The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة منزل الاشتراك مع الحق فى التقدير

بسم الله الرحمن الرحيم‏

«الباب الأحد والستون وثلاثمائة في معرفة منزل الاشتراك مع الحق في التقدير وهو من الحضرة المحمدية»

لو كان في الكون غير الله ما وجدوا *** ما كان من فاعل فيه ومنفعل‏

لكنه واحد في الكون منفرد *** بالاختراع وبالتبديل للدول‏

وليس يرجع تكوين إلى عدم *** ولا استقامته في العين عن ميل‏

فانظر إلى دول في طيها ملل *** وانظر إلى ملل تبين عن نحل‏

وأرقى بها فلكا من فوقه فلك *** من الهلال على قصد إلى زحل‏

أتى بها ملك من سدرة بلغت *** نهاية الأمر في ستر من الكلل‏

ولا تناد بما نادت به فرق *** يا مبدأ الأمر بل يا علة العلل‏

لأنه لقب أعطت معالمه *** فقرا يقوم به كسائر العلل‏

[الملائكة المهيمة في جلال الله‏]

اعلم أيدك الله بروح منه أن الله عز وجل يقول لإبليس ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ على جهة التشريف والاختصاص لآدم عليه السلام أَسْتَكْبَرْتَ في نظرك وكذلك كان فإن الله أخبر عنه أنه استكبر وقال لنا عز وجل في كتابه العزيز إن إبليس قال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي من نارٍ وخَلَقْتَهُ من طِينٍ وقال لما قيل له اسجد أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً فهذا معنى قولنا في نظرك أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ في نفس الأمر أي إنك في نفس الأمر خير منه فهنا ظهر جهل إبليس وقد يريد بالعالين الملائكة المهيمة في جلال الله الذين لم يدخلوا تحت الأمر بالسجود وهم أرواح ما هم ملائكة فإن الملائكة هي الرسل من هذه الأرواح كجبريل عليه السلام وأمثاله فإن الألوكة هي الرسالة في لسان العرب فالملائكة هم الرسل من هذه الأرواح خاصة فما بقي ملك إلا سجد لأنهم الذين قال الله لهم اسْجُدُوا لِآدَمَ ولم تدخل الأرواح المهيمة فيمن خوطب بالسجود فإن الله ما ذكر أنه خاطب إلا الملائكة ولهذا قال فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ونصب إبليس على الاستثناء المنقطع لا المتصل وهذه الأرواح المهيمة في جلال الله لا تعلم أن الله خلق آدم ولا شيئا لشغلهم بالله يقول الله لإبليس أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ أي من هؤلاء الذين ذكرناهم فلم تؤمر بالسجود والسجود التطأطؤ في اللسان لأن آدم خلق من تراب وهو أسفل الأركان لا أسفل منه ومن هنا يعرف شرف نقطة الدائرة على محيطها فإن النقطة أصل وجود المحيط فالعالون ما أمروا بالسجود لأنهم ما جرى لهم ذكر في تعريف الله إيانا ولو لا ما ذكر الله إبليس بالإباءة ما عرفنا أنه أمر بالسجود فما أضاف آدم إلى يديه إلا على جهة التشريف على غيره والتنويه لتعلم منزلته عند الله ثم زاد في تشريفه بخلقه باليدين قوله معرفا الأناسي الحيوانيين بكمال الأناسي المكملين أو لم يروا الضمير في يروا يعود على الأناسي الحيوانيين أنا خلقنا لهم أي من أجلهم فالضمير في لهم يعود على الناس الكمل المقصودين من العالم بالخطاب الإلهي مما عملت أيدينا فأضاف عمل الخلق إلى الأيدي الإلهية وعم الأسماء الإلهية بالنون من أيدينا وذلك لتمام التشريف الذي شرف به آدم عليه السلام في إضافة خلقه إلى يديه أنعاما وهي من إنعامه عليهم‏

فهم لهم ما لكون فملكوها بتمليك الله بخلاف الإنسان الحيواني فإنه يملكها عند نفسه بنفسه غافلا عن إنعام الله عليه بذلك فيتصرف في المخلوقات الإنسان الحيوان بحكم التبعية ويتصرف الإنسان الكامل فيها بحكم التمليك الإلهي فتصرفه فيها بيد الله وبمال الله الذي آتاه كما قال تعالى آمرا في حق المماليك وآتُوهُمْ من مالِ الله الَّذِي آتاكُمْ فكل مخلوق في العالم فمضاف خلقه إلى يد إلهية لأنه قال مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا فجمع فكل يد خالقة في العالم فهي يده يد ملك وتصريف فالخلق كله لله أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ وقد ورد أن شجرة طوبى غرسها الله بيده وخلق جنة عدن بيده فوحد اليد وثناها وجمعها وما ثناها إلا في خلق آدم عليه السلام وهو الإنسان الكامل ولا شك أن التثنية برزخ بين الجمع والإفراد بل هي أول الجمع والتثنية تقابل الطرفين بذاتها فلها درجة الكمال لأن المفرد لا يصل إلى الجمع إلا بها والجمع لا ينظر إلى المفرد إلا بها فبالإنسان الكامل ظهر كمال الصورة فهو قلب لجسم العالم الذي هو عبارة عن كل ما سوى الله وهو البيت المعمور بالحق لما وسعه‏

يقول تعالى في الحديث المروي ما وسعني أرض ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن‏

