The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة منزل الظلمات المحمودة والأنوار المشهودة

والأعلى يدعوه إليه والأدنى لا يدعوه إليه فمن يدعوه إلى الأدنى حتى يحبس نفسه عليه وفيه علم ما يتعدى الإنسان أي إنسان كان في علمه بغيره علمه بنفسه وفيه علم شهود الكيفيات ومن هو الموصوف عندنا بالكيفية وفيه علم إلحاق الإنسان الكامل بربه والغيرة الإلهية على المقام إذا ظهر الإنسان بالفعل بصورة ربه وأن حكم الشي‏ء بالفعل يعطي خلاف ما يعطيه بالقوة فإعطاؤه بالفعل أقوى وفيه علم الظهور والخفاء والراحة وفيه علم الأنفاس الظاهرة في العالم بالرحمة وما سبب ذلك وعموم دخول الخلق في هذه الأنفاس وفيه علم ما يريد الحق ظهوره ويريد الإنسان المخالف ستره وهو الذي يرى المصلحة في غير الواقع في الوجود ويحتاج صاحب هذا المقام إلى بصر حديد من أجل الموازين الشرعية فإن الجهل بما يراه الحق من المصالح أكثر من العلم بالمصالح الظاهرة في الكون إنها ليست مصالح في النظر العقلي عند العقلاء وهو علم دقيق إذا عمل به الإنسان عن كشف وتحقيق لم يخطئ أبدا وإذا عمل به من ليست له هذه الصفة أخطأ وهو الذي يقول العامة فيه خطأ السعيد صواب وصواب من ليس بسعيد خطأ ورأيت هذا في حطلحة بملطية وشافهني بذلك وفيه علم الامتزاج الذي لا يمكن فيه فصل وهو كل ضدين بينهما واسطة كالفاتر بين الحار والبارد لا يقدر أحد على فصل الحرارة من البرودة في هذا الفاتر وفيه علم الفرق بين من هو لله وبين من هو على الله وفيه علم الطريق إلى الله بالنية وإن لم تكن مشروعة فهي نافعة بكل وجه فإنه ما قصد إلا الله وعموم التجلي الإلهي معلوم فللعبد المشيئة في ذلك وفيه علم ما يختص بالاسم الرحمن دون غيره من الأسماء الإلهية وما ينبغي أن يعامل به الاسم الرحمن دون غيره من الأسماء الإلهية وفيه علم المسمى شيئا ما هو وفيه علم التناوب وأن المتناوبين لا يجتمعان وما يحدث في عالم الإنسان منهما وفيه علم التؤدة والسكون وأين يحمدان وفيه علم صفات السعداء من غيرهم عقلا وشرعا وفيه علم ما يقبل التبديل من الصفات مما لا يقبل وممن لا يقبله وفيه علم المحفوظين والمعصومين من العلماء العارفين بالله تعالى وفيه علم ما تنتج الذكرى من المؤمن وفيه علم من طلب الإمامة فأعين عليها وفيه علم عناية الدعاة إلى الله وشرف منزلتهم عند الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب الموفي ستين وثلاثمائة في معرفة منزل الظلمات المحمودة والأنوار المشهودة»

نور القبول على التحقيق إيمان *** ونور فكرك آيات وبرهان‏

فنور فكرك لا ينفك ذا شبه *** وفيه وقتا زيادات ونقصان‏

ونور إيمانك الأعلى له علم *** في رأس مرقبة ما فيه بهتان‏

ولي عليه إذا ما العقل ناظره *** على مسالكه حكم وسلطان‏

هو الضروري لا فكر ولا نظر *** ولا يقيده ربح وخسران‏

[إن النور يدرك ويدرك به‏]

اعلم علمك الله ما يبقيك وجعلك ممن ينقيك إن النور يدرك ويدرك به والظلمة تدرك ولا يدرك بها وقد يعظم النور بحيث أن يدرك ولا يدرك به ويلطف بحيث أن لا يدرك ويدرك به ولا يكون إدراك إلا بنور في المدرك لا بد من ذلك عقلا وحسا

سئل صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم هل رأيت ربك فقال نوراني أراه‏

فنبه بهذا القول على غاية القرب فإنه أقرب إلى الإنسان من حبل وريده ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ يقول الله ذلك في المحتضر فالحق هو النور المحض والمحال هو الظلمة المحضة فالظلمة لا تنقلب نورا أبدا والنور لا ينقلب ظلمة أبدا والخلق بين النور والظلمة برزخ لا يتصف بالظلمة لذاته ولا بالنور لذاته وهو البرزخ والوسط الذي له من طرفيه حكم ولهذا جعل للإنسان عينين وهداه النجدين لكونه بين طريقتين فبالعين الواحدة من الطريق الواحدة يقبل النور وينظر إليه بقدر استعداده وبالعين الأخرى من الطريق الأخرى ينظر إلى الظلمة ويقبل عليها وهو في نفسه لا نور ولا ظلمة فلا هو موجود ولا هو معدوم وهو المانع القوي الذي يمنع النور المحض أن ينفر الظلمة ويمنع الظلمة المحضة أن تذهب بالنور المحض فيتلقى الطرفين بذاته فيكتسب بهذا التلقي من النور ما يوصف به من الوجود ويكتسب بهذا التلقي من الظلمة ما توصف به من العدم فهو محفوظ من الطرفين ووقاية للطرفين فلا يقدر قدر الخلق إلا الله فهذا أصل الأنوار والظلمات الظاهرة في العالم‏

وهو ما انصبغ به الممكن من الطرفين ولو لا ما هو بهذه المثابة من الحفظ لعين الطرفين ما وصف الحق نفسه بما أوجبه على نفسه بقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وقال ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ جَزاءً وِفاقاً لما هو عليه الممكن من الوقاية وراعى المحال أيضا له ذلك فأفاض عليه من حقيقته فحفظ عليه عدمه وحفظ الحق عليه وجوده فاتصف الممكن بالوجود والعدم معا في الإثبات أي هو قابل لكل واحد منهما كما اتصف أيضا لهذا بأنه لا موجود ولا معدوم في النفي فجمع بينهما في وصفه بين النفي والإثبات فلو كان موجودا لا يتصف بالعدم لكان حقا ولو كان معدوما لا يتصف بالوجود لكان محالا فهو الحافظ المحفوظ والواقي الموقى فهذا الحد له لازم ثابت لا يخرج عنه ولهذا أيضا اتصف بالحيرة بين العدم والوجود لعدم تخلصه إلى أحد الطرفين لأنه لذاته كان له هذا الحكم‏

فإن قلت حق كان قولك صادقا *** وإن قلت فيه باطل لست تكذب‏

فإذا علمت هذا فلنقل ما تجاوز فيه الناس من مسمى النور والظلمة المعروفين في العرف ظاهرا كالأنوار المنسوبة إلى البروق والكواكب والسرج وأمثال ذلك والظلم المشهودة المعلومة المدركة ظاهرا للحس وأنوار الباطن المعنوية كنور العقل ونور الايمان ونور العلم وظلمة الباطن كظلمة الجهل والشرك وعدم العقل والذي ليس بظلمة ولا نور كالشك والظن والحيرة والنظر فهذا أيضا ليس بظلمة ولا نور فهذه مجازاة حقائق الواجب والمحال والممكن في عرف الممكنات فقد جمع الممكن بنفسه حقيقته وحقيقة طرفيه وأبين ما يكون ذلك في الممكن ما فيه من المعاني والمحسوسات والخيالات وهذا المجموع لا يوجد حكمه إلا في الممكن لا في الطرفين أصلا فالعلم بالممكن هو بحر العلم الواسع العظيم الأمواج الذي تغرق فيه السفن وهو بحر لا ساحل له إلا طرفيه ولا يتخيل في طرفيه ما تتخيله العقول القاصرة عن إدراك هذا العلم كاليمين والشمال لما بينهما ليس هذا الأمر كذلك بل إن كان ولا بد من التخيل فلتتخيل ما هو الأقرب بالنسبة لما ذكرناه أن الشأن في نفسه كالنقطة من المحيط وما بينهما فالنقطة الحق والفراغ الخارج عن المحيط العدم أو قل الظلمة وما بين النقطة والفراغ الخارج عن المحيط الممكن كما رسمناه مثالا في الهامش وإنما أعطينا النقطة لأنها أصل وجود محيط الدائرة وبالنقطة ظهرت كذلك ما ظهر الممكن إلا بالحق والمحيط من الدائرة إذا فرضت خطوطا من النقطة إلى المحيط لا تنتهي إلا إلى نقطة فالمحيط كله بهذه المثابة من النقطة وهو قوله والله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وقوله إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ فكانت كل نقطة من المحيط انتهاء الخط والنقطة الخارج منها الخط إلى المحيط ابتداء الخط ف هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ فهو أول لكل ممكن كالنقطة أول لكل خط وما خرج عن وجود الحق وما ظهر من الحق فذلك العدم الذي لا يقبل الوجود والخطوط الخارجة الممكنات فمن الله ابتداؤها وإلى الله انتهاؤها وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فإن الخط إنما ينتهي إلى نقطة فأولية الخط وآخريته هما من الخط ما هما من الخط كيف شئت قلت وهذا هو الذي ينبغي أن يقال فيه لا هي هو ولا هي غيره كالصفات عند الأشاعرة فمن عرف نفسه هكذا عرف ربه ولهذا أحالك الشارع في العلم بالله على العلم بك وهو قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا وهي الدلالات في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ فما ترك شيئا من العالم فإن كل ما خرج من العالم عنك فهو عين الآفاق وهي نواحيك حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ لا غيره إذ لا غير ولهذا كان الخط مركبا من نقط لا تعقل إلا هكذا والسطح مركب من خطوط فهو مركب من نقط والجسم‏

مركب من سطوح فهو مركب من خطوط وهي مركبة من نقط فغاية التركيب الجسم والجسم ثمان نقط وليس المعلوم من الحق إلا الذات والسبع الصفات فلا هي هو ولا هي غيره فما الجسم غير النقط ولا النقط غير الجسم ولا هي عينه وإنما قلنا ثمان نقط أقل الأجسام لأن اسم الخط يقوم من نقطتين فصاعدا وأصل السطح يقوم من خطين فصاعدا فقد قام السطح من أربع نقط وأصل الجسم يقوم من سطحين فصاعدا فقد قام الجسم من ثمان نقط فحدث للجسم اسم الطول من الخط واسم العرض من السطح واسم العمق من تركيب السطحين فقام الجسم على التثليث كما قامت نشأة الأدلة على التثليث كما إن أصل الوجود الذي هو الحق ما ظهر بالإيجاد إلا بثلاث حقائق هويته وتوجهه وقوله فظهر العالم بصورة موجدة حسا ومعنى فنور على نور وظلمة فوق ظلمة لأنه في مقابلة كل نور ظلمة كما أنه في مقابلة كل وجود عدم فإن كان الوجود واجبا قابلة العدم الواجب وإن كان الوجود ممكنا قابلة العدم الممكن فالمقابل على صورة مقابله كالظل مع الشخص واعلم ما نبهك الله عليه في قوله تعالى ومن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ من نُورٍ فالنور المجعول في الممكن ما هو إلا وجود الحق فكما وصف نفسه بأنه أوجب عليها ما أوجب من الرحمة والنصر في مثل قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وقال وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كذلك وصف نفسه بالجعل في الممكن إذ لو لا النور ما وجد له عين ولا اتصف بالوجود فمن اتصف بالوجود فقد اتصف بالحق فما في الوجود إلا الله فالوجود وإن كان عينا واحدة فما كثره إلا أعيان الممكنات فهو الواحد الكثير فينقسم بحكم التبعية لأعيان الممكنات كما نحن في الوجود بحكم التبعية فلولاه ما وجدنا ولولانا ما تكثر بما نسب إلى نفسه من النسب الكثيرة والأسماء المختلفة المعاني فالأمر الكل متوقف علينا وعليه فبه نحن وهو بنا وهذا كله من كونه إلها خاصة فإن الرب يطلب المربوب طلبا ذاتيا وجودا وتقديرا والله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لأنه لا دليل عليه سوى نفسه لأنه وصف نفسه بالغنى فإن غير الوجود الحادث ما تعرفه معرفة الحدوث ولا يتصف الممكن بالوجود حتى يكون الحق عين وجوده فإذا علمه من كونه موجودا فما علمه إلا هو فهو غني عن العالمين والعالم ليس بغني عنه جملة واحدة لأنه ممكن والممكن فقير إلى المرجح فالحجب الظلمانية والنورية التي احتجب بها الحق عن العالم إنما هي ما اتصف به الممكن في حقيقته من النور والظلمة لكونه وسطا وهو لا ينظر إلا لنفسه فلا ينظر إلا في الحجاب فلو ارتفعت الحجب عن الممكن ارتفع الإمكان وارتفع الواجب والمحال لارتفاعه فالحجب لا تزال مسدلة ولا يمكن إلا هكذا أنظر إلى قوله في ارتفاع الحجب ما ذكر من إحراق سبحات الوجه ما أدركه بصره من خلقه وقد وصف نفسه بأن الخلق يراه ولا تحترق فدل على إن الحجب لم ترفع مع الرؤية فالرؤية حجابية ولا بد والضمير في بصره يعود على ما وما هنا عين خلقه فكأنه يقول في تقدير الكلام ما أدركه بصر خلقه فإنه لا شك أنه تعالى يدركنا اليوم ببصره تعالى وسبحات وجهه موجودة والحجب إن كانت عينه فلا ترتفع وإن كانت خلقا فإن السبحات تحرقها فإنها مدركة لبصره من غير حجاب ولو احترقت الحجب احترقنا فلم نكن ونحن كائنون بلا شك فالحجب مسدلة فلو فهم الناس معنى هذا الخبر لعلموا نفوسهم ولو علموا نفوسهم لعلموا الحق ولو علموا الحق لاكتفوا به فلم ينظروا إلا فيه لا في ملكوت السموات والأرض فإنهم إذا انكشف لهم الأمر علموا أنه عين ملكوت السموات والأرض كما علمه الترمذي الحكيم فأطلق عليه عند هذا الكشف الإلهي اسم ملك الملك‏

