليل ظاهر وشبهة باطنة وهم أهل الأنوار والطائفة الأولى هم أهل الالتذاذ بالعلوم والقسم الثالث هم الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ ولهم في علمهم بالله ميل إلى خلق الله ليروا ما قبل الخلق من صورة الحق لا شبهة لهم في علمهم بالله ولا بالخلق وهم أهل الأسرار وعلم الغيوب وكنوز المعارف والعلوم والثبات في حال الأمور المزلزلة أكبر العقول عما عقدت عليه والقسم الرابع هم أهل الجمع والوجود والإحاطة بحقيقة كل معلوم فلا يغيب عنهم وجه فيما علموه ولهم التصريف بذلك العلم في العالم حيث شاءوا ولهم الأمان فلا أثر لشبهة قادحة في علمهم وهم أيضا من أهل الأسرار وما عدا هؤلاء العلماء فخلق من خلق الله يتصرفون فيما يصرفون مجبورون في اختيارهم من كان منهم من أهل الاختيار والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الوصل الأحد والعشرون» من خزائن الجود

وهذه خزانة إظهار خفي المنن التي لأهل الله في الورود والصدور ووضع الآصار والأغلال والأعباء والأثقال ولها رجال أي رجال ولهم مشاهد راحة عند حط الرحال وهم البيوت التي أذن الله أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... بِالْغُدُوِّ والْآصالِ ومن هذه الخزانة يعلم إحاطة الرحمة بجميع الأعمال في الأحوال والأقوال والأفعال وما ينبغي للعبد أن يكون عليه من التوجه إلى ربه والإقبال والفراغ إليه تعالى من جميع ما يشغل عنه من الأشغال فهي خزانة الكرم ومعدن الهمم وقابلة أعذار الأمم وناطقة بكل طريق هو العالم عليه بأنه هو الطريق الأقوم فأقول والله الموفق للصواب مترجما عن هذه الخزانة بما كشفه لنا الجود الإلهي والكرم‏

[أن كل موجود من العالم في مقامه الذي فطره الله عليه لا يرتقى عنه ولا ينزل‏]

اعلم أن كل موجود من العالم في مقامه الذي فطره الله عليه لا يرتقى عنه ولا ينزل قد أمن من التبديل والتحويل سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ ... فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا فيئس من الزيادة التي طلبها من لا علم له بما أشرنا إليه وصار الأمر مثل الأجل المسمى بالإنسان فإنه في ترق دائم أبدا شقيه وسعيدة فأما السعيد فمعلوم عند جميع الطوائف وأما ارتقاء الشقي في العلم بالله فلا يعرفه إلا أهل الله والشقي لا يعرف أنه كان في ترق في أسباب شقائه حتى تعمه الرحمة ويحكم فيه الكرم الإلهي ويفتح له الفتح في المال فيعرف عند ذلك ما ترقي فيه من العلم بالله في تلك المخالفات التي شقي بها فيحمد الله عليها وقد أعطى الله منها أنموذجا في الدنيا فيمن تاب وآمن وعمل صالحا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ومعنى ذلك أنه كان يريه عين ما كان يراه سيئة حسنة وقد كان حسنها غائبا عنه بحكم الشرع فلما وصل إلى موضع ارتفاع الأحكام وهو الدار الآخرة رأى عند كشف الغطاء حسن ما في الأعمال كلها لأنه ينكشف له أن العامل هو الله لا غيره فهي أعماله تعالى وأعماله كلها كاملة الحسن لا نقص فيها ولا قبح فإن السوء والقبح الذي كان ينسب إليها إنما كان ذلك بمخالفة حكم الله لا أعيانها فكل من كشف الغطاء عن بصيرته وبصره متى كان رأى ما ذكرناه ويختلف زمان الكشف فمن الناس من يرى ذلك في الدنيا وهم الذين يقولون أفعال الله كلها حسنة ولا فاعل إلا الله وليس للعبد فعل إلا الكسب المضاف إليه وهو عبارة عما له في ذلك العمل من الاختيار وأما القدرة الحادثة فلا أثر لها عندهم في شي‏ء فإنها لا تتعدى محلها وأما العارفون من أهل الله فلا يرون أن ثم قدرة حادثة أصلا يكون عنها فعل في شي‏ء وإنما وقع