فكانت مرتبة الإنسان الكامل من حيث هو قلب بين الله والعالم وسماه بالقلب لتقليبه في كل صورة كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ وتصريفه واتساعه في التقليب والتصريف ولذلك كانت له هذه السعة الإلهية لأنه وصف نفسه تعالى بأنه كل يوم في شأن واليوم هنا الزمن الفرد في كل شي‏ء فهو في شئون وليست التصريفات والتقليبات كلها في العالم سوى هذه الشئون التي الحق فيها ولم يرد نص عن الله ولا عن رسوله في مخلوق أنه أعطى كن سوى الإنسان خاصة

فظهر ذلك في وقت في النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في غزوة تبوك فقال كن أبا ذر فكان أبا ذر

وورد الخبر في أهل الجنة أن الملك يأتي إليهم فيقول لهم بعد أن يستأذن في الدخول عليهم فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله فإذا في الكتاب لكل إنسان يخاطب به من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحي القيوم الذي لا يموت أما بعد فإني أقول للشي‏ء كُنْ فَيَكُونُ وقد جعلتك تقول للشي‏ء كن فيكون فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلا يقول أحد من أهل الجنة للشي‏ء كن إلا ويكون‏

فجاء بشي‏ء وهو من أنكر النكرات فعم وغاية الطبيعة تكوين الأجسام وما تحمله مما لا تخلو عنه وتطلبه بالطبع ولا شك أن الأجسام بعض العالم فليس لها العموم وغاية النفس تكوين الأرواح الجزئية في النشآت الطبيعية والأرواح جزء من العالم فلم يعم فما أعطى العموم إلا الإنسان الكامل حامل السر الإلهي فكل ما سوى الله جزء من كل الإنسان فاعقل إن كنت تعقل وانظر في كل ما سوى الله وما وصفه الحق به وهو قوله وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ووصف الكل بالسجود وما جعل لواحد منهم أمرا في العالم ولا نهيا ولا خلافة ولا تكوينا عاما وجعل ذلك للإنسان الكامل فمن أراد أن يعرف كماله فلينظر في نفسه في أمره ونهيه وتكوينه بلا واسطة لسان ولا جارحة ولا مخلوق غيره فإن صح له المعنى في ذلك فهو عَلى‏ بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ في كماله فإنه عنده شاهد منه أي من نفسه وهو ما ذكرناه فإن أمر أو نهى أو شرع في التكوين بوساطة جارحة من جوارحه فلم يقع شي‏ء من ذلك أو وقع في شي‏ء دون شي‏ء ولم يعم مع عموم ذلك بترك الواسطة فقد كمل ولا يقدح في كماله ما لم يقع في الوجود عن أمره بالواسطة فإن الصورة الإلهية بهذا ظهرت في الوجود فإنه أمر تعالى عباده على السنة رسله عليه السلام وفي كتبه فمنهم من أطاع ومنهم من عصى وبارتفاع الوسائط لا سبيل إلا الطاعة خاصة لا يصح ولا تمكن إباية

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يد الله مع الجماعة

وقدرته نافذة ولهذا إذا اجتمع الإنسان في نفسه حتى صار شيئا واحدا نفذت همته فيما يريد وهذا ذوق أجمع عليه أهل الله قاطبة فإن يد الله مع الجماعة فإنه بالمجموع ظهر العالم والأعيان ليست إلا هو أنظر في قوله تعالى ما يَكُونُ من نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ثم قال ولا أَدْنى‏ من ذلِكَ وهو ما دون الثلاثة ولا أَكْثَرَ وهو ما فوق الثلاثة إلى ما لا يتناهى من العدد إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا وجودا أو عدما حيثما فرضوا فهو سبحانه ثان للواحد فإن المعية لا تصح للواحد من نفسه لأنها تقتضي الصحبة وأقلها اثنان وهو ثالث للاثنين ورابع للثلاثة وخامس للأربعة بالغا ما بلغ وإذا أضيفت المعية للخلق دون الحق فمعية الثاني ثاني اثنين ومعية الثالث للاثنين ثالث ثلاثة ومعية الرابع للثلاثة رابع أربعة بالغا ما بلغ لأنه عين ما هو معه في المخلوقية فهو من جنسه والحق ليس كذلك ف لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فليس بثالث ثلاثة ولا خامس خمسة فافهم‏

فقد تبين الحق من الخلق من وجه وقد ظهر بصورته أيضا من وجه‏

[أن الطبيعة ظل النفس الكلية المعبر عنها باللوح المحفوظ]

واعلم أن الطبيعة ظل النفس الكلية الموصوفة بالقوتين المعبر عنها بلسان الشرع باللوح المحفوظ فما لم يمتد من ظل النفس وبقي فيها فهو الذي نزلت به عن العقل في درجة النورية والإضاءة وما امتد من ظل النفس سمي طبيعة وكان امتداد هذا الظل على ذات الهيولى الكل فظهر من جوهر الهيولى والطبيعة الجسم الكل مظلما ولهذا شبهوه بالسبجة السوداء لهذه الظلمة الطبيعية وسموا النفس الزمردة الخضراء لما نزلت به عن العقل في النور وفي الجسم الكل ظهرت صور عالم الأجسام وأشكاله فكان ذلك للجسم الكل كالأعضاء فلما استعد الجسم بما استعد به توجهت عليه النفس وأنارته فانتشرت الحياة في جميع أعضائه كلها فتلك أرواح عالم الأجسام العلوي والسفلي من فلك وعنصر ثم استحال بعضه إلى بعضه لتأثير حكم الحركة الزمانية التي عينها الاسم الدهر في الأفلاك فظهرت للعين صور المولدات الفلكية كالكواكب والجنات ومرتبتها وما فيها والعنصرية من معدن ونبات وحيوان وصور غريبة وأشكال عجيبة في عين وجودية فما خرج شي‏ء من العدم إلا الصور والأعراض من تركيب وتحليل والجوهر ثابت العين قابل لهذه الصور كلها دنيا وآخرة وإذا علمت هذا وتقرر فاعلم إن قوله تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ أن المعنى المراد من ذلك التقدير والإيجاد فالتدبير للتقدير والتفصيل للإيجاد من فصلت الشي‏ء عن الشي‏ء إذا قطعته منه وفصلت بينه وبينه حتى تميز فإن كان الفصل عن تقدير فهو على صورته وشكله وإن كان عن غير تقدير فقد لا يكون على صورته وإن أشبهه في أمر ما فإنه يفارقه في أمر آخر كالبياض والسواد يشتركان في اللونية وإن كانا ضدين وكاللون والحركة يشتركان في العرضية وإن كانا مختلفين قال الشاعر

