The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى المجاهدة

نداء الحق إلا بالحق والسامع مؤمن والسامعون كثيرون فهو المؤمنون فترك التوبة ترك الرجوع لأنه قال ارْجِعُوا وَراءَكُمْ لمن كان في ظلمة كونه فَالْتَمِسُوا نُوراً انظروا إلى موجدكم وهو النور الذي به الظهور فإذا رأيتم النور كشف لكم عنكم فعلمتم أنه أقرب إليكم مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ لعدم النور

[ما تاب من تاب ولكن الله تاب‏]

فلما حصلت لهم المعرفة هنا بهذا القدر لم تصح منهم توبة عندهم أنهم تائبون فَتابَ عَلَيْهِ فكان هو التائب على الحقيقة والعبد محل ظهور الصفة ولذلك قال لِيَتُوبُوا ثم قال إِنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ وهو لفظ المبالغة إذ كانت له التوبة الأولى من قوله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ والثانية من قوله لِيَتُوبُوا فالتوبتان له من كل عبد فهو التواب لا هم وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ وهذا حكم سار في جميع أفعال العباد فما تاب من تاب ولكن الله تاب ولهذا قالت الجماعة التوبة ترك التوبة والتوبة من التوبة فنفيها إثباتها وإثباتها نفيها

[التوبة على مستوى الشريعة والتوبة على مستوى الحقيقة]

فترك التوبة حال التبري من الدعوى فليست التوبة المشروعة إلا الرجوع من حال المخالفة إلى حال الموافقة أعني مخالفة أمر الواسطة إلى موافقة أمرها لا غير والتوبة من التوبة هي الرجوع منه إليه به فالتوبة من التوبة لها الكشف وما لها حجاب وصاحبها مسئول لأنه تبرأ من الدعوى بها أعني بالدعوى وكل مدع مطالب بالبرهان على صحة دعواه فالمكمل من يثبت التوبة حيث أثبتها الحق ولمن أثبتها ولا يعديها محلها فلها رجال يقومون بها ولها رجال يحكمون بها وهم عَنْها مُبْعَدُونَ لأنها حالة غربة وهم في الموطن الذي فيه ولدوا فلا غربة

[محبة الله للتائب هي كمحبة أهل الغائب إذا عاد إليهم الغائب‏]

ما يرجع إلى أهله إلا الغائب والغائب غريب فالغرباء هم التائبون فالمحبة من الله لهم محبة أهل الغائب إذا ورد عليهم غائبهم فمن كان من أهله مشاهدا له في حال غربته لم يفرح به لنفسه فإنه غير فاقد له وإنما فرحه به لفرحه برجوعه إلى موطنه فهو فرح موافقة كمحبة المحبوب لمحبه لأنها عين حبه لنفسه ولهذا يبغض من يبغضه لحبه لنفسه إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ إليه في كل حال من خلاف ووفاق فهو مقبول محبوب على كل حال وإذا كانت التوبة تحب لأجل الوصلة فالمتصل لا يتصل فهو أشد في المحبة وأعظم في اللذة وهو المعبر عنه بترك التوبة

[الأصل أنه لا رجوع وأن الأمر في مزيد]

ومن رأى أن الأمر الإلهي واتساع الحقيقة الربانية لا يدوم لها حال معين ولا ينبغي ولذلك هو كل يوم في شأن ولا يكرر فلا تصح توبة فإنها رجوع ولا يكون رجوع إلا من مفارقة لأمر يرجع إليه والحق على خلافه فلا رجوع فلا توبة وقوله وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لما تغرب الأمر عند المحجوبين عن موطنه بما ادعوه فيه لنفوسهم قيل لهم إليه يرجع الأمر كله لو نظرتم لرأيتم من نسبتم إليه هذا الفعل منكم إنما هو الله لا أنتم وما الله بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من دعواكم إن الأمر إليكم وهو لله فالأصل إنه لا رجوع وأن الأمر في مزيد إلى ما لا نهاية له ولا إحاطة إذ لا نهاية لواجب الوجود فلا نهاية للممكنات إذ هو الخلاق دائما ولا يصح أن يزول عنه هذا الحكم لأنه ما لا يثبت نفيه إلا بإثباته فنفيه محال فكل باب من أبواب هذا الكتاب مما يقتضي ترك ما أثبتناه في الباب الذي قبله فهو كالذيل له فهو منه فنسوقه مختصرا لأنه لا يحتمل التطويل وهو فصل من فصول الباب الذي قبله فنقتصر في ذلك والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الباب السادس والسبعون في المجاهدة)