التكليف والخطاب من اسم إلهي على اسم إلهي في محل عبد كياني فسمى العبد مكلفا وذلك الخطاب تكليفا وأما الذين يقولون إن الأفعال الصادرة من الخلق هي خلق لهم كالمعتزلة فعند كشف الغطاء يتبين لهم ما هو الأمر عليه فأما لهم وإما عليهم ومنهم من يكون له الكشف عند الموت وفي القيامة عند كشف الساق والتفاف الساق بالساق وبعد نفوذ الحكم بالعقاب فينكشف لهم نسبة تلك الأعمال إلى الله فللإنسان وحده ورود على الله وصدور عن الله هو عين وروده على الله من طريق آخر غير الورود الأول فهو بين إقبال على الله للاستفادة وصدور عن الله بالإفادة وهذا الصدور هو عين الإقبال على الله لاستفادة أخرى وأكثر ما يكون الفتح في الصدور عن الله من حيث ما هو عين إقبال على الله فهو ممن يرى الحق في الخلق فمن ثقل عليه من أهل الله رؤية الحق في الخلق لما فيه من بعد المناسبة التي بين الواجب الوجود بالذات وبين الواجب الوجود بالغير فإذا كان ذوق هذا العبد هذا الشهود أراه الحق عين ما ثقل عليه‏

ليس إلا الله وحده وجودا ويسمى خلقا لحكم الممكن في تلك العين فإذا علم العبد ما هي العين الموجودة وما هو الحكم وإنه عن عين معدومة لم يبال وزال ما كان يجده من ثقل الكون الذي من أجله سمي الجن والإنس بالثقلين وهو اسم لكل موجود طبيعي وزال عنه ما كان يحس به من الألم النفسي والحسي ورفعه الله عند هذا مَكاناً عَلِيًّا وهو نصيبه من مقام إدريس عليه السلام فارتفعت مكانته وزالت زمانته وحمد مسراه وعلم ما أعطاه سراة فتميزت المراتب واتحدت المذاهب وتبحرت الجداول والمذانب واستوى القادر وغير القادر والكاسب فأعظم الإقبال وأعلاه من يكون إقباله على الله عين نفسه الخارج وصدوره عن الله وهو عين إقباله عين نفسه الداخل فهو مقبل على الله من كونه محيطا بالنفس الخارج ومقبل على الله في صدوره بنفسه الداخل من كون الحق وسعه قلبه فيكون مستفيدا في كل نفس بين اسم إلهي ظاهر وبين اسم إلهي باطن فالنفس الخارج إلى الحق المحيط الظاهر ليريه عين الحق في الآيات في الآفاق والنفس الداخل إلى الحق الباطن ليريه عين الحق في نفسه فلا يشهد ظاهرا ولا باطنا إلا حقا فلا يبقى له في ذاته اعتراض في فعل من الأفعال إلا بلسان حق لإقامة أدب فالمتكلم والمكلم عين واحدة في صورتين بإضافتين‏

[لا يزال الحق تعالى في الخلاء خلاقا على الدوام‏]