ولأنت تفري ما خلقت و*** بعض الناس يخلق ثم لا يفري‏

وكالإسكاف وأمثاله من صائغ وخياط وحداد وأمثال ذلك يريد أن يقطع من جلد نعلا فيأخذ نعلا فيقدره على الجلد فإذا أخذ قدرة من الجلد قطع من الجلد ذلك المقدار وفصله منه والظلالات أوجدها الله على مثال الأشخاص ولما أراد فصلها مدها فظهرت أعيانها على صورة من هي ظله حذوك النعل بالنعل فلما خلق الله العالم دون الإنسان أي دون مجموعه حذا صورته على صورة العالم كله فما في العالم جزء إلا وهو على صورة الإنسان وأريد بالعالم كل ما سوى الله ففصله عن العالم بعد ما دبره وهو عين الأمر المدبر ثم إنه تعالى حذاه حذوا معنويا على حضرة الأسماء الإلهية فظهرت فيه ظهور الصور في المرآة للرائي ثم فصله عن حضرة الأسماء الإلهية بعد ما حصلت فيه قواها فظهر بها في روحه وباطنه فظاهر الإنسان خلق وباطنه حق وهذا هو الإنسان الكامل المطلوب وما عدا هذا فهو الإنسان الحيواني ورتبة الإنسان الحيواني من الإنسان الكامل رتبة خلق النسناس من الإنسان الحيواني هذا جملة الأمر في خلق الإنسان الكامل من غير تفصيل وأما تفصيل خلقه فاعلم إن الله لما خلق الأركان الأربعة دون الفلك وأدارها على شكل الفلك والكل أشكال في الجسم الكل فأول حركة فلكية ظهر أثرها فيما يليها من الأركان وهو النار فأثر فيه اشتعالا بما في الهواء من الرطوبة فكان ذلك الاشتعال واللهب من النار والهواء وهو المارج أي المختلط ومنه سمي المرج مرجا لأنه يحوي على أخلاط من الأزهار والنبات ومنه وقع الناس في هرج أي قتل ومرج أي اختلاط ففتح الله في تلك الشعلة الجان ثم أفاضت الكواكب النيرة بأمر الله وإذنه فإنه أَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فطرحت شعاعها على الأركان والأركان مطارح الشعاعات فظهرت الأركان بالأنوار وأشرقت وأضاءت فأثرت وولدت فيها المعدن والنبات والحيوان وهي على الحقيقة التي أثرت في نفسها لأن الأفلاك أعني السموات إنما أوجدها الله عن الأركان ثم أثرت في الأركان بحركاتها وطرح شعاعات كواكبها ليتولد ما تولد فيها من المولدات فبضاعتها ردت إليها فما أثر فيها سواها وجعل ذلك من أشراط الساعة فإنه من أشراطها أن تلد المرأة بعلها فولدت الأركان الفلك ثم نكحها الفلك فولد فيها ما ولد فهو ابنها زوجها ولم يظهر في الأركان صورة للإنسان الذي هو المطلوب من وجود العالم فأخذ التراب اللزج وخلطه بالماء فصيره طينا بيديه تعالى كما يليق بجلاله إذ ليس‏

كمثله شي‏ء وتركه مدة يختمر بما يمر عليه من الهواء الحار الذي يتخلل أجزاء طينته فتخمر وتغيرت رائحته فكان حمأ مسنونا متغير الريح ومن أراد أن يرى صدق ذلك إن كان في إيمانه‏

