Les révélations mecquoises: futuhat makkiyah

Parcourir les Titres Section I: les Connaissances (Maarif) Section II: les Interactions (Muamalat) Section IV: les Demeures (Manazil)
Présentations Section V: les Controverses (Munazalat) Section III: les États (Ahwal) Section VI : les Stations (Maqamat du Pôle)
Première Partie Deuxième Partie Troisième Partie Quatrième Partie

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة مقام المعرفة

ليتميز هذا للشخص بظهور من ورثه من الأنبياء عمن ورث غيره فلو تجلى في صورة محمدية التبس عليه الشخص الذي ورث محمدا صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيما اختص به دون غيره من الرسل الملك‏

[في من يتجلى له عند الاحتضار صورة الملك‏]

(و منهم) من يتجلى له عند الاحتضار صورة الملك الذي شاركه في المقام فإنهم الصَّافُّونَ ومنهم الْمُسَبِّحُونَ ومنهم التالون إلى ما هم عليه من المقامات فينزل إليه الملك صاحب ذلك المقام مؤنسا وجليسا تستنزله عليه تلك المناسبة فربما يسميه عند الموت ويرى من المحتضر تهمما به وبشاشة وفرحا وسرورا وما وصفنا في هذا الاحتضار إلا أحوال الأولياء الخارجين عن حكم التلبيس ما ذكرنا من أحوال العامة من المؤمنين فإن ذلك مذاق آخر وللأولياء هذا الذي نذكره خاصة فلذلك ما نتعرض لما يطرأ من المحتضر من العامة مما يكره رؤيته ويتمعر وجهه ليس ذلك مطلوبنا ولا يرفع بذلك رأسا أهل الله وإن تعرض لهم فإنهم عارفون بما يرونه‏

(أسماء الأفعال)

ومنهم من يتجلى له عند الموت هجيره من الأسماء الإلهية فإن كان من أسماء الأفعال كالخالق بمعنى الموجد والباري والمصور والرزاق والمحيي وكل اسم يطلب فعلا فهو بحسب ما كان عليه في معاملته معه ظهر له بما يناسب ذلك العمل فيراه في أحسن صورة فيقول له من أنت يرحمك الله فيقول هجيرك وسيأتي ذكر الهجيرات من هذا الكتاب في باب أحوال الأقطاب من آخره إن شاء الله‏

(أسماء الصفات)

فإن كان هجيره كل اسم يستدعي صفة كمال كالحي والعالم والقادر والسميع والبصير والمريد فإن هذه الأسماء كلها أسماء المراقبة والحياء فهم أيضا بحسب ما كانوا في حال حياتهم عند هذه الأذكار من طهارة النفوس عن الأعراض التي تتخلل هذه النشأة الإنسانية التي لا يمكن الانفكاك عنها وليس فها دواء إلا الحضور