سبح إلهك بكرة وأصيلا *** فالنعل يرجع بالهدى إكليلا

جاهد هواك ولا تكن ذا فترة *** فيه وكن للنائبات خليلا

إن المجاهد لا يزال مكابدا *** يهوى الخطوب ويعشق التعليلا

لا تركنن إلى البطالة إنها *** تردى وكن للحادثات وصولا

[حروف العلة والأصناف الأربعة من الأولياء]

اعلموا وفقكم الله أني لما شرعت في الكلام على هذا الباب أريت مبشرة عرفت فيها إن الناس لا بد أن ينزل بهم أمر إلهي عارض يحتاجون فيه إلى حمل مشقة وجهد نفسي وحسي وقيل لي لا تغفل في كل باب أن تدرج فيه الحروف الصغار وتبين أن بإشباعها تكون الحروف الثلاثة التي هي حروف العلة وهي حروف العلة وهي حروف المد واللين وهي الحروف المركبة من علة ومعلول ويكون كلامك فيها وإشارتك إلى الأربعة الأصناف وهم العارفون الذين لهم العوارف الإلهية الوجودية الجودية في معرفتهم وأهل المواقف عند الحدود الإلهية لتلقى الأدب بين كل مقامين عند الانتقال في حال لا يتصفون فيه بالمقام الأول ولا بالثاني وهم أهل البرازخ وكذلك أيضا أهل الوصال والأنس تعين ما لهم من الدرجات في كل مقام كما تبين‏

ما لأهل المواقف سواء حتى لا يختلط على السالك وكذلك أيضا المنكرة أحوالهم وهم الملامية الذين يعرفون ولا يعرفون تميزهم من أهل عوارف المعارف وتظهر ما لهم من الكمال وهم العلماء بالله فهؤلاء الأربعة لا بد من تمشية أحوالهم في كل مقام وهم العارفون والملامية وأهل الأنس والوصال وأصحاب المواقف والقول وهم الأدباء فإنك مأمور بالنصح لعباد الله عن أمر الله والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فلما فرع وارد البرزخ في الواقعة فمنا من مرقدنا وسألنا الله تعالى العصمة في القول والعمل والحال وكنت أرى معي في هذه الواقعة صاحبنا تاج الدين عباس بن عمر السراج وهو الذي كان ينبهني عن الحق تعالى على الكلام في الحروف الصغار التي تتولد عنها حروف العلل الثلاثة فلنبين أولا ما المراد بالحروف الصغار وما مراتب أولادها وهي حروف العلل وإن كنا قد ذكرناها في الباب الثاني باب الحروف من هذا الكتاب فلا بد من ذكر طرف هنا منها لأجل الواقعة

(فصل) [الحروف الصغار ومراتب أولادها]

اعلم أن المراد بالحروف الصغار الحركات الثلاثة وهي الضمة والفتحة والكسرة ولهذه الحروف حالان حال إشباع وحال غير إشباع فإذا اتصف واحد منها بالإشباع كان علة لوجود معلول يناسبه فإن أشبعت الضمة كان عنها الواو المعلولة وإن كانت فتحة كان عنها الألف وإن كانت كسرة كان عنها الياء المعلولة وإنما قيدنا الواو والياء بالعلة لأنهما قد يوجدان في مقام الصحة غير موصوفين بالعلية والألف لا توجد أبدا إلا معلولة ولذلك لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا أبدا

[حروف العلة خرجت على صورة عللها في الحكم‏]