فالأمر دوري ولا يعلم *** والشأن محكوم ولا يحكم‏

فليس إلا الله لا غيره *** وليس إلا كونه المحكم‏

فهو الذي يعلم وقتا كما *** يجهل في وقت ولا يعلم‏

«وصل» [لو لا النور ما أدرك شي‏ء لا معلوم ولا محسوس‏]

واعلم أيدك الله أن الأمر يعطي أنه لو لا النور ما أدرك شي‏ء لا معلوم ولا محسوس ولا متحيل أصلا وتختلف على النور الأسماء الموضوعة للقوى فهي عند العامة أسماء للقوى وعند العارفين أسماء للنور المدرك به فإذا أدركت المسموعات سميت ذلك النور سمعا وإذا أدركت المبصرات سميت ذلك النور بصرا وإذا أدركت الملموسات سميت ذلك المدرك به لمسا وهكذا المتخيلات فهو القوة اللامسة ليس غيره والشامة والذائقة والمتخيلة والحافظة والعاقلة

والمفكرة والمصورة وكل ما يقع به إدراك فليس إلا النور وأما المدركات فلو لا أنها في نفسها على استعداد به تقبل إدراك المدرك لها ما أدركت فلها ظهور إلى المدرك وحينئذ يتعلق بها الإدراك والظهور نور فلا بد ان يكون لكل مدرك نسبة إلى النور بها يستعد إلى أن يدرك فكل معلوم له نسبة إلى الحق والحق هو النور فكل معلوم له نسبة إلى النور فبالنور أدركت المحال ولو لا ظهور المحال وقبوله بما هو عليه في نفسه لأدرك المدرك ما أدركته ولهذا ينسحب على كل قسم من أقسام العقل كما ينسحب عليها أيضا أعني على الأقسام الوجوب فنقول محال على الواجب الوجود بالذات أن يقبل العدم ومحال على الممكن أن يقبل الوجود الذاتي ومحال على المحال أن يقبل الإمكان وكذلك تقول في الوجوب واجب للممكن أن يكون نسبة العدم إليه والوجود نسبة واحدة وواجب للمحال أن لا يوصف بالإمكان ولا نقل مثل هذا في الإمكان لا تقل ممكن للمحال أن يكون على كذا أو على كذا وممكن للواجب أن يكون على كذا أو على كذا فيدخل الممكن تحت حكم الواجب أو المحال ولا يدخل الواجب ولا المحال تحت حكم الممكن ولهذا لا يجوز أن يقال في الواجب إنه يمكن أن يفعل به كذا ولا يفعل وإنما الذي يقال ويصح أن يقال في الممكن إنه يمكن أن يفعل به كذا أو لا يفعل وهذه مسألة أغفلها كثير من الناس فقد علمت أنه ما ثم معلوم من محال أو غيره إلا وله نسبة إلى النور ولو لا ذلك النور الذي له إليه نسبة ما صح أن يكون معلوما فلا معلوم إلا الله وعلى الحقيقة فلا يدري أحد ما يقول ولا كيف تنسب الأمور مع كونه يعقلها والعبارات تقصر عن الإحاطة بها على وجهها فإن الله عليم بكل شي‏ء من حيث ما لذلك الشي‏ء من النور الذي به يكون معلوما والعدم والمحال معلومان‏

فلا شي‏ء غير الشي‏ء إذ ليس غيره *** فمن كونه نورا يحيط به العلم‏

فإذا حققت ما أشرنا إليه وقفت على حقائق المعلومات كيف هي في أنفسها في اتصافها بوجود أو عدم أو لا وجود ولا عدم أو نفي أو إثبات‏

فهذا هو العلم الغريب فإن تكن *** من أصحابه أنت الغريب ولا تدري‏

كما ثم من يدري بغربته وذا *** أتم وجودا في مطالعة الأمر

فسبحان من أحيا الفؤاد بنوره *** ونوره بالفكر وقتا وبالذكر

وأما النور الذي لا يدرك وهو قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نوراني أراه فإن ذلك لاندراج نور الإدراك فيه فلم يدركه لأنه ليس هو عنه بأجنبي فهو كالجزء عاد إلى كله إذ لا يصح اسم الكل عليه ما لم‏

يحو على أجزائه فاندرج الجزء في الكل وليس الكل غير أجزائه فالكل يدرك أجزاءه جزءا جزءا والجزء لا يدرك الكل ولهذا يعلم الحق الجزئيات ولا تعلمه الجزئيات وإذا علم الجزء الكل فما يعلم منه إلا عين جزئيته فإنه علم كل في نفسه لنفسه وقد لا يعلم أنه جزء لكل ولهذا تتفاضل الناس في العلم فالعالم بالشي‏ء من لم يبق له في ذلك المعلوم وجه إلا علمه منه وإلا فقد علم منه ما علم وأما النور الذي يدرك ويدرك به غيره فهو نور مكافئ لنور الإدراك فيصحبه ولا يندرج فيه فيدركه ويدرك به ما كشفه له وما انكشف له ما انكشف إلا بالنورين نور الإدراك ونور المدرك ولو لا وجود نور الإدراك لما ظهرت الأشياء فلا يظهر شي‏ء بنور المدرك من غير نور الإدراك وقد يظهر بعض الأشياء لنور الإدراك ولكن بنور المدرك وإن لم يدركه به كما قلنا في نسبة كل معلوم إلى النور الذي لولاه ما علم فالبصر يدرك به كما قلنا في نسبة كل معلوم إلى النور الذي لولاها ما علم فالبصر يدرك الظلمة نفسها ولا يدرك بها غيرها إذا كان الإدراك بالبصر خاصة

«وصل» وأما الظلم المعنوية

كظلمة الجهل فإنها مدركة للعالم ما لم تقم بالجاهل فإذا قامت به لم يدركها إذ لو أدركها كان عالما وما عدا ظلمة الجهل من الظلم فإنها تدرك كلها ثم لتعلم أنه إن كان الجهل نفي العلم عن المحل بأمر ما فكل ما سوى الله جاهل أي ظلمة الجهل له لازمة لأنه ليس له علم بإحاطة المعلومات ولذلك أمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بطلب الزيادة من العلم فقال له وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وإن كانت ظلمة الجهل عبارة عن اعتقاد الشي‏ء على خلاف ما هو به أي شي‏ء كان فأهل الله قد أخرجهم من هذه الظلمة فإنهم لا يعتقدون أمرا يكون في نفسه على خلاف ما يعتقدونه وقال تعالى وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها

ولم يذكر حقائق المسميات فعلم بعضا ولم يعلم بعضا فالمسميات هو قوله هؤلاء وهي المشار إليها في قوله تعالى أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وأراد بالأسماء هنا الأسماء الإلهية التي استند إليها المشار إليهم بهؤلاء في إيجادهم وأحكامهم توبيخا للملائكة وتقريرا يقول هل سبحتموني بهذه الأسماء أو قدستموني بها حيث قالوا ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ فزكوا نفوسهم وجرحوا خليفة الله في أرضه ولم يكن ينبغي لهم ذلك ولكن لتعلم إن أحدا من العالم ما قدر الله حق قدره إذ لا أعلم من الملائكة بالله وما ينبغي لجلاله من التعظيم ومع هذا قالوا أَ تَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها فهذه الأداة هنا لا ينبغي أن تكون إلا من الأعلى في حق الأدنى مثل قوله تعالى أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله بل أشد من هذا هو قولهم أَ تَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها

لما رأوا جهة الشمال ولم يروا *** منه يمين القبضة البيضاء

فإن قوله أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ قد يكون تقريرا للحجة على من عبد عيسى عليه السلام وأمه وقالوا إنهما إلهان فإذا قال عيسى عليه السلام في الجواب سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ والمدعي يسمع ذلك وقد علم بقرينة الحال والموطن ذلك المدعي إن عيسى ليس من أهل الكذب وأن إنكاره لما ادعوه صحيح علمنا عند ذلك أنه تعالى أراد توبيخهم وتقريرهم فالاستفهام لعيسى عليه السلام والتقرير والتوبيخ لمن عبده فإن الاستفهام لا يصح من الله جملة واحدة ويصح منه تعالى التقرير لإقامة الحجة والتوبيخ فإن الاستفهام على الحقيقة لا يكون إلا ممن لا يعلم ما استفهم عنه وأما ظلمة البعد في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وفي مثل قوله تُوبُوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وأمثاله فهذا من حكم الأسماء الإلهية إذ كان لكل وقت اسم إلهي له الحكم في عين ما من أعيان العالم فإن كان من الأسماء التي أحكامها تناقض حكم ما أمر به المكلف أو نهي عنه فإن الاسم الإلهي الذي يعطيهم موافقة ما أمر الله به هذا المخالف أو نهى عنه بعيد عنه فيناديه ليرجع إليه ويصغي إلى ندائه ليكون له الحكم فيه سواء كان الدعاء من قريب أو بعيد لكنه بالضرورة لعدم الموافقة فيما أمر الله به بعيد أ لا ترى الإشارة تكون مع القرب من المشير والمشار إليه إذا كان معهما ثالث لا يريد المخبر أو المخبر أو هما أن يعلم الثالث الحاضر ما يريد المخبر أن يلقيه إلى صاحبه فيشير إليه من حيث لا يعلم الثالث والإشارة عند القوم نداء على رأس البعد ويقولون أيضا أبعدكم من الله أكثركم إشارة إليه والعلة في ذلك أنها تدل على الجهل بالله تعالى فلا فرق بينه في تلك الحالة وبين من لا يبلغه الصوت وتبلغه الإشارة فهذه كلها ظلمة قد حجبت الثالث عن علم ما بين الاثنين فهذه ظلمة الدعاء والإشارة فاجعل بالك فإن الله قد نبه أقواما من عباده وأيه بهم على أمور بكلام لا يفهمه إلا المرادون به وهو الرمز قال تعالى أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وأما ظلمة التسوية بين الأمرين فإنما سميت ظلمة لأن التسوية بين الأمرين محال لأن التسوية المحققة المثلية من جميع الوجوه لا من بعض الوجوه ولا من أكثرها محال بين الأمرين قال تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لأنهم قالوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ من الْواعِظِينَ فكان الله حكى لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم فهذه ظلمة قد تكون ظلمة جهل وقد تكون ظلمة جحد لهوى قام بهم وهو من أشد الظلم ولكن هذه كلها سدف سحرية بالنظر والإضافة إلى ظلمة الجهل الذي هو نفي العلم من المحل بالكلية وهوقوله فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

فنفى العلم والطرق الموصلة إليه العلم بذلك فهذه أشد ظلمة في العالم إلي فإن اعتقاد الشي‏ء على خلاف ما هو به قد علم الشي‏ء وما علم حقيقته أي علم في الجملة أن اسمه كذا ثم اعتقد فيه ما ليس هو عليه فقد اعتقد أمرا ما فظلمته دون ظلمة نفي العلم من المحل كما قال تعالى في أمثالهم وبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وهذه شائعة في الشقي والسعيد ففي السعيد فيمن مات على غير توبة وهو يقول بإنفاذ الوعيد فيغفر له فكان الحكم للمشيئة فسبقت بسعادتهم فتبين لهم عند ذلك أنهم اعتقدوا في ذلك الأمر خلاف ما هو ذلك الأمر عليه فإن الذي هو عليه إنما هو الاختيار والذي عقدوا عليه كان عدم الاختيار فمثل هذا يسمى ظلمة الشبهة