خلل فليحك ذراعه بذراعه حكا قويا حتى يجد الحرارة من جلد ذراعه ثم يستنشقه فيجد فيه رائحة الحماة وهي أصله التي خلق الجسم منها قال الله تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ من صَلْصالٍ ومن حَمَإٍ مَسْنُونٍ فلما طهرت فخارة الإنسان بطبخ ركن النار إياها والتأمت أجزاؤه وقويت وصلبت قصرها بالماء الذي هو عنصر الحياة فأعطاها الماء من رطوبته وألان بذلك من صلابة الفخار ما ألان فسرت فيه الحياة وأمده الركن الهوائي بما فيه من الرطوبة والحرارة ليقابل بحرارته برد الماء فامتنعا فتوفرت الرطوبة عليه فأحال جوهرة طينته إلى لحم ودم وعضلات وعروق وأعصاب وعظام وهذه كلها أمزجة مختلفة لاختلاف آثار طبيعة العناصر واستعدادات أجزاء هذه النشأة فلذلك اختلفت أعيان هذه النشأة الحيوانية فاختلفت أسماؤها لتتميز كل عين من غيرها وجعل غذاء هذه النشأة مما خلقت منه والغذاء سبب في وجود النبات وبه ينمو فعبر عن نموه وظهور الزيادة فيه بقوله والله أَنْبَتَكُمْ من الْأَرْضِ نَباتاً ومعناه فنبتم نباتا فإن مصدر أنبت إنما هو إنبات فأضاف النبات إلى الشي‏ء الذي ينمو يقول جعل غذاءكم منها أي مما تنبته فتنبتون به أي تنمي أجسامكم وتزيد فلما أكمل النشأة الجسمية النباتية الحيوانية وظهر فيها جميع قوى الحيوان أعطاه الفكر من قوة النفس العملية وأعطاه ذلك من قوة النفس العلمية من الاسم الإلهي المدبر فإن الحيوان جميع ما يعمله من الصنائع وما يعلمه ليس عن تدبير ولا روية بل هو مفطور على العلم بما يصدر عنه لا يعرف من أين حصل له ذلك الإتقان والإحكام كالعناكب والنحل والزنابير بخلاف الإنسان فإنه يعلم أنه ما استنبط أمرا من الأمور إلا عن فكر وروية وتدبير فيعرف من أين صدر هذا الأمر وسائر الحيوان يعلم الأمر ولا يعلم من أين صدر وبهذا القدر سمي إنسانا لا غير وهي حالة يشترك فيها جميع الناس إلا الإنسان الكامل فإنه زاد على الإنسان الحيواني في الدنيا بتصريفه الأسماء الإلهية التي أخذ قواها لما حذاه الحق عليها حين حذاه على العالم فجعل الإنسان الكامل خليفة عن الإنسان الكل الكبير الذي هو ظل الله في خلقه من خلقه فعن ذلك هو خليفة ولذلك هم‏

خلفاء عن مستخلف واحد فهم ظلاله للأنوار الإلهية التي تقابل الإنسان الأصلي وتلك أنوار التجلي تختلف عليه من كل جانب فيظهر له ظلالات متعددة على قدر أعداد التجلي فلكل تجل فيه نور يعطي ظلا من صورة الإنسان في الوجود العنصري فيكون ذلك الظل خليفة فيوجد عنه الخلفاء خاصة وأما الإنسان الحيواني فليس ذلك أصله جملة واحدة وإنما حكمه حكم سائر الحيواني إلا أنه يتميز عن غيره من الحيوان بالفصل المقوم له كما يتميز الحيواني بعضه عن بعض بالفصول المقومة لكل واحد من الحيوان فإن الفرس ما هو الحمار من حيث فصله المقوم له ولا البغل ولا الطائر ولا السبع ولا الدودة فالإنسان الحيواني من جملة الحشرات فإذا كمل فهو الخليفة فاجتمعنا لمعان وافترقا لمعان‏

[إن الله أعطاه حكم الخلافة واسم الخليفة]

ثم إن الله أعطاه حكم الخلافة واسم الخليفة وهما لفظان مؤنثان لظهور التكوين عنهما فإن الأنثى محل التكوين فهو في الاسم تنبيه ولم يقل فيه نائب وإن كان المعنى عينه ولكن قال إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً وما قال إنسانا ولا داعيا وإنما ذكره وسماه بما أوجده له وإنما فرقنا بين الإنسان الحيواني والإنسان الكامل الخليفة لقوله تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فهذا كمال النشأة الإنسانية العنصرية الطبيعية ثم قال له بعد ذلك في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ إن شاء في صورة الكمال فيجعلك خليفة عنه في العالم أو في صورة الحيوان فتكون من جملة الحيوان بفصلك المقوم لذاتك الذي لا يكون إلا لمن ينطلق عليه اسم الإنسان ولم يذكر في غير نشأة الإنسان قط تسوية ولا تعديلا وإن كان قد جاء الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى فقد يعني به خلق الإنسان لأن التسوية والتعديل لا يكونان معا إلا للإنسان لأنه سواه على صورة العالم وعدله عليه ولم يكن ذلك لغيره من المخلوقين من العناصر ثم قال له بعد التسوية والتعديل كن وهو نفس إلهي فظهر الإنسان الكامل عن التسوية والتعديل ونفخ الروح وقول كن وهو قوله إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فشبه الكامل وهو عيسى عليه السلام بالكامل وهو آدم عليه السلام خليفة بخليفة وغير الخلفاء إنما سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ من رُوحِهِ وما قال فيه إنه قال له كن إلا في الآية الجامعة في قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فاجعل بالك لما نبهتك عليه فنقص عن مرتبة الكمال التي أعطاها

