الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة حال قطب كان منزله (قل اللّه ثم ذرهم) |
وما سمع إلا صوت المؤدي وهو الرسول ونحن نعلم أن كلام العالم كله ليس إلا كلامه فإن العالم كله إنسان كبير كامل فحكمه حكم الإنسان وهوية الحق باطن الإنسان وقواه التي كان بها عبدا فهوية الحق قوى العالم التي كان بها إنسانا كبيرا عبدا مسبحا ربه تعالى ألا كل قول في الوجود كلامه *** سواء علينا نثره ونظامه يعم به إسماع كل مكون *** فمنه إليه بدؤه وختامه ولا سامع غير الذي كان قائلا *** فمندرج في الجهر منه اكتتامه فتستره ألفاظنا بحروفها *** فما فيه من ضوء فذاك ظلامه فما ظنكم بالنور منه إذا بدا *** وقد ملأ الجو الفسيح غمامه لأنه القائل أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ من الْغَمامِ ولما كان الأمر على ما ذكرناه في نفسه طلب منا أن نخلص العبادة له لأن بالعبادة نكون عبيدا وما نكون عبيدا إلا بهويته فنخلص العبودية وتخليصها أن نقول له أنت هو بأنانيتك وأنت هو في أنانيتي فما ثم إلا أنت فأنت المسمى ربا وعبدا إن لم يكن الأمر كذا فما أخلصنا له عبادة فما طلب الإخلاص فيها إلا من المجموع ولا يصح لها وجود ولا نسبة إلا بالمجموع لأنه بالانفراد غني عن العالمين وبالمجموع قال أَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً فقيده بالإحسان وفسر لنا ما هو الإحسان وما فسره إلا بشهود المحدود المنصوب في القبلة فمعرفة الله بلسان الشارع المترجم عن الله غير معرفته بالنظر العقلي فللمعرفة بالله طريقان وأعني العلم بالله منا وإن شئت قلت ثلاث طرق الطريق الواحد علمنا به تعالى من حيث نظرنا الفكري وعلمنا به من حيث خطابه الشرعي وعلمنا به من حيث المجموع وأنا نعلم أنا لا نعلمه كما يعلم نفسه فهذا حصر المعرفة الحادثة بالله تعالى فالحق عين العبد ليس سواه *** والحق غير العبد لست تراه فانظر إليه به على مجموعه *** لا تفردنه فتستبيح حماه هذا هو الحق الصريح فأخلصوا *** لله منك عبادة تلقاه أي تلقاه تلك العبادة وإن شئت قلت لله منه عبادة تلقاه فإنك ما أخذتها إلا به فمنه تخلصها له وأنت محل الظهور فالصورة لك والعين هويته كما قررنا في غير موضع أن الصور المعبر عنها بالعالم إحكام أعيان الممكنات في وجود الحق ولهذا يقال إن العالم ما استفاد الوجود إلا من الحق وهو الحدوث وهذا القدر كاف في تخليص العبادة لله فيكون الحق العابد من وجه المعبود من وجه بنسبتين مختلفتين والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الرابع وخمسمائة في معرفة حال قطب كان منزله قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ إلى هنا كان هجير شيخنا أبي مدين رحمه الله وزاد بعضهم قوله تعالى في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ»إلى الله من كوننا المهرب *** وإياه في رفعه أرغب ذر الكل في خوضه يلعب *** فليس لنا غيره مذهب فإنك إن جئته تقرب *** وفيه الورى كله يرغب ولما رأيت الذي يعجب *** من الله فزت بما أطلب [إن الله وصف نفسه بالتعجب والضحك وأشباه هذه الصفات الخلقية]اعلم أيدنا الله وإياك بِرُوحٍ مِنْهُ أن هذا الباب قريب من الذي قبله فإن الله وصف نفسه بالتعجب والضحك والفرح والتبشيش وأشباه هذه الصفات الخلقية ووصف نفسه ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يعني فيها وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى فخلصنا له منه أمرنا الحق أن نقول الله ثم نذرهم أي نترك ضميرهم وهو ضميرهم ضمير الجمع لا هو الذي هو ضمير الإفراد فإنا للفرد نخلص العبادة من الجمع فإن الجمع أظهر القسمة بين الله وبين عبده في العبادة وهي لله لا للمكلف من حيث صورته وإن كانت له من حيث جمعيته بالله فهنا رسخت قدم الشيخ أبي مدين رضي الله عنه ولم يتعد وغيره يتمم الآية فقال في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فوقف