يا بنى الزوراء ما لي ولكم *** إنني آل لمن لا يهتضم‏

فإذا قلت ألا قولوا بلى *** وإذا ما قلت هل قولوا نعم‏

إنما الأمر الذي جئت به *** أمر موجود له نعت القدم‏

واحد في عينه ليس لنا *** في الذي يظهر فيه من قدم‏

والذي أحضره يحضرني *** بين أمرين وجود وعدم‏

فلنا الأنوار منه إن بدا *** وله منا غيابات الظلم‏

هي حجب الله أن ندركه *** وبها قامت دلالات التهم‏

ثم فيها من علامات الهدى *** لتجليه علوم وحكم‏

فطر العالم قد قسمها *** ما هو الحق عليه فحكم‏

فكما نحن به فهو بنا *** استحالات كنار في علم‏

كلما قلت بدت صورته *** حول الصورة في كيف وكم‏

فتحولت أنا فانبهمت *** حالة الأمر علينا فانبهم‏

ليت شعري هل هو الأمر كما *** قد بدا أو غيره قل يا حكم‏

قال والله أنا مثلكم *** حائر ما لي في العلم قدم‏

[إن مفاتيح الغيب بيد الله‏]

اعلم أيدك الله أن الإنسان لما أبرزه الله من ظلمة الغيب الذي كان فيه وهو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب التي لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فانفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه بها فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو كما تزعم لعلمت مفاتح الغيب بذاتك وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف والممكنات كلها وأعني بكلها ميزها عن المحال والواجب لا إن أعيانها يحصرها الكل ذلك محال هي في ظلمة الغيب فلا يعرف لها حالة وجود ولكل ممكن منها مفتاح ذلك المفتاح لا يعلمه إلا الله فلا موجد إلا الله هو خالق كل شي‏ء أي موجدة فأول مفتاح فتح به مفتاح غيب الإنسان الكامل الذي هو ظل الله في كل ما سوى الله فأظهره من النفس الرحماني الخارج من قلب القرآن سورة يس وهو نداء مرخم أراد يا سيد فرخم كما قال يا أبا هر أراد يا أبا هريرة فأثبت له السيادة بهذا الاسم وجعله مرخما للتسليم الذي تطلبه الرحمة والقطع مما بقي منه في الغيب الذي لا يمكن خروجه فصورته في الغيب صورة الظل في الشخص الذي امتد عنه الظل أ لا ترى الشخص إذا امتد له ظل في الأرض أ ليس له ظل في ذات الشخص الذي يقابله ذلك الظل الممتد فذلك الظل القائم بذات الشخص المقابل للظل الممتد ذلك هو الأمر الذي بقي من الإنسان الذي هو ظل الله الممدود في الغيب لا يمكن خروجه أبدا وهو باطن الظل الممتد والظل الممدود هو الظاهر فظاهر الإنسان ما امتد من الإنسان فظهر وباطنه ما لم يفارق الغيب فلا يعلم باطن الإنسان أبدا ونسبة ظاهره إلى باطنه متصلة به لا تفارقه طرفة عين ولا يصح مفارقته فهو في الظاهر غيب وفي الغيب ظاهر له حكم ما ظهر عنه في الحركة والسكون فإن تحرك تحرك بحق وإن سكن سكن بحق وهو على صورة موجدة وما سواه من الممكنات ليس له هذا الكمال فلا غيب أكمل من غيب الإنسان فلما أبرزه الله للوجود أبرزه على الاستقامة وأعطاه الرحمة ففتح بها مغالق الأمور علوا وسفلا فأمد الأمثال بذاته وأمد غير الأمثال بمثله فبمثله ظهرت الأجسام وبمثله الآخر ظهرت الأرواح فهي له كاليمين والشمال لنقص الأجسام عن الأرواح كنقص الشمال عن اليمين والمطلق اليدين هو المثل ومثاله في الهامش وما أوجد العالم على ما ذكرناه إلا عن حركة إلهية وهي حركة المفتاح عند الفتح والممكنات وإن كانت لا تتناهى فهي من وجه محصورة في عشرة أشياء وهي المقولات العشرة وقد ذكرناها من قبل في هذا الكتاب فلنبين هنا مراتبها فيما يختص بهذا الباب مما لم نذكره قبل‏

[من الأسماء الإلهية الباطن‏]

فاعلم إن لله تعالى في حضرة الغيب الذي له من الأسماء الإلهية الباطن فلا نعلم أبدا له تعالى حكما يظهر في الإنسان دون غيره من المخلوقات لما هو عليه من الجمعية وما اختص به من عموم النفس الرحماني وذلك الحكم في غيب الحق له الثبوت دائما ما دام يتصل الباطن بالظاهر للامداد

الذي من الخالق للمخلوق إذ لو انقطع عنه لفنى ولذلك جعل أهل اللسان الوصل في الكلام هو الأصل والوقف عارض يطرأ في الكلام لضيق النفس الذي تبرزه القوة الدافعة فلو تمادى هلك فإذا خافت على المتنفس الهلاك جذبت القوة الجاذبة الهواء من خارج إلى داخل فكان بين انتهاء الدافعة وابتداء الجاذبة وقف المتكلم للراحة فلهذا قلنا فيه إنه عارض وهو في النفس الإلهي من حيث ما هو نفس الرحمن ما يبتلي الله به عبده من الضيق والحرج ثم ينفس عنه بالسعة فيقابل الشي‏ء بضده ولا بد بين النقيضين إذا تعاورا على المحل من بهت يقوم بالمحل ذلك البهت هو المسمى وقفا في عالم الكلام وهذا من جوامع الكلم الذي هو جمع كلمة فما بين الكلمة والكلمة يكون بهتا لكون النفس في الكلمتين عينا واحدة قال تعالى وكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً إذا وقفت فعليما هو الذي في الغيب الإلهي وحكيما هو حكمه في الإنسان بما أمده الله به فإن وصله بكلام بعده قبضه الله إليه قَبْضاً يَسِيراً فعاد إلى غيبه فلم يظهر في الإنسان حكمه وهذا من أسرار الحق التي غاية العبارة عنها ما ذكرناه‏

[النيابة الأولى للإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية]

فالإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية لم يعطه الله هذا الكمال إلا ليكون بدلا من الحق ولهذا سماه خليفة وما بعده من أمثاله خلفاء له فالأول وحده هو خليفة الحق وما ظهر عنه من أمثاله في عالم الأجسام فهم خلفاء هذا الخليفة وبدل منه في كل أمر يصح أن يكون له ولهذا صحت له المقولات العشرة التي لا تقبل الزيادة على هذا العدد فهذه هي النيابة الأولى‏

[النيابة الثانية فهي إن ينوب الإنسان بذاته عن نصف الصورة من حيث روحانيتها]

وأما النيابة الثانية فهي إن ينوب الإنسان بذاته عن نصف الصورة من حيث روحانيتها لأن الله إذا تجلى في صورة البشر كما ورد فإنه يظهر بصورتها حسا ومعنى فالنيابة هنا الخاصة هي النيابة عن روح تلك الصورة المتجلي فيها ولا يكون ذلك إلا في حضرة الأفعال الإلهية التي تظهر في العالم على يد الإنسان من حيث ما هو مريد لفعل ما يريد أن يفعله في الحال أو المستأنف إذ لا يكون الفعل ماضيا إلا بعد ظهوره في الحال فينوب الإنسان عن الله تعالى في أفعال الحال كلها الظاهرة على يده وليس لغير الإنسان هذه النيابة فإن الملك والحيوان والمعدن والنبات ليس لهؤلاء إرادة تتعلق بأمر من الأمور إنما هم مع ما فطروا عليه من السجود لله والثناء عليه فشغلهم به لا عنه والإنسان له الشغل به وعنه والشغل عنه هو المعبر عنه بالغفلة والنسيان فالحق هنا دائرة من حيث جمع الصورة بين المعنى الروحاني والظاهر للبصر فهذا الإنسان في هذه النيابة إنما هو نائب عما يتعلق من الأفعال بروحانية تلك الصورة وعالم الأرواح أخف من عالم الأجسام ولخفته يسرع بالتحول في الصور من غير فساد العين وعالم الأجسام ليس كذلك‏

[النيابة الثالثة في تحقيق الأمر الذي قام بالممكن‏]

واعلم أن النيابة الثالثة في تحقيق الأمر الذي قام بالممكن حتى أخرجه من العدم إلى الوجود فإن ذلك نيابة عن المعنى الذي أوجب للحق أن يوجد هذا الممكن المعين ولم يكن أوجده قبل ذلك سواء كان روحا مثلا أو جسما فاعلم إن الأفعال الصادرة عن المريد لها من الأمثال نيابة في الظاهر عن الله في صدور الممكنات عنه ولا يكون نائبا عنه تعالى حتى يكون من استخلفه واستنابه سمعه وبصره ويده وجميع قواه ومتى لم يكن بهذه الصفة فما هو نائب ولا خليفة فإن الممكنات في حال عدمها بين يدي الحق ينظر إليها ويميز بعضها عن بعض بما هي عليه من الحقائق في شيئية ثبوتها ينظر إليها بعين أسمائه الحسنى كالعليم والحفيظ الذي يحفظ عليها بنور وجوده شيئية ثبوتها لئلا يسلبها المحال تلك الشيئية ولهذا بسط الرحمة عليها التي فتح بها الوجود فإن ترتيب إيجاد الممكنات يقضي بتقدم بعضها على بعض وهذا ما لا يقدر على إنكاره فإنه الواقع فالدخول في شيئية الوجود إنما وقع مرتبا بخلاف ما هي عليه في شيئية الثبوت فإنها كلها غير مرتبة لأن ثبوتها منعوت بالأزل لها والأزل لا ترتيب فيه ولا تقدم ولا تأخر ولما كان في الأسماء الإلهية عام وأعم وخاص وأخص صح في الأسماء الإلهية التقدم والتأخر والترتيب فبهذا قبلت شيئيات الوجود الترتيب فما من وقت يمر عليك هنا لا يظهر فيه ممكن معين ثم يظهر في الوقت الثاني إلا وبقاؤه في شيئية ثبوته مرجح في الوقت الذي لم تقم به شيئية وجوده إذ لو لم يكن مرجحا لوجد في الوقت الذي قلنا إنه مر عليه فلم يوجد فيه فصار بقاء كل ممكن مرجحا في حال عدمه وإن كان العدم له أزلا كما إن قبوله لشيئية وجوده مرجح وهذا من أعجب دقائق المسائل إن فكرت فيه فتوقف حكم الإرادة على حكم العلم ولهذا قال إِذا أَرَدْناهُ فجاء بظرف‏

الزمان المستقبل في تعليق الإرادة والإرادة واحدة العين فانتقل حكمها من ترجيح بقاء الممكن في شيئية ثبوته إلى حكمها بترجيح ظهوره في شيئية وجوده فهذه حركة إلهية قدسية منزهة أعطتها حقيقة الإمكان التي هي حقيقة الممكن فلما خلق الله المخلوق الممكن المنعوت بالإرادة والقدرة على ظهور الأفعال منه بحكم النيابة عن الله في ظاهر الأمر لا في باطنه فهو سبحانه في الباطن مظهر الممكن في شيئية وجوده من خلف حجاب الظاهر المريد القادر الذي هو المخلوق الذي له هذه الصفة فهو يد الله المريد بإرادة الله فيفعل بالهمة كقوله كُنْ ويفعل بالمباشرة كخلقه آدم بيديه وجميع ما أضافه إلى خلق يده سبحانه فيقال في الحق مع هذه النسبة من غير مباشرة وهي في العبد مباشرة فإن وقعت من غير مريد لها فما هو مطلوبنا ولا تكلمنا فيه وإنما ذلك له سبحانه أظهره في هذا المحل الخاص كحركة المرتعش وكل ما صدر عن غير إرادة فما هو نائب صاحب هذه الصفة فالنائب يطلعه الله في قلبه على ما يريد الحق إيجاد عينه من الممكنات وهو على ضربين في اطلاعه فتارة يكون عن نظر وفكر فينوب بنظره وفكره عن الله المدبر المفصل من حيث إنه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ وتارة يخطر له بديهيا ما يلقيه الله في باطنه كما يعطي العلم الإلهي الإرادة الإلهية التعلق بإيجاد أمر ما من غير حكم الاسم المدبر المفصل فيظهر هذا الممكن على يد هذا المخلوق الذي هو مريد له وهو النائب بالوجهين التدبير والبديهة فقد حصل لهذا النائب اطلاع على حضرة أعيان الممكنات في شيئية ثبوتها في النائب في حضرة خياله وذلك أن الله أخرج هذا الممكن من شيئية ثبوته إلى شيئية وجوده في حضرة خيال ليقع الفرق بين الله وبين النائب في ظهور هذه العين المطلوب وجودها في عالم الحس فتتصف هذه العين بأنها محسوسة إن كانت صورة وإن لم تكن صورة يدركها البصر وتكون معنى فيلبسها صورة العبارات عنها أو صورة ما يدل عليها من إيماء أو إشارة فتلك صورتها التي يمكن أن تظهر لعين الرائي فيها أو السامع أو ما كان فالنائب على الحقيقة إنما أخرج بالإرادة ما أخرج من وجود خيالي متوهم أو معقول إلى وجود حسي مقيد بصورة عينية أو لفظية أو ما كان وتعلق بهذا الوجود البصر من الرائي إن كان في صورة عين وإن كان في صورة لفظ وأشباهه فيدركه بسمع فيضاف مثل هذا الوجود والإيجاد إلى النائب ولكن لا بد من شرط الإرادة والاختيار في ذلك فإن تعرى عنهما فليس من بنائب ولو ظهر ذلك منه وعليه بل ذلك لله تعالى وأما وجود ما لا ينقال فليس للنائب فيه دخول البتة فإن ذلك من خصائص الحق فتفهم ما بيناه لك فإنه من لباب المعرفة