ثم لتعلم يا ولي أن الله لما خلق العالم وملأ به الخلأ لم يبق في العالم جوهر يزيد ولا ينقص فهو بالجوهر واحد غير إن هذا الجوهر الذي قد ملأ الخلأ لا يزال الحق تعالى فيه خلاقا على الدوام بما يفتح فيه من الإشكال ويلطف فيه من الكثائف ويكثف فيه من اللطائف ويظهر فيه من الصور ويحدث فيه من الأعراض من أكوان وألوان ويميز كل صورة فيه من الكثائف بما يوجده فيها من الصفات وعلى الصورة التي تفتح فيه تقع الحدود الذاتية والرسمية وفيه تظهر أحكام النسب والإضافات فما أحدث الله بعد ذلك جوهرا لكن يحدث فيه فإذا علمت هذا فاعلم من تقع عليه العين وما هي عليه العين وما تسمعه الأذن وما هي الأذن وما يصوت به اللسان وما هو الصوت وما نلمسه الجوارح وما هي الجارحة وما يذوق طعمه الحنك وما هو الحنك وما يشمه الأنف وما هو الأنف وما يدركه العقل وما هو العقل وما هو السمع والبصر والشم والطعم واللمس والحس وما هو المتخيل والمتخيل والخيال وما هو التفكر والمتفكر والفكر والمتفكر فيه وما هو المصور والمصور والصورة والذاكر والذكر والمذكور والوهم والمتوهم والتوهم والمتوهم فيه والحافظ والحفظ والمحفوظ وما هو المعقول فما يحصل لك إلا علم بأعراض ونسب وإضافات في عين واحدة هي الواحدة والكثيرة وعليها تنطلق الأسماء كلها بحسب ما أحدث الله فيها مما ذكرناه وهي بالذات عين هذا الجوهر الذي ملأ الخلأ وقابل لكل ما ذكرناه وفيه يظهر الجوهر الصوري والعرض والزمان والمكان وهذه أمهات الوجود ليس غيرها وما زاد عليها فإنه مركب منها من فاعل ومنفعل وإضافة ووضع وعدد والكيف ومن هنا يعرف هل تقوم المعاني بالمعاني أو الجوهر القابل للمعنى الذي يظن أن المعنى الآخر قائم به إنما هو قائم بالجوهر الذي قام به المعنى الموصوف مثل إشراق السواد فتقول سواد مشرق أو علم حسن أو خلق كريم أو حمرة في بياض مشربة به فإذا علمت هذا علمت من أنت وما هو الحق الذي جاد عليك بما ذكرناه كله وأشباهه وعلمت أنه لا يمكن أن يماثله شي‏ء من خلقه مع معقولية المناسبة التي ربطت وجودك بوجوده وعينك بعينه كما ربط وجود علمك به بعلمك بك في‏

قوله من عرف نفسه فقد عرف ربه‏

فإن أعرف الخلق بالخلق أعرفهم بالله وعلمت أحدية الواحد من أحدية الكثرة وانحصار الوجود قديمه وحديثه فيما ذا ينحصر وتمييز القديم من المحدث بما ذا يتميز وما ينسب إلى القديم الأزلي من الأسماء والأحكام وما ينسب إلى المخلوق المحدث من الأسماء والأحكام ولما ذا يرجع عين العالم وما يشهد من الحق إذا تجلى لك ورأيته ولما ذا يرجع اختلاف التجلي وتغايره هل لتغاير إدراكك في عين واحدة تختلف رؤيتك فيه وهو غير متنوع في نفسه أو ذلك التنوع في التجلي راجع إلى النسبة لا إليك ولا إليه فأما إليه فمحال عند أهل الله وما بقي إلا لأحد أمرين أو لهما إما إليك أو إلى أمر آخر ما هو هو ولا هو أنت وهكذا تشهده فما كل من رأى عرف ما رأى وما حار أهل الحيرة سدى فإن الأمر عظيم والخطب جسيم والمشهد عام والوجود طام والكمال حاصل والعلم فاصل والحكم نازل والتجدد مع الأنفاس في الأكوان معقول وما يقال على الحق‏

منقول بين معقول وغير معقول وليس يدرك هذه الأغوار إلا أهل الأسرار والأنوار وأولو البصائر والأبصار فمن انفرد بسر بلا نور أو بنور بلا سر أو ببصيرة دون بصر أو ببصر دون بصيرة أو بظاهر دون باطن أو بباطن دون ظاهر كان لما انفرد به ولم يحصل على كمال وإن اتصف به وإن كان تاما فيما هو عليه ولكن الكمال هو المطلوب لا التمام فإن التمام في الخلق والكمال فيما يستفيده التام ويفيده ومتى لم تحصل له هذه الدرجة مع تمامه فإن الله أعطى كل شي‏ء خلقه فقد تم ثم هدى لاكتساب الكمال فمن اهتدى فقد كمل ومن وقف مع تمامه فقد حرم رزقنا الله وإياكم الفوز والوصول إلى مقام العجز إنه الولي المحسان‏

