الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة منازلة من رحم رحمناه ومن لم يرحم رحمناه ثم غضبنا عليه ونسيناه | |
|
فنفى إِذْ رَمَيْتَ فأثبت الرمي لمن نفاه عنه ثم لم يثبت على الإثبات بل أعقب الإثبات نفيا كما أعقب النفي إثباتا فقال ولكِنَّ الله رَمى فما أسرع ما نفى وما أسرع ما أثبت لعين واحدة فلهذا سميت هذه المنازلة المسلك السيال تشبيها بسيلان الماء الذي لا يثبت على شيء من مسلكه إلا قدر مروره عليه فقدم رجاله غير ثابتة على شيء بعينه لأن المقام يعطي ذلك وهو عين قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ومقدار اليوم الزمن الفرد وكذلك قوله تعالى ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ مع كونهم سمعوا فانظر إلى هذا الذم كيف أشبه غاية الحمد فيمن كان الحق سمعه وبصره فمن كان الحق سمعه فقد سمع ضرورة فلم يسمع إلا بربه فهو سامع لا بنفسه ولا يصح أن يكون محلا لهوية ربه فعينه وجود الحق والحكم للممكن فإن ذلك أثره ولَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ والوجود هو الخير فيتصفون بالوجود ولَوْ أَسْمَعَهُمْ إذ أوجدهم لَتَوَلَّوْا إلى ذواتهم فيعلمون أنهم ما سمعوا فكنى عنه بالإعراض لأن الحق هو السامع وهم له كالأذن لنا آلة نسمع بها أصوات المصوتين وكلام المتكلمين فهو المخاطب وهو المتكلم السامع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا بما قلنا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ فوحد الداعي بعد ذكر الاثنين فعلمنا إن الأمر واحد وما سمعنا متكلما إلا الرسول بالسماع الحسي وسمعنا كلام الحق بسمع الحق بالسمع المعنوي فالله والرسول اسمان للمتكلم فإن الكلام لله كما قال الله والمتكلم المشهود عين لسان محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله فليس عيني سواه *** فما أبيت إياه فمن يشاهد بعين *** الوجود يشهد إياه فنحن فيه سواء *** كما يراني أراه وقد ذكرناه جماع هذا الباب مختصرا كافيا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الثاني والتسعون وثلاثمائة في معرفة منازلة من رحم رحمناه ومن لم يرحم رحمناه ثم غضبنا عليه ونسيناه»من أراد الحق يطلبه *** في وجود الملك والملكوت كلمات الحق ليست سوى *** ما بدا من عالم عن ثبوت والذي في ليس معدنه *** في مقام نحن عنه سكوت كلما نلناه من كرم *** فهو المدعو بالرحموت والذي البرهان يظهر *** قائم في برزخ الجبروت ظاهر الأكوان باطنها *** رهبوت عينه رغبوت فمال الكون أجمعه *** لمقر العفو والرحموت [الرحم شجنة من الرحمن]قال الله تعالى في افتتاح كلامه الجامع بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وأكد هذا العالم بأن نعته بأنه غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضَّالِّينَ وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الثابت عنه الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في حديث الشفاعة إن الله يقول شفعت الملائكة وشفع النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين اعلم أن العالم لما أقام الله نشأته على التربيع وأعني بالعالم هنا الإنس والجان الذين يعمرون الدارين الجنة والنار جعل في أم الكتاب الذي يقضي على جميع ما يتضمنه العالم أربع رحمات لكل ربع من كل شخص شخص رحمة فضمن الآية الأولى من أم الكتاب وهي البسملة رحمتان وهما قوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وضمن الآية الثالثة منها أيضا رحمتين وهما قوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو رحمن بالرحمتين العامة وهي رحمة الامتنان وهو رحيم بالرحمة الخاصة وهي الواجبة في قوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآيات وقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وأما رحمة الامتنان فهي التي تنال من غير استحقاق بعمل وبرحمته الامتنان رحم الله من وفقه للعمل الصالح الذي أوجب له الرحمة الواجبة فبها ينال العاصي وأهل النار إزالة لعذاب عنهم وإن كانت مسكنهم ودارهم جهنم وهذه رحمة الامتنان قوله لنبيه صلَّى الله عليه وسلم فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ وهذا معنى قوله صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي الطريق الذي أنعمت بها عليهم وهي الرحمة التي أعطتهم التوفيق والهداية في دار التكليف وهي رحمة عناية فكانوا بذلك غير مغضوب عليهم ولا ضالين لما أعطاهم من الهداية فلم يحاروا يقول من غضب الله عليه امنن علينا بالرحمة التي مننت بها على أولئك ابتداء من غير استحقاق حتى وصفتهم بأنهم غير مغضوب عليهم إذ قد مننت