[أما النيابة الرابعة فهي نيابته فيما نصبه الحق له‏]

وأما النيابة الرابعة فهي نيابته فيما نصبه الحق له مما لو لم يكن عنه لكان ذلك عن الله تعالى فاعلم أن الله تعالى لما أراد أن يعرف فلا بد أن ينصب دليلا على معرفته ولا بد أن يكون الدليل مساويا له تعالى في العلم به من حيث هو أمر موجود وأن يكون عالما بنفسه من حيث ما هو موصوف بصفة تسمى العلم وعالم بنفسه بما هو يرى نفسه وتسمى مكاشفة أو مشاهدة وهذا من كونه ذا بصر فإن الله وصف نفسه بأن له بصرا كما وصف نفسه بأن له علما قال تعالى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وفي الخبر الإلهي ما قاله لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرى‏ وورد في حديث الحجب وهو صحيح ما أدركه بصره من خلقه فلما نصب الدلالة عليه نصبها في الآفاق‏

فدلت آيات الآفاق على وجوده خاصة فما نابت الآفاق في الدلالة عليه بما جعل فيها من الآيات منا به لو ظهر للعالم بذاته فخلق الإنسان الكامل على صورته ونصبه دليلا على نفسه لمن أراد أن يعرفه بطريق المشاهدة لا بطريق الفكر الذي هو طريق الرؤية في آيات الآفاق وهو قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ ثم لم يكتف بالتعريف حتى أحال على الإنسان الكامل حتى قال وفي أَنْفُسِهِمْ وهنا قال حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ إشارة إلى ما خلق عليه الإنسان الكامل الذي نصبه دليلا أقرب على العلم من طريق الكشف والشهود فقال أهل الشهود كفانا أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ فذكر الكيف والظل لا يخرج إلا على صورة من مده منه فخلقه رحمة فمد الظل رحمة واقية فلا مخلوق أعظم رحمة من الإنسان الكامل ولا أحد من المخلوقين أشد بطشا وانتقاما من الإنسان الحيواني فالإنسان الكامل وإن بطش وكان ذا بطش شديد فالإنسان الحيواني أشد بطشا منه ولذلك قال أبو يزيد بطشي أشد منه من حيث نفسه الحيوانية لأنه يبطش بما لم يخلق فلا رحمة له فيه والحق يبطش بمن خلق فالرحمة مندرجة في بطشه حيث كان فإن‏

الحدود التي نصبها في الدنيا وحيث كانت إنما هي للتطهير وكذلك الآلام والأمراض وكل ما يؤدي إلى ذلك كل ذلك للتطهير ورفع الدرجات وتكفير السيئات فلما خلق الإنسان الكامل وخلفاءه من الأناسي على أكمل صورة وما ثم كمال إلا صورته تعالى‏

فأخبر إن آدم خلقه على صورته‏

ليشهد فيعرف من طريق الشهود فأبطن في صورته الظاهرة أسماءه سبحانه التي خلع عليه حقائقها ووصفه بجميع ما وصف به نفسه ونفى عنه المثلية فلا يماثل وهو قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ من العالم أي ليس مثل مثله شي‏ء من العالم ولم يكن مثلا إلا بالصورة فاعترضت الملائكة لنشأة آدم من الطبيعة لما تحمله الصورة من الأضداد ولا سيما وقد جعل وجود آدم من العناصر فهو إلهي طبيعي عنصري فلم تشاهد الأسماء الإلهية التي هي أحكام هذه الصورة وهي كون الحق سمعه وبصره وجميع قواه فلو شهدت ذلك ما اعترضت فأدبها الله بما ذكر ثم نظر العقل بآيات الآفاق وغاص بفكره في تلك الآيات الآفاقية بمشاهدة التنزيه دون التشبيه الذي أعطته المماثلة بالصورة فلما أسمعه الحق الخطاب أعني أسمع العقل المركب في الإنسان الحيواني لا في الإنسان الكامل فإن الإنسان الكامل بنفسه عرفه والإنسان الحيواني عرفه بعقله بعد ما استعمل آلة فكره فلا الملك عرف الإنسان الكامل لأنه ما شاهده من جميع وجوهه ولا الإنسان الحيواني عرفه بعقله من جميع وجوهه فكلما قام له شهود في نفسه من حيث لم يشعر إنه شهود أثر الحق رده ونزه الحق عنه فإذا ورد عليه خبر إلهي يعطي ما أعطاه الخيال الفاسد عنده تأول ذلك الخبر على طريق يفضي به إلى التنزيه خاصة فحده من حيث لم يشعر وما أطلقه فجهل الكل الإنسان الكامل فجهلوا الحق فما عرف الحق إلا الإنسان الكامل ولهذا وصفته الأنبياء بما شهدوه وأنزل عليهم بصفات المخلوقين لوجود الكمال الذي هو عليه الحق وما وصل إلى هذه المعرفة بالله لا ملك ولا عقل إنسان حيواني فإن الله حجب الجميع عنه وما ظهر إلا للإنسان الكامل الذي هو ظله الممدود وعرشه المحدود وبيته المقصود الموصوف بكمال الوجود فلا أكمل منه لأنه لا أكمل من الحق تعالى فعلمه الإنسان الكامل من حيث عقله وشهوده فجمع بين العلم البصري الكشفي وبين العلم العقلي الفكري فمن رأى أو من علم‏

الإنسان الكامل الذي هو نائب الحق فقد علم من استنابه واستخلفه فإنه بصورته ظهر وأمرنا بالطاعة لأولي الأمر كما أمرنا بالطاعة لله ولرسوله وأن لا نخرج يدا من طاعة فنموت ميتة جاهلية والجهل أشد ما على الإنسان فلو لم ينصب سبحانه وتعالى الإنسان الكامل لتتحقق المعرفة بالله من حيث ما هو إله في الوجود الحادث معرفة كمال وهي المعرفة التي طلبت منا لظهر بنفسه وذاته إلى خلقه حتى يعرفه على المشاهدة والكشف فلا ينكر وما أنكره من أنكره في الآخرة أو حيث وقع الإنكار إلا لما تقدمهم النظر العقلي وقيدوا الحق فلما لم يروا ما قيدوه به من الصفات عند ذلك أنكروه أ لا تراهم إذا تجلى لهم بالعلامة التي قيدوه بها عند ذلك يقرون له بالربوبية فلو تجلى لهم ابتداء قبل هذا التقييد لما أنكره أحد من خلقه فإنه بتجليه ابتداء يكون دليلا على نفسه فلهذا قلنا في الإنسان الكامل إنه نائب عن الحق في الظهور للخلق لحصول المعرفة به على الكمال الذي تطلبه الصورة الإلهية والله من حيث ذاته غني عن العالمين والإنسان الكامل بوجوده وكمال صورته غني عن الدلالة عليه لأن وجوده عين دلالته على نفسه فالكشف أتم المعارف وإن لم يتكرر التجلي فإن المتجلي واحد معلوم فإن الإنسان يعلم نفسه أنه يتقلب في أحواله وخواطره وأفعاله وأسراره كلها في صور مختلفة ومع هذا التقليب والتحول يعلم عينه ونفسه وأن هويته هي هي ما زالت مع ما هو عليه من التقليب فهكذا هي صورة التجلي وإن كثرت ولم تتكرر فإن العلم بالمتجلي في هذه الصور واحد العين غير مجهول فلا تحجبه التكيفات عنه فهذه هي النيابة الرابعة قد وفيناها حقها ولا يعرف ما ذكرناه إلا من كان زنيما ذا مال فإنه بصورته دخل في الألوهة وليس بإله فكان زنيما والمال يوجب الغني فله صفة الغني بما هو عليه من الصورة فاعلم ذلك‏

[النيابة الخامسة فهي نيابة الإنسان عن رفيع الدرجات في العالم‏]

وأما النيابة الخامسة فهي نيابة الإنسان عن رفيع الدرجات في العالم لا غير وصورة رفعه أن الإنسان الكامل من حيث إنه ليس أحد معه في درجته لأنه ما حاز الصورة الإلهية غيره فدرجته رفيعة عن النيل فلا يعرفه إلا الله ولا يعرف الله إلا الإنسان الكامل فهو مجلاه ولما ارتفعت درجته بالإحاطة وحصول الكل لم يتمكن للجزء أن يعرفه إذ لا معرفة للجزء بالكل لأن الشي‏ء لا يعرف إلا نفسه ولا يعرف شيئا إلا من نفسه وما للجزء صفة الكل فاستحال إن يعرف أحد الإنسان الكامل لأنه ليست له‏

درجة الكل فالكل يعرف الكل مثله ويعرف ما يحوي كليته عليه من الأجزاء لأنها كالأعضاء والقوي لصورته والشي‏ء لا يجهل نفسه فظهر كل الإنسان في درجة لا يبلغ إليها فناب بما ذكرناه مما ظهر فيه مناب رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ فكان الإنسان ثنى موجدة فكانت أحديته قبلت الثاني على صورة أحديتها فإذا ضربت أحدية الإنسان الكامل في أحدية الحق لم يخرج لك إلا أحدية واحدة فلك إن تنظر عند ذلك أية أحدية خرجت وأية أحدية ذهبت هل أحدية النائب أو أحدية من استنابه فاعمل بحسب ما ظهر لك من ذلك تسعد فما من حكم للنائب مما له أثر في الكون أو تنزيه عن المثل إلا وذلك الحكم لمن استنابه فلا تبال أية أحدية ظهرت ولا أية أحدية بطنت فما أمره إلا واحدة كما ذكر عن نفسه‏

ما الأمر إلا هكذا *** ما الأمر إلا ما ذكر

فالقول قول فاصل *** له احتكام في البشر

والشأن شأن واحد *** في عينه لمن نظر

أنت الرفيع المجتبى *** عند مليك مقتدر

إن كنت من صورته *** على شهود فاعتبر

ما قلته فإنه *** يدخل في حكم الفكر

إن كنت ذا عقل سليم *** آمنا من الغير

تجده حقا واضحا *** في سور بلا صور

فالعين قد تشهده *** في صور وفي سور

والحق ما بينهما *** في عرشه على سرر

يقابل المثل كما *** يقابل الصور الصور

فقل لمن يعرفه *** بأنه على خطر

وقل لمن يجهله *** بأنه على غرر

[النيابة السادسة فإن الله وصف نفسه بأن له كلمات فكثر]

وأما النيابة السادسة فإن الله وصف نفسه بأن له كلمات فكثر فلا بد من الفصل بين آحاد هذه الكثرة ثم الكلمة الواحدة أيضا منه كثرها في قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فأتى بثلاثة أحرف اثنان ظاهران وهما الكاف والنون وواحد باطن خفي لأمر عارض وهو سكونه وسكون النون فزال عينه من الظاهر لالتقاء الساكنين فناب الإنسان الكامل في هذه المرتبة مناب الحق في الفصل بين الكلمة المتقدمة والتي تليها فنطق سبحانه في هذه النشأة الإنسانية وكل من ظهر بصورتها بالحروف في مخارج النفس من هذه الصورة ووجود الحرف في كل مخرج تكوينه إذا لم يكن مكونا هناك وإلا فمن يكونه فلا بد للمكون أن يكون بين كل كلمتين أو حرفين لإيجاد الكلمة الثانية أو الحرف الثاني وتعلق الأول به لا بد من ذلك في الكلمات الإلهية التي هي أعيان الموجودات كما قال في عيسى عليه السلام إنه كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وقال فيها وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وما هو إلا عيسى وجعله كلمات لها لأنه كثير من حيث نشأته الظاهرة والباطنة فكل جزء منه ظاهرا كان أو باطنا فهو كلمة فلهذا قال فيه وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها لأن عيسى روح الله من حيث جملته ومن حيث أحدية كثرته هو قوله وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ فلما نطق الإنسان بالحروف وهي أجزاء كل كلمة مقصودة للمتكلم الذي هو الإنسان المريد إيجاد تلك الكلمات ليفهم عنه بها ما في نفسه كما فهم عن الله بما ظهر من الموجودات ما في نفس الحق من إرادة وجود أعيان ما ظهر فلا بد في الكلام من تقديم وتأخير وترتيب كما ذلك في الموجودات وهي أعيان الكلمات الإلهية تقديم وتأخير وترتيب يظهر ذلك الدهر والدهر هو الله بالنص الصريح وهوقوله عليه السلام لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر

وفيه ظهر الترتيب والتقديم والتأخير في وجود العالم وسواء كان الكلام متلفظا به أو قائما بالنفس فإن كان في النفس فلا بد من وجود الحروف فيه في وجود الخيال وإن لم يكن ذلك وإلا فليس بكلام وهو قول العربي‏

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

أراد على ما في الفؤاد فإن لم يكن المترجم يضع في ترجمته الترجمة على ما في الفؤاد بحكم المطابقة وإلا فليس بدليل وقد وجدت الكثرة في الترجمة والتقدم والتأخر فلا بد أن يكون الترتيب في الكلام الذي في الفؤاد على هذه الصورة وليس إلا الخيال خاصة وقال تعالى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله فأضاف الكلام إلى الله تعالى وجعله مسموعا للعربي المخاطب بحاسة سمعه فما أدركه إلا متقطعا متقدما متأخرا ومن لم ينسب ذلك الكلام المسمى قرآنا إلى الله فقد جحد

ما أنزله الله وجهل الحقائق فلا بد للنائب إذا تكلم أن يضاف إليه الكلام على ما قلناه وأن يكون هذا النائب يفصل بذاته بين كل حرفين وكلمتين لتوجد الثانية وتتعلق بها الأولى حتى ينتظم به ما يريد إظهاره للمصلحة التي يعلمها فدل بكلامه على ما في نفسه وما كل من سمع بسمعه عقل جميع ما أراده المتكلم أو بعضه إلا من نور الله بصيرته ولهذا قد يكون حظ السامع من كلام المتكلم ترتيب حروفه من غير أن يعقل ما أراده المتكلم بما تكلم به ويظهر ذلك في السامع إذا كان المتكلم يكلمه بغير لحنه ولغته فإنه لا يفهم منه سوى ما يتعلق به سمعه من ترتيب حروفه فهو التعلق العام من كل سامع ولكن لا يعلم ما أريدت له هذه الكلمات كذلك العالم كله لا يعرف من الموجودات التي هي كلمات الله إلا وجود أعيانها خاصة ولا يعلم ما أريدت له هذه الموجودات إلا أهل الفهم عن الله والفهم أمر زائد على كونه مسموعا فكما ينوب العبد الكامل الناطق عن الله في إيجاد ما يتكلم به بالفصل بين كلماته إذ لو لا وجوده هناك لم يصح وجود عين الكلمة والحرف كذلك ينوب أيضا في الفهم في ذلك مناب الحق في قوله ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ فوصف نفسه بأنه يبلو ليعلم في المستأنف وهذه كلها نيابة أحدية لا نيابة غير الأحدية من حيث إن لها القيومية على أعيان الموجودات بما هي الموجودات عليه من الكسب إذ هو القائم عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وكُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي قيدها كسبها فلو لا الحق ما تميزت الموجودات بعضها عن بعض ولكان الأمر عينا واحدا كما هو من وجه آخر مثال ذلك إن الإنسان من حيث حده الشامل لآحاده واحد العين فإن الآحاد كلها عين واحدة من حيث إنسانيتها مع علمنا بأن زيدا ما هو عين عمرو ولا عين غيره من أشخاص الأناسي فعين تمييز الحق لها وجودها وعين تمييز بعضها عن بعض فلأنفسها ولذلك لم تزد كلمة الحضرة في كل كائن عنها على كلمة كن شيئا آخر بل انسحب على كل كائن عين كن لا غير فلو وقفنا مع كن لم نر إلا عينا واحدة وإنما وقفنا مع أثر هذه الكلمة وهي المكونات فكثرت وتعددت وتميزت بأشخاصها فلما اجتمعت في عين حدها علمنا إن هذه الحقيقة وجدت كلمة الحق فيها وهي كلمة كُنْ وكن أمر وجودي لا يعلم منه إلا الإيجاد والوجود ولهذا لا يقال للموجود كن عدما ولا يقال له كن معدوما لاستحالة ذلك فالعدم نفسي لبعض الموجودات ولبعضها تابع لعدم شرطه المصحح لوجوده وبهذه الحقيقة كان الله خلاقا دائما وحافظا دائما ولو كان على ما يذكره مخالفو أهل الحق القائلون ببقاء الأعراض لم يصح أن يكون الحق خلاقا دائما ولا حافظا على بعض الموجودات وجودها وإذا لم يزل خالقا دائما فلا يزال مع كل مخلوق هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وكنتم أمر وجودي بلا شك فلا شي‏ء أدق من نيابة الفصل بين الكلمات لمن يعرف ما ذكرناه‏

[النيابة السابعة فهي النيابة في الأفعال الظاهرة والباطنة في وجود الإنسان‏]

وأما النيابة السابعة فهي النيابة في الأفعال الظاهرة والباطنة في وجود الإنسان وهو ما يحدثه في نفسه من الأفعال والكوائن لا ما يحدثه في غيره وآيته من كتاب الله قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ والعلم صفة له قديمة وهذا العلم الخاص الظاهر عن الابتلاء هو ما يريده بالنيابة فيه هنا فقال تعالى عن نفسه إنه يجيب الداعي إذا دعاه وأن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فوصف نفسه بأنه قاهر لكل شي‏ء في هذه الآية فإذا ادعينا نحن الصبر على ما يكلفنا به وحمل المشقة في ذلك طاعة لله فدعوناه ثم نظرنا أثر ذلك في قلوبنا فوجدنا أنه إذا عم الدعاء ذاتنا كلها بحيث إنه لا يبقى فينا جزء له التفاتة إلى الغير حصلت الإجابة بلا شك على الفور من غير تأخير فعلمنا بهذا الاختبار صدق توجهنا لأنا قد علمنا صدقه فيما أخبر به عن نفسه ولو لا مراعاة الأدب الإلهي لكان قولنا بلوناه بما دعوناه به حتى نعلم قوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فإنها كلمة دعوى حتى تكون النيابة صحيحة في قوله ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ والصَّابِرِينَ ثم طردنا ذلك في حق كل مدع دعوى من صادق وكاذب فنبنا عنه سبحانه في الاختبار والابتلاء فإن كان صاحب دعوى صادقة كالرسل ومن صدق في دعواه فإنه يقيم الدلالة على صدقه بما بلوناه به من طلب الدلالة كانت الدلالة ما كانت كما بلونا به الكاذب لما ادعى ما ليس له فلم يقم بوجود ما بلوناه به فقال له النائب فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ من الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها من الْمَغْرِبِ وهو أمر إمكاني فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وقامت الحجة عليه فالابتلاء أصله الدعوى فمن لا دعوى له لا ابتلاء يتوجه عليه ولهذا ما كلفنا الله حتى قال لنا أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ فقلنا بلى فأقررنا بربوبيته علينا وإقرارنا بربوبيته علينا عين إقرارنا بعبوديتنا له والعبودية بذاتها تطلب طاعة السيد فلما ادعينا ذلك حينئذ كلفنا ليبتلي‏

صدقنا فيما ادعيناه فإن قلت فما علمنا بهذا الإشهاد الميثاقي الذي ورد به الخبر فإن ذلك حظ الايمان لا حظ العقل وليس هو بأمر ضروري فكيف يدخل في هذا الابتلاء العاقل الذي ليس بمؤمن قلنا إن العاقل أوجب على نفسه بعقله تعظيم خالقه والموجب الله لأنه الذي وهبه ذلك العقل فقام العقل له مقام الرسول لنا فنظر العاقل بعقله في وجوده لما ذا يستند هل هو في نفسه لم يزل كذلك أو هو الذي أوجد نفسه فاستحال عنده الأمران وقد تقدم الكلام في هذا الكتاب في هذا المعنى فلما استحال ذلك عنده استند إلى موجد ما هو عينه فنظر فيما ينبغي لذلك الذي استند إليه فنزهه عن كل نعت يفضي اتصافه به إلى حدوثه وسبب ذلك قوة النفس حتى لا يتعبدها مثلها أعني ممكنا محدثا مثلها فإنه قد علم حدوثه فرأى أنه ينبغي بالدليل أن يكون واحدا لا كثيرين ورأى أنه منفي المثلية وأنه على مرتبة توجب له التعظيم والحمد والثناء فأوجب عليه العقل الذي هو بمنزلة الرسول عندنا تعظيم جنابه بما يستحقه مما أعطته الأدلة العقلية فأخذ في تحميده وتعظيمه وتكبيره وتنزيهه وعلم ما تستحقه السيادة فعاملها به فناب عن الحق فيما أوجده في نفسه بنظره من المعرفة به والعبادة لموجده لأنه علم بنظره ذلته وافتقاره في ظهور عينه إلى مظهر بعيد عن الصفات الموجبة حدوثه فدخل في هذه النيابة كل عاقل موحد بدليله وإن لم يكن مؤمنا وهوقول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الحديث الصحيح من مات وهو يعلم ولم يقل يقول ولا يؤمن وإنما ذكر العلم خاصة فقال وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة

فكل موحد لله ففي الجنة يدخله الله خاصة لا غيره ويشفع المؤمنون والأنبياء في أهل الكبائر من أهل الايمان لأن الأنبياء بعثت بالخير وهو متعلق الايمان والموحدون الذين لم يؤمنوا لكونهم ما بعث إليهم رسول أو كانوا في فترة فهم الذين يحشر كل واحد منهم أمة وحده فإن بعث في أمة هو فيهم رسول فلم يؤمن به مع علمه بأحدية خالقه دخل النار فما يخرج منها إلا بإخراج خالقه لأن الخلود في النار لا يكون بالنص لأهل التوحيد بأي وجه حصل لهم ولم يوجد فلا يبقى في النار إلا مشرك أو معطل لا عن شبهة ولا عن نظر مستوف في النظر قوته فلم يبق في النار إلا المقلدة الذين كان في قوتهم واستعدادهم أن ينظروا فما نظروا وهذه مسألة عظيمة الفائدة صحيحة الأصل وآيتها من القرآن ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به يعني في زعمه أنه برهان وإن لم يكن برهانا في نفس الأمر فهو قد وفى وسعه فإن الله ما كلف نَفْساً إِلَّا ما آتاها وهو أمر يتفاضل فيه الناس فقال فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ هل وفى ما آتاه الله من النظر في ذلك أم لا ثم قال إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وليس الكافر إلا من علم ثم ستر وإن لم يعلم فما هو كافر ثم أمر نبيه أن يقول رَبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ هذه الفرق التي وفت النظر استطاعتها التي آتيتها فلم تصل إلا إلى التعطيل أو الشرك وأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فإنهم ما تعدوا ما آتاهم الله فشفع هنا فيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من حيث لا يشعرون فإذا نالتهم السعادة بالخروج من النار وقد غفر لهم الله بسؤال الرسول فيهم إذ قال رَبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ حين أمره الله بذلك وما أمره بهذا الدعاء إلا ليجيبه فأجابه في ذلك فعرفوا قدر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عند ذلك إذا دخلوا الجنة فينتمون إليه فيها لأنه السيد الأكبر وهذا الدعاء يعم كل من هو بهذه المثابة من وقت آدم إلى نفخة الصعق لأنه ما خصص في دعوته إلا من هذه صفته ومن ينبغي أن يرحم ويغفر له وينبغي لكل نائب منا أن يحضر في نفسه هذه الفرق وكل من له عذر من الأمم في تخلفه عن الحق الذي هو في نفس الأمر أن يقول رَبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ وأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فإن الله تعالى يضرب له بسهم في هذه الشفاعة فلا تغفل يا ولي عن حظك منها ولا تكن ممن غلب اليبس عليه فحجر رحمة الله إن تصيب إلا المؤمن ولم يفرق بين من يأخذها وتتناوله بطريق الوجوب ممن تتناوله من عين المنة فهذه شفاعة من الرسول والنواب لهؤلاء في الدنيا يقوم بها الحق في الآخرة لهم من حيث لا يعلمون حتى يدخلوا الجنة فإذا دخلوها رأينا فيهم العلامة التي تعطينا فيهم قبول الشفاعة الدنيوية فينبغي لكل تال إذا تلا القرآن أن يتدبره ويأخذ كل أمر أمر الله به نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يبلغه أو يقوله أو يعلمه فليقله في تلاوته ولا يكون حاكيا بل يكون صاحب نية وقصد وابتهال في ذلك وأنه مأمور به من الحق إن أراد أن يكون من هذا الحزب النبوي فإن الله أخفى النبوة في خلقه وأظهرها في بعض خلقه فالنبوة الظاهرة هي التي انقطع ظهورها وأما الباطنة فلا تزال في الدنيا والآخرة لأن الوحي الإلهي والإنزال الرباني لا ينقطع إذ كان به حفظ العالم فجميع العالم لهم نصيب من‏

