The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة كيمياء السعادة

الدلالة على صحة ما يدعو إليه فهذا هو حكم الحال فإن كان وليا دون رسول تعين عليه الجري بحكم الموطن لا بحكم الحال فإن ظهر من هذا الولي ما يدل على منزلته من ربه بما يعطي من التمكن والتصرف في العالم وليس برسول فهو رعونة وصاحب نقص فإن ظهر بعلم غريب فهل يكون مثل صاحب الحال النفسي المؤثر أم لا قلنا لا فإن العلم الذي لا يكون معه أثر كوني سوى نفسه لا يقوم عند العامة ولا عند الخاصة له ذلك الوزن ولا لصاحبه ذلك التميز إلا عند الأكابر من أهل الله وممن له تحقق واستشراف على ذلك المقام الأعلى ولذلك قال الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً من أجل الموطن وما أظهر آية في دعائه إلى الله في كل وقت ولا عند كل مدعو مع حاجته إلى ذلك ولكن لما كان مأمورا بالتبليغ ما عليه إلا البلاغ فإن شاء الحق أيده كان بالمعجزات وإن شاء زاد دعاؤه من أرسل إليهم فرارا مما دعاهم إليه من توحيده كنوح عليه السلام فأخبر فقال إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا ونَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً وللحكماء السياسة في العالم بالطريقة المشروعة التي شرع الله لعباده ليسلكوا فيها فيقودهم ذلك السلوك إلى سعادتهم انتهى الجزء السابع ومائة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(الباب السابع والستون ومائة في معرفة كيمياء السعادة)

إن الأكاسير برهان يدل على *** ما في الوجود من التبديل والغير

إن العدو بإكسير العناية إذ *** يلقى عليه بميزان على قدر

في الحين يخرج صدقا من عداوته *** إلى ولايته بالحكم والقدر

فصحح الوزن فالميزان شرعتنا *** وقد أبنت فكن فيه على حذر

الكيمياء مقادير معينة *** لأن كم عدد في عالم الصور

فكن به فطنا إن كنت ذا نظر *** ولا تردنك الأهواء عن النظر

تلحق برتبة أملاك مطهرة *** وترتقي رتبا عن عالم البشر

[الكيمياء ما هو؟]

الكيمياء عبارة عن العلم الذي يختص بالمقادير والأوزان في كل ما يدخله المقدار والوزن من الأجسام والمعاني محسوسا ومعقولا وسلطانها في الاستحالات أعني تغير الأحوال على العين الواحدة فهو علم طبيعي روحاني إلهي وإنما قلنا إلهي لورود الاستواء والنزول والمعية وتعدد الأسماء الإلهية على المسمى الواحد باختلاف معانيها

فالأمر ما بين مطوي ومنشور *** كالكيف والكم أحوال المقادير

تاهت مراكبنا على بسائطها *** نية امتياز بسر غير مقهور

والوحي ينزل أحكاما يشرعها *** والحكم ما بين منهي ومأمور

[علم الكيمياء على قسمين‏]

فعلم الكيمياء العلم بالإكسير وهو على قسمين أعني فعله إما انشاء ذات ابتداء كالذهب المعدني وإما إزالة علة ومرض كالذهب الصناعي الملحق بالذهب المعدني كنشأة الآخرة والدنيا في طلب الاعتدال فاعلم أن المعادن كلها ترجع إلى أصل واحد وذلك الأصل يطلب بذاته أن يلحق بدرجة الكمال وهي الذهبية غير أنه لما كان أمرا طبيعيا عن أثر أسماء إلهية متنوعة الأحكام طرأت عليه في طريقه علل وأمراض من اختلاف الأزمنة وطبائع الأمكنة مثل حرارة الصيف وبرد الشتاء ويبوسة الخريف ورطوبة الربيع ومن البقعة كحرارة المعدن وبرده وبالجملة فالعلل كثيرة فإذا غلبت عليه علة من هذه العلل في أزمان رحلته ونقلته من طور إلى طور وخروجه من حكم دور إلى حكم دور واستحكم فيه سلطان ذلك الموطن ظهرت فيه صورة نقلت جوهرته إلى حقيقتها فسمي كبريتا أو زيبقا وهما الأبوان لما يظهر من التحامهما وتناكحهما من معادن لعلل طارئة على الولد فهما إنما يلتحمان ويتناكحان ليخرج بينهما جوهر شريف كامل النشأة يسمى ذهبا فيشرف به الأبوان إذ كانت تلك الدرجة مطلوبة لكل واحد من الأبوين من‏

حيث جوهريتهما إلا أن ذلك الأصل في الإلهيات نفس وفي الطبيعة بخار إلا أن الأبوين أمر وطبيعة وإنما قلنا إن ذلك الأمر كان مطلوبا للأبوين من حيث جوهرهما لا من حيث صورتهما لأن الحكم في الجوهر الهيولائي إنما هو للصور فلما حالت العلة التي طرأت عليه في معدنه فصيرته كبريتا وزيبقا علمنا أيضا أن في قوتهما إذا لم يطرأ عليهما علة تخرجهما عن سلطان حكم اعتدال الطبائع وتعدل بهما عن طريقه إن الولد الخارج بينهما الذي يستحيل أعيانهما إليه أنهما يلحقان بدرجة الكمال وهو الذهب الذي كان مطلوبا لهما ابتداء فإذا التحما وتناكحا في المعدن بحكم طبيعة ذلك المعدن الخاص وحكم قبوله لأثر طبيعة الزمان فيه وهو على صراط مستقيم مثل الفطرة التي فطر الله الناس عليها وأبواه هما اللذان يهودان الولد أو ينصرانه أو يمجسانه كذلك إذا كثرت فيه كمية الأب الواحد لعرض معدني من عرض زماني غلب بذلك إحدى الطبائع على أخواتها فزاد وأربى ونقص الباقي عن مقاومة الغالب حكم على الجوهر فرده لما تعطيه حقيقة ذلك الطبع وعدل به عن طريق الاعتدال التي هي المحجة التي تخرج بك إلى المدينة الفاضلة الذهبية الكاملة التي من حصل فيها لم يقبل الاستحالة إلى الأنقص عنها فإذا غلب عليه ذلك الطبع قلب عينه فظهرت صورة الحديد أو النحاس أو القزدير أو الآنك أو الفضة بحسب ما يحكم عليه ومن هنا تعرف قوله تعالى في الاعتبار مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي تامة الخلقة وليس إلا الذهب وغير تامة الخلقة وهي بقية المعادن فتتولاه في ذلك الوقت روحانية كوكب من الكواكب السيارة السبعة وهو ملك من ملائكة تلك السماء يجري مع ذلك الكوكب المسخر في سباحته لأن الله هو الذي وجهه إلى غاية يقصدها عن أمر خالقه إبقاء لعين ذلك الجوهر فيتولى صورة الحديد ذلك الملك الذي جواده هذا الكوكب السابح من السماء السابعة من هنا وصورة القزدير وغيره وكذلك كل صورة معدنية يتولاها ملك يكون جواده هذا الكوكب السابح في سمائه وفلكه الخاص به الذي وجهه فيه ربه تعالى فإذا جاء العارف بالتدبير نظر في الأمر الأهون عليه فإن كان الأهون عليه إزالة العلة من الجسد حتى يرده إلى المجرى الطبيعي المعتدل الذي انحرف عنه فهو أولى فإن الكوكب السابح يراه صاحب الرصد وقتا في المنزلة عينها ووقتا عادلا عنها منحرفا فوقها أو تحتها فيعمد العارف بالتدبير إلى السبب الذي رده حديدا أو ما كان ويعلم أنه ما غلب الجماعة إلا بما فيه من الكمية فنقص من الزائد وزاد في الناقص وهذا هو الطب والعامل به العالم هو الطبيب فيزيل عنه بهذا الفعل صورة الحديد مثلا أو ما كان عليه من الصور فإذا رده إلى الطريق أخذ يحفظ عليه تقويم الصحة وإقامته فيها فإنه قد يعافي من مرضه وهو ناقة فيخاف عليه فهو يعامله بتلطيف الأغذية ويحفظه من الأهوية ويسلك به على الصراط القويم إلى أن يكسو ذلك الجوهر صورة الذهب فإذا حصلت له خرج عن حكم الطبيب وعن علته فإنه بعد ذلك الكمال لا ينزل إلى درجة النقصان ولا يقبله ولو رامها الطبيب لم يتمكن له ذلك فإن القاضي ما عنده نص في هذه المسألة حتى يحكم فيها بما يراه وسبب ذلك على الحقيقة أن القاضي عادل ولا يحكم إلا على من خرج عن طريق الحق وهذا الذهب عليه فلا يقضى عليه بشي‏ء لأنه لم يتوجه للخصم عليه حق فهذا سببه فمن لزم طريق الحق ارتفع عن درجة الحكم عليه وصارحا كما على الأشياء فهذه طريقة إزالة العلل وما رأيت عليها أحدا يعرف ذلك ولا نبه عليه ولا أشار ولا تجده إلا في هذا الباب أو في كلامنا

[أما إذا أراد صاحب هذه الصنعة انشاء إكسيرا]