«الوصل الثاني والعشرون» من خزائن الجود وهذه خزانة الفترات‏

فتوهم انقطاع الأمور وما هي الأمور منقطعة وما يصح أن تنقطع لأن الله لا يزال العالم محفوظا به فلا يزل حافظا له فلو انقطع الحفظ لزال العالم فإن الله ما هو غني عن العالم إلا لظهوره بنفسه للعالم فاستغنى إن يعرف بالعالم فلا يدل عليه الغير بل هو الدليل على نفسه بظهوره لخلقه فمنهم من عرفه وميزه من خلقه ومنهم من جعله عين خلقه ومنهم من حار فيه فلم يدر أ هو عين خلقه أم هو متميز عنه ومنهم من علم أنه متميز عن الخلق والخلق متميز عنه ولكن لا يدري بما ذا تميز خلق عن حق ولا حق عن خلق ولهذا حار أبو يزيد فإنه علم إن ثم في الجملة تمييزا وما عرف ما هو حتى قال له الحق التمييز في الذلة والافتقار فحينئذ سكن وما قال له النصف الآخر من التمييز وهو الغني الإلهي عن العالم فإن قلت الذلة والافتقار يغني قلنا في الشاهد لا يغني لما نشاهده من الذلة لذليل ومن الافتقار لفقير فإن الله قد جعل العالم على مراتب ودرجات مفتقرا بعضه إلى بعض ورفع بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فجعل العالم فاضلا مفضولا ولما كان الأمر الحق فيما نبه الله عليه أبا يزيد نبهنا بذلك على علم قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي المثنى عليه بكل ما يفتقر إليه فالعالم كله أسماؤه الحسنى وصفاته العليا فلا يزال الحق متجليا ظاهرا على الدوام لأبصار عباده في صور مختلفة عند افتقار كل إنسان إلى كل صورة منها فإذا استغنى من استغنى عن تلك الصورة فهي عند ذلك المستغني خلق فإذا عاد افتقاره إليها فهي حق واسمها هو اسم الحق وفي الظاهر لها فيتخيل المحجوب أنه افتقر إليها وذل من أجل حاجته إليها وما افتقر وذل إلا لله الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فالناس في واد والعلماء بالله في واد وأما التفاضل الظاهر في العالم فمجهول عند بعض الناس ومعلوم عند بعضهم ومنهم المخطئ فيه والمصيب وذلك أن العالم قسمه الله في الوجود بين غيب وشهادة وظاهر وباطن وأول وآخر فجعل الباطن والآخر والغيب نمطا واحدا وجعل الأول والظاهر والشهادة نمطا آخر فمن الناس من فضل النمط الذي فيه الأولية ومن الناس من فضل النمط الذي فيه الآخرية ومن الناس من سوى مطلقا ومن الناس من قيد وهم أهل الله خاصة فقالوا النمط الذي فيه الآخرية في حق السعداء خير وفي حق الأشقياء ما هو خير وإن أهل الله تعلقهم بالمستقبل أولى من تعلقهم بالماضي فإن الماضي والحال قد حصلا والمستقبل آت فلا بد منه فتعلق الهمة به أولى فإنه إذا ورد عن همة متعلقة به كان لها لا عليها وإذا ورد عن غير همة متعلقة به كان إما لها وإما عليها وإنما أثر فيه تعلق الهمة أن يكون لها لا عليها لما يتعلق من صاحب الهمة من حسن الظن بالآتي والهمم مؤثرة فلو كان إتيانه عليه لا له لعاد بالهمة له لا عليه وهذه فائدة من حافظ عليها حاز كل نعيم فإذا ورد الآتي على ذي همة متعلقة بإتيانه بادر إلى الكرامة به والتأدب معه على بصيرة وسكون وحسن تأن في ذلك بخلاف من يفجأه الآتي فيدهش ويحار في كيفية تلقيه ومعاملته وهو سريع الزوال فربما فارق الحال ومضى وما قام صاحب الدهش بحقه وبما يجب عليه من الأدب معه بخلاف المستعد غير إن المستعد للآتي لا بد إن كان كاملا إن يحفظ الماضي فإنه إن لم يحفظه فاته خيره وقد جعل الله في العبد من خزائن الجود خزانة الحفظ فيكون عليه جعله في تلك الخزانة فهو صاحب حال في الحال وفي الماضي فما يبقى له إلا الآتي مع الأنفاس فلا تزال القوة الحافظة على باب خزانة الحفظ تمنع إن يخرج منها ما اختزنته فيها وتأخذ ما فارق الحال فتخزنه فيها ولهذه القوة الحافظة سادنان الواحد الذكر وقد وكلته بحفظ المعاني المجردة عن المواد والسادن الآخر الخيال وقد وكلته بحفظ المثل‏