فهذه تسمى حروف العلة أي وجدت معلولة عن هذه العلل فخرجت على صورة عللها في الحكم فأعربت بها الكلمات كما أعربت بعللها تقول زيد أخوك فعلامة الرفع في زيد ضمة الدال وعن إشباع الضمة في قولك أخوك تكون الواو علامة الرفع في أخوك وكذلك في النصب في رأيت زيدا أخاك وفي الخفض مررت بزيد أخيك وكذلك رأيت أخاك زيدا الفتحة في زيد علامة النصب والألف في أخاك المتولدة عن فتحة الخاء علامة النصب وكذلك مررت بأخيك زيد فالكسرة في زيد علامة الخفض والياء في أخيك علامة الخفض فأعطيت الياء حكم معلوله فأعلت الكلمة هذه الحروف فلها حكم ابائها

[الأسماء الإلهية التي لهذه الحروف الصغار وآثارها في الكون‏]

إلى الذي هو الرفع له من الأسماء العلى والفتح له من الأسماء الرحمن ما يفتح الله للناس من رحمة والكسر له من الأسماء المتعالي وآثار هذه الأسماء الإلهية في الكون معلومة كما هي في الحق متميزة بحدودها يمتاز بعضها عن بعض وقد بيناها في الباب الثاني من أبواب هذا الكتاب وبينا فيه حركات البناء من حركات الإعراب ومرتبة السكون الحي والميت وإلحاق النون بحروف العلة في حكم الإعراب في الخمسة الأمثلة من الفعل وهي يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين وإثباتها إعراب وحذفها إعراب بحسب العوامل الداخلة عليها

[الأعمال مكاسب والأحوال مواهب‏]

ولما كان المعلول موصوفا بالمرض كان ذا جهد ومشقة لما يقاسيه من ألم العلة القائمة به إذ لا يوجد عن العلة إلا معلول فلهذا جعلناه في باب المجاهدة لأن المجاهدة مشقة وتعب وبها سمي الجهاد جهادا ودين الله يسر وقول الله صدق حيث قال ما «جَعَلَ» عَلَيْكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ وقال يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ولهذا جعلنا بابا لترك الجهاد وهو الذي يلي هذا الباب وهو الباب السابع والسبعون في ترك المجاهدة لا ترك العمل لأن المجاهدة حال الأعمال في وقت والأحوال مواهب والأعمال مكاسب ولهذا أقيم الكسب مقام العمل والعمل مقام الكسب فجاء في آية وتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وفي آية ما كَسَبَتْ فسمى العمل كسبا وناب كل واحد منهما مناب صاحبه ولهذا قلنا في الأعمال مكاسب ومن العمال من يكون عليهم في عملهم مشقة وهي المجاهدة ومنهم من لا يجدها فلا يكون صاحب مجاهدة فلو اقتضى العمل المشقة لكانت صفة كل عامل‏

[فصل أصناف المجاهدين الأربعة]

واعلم أيدك الله أن المجاهدين هم أهل الجهد والمشقة والمكابدة وهم أربعة أصناف مجاهدون من غير تقييد بأمر وهو قوله تعالى وفَضَّلَ الله الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ والصنف الثاني مجاهدون بتقييد في سبيل الله وهو قوله والْمُجاهِدُونَ في سَبِيلِ الله والصنف الثالث المجاهدون فيه وهو قوله والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي نبين لهم حتى يعلموا فيمن جاهدوا فيجاهدون عند ذلك أو لا يجاهدون والصنف الرابع المجاهدون في الله حَقَّ جِهادِهِ فميزهم عن المجاهدين من غير هذا التقييد كالذين يتقون الله حَقَّ تُقاتِهِ ويتلون الكتاب حَقَّ تِلاوَتِهِ فهي مرتبة رابعة في الجهاد

[ما دام التكليف موجودا فالمجاهدة قائمة]

وهذه المجاهدة من المقامات المستصحبة للتكليف فما دام التكليف موجودا كانت المجاهدة قائمة العين فإذا زال حكم التكليف زالت المجاهدة ولهذا نفس الله عن المكلفين بصنف المباح لما شفعت فيهم‏