وأما إذا أراد صاحب هذه الصنعة انشاء العين المسمى إكسيرا ليحمله على ما يشاء من الأجساد المعدنية فيقلبها لما تحكم به طبيعة ذلك الجسد القابل والدواء واحد الذي هو الإكسير فمن الأجساد من يرده الإكسير إلى حكمه فيكون إكسيرا يعمل عمله وهو المسمى بالنائب فيقوم في باقي الأجساد المعدنية ويحكم بحكمه مثل أن يأخذ وزن درهم أو أي وزن شاء من عين الإكسير فيلقيه على ألف وزن من أي جسد شئت من الأجساد فإن كان قزديرا أو حديدا أعطاه صورة الفضة وإن كان نحاسا أو رصاصا أسود أو فضة أعطاه صورة الذهب وإن كان الجسد زيبقا أعطاه قوته وتركه نائبا عنه يحكم في الأجساد حكمه ولكن بوزن يخالف وزن باقي الأجساد وذلك وزن درهم من الإكسير فيلقيه على رطل الحكمة خاصة من الزيبق فيرده إكسيرا كله فيلقي من ذلك النائب وزنا على وزن ألف وزن من بقية الأجساد مثل الإكسير فيجري في الحكم مجراه فهذه صورة الإنشاء والأولى صنعة إزالة المرض وإنما جئنا بهذا لنعلمك بارتباط الحكمة في مسمى الكيمياء

بين الطريقين‏

[علة تسمية الكيميا بالسعادة]

ولما ذا سميت كيمياء السعادة لأن فيها سعادة لا بد وزيادة ما عند الناس من أهل الله خير منها وهو أنه يعطيك درجة الكمال الذي للرجال فإنه ما كل صاحب سعادة يعطي الكمال فكل صاحب كمال سعيد وما كل سعيد كامل والكمال عبارة عن اللحوق بالدرجة العلي وهو التشبه بالأصل ولا يتخيل أن‏

قول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كمل من الرجال كثيرون‏

أنه أراد الكمال الذي ذكره الناس وإنما هو ما ذكرناه وذلك بحسب ما يعطي الاستعداد العلمي في الدنيا فلنتكلم إن شاء الله على كيمياء السعادة بعد هذا التمهيد والله الموفق لا رب غيره.

(وصل في فصل) [الكمال المطلوب الذي خلق له الإنسان إنما هو الخلافة]

اعلم أن الكمال المطلوب الذي خلق له الإنسان إنما هو الخلافة فأخذها آدم عليه السلام بحكم العناية الإلهية وهو مقام أخص من الرسالة في الرسل لأنه ما كل رسول خليفة فإن درجة الرسالة إنما هي التبليغ خاصة قال تعالى ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وليس له التحكم في المخالف إنما له تشريع الحكم عن الله أو بما أراه الله خاصة فإذا أعطاه الله التحكم فيمن أرسل إليهم فذلك هو الاستخلاف والخلافة والرسول الخليفة فما كل من أرسل حكم فإذا أعطى السيف وأمضى الفعل حينئذ يكون له الكمال فيظهر بسلطان الأسماء الإلهية فيعطي ويمنع ويعز ويذل ويحيي ويميت ويضر وينفع ويظهر بأسماء التقابل مع النبوة لا بد من ذلك فإن ظهر بالتحكم من غير نبوة فهو ملك وليس بخليفة فلا يكون خليفة إلا من استخلفه الحق على عباده لا من أقامه الناس وبايعوه وقدموه لأنفسهم وعلى أنفسهم فهذه هي درجة الكمال وللنفوس تعمل مشروع في تحصيل مقام الكمال وليس لهم تعمل في تحصيل النبوة

[الخلافة تكون مكتسبة والنبوة غير مكتسبة]

فالخلافة قد تكون مكتسبة والنبوة غير مكتسبة لكن لما رأى بعض الناس الطريق الموصل إليها طاهر الحكم ومن شاء الله يسلك فيه تخيل أن النبوة مكتسبة وغلط فلا شك أن الطريق يكتسب فإذا وصل إلى الباب يكون بحسب ما يخرج له في توقيعه وهنالك هو الاختصاص الإلهي فمن الناس من يخرج له توقيع بالولاية ومنهم من يخرج له توقيع بالنبوة وبالرسالة وبالرسالة والخلافة ومنهم من يخرج له توقيع بالخلافة وحدها فلما رأى من رأى أن هؤلاء ما خرج لهم هذا التوقيع إلا بعد سلوكهم بالأفعال والأقوال والأحوال إلى هذا الباب تخيل أن ذلك مكتسب للعبد فأخطأ

[أن النفس مستعد لقبول مما تخرج به التوقيعات الإلهية]

واعلم أن النفس من حيث ذاتها مهياة لقبول استعداد ما تخرج به التوقيعات الإلهية فمنهم من حصل له استعداد توقيع الولاية خاصة فلم يزد عليها ومنهم من رزق استعداد ما ذكرناه من المقامات كلها أو بعضها وسبب ذلك أن النفوس خلقت من معدن واحد كما قال تعالى خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ وقال بعد استعداد خلق الجسد ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي فمن روح واحد صح السر المنفوخ في المنفوخ فيه وهو النفس وقوله في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ يريد الاستعدادات فيكون بحكم الاستعداد في قبول الأمر الإلهي فلما كان أصل هذه النفوس الجزئية الطهارة من حيث أبيها ولم يظهر لها عين إلا بوجود هذا الجسد الطبيعي فكانت الطبيعة الأب الثاني خرجت ممتزجة فلم يظهر فيها إشراق النور الخالص المجرد عن المواد ولا تلك الظلمة الغائية التي هي حكم الطبيعة فالطبيعة شبيهة بالمعدن والنفس الكلية شبيهة بالأفلاك التي لها لفعل وعن حركاتها يكون الانفعال في العناصر والجسد الكون في المعدن بمنزلة الجسم الإنساني والخاصية التي هي روج ذلك الجسد المعدني بمنزلة النفس الجزئية التي للجسم الإنساني وهو الروح المنفوخ وكما أن الأجساد المعدنية على مراتب لعلل طرأت عليهم في حال التكوين مع كونهم يطلبون درجة الكمال التي لها ظهرت أعيانهم كذلك الإنسان خلق للكمال فما صرفه عن ذلك الكمال إلا علل وأمراض طرأت عليهم إما في أصل ذواتهم وإما بأمور عرضية فاعلم ذلك فلنبتدئ بما ينبغي أن يليق بهذا الباب وهو أن نقول‏

[النفوس الجزئية يتعين عليها طلب العلم‏]

إن النفوس الجزئية لما ملكها الله تدبير هذا البدن واستخلفها عليه وبين لها أنها خليفة فيه لتتنبه على أن لها موجدا استخلفها فيتعين عليها طلب العلم بذلك الذي استخلفها هل هو من جنسها أو شبيه بها بضرب ما من ضروب المشابهة أو لا يشبهها فتوفرت دواعيها لمعرفة ذلك من نفسها فبينما هي كذلك على هذه الحالة في طلب الطريق الموصلة إلى ذلك وإذا بشخص قد تقدمها في الوجود من النفوس الجزئية فأنسوا به للشبه فقالوا له أنت تقدمتنا في هذه الدار فهل خطر لك ما خطر لنا قال وما خطر لكم قالوا

طلب العلم بمن استخلفنا في تدبير هذا الهيكل فقال عندي بذلك علم صحيح جئت به ممن استخلفكم وجعلني رسولا إلى جنسي لأبين لهم طريق العلم الموصل إليه الذي فيه سعادتهم فقال الواحد إياه أطلب فعرفني بذلك الطريق حتى أسلك فيه وقال الآخر لا فرق بيني وبينك فأريد أن استنبط الطريق إلى معرفته من ذاتي ولا أقلدك في ذلك فإن كنت أنت حصل لك ما أنت عليه وما جئت به بالنظر الذي خطر لي فلما ذا أكون ناقص الهمة وأقلدك وإن كان حصل لك باختصاص منه كما خصنا بالوجود بعد أن لم نكن فدعوى بلا برهان فلم يلتفت إلى قوله وأخذ يفكر وينظر بعقله في ذلك فهذا بمنزلة من أخذ العلم بالأدلة العقلية من النظر الفكري ومثال الثاني مثال أتباع الرسول ومقلديه فيما أخبر به من العلم بصانعهم ومثال ذلك الشخص الذي اختلف في اتباعه هذان الشخصان مثال الرسول المعلم فشرع هذا العلم يبين الطريق الموصل إلى درجة الكمال والسعادة على ما اقتضاه نظر الشخص الواحد من الشخصين اللذين نظرا في شأن هذا المعلم وهو الذي لم يتبعه ولكن ما وقعت الموافقة معه إلا في بعض ما يقتضيه الأمر الطبيعي من مخالفة الطبع ولا كل مخالفة الطبع إلا بوزن خاص ومقدار معين وبهذا سمي كيمياء لدخول التقدير والوزن فلما رأى ذلك هذا الشخص فرح بذلك حيث استقل به دون تقليده ورأى أن له شفوفا على صاحبه الذي قلده فاغتربه وأما المقلد فبقي على ما كان عليه من تقليد المعلم وزاد غير المقلد وهو ذلك الشخص بما رأى من الموافقة زهدا في تقليد هذا الشخص وانفرادا بنظره من أجل هذه الموافقة فسلك الرجلان أو الشخصان إن كانا امرأتين أو أحدهما امرأة في الطريق الواحد بحكم النظر والآخر بحكم التقليد وأخذا في الرياضة وهو تهذيب الأخلاق والمجاهدة وهي المشاق البدنية من الجوع والعبادات العملية البدنية كالقيام الطويل في الصلاة والدءوب عليها والصيام والحج والجهاد والسياحة هذا بنظره وهذا بما شرع له أستاذه ومعلمه المسمى شارعا فلما فرغا من حكم أسر الطبيعة العنصرية وما بقي واحد منهما يأخذ من حكم الطبيعة العنصرية إلا الضروري الذي يحفظ به وجود هذا الجسم الذي بوجوده واعتداله وبقائه يحصل لهذه النفس الجزئية مطلوبها من العلم بالله الذي استخلفها خاصة فإذا خرجا عن حكم الشهوات الطبيعية العنصرية وفتح لهما باب السماء الدنيا تلقى المقلد آدم عليه السلام ففرح به وأنزله إلى جانبه وتلقى صاحب النظر المستقل روحانية القمر فأنزله عنده ثم إن صاحب النظر الذي هو نزيل القمر في خدمة آدم عليه السلام وهو كالوزير له مأمورا من الحق بالتسخير له ورأى جميع ما عنده من العلوم لا يتعدى ما تحته من الأكر ولا علم له بما فوقه وأنه مقصور الأثر على ما دونه ورأى آدم أن عنده علم ما دونه وعلم ما فوقه من الأمكنة وأنه يلقي إلى نزيله مما عنده مما ليس في وسع القمر أن يعرفه وعلم أنه ما أنزله عليه إلا عناية ذلك المعلم الذي هو الرسول فاغتم صاحب النظر وندم حيث لم يسلك على مدرجة ذلك الرسول واعتقد الايمان به وأنه إذا رجع من سفرته تلك أن يتبع ذلك الرسول ويستأنف من أجله سفرا آخر ثم إن هذا التابع نزيل آدم علمه أبوه من الأسماء الإلهية على قدر ما رأى أنه يحمله مزاجه فإن للنشأة الجسمية العنصرية أثرا في النفوس الجزئية فما كلها على مرتبة واحدة في القبول فتقبل هذه ما لا تقبل غيرها وفي أول سماء يقف من علم آدم على الوجه الإلهي الخاص الذي لكل موجود سوى الله الذي يحجبه عن الوقوف مع سببه وعلته وصاحب النظر لا علم له بذلك الوجه أصلا والعلم بذلك الوجه هو العلم بالإكسير في الكيمياء الطبيعية فهذا هو إكسير العارفين وما رأيت أحدا نبه عليه غيري ولو لا أني مأمور بالنصيحة لهذه الأمة بل لعباد الله ما ذكرته فعلم كل واحد منهما ما لهذا الفلك من الحكم الذي ولاة الله به في هذه الأركان الأربعة والمولدات وما أوحى الله في هذه السماء من الأمر المختص بها في قوله وأَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وما علم صاحب النظر نزيل القمر من ذلك إلا ما يختص بالتأثيرات المدنية والاستحلالات في أعيان الأجسام المركبة من‏