في تلك الخزانة وبقيت هي مشتغلة بقبول ما يأتي إليها عند مفارقة زمان الحال وحكم الزمان الماضي على هذا الآتي فتأخذه فتلقيه في الخزانة خزانة الحفظ وإنما سميت خزانة الحفظ لأنها تحفظ على الآتي زمان الحال وهو الدائم فلا يحكم عليه الزمان الماضي بخلاف

من ليس له هذا الاستعداد ولا هذا التهيؤ فإن الماضي يأخذه فينساه العبد فلا يدري أين ذهب وهو الذي يستولي عليه سلطان الغفلة والسهو والنسيان فيكون الحق يحفظه له أو عليه والعبد لا يشعر لهذا الحفظ الإلهي بل أكثر العبيد لا كلهم وهو قوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ومن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وقال تعالى أيضا في كتابه لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً فالعبد الكامل رب الحفظ يحضر والغافل الذي لا حفظ له يحضر له فبين الرجلين بون بعيد فالحكم العام إنما هو لزمان الحال وهو الدائم يحضر المستقبل قبل إتيانه ويمسك ما أتى به الماضي فإن الزمان صورة روحها ما يأتي به لا غير فزمان الحال حي بحياة كل زمان لأنه الحافظ والضابط لكل ما أتى به كل زمان ولما كانت الأزمنة ثلاثة كانت الأحوال ثلاثة حال اللين والعطف فإنه يأتي باللين ما يأتي بالقهر والفظاظة ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين فإن القهر لا يأتي بالرحمة والمودة في قلب المقهور وباللين ينقضي المطلوب وتأتي بالمودة فتلقيها في قلب من استملته باللين وصاحب اللين لا يقاوم فإنه لا يقاوم لما يعطيه اللين من الحكم والحال الثاني حال هداية الحائر فإن الحائر إذا سأل يسأل إما بحاله وإما بقوله فإن العالم بما حار فيه يجب عليه إن يبين له ما حار فيه فإن كان المسئول فيه مما تكون حقيقة الحيرة فيه أبان له هذا العالم أن العلم به أنه يحار فيه فأزال عنه الحيرة في الحيرة وإن كانت من العلوم التي إذا بينت زالت الحيرة فيه وبان بيان الصبح لذي عينين أبانه له فعلمه فأزال عنه الحيرة ولا يرده ولا يقول له ليس هذا عشك فأدرج ولا سألت ما لا يعطيه مقامك فإن الإنسان إذا قال مثل هذا القول لمن سأله عن علم ما فليس بعالم وهو جاهل بالمسألة وبالوجه الذي ينبغي من هذه المسألة أن يقابل به هذا السائل والعلم وسوء الخلق لا يجتمعان في موفق فكل عالم فهو واسع المغفرة والرحمة وسوء الخلق إنما هو من الضيق والحرج وذلك لجهله فلا يعلم قدر العلم إلا العلماء