الله للخلفاء من الناس ولما قسم الله الفلك الأطلس الذي هو فلك البروج وهو قوله والسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ على اثني عشر قسما وأوحى الله تعالى في سماء البروج أمرها فلكل برج فيها أمر يتميز به عن غيره من البروج وجعل الله لهذه البروج أثرا من أمر الله الموحى به فيها فيما دون هذه السماء من عالم التركيب والإنسان من حيث جسمه وطبيعته من عالم التركيب وهو زبدة مخض الطبيعة التي ظهرت بتحريك الأفلاك فهو المخضة التي ليس في اللبن ألطف منها بل هي روح اللبن إذا خرج منه بقي العالم مثل النخالة فهو فيه لا فيه فإنه متميز عنه بالقوة وهو منه فإن الإنسان ما خرج من العالم وإن كان زبد مخضة العالم إذ لو انفصل عنه ما بقي العالم يساوي شيئا مثل اللبن إذا خرج عنه الزبد استحال وقل ثمنه وزال خيره الذي كان المطلوب منه ومن أجل تلك الزبدة كان يستعمل اللبن ويعظم قدره فلما قضى الله أن يكون لهذه البروج أثر في العالم الذي تحت حيطة سماء هذه البروج جعل الله في نشأة هذا الإنسان اثني عشر قابلا يقبل بها هذه الآثار فيظهر الإنسان الكامل بها وليس ذلك للإنسان الحيوان وإن كان أتم في قبول هذه الآثار من سائر الحيوان ولكنه ناقص بالنظر إلى قبول الإنسان الكامل فمن الاثني عشر لصوقها بالعالم حين حذيت عليه ولصوقها بحضرة الأسماء الإلهية وبه صح الكمال لهذه النفس وهذه المجاورة على ثلاث مراتب منها مرتبة الاختصاص وهي في الإنسان الحيوان بما هو محصل لحقائق العالم وهي في الكامل كذلك وبما اختص به من الأسماء الإلهية حين انطلقت عليه بحكم المطابقة للحذو الإلهي الاعتنائي ولكونه ظلا ولا شي‏ء ألصق من الظل بمن هو عنه والمرتبة الثانية من المجاورة مرتبة الشيئية الرابطة بين الأمرين وهي الأدوات التي بها يظهر عن الإنسان ما يتكون عنه فيشترك الإنسان الحيوان مع الكامل في الأدوات الصناعية التي بها يتوصل إلى مصنوع ما مما يفعل بالأيدي ويزيد الكامل عليه بالفعل بالهمة فادواته همته وهي له بمنزلة الإرادة الإلهية إذا توجهت على إيجاد شي‏ء فمن المحال أن لا يكون ذلك الشي‏ء المراد والمرتبة الثالثة الاتصال بالحق فيفني عن نفسه بهذا الاتصال فيظهر الحق حتى يكون سمعه وبصره وهذا المسمى علم الذوق فإنه لا يكون الحق شيئا من هذه الأدوات حتى تحترق بوجوده فيكون هو لا هي وقد ذقنا ذلك ووجدت الحرق حسا في ذكري لله بالله فكان هو ولم أكن أنا فأحسست بالحرق في لساني وتألمت لذلك الحرق تألما حسيا حيوانيا لحرق حسي قام بالعضو فكنت ذاكرا الله بالله في تلك الحالة ست ساعات أو نحوها ثم أنبت الله لي لساني فذكرته بالحضور معه لا به وهكذا جميع القوي لا يكون الحق شيئا منها حتى يحرق تلك القوة وجوده فيكون هو أي قوة كانت وهوقوله كنت سمعه وبصره ولسانه ويده‏

ومن لم يشاهد الحرق في قواه ويحسه وإلا فلا ذوق له وإنما ذلك توهم منه وهذا معنى قوله في الحجب الإلهية لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه فأي قوة أراد الحق إحراقها من عبده حتى يحصل له العلم بالأمر من طريق الذوق برفع الحجاب الذي بين الإنسان من حيث تلك القوة وبين الحق فتحترق بنور الوجه فيسد بنفسه خلل تلك القوة فإن كان سمعه كان الحق سمعه في هذه الحالة وإن كان بصره فكذلك وإن كان لسانه فكذلك ولنا في هذا المعنى‏

ألا إن ذكر الله بالله يحرق *** وحكمي بهذا فيه حكم محقق‏

فإني ورب الواردات طعمته *** فحكمي عليه أنه الحق يصدق‏

ولذلك‏

قال الحق في الحديث الصحيح كنت سمعه وبصره‏

فجعل كينونته سمع عبد منعوت بوصف خاص وهذا أعظم اتصال يكون من الله بالعبد حيث يزيل قوة من قواه ويقوم بكينونته في العبد مقام ما أزال على ما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تكييف ولا حصر ولا إحاطة ولا حلول ولا بدلية والأمر على ما قلناه وما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وسْئَلِ الْقَرْيَةَ يعني الجماعة الَّتِي كُنَّا فِيها يعني أهل الله المنعوتين بهذه الطريقة من عباد الله الذين قاموا بنوافل الخيرات وداوموا عليها وأقبلوا إلى الله بها والله يؤيدنا بالعصمة في الاعتقاد والقول والعمل إنه ولي الرحمة الأثر الثاني من الاثني عشر إن المثلين اللغويين لا يلزم من وصف كل واحد منهما بالمثلية لصاحبه المماثل له الاشتراك في صفات النفس لأن المثلية لغوية وعقلية فالعقلية هي التي يشترك بها في صفات النفس واللغوية بأدنى شبه بأمر ما يكون مثلا له في ذلك الأمر فيكون للمثل حكم مثله من حيث ما هو مثله فيه وقابل له وما ثم بين العبد الإنساني‏

الكامل والحق في ليس كمثله شي‏ء إلا قبوله لجميع الأسماء الإلهية التي بأيدينا وبها صحت خلافته وفضل على الملائكة فالخليفة إن لم يظهر فيمن هو خليفة عليه بأحكام من استخلفه وصورته في التصرف فيه وإلا فما هو خليفة له كما أن الخليفة قد استخلف من استخلفه في ماله وجميع أحواله لما اتخذه وكيلا فهو فيما استخلفه الحق فيه من التصرف في المستخلف عليه لا يتصرف إلا بنظر وكيله فهو المستخلف بالمستخلف فاستخلاف العبد ربه لما اتخذه وكيلا خلافة مطلقة ووكالة مفوضة دورية واستخلاف الرب عبده خلافة مقيدة بحسب ما تعطيه ذاته ونشأته‏