الطبيعة العنصرية وحصل التابع ما فيها من العلم الإلهي الحاصل للنفوس الجزئية مما هو لهذا الفلك خاصة وما نسبة وجود الحق من ذلك وما له فيهم من الصور ومن أين صحت الخلافة لهذه النشأة الإنسانية ولا سيما وآدم المنصوص عليه صاحب هذه السماء فعلم التابع صورة الاستخلاف في العلم الإلهي وعلم صاحب النظر الاستخلاف العنصري في تدبير الأبد إن وعلل الزيادة والربو والنمو في الأجسام القابلة لذلك والنقص فكل ما حصل لصاحب النظر حصل للتابع وما كل ما حصل‏

للتابع حصل لصاحب النظر فما يزداد صاحب النظر إلا غما على غم وما يصدق متى ينقضي سفره ويرجع إلى بدنه فإنهم في هذا السفر مثل النائم فيما يرى في نومه وهو يعرف أنه في النوم فلا يصدق متى يستيقظ ليستأنف العمل ويستريح من غمه وإنما يتقلق خوفا مما حصل له في سفره أن يقبض فيه فلا يصح له ترق بعد ذلك فهذا هو الذي يزعجه والتابع ليس كذلك فإنه يرى الترقي بصحبه حيث كان من ذلك الوجه الخاص الذي لا يعرفه إلا صاحب هذا الوجه فإذا أقاما في هذه السماء ما شاء الله وأخذا في الرحلة وودع كل واحد منهما نزيله وارتقيا في معراج الأرواح إلى السماء الثانية وفي هذه السماء الأولى هو النائب السابع الإلهي الموكل بالنطفة الكائنة في الأرحام التي تظهر فيها هذه النشأة الإنسانية وهو يتوكل بها في الشهر السابع من سقوط النطفة والطفل في هذا الشهر الجنين يزيد وينمو في بطن أمه بزيادة القمر ويذبل وتقل حركته في بطن أمه في نقص القمر وذلك هو العلامة فإن ولد في هذا الشهر لم يكن في القوة مثل الذي يولد في الشهر السادس فإذا فرعا السماء الثانية وفتحت لهما صعدا فنزل التابع عند عيسى عليه السلام وعنده يحيى ابن خالته ونزل صاحب النظر عند الكاتب فلما أنزله الكاتب عنده وأكرم مثواه اعتذر إليه وقال له لا تستبطئني فإني في خدمة عيسى ويحيى عليه السلام وقد نزل بهما صاحبك فلا بد لي من الوقوف عندهما حتى أرى ما يأمراني به في حق نزيلهما فإذا فرغت من شأنه رجعت إليك فيزيد صاحب النظر غما إلى غمه وندامة حيث لم يسلك مسلك صاحبه ولا ذهب في مذهبه فأقام التابع عند ابني الخالة ما شاء الله فأوقفاه على صحة رسالة المعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بدلالة إعجاز القرآن فإنها حضرة الخطابة والأوزان وحسن مواقع الكلام وامتزاج الأمور وظهور المعنى الواحد في الصور الكثيرة ويحصل له الفرقان في مرتبة خرق العوائد

[علم السيمياء]

ومن هذه الحضرة يعلم علم السيمياء الموقوفة على العمل بالحروف والأسماء لا على البخورات والدماء وغيرها ويعرف شرف الكلمات وجوامع الكلم وحقيقة كن واختصاصها بكلمة الأمر لا بكلمة الماضي ولا المستقبل ولا الحال وظهور الحرفين من هذه الكلمة مع كونها مركبة من ثلاثة ولما ذا حذفت الكلمة الثالثة المتوسطة البرزخية التي بين حرف الكاف وحرف النون وهي حرف الواو الروحانية التي تعطي ما للملك في نشأة المكون من الأثر مع ذهاب عينها ويعلم سر التكوين من هذه السماء وكون عيسى يحيي الموتى وانشاء صورة الطير ونفخه في صورته وتكوين الطائر طائرا هل هو بإذن الله أو تصوير عيسى خلق الطير ونفخه فيه هو بإذن الله وبأي فعل من الأفعال اللفظية يتعلق قوله بِإِذْنِي وبِإِذْنِ الله هل العامل فيه يكون أو تنفخ فعند أهل الله العامل فيه يكون وعند مثبتي الأسباب وأصحاب الأحوال العامل فيه تنفخ فيحصل لمن دخل هذه السماء واجتمع بعيسى ويحيى علم ذلك ولا بد ولا يحصل ذلك لصاحب النظر وأعني حصول ذوق وعيسى روح الله ويحيى له الحياة فكما أن الروح والحياة لا يفترقان كذلك هذان النبيان عيسى ويحيى لا يفترقان لما يحملانه من هذا السر

[أن لعيسى عليه السلام من علم الكيمياء الطريقين‏]

فإن لعيسى من علم الكيمياء الطريقين الإنشاء وهو خلقه الطير من الطين والنفخ فظهر عنه الصورة باليدين والطيران بالنفخ الذي هو النفس فهذه طريقة الإنشاء في علم الكيمياء الذي قدمناه في أول الباب والطريق الثانية إزالة العلل الطارئة وهو في عيسى إبراء الأكمه والأبرص وهي العلل التي طرأت عليهما في الرحم الذي هو من وظيفة التكوين فمن هنا يحصل لهذا التابع علم المقدار والميزان الطبيعي والروحاني لجمع عيسى بين الأمرين ومن هذه السماء يحصل لنفس هذا التابع الحياة العلمية التي يحيي بها القلوب كقوله أَ ومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وهي حضرة جامعة فيها من كل شي‏ء وفيها الملك الموكل بالنطفة في الشهر السادس ومن هذه الحضرة يكون الإمداد للخطباء والكتاب لا للشعراء ولما كان لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم جوامع الكلم خوطب من هذه الحضرة وقيل ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ لأنه أرسل مبينا مفصلا والشعر من الشعور فمحله الإجمال لا التفصيل وهو خلاف البيان ومن هنا تعلم تقليبات الأمور ومن هنا توهب الأحوال لأصحابها وكلما ظهر في العالم العنصري من النيرنجيات الأسمائية فمن هذه السماء وأما القلقطيرات فمن غير هذه الحضرة ولكن إذا وجدت فارواحها من هذه السماء لا أعيان صورها الحاملة لأرواحها فإذا حصل علم هذه الكائنات وسرعة الأحياء فيها من شأنه أن لا يقبل ذلك إلا في الزمان الطويل فإن ذلك من علم عيسى لا من الأمر الموحى به في ذلك الفلك‏