عليهم بالهداية فأزالت الضلالة التي هي الحيرة عنهم فمن بالذي يزيل ما استحققناه من غضب الله فيرحمهم الله برحمة الامتنان وهي الرحمة التي في الآية الثالثة بالاسم الرحمن فيزيل عنهم العذاب ويعطيهم النعيم فيما هم فيه بالاسم الرحيم فليس في أم الكتاب آية غضب بل كلها رحمة وهي الحاكمة على كل آية في الكتاب لأنها الأم فسبقت رحمته غضبه وكيف لا يكون ذلك والنسب الذي بين العالم وبين الله إنما هو من الاسم الرحمن فجعل الرحم قطعة منه فلا تنتسب الرحم إلا إليه وما في العالم إلا من عنده رحمة بأمر ما لا بد من ذلك ولا يتمكن أن تعم رحمة المحدث رحمة القديم في العموم لأن الحق يعم علمه كل معلوم والحق لا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء فيرحم الخلق على قدر علمهم كما رحم الله على قدر علمه فكل من غضب من العالم وانتقم فقد رحم نفسه بذلك الانتقام فإنه شفاء له مما يجده من ألم الغضب وصدقة الإنسان على نفسه أفضل الصدقات فإذا رحم نفسه وزال الغضب أعقبته الرحمة وهي الندم الذي يجده الإنسان إذا عاقب أحدا ويقول لو شاء الله كان العفو عنه أحسن لا بد أن يقول ذلك إما دنيا وإما آخرة في انتقامه لنفسه لئلا يتخيل أن إقامة الحدود من هذا القبيل فإن إقامة الحدود شرع من عند الله ما للإنسان فيها تعمل فقد وصل الإنسان بهذا الفعل رحمه وإليه وصول الرحمة فلا بد أن ينال الخلق كلهم رحمة الله فمنهم العاجل والآجل لأنه ما ثم إلا من وصل رحمه فوصله الله من ذلك الوجه ومن قطع رحمه أي بعض رحمه لأن القطع لا يتمكن له أن يعم فإن عين قطع رحم خاص وصل رحم آخر له ففي قطعه وصل وما في وصله قطع فيشفع الموصول من الأرحام والشفاعة مقبولة ويقيم الوزن على المقطوع بالتعريف فإنه لا بد أن يكون أيضا ذلك المقطوع قد قطع رحما له فإذا طلب ممن قطع صلة الرحم عنه يقول له الحق كما آخذ لك آخذ منك ويعلمه بأنه أيضا قد قطع رحما له فيسأل الله العفو والتجاوز فيقول الله له فاعف أنت عن قاطع رحمه فيك حتى أعفو عنك فبالضرورة يقول قد عفوت لأن ذلك الموطن يطلب من الخائف طلب العفو فيعفو فيعفو الله عنه فتناله رحمة الله بعفو هذا ويوصل رحم آخر له فيشفع فيه وهذا معنى قول الله عز وجل يوم القيامة شفعت الملائكة وشفع النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين فيكون منه في عباده ما ذكرناه وأمثاله من كل ما يستدعي الرحمة فإن رحمة الله سبقت غضبه فهي إمام الغضب فلا يزال غضب الله يجري في شأوه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبيد المغضوب عليهم فتنبسط عليهم ويرجع الحكم لها فيهم والمدى الذي يعطيه الغضب هو ما بين الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الذي في البسملة وبين الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الذي بعد قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فالحمد لله رب العالمين هو المدى فأوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وانتهاؤه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وإنما كان الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عين المدى فإن في هذا المدى تظهر السراء والضراء ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بضراء ولا سراء في هذا المدى لأنه يعم السراء والضراء فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول في السراء الحمد لله المنعم المفضل وفي الضراء الحمد لله على كل حال فحمد الله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله عقيب قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فالعالم بين هذه الرحمة ورحمة البسملة بما هو عليه من محمود ومذموم وهذا شبيه بما جاء في سورة أ لم نشرح قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ثم إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ولقد أنشد بعضهم في هذا إذا ضاق بك الأمر *** ففكر في أ لم نشرح فعسر بين يسيرين *** إذا ذكرته فافرح لأنه سبحانه نكر اليسر وأدخل الألف واللام اللتين للعهد والتعريف على العسر أي هذا العسر الثاني هو عين الأول وليس ذلك في اليسر وهو تنبيه عجيب من الله لعباده ليقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله فإنه أرحم الراحمين فإنه إن لم يزد على عبيده في الرحمة بحكم ليس لهم فما يكون أرحم الراحمين وهو أرحم الراحمين بلا شك فو الله لا خاب من أحاطت به رحمة الله من جميع جهاته فاعلم ذلك وإذا صحت الحقائق فليقل الأخرق ما شاء فإن جماعة نازعونا في ذلك ولو لا إن رحمة الله بهذه المثابة من الشمول لكان القائلون بمثل هذا لا ينالهم رحمة الله أبدا فالله أسأله