يقول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لربه عز وجل لما سافر أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل‏

فسماه خليفة والله تعالى قد أقسم بكل معلوم من موجود ومعدوم فقال فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وما لا تُبْصِرُونَ فأقسم بنفسه وبجميع المعلومات فهل لنا أن نقسم بما أقسم الله تعالى به أو محجور علينا ذلك فلا نكون إذا خلفاء فيما هو محجور علينا والمقسم به قد يقسم بالأمر مضافا أو مفردا فالمفرد والله لأفعلن كذا والمضاف مثل قول عائشة رضي الله عنها في قسمها ورب محمد فدخل المضاف في المضاف إليه في الذكر بالقسم فعلى هذا الحد يقسم الإنسان الكامل يكل معلوم سواء ذكر الاسم أو لم يذكره وهو بعض تأويلات وجوه قسم الله بالأشياء في مثل قوله تعالى والشَّمْسِ والضُّحى‏ واللَّيْلِ والتِّينِ يريد ورب الشمس ورب الضحى ورب التين فما أقسم إلا بنفسه فلا قسم إلا بالله وما عدا ذلك من الأقسام فهو ساقط ما ينعقد به يمين في المقسوم عليه ولهذا قال تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ واللغو الساقط فمعناه لا يؤاخذكم الله بالإيمان التي أسقط الكفارة فيها إذا حنثتم ولكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فلما سقط العقد بالقلب عند اليمين سقطت الكفارة إذا وقع الحنث ولا خلاف بين العلماء أن الكفارة في الايمان المذكورة في القرآن أنها في اليمين بالله لا بغيره وجاء بالإيمان معرفة بالإضافة والألف واللام وقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم النهي عن اليمين بغير الله‏

فالخليفة ينبغي له أن يكون مع إرادة من استخلفه فيما استخلفه فيه فإن الله يقول والله غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ والصورة قد تكون في اللسان الأمر والشأن‏

فقوله إن الله خلق آدم على صورته‏

أي على أمره وشأنه فالله غالب على أمره أي على من أظهره بصورته أي بأمره فإن له حكم العزل فيه مع بقاء نشأته فيدلك ذلك على أنه ما أراد بالصورة النشأة وإنما أراد الأمر والحكم فالعالم لا يعدل عن سنن العلم ومراد الله في الأشياء وهذا الأمر وحده على الاختصاص من آثار الجوزاء خاصة وهي برج هوائي فطابق الأمر

قول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الرب كان في عماء

بالمد والهمزة وهو السحاب الرقيق ما فوقه هواء وما تحته هواء فنفى عن هذا العماء إحاطة الهواء به وما تعرض لنفي الهواء فالأمر لله فليست نسبة العماء إليه بأولى من نسبة الهواء فنفى الإحاطة الهوائية بهذا العماء لا بد فيه من نفي المجموع لا الجميع وقد بينا في‏

النفس الرحماني حديث العماء والجوزاء بين الماء والتراب لأنها بين الثور والسرطان كآدم بين الماء والطين ولهذا كان حكم الهواء أعم من سائر الأركان لأنه يتخلل كل شي‏ء وله في كل شي‏ء سلطان فيزلزل الأرض ويموج الماء ويجريه ويوقد النار وبه حياة كل نفس متنفس وله الإنتاج في الأشجار وهو الرياح اللواقح فهذا الأثر الثاني من الأقسام الاثني عشر وأما الأثر الثالث وهو ما يظهر في العالم مما يمكن أن يستغني عنه وإنما ظهر مع الاستغناء عنه لتظهر مرتبة قوة الاثنين لئلا يقال ما في الوجود إلا الله مع ظهور الممكنات والمخلوقين فيعلم فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ مع وجود العالمين والاستغناء عنه معقول فجاء في العالم هذا الأمر الذي يمكن أن يستغني عنه مع وجوده لبيان غنى الحق عن العالم فما جعله الله في العالم عبثا فأعطى وجوده مع الاستغناء عنه هذا العلم وهو علم نافع وله نظم خاص يشبه نظم ما لا يستغني عنه مثل وجود الولد عن النكاح وهو مستغني عنه دليلنا نكاح أهل الجنة في الجنة ونكاح العقيم وأما الأثر الرابع‏

فكقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله الله‏

فأتى به مرتين ولم يكتف بواحدة وأثبت بذلك أنه ذكر على الانفراد ولم ينعته بشي‏ء وسكن الهاء من الاسم وهو تفسير لقوله تعالى اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً وهو تكرار هذا الاسم وقوله ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ولم يذكر إلا الاسم الله خاصة وهو مأمور من الله أن يبين للناس ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فلو لا إن قول الإنسان الله الله له حفظ العالم الذي يكون فيه هذا الذكر لم‏