ولا في سباحة كوكبه وهو من الوجه الخاص الإلهي الخارج عن الطريق المعتادة في العلم الطبيعي الذي يقتضي الترتيب النسبي الموضوع بالترتيب الخاص وهذه مسألة يغمض دركها فإن العالم المحقق بقول بالسبب فإنه لا بد منه ولكن لا يقول بهذا الترتيب الخاص في الأسباب فعامة هذا العلم إما ينفون الكل وإما يثبتون الكل ولم أر منهم من بقول ببقاء السبب مع نفي ترتيبه الزماني فإنه علم عزيز يعلم من هذه السماء فما يكون عن سبب في مدة طويلة يكون عن ذلك السبب في لمح البصر أو هو أقرب وقد ظهر ذلك فيما نقل في تكوين عيسى عليه السلام وفي تكوين خلق عيسى الطائر وفي إحياء الميت من قبره قبل أن يأتي المخاض للأرض في إبراز هذه المولدات ليوم القيامة وهو يوم ولادتها فالق بالك وأشحذ فؤادك عسى أن يهديك ربك سواء السبيل ومن هذه السماء قوله في ناشئة الليل إنها أَقْوَمُ قِيلًا فإذا حصل التابع هذه العلوم وانصرف الكاتب إلى نزيله ورد النظر إليه أعطاه من العلم المودع في مجراه ما يعطيه استعداده مما له من الحكم في الأجسام التي تحته في العالم العنصري لا من أرواحه فإذا كمل فذلك قراه يطلب الرحيل عنه فجاء إلى صاحبه التابع وخرجا يطلبان السماء الثالثة وصاحب النظر بين يدي التابع مثل الخادم بين يدي مخدومه وقد عرف قدره ورتبة معلمه وما أعطاه من العناية اتباعه لذلك المعلم فلما قرعا السماء الثالثة فتحت فصعدا فيها فتلقى التابع يوسف عليه السلام وتلقى صاحب النظر كوكب الزهرة فأنزلته وذكرت له ما ذكره من تقدم من كواكب التسخير فزاده ذلك غما إلى غمه فجاء كوكب الزهرة إلى يوسف عليه السلام وعنده نزيله وهو التابع وهو يلقي إليه ما خصه الله به من العلوم المتعلقة بصور التمثل والخيال فإنه كان من الأئمة في علم التعبير فأحضر الله بين يديه الأرض التي خلقها الله من بقية طينة آدم عليه السلام وأحضر له سوق الجنة وأحضر له أجساد الأرواح النورية والنارية والمعاني العلوية وعرفه بموازينها ومقاديرها ونسبها ونسبها فأراه السنين في صور البقر وأراه خصبها في سمنها وأراه جدبها في عجافها وأراه العلم في صورة اللبن وأراه الثبات في الدين في صورة القيد وما زال يعلمه تجسد المعاني والنسب في صورة الحس والمحسوس وعرفه معنى التأويل في ذلك كله فإنها سماء التصوير التام والنظام ومن هذه السماء يكون الإمداد للشعراء والنظم والإتقان والصور الهندسية في الأجسام وتصويرها في النفس من السماء التي ارتقى عنها ومن هذه السماء يعلم معنى الإتقان والإحكام والحسن الذي يتضمن بوجوده الحكمة والحسن الغرضي الملائم لمزاج خاص وفي هذه السماء هو النائب الخامس الذي يتلقى تدبير النطفة في الرحم في الشهر الخامس ومن الأمر الموحى من الله في هذه السماء حصل ترتيب الأركان التي تحت مقعر فلك القمر فجعل ركن الهواء بين النار والماء وجعل ركن الماء بين الهواء والتراب ولو لا هذا الترتيب ما صح وجود الاستحالة فيهن ولا كان منهن ما كان من المولدات ولا ظهر في المولدات ما ظهر من الاستحالات فأين النطفة من كونها استحالت لحما ودما وعظاما وعروقا وأعصابا ومن هذه السماء رتب الله في هذه النشأة الجسمية الأخلاط الأربعة على النظم الأحسن والإتقان الأبدع فجعل مما يلي نظر النفس المدبرة المرة الصفراء ثم يليها الدم ثم يلي الدم البلغم ثم يلي البلغم المرة السوداء وهو طبع الموت ولو لا هذا الترتيب العجيب في هذه الأخلاط لما حصلت المساعدة للطبيب فيما يرومه من إزالة ما يطرأ على هذا الجسد من العلل أو فيما يرومه من حفظ الصحة عليه ومن هذه السماء ظهرت الأربعة الأصول التي يقوم عليها بيت الشعر كما قام الجسد على الأربعة الأخلاط وهما السببان والوتدان السبب الخفيف والسبب الثقيل والوتد المفروق والوتد المجموع فالوتد المفروق يعطي التحليل والوتد المجموع يعطي التركيب والسبب الخفيف يعطي الروح والسبب الثقيل يعطي الجسم وبالمجموع يكون الإنسان فانظر ما أتقن وجود هذا العالم كبيره وصغيره فإذا حصلا هذه العلوم هذان الشخصان وزاد التابع على الناظر بما أعطاه الوجه الخاص من العلم الإلهي كما اتفق في كل سماء لهما انتقلا يطلبان السماء الوسطى التي هي قلب السموات كلها فلما

دخلاها تلقى التابع إدريس عليه السلام وتلقى صاحب النظر كوكب الشمس فجرى لصاحب النظر معه مثل ما تقدم فزاد غما إلى غمه فلما نزل التابع بحضرة إدريس عليه السلام علم تقليب الأمور الإلهية ووقف على معنى قوله عليه السلام القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن وبما ذا يقلبانه ورأى في هذه السماء غشيان الليل النهار والنهار الليل وكيف يكون كل واحد منهما لصاحبه ذكرا وقتا وأنثى وقتا وسر النكاح‏

والالتحام بينهما وما يتولد فيهما من المولدات بالليل والنهار والفرق بين أولاد الليل وأولاد النهار فكل واحد منهما أب لما يولد في نقيضه وأم لما يولد فيه ويعلم من هذه السماء علم الغيب والشهادة وعلم الستر والتجلي وعلم الحياة والموت واللباس والسكن والمودة والرحمة وما يظهر من الوجه الخاص من الاسم الظاهر في المظاهر الباطنة ومن الاسم الباطن في الظاهر من حكم استعداد المظاهر فتختلف على الظاهر الأسماء لاختلاف الأعيان ثم رحلا يطلبان السماء الخامسة فنزل التابع بهارون عليه السلام ونزل صاحب النظر بالأحمر فاعتذر الأحمر لصاحبه ونزيله في تخلفه عنه مدة اشتغاله بخدمة هارون عليه السلام من أجل نزيله فلما دخل الأحمر على هارون وجد عنده نزيله وهو يباسطه فتعجب الأحمر من مباسطته فسأل عن ذلك فقال إنها سماء الهيبة والخوف والشدة والبأس وهي نعوت توجب القبض وهذا ضيف ورد من أتباع الرسول تجب كرامته وقد ورد يبتغي علما ويلتمس حكما إلهيا يستعين به على أعداء خواطره خوفا من تعدى حدود سيده فيما رسم له فاكشف له عن محياها وأباسطه حتى يكون قبوله لما التمسه على بسط نفس بروح قدس ثم رد وجهه إليه وقال له هذه سماء خلافة البشر فضعف حكم إمامها وقد كان أصلها أقوى المباني فأمر باللين بالجبابرة الطغاة فقيل لنا فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وما يؤمر بلين المقال إلا من قوته أعظم من قوة من أرسل إليه وبطشه أشد لكنه لما علم الحق أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء وأنه في نفسه أذل الأذلاء أمرا أن يعاملاه بالرحمة واللين لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ ولعل وعسى من الله واجبتان فيتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه ليكون الظاهر والباطن على السواء فما زالت تلك الخميرة معه تعمل في باطنه مع الترجي الإلهي الواجب وقوع المترجي ويتقوى حكمها إلى حين انقطاع يأسه من اتباعه وحال الغرق بينه وبين أطماعه لجأ إلى ما كان مستسرا في باطنه من الذلة والافتقار ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء الإلهي فقال آمنت بالذي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ وأَنَا من الْمُسْلِمِينَ فأظهر حالة باطنه وما كان في قلبه من العلم الصحيح بالله وجاء بقوله الَّذِي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ لرفع الإشكال عند الإشكال كما قالت السحرة لما آمنت آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى‏ وهارُونَ أي الذي يدعوان إليه فجاءت بذلك لرفع الارتياب وقوله وأَنَا من الْمُسْلِمِينَ خطاب منه للحق لعلمه أنه تعالى يسمعه ويراه فخاطبه الحق بلسان العتب وأسمعه آلْآنَ أظهرت ما قد كنت تعلمه وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ من الْمُفْسِدِينَ في اتباعك وما قال له وأنت من المفسدين فهي كلمة بشرى له عرفنا بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ثم قال فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ فبشره قبل قبض روحه بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع ولا أن إيمانه لم يقبل وإنما في الآية إن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال رؤيته إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فقوله فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ إذ العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك وقد أريت الخلق نجاته من

العذاب فكان ابتداء الغرق عذابا فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصية فقبضت على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله والأعمال بالخواتم فلم يزل الايمان بالله يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية فلم يدخلها قط كبرياء وأما قوله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو الله فما نفعهم إلا الله وقوله سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ يعني الايمان عند رؤية البأس الغير المعتاد وقد قال ولِلَّهِ يَسْجُدُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً فغاية هذا الايمان أن يكون كرها وقد أضافه الحق إليه سبحانه والكراهة محلها القلب والايمان محله القلب والله لا يأخذ العبد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها بل يضاعف له‏

فيها الأجر وأما في هذا الموطن فالمشقة منه بعيدة بل جاء طوعا في إيمانه وما عاش بعد ذلك كما قال في راكب البحر عند ارتجاجه ضَلَّ من تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فنجاهم فلو قبضهم عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة فقبض فرعون ولم يؤخر في أجله في حال إيمانه لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه وإِنَّ كَثِيراً من النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ وقد أظهرت نجاتك آية أي‏

علامة على حصول النجاة فغفل أكثر الناس عن هذه الآية وقضوا على المؤمن بالشقاء وأما قوله فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ فما فيه نص أنه يدخلها معهم بل قال الله أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ ولم يقل أدخلوا فرعون وآله ورحمة الله أوسع من حيث أن لا يقبل إيمان المضطر وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق والله يقول أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ فقرن للمضطر إذا دعاه الإجابة وكشف السوء عنه وهذا آمن لله خالصا وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض أو يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال فرجح جانب لقاء الله على البقاء بالتلفظ بالإيمان وجعل ذلك الغرق نَكالَ الْآخِرَةِ والْأُولى‏ فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة هذا ما يعطي ظاهر اللفظ وهذا معنى قوله إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى‏ يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى وقدم ذكر الآخرة وأخر الأولى ليعلم أن ذلك العذاب أعني عذاب الغرق هو نكال الآخرة فلذلك قدمها في الذكر على الأولى وهذا هو الفضل العظيم‏

