الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة الزمان الموجود والمقدر |
علمك به أنه لا ينضبط سبحانه ولا يتقيد ولا يشبه شيئا ولا يشبه شيء فلا ينضبط مضبوط لتميزه عما ينضبط فقد انضبط ما لا ينضبط مثل قولك العجز عن درك الإدراك إدراك والحق إنما وسعه القلب ومعنى ذلك أن لا يحكم على الحق تعالى بأنه لا يقبل ولا يقبل فإن ذات الحق وأنيته مجهولة عند الكون ولا سيما وقد أخبر جل جلاله عن نفسه بالنقيضين في الكتاب والسنة فشبه في موضع ونزه في موضع ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وشبيه بقوله وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فتفرقت خواطر التشبيه وتشتتت خواطر التنزيه فإن المنزه على الحقيقة قد قيده وحصره في تنزيهه وأخلي عنه التشبيه والمشبه أيضا قيده وحصره في التشبيه وأخلي عنه التنزيه والحق في الجمع بالقول بحكم الطائفتين فلا ينزه تنزيها يخرج عن التشبيه ولا يشبه تشبيها يخرج عن التنزيه فلا تطلق ولا تقيد لتميزه عن التقييد ولو تميز تقيد في إطلاقه ولو تقيد في إطلاقه لم يكن هو فهو المقيد بما قيد به نفسه من صفات الجلال وهو المطلق بما سمي به نفسه من أسماء الكمال وهو الواحد الحق الجلي الخفي لا إله إلا هو العلي العظيم (وصل) [السدرة هي المرتبة الخامسة التي تنتهي إليها الأعمال]وأما أسرار أهل الإلهام المستدلين فلا تتجاوز سدرة المنتهى فإن إليها تنتهي أعمال بنى آدم ونهاية كل أمر إلى ما منه بدا فإن قال لك عارف ممن لا علم له بهذا الأمر إن الكرسي موضع القدمين فقل له ذلك عالم الخلق والأمر والتكليف إنما انقسم من السدرة فإنه قطع أربع مراتب والسدرة هي المرتبة الخامسة فنزل من قلم إلى لوح إلى عرش إلى كرسي إلى سدرة [الأحكام الشرعية الخمسة وما يقابلها من مراتب الوجود]فظهر الواجب من القلم والمندوب من اللوح والمحظور من العرش والمكروه من الكرسي والمباح من السدرة والمباح قسم النفس وإليها تنتهي نفوس عالم السعادة ولأصولها وهي الزقوم تنتهي نفوس أهل الشقاء وقد بيناها في كتاب التنزلات الموصلية في باب يوم الإثنين وإذا ظهرت قسمة الأحكام من السدرة فإذا صعدت الأعمال التي لا تخلو من أحد هذه الأحكام لا بد أن تكون نهايتها إلى الموضع الذي منه ظهرت إذ لا تعرف من كونها منقسمة إلى السدرة ثم يكون من العقل الذي هو القلم نظر إلى الأعمال المفروضة فيمدها بحسب ما يرى فيها ويكون من اللوح نظر إلى الأعمال المندوب إليها فيمدها بحسب ما يرى فيها ويكون من العرش نظر إلى المحظورات وهو مستوي الرحمن فلا ينظرها إلا بعين الرحمة ولهذا يكون مال أصحابها إلى الرحمة ويكون من الكرسي نظر إلى الأعمال المكروهة فينظر إليها بحسب ما يرى فيها وهو تحت حيطة العرش والعرش مستوي الرحمن والكرسي موضع القدمين فيسرع العفو والتجاوز عن أصحاب المكروه من الأعمال ولهذا يؤجر تاركها ولا يؤاخذ فاعلها [عذاب أهل الجحيم في الجحيم: الخلود في النار]فكتاب الأبرار في عليين ويدخل فيهم العصاة أهل الكبائر والصغائر وأما كتاب الفجار ففي سجين وفيه أصول السدرة التي هي شجرة الزقوم فهناك تنتهي أعمال الفجار في أسفل سافلين فإن رحمهم الرحمن من عرش الرحمانية بالنظرة التي ذكرناها جعل لهم نعيما في منزلهم فلا يموتون فيه ولا يحبون فهم في نعيم النار دائمون مؤبدون كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور وربما يكون في فراشه مريضا ذا بؤس وفقر ويرى نفسه في المنام ذا سلطان ونعمة وملك فإن نظرت إلى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذ به قلت إنه في نعيم وصدقت وإن نظرت إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشن ومرضه ويأسه وفقره وكلومه قلت إنه في عذاب هكذا يكون أهل النار ف لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى أي لا يستيقظ أبدا من نومته فتلك الرحمة التي يرحم الله بها أهل النار الذين هم أهلها وأمثالها كالمحرور منهم بتنعم بالزمهرير والمقرور منهم يجعل في الحرور وقد يكون عذابهم توهم وقوع العذاب بهم وذلك كله بعد قوله لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ العذاب وهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمة التي سبقت الغضب الإلهي فإذا اطلع أهل الجنان في هذه الحالة على أهل النار ورأوا منازلهم في النار وما أعد الله فيها وما هي عليه من قبح المنظر قالوا معذبون وإذا كوشفوا على الحسن المعنوي الإلهي في خلق ذلك المسمى قبحا ورأوا ما هم فيه في نومتهم وعلموا أحوال أمزجتهم قالوا منعمون فسبحان القادر على ما يشاء لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فقد فهمت قول الله تعالى لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (الباب التاسع والخمسون في معرفة الزمان الموجود والمقدر)إن الزمان إذا حققت حاصله *** محقق فهو بالأوهام معلوم مثل الطبيعة في التأثير قوته *** والعين منها ومنه فيه معدوم به تعينت الأشياء وليس له *** عين يكون عليه منه تحكيم العقل يعجز عن إدراك صورته *** لذا نقول بأن الدهر موهوم لو لا التنزه ما سمي الإله به *** وجوده فله في القلب تعظيم أصل الزمان إذا أنصفت من أزل *** فحكمه أزلي وهو محكوم مثل الخلأ امتداد ما له طرف *** في غير جسم بوهم فيه تجسيم [أولية الحق ووجوده وأولية العالم ووجوده]اعلم أولا أن الله تعالى هو الأول الذي لا أولية لشيء قبله ولا أولية لشيء يكون قائما به أو غير قائم به معه فهو الواحد سبحانه في أوليته فلا شيء واجب الوجود لنفسه إلا هو فهو الغني بذاته على الإطلاق عن العالمين قال تعالى فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ بالدليل العقلي والشرعي فوجود العالم لا يخلو ما أن يكون وجوده عن الله لنفسه سبحانه أو لأمر زائد ما هو نفسه إذ لو كان نفسه لم يكن زائدا ولو كان نفسه أيضا لكان مركبا في نفسه وكانت الأولية لذلك الأمر الزائد وقد فرضنا أنه لا أولية لشيء معه ولا قبله فإذا لم يكن ذلك الأمر الزائد نفسه فلا يخلو إما أن يكون وجودا أو لا وجودا محال أن يكون لا وجود فإن لا وجود لا يصح أن يكون له أثر إيجاد فيما هو موصوف بأن لا وجود وهو العالم فليس أحدهما بأولى بتأثير الإيجاد من الآخر إذ كلاهما أن لا وجود فإن لا وجود لا أثر له لأنه عدم ومحال أن يكون وجودا فإنه لا يخلو عند ذلك إما أن يكون وجوده لنفسه أو لا يكون محال أن يكون وجوده لنفسه فإنه قد قام الدليل على إحالة أن يكون في الوجود اثنان واجبا الوجود لأنفسهما فلم يبق إلا أن يكون وجوده بغيره ولا معنى لا مكان العالم إلا أن وجوده بغيره فهو العالم إذن أو من العالم ولو كان وجود العالم عن الله لنسبة ما لولاها ما وجد العالم تسمى تلك النسبة إرادة أو مشيئة أو علما أو ما شئت مما يطلبه وجود الممكن فيكون الحق تعالى بلا شك لا يفعل شيئا إلا بتلك النسبة ولا معنى للافتقار إلا هذا وهو محال على الله فإن الله له الغني على الإطلاق فهو كما قال غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فإن قيل إن المراد بالنسبة عين ذاته قلنا فالشيء لا يكون مفتقرا إلى نفسه فإنه غني لنفسه فيكون الشيء الواحد فقيرا من حيث ما هو عني كل ذلك لنفسه وهو محال وقد نفينا الأمر الزائد فاقتضى ذلك أن يكون وجود العالم من حيث ما هو موجود بغيره مرتبطا بالواجب الوجود لنفسه وإن عين الممكن محل تأثير الواجب الوجود لنفسه بالإيجاد ولا يعقل إلا هكذا فمشيئته وإرادته وعلمه وقدرته ذاته تعالى الله أن يتكثر في ذاته علوا كبيرا بل له الوحدة المطلقة وهو الواحد الأحد الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ فيكون مقدمة ولَمْ يُولَدْ فيكون نتيجة ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فيكون به وجود العالم نتيجة عن مقدمتين عن الحق والكفؤ تعالى الله وبهذا وصف نفسه سبحانه في كتابه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة ربه فنزلت سورة الإخلاص تخلصت من الاشتراك مع غيره تعالى الله في تلك النعوت المقدسة والأوصاف فما من شيء نفاه في هذه السورة ولا أثبته إلا وذلك المنفي أو المثبت مقالة في الله لبعض الناس وبعد أن بينا لك ما ينبغي أن يكون عليه من نحن مفتقرون إليه وهو الله سبحانه فلنبين ما بوبنا عليه فاعلم أن نسبة الأزل إلى الله نسبة الزمان إلينا ونسبة الأزل نعت سلبي لا عين له فلا يكون عن هذه الحقيقة وجود فيكون الزمان للممكن نسبة متوهمة الوجود لا موجودة لأن كل شيء تفرضه يصح عنه السؤال بمتى ومتى سؤال عن زمان فلا بد أن يكون الزمان أمرا متوهما لا وجودا ولهذا أطلقه الحق على نفسه في قوله وكانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ولِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ وفي السنة تقرير قول السائل أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ولو كان الزمان أمرا وجوديا في نفسه ما صح تنزيه الحق عن التقييد إذ كان حكم الزمان يقيده فعرفنا أن هذه الصيغ ما تحتها أمر وجودي [الزمان: معقوله ومدلوله]ثم نقول إن لفظة الزمان اختلف الناس في معقولها ومدلولها فالحكماء تطلقه بإزاء أمور مختلفة وأكثرهم على أنه مدة متوهمة تقطعها حركات الأفلاك والمتكلمون يطلقونه بإزاء أمر آخر وهو مقارنة حادث لحادث يسأل عنه بمتى والعرب تطلقه وتريد به الليل والنهار وهو مطلوبنا في هذا الباب والليل والنهار فصلا اليوم فمن طلوع |