الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى حال قطب كان منزله (وفى ذلك فليتنافس المتنافسون (ولمثل هذا فليعمل العاملون) | |
|
بالك وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وتأدب بآداب الحق الذي هو عليها فإن العبد إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يصدقه ربه فيقول الرب لا حول ولا قوة إلا بي ولم يتعرض أن يقول لا حول ولا قوة إلا بك يا عبدي فإن هذه الكلمة لا تظهر من قائلها إلا بقائلها ولكن لما علم تعالى أن الإنسان الحيوان شارك الإنسان الكامل بالصورة الإنسانية علم أنه إذا قال الحق لا حول ولا قوة إلا بك طردها الإنسان الحيوان في غير موطنها فأساء الأدب والإنسان الكامل لا يفعل مثل هذا فراعى الحق الحرمة ليتعلم الكامل فهي مسألة تعلم وتعتقد ولا يفوه بها ناطق ولا تجري على لسان عبد مختص إلا في بيان العلم ليعلم الأمر على ما هو عليه فإن الله أخذ العهد على العلماء أن يعلموا من لا يعلم ما علمهم الله ومما علمهم الأدب فلا يضعون الحكمة إلا في أهلها هذا من شأنهم رضي الله عنهم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب السابع والسبعون وأربعمائة في حال قطب كان منزله وفي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ولِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ»الشخص مستدرج والصدر مشروح *** والكنز مستخرج والباب مفتوح أين الأوائل لا كانوا ولا سلفوا *** العقل يقبل ما تأتي به الروح لكنهم حجبوا بالفكر فاعتمدوا *** عليه والعلم موهوب وممنوح ما فيه مكتسب إن كنت ذا نصف *** فليس للعقل تعديل وتجريح العدل والجرح شرع الله جاء به *** ميزانه فبدا نقص وترجيح العقل أفقر خلق الله فاعتبروا *** فإنه خلف باب الفكر مطروح لو لا إلا له ولو لا ما حباه به *** من القوي لم يقم بالعقل تسريح إن العقول قيود إن وثقت بها *** خسرت فافهم فقولي فيه تلويح ميزان شرعك لا تبرح تزين به *** فإن رتبته عدل وتصحيح إن التنافس في علم يقوم به *** صدر بنور شهود الحق مشروح هذا التنافس لا أبغي به بدلا *** له من الذكر قدوس وسبوح لمثل ذا يعمل العمال ليس لهم *** في غير ذلك تحسين وتقبيح [أن كل ما سوى الله حجاب عن الله]قال الله تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وموجب الفرح المناسبة ولما علمنا إن الإنسان مجموع ما عند الله علمنا أنه ما عند الله أمر إلا وله إليه نسبة فله منه مناسب فالعالم لا يرمي بشيء من الوجود وإنما يبرز إليه ما يناسبه منه ولا يغلب عليه حال من الأحوال بل هو مع كل حال بما يناسبه كما هو الله معنا أينما كنا فإن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك بل هم بهذا القدر جاهلون وعنه عمون وهذا هو الذي أداهم إلى ذم الدنيا وما فيها والزهد في الآخرة وفي الكونين وفي كل ما سوى الله وانتقدوا على من شغل نفسه بمسمى هذه كلها وجعلهم في ذلك ما حكي عن الأكابر في هذا النوع وحملوا ألفاظهم على غير وجه ما تعطيه الحقيقة ورأوا أن كل ما سوى الله حجاب عن الله فأرادوا هتك هذا الحجاب فلم يقدروا عليه إلا بالزهد فيه وسأبين هذا الفن في هذا الباب بيانا شافيا وكون الحق كل يوم في شأن الخلق وكون الجنة وهي دار القربة ومحل الرؤية هي دار الشهوات وعموم اللذات ولو كانت حجابا لكان الزهد والحجاب فيها وكذلك الدار الدنيا فأقول إن الله خلق أجناس الخلق وأنواعه وما أبرز من أشخاصه لننظر فيه نظرا يوصلنا إلى العلم بخالقه فما خلقه لنزهد فيه فوجب علينا الانكباب عليه والمثابرة والمحبة فيه لأنه طريق النظر الموصل إلى الحق فمن زهد في الدليل فقد زهد في المدلول وخَسِرَ الدُّنْيا والْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ وجهل حكمة الله في العالم وجهل الحق وكان من الخاسرين الذين فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ فالرجل كل الرجل من ظهر بصورة الحق في عبودة محضة فأعطى كل ذي حق حقه ويبدأ بحق نفسه فإنها أقرب إليه من كل من توجه له عليه حق من المخلوقين وحق الله أحق بالقضاء وحق الله عليه إيصال كل حق إلى من يستحقه ولِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ إذ ولا بد من إضافة العمل إلينا فإن الله أضاف الأعمال إلينا وعين لنا محالها وأمكنتها وأزمنتها وأحوالها وأمرنا بها وجوبا وندبا وتخييرا كما أنه نهانا عز وجل عن أعمال معينة عين لنا