[أثر مخاطبة اللين في الأمور]

فانظر يا ولي ما أثرت مخاطبة اللين وكيف أثمرت هذه الثمرة فعليك أيها التابع باللين في الأمور فإن النفوس الآبية تنقاد بالاستمالة ثم أمره بالرفق بصاحبه صاحب النظر وكان سبب هذا الأمر من هارون لأنه حصل له هذا ذوقا من نفسه حين أخذ موسى برأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ فاذاقه الذل بأخذ اللحية والناصية فناداه بأشفق الأبوين فقال يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي وفَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ لما ظهر عليه أخوه موسى بصفة القهر فلما كان لهارون ذلة الخلق ذوقا مع براءته مما أذل فيه تضاعفت المذلة عنده فناداه بالرحم فهذا سبب وصيته لهذا التابع ولو لم يلق موسى الألواح ما أخذ برأس أخيه فإن في نسختها الهدى والرحمة تذكرة لموسى فكان يرحم أخاه بالرحمة وتتبين مسألته مع قومه بالهدى فلما سكت عنه الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ فما وقعت عينه مما كتب فيها الأعلى الهدى والرحمة فقال رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأَخِي وأَدْخِلْنا في رَحْمَتِكَ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ثم أمره أن يجعل ما تقتضيه سماؤه من سفك الدماء في القرابين والأضاحي ليلحق الحيوان بدرجة الأناسي إذ كان لها الكمال في الأمانة ثم خرج من عنده بخلعة نزيله وأخذ بيد صاحبه وقد أفاده ما كان في قوته من المعارف بما يقتضيه حكمه في الدور لا غير وانصرفا يطلبان السماء السادسة فتلقاه موسى عليه السلام ومعه وزيره البرجيس فلم يعرف صاحب النظر موسى عليه السلام فأخذه البرجيس فأنزله ونزل التابع عند موسى فأفاده اثني عشر ألف علم من العلم الإلهي سوى ما أفاده من علوم الدور والكور وأعلمه أن التجلي الإلهي إنما يقع في صور الاعتقادات وفي الحاجات فتحفظ ثم ذكر له طلبه النار لأهله فما تجلى له إلا فيها إذ كانت عين حاجته فلا يرى إلا في الافتقار وكل طالب فهو فقير إلى مطلوبه ضرورة وأعلمه في هذه السماء خلع الصور من الجوهر وإلباسه صورا غيرها ليعلمه أن الأعيان أعيان الصور لا تنقلب فإنه يؤدي إلى انقلاب الحقائق وإنما الإدراكات تتعلق بالمدركات تلك المدركات لها صحيحة لا شك فيها فيتخيل من لا علم له بالحقائق أن الأعيان انقلبت وما انقلبت ومن هنا يعلم تجلى الحق في القيامة في صورة يتعوذ أهل الموقف منها وينزهون الحق عنها ويستعيذون بالله منها وهو الحق ما هو غيره وذلك في أبصارهم فإن الحق منزه عن قيام التغيير به والتبديل قال عليم الأسود لرجل وقف فضرب بيده عليم إلى أسطوانة في الحرم فرآها الرجل ذهبا ثم قال له يا هذا إن الأعيان لا تنقلب ولكن هكذا تراه لحقيقتك بربك يشير إلى تجلى الحق يوم القيامة وتحوله في عين الرائي ومن هذه السماء يعلم العلم الغريب الذي لا يعلمه قليل من الناس فأحرى أن لا يعلمه الكثير وهو معنى قوله تعالى لموسى عليه السلام وما علم أحد ما أراد الله إلا موسى ومن اختصه الله وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى‏ فقال هِيَ عَصايَ والسؤال عن الضروريات ما يكون من العالم بذلك إلا لمعنى غامض ثم قال في تحقيق كونها عصا أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وأَهُشُّ بِها عَلى‏ غَنَمِي ولِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى‏ كل ذلك من كونها عصا أ رأيتم أنه أعلم الحق تعالى بما ليس معلوما عند الحق وهذا جواب علم ضروري عن سؤال عن معلوم مدرك بالضرورة فقال له أَلْقِها يعني عن يدك مع تحققك إنها عصا فَأَلْقاها موسى فَإِذا هِيَ يعني تلك العصا حَيَّةٌ تَسْعى‏ فلما خلع الله على العصا أعني جوهرها صورة الحية استلزمها حكم الحية وهو السعي حتى يتبين لموسى عليه السلام بسعيها إنها حية ولو لا خوفه منها خوف الإنسان من الحيات لقلنا إن الله أوجد في العصا الحياة فصارت حية من الحياة فسعت لحياتها على بطنها إذ لم‏

يكن لها رجل تسعى به فصورتها لشكلها عصا صورة الحيات فلما خاف منها للصورة قال له الحق خُذْها ولا تَخَفْ وهذا هو خوف الفجاة إذ كان ثم قال له سَنُعِيدُها الضمير يعود على العصا سِيرَتَهَا الْأُولى‏ فجواهر الأشياء متماثلة وتختلف بالصور والأعراض والجوهر واحد أي ترجع عصا مثل ما كانت في ذاتها وفي رأى عينك كما كانت حية في ذاتها وفي رأى عينك ليعلم موسى من يرى وما يرى وبمن يرى وهذا تنبيه إلهي له ولنا وهو الذي قاله عليم سواء من أن الأعيان لا تنقلب فالعصا لا تكون حية ولا الحية عصا ولكن الجوهر القابل صورة العصا قبل صورة الحية فهي صور يخلعها الحق القادر الخالق عن الجوهر إذا شاء ويخلع عليه صورة أخرى فإن كنت فطنا فقد نبهتك على علم ما تراه من صور الموجودات وتقول هو ضروري من كونك لا تقدر على إنكاره وقد بان لك أن الاستحالات محال ولله أعين في بعض عباده يدركون بها العصا حية في حال كونها عصا وهو إدراك إلهي وفينا خيالي وهكذا في جميع الموجودات سواء انظر لو لا قوة الحس ما قلت هذا جماد لا يحس ولا ينطق وما به من حياة وهذا نبات وهذا حيوان يحس ويدرك وهذا إنسان يعقل هذا كله أعطاه نظرك ويأتي شخص آخر يقف معك فيرى ويسمع تسليم الجمادات والنبات والحيوان عليه وكلا الأمرين صحيح وبالقوة التي تستدل بها على إنكار ما قاله هذا بها بعينها يستدل هذا الآخر فكل واحد من الشخصين دليله عين دليل الآخر والحكم مختلف فو الله ما زالت حية عصا موسى وما زالت عصا كل ذلك في نفس الأمر لم تخط رؤية كل واحد ما هو الأمر عليه في نفسه وقد رأينا ذلك وتحققناه رؤية عين ف هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ من عين واحدة وهو في التجلي الأول لا غيره وهو في التجلي الآخر لا غيره فقل إله وقل عالم وقل أنا وقل أنت وقل هو والكل في حضرة الضمائر ما برح وما زال فزيد يقول في حقك هو وعمرو يقول عنك أنت وأنت تقول عنك أنا فإنا عين أنت وعين هو وما هو أنا عين أنت ولا عين هو فاختلفت النسب وهنا بحور طامية لا قعر لها ولا ساحل وعزة ربي لو عرفتم ما فهت به في هذه الشذور لطربتم طرب الأبد ولخفتم الخوف الذي لا يكون معه أمن لأحد تدكدك الجبل عين ثباته وإفاقة موسى عين صعقته‏

انظر إلى وجهه في كل حادثة *** من الكيان ولا تعلم به أحدا

أيها التابع المحمدي لا تغفل عما نبهتك عليه ولا تبرح في كل صورة ناظرا إليه فإن المجلى أجلي ثم أخذ بيده البرجيس وجاء به إلى صاحب النظر فعرفه ببعض ما يليق به مما علمه التابع من علم موسى بما يختص من تأثيرات الحركات الفلكية في النشآت العنصرية لا غير فارتحلا من عنده المحمدي على رفرف العناية وصاحب النظر على براق الفكر ففتح لهما السماء السابعة وهي الأولى من هناك على الحقيقة فتلقاه إبراهيم الخليل عليه السلام وتلقى صاحب النظر كوكب كيوان فأنزله في بيت مظلم قفر موحش وقال له هذا بيت أخيك يعني نفسه فكن به حتى آتيك فإني في خدمة هذا التابع المحمدي من أجل من نزل عليه وهو خليل الله فجاء إليه فوجده مسندا ظهره إلى البيت المعمور والتابع جالس بين يديه جلوس الابن بين يدي أبيه وهو يقول له نعم الولد البار فسأله التابع عن الثلاثة الأنوار فقال هي حجتي على قومي آتانيها الله عناية منه بي لم أقلها أشرا كالكن جعلتها حبالة صائد أصيد بها ما شرد من عقول قومي ثم قال له أيها التابع ميزا المراتب واعرف المذاهب وكن على بينة من ربك في أمرك ولا تهمل حديثك فإنك غير مهمل ولا متروك سدى اجعل قلبك مثل هذا البيت المعمور بحضورك مع الحق في كل حال‏

[أنه ما وسع الحق شي‏ء مما رأيت سوى قلب المؤمن‏]