هذا الإنزال والوحي فمنه ما ذكره مثل قوله وأَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وقالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ وقال الهدهد لسليمان عليه السلام أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ به وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في المجتهدين ما قال وما فرض لهم الإصابة في كل ما اجتهدوا فيه وإنما فرض لهم الأجر في ذلك أصابوا أم أخطئوا وفضل بين المصيب والمخطئ في الأجر وهذه نيابة عجيبة رفيعة المقدار لا يعلمها كل أحد

[النيابة الثامنة التي شفعت وترية الحق من حيث إنه تعالى مجلى لها]

وأما النيابة الثامنة التي شفعت وترية الحق من حيث إنه تعالى مجلى لها وهي مجلى له فهو ينظر نفسه فيها نظر كمال وهي تنظر نفسها فيه نظر كمال وذلك راجع إلى ما هو عليه الحق تعالى من الأسماء الإلهية فلا تظهر هذه الصورة إلا في مرآة الإنسان الكامل الذي هو ظله الرحماني فنصب له عرشا استوى عليه على التقابل من عرشه المنسوب إليه بحكم الاستواء عليه ومثاله ما وصف الحق به أهل الجنة مُتَّكِئِينَ ... عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي يقابل بعضهم بعضا والاتكاء الاعتماد بصفة الجبروت فاتكاء الحق عليه فيما ظهر من الحق وبطن من الإنسان الكامل فإنه يعلو على متكئه والإنسان الكامل يتكي أيضا على ربه فيما يظهر به الإنسان من النيابة حين يبطن الحق فيها فتنسب المشاهدة وما يشهد إلى الشاهد لا إلى أمر آخر كما ينسب في حضرة الأفعال الفعل بالعوائد إلى المخلوق والحق مبطون فيه وينسب الفعل بخرق العادة إلى الله لا إلى المخلوق لأنه خارج عن قدرة المخلوق فيظهر الحق وإن كان لا يظهر إلا في الخلق وإنما ثنى الخلق وجود الحق لأن كل حقيقة تعقل للحق لا تعقل مجردة عن الخلق فهي تطلب الخلق بذاتها فلا بد من معقولية حق وخلق لأن تلك الحقيقة الإلهية من المحال أن يكون لها تعلق أثري في ذات الحق ومن المحال أن تبقي معطلة الحكم لأن الحكم لها ذاتي فلا بد من معقولية الخلق سواء اتصف بالوجود أو بالعدم فإن ثبوت عينه في العدم به يكون التهيؤ لقبول الآثار وثبوته في العدم كالبزرة لشجرة الوجود فهو في العدم بزرة وفي الوجود شجرة

ثبوت العين في الإمكان بزر *** ولو لا البزر لم يك ثم نبت‏

ظهوري عن ثبوتي دون أمر *** إلهي محال حين كنت‏

وإذ والأمر على ما ذكرناه فما في العلم إلا الشفع وهو تثنية الجمع لأن الحقائق الإلهية كثيرة والمحققات على قدرها أيضا فثنت المحققات الحقائق في العلم وإن لم تتصف بالوجود العيني‏

فلو لا ثبوت العين ما كان مشهودا *** ولا قال كن كونا ولا كان مقصودا

فما زال حكم العين لله عابدا *** وما زال كون الحق للعين معبودا

فلما كساه الحق حلة كونه *** وقد كان قبل الكون في الكون مفقودا

تكونت الأحكام فيه بكونه *** فما زال سجادا فقيدا وموجودا

ولما ظهر حكم تثنية الأمر المعلوم في نفسه لم يصح إلا بالمثلية لا غيرها لأنه لو لم يكن مثلا ما عمه بذاته ولا قابلة وليس إلا الإنسان الكامل أو مجموع العالم بالإنسان فالإنسان لا بد منه فلنقتصر عليه وحكم الثبوت بين الله والإنسان الكامل خلاف حكم الوجود فبحكم الوجود يكون الإنسان هو الذي ثنى وجود الحق وليس لحكم الثبوت هذا المقام فإن الحق والخلق معا في الثبوت وليس معا في الوجود فلما كان الأمر في الثبوت على السواء أعطيناه صورة الاعتدال وعدم الميل إلى أحد الجانبين وهذه هي المنزلة الرفيعة المنار العامة الآثار فإذا ظهر الحق في الصور لم تقم المثلية الاعتدالية فكان المثل بحسب الصورة المتجلي فيها فإن كانت صورة روحية ينسب إليها ما هي عليه الأرواح من الحكم وإن كانت صورة جسمية ينسب إليها ما هي عليه صور الأجسام الظاهرة من الحكم وهو اتصافه بالأوصاف الطبيعية من تغير الأحوال في الغضب والرضي والفرح والنزول والهرولة فإذا أثبت لك الحق عن نفسه أمرا ما فانظر فيما أثبته لأي صورة هو فاحكم عليه بحكم ما هو به لتلك الصورة وما ثم إلا مثل أو غير مثل فهذا حكم هذه النيابة الثامنة قد استوفيناه‏

[النيابة التاسعة فهي الظهور في البرزخ المعقول‏]

وأما النيابة التاسعة فهي الظهور في البرزخ المعقول الذي بين المثلين وهو الفصل الذي يكون بين الحق والإنسان الكامل فإن هذا الفصل أوجب تميز الحق من الخلق فينظر بمن هو أليق وموضعه في ضرب المثال الظل الذي في الشخص للمتد عنه الظل الممدود فالظل القائم به بين الشخص والظل الممدود المنفصل عنه ذلك هو البرزخ وهو بالشخص القائم ألصق فهو به‏

أحق فبالحق كان ميز الخلق عنه لا بالخلق يميز الحق عنه لأن الخلق متلبس بنعوت الحق وليس الحق متلبسا بالخلق ولذلك كان ظهور الخلق بالحق ولم يكن ظهور الحق بالخلق لكون الحق لم يزل ظاهرا لنفسه فلم يتصف بالافتقار في ظهوره إلى شي‏ء كما اتصف الخلق بالافتقار في ظهوره لعينه في عينه إلى الحق ونريد بالخلق هنا الإنسان الذي له المثلية لا غيره فإن هذا الفصل وقع بين المثلين فللفصل حكم المثلين بلا شك لأنه يقابل كل مثل بذاته ولولاه لما تميز المثل عن مثله ومثليتك له قوله وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ وقوله وهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ... لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا بإعطاء كمال الإنسانية وهو الصورة لبعضهم وهم الذين رفعهم الله والمرفوع عليهم هم الأناسي الحيوانيون ومثليته لك أن جعل نفسه لك وكيلا فيما هو حق لك فيتصرف فيه عنك بحكم الوكالة المطلقة المفوضة الدورية فإن وكالة الحق لا بد أن تكون دورية اعتناء من الله بعبده لأنه خلقه صاحب غفلات ونسيان والغفلة والنسيان أحوال تطرأ على هذه النشأة الإنسانية والأحوال لها الحكم مطلقا في كل من اتصف بالوجود لا أحاشي موجودا من موجود فإذا غفل الإنسان في حركة ما من حركاته فتصرف فيها بنفسه فذلك التصرف النفسي عزل الحق عن الوكالة فإذا كانت الوكالة دورية كان كل ما انعزل الحق عن هذه الوكالة بالتصرف النفسي ولي الأمر فلم يتصرف إلا الله فإن الله أمرك أن تتخذه وكيلا في سورة المزمل فهذه فائدة الوكالة الدورية وهي عن أمره تعالى عبده وجعلها في التوحيد فقال رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا إشارة إلى التصرف في الجهات وما ذكر منها إلا المشرق وهو الظاهر والمغرب وهو الباطن وبالعين الواحدة التي هي الشمس إذا طلعت أحدثت اسم المشرق وإذا غربت أحدثت اسم المغرب وللإنسان ظاهر وباطن لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا في ظاهرك وباطنك فإنه رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ فانظر ما أعجب القرآن وهذه النيابات كلها التي ذكرناها ونذكرها نيابات توحيد لا غير ذلك فإن ظهرت أنت لم يكن الظاهر إلا هو وإن لم تظهر فهو هو إذ الواحد لا ينقسم في نفسه إلا بالحكم والنسب وهو تعالى ذو أسماء كثيرة فهو ذو نسب وأحكام فأحديته بنا أحدية الكثرة والعين واحدة ولهذا ينسب الظهور لنا في وقت وينسب إليه في وقت ويضاف إليه في حكم ويضاف إلينا في حكم فقد تبين لك أن عين ما قام فيه الإنسان عين ما قام فيه الحق بين ظاهر وباطن فإذا ظهر من ظهر بطن الآخر وكانت النيابة للظاهر عن الذي بطن وكانت النيابة للذي بطن فيما بطن فيه عن الذي ظهر فلا يزال حكم الخلافة والوكالة وهي خلافة ونيابة دائما أبدا دنيا وآخرة فإن الحق كُلَّ يَوْمٍ من أيام الأنفاس هُوَ في شَأْنٍ ما وكلته فيه فإنه لك يتصرف ولك يصرف فيما استخلفك فيه فأنت تتصرف عن أمر وكيلك فأنت خليفة خليفتك كما أنه ملك الملك بالوكالة فهذا عين ما هو الوجود عليه وما بيننا وبين الناس فرق في ذلك في نفس الأمر إلا أني أعرف وهم لا يعرفون ذلك لأجل الأغطية التي على عين بصيرتهم والأكنة والأقفال التي على قلوبهم وفيها

[النيابة العاشرة فهي نيابة توحيد الموتى‏]

وأما النيابة العاشرة فهي نيابة توحيد الموتى فإنه بالموت تنكشف الأغطية ويتبين الحق لكل أحد ولكن ذلك الكشف في ذلك الوقت في العموم لا يعطي سعادة إلا لمن كان من العامة عالما بذلك فإذا كشف الغطاء فرأى ما علم عينا فهو سعيد وأما أصحاب الشهود هنا فهو لهم عين وعند كشف الغطاء تكون تلك العين لهم حقا فينتقل أهل الكشف من العين إلى الحق وينتقل العالم من العلم إلى العين وما سوى هذين الشخصين فينتقلون من العمي إلى الأبصار فيشهدون الأمر بكشف غطاء العمي عنهم لا عن علم تقدم فلا بد من مزيد لكل طائفة عند الموت ورفع الغطاء ولهذا قال من قال من الصحابة لو كشف الغطاء فأثبت لك أن ثم غطاء ثم قال ما ازددت يقينا يعني فيما علم إذا عاينه فلا يزيد يقينا في العلم لكن يعطيه كشف الغطاء أمرا لم يكن عنده فيصح قوله ما ازددت يقينا في علمه إن كان ذا علم وفي عينه إن كان ذا عين لا أنه لا يزيد بكشف الغطاء أمرا لم يكن له إذ لو كان كذلك لكان كشف الغطاء في حق من هذه صفته عبثا معرى عن الفائدة

ولكن للعيان لطيف معنى *** لذا سأل المعاينة الكليم‏

فما كان الغطاء إلا ووراءه أمر وجودي لا عدمي فهذه النيابة عن الحق للعبد في البرزخ فيقوم حاكما بصورة حق ونيابة في عالم الخيال فيكون له عليه سلطان في هذه الدار الدنيا فيجسد ما شاء من المعاني للناظر وقد نال من هذه السلطنة