الصورة التي خلقوا عليها لأنها غير محجور عليها فلما رأت من يشبهها قد حجر عليه سألت فيه رفع الحجر عنه فقيل لها إلى ذلك ما له في الآخرة فقالت فلا بد له أن يكون له حكم في الحياة الدنيا ليكون لي بشرى بقبول الشفاعة فإنك القائل لَهُمُ الْبُشْرى‏ في الْحَياةِ الدُّنْيا وفي الْآخِرَةِ فإن هذه الصورة متنزهى وموضع نظري فإذا رأيت عليها التحجير أرى الانكسار فيها ولا نرى أثرا لعنايتي فيها مع كونها مخلوقة على صورتي ولا تحجير علي‏

[المباح والتكليف والمجاهدة]

فشرع الله لها في الدنيا المباح فلا تنظر إليها الصورة الإلهية إلا في وقت تصرفها في المباح وهو أرفع أحوال النفس في الدنيا فإنه من الحياة الأخرى التي لا تحجير فيها فإذا انتقلت من المباح إلى مكروه أو مندوب أعرضت الصورة عن المكلف قليلا ونأت بجانبها مع بعض التفات إليها فإذا انتقلت إلى محظور أو فعل واجب أسدلت الحجاب وأعرضت بالكلية عن ذلك المكلف فلما رأى ذلك من كلفها وحجر عليها وهو الله تعالى أوجب على نفسه ما أوجبه مثل قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ فرفع الحجاب ونظرت الصورة إلى كل واحد في كل حال من أحوال الأحكام‏

[الوجوب على الله وتعلق العلم الإلهي بالمعلومات‏]

فانظر يا ولي ما ألطف الله وما أرأفه بعباده حيث شرك نفسه معهم في حكم الوجوب وما أسقط الوجوب عنهم بل أدخل نفسه معهم فيه إذ قد اتصفوا به ابتداء فلو أزاله عنهم لم يقم عندهم مقام إدخال نفسه معهم فيه أي ذقنا ما ذوقناكم هذا وغاية اللطف في الحكم والتنزل الإلهي كما نزل معهم في العلم المستفاد إذ كان علمهم مستفادا فقال ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وهو العليم فانسهم وفيه حكم إيمان يعتض به من يسمع ممن لا يعرف الله قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات وإن كانوا قصدوا بذلك التنزيه وهذه مسألة لا يمكن تحققها بالعقل ما لم يكن الكشف بكيفية تعلق العلم الإلهي بالمعلومات وأنه ليس في حق الحق ماض ولا آت وأن آنه لم يزل ولا يزال لا يتصف آنه بأنه لم يكن ثم كان ولا بانقضاء بعد ما كان وربما يعطي الله هذه القوة لمن شاء من عباده وقد ظهر منها نفحة على محمد صلى الله عليه وسلم علم بها علم الأولين والآخرين فعلم الماضي والمستقبل في الآن فلو لا حضور المعلومات له في حضرة الآن لما وصف بالعلم بها فهذا يعلم أن الله يعلم الجزئيات علما صحيحا غاب عنه من قصد التنزيه بنفيه عن جناب الحق‏

[المجاهدة حمل النفس على المشاق والرياضة تهذيب الأخلاق‏]

ثم نرجع ونقول إن المجاهدة حمل النفس على المشاق البدنية المؤثرة في المزاج وهنا وضعفا كما إن الرياضة تهذيب الأخلاق النفسية بحملها على احتمال الأذى في العرض والخارج عن بدنه مما لا حركة فيه بدنية ثم إن هذه الحركات البدنية المحمودة شرعا منها حركات في سبيل الله مطلقا وهي أنواع سبيل كل بر مشروع فمنه ما فيه مشقة فيسمى مجاهدة ومنه ما لا مشقة فيه فيرتفع عنها حكم هذا الاسم‏

[أعظم المشاق إتلاف المهج في سبيل الخلاق‏]

وهذا الباب مخصوص بما فيه مشقة ولهذا سميناه باب المجاهدة فنظرنا إلى أعظم المشاق فلم نجد أعظم من إتلاف المهج في سبيل الله وهو الجهاد في سبيل الله الذي وصف الله قتلاه بأنهم أحياء يرزقون ونهى أن يقال فيهم أموات ونفى العلم عمن يلحقهم بالأموات للمشاركة في صورة مفارقة الإحساس وعدم وجود الأنفاس‏