يقرن بزواله زوال الكون الذي زال منه وهو الدنيا وهذا الاسم كان ذكرنا وذكر شيخنا الذي دخلنا عليه وما في فوائد الأذكار أعظم من فائدته فلما قال الحق ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ولم يذكر صورة ذكر آخر مع كثرة الأذكار بالأسماء الإلهية فاتخذه أهل الله ذكرا وحده فانتج لهم في قلوبهم أمرا عظيما لم ينتجه غيره من الأذكار فإن بعض العلماء بالرسوم لم ير هذا الذكر لارتفاع الفائدة عنده فيه إذ كل مبتدأ لا بد له من خبر فيقال له لا يلزم ذلك في اللفظ بل لا بد له من فائدة وقد ظهرت في الذاكر به حين ذكره بهذه الكلمة خاصة فنتج له في باطنه من نور الكشف ما لا ينتجه غيره بل له خبر ظاهر لا في اللفظ كإضافة إلى تنزيه أو ثناء بفعل ومعلوم أنه إذا ذكر أمر ما ثم ذكر أمر ما وكرر على طريق التأكيد له أنه يعطي من الفائدة ما لا يعطيه من ليس له هذا الحكم ولا قصد به فهو أسرع وأنجح في طلب الأمور فلا عبث في العالم جملة واحدة وأما الأثر الخامس وهو يشبه الرابع كما أشبه قسم الحمل من البروج قسم الأسد والقوس وغيره وإن كان هذا ما هو عين هذا وينفرد كل واحد منهما بأمر لا يكون لغيره من مماثلة مع كونه على مثله فلهذا وقع الشبه في الآثار كما وقع في الأصل وهو كل ما وقع في العالم ويعطي معنى صحيحا غير ظهوره ولو سقط من العالم لم يختل ذلك الأمر الذي أعطى فيه هذا المعنى ولكنه لا بد أن ينقص عن الأمر الذي يعطيه وجوده وهذه تسمى عوارض الأعطيات التي لا يخل سقوطها وعدم وقوعها بحقيقة ما عدمت منه وإن كان لها معنى كوجود لذة الجماع من غير جماع فحصلت الفائدة التي كان لها الجماع ولكن لحصولها بالجماع معنى لا يحصل إلا بالجماع لأن المقصود بالنكاح الالتذاذ ووجود اللذة وقد وجدت فما أخل سقوط الجماع باللذة ولهذا زوجنا الله بالحور العين وأما الأثر السادس فهو ما يتعلق بصاحب الهمة إذا أراد أن يتكون عنه ما لا يقع بالعادة إلا بآلة فيفعله بهمته لا بآلة وفي وقت بآلة فإن الله قادر أن يكون آدم ابتداء من غير تخمير ولا توجه يدين ولا تسوية ولا تعديل لنفخ روح بل يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ومع هذا فخمر طينته بيديه وسواه وعدله ثم نفخ فيه الروح وعلمه الأسماء وأوجد الأشياء على ترتيب كما أنه لو شاء جعلنا نكتفي بالعلم به عن أسمائه ولكن تسمى بكذا في كل لسان وضعه في العالم فيسمى بالله في العرب وبخداي في الفرس وبواق في الحبش وفي كل لسان له أسماء مع العلم بوجوده وأظهر فائدة ذلك مع الاستغناء عما ظهر والاكتفاء ومن هذا الباب ما يظهر عنا من الأفعال مع أنه يجوز أن يفعلها الله لا بأيدينا ولكن ما وصل إلى هذا الفعل في الشاهد إلا بأيدينا فأراد تحريك الجسم من مكان إلى مكان فجعل فينا إرادة طلب الانتقال فقمنا بحركة اختيارية نعقلها من نفوسنا وانتقلنا والانتقال خلق الله بالأصل ولكنه وجد عن إرادة حادثة اختيارية بخلاف حركة المرتعش فإنها اضطرارية فالإنسان المختار مجبور في اختياره عند السليم العقل ثم ما من حقيقة لا يظهر حكمها إلا بالمحل فلا تظهر إلا بالمحل فيفرق بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فالتحرك محال وجوده إلا في متحرك ومن هذا الباب نزوله تعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الباقي من الليل مع كونه معنا أينما كنا فهذا حكم نزول قد ظهر بفعل ما يمكن حصول ذلك المراد من غير هذا النزول لكن إذا أضفته إلى قوله تعالى فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ كان نزولا ولا بد عن مرتبة الغني لأنه لا يقبل هذا النزول إلا لنسبة إلهية تقتضيها ذاته فلم تكن إلا بنزول فافهم فإن الإضافات لها من الحكم الذاتي ما ليس لغير المضاف والحقائق لا تتبدل والشأن إنما هو ظهور حكم في محكوم فهو من وجه تطلبه ذاته ومن وجه لا تطلبه ذاته تعالى كالخالق يطلب الخلق والعالم يطلب المعلوم وأما الأثر السابع فوجود الظرفية في الكون هل هي أصل في الكون ثم حملناها على الحق حملا شرعيا أو هي في الحق بحسب ما يليق بجلاله وظهرت في العالم بالفعل‏

كقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم للسوداء أين الله فأشارت إلى السماء وكانت خرساء

قال تعالى والله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ وبنية فعيل ترد بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول كقتيل وجريح فعليم بمعنى عالم وبمعنى معلوم وكلا الوجهين سائغ في هذه الآية إذا كانت الباء من قوله بكل بمعنى الفاء فهو في كل شي‏ء معلوم وبِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ أي له في كل شي‏ء إحاطة بما هو ذلك المعلوم عليه وليس ذلك إلا لله أو لمن أعلمه الله وأما الأثر الثامن فقوله تعالى فَسْئَلْ به خَبِيراً أي إذا أردت أن تسأل عن حقيقة أمر فاسأل عنه من له فيه ذوق ومن لا ذوق له في الأشياء فلا تسأله فإنه لا يخبرك إلا باسم ما سألت عنه لا بحقيقته فلا يسأل العبد عن الله‏

فإنه لا ذوق له في الألوهة ولا خبرة له بها فما عنده منها إلا الأسماء خاصة فاسأل الله عن الله واسئل العبد عن العبودة فنسبة العبودة للعبد نسبة الألوهة لله فإخبار الحق عن العبودة اخبارا له وإخبار العبد عن الألوهة إخبار عبد ولذلك‏