واعلم أنه ما وسع الحق شي‏ء مما رأيت سوى قلب المؤمن وهو أنت فعند ما سمع صاحب النظر هذا الخطاب قال يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ الله وإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وعلم ما فاته من الايمان بذلك الرسول واتباع سنته ويقول يا ليتني لم أتخذ عقلي دليلا ولا سلكت معه إلى الفكر سبيلا وكل واحد من هذين الشخصين يدرك ما تعطيه الروحانيات العلى وما يسبح به الملأ الأعلى بما عندهما من الطهارة وتخليص النفس من أسر الطبيعة وارتقم في ذات نفس كل واحد منهما كل ما في العالم فليس يخبر إلا بما شاهده من نفسه في مرآة ذاته فحكاية الحكيم الذي أراد أن يرى هذا المقام للملك فاشتغل صاحب التصوير الحسن بنقش الصور على أبدع نظام وأحسن إتقان واشتغل الحكيم بجلاء الحائط الذي يقابل موضع الصور وبينهما ستر معلق مسدل فلما فرغ كل واحد

من شغله وأحكم صنعته فيما ذهب إليه جاء الملك فوقف على ما صوره صاحب الصور فرأى صورا بديعة يبهر العقول حسن نظمها وبديع نقشها ونظر إلى تلك الأصبغة في حسن تلك الصنعة فرأى أمرا هاله منظره ونظر إلى ما صنع الآخر من صقالة ذلك الوجه فلم ير شيئا فقال له أيها الملك صنعتي ألطف من صنعته وحكمتي أغمض من حكمته ارفع الستر بيني وبينه حتى ترى في الحالة الواحدة صنعتي وصنعته فرفع الستر فانتقش في ذلك الجسم الصقيل جميع ما صوره هذا الآخر بألطف صورة مما هو ذلك في نفسه فتعجب الملك ثم إن الملك رأى صورة نفسه وصورة الصاقل في ذلك الجسم فحار وتعجب وقال كيف يكون هكذا فقال أيها الملك ضربته لك مثلا لنفسك مع صور العالم إذا أنت صقلت مرآة نفسك بالرياضات والمجاهدات حتى تزكو وأزلت عنها صدأ الطبيعة وقابلت بمرآة ذاتك صور العالم انتقش فيها جميع ما في العالم كله وإلى هذا الحد ينتهي صاحب النظر وأتباع الرسل وهذه الحضرة الجامعة لهما ويزيد التابع على صاحب النظر بأمور لم تنتقش في العالم جملة واحدة من حيث ذلك الوجه الخاص الذي لله في كل ممكن محدث مما لا ينحصر ولا ينضبط ولا يتصور يمتاز به هذا التابع عن صاحب النظر ومن هذه السماء يكون الاستدراج الذي لا يعلم والمكر الخفي الذي لا يشعر به والكيد المتين والحجاب والثبات في الأمور والتأني فيها ومن هنا يعرف معنى قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ لأن لهما في الناس درجة الأبوة فلا يلحقهما أبدا قال تعالى أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ ومن هذه السماء يعلم أن كل ما سوى الإنس والجان سعيد لا دخول له في الشقاء الأخروي وإن الإنس والجان منهم شقي وسعيد فالشقي يجري إلى أجل في الأشقياء لأن الرحمة سبقت الغضب والسعيد إلى غير أجل ومن هنا يعرف تفضيل خلق الإنسان وتوجه اليدين على خلق آدم دون غيره من المخلوقات‏

[ما من جنس من مخلوقات إلا وله طريقة واحدة في الخلق‏]

ويعلم أنه ما ثم جنس من المخلوقات إلا وله طريقة واحدة في الخلق لم تتنوع عليه صنوف الخلق تنوعها على الإنسان فإنه تنوع عليه الخلق فخلق آدم يخالف خلق حواء وخلق حواء يخالف خلق عيسى وخلق عيسى يخالف خلق سائر بنى آدم وكلهم إنسان ومن هنا زين للإنسان سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً وعند تجلى هذا التزيين يشكر الله تعالى التابع على تخلصه من مثل هذا وأما صاحب النظر فلا يجد فرجا إلا في هذا التجلي يعطيه الحسن في السوء وهو من المكر الإلهي ومن هنا تثبت أعيان الصور في الجوهر التي تحت هذا الفلك إلى الأرض خاصة ومن هنا تعرف ملة إبراهيم أنها ملة سمحاء ما فيها من حرج فإذا علم هذه المعاني ووقف على أبوة الإسلام أراد صاحب النظر القرب منه فقال إبراهيم للتابع من هذا الأجنبي معك فقال هو أخي قال أخوك من الرضاعة أو أخوك من النسب قال أخي من الماء قال صدقت لهذا لا أعرفه لا تصاحب إلا من هو أخوك من الرضاعة كما أني أبوك من الرضاعة فإن الحضرة السعادية لا تقبل إلا إخوان الرضاعة وآباءها وأمهاتها فإنها النافعة عند الله أ لا ترى العلم يظهر في صورة اللبن في حضرة الخيال هذا لأجل الرضاع وانقطع ظهر صاحب النظر لما انقطع عنه نسب أبوه إبراهيم عليه السلام ثم أمره أن يدخل البيت المعمور فدخله دون صاحبه وصاحبه منكوس الرأس ثم خرج من الباب الذي دخل ولم يخرج من باب الملائكة وهو الباب الثاني لخاصية فيه وهو أنه من خرج منه لا يرجع إليه ثم ارتحل من عنده يطلب العروج ومسك صاحبه صاحب النظر هناك وقيل له قف حتى يرجع صاحبك فإنه لا قدم لك هنا هذا آخر الدخان فقال أسلم وأدخل تحت حكم ما دخل فيه صاحبي قيل له ليس هذا موضع قبول الإسلام إذا رجعت إلى موطنك الذي منه جئت أنت وصاحبك فهناك إذا أسلمت وآمنت واتبعت سبيل من أناب إلى الله إنابة الرسل المبلغين عن الله قبلت كما قبل صاحبك فبقي هنالك ومشى التابع فبلغ به سدرة المنتهى فرأى صور أعمال السعداء من النبيين وأتباع الرسل ورأى عمله في جملة أعمالهم فشكر الله على ما وفقه إليه من اتباع الرسول المعلم وعاين هنالك أربعة أنهار منها نهر كبير عظيم وجداول صغار تنبعث من ذلك النهر الكبير وذلك النهر الكبير تتفجر منه الأنهار الكبار الثلاثة فسأل التابع عن تلك الأنهار والجداول فقيل له هذا مثل مضروب أقيم لك هذا النهر الأعظم هو القرآن وهذه الثلاثة الأنهار الكتب الثلاثة التوراة والزبور والإنجيل وهذه الجداول الصحف المنزلة على الأنبياء فمن شرب من أي نهر كان أو أي جدول فهو لمن شرب منه وارث وكل حق فإنه كلام الله والعلماء ورثة الأنبياء بما شربوا من هذه‏

الأنهار والجداول فاشرع في نهر القرآن تفز بكل سبيل للسعادة فإنه نهر محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الذي صحت له النبوة وآدم بين الماء والطين وأوتي جوامع الكلم وبعث عامة ونسخت به فروع الأحكام ولم ينسخ له حكم بغيره ونظر إلى حسن النور الذي غشى تلك السدرة فرأى قد غشاها منه ذاك الذي غشى فلا يستطيع أحد أن ينعتها للغشاء النوري الذي لا تنفذه الأبصار بل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ثم قيل له هذه شجرة الطهور فيها مرضاة الحق ومن هنا شرع السدر في غسل الميت للقاء الله الماء والسدر لينا له طهور هذه السدرة وإليها تنتهي أعمال بنى آدم السعادية وفيها مخازنها إلى يوم الدين وهنا أول أقدام السعداء والسماء السابعة التي وقف عندها صاحبك منتهى الدخان ولا بد لها ولمن هو تحتها من الاستحالة إلى صور كانت عليها أو على أمثالها قبل أن تكون سماء ثم قيل لهذا التابع ارق فرقي في فلك المنازل فتلقاه من هنالك من الملائكة والأرواح الكوكبية ما يزبد على ألف وعشرات من الحضرات تسكنها هذه الأرواح فعاين منازل السائرين إلى الله تعالى بالأعمال المشروعة وقد ذكر من ذلك الهروي في جزء له سماه منازل السائرين يحتوي على مائة مقام كل مقام يحتوي على عشرة مقامات وهي المنازل وأما نحن فذكرنا من هذه المنازل في كتاب لنا سميناه مناهج الارتقاء يحتوي على ثلاثمائة مقام كل مقام يحتوي على عشرة منازل ففيه ثلاثة آلاف منزل فلم يزل يقطعها منزلة منزلة بسبع حقائق هو عليها كما يقطع فيها السبع الدراري ولكن في زمان أقرب حتى وقف على حقائقها بأجمعها وقد كان أوصاه إدريس بذلك فلما عاين كل منزل منها رآها وجميع ما فيها من الكواكب تقطع في فلك آخر فوقها فطلب الارتقاء فيه ليرى ما أودع الله في هذه الأمور من الآيات والعجائب الدالة على قدرته وعلمه فعند ما حصل على سطحه حصل في الجنة الدهماء فرأى ما فيها مما وصف الله في كتابه من صفة الجنات وعاين درجاتها وغرفها وما أعد الله لأهلها فيها ورأى جنته المخصوصة به واطلع على جنات الميراث وجنات الاختصاص وجنات الأعمال وذاق من كل نعيم منها بحسب ما يعطيه ذوق موطن القوة الجنانية فلما بلغ من ذلك أمنيته رقى به إلى المستوي الأزهى والستر الأبهى فرأى صور آدم وبنيه السعداء من خلف تلك الستور فعلم معناها وما أودع الله من الحكمة فيها وما عليها من الخلع التي كساها بنى آدم فسلمت عليه تلك الصور فرأى صورته فيهن فعانقها وعانقته واندفعت معه إلى المكانة الزلفى فدخل فلك البروج الذي قال الله فيه فأقسم به والسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ فعلم إن التكوينات التي تكون في الجنان من حركة هذا الفلك وله الحركة اليومية في العالم الزماني كما أن حركة الليل والنهار في الفلك الذي فيه جرم الشمس والتكوينات التي تكون في جهنم من حركة فلك الكواكب وهو سقف جهنم أعني مقعره وسطحه أرض الجنة والذي يسقط من الكواكب وينتثر ضوءها فتبقى مظلمة وفعلها المودع فيها باق وهذا كله سبب التبديل الذي يقع في جهنم كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها كل ذلك بإذن الله مرتب الأشياء مراتبها كما إن الشمس إذا حلت بالحمل جاء زمن الربيع فظهرت زينة الأرض وأورقت الأشجار وازينت وأَنْبَتَتْ من كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وإذا حلت بالجدي أظهرت النقيض والقوابل تقبل بحسب ما هي عليه من المزاج فمهما اختلف مزاجها كان قبولها لما يحدث الله عند هذه الحركات الفلكية بحسب ما هي عليه وكذلك في الجنان في كل حين من خلق جديد ونعيم جديد حتى لا يقع ملل فإن كل شي‏ء طبيعي إذا توالى عليه أمر ما من غير تبدل لا بد أن يصحب الإنسان فيه ملل فإن الملل نعت ذاتي له فإن لم يغذه الله بالتجديد في كل وقت ليدوم له النعيم بذلك وإلا كان يدركهم الملل فأهل الجنان يدركون في كل نظرة ينظرونها إلى ملكهم أمرا وصورة لم يكونوا رأوها قبل ذلك فينعمون بحدوثها وكذلك في كل أكلة وشربة يجدون طعما جديدا لذيذا لم يكونوا يجدونه في الأكلة الأولى فينعمون بذلك وتعظم شهوتهم والسبب في سرعة هذا التبدل وبقائه أن الأصل على ذلك فيعطي في الكون بحسب ما تعطيه حقيقة مرتبته ليكون خلاقا على الدوام ويكون الكون‏