حظ قريبا هل السحر الذين قال الله فيهم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي إلى موسى من سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏ وليست بساعية في نفس الأمر وهي ساعية في نظر موسى ونظر الحاضرين إلا السحرة فإنهم يرونها حبالا والغريب لو ورد لرآها كما يراها الساحر بخلاف من له النيابة على عالم الخيال وفي حضرته كموسى فإنه لا يرى ما يجسده من المعاني جسدا كما جسدوه ويراه هو معنى إنما ذلك للساحر لعدم قوته وما بين الساحر وبين صاحب هذه النيابة كموسى إلا كون الحق جعله نائبا عنه واتخذه موسى وكيلا فَأَلْقى‏ مُوسى‏ عَصاهُ عن أمر حق وهو أمر موكله فقال له أَلْقِ عَصاكَ فرآها حية فخاف وأخبر عن السحرة أنهم فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وعِصِيَّهُمْ لا عن أمر إلهي بل عن حكم أسماء كانت عندهم لها في عيون الناظرين خاصية النظر إلى ما يريد الساحر إظهاره فله بتلك الأسماء قلب النظر لا قلب المنظور فيه وبالأمر الإلهي قلب المنظور فيه فيتبعه النظر فالنظر ما انقلب في حق النائب والفعل في النظر وفي المنظور فيه لم يكن إلا بعد الإلقاء فلما خرج عن ملك من ألقاه تولى الله قلب المنظور في حق النائب وقلب النظر في حق من ليس بنائب وله علم هذه الأسماء التي هي سيميا أي علامات على ما ظهر في أعين الناظرين فالعموم عند كشف الغطاء بالموت وانتقالهم إلى البرزخ يكونون هنالك مثل ما هم في الدنيا في أجسامهم سواء إلا أنهم انتقلوا من حضرة إلى حضرة أو من حكم إلى حكم والعارفون نواب الحق لهم هذا الحكم في الحياة الدنيا وإنما كانت النيابة هنا نيابة توحيد لأنه لا يظهر الحكم إلا بعد الإلقاء وهو أن يخرج الأمر من ملك الملقي فيتولاه الله بحكم الوكالة في حق النائب وبحكم الحقيقة في حق الساحر للغيرة الإلهية فلا يكون حكم في الأشياء إلا لله وبقي لصاحب هذه النيابة في هذه الحضرة التصرف دائما كما ذكرناه المسمى في العامة كرامات وآيات وخرق عوائد وهي عند المحققين ليست بخرق عوائد بل هي إيجاد كوائن لأنه ما ثم في نفس الأمر عوائد لأنه ما ثم تكرار فما ثم ما يعود وهو قوله في أصحاب العوائد بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ يقول إنهم لا يعرفون أنهم في كل لحظة في خلق جديد فما يرونه في اللحظة الأولى ما هو عين ما يرونه في اللحظة الثانية وهم في لبس من ذلك فلا إعادة فلا خرق هكذا يدركه المحققون من أهل الله وليس الأمر إلا كما ذكرناه فإنه بهذا يكون الافتقار للخلق دائما أبدا ويكون الحق خالقا حافظا على هذا الوجود وجوده دائما بما يوجده فيه من خلق جديد لبقائه‏

فانظر فديتك فيما قد أتيت به *** فالعلم يدرك ما لا يدرك البصر

فرجال العلم أولى بالعبر *** ورجال العين أولى بالنظر

فالذي يوصف بالعقل له *** قوة تخرجه عن البصر

والذي يوصف بالكشف له *** صورة تسمو على كل الصور

فتراه دائما في حاله *** ظاهرا من غير إلى غير

فيتصرف النائب في هذه الأغيار الخيالية كما يريد ويشاء ولكن عن أمر وكيله لجهل الموكل بالصالح التي يعرفها الوكيل في التصريف فإن غلط وتصرف عن غفلة بغير أمر الوكيل فإن الله يحفظ عليه وقته لكون الوكالة كما قلنا دورية ولكن مع هذا الحفظ الذي ذكرناه لا تكون الصورة الواقعة عن تصريف الغفلة تبلغ من الدرجة مبلغ الصورة التي تكون عن تصريف الوكيل الذي صرف فيه هذا النائب لتتميز المراتب ويعلم الرفيع والأرفع واعلم أن هذه المرتبة التي هي هذه النيابة الخاصة لا تكون إلا بالموت والموت على قسمين موت اضطراري وهو المشهور في العموم والعرف وهو الأجل المسمى الذي قيل فيه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون والموت الآخر موت اختياري وهو موت في حياة دنياوية وهو الأجل المقضي في قوله تعالى ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا ولما كان هذا الأجل المقضي معلوم الوقت عند الله مسمى عنده كان حكمه في نفسه حكم الأجل المسمى وهو قوله عز وجل كُلٌّ يَجْرِي إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى يعني في حاله ولا يموت الإنسان في حياته إلا إذا صحت له هذه النيابة فهو ميت لا ميت كالمقتول في سبيل الله نقله الله إلى البرزخ لا عن موت فالشهيد مقتول لا ميت ولما كان هذا المعتنى به قد قتل نفسه في الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس‏

رزقه الله حكم الشهادة فولاه لنيابة في البرزخ في حياته الدنيا فموته معنوي وقتله مخالفة نفسه وقد جئنا على ما ذكرناه أولا من ذكرنا هذه النيابات العشرة التي هي أمهات وأما ما تتضمنه كل نيابة من فعل كل ما لا يصلح إلا بنيابة فكثير لا يحصى ولله‏

الحمد والمنة على ما أعطى ومما يتعلق بهذا الباب نور توحيد الذات‏

[في قوة الواحد أحدية كل موجود ومعلوم ومعدود]

واعلم أنه لما كان في قوة الواحد أحدية كل موجود ومعلوم ومعدود ظهر جميع ما ظهر من العالم من مجموع ومفرد وفي العالم من تقسيم عقلي في المعلومات بأحدية تخصه وأعطتها ذلك أحدية الذات الواهبة لوجود ما وجد والواهبة علم ما علم من المعلومات فالأحدية ظاهرة في الآحاد خفية في المجموع فأحدية الذات في الآحاد والبسائط وأحدية المجموع في المركبات وهي المعبر عنها في الإلهيات بلسان الشرع بالأسماء وفي العقول السليمة بالنسب وفي العقول القاصرة النظر بالصفات وأبين ما يظهر فيه حكم الواحد في العدد لأنه بالواحد يظهر العدد وينشأ على الترتيب الطبيعي من الاثنين إلى ما لا يتناهى وبزوال الواحد منه يزول فالمعلول لو لا علته ما ظهرت له عين والعالم لو لا الله ما وجد في عينه وأعطى سبحانه اسم الذات لنفسه واسم النفس لما يحمل اسم النفس من التذكير والتأنيث كما قال تعالى أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ الله الآية فأنث فقال بَلى‏ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي بكاف مكسورة خطاب المؤنث آياتي فَكَذَّبْتَ بِها بتاء مفتوحة خطاب المذكر والعين واحدة فإن النفس والعين عند العرب يذكران ويؤنثان وذلك لأجل التناسل الواقع بين الذكر والأنثى ولذلك جاء في الإيجاد الإلهي بالقول وهو مذكر والإرادة وهي مؤنثة فأوجد العالم عن قول وإرادة فظهر عن اسم مذكر ومؤنث فقال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ وشي‏ء أنكر النكرات والقول مذكر إِذا أَرَدْناهُ والإرادة مؤنثة أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فظهر التكوين في الإرادة عن القول والعين واحدة بلا شك فبنور توحيد الذات ظهرت جميع المحدثات علوا وسفلا وحسا ومعنى ومركبا ومفردا فسرت الأحدية في كل شي‏ء فما ثم إلا واحد وما ظهر أمر إلا به ومنه وفيه ففيه من حيث ما للنفس من التأنيث وبه من حيث ما للنفس من التذكير والتأنيث ومنه من حيث ما للنفس من التذكير فعين واحدة فاعلة منفعلة والانفعال ما ظهر في الأعيان من الموجودات والمعلومات المعقولة وإن لم يوجد لها أعيان ثم جعل التوليد في الحيوانات بل في ما يقبل الولادة على ثلاثة أضرب ف يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً مراعاة لمحل التكوين ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ مراعاة للملقي أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وإِناثاً مراعاة للمجموع فإن زوجهم إناثا أو ذكرانا أو ذكرا وأنثى فلوجود الجمع المؤذن بما في الأصل من جمع النسب ويَجْعَلُ من يَشاءُ عَقِيماً لمن لا يقبل الولادة كأسماء التنزيه فما في الوجود أحدية إلا أحدية الكثرة وليست إلا الذات والألوهة لهذه وصف نفسي لأنه لذاته هو ولِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فافهم فلهذا قلنا أحدية المجموع أو أحدية الكثرة فإن قلت فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فقلنا هذا لا يقدح في أحدية الكثرة فإن كونه ذاتا ما هو كونه غنيا فمعقول الذات خلاف معقول نعتها بالغنى فأنت في هذا الاعتراض مثبت لما تريد نفيه فقويت قولي وأعظم من هذه النسبة إلى الإله فما ثم وأزيدك أمرا آخر في هذه المسألة وهو أن الله وإن كان في ذاته غنيا عن العالمين فمعلوم أنه منعوت بالكرم والجود والرحمة فلا بد من مرحوم ومتكرم عليه ولهذا قال تعالى وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فأجاب الداعي سبحانه جودا وكرما ولا شك أن السؤال بالأحوال أتم من السؤال بالقول والإجابة أسرع للسائل بالحال لأنه سائل بذاته والجود على المضطر المحتاج أعظم في نفس الأمر من الجود على غير المضطر والممكن في حال عدمه أشد افتقارا إلى الله منه في حال وجوده ولهذا لا تصحب الممكن دعوى في حال عدمه كما تصحبه في حال وجوده فإفاضة الوجود عليه في حال عدمه أعظم في الجود والكرم فهو تعالى وإن كان غنيا عن العالمين فذلك تنزيه عن إن يقوم به فقر أو يدل عليه دليل غير نفسه فأوجد العالم من وجوده وكرمه وهذا لا يشك فيه عاقل ولا مؤمن وإن الجود له نعت نفسي فإنه جواد كريم لنفسه فلا بد من وجود العالم وما حكم العلم بكونه يستحيل عدم كونه فلا بد من نسب أو صفات على مذهب الصفاتيين أو أسماء على مذهب آخرين فلا بد من الكثرة في العين الواحدة فلا بد من أحدية الكثرة على كل‏

وجه من كل قائل بنسبة أو صفة أو اسم فليست أنوار الذات بشي‏ء سوى الموجودات وهي سبحات الوجه لأنها عين الدلالة عليه سبحانه لنا ولهذا

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من عرف نفسه عرف ربه‏

فجعل نفس العارف إذا عرفها العارف دليلا على معرفة الله والنور دليل على نفسه وعلى ما يظهره للعين فبنور الموجودات ظهرت الموجودات وظهر موجدها لها فما علمته إلا منها فهو المطلوب لها والطلب يؤذن بالافتقار في حق المحدثات وهو المطلوب فهو الغني فمن كونه مطلوبا

لها صح افتقارها إليه وصح غناه عنها فقبوله عليها قبول جود وكرم فالسبحات الوجهية انتشرت على أعيان الممكنات وانعكست فأدرك نفسه وأنوار الشي‏ء لا تحرقه والممكن في حال عدمه لا يقبل الحرق فلو اتصف بالوجود احترق وجوده لرجوع الوجود إلى من له الوجود فبقيت الممكنات على حقيقة شيئية ثبوتها وظهر بالسبحات الوجهية كثرة الممكنات في مرآة الحق أدركها الحق في ذاته بنوره على ما تستحقه الممكنات من الحقائق التي هي عليها فذلك ظهور العالم وبقاؤه فالحكمة في النظر وفي كيفية ما يدركه البصر وما ذا يدرك ومن يدرك والله الموفق‏

ففي الحق عين الخلق إن كنت ذا عين *** وفي الخلق عين الحق إن كنت ذا عقل‏

فإن كنت ذا عين وعقل معا فما *** ترى غير شي‏ء واحد فيه بالفعل‏

فإن خيال الكون أوسع حضرة *** من العقل والإحساس بالبذل والفضل‏

له حضرة الأشكال في الشكل فاعتبر *** تراه يرد الكل في قبضة الشكل‏

فإن قلت كل فهو جزء معين *** وإن قلت جزء قام للكل بالكل‏

فما ثم مثل غيره متحقق *** بموجده فهو الممثل للمثل‏

فعلمي به أحلى إذا ما طعمته *** وأشهى إلى أذواقنا من جنى النحل‏

وهنا يظهر لك توحيد الإلحاق فإن الرائي لما ظهرت أعيان الممكنات في مرآة ذاته أدركها في نفسه بنوره فلحق المرئي بالرائي حيث أدركه في ذاته وهو واحد في الوجود لأن الممكنات المرئية منعوتة في هذه الحالة بالعدم فلا وجود لها مع ظهورها للرائي كما ذكرناه فسمى هذا الظهور توحيد إلحاق أي ألحق الممكن بالواجب في الوجوب فأوجب للممكن ما هو عليه الواجب لنفسه من النسب والأسماء فله الإيجاد على الإطلاق ما عدا نفسه تعالى وللخيال الإيجاد على الإطلاق ما عدا نفسه فالخيال موجد لله عز وجل في حضرة لوجود الخيالي والحق موجد للخيال في حضرة الانفعال الممثل‏