ورد من عرف نفسه عرف ربه‏

فيعرف نفسه معرفة ذوق فلا يجد في نفسه للالوهة مدخلا فيعلم بالضرورة أن الله لو أشبهه أو كان مثلا له لعرفه في نفسه وعلم بافتقاره أن ثم من يفتقر إليه ولا يمكن أن يشبهه فعرف ربه أنه ليس مثله وإن كان الله قد أقامه خليفة وأوجده على الصورة فيخاف ويرجى ويطاع ويعصى فقد بينا معنى ذلك في هذه الآثار من هذا الباب وأما الأثر التاسع وهو قوله في خلق السموات والأرض إنه ما خلقهما إلا بالحق أي ما خلقهما إلا له تعالى جده وتبارك اسمه لأنه قال وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فما خلق العالم إلا له تعالى ولذلك قال فيمن علم أنه جعل في نشأته عزة وهما الجن والإنس وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليتذللوا إلي لما ظهر فيهما من العزة ودعوى الألوهة والإعجاب بنفوسهم فمن لطف الله بهم أن ينبههم على ما أراد بهم في خلقه إياهم فمن تنبه كان من الكثير الذي يسجد لله ومن لم يتنبه كان من الكثير الذي حق عليه العذاب وأما قوله في هذه الآية وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ قد يريد به الإنسان وحده من حيث ما له ظاهر وباطن فمن حيث ما له ظاهر هو أنس من آنست الشي‏ء إذا أبصرته قال تعالى في حق موسى إخبارا عنه إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرت والجن باطن الإنسان فإنه مستور عنه فكأنه قال وما خلقت ما ظهر من الإنسان وما بطن إلا ليعبدون ظاهرا وباطنا فإن المنافق يعبده ظاهرا لا باطنا والمؤمن يعبده ظاهرا وباطنا والكافر المعطل لا يعبده لا في الظاهر ولا في الباطن وبعض العصاة يعبده باطنا لا ظاهرا وما ثم قسم خامس وما أخرجنا الجن الذين خلقهم الله من نار من هذه الآية وجعلناها في الإنسان وحده من جهة ما ظهر منه وما استتر إلا لقول الله لما ذكر السجود أنه ذكر جميع من يسجد له ممن في السموات ومن في الأرض وقال في الناس وكَثِيرٌ من النَّاسِ فما عمهم ودخل الشياطين في قوله من في الْأَرْضِ وذلك أن الشيطان وهو البعيد من الرحمة يقول للإنسان إذا أمره بالكفر فكفر إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ فأبان الله لنا عن معرفة الشيطان بربه وخوفه منه فلذلك كان صرف الجن في هذه الآية إلى ما استتر من الإنسان أولى من إطلاقه على الجان والله أعلم وأما الأثر العاشر فهو ما ظهر في العالم من إبانة الرسل المترجمين عن الله ما أنزل الله على عباده مع إنزال كتبه فما اكتفى بنزول الكتب الإلهية حتى جعل الرسل تبين ما فيها لما في العبارة من الإجمال وما تطلبه من التفصيل ولا تفصل العبارة إلا بالعبارة فنابت الرسل مناب الحق في التفصيل فيما لم يفصله وأجمله وهو قوله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بعد تبليغه ما أنزل إلينا وهذه حقيقة سارية في العالم ولولاها ما شرحت الكتب ولا ترجمت من لسان إلى لسان ولا من حال إلى حال قال تعالى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله وهو ما أنزله خاصة وأما ما فصله الرسول وأبان عنه فهو تفصيل ما نزل لا عين ما نزل ويقع البيان بعبارة خاصة ويعقل بأي شي‏ء كان وأما الأثر الحادي عشر والثاني عشر فهما المرتبتان من المراتب الثلاثة التي ذكرناها في أول هذه لآثار وهما مرتبة الاتصال بالحق ومرتبة السبب الرابط بين الأمرين وقد تقدم فلنذكر ما في هذا المنزل من العلوم إن شاء الله فمن ذلك علم السبب الموجب لبقاء المؤمن في النعيم في دار النعيم وفيه علم أسباب الفوز والنجاة من الجهل الذي هو شر الشرور وفيه علم ما يستحقه الموطن من الأمور التي تكون بها السعادة للإنسان وقد تظهر في موطن آخر ولا تعطي سعادة وفيه علم كل ما ثبت عينه هل يسقط حكمه أو لا يسقط إلا حكم بعض ما ثبت عينه أو لا يسقط له حكم على الإطلاق بل يسقط عنه حكم خاص لا كل حكم فهل يشتغل بما سقط حكمه أو لا يشتغل به كلغو اليمين فإن الكفارة سقطت عنه في الحنث وفيه علم ما يظهر من الزيادة إذا أضيف الفعل إلى المخلوق بوجه شرعي يوجب ذلك أو كرم‏

خلق عقلي وفيه علم الملإ والخلأ وفيه علم فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي وفيه علم التعدي في حدود الأشياء وهل الحد داخل في المحدود فلا يكون تعديا وإذا دخل كيف صورة دخوله والفرق بين قوله وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وقوله أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْل‏

وهذا حد بكلمة معينة تقتضي في الواحد خروج الحد من المحدود وفي الآخر دخول الحد في المحدود وينبغي هذا على معرفة الحد في نفسه ما هو فإن للحد حدا ولا يتسلسل وفيه علم العهود والأمانات وما هي الأمانات‏



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!