فقيرا على الدوام فالوجود كله متحرك على الدوام دنيا وآخرة لأن التكوين لا يكون عن سكون فمن الله توجهات دائمة وكلمات لا تنفد وهو قوله وما عِنْدَ الله باقٍ فعند الله التوجه وهو قوله تعالى إِذا أَرَدْناهُ وكلمة الحضرة وهي قوله لكل شي‏ء يريده كُنْ بالمعنى الذي يليق بجلاله وكن حرف وجودي فلا يكون عنه إلا الوجود ما يكون عنه عدم لأن العدم‏

لا يكون لأن الكون وجود وهذه التوجهات والكلمات في خزائن الجود لكل شي‏ء يقبل الوجود قال تعالى وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وهو ما ذكرناه وقوله وما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ من اسمه الحكيم فالحكمة سلطانة هذا الإنزال الإلهي وهو إخراج هذه الأشياء من هذه الخزائن إلى وجود أعيانها وهو قولنا في أول خطبة هذا الكتاب الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه وعدم العدم وجود فهو نسبة كون الأشياء في هذه الخزائن محفوظة موجودة لله ثابتة لأعيانها غير موجودة لأنفسها فبالنظر إلى أعيانها هي موجودة عن عدم وبالنظر إلى كونها عند الله في هذه الخزائن هي موجودة عن عدم العدم وهو وجود فإن شئت رجحت جانب كونها في الخزائن فنقول أوجد الأشياء من وجودها في الخزائن إلى وجودها في أعيانها للنعيم بها أو غير ذلك وإن شئت قلت أوجد الأشياء عن عدم بعد أن تقف على معنى ما ذكرت لك فقل ما شئت فهو الموجد لها على كل حال في الموطن الذي ظهرت فيه لأعيانها وأما قوله ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ فهو صحيح في العلم لأن الخطاب هنا لعين الجوهر والذي عنده أعني عند الجوهر من كل موجود إنما هو ما يوجده الله في محله من الصفات والأعراض والأكوان وهي في الزمان الثاني أو في الحال الثاني كيف شئت قل من زمان وجودها أو حال وجودها تنعدم من عندنا وهو قوله ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وهو يجدد للجوهر الأمثال أو الأضداد دائما من هذه الخزائن وهذا معنى قول المتكلمين إن العرض لا يبقى زمانين وهو قول صحيح خبر لا شبهة فيه لأنه الأمر المحقق

الذي عليه نعت الممكنات وبتجدد ذلك على الجوهر يبقى عينه دائما ما شاء الله وقد شاء إنه لا يفنى فلا بد من بقائه فيعلم التابع من هذه الحضرة التكوينات الجنانية وجميع ما ذكرناه وأما صاحب النظر رفيق التابع فما عنده خبر بشي‏ء من هذا كله لأنه تنبيه نبوي لا نظر فكري وصاحب النظر مقيد تحت سلطان فكره وليس للفكر مجال إلا في ميدانه الخاص به وهو معلوم بين الميادين فإنه لكل قوة في الإنسان ميدان يجول فيه لا يتعداه ومهما تعدت ميدانها وقعت في الغلط والخطاء ووصفت بالتحريف عن طريقها المستقيم وقد يشهد الكشف البصري بما تعثر فيه الحجج العقلية وسبب ذلك خروجها عن طورها فالعقول الموصوفة بالضلال إنما أضلتها أفكارها وإنما ضلت أفكارها لتصرفها في غير موطنها وإنما تصرف ما تصرف منها في غير موطنه وجال في غير ميدانه ليظهر فضل بعض الناس على بعضهم وإنما ظهر الفضل في العالم ليعلم أن الحق له عناية ببعض عباده وله خذلان في بعض عباده وليعلم أن الممكن لم يخرج عن إمكانه وأن المرجح له نظر خصوصي لمن شاء من هذه القوي بما يشاء وهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ثم يخرج بالتابع مع حامله إلى الكرسي فيرى فيه انقسام الكلمة التي وصفت قبل وصولها إلى هذا المقام بالوحدة ويرى القدمين اللتين تدلتا إليه فينكب من ساعته إلى تقبيلهما القدم الواحدة تعطي ثبوت أهل الجنات في جناتهم وهي قدم الصدق والقدم الأخرى تعطي ثبوت أهل جهنم في جهنم على أي حالة أراد وهي قدم الجبروت ولهذا قال في أهل الجنان عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فما وصفه بالانقطاع وقال في أهل جهنم الَّذِينَ شَقُوا ليحكم هذا القدم الجبروتي إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ما قال إن الحال التي هم فيها لا تنقطع كما قال في السعداء والذي منع من ذلك قوله ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وقوله إن رحمتي سبقت غضبي‏

في هذه النشأة فإن الوجود رحمة في حق كل موجود وإن تعذب بعضهم ببعض فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع وتخليدهم في حال الانتقام موقوف على إرادة فقد يعود الانتقام منهم عذابا عليهم لا غير ويزول الانتقام ولهذا فسره في مواضع بالألم المؤلم وقال عذاب أليم والعذاب الأليم وفي مواضع لم يقيد العذاب بالأليم وأطلقه فقال فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ يعني وإن زال الألم وقال في عذاب جهنم ولم ينعته بأنه أليم وقال لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ من كونه عذابا وهُمْ فِيهِ أي في العذاب مُبْلِسُونَ أي مبعدون من السعادة العرضية في هذا الموطن لأن الإبلاس لفظة مختصة بأهل جهنم في بعدهم فلهذا جاء بذكر الإبلاس ليوقع هذا الاصطلاح اللغوي في موضعه عند أهله ليعلموه فإنه لموطن جهنم لغة ليست لأهل الجنان والإبلاس منها فيعرف التابع من هذا المقام ما لكل دار ثم إنه يفارق هذا الموضع ويزج به في النور الأعظم فيغلبه الوجد وهذا النور هو حضرة الأحوال الظاهر حكمها في الأشخاص الإنسانية وأكثر ما يظهر عليهم في سماع الألحان فإنها إذا نزلت عليهم تمر على الأفلاك ولحركات الأفلاك‏

نغمات طيبة مستلذة تستلذ بها الأسماع كنغمات الدولاب فتكسو الأحوال وتنزل بها على النفوس الحيوانية في مجالس السماع فإن كانت النفس في أي شي‏ء كانت من تعلق بجارية أو غلام أو يكون من أهل الله فيكون تعلقه حب جمال الإلهي متخيل اكتسبوه من ألفاظ نبوية مثل‏