بالله فله السعة التي لا نهاية لها مددا ومدة ولقد شفعت عند ملك في حق شخص أذنب له ذنبا اقتضى ذلك الذنب في نفس ما يطلبه الملك أن يقتل صاحبه فإن الملك يعفو عن كل شي‏ء إلا عن ثلاثة أشياء فإنه لا يعفو عنها إذ لا عفو فيها وما يتفاضل الملوك فيها إلا في صورة العقوبة والثلاثة الأشياء التي لا عفو فيها عند الملوك التعرض للحرم وإفشاء سره والقدح في الملك وكان هذا الشخص قد جاء لهذا الملك بما يقدح في الملك فعزم على قتله فلما بلغتني قصته تعرضت عند الملك للشفاعة فيه إن لا يقتله فتغير وجه الملك وقال هو ذنب لا يغفر فلا بد من قتله فتبسمت وقلت له أيها الملك والله لو علمت إن في ملكك ذنبا يقاوم عفوك ويغالبه ما شفعت عندك ولا اعتقدت فيك إنك ملك والله إني من عامة المسلمين والله ما أرى في العالم كله ذنبا يقاوم عفوي فتحير من قولي ووقع لي بالعفو عن ذلك الشخص فقلت له فاجعل عقوبته إنزاله عن الرتبة التي أوجبت له عندك إن تطلعه على أسرارك حتى ركب مركبا يقدح في الملك فإني كما كنت له في دفع القتل عنه إنا أيضا للملك معين فيما يدفع عن القدح في ملكه ففرح الملك بذلك وسر وقال لي جزاك الله خيرا عني ثم صعد من عندي إلى قلعته وأخرج ذلك المحبوس وبعث به إلي حتى رأيته فوصيته بما ينبغي وتعجبت من عقل الملك وتأدبه وشكرته على صنيعه والحال الثالث إظهار المنعم عليه نعمة المنعم عليه فإن إظهارها عين الشكر وحقه وبمثل هذا يكون المزيد كما يكون بالكفران لها زوال النعم والكفران سترها فإن الكفر معناه الستر قال تعالى وضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً من كُلِّ مَكانٍ وهذا غاية النعم من المنعم فَكَفَرَتْ يعني الجماعة التي أنعم عليها المنعم بهذه النعم بِأَنْعُمِ الله فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الْجُوعِ بإزالة الرزق والْخَوْفِ بإزالة الأمن بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من ستر النعم وجحدها والأشر والبطر بها وقال تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وقال واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ هذا مع غناه عن العالمين فكيف بالفقير المحتاج إذا أنعم على مثله من نعمة الله التي أعطاه إياه وامتن عليه بها فهو أحوج إلى الشكر وأفرح به من الغني المطلق الغني عن العالمين وهذه خزانة شريفة العلم بها شريف ومقامها مقام منيف‏