أن لا يلحقنا بالجاهلين فإنه ما ثم صفة ولا عتوبة أقبح من الجهل فإن الجهل مفتاح كل شر ولهذا قال لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فَلا تَكُونَنَّ من الْجاهِلِينَ خاطبه بمثل هذا الخطاب لحداثة سنه وقوة شبابه فقابله بخطاب قوي في النهي عن ذلك وقال تعالى لنوح عليه السلام لما لم يكن له قوة الشباب وكان قد شاخ وحصل في العمر الذي لا يزال فيه محترما مرفوقا به في العرف والعادة إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ من الْجاهِلِينَ فرفق به في الخطاب حين وعظه فإنه لا بد من الفرق بين خطاب الشباب وخطاب الشيوخ كما أنه لا بد من الفرق في الخطاب بين الأحوال كما نفرق نحن في الثناء على الله بالأحوال فنقول في خطاب السراء الحمد لله المنعم المفضل ونقول في الضراء الحمد لله على كل حال لاختلاف الباعث على الحمد علمنا ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بفعله فأما الرحماء من عباد الله بعباد الله بل بخلق الله مطلقا فإن الله يسرع إليهم بالرحمة عند ما يلقونه إذا رحموا الخلق لرحمة تقوم بنفوسهم بعطفهم على خلق الله فيرحمهم الله فإنها أعمالهم ترد عليهم كما ورد في الخبر فبرحمتهم رحمهم الله سبحانه فلا تحالف ولا تشاقق *** وكن صدوقا ولا تفارق فمن رحم خلق الله فإنما رحم نفسه ثم إن لله رحمة أخرى بهم زائدة على ما رحمهم به من أجل رحمتهم بخلق الله التي هي من أعمالهم وصورتها إن الراحم منا إذا رحم خلقا من خلق الله فلا يخلو إما أن تكون رحمته به إزالة ما يؤلم ذلك الخلق المرحوم خاصة أو يزيده مع ذلك إحسانا مثل من يخرج شخصا من السجن استحق العذاب وحال بينه وبين نزول العذاب به بشفاعة منه أو يكون هو الآخذ له ثم يعقبه بعد هذا الأمان إحسانا إليه بتولية أو مال أو خلع أو تقريب فذلك أمر آخر فإذا رحم الله عبدا بعلمه الذي رحم العبد به حيوانا مثله إما بإزالة عذاب أو أضاف إلى ذلك زيادة إحسان فإن الله إذا وفاه رحمة جزاء عمله كان ما كان فإن الله يزيده على ذلك كما زاد هذا العبد على ما ذكرنا أو يزيد ابتداء منة منه تعالى لذلك قال الراحمون يرحمهم الرحمن ولم يقل يرحمهم الرحيم لأنه رحمن الدنيا والآخرة والرحيم اختصاص الرحمة بالآخرة وأما قوله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء لأنكم تشاهدون أصحاب البلايا والزوايا وتتجاوزون عنهم فترحمونهم عن أمر الله بالرحمة التي تطلبها أحوالهم كل على حسب حاله يرحم وليس في السماء إلا الملائكة فترحمنا بالاستغفار وهو قوله تعالى ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ في الْأَرْضِ ثم قال أَلا إِنَّ الله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وأما قوله في هذا الباب ونسيناه في هذه المنازلة فهو حد نسيان ذلك الإنسان الله في الأشياء فما عاد عليه إلا نسيانه وأضافه الحق إليه فقال نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ أي تركوا حق الله فترك الله الحق الذي يستحقونه بأجرامهم فلم يؤاخذهم ولا آخذهم أخذ الأبد فغفر لهم ورحمهم وهذا يخالف ما فهمه علماء الرسوم فإنه من باب الإشارة لا من باب التفسير لأن الناسي هنا إذا لم ينسب إلا حق الله الذي أمره الله بإتيانه شرعا فقد نسي الله فإنه ما شرعه له إلا الله فترك حق الله فأظهر الله كرمه فيه فترك حقه ولم يكن حق مثل هذا إلا ما يستحقه وهو العقاب فعفا عنه تركا بترك مقولا بلفظ النسيان وأما نهيه تعالى إيانا أن نكون كَالَّذِينَ نَسُوا الله فنسيهم فهو صحيح فإنها وصية إلهية نهانا أن ننسى الله مثل ما نسوة هؤلاء لنقوم بحق الله ونقيم حق الله في الأشياء على نية صالحة وحضور مع الله فيجازينا الله جزاء استحقاق استحققناه بأعمالنا التي وفقنا الله لها والذين نسوا الله إنما ترك الله ما استحقوه من العقاب كما تركوا حق الله لا غير ثم إن أفضل عليهم أفضل عليهم منة منه ابتداء وإفضاله على العالمين المؤدين حقوق الله ليس منة فإذا زاد على ما يطلبه عملهم ذلك هو الامتنان كما نالوا ما استحقوا به هذا الثواب من طريق المنة فاعلم ذلك ألا ترى الله يقول في تمام هذه الآية لما قال ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ لم يقل إنهم هم الفاسقون بل قال إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ فابتدأ كلاما آخر ما فيه ضمير يعود على هؤلاء المذكورين وكل منافق فاسق لأنه خارج من كل باب له فيخرج للمؤمنين بصورة ما هم عليه ويخرج للكافرين بصورة ما هم عليه وقد تقدم في هذا الكتاب مرتبة المنافقين في المنازل فتنبه لما نبهتك عليه وكن من العالمين الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ... |