[إبطال قياس الفقهاء والعقلاء]

وهذا من أدل دليل على إبطال القياس لأن المعتقدين موت المجاهدين المقتولين في سبيل الله إنما اعتقدوه قياسا على المقتول في غير سبيل الله بالعلة الجامعة في كونهم رأوا كل واحد من المقتولين على صورة واحدة من عدم الأنفاس والحركات الحيوانية وعدم الامتناع مما يراد من الفعل بهم من قطع الأعضاء وتمزيق الجلود وأكل سباع الطير والسباع واستحالة أجسامهم إلى الدود والبلى فقاسوا فأخطأ والقياس ولا قياس أوضح من هذا أولا أدل في وجود العلة منه ومع هذا أكذبهم الله وقال لهم ما هو الأمر في المقتول في سبيلي كالمقتول في غير سبيلي ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ فقال لهم ذلك الحكم الذي حكمتم علي ليس بعلم وإذا لم يكن علما لم يكن صحيحا وإذا لم يصح لم يجز الحكم به مع علمنا بأخبار الله أن ذلك ليس بصحيح ثم قال ولا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ الله أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ولكِنْ لا تَشْعُرُونَ فنفى عنهم العلم الذي أعطاهم القياس فإذا كان حكم هذا القياس على وضوحه وعدم الريب فيه وتوفر أسبابه وظهور علله الجامعة بينه وبين غيره من القتلى وهو باطل بأخبار الله فما ظنك بقياس الفقهاء في النوازل وقياس العقلاء بحكم الشاهد على الغائب في معرفة الله هيهات صدق الله وكذب أهل القياس على الله والله لا أشبه من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ من مثله الأشياء

[المجاهدون في سبيل الله وصنفا النفوس‏]

فلما كان إتلاف المهج أعظم المشاق على النفوس لهذا سمي جهادا فإن النفوس نفسان نفس ترغب في الحياة الدنيا لألفتها بها فلا يريد المفارقة

وتشق عليها ونفس ترغب في الحياة الدنيا لتزيد بذلك طاعة وأفعالا مقربة ومعرفة إلهية وترقيا دائما مع الأنفاس فشق عليها مفارقة الحياة الدنيا فلهذا سمي جهادا في حق الطائفتين فأما المجاهدون في سبيل الله وهي الطريق إلى الله أي إلى الوصول إليه من كونه إلها فهو جهاد لنيل معرفة المرتبة التي عنها ظهر العالم والأحكام فيه وعنها تكون الخلائف في الأرض فينا لهم في هذه السبل من المشقة ما يناله المسافر في طريقه المخوفة فإنه في طريق عرض نفسه في السلوك فيه إلى إتلاف ماله ونفسه ويتم أولاده وفقد مألوفاته قال تعالى وجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله وقال يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ‏

[الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم‏]

ولما علم الله من العباد أنه يكبر عليهم مثل هذا لدعواهم أن نفوسهم وأموالهم لهم كما أثبتها الحق لهم والله لا يقول إلا حقا فقدم شراء الأموال والنفوس منهم حتى يرفع يدهم عنها فبقي المشتري يتصرف في سلعته كيف يشاء والبائع وإن أحب سلعته فالعوض الذي أعطاه فيها وهو الثمن أحب إليه مما باعه فقال إِنَّ الله اشْتَرى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ وبعد هذا الشراء أمر أن يجاهد بها في سبيل الله ليهون ذلك عليهم فهم يجاهدون بنفوس مستعارة أعني النفوس الحيوانية القائمة بالأجسام والأموال مستعارة

[الإنسان مجبول على الشفقة الطبيعية]