أبو مدين رضي الله عنه مع قوله وإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا وكل ما في العالم آياته فإنها دلائل عليه فأعرض عنهم فامتثل أمر الله فأعرض ووقف غيره مع أمره أن يتركهم في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فامتثلنا أمر الله وتركنا هم فكشف الغطاء عن أبصارنا فعلمنا على الشهود من الخائض اللاعب وما هو هذا الجمع الذي أظهره ضمير لفظة هم في قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وقد تقدم أنه ما ثم أثر إلا للأسماء الإلهية فثبت الجمع لله بأسمائه وثبت التوحيد بهويته فما ثم جمع ولا واحد *** سوى الحق فاشهد وذر من أمر كما قال في خوضه لاعبا *** لحكم القضاء وحكم القدر فما ثم فيما ترى لاعب *** سوى من يصرف هذي الصور فتبصره وهو يلهو بها *** كما شاءه حين يقضي الوطر هي الصولجان وميدانها *** وجودي لتصريف هذي الكور تجول الخيول بميدانها *** مراكب أرواحها في البشر وهم في الركوب على ظهرها *** وإن سلموا فوق متن الخطر فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنَّ الله قَتَلَهُمْ فهو القاتل وإن لم يرد هذا الاسم وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى فهو الرامي بالصورة المحمدية وإن لم يرد هذا الاسم تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ من سِجِّيلٍ في صورة طير وإن لم يرد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وهو الواقي وإن لم يرد والسرابيل اسم فهذا من الخوض فاعلم به *** لتعلم من ذلك الخائض وأبرم وما أنت أبرمته *** وكن ناقضا فهو الناقض وقل للذي يجبن انهض به *** فتحمد نهوضك يا ناهض فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكنه *** هو القاتل الفارس الفارض ليس مسمى اللعب باللعب على طريق الذم فإن اللعب مفرحة النفوس إلا أن الحق جعل لهذا اللعب مواطن فإذا تعدى العبد بلعبه تلك المواطن تعلق به الذم لا من كونه لعبا بل من كونه في ذلك الموطن ثم لتعلم إن الأمور تختلف بالقصد وإن اجتمعت في الصورة وقد بينا هذا المعنى فيما جبل عليه الإنسان في أصل خلقه من البخل والجبن والحرص والشرة وهي في العامة خلق مذمومة عرفا فبين الحق لها مصارف تحمد فيه فلو لا أنها قابلة للحمد بالذات ما حمدت في المصارف الإلهية التي عين لها الحق واللعب منها وقد أمرنا الحق أن نذر الخائض يلعب في خوضه وقد أمرنا بالنصح وتغيير المنكر بالمعروف وهو أن نبين وجه المعروف في المنكر فنزيل عنه اسم المنكر كما هو في نفس الأمر معروف فإنه ما في الوجود من يقع عليه نعت النكرة فإن كل شخص قد عينته شخصيته فأين المنكور فإذا فهمت مقالتي فافرح بها *** فالقول قول الله في المخلوق إذ كان من فهم الذي قد قلته *** من حكمة أدى إلي حقوقي هذا ما أنتجه المقال فكيف يكون ما ينتجه العمل فإن الله ما أمرنا إلا أن نقول الله ونترك كل حرف بما عنده فارحا ما كلفني غير ذلك فقال قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ عن بصيرة فإنهم بين أن يحمدوا ذلك الخوض أو يذموه عقدا فإن حمدوه فقد قلنا إنه تعالى عند كل معتقد وإن وجدوه في تصور من تصوره لا يزول بزوال تصور من تصوره إلى تصور آخر بل يكون له أيضا وجود في ذلك التصور الآخر كما يتحول يوم القيامة في التجلي من صورة إلى صورة وما زالت عنه تلك الصورة التي تحول عنها لأن الذي كانت معتقده فيها يراه فما هو إلا كشف منه تعالى عن عين هذا الذي يدركها لا غير فهم على بصيرة وإن ذموه فهم الذين تحول في حقهم إلى الصورة التي تحول إليها بعلامتهم فهم في ذمهم على بصيرة لأنه لذلك خلقهم كما تعبد كل مجتهد بما أداه إليه اجتهاده وحرم عليه إن يعبده باجتهاد غيره إذا كان من أهل الاجتهاد سواء فالمقلد مطلق فيما يجيء به المجتهدون ويختار ما شاء فله الاتساع في الشرع وليس للمجتهد ذلك فإنه مقيد بدليله وإن |