قوله في الصحيح إن الله جميل يحب الجمال‏

وقوله في التجريد اعبد الله كأنك تراه فيأخذه الوجد على ما تخيله ومنهم من يغمره الحال لا من حضرة التخيل بل يجد أمرا لا يكيف ولا يدخل تحت الحصر والمقدار ومنهم من تهب عليه من هذه الأحوال التي تعطي الوجد روايح على نفوس غير عاشقة إلا بنسبة جزئية لا كلية فتعطيه من الحكم لذلك معنى يسمى التواجد ثم يخرج من ذلك النور إلى موضع الرحمة العامة التي وسعت كل شي‏ء وهو المعبر عنه بالعرش فيجد هنالك من الحقائق الملكية إسرافيل وجبريل وميكائيل ورضوان ومالك ومن الحقائق الملكية البشرية آدم وإبراهيم ومحمد إسلام الله عليهم فيجد عند آدم وإسرافيل علم الصور الظاهرة في العالم المسماة أجساما وأجسادا وهياكل سواء كانت نورية أو غير نورية ويجد عند جبريل ومحمد عليه السلام علم الأرواح المنفوخة في هذه الصور التي عند آدم وإسرافيل فيقف على معاني ذلك كله ويرى نسبة هذه الأرواح إلى هذه الصور وتدبيرها إياها ومن أين وقع فيها التفاضل مع انبعاثها من أصل واحد وكذلك الصور علم من هذه الحضرة ذلك كله ويعلم من هذه الحضرة علم الأكاسير التي تقلب صور الأجساد بما فيه من الروح وينظر إلى ميكائيل وإبراهيم عليه السلام فيجد عندهما علم الأرزاق وما يكون به التغذي للصور والأرواح وبما ذا يكون بقاؤها ويقف على كون الإكسير غذاء مخصوصا لذلك الجسد الذي يرده ذهبا أو فضة بعد ما كان حديدا أو نحاسا وهو صحة ذلك الجسم وإزالة مرضه الذي كان قد دخل عليه في معدنه فصيره حديدا أو غير ذلك وكل هذا من هذه الحضرة يعلمه ثم ينظر إلى رضوان ومالك فيجد عندهما علم السعادة والشقاء والجنة ودرجاتها وجهنم ودركاتها وهو علم المراتب في الوعد والوعيد ويعلم حقيقة ما تعطي كل واحدة منهما وإذا علم هذا كله علم العرش وحملته وما تحت إحاطته وهو منتهى الأجسام وليس وراءه جسم مركب ذو شكل ومقدار فإذا علم هذا كله عرج به معراجا آخر معنويا في غير صورة متخيلة إلى مرتبة المقادير فيعلم منها كميات الأشياء الجسمية وأوزانها في الأجسام المقدرة من المحيط إلى التراب وما فيهن وما بينهن من أصناف العالم الذين هم عمار هذه الأمكنة ثم ينتقل إلى علم الجوهر المظلم الكل الذي لا جزء له ولا صورة فيه وهو غيب كل ما وراءه من العالم ومنه ظهرت هذه الأنوار والضياءات في عالم الأجسام وهي الأنوار المركبة سلخت من هذا الجوهر فبقي مظلما كما سلخ النهار من الليل فبانت الظلمة وهذا هو أصل الظلمة في العالم وأصل العالم في الأحكام الناموسية ثم ينتقل من هذا المقام إلى حضرة الطبيعة البسيطة فيعلم حكمها في الأجسام مطلقا من اختلاف تركيباتها وأحوالها ومن أين وقع الغلط لبعض الطبيعيين فيما غلطوا فيه من العلم بأحكامها وذلك لجهلهم بالعلم بذاتها فصاحب هذا الكشف يعلم ذلك كله ثم ينتقل من النظر في ذلك إلى شهود اللوح المحفوظ وهو الموجود الانبعاثي عن القلم وقد رقم الله فيه ما شاءه من الكوائن في العالم فيعلم هذا التالي لما في هذا اللوح علم القوتين وهما علم العلم وعلم العمل ويعلم الانفعالات الانبعاثية ومن كون هذا الروح لوحا يعلم ما سطره فيه من سماه لوحا بالقلم الإلهي مما أملاه الحق عليه وكتابته فيه نقش صور المعلومات التي يجر بها الله في العالم في الدنيا إلى يوم القيامة خاصة وهي علوم محصورة مسطرة صورا كصور الحروف المرقومة في الألواح والكتب المسماة كلمات وعدد أمهاتها ما يكون من ضرب درجات الفلك في مثلها سواء من غير زيادة ولا نقصان ومن هنا جعل الله في الفلك الذي تقطع فيه الكواكب بسباحتها ثلاثمائة درجة وستين درجة وفيها انحصرت السنة في الدار الدنيا بسباحة الشمس والقمر قال تعالى الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وتتكرر بالسنين من أول وجودها وما هو تكرار على الحقيقة إلى أن ينتهي إلى قدر ما خرج من ضرب الثلاثمائة والستين في مثلها من السنين يكون عمر عالم الدنيا ثم يملي أمرا آخر وعلوما تختص بالقيامة وبالموازين أيضا إلى أجل مسمى بتميز في الدارين وهو انتهاء مدة الانتقام على أهل دار الشقاء خاصة ثم يستأنف فيه كتابة العذاب في هذه الدار مع‏

الخلود الدائم في الدارين لأهلها غير أنه لا بد مهما كانت الكتابة أن تجري إلى أجل مسمى لاستحالة دخول ما لا يتناهى في الوجود ثم ينتقل هذا التابع من هذا المقام إلى‏

مشاهدة القلم الأعلى فيحصل له من هذا المشهد علم الولاية ومن هنالك هو ابتداء مرتبة الخلافة والنيابة ومن هناك دونت الدواوين وظهر سلطان الاسم المدبر والمفصل وهو قوله يدبر الأمر يفصل الآيات وهذا هو علم القلم ويشاهد تحريك اليمنى إياه التحريك المعنوي اللطيف ومن أين يستمد وأنه من ذاته له علم الإجمال والتفصيل والتفصيل يظهر بالتسطير وهو عين ذواته فلا افتقار له إلى معلم يستمد منه سوى خالقه عز وجل وكتابته نقش ولهذا تثبت فلا تقبل المحو وبهذا سمي اللوح بالمحفوظ يعني عن المحو فلو كانت كتابته مثل الكتابة بالمداد قبلت المحو كما يقبله لوح المحو في عالم الكون بالقلم المختص به الذي هو بين أصبعي الرحمن فيفرق من هذا المشهد بين الأقلام والألواح وأنواع الكتبة ويعلم علم الأحكام والإحكام ومن هنا يعلم أنه لم يبق في الإمكان ما ينبغي أن يكون دليلا على الله إلا وقد ظهر من كونه دليلا وإن كثرت الأدلة فيجمعها كمالية الدلالة خاصة ثم ينظر عن يمين هذا المشهد فينظر إلى عالم الهيمان وهو العالم المخلوق من العماء ثم ينتقل إلى العماء وهو مستوي الاسم الرب كما كان العرش مستوي الرحمن‏

[العماء هو أول الأينيات‏]

والعماء هو أول الأينيات ومنه ظهرت الظروف المكانيات والمراتب فيمن لم يقبل المكان وقبل المكانة ومنه ظهرت المحال القابلة للمعاني الجسمانية حسا وخيالا وهو موجود شريف الحق معناه وهو الحق المخلوق به كل موجود سوى الله وهو المعنى الذي ثبتت فيه واستقرت أعيان الممكنات ويقبل حقيقة الأين وظرفية المكان ورتبة المكانة واسم المحل ومن عالم الأرض إلى هذا العماء ليس فيها من أسماء الله سوى أسماء الأفعال خاصة ليس لغيرها أثر في كون مما بينهما من العالم المعقول والمحسوس غير إن صاحب التابع الذي هو صاحب النظر لما تركه صاحبه بالسماء السابعة ورحل عنه امتدت منه رقيقة على غير معراج التابع ظهرت للتابع في الفلك المكوكب وفقدها في الجنة ثم ظهرت له في فلك البروج ثم فقدها أيضا في الكرسي وفي العرش ثم ظهر له في مرتبة المقادير وفي الجوهر المظلم ثم فقده في الطبيعة ثم ظهر له في النفس من جهة كونها نفسا لا من جهة كونها لوحا ثم ظهر له في العقل الإبداعي من كونه عقلا لا من كونه قلما ثم فارقه بعد ذلك فلم ير له عينا ومن هذا العماء يبتدئ بالترقي والمعراج في أسماء التنزيه إلى أن يصل إلى الحضرة التي يشهد فيها إن التنزيه يحده ويشير إليه ويقيده ويستشرف على العالم بأسره المعنوي والروحاني والجسمي والجسماني فلا يجد في مشهده ذلك ما ينبغي أن ينزه عنه من ظهر فيه ويرى ارتباطه به ارتباط المرتبة بصاحبها فلا يتمكن له التنزيه الذي كان يتخيله ولا يتمكن له التشبيه فإنه ليس ثم‏

بمن فما ثم إلا الله لا شي‏ء غير *** وما ثم إلا وحدة الوحدات‏

ثم فارق أسماء الأفعال وتسلمته أسماء التنزيه فرأى صاحبه صاحب النظر يوافقه إلى أن وصل إلى الحضرة التي لا تقبل التنزيه ولا التشبيه فيتنزه عن الحد بنفي التنزيه وعن المقدار بنفي التشبيه فيفقد رفيقه صاحب النظر هنالك ثم ينقلب يطلب ما منه خرج فسلك به الحق تعالى طريقا غير طريقه الأولى وهو طريق لا يتمكن أن ينقال ولا يعرفه إلا من شاهده ذوقا ورجع صاحبه على معراجه ذلك إذ لم يكن تابعا إلى أن وصل إلى جسده فاجتمع مع رفيقه فبادر من حينه صاحب النظر إلى الرسول إن كان حاضرا أو لوارثه فيبايعه بيعة الايمان والرضوان عَلى‏ بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ وآية من نفسه وتلاه شاهِدٌ مِنْهُ وهو التابع فآمن بالله من حيث ما شرع له الايمان به لا من حيث دليله فوجد عنده وفي قلبه نورا لم يكن يجده قبل ذلك فرأى في اللمحة الواحدة وهو في مكانه بذلك النور جميع ما رآه مع التابع في معراجه الأول ولم يقف بل ترقي مرقى التابع حتى بلغ العماء والغاية القصوى ورأى الشي‏ء في الأشياء ورأى وجوب وجود ما أحال وجوده فكرة وعقلا وهو في مكانه ذلك لم يبرح وأعطى إكسير التكوين ورأى حشر الأجساد من طور إلى طور باختلاف حكم ولاختلاف دور فتغيرت الأشكال وتقلبت الأحوال ورأى ما قلناه في مثل ذلك‏

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ *** حقيقة تصورت‏

فمن لها بها لها *** إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ‏

تطلب بانكدارها *** جبال صخر سيرت‏

تنظر في تسييرها *** جحيم نار سعرت‏

سعرها موقدها *** لجنة قد أزلفت‏

يدخلها طائفة *** من قبرها قد بعثرت‏

قلت لها ما تبتغي *** قالت وحوش حشرت‏

وإن ترى نفسي ما *** قد قدمت وأخرت‏



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!