فهم كمن سافر على دابة معارة ومال غيره وقد رفع عنه الحرج مالكها عند ما أعاره إن نفقت الدابة وهلك المال فهو مستريح القلب فما بقي عليه مشقة نفسية إن كان مؤمنا إلا ما يقاسي هذا المركب الحيواني من المشقة من طول الشقة وتعب الطريق وإن كان في قتال العدو فما ينال من الكر والفر والطعن بالأرماح والرشق بالسهام والضرب بالسيوف والإنسان مجبول على الشفقة الطبيعية فهو يشفق على مركوبه من حيث إنه حيوان لا من جهة مالكه فإن مالكه قد علم منه هذا المعبر أنه يريد إتلافه فذلك محبوب له فلم يبق له عليه شفقة إلا الشفقة الطبيعية

[النفوس التي اشتراها الحق والنفوس التي باعتها له‏]

فالنفوس التي اشتراها الحق في هذه الآية إنما هي النفوس الحيوانية اشتراها من النفوس الناطقة المؤمنة فنفوس المؤمنين الناطقة هي البائعة المالكة لهذه النفوس الحيوانية التي اشتراها الحق منها لأنها التي يحل بها القتل وليست هذه النفوس بمحل للإيمان وإنما الموصوف بالإيمان النفوس الناطقة ومنها اشترى الحق نفوس الأجسام فقال اشترى من المؤمنين وهي النفوس الناطقة الموصوفة بالإيمان أنفسهم التي هي مراكبهم الحسية وهي الخارجة للقتال بهم والجهاد فالمؤمن لا نفس له فليس له في الشفقة عليها إلا الشفقة الذاتية التي في النفس الناطقة على كل حيوان‏

[المجاهدون بالله هم أرباب الجهاد العام‏]

وأما المجاهدون الذين لم يقيدهم الله بصفة معينة لا في سبيل الله ولا فيه ولا بحق جهاد فهم المجاهدون بالله الذي ليس من صفته التقييد فجهاده في كل شي‏ء وهو الجهاد العام ونسبة الجهاد إليه فيه الذي هو المشقة لكونه سماه مجاهدا ولم يقيد فيما ذا يجاهد فهو حكم القضاء والقدر في الأشياء التي يحصل منه الكرة في المقضي عليه بما قضى به عليه والحق لا يريد مساءته لما له بهذا العبد من العناية

فقال في هذا المقام ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله ترددي في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له من لقائي‏

يقول ولا بد له من الموت لما سبق به العلم فيقبضه عن مجاهدة مطلقة غير مقيدة بأذى ولا غيره ولكن تنبيهه تعالى بالتردد دليل على حكم مناسب حكم المجاهدة فإنه ما جاء به إلا ليقيدنا العلم بالأمر على ما هو عليه فإنه سبحانه المعلم عباده العلم وهو قوله وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهو الذي أعطاهم العلم من اسمه الرحمن الذي قال فيه عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ‏

[المجاهدون الذين لا يتقيدون هم المترددون‏]

فالمجاهدون من العباد الذين لا يتقيدون كما أطلقهم الله هم المترددون في الأفعال الصادرة أعيانها فيهم هل ينسبونها إلى الله ففيها ما لا ينبغي أن ينسب إليه أدبا وتبرأ الحق منها كما قال بَراءَةٌ من الله أو ينسبونها لأنفسهم ففيها ما ينبغي أن ينسب إلى الله أدبا مع الله ونسبة حقيقية ورأوا الله يقول وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فنفى وأثبت عين ما نفى ثم قال ولكِنَّ الله رَمى‏ فجعل الإثبات بين نفيين فكان أقوى من الإثبات لما له من الإحاطة بالمثبت ثم قال ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ في نفس هذه الآية فعلمنا أن الله حير المؤمنين وهو ابتلاؤه بما ذكر من نفي الرمي وإثباته وجعله بلاء حسنا أي إن نفاه العبد عنه أصاب وإن أثبته له أصاب وما بقي إلا أي الإصابتين أولى بالعبد وإن كان كله حسنا وهذا موضع الحيرة ولذلك سماه بلاء أي موضع اختبار فمن أصاب الحق وهو مراد الله أي الإصابتين أو أي الحكمين أراد حكم النفي أو حكم الإثبات كان أعظم عند الله من الذي لا يصيب ذلك فهؤلاء هم المجاهدون الذين فضلهم الله على القاعدين عن هذا النظر أجرا عظيما وما عظم الله فلا يقدر قدره‏



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!