«الوصل الثالث والعشرون» من خزائن الجود وهذه خزانة الاعتدال‏

وإعطاء كل ذي حق حقه فهي خزانة العدل لا خزانة الفضل من هذه الخزانة يقيم الله العدل في العالم بين عباده وهي خزانة ينقطع حكمها ويغلق بابها وإن خزانة الفصل تنعطف عليها وإِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ لما فيه من الفضل لمن أخذ له بالحق والْإِحْسانِ معطوف على العدل في الأمر به فيكون من ظهر فيه سلطان العدل وأخذ بجريمته أن يعطف عليه بالإحسان فينقضي أمر المؤاخذة ولا ينقضي أمد الإنعام والإحسان وقد يكون الإحسان ابتداء وجزاء للإحسان الكوني كما جاء في قوله تعالى هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وقوله سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‏ جزاء وزيادة الإحسان بعد العدل والإحسان قبل المؤاخذة وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وأَصْلَحَ ولم يجاز بالسيئة على السيئة فهو أولى فَأَجْرُهُ عَلَى الله أي هذه صفة الحق فيمن عفي عنه فيما هو حق له معرى عن حق الغير فإقامة العدل إنما هو في حق الغير لا فيما يختص بالجناب الإلهي فما كان الله ليأمر بمكارم خلق ولا يكون الجناب الإلهي موصوفا به ولهذا جعل أجر العافين عن الناس على الله وهذه الخزانة أرسلت حجب الأسرار دون أعين الناس وهو ما أخفى الحق عنهم من الغيوب وهو قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا من ارْتَضى‏ من رَسُولٍ فإنه لا يحيط من علم غيب الله إلا بما شاء الله كما رفعت الستور وانكشفت الأنوار فأدركت البصائر بها كل معقول وأدركت الأبصار بها كل مبصر فأحاط العقل بهذه الأنوار كلما يمكن أن يدرك عقلا وأحاط البصر بهذه الأنوار كلما يمكن أن يدرك حسا وهذا لخصوص عباده المصطفين الأخيار فلهم الكشف الدائم للخلق الجديد فلا يتناهى كشفهم كما لا يتناهى الخلق الجديد في العالم ثم إن هذه الخزانة تعطي في العلم الإلهي علم الفاعل والفعل والمفعول والمفعول فيه والمفعول به والمفعول معه فيقف على التكوين الإلهي والتكوين الكياني فيعلم إن لكل فاعل طريقا يخصه في نسبة الفعل إليه فأما أهل الكرم والجود على الغير فإن الله يمكنه من أسباب الخير ويهون عليه الشدائد ويرفع عنه الأمور المحرجة ويخرجه من الظلمات إلى النور ومن الضيق إلى السعة ومن الغي إلى الرشد وأما من نظر في الحقائق ورأى نفسه أحق بنظره إليها من نظره إلى غيره وإن نظره إلى غيره إنما جعله الله ليعود بما فيه من الخير على نفسه فغفل عن كل شي‏ء سواه فشغل نفسه بنفسه وصرف همته إلى عينه وأعطاها من كل شي‏ء أعطاه الحق حقها فاستغنى بربه وكشف له عن ذاته ورأى جميع العالم في حضرته ورأى الرقائق بينه وبين كل جزء من العالم فعمد يحسن إلى العالم من نفسه على تلك الرقيقة التي بين ما يناسب من العالم وبين المناسب له فيوصل الإحسان لكل ما في العالم بهمته من الغيب كما يوصله الحق من الأسباب فيجهله العالم لأنه لا يشهده في الإحسان كما يجهل الحق بالأسباب فيقول لو لا كذا ما كان كذا ونسي الحق في جنب السبب فلا بد أن ينسى هذا العبد الكامل وكما أن لله عبادا وإن وقفوا مع الأسباب يقولون هذا من عند الله ليس للسبب فيه حكم كذلك لله عباد يقولون هذا ببركة فلان وهمته ولو لا همته ما جرى كذا وما دفع الله عنا كذا ومنهم من يقول ذلك عقدا وإيمانا ومنهم من يقول ذلك عن غلبة ظن فهذا عبد قد أقامه الحق في قلوب عباده مقامه في الحالين فالناس ينطقون بذلك ولا يعرفون أصله وقد ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال لأصحابه من الأنصار في واقعة وقعت في فتح مكة في غزوة حنين فقال لهم أ لم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي فذكر نفسه ووجدتكم عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ من النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ الله بي‏

وهذا معنى قول الناس هذا ببركة فلان وهذا بهمة فلان وقولهم اجعلني في خاطرك وفي همتك ولا تنساني وأشباه هذا فمن أعرض عن هذه المشاهد ولم يفرق بين المشهود والشاهد فذلك الحائر الخاسر كما أن الآخر هو الرابح في تجارته المقسط بصفقته والرابحون انقسموا إلى قسمين إلى عاملين على الجزاء وإلى عاملين على الوفاء فالعاملون على الجزاء لهم نعوت تخصهم والعاملون على الوفاء على قسمين عمال لا عمال وعمال عمال والعمال العمال على قسمين عمال بحق وعمال بأنفسهم وكلاهما قائل بالجزاء والعمال لا عمال يرون الجزاء للعمل لا للعامل والعمل لا يقبل نعيم الجزاء فيعود عليهم جزاء العمل وأما جزاء العامل فهم يرون العامل هو الله وليس بمحل للجزاء لأن الجزاء على قدر العامل فيحصلون على الجزاء الإلهي وهو القصور عن الوفاء بما يستحقه العامل فهو جزاء لما قام بالعلماء بالله في الثناء عليه بمحامده وهو



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!