فالكل يدخل تحت الحصر أجمعه *** وليس ثم سوى من ليس يمتنع‏

فأعجب لمنفعل في ذات فاعله *** يكن بها فاعلا والكل قد جمعوا

على وجود الذي قلناه من عجب *** وكلهم بالذي جئنا به قطعوا

وإذا ثبت إلحاق الخيال في قوة الإيجاد بالحق ما عدا نفسه فهو على الحقيقة المعبر عنه بالإنسان الكامل فإنه ما ثم على الصورة الحقية مثله فإنه يوجد في نفسه كل معلوم ما عدا نفسه والحق نسبة الموجودات إليه مثل هذه النسبة فتوحيد الإلحاق توحيد الخيال مع كونه من الموجودات الحادثة إلا أن له هذا الاختصاص الإلهي الذي أعطته حقيقته فما قبل شي‏ء من المحدثات صورة الحق سوى الخيال فإذا تحققت ما قلناه علمت أنه في غاية الوصلة وهذا يسمى توحيد الوصلة والاتصال والوصل كيف شئت قل فلم يفرق في هذا التوحيد بين المثلين إلا بكونهما مثلين لا غير فهما كما قال القائل‏

رق الزجاج ورقت الخمر *** فتشاكلا فتشابه الأمر

فكأنما خمر ولا قدح *** وكأنما قدح ولا خمر

فمن شدة الاتصال يقول هو هو ظهر في موطنين معقولين لو لا الموطنان ما عرفت ما حكمت به من التمييز بين المثلين فما خرج شي‏ء من الموجودات عن التشبيه ولهذا قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فأتى بكاف الصفة ما هي الكاف زائدة كما ذهب إليه بعض الناس ممن لا معرفة له بالحقائق حذرا من التشبيه فنفى إن يماثل المثل غير من هو مثله فنفى المثل عن مثل المماثل نفي المثل عن المماثل فهذه أنوار مندرجة بعضها في بعض‏

مثل اندراج المثل في المثل *** في صورة العين وفي الشكل‏

وهو على التحقيق في ذاته *** مثل اندراج الظل في الظل‏

فهنا قد ذكرنا شيئا يسيرا مما يحوي عليه هذا المنزل وفيه من العلوم سوى ما ذكرناه علم منزلة علم الله من الله وأين‏

هي من منزلة غيره من الصفات المنسوبة إليه ولم يزاحمها في الموجودات وفيه علم الفرض المنزل وأين هو من علم الفرض المستنبط من المنزل وفيه علم الأدلة والبراهين العقلية التي تحكم على موجدها بما تستحقه وتصديقه إياها سبحانه فيما حكمت به عليه فإن الله ما نصب بعض الآيات إلا لأولي الألباب وهم الذين يعقلون معانيها بما ركب فيهم سبحانه من القوة العقلية وجعل نفس العقل للعقل آية وأعطاه القوة الذاكرة المذكرة التي تذكره ما كان تجلى له من الحق حتى عرفه شهودا ورؤية ثم أرسل حجب الطبيعة عليه ثم دعاه إلى معرفته بالدلالات والآيات وذكره إن نفسه أول دلالة عليه فلينظر فيها وفيه علم الحدود التي توجب للناظر العاقل الوقوف عندها فللظاهر حد وللباطن حد وللمطلع حد وللحد حد فمن وقف عند حد نفسه فأحرى إن يقف عند حد غيره فهذا الحد قد عم كل ما ذكرناه وما هو الوجود عليه ولو لا الحدود ما تميزت المعلومات ولا كانت معلومات ولذلك لعن الله على لسان رسوله من غير منار الأرض يعني الحدود ولما اجتمع المثلان لأنفسهما ولم يتوقفا على تعيين موجدهما توجهت عليهما الأسماء الإلهية الحسنى بمائة درجة جنانية تحجبها مائة دركة جهنمية على مرائي من أهل الكشف فسعدا بهذا الاجتماع الذي أوجب لهما توجه العالم الأخراوي برمته وفيه علم اجتماع المثلين في الحكم النفسي وإلا فليسا بمثلين وفيه علم ما يشرك به الشي‏ء من ليس مثله فهو مثله من ذلك الوجه الذي أشركه فيه خاصة وينفصل عنه بأمور أخر له فيها أمثال فما ثم معلوم ما له مثل جملة واحدة فما ثم إلا أمثال وأشباه ولذلك ضرب الله الأمثال ونهى عن ضربنا الأمثال له وعلل فقال إِنَّ الله يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فمن علمه الحق ضرب الأمثال ضربها على علم فلا يضرب الأمثال إلا العلماء بالله الذين تولى الله تعليمهم وليس إلا الأنبياء والأولياء وهو مقام وراء طور العقل يريد أنه لا يستقل العقل بإدراكه من حيث ما هو مفكر فإن الذي عند العقل من العلم بالله من حيث فكره علم التنزيه وضرب الأمثال تشبيه وموضع التشبيه من ضرب المثل دقيق لا يعرفه إلا من عرف المشبه والمشبه به والمشبه به غير معروف فالأمر

الذي لتحقق منه ضرب المثل له مجهول فالنظر فيه من حيث الفكر حرام على كل مؤمن وهو في نفس الأمر ممنوع الوصول إليه عند كل ذي عقل سليم وفيه علم التربيع من حيث الشهود وفيه علم السبب الذي لأجله طلب من المدعي الدلالة على ما ادعاه وذلك لأنه يريد التحكم بما ادعاه والتحكم صفة إلهية والمدعي فيه معنى الغيب والشهادة فالشهادة ثابتة بعينها ولو لم يدعها لأغنى عينها فيه عند المشاهد عن الدعوى والغيب يحتاج معه إلى إقامة البينة على ما ادعى ويعترض هنا أمر عظيم وهو المعترف بأمر يوجب الحد واعترافه على نفسه دعوى ولا يطالب ببرهان بل تمضى فيه الحدود فقد خرج هذا المدعي بدعواه عن ميزان ما تطلبه الدعوى بحقيقتها وأما التحكم من المعترف بما ادعاه وإن كان كاذبا على نفسه في دعواه فإنه قد تحكم فيك إن تقيم عليه الحد الذي يتضمنه ما اعترف به وهنا دقائق تغيب عن أفهام أكثر العارفين فإن المعترف قد يكذب في اعترافه ليدفع بذلك في زعمه ألما يعظم عنده على الألم الذي يحصل له من الاعتراف إذا أقيمت عليه حدوده وذلك لجهله بما يؤول إليه أمره عند الله في ذلك ولجهله بما لنفسه عليه من الحق والله يقول إنا لا نصلح منك شيئا أفسدته من نفسك فالحقوق وإن عظمت فحق الله أحق ويليه حق نفسك وما خرج عن هذين الحقين فهين الخطب وفيه علم من اتخذ الله دليلا في أي موطن يتخذه وما دعواه التي توجب له ذلك وفيه علم الآداب الإلهية ومعرفة المواطن التي ينبغي أن يستعمل فيها وأكثر ما يظهر ذلك في باب الايمان بالله وفيه علم المواخاة بين الفضل الإلهي والرحمة وهل بين الآلام والرحمة مؤاخاة أم لا من باب دفع ألم كبير بألم دونه وفيه علم الأمر الذي يكرهه الطبع ويحمده الحق وما يغلب من ذلك ومن يجني ثمرة ذلك الكرة ومرارة تلك الفظاعة ذوقا وفيه‏

علم تصريف الحكمة الإلهية في النوع الإنساني خاصة دون سائر المخلوقات وفيه علم ما ينبغي أن يكون عليه العاقل إذا رأى في الوجود ما يقضي له العقل بالوقوف عنده والعدول عما في الأخذ به من مذام الأخلاق وفيه علم ما لا يعلمه الإنسان في زعمه وهو في نفس الأمر على خلاف ذلك كيف يعلمه الله هل يعلمه كما هو عليه في نفسه أو كما هو في علم هذا العالم في زعمه وهي مسألة

صعبة في الشرع وأما في العقل فهي هينة الخطب وفيه علم ما يعظ به العالم من هو دونه وتربية الشيخ للتلميذ الإلهي وفيه علم ما ينفي أن يكون في المعلوم ضدان من جميع الوجوه جملة واحدة من غير إن يكون بينهما مثلية بوجه ما وفيه علم ما تنتجه مؤاخاة الصفات المثلية الإلهية في الكون وفيه علم الرمي المحسوس والمعنوي وما يقع فيه الاشتراك وما لا يقع فيه اشتراك من ذلك وفيه علم نسبة الكلام إلى كل صنف صنف من المخلوقات كلها وفيه علم ألفة النسب وهل يقع بين المتناسبين افتراق معنوي أم لا وفيه علم التصرف في الخلأ وهل يصح تصرف في الملإ أم لا وهل في العالم خلاء أو هو كله ملأ وحكمة وجود الأجسام مختلفة فيما يقبل الخرف منها بسهولة وما لا يقبل الخرق إلا بمشقة وما شف منها وما لم يشف وما لطف منها وما كثف وقوة الألطف على الأكثف حتى يزيله ويخرقه وفيه علم حكمة التحيز في العالم دنيا وآخرة وفيه علم هل للبصر أثر في المبصر أم لا وفيه علم ما يحفظ به الخرق بين الشيئين حتى لا يلتئما وفيه علم لفاعل والمنفعل خاصة لا الانفعال وفيه علم الاستعدادات التي يقبل صاحبها التعليم ممن لا يقبله وإذا رأى الشيخ ذلك هل يبقى على تعليمه وتربيته أم يقصر في ذلك أو يتركه رأسا فمن الناس من يرى أنه يتركه أو يقصر في أمره حتى يتركه التلميذ من نفسه ومنهم من يقول إن الشيخ يبذل المجهود في تعليم من يعلم منه أنه لا يقبل وما عليه إلا ذلك فيوفي حق ما يجب عليه ولا يلزمه إلا ذلك فإنه ليس بمضيع زمانا في ذلك وهذا هو الحق عند الأكابر ومعاملة الحق بما تستحقه الربوبية وقد جاء في الشرع المطهر لأزيدن على السبعين وأما التبري منه بعد البيان فلا يناقض التعليم والإرشاد وإن لم يقبل فإنه وإن تبرأ منه في قلبه وفي الدعاء له فلا يتبرأ مما بعث به فله إن يقول ويعلم ما يلزمه إلا هذا ورأينا جماعة من أهل الله على خلاف هذا وهو غلط عظيم وفيه علم نيابة هاء الهوية عن هاء التنبيه وكم مرتبة لها في العلم الإلهي وفيه علم ما يذهب الفقر من النكاح وبه كان يقول أبو العباس السبتي صاحب الصدقة بمراكش رأيته وعاشرته فرأيته وجاءه إنسان يشكو الفقر فقال تزوج فتزوج فشكا إليه الفقر فقال تزوج أخرى فتزوج اثنين فشكا إليه الفقر فقال له ثلث فثلث فشكا إليه الفقر فقال له ربع فربع فقال الشيخ قد كمل فاستغنى ووسع الله في رزقه ولم يكن في نسائه اللاتي أخذهن من عندها شي‏ء من الدنيا فأغناه الله وفيه علم الاسترقاق الكوني والتخلص منه وما لمن يسعى في تخليص الإنسان من رق الأمثال له وهل يوازن فك العاني حرية العبد أم لا وفيه علم مقامات رجال الله وفيه علم ما يجتمع فيه خلق الله وفيه علم الآثار العلوية وفيه علم الكون والفساد وفيه علم الحيوان وفيه علم الاستجلاب والاستنزال وفيه علم ما يحتاج إليه النواب وفيه علم أحكام المكلفين وبما ذا يتعلق التكليف وفيه علم رفع الحرج من العالم في حق هذا العالم به مع وجود الحرج في العالم وفيه علم إلحاق الأجنبي بالرحم وفيه علم من لم ير غير نفسه في شهوده ما حكمه في ذلك في معاملته نفسه وفيه علم الاختيار والجبر وفيه علم ما يعطيك العلم بكل شي‏ء وهو العلم الإلهي والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«انتهى النصف الأول من الجزء الثالث من الفتوحات المكية ويليه النصف الثاني أوله الباب الأحد والستون وثلاثمائة في معرفة منزل الاشتراك مع الحق في التقدير»

الفتوحات المكية التي فتح الله بها على الشيخ الإمام العامل الراسخ الكامل خاتم الأولياء الوارثين برزخ البرازخ محيي الحق والدين أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي قدس الله روحه ونور ضريحه آمين بقية الجزء الثالث‏



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!