محالها وأماكنها وأزمانها وأحوالها تحريما وتنزيها وجعل لذلك كله جزاء بحساب وبغير حساب من أمور ملذة وأمور مؤلمة دنيا وآخرة وخلقنا وخلق فينا من يطلب الجزاء الملذ وينفر بالطبع عن الجزاء المؤلم وجعل لي وعلي حقا في رعيتى إذ خلق لي نفسا ناطقة مدبرة عاقلة مفكرة مستعدة لقبول جميع ما كلفها به وهي محل خطابه المقصودة بتكليفه وامتثال أوامره ونواهيه والوقوف عند حدوده ومراسمه حيث حد لها ورسم في حق الحق وحق نفسه وحق غيره فيطلبه أصحاب الحقوق بحقوقهم نطقا وحالا ظاهرا وباطنا فيطلبه السمع بحقه والبصر واللسان واليدان والبطن والفرج والقدمان والقلب والعقل والفكر والنفس النباتية والحيوانية والغصبية والشهوانية والحرص والأمل والخوف والرجاء والإسلام والايمان والإحسان وأمثال هؤلاء من عالمه المتصل به وأمره الحق أن لا يغفل عن أحد من هؤلاء أولا ويصرفهم في المواطن التي عين له الحق وجعل هذه القوي كلها متوجهة على هذه النفس الناطقة بطلب حقوقها وجعلها كلها ناطقة بتسبيح الله تعالى جعلا ذاتيا لا تنفك عنه وجعل هذه الحقوق التي توجهت لها على النفس الناطقة الحاكمة على الجماعة ثابتة الحق جزاء لما هي عليه من تسبيح الله بحمده دنيا وآخرة وما منهم من يخالف أمر الله اختيارا وإنه إذا وقعت المخالفة منهم فجبرا يجبرهم على ذلك الوالي عليهم الذي أمروا بالسمع والطاعة له فإن جار فلهم وعليه وإن عدل فلهم وله ولم يعط الله هؤلاء الرعايا الذين ذكرناهم المتصلين به قوة الامتناع مما يجبرهم على فعله بخلاف ما خرج عنهم ممن له أمر فيهم ثم إن الله نعت لهم الجزاء الحسي وأشهدهم إياه في الحياة الدنيا بضرب مثال من نعيم الحياة الدنيا وبالوعد بذلك في الآخرة ومنهم من أشهده ذلك في الأخرى وهو في الحياة الدنيا مشاهدة عين فرأى ما وقع له برؤيته من الالتذاذ ما لا يقدر قدره وما التذ به إلا من يطلب ذلك من رعيته فأخذ يسأله حقه من ذلك وأن لا يمنعه وفي مثل هذا فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ وأي نفاسة أعظم من هذا فالعارف المكمل المعرفة يعلم أن فيه من يطلب مشاهدة ربه ومعرفته الفكرية والشهودية فتعين عليه إن يؤدي إليهم حقهم من ذلك وعلم أن فيه من يطلب المأكل الشهي الذي يلائم مزاجه والمشرب والمنكح والمركب والملبس والسماع والنعيم الحسي المحسوس فتعين عليه أيضا أن يؤدي إليهم حقوقهم من ذلك التي عين لهم الحق ومن كان هذا حاله كيف يصح له أن يزهد في شيء من الموجودات وما خلقها الله إلا له إلا أنه مفتقر إلى علم ما هو له وما هو لغيره لئلا يقول كل شيء هو له فلا ينظر من الوجوه الحسان إلا ما يعلم أنه له وما يعلم أنه لغيره يكف بصره ويغضه عنه فإنه محجور عليه ما هو لغيره فهذا حظه من الورع والاجتناب والزهد إنما متعلقة الأولوية بخلاف الورع وكل ترك فأما الأولوية فينظر في الموطن ويعمل بمقتضاه ومقتضاه قد عينه له الحق بما أعلمه به بلسان الشارع فسموا من طريق الأخذ بالأولوية زهادا حيث أخذوا بها فإن لهم تناول ذلك في الحياة الدنيا فما فعلوا لأن الله خيرهم فما أوجبه عليهم ولا ندبهم إليه ولا حجر عليهم ولا كرهه فاعلم ذلك ثم إنه ينظر في هذا المخير فيه فلا يخلو حاله في تناوله أن يحول بينه هذا التناول وبين المقام إلا على الذي رجحه له أو لا يحول فإن حال بينه وبينه تعين عليه بحكم العقل الصحيح السليم تركه والزهد فيه وإن كان عَلى بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ إن ذلك لا يقدح ولا يحول بينه وبين المرتبة العليا من ذلك فلا فائدة لتركه كما قال لنبيه سليمان عليه السلام هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ولا تكون ممن تلبس عليه الأمور فيتحيل أنه بزهده فيما هو حق لشخص ما من رعيته ينال حظ ما يطلبه به منه شخص آخر من رعيته فإن ذلك عين الجهل فإن تلك الحقيقة تقول له ما هذا عين الحق لي فالأولى بالعبد الذي كلفه الله تدبير نفسه وولاة أن يعلم فإذا علم استعمله علمه حتى يكون بحكم علمه ولا يستعمل هو العلم فإنه إن استعمل علمه كان علمه بحكمه فوقتا يعمل به ووقتا يتركه أي يترك العمل به وما عمل الترك إلا بالعلم وإذا كان العلم يستعمله ويصرفه ويكون هو معمولا مستعملا للعلم حكم عليه جبرا على الصواب فوفى الحقوق أربابها ومثل هذا الإمام في العالم قليل ولذلك يقول ليس السخي من تسخي بماله وإنما السخي من تسخي بنفسه على العلم فكان تحت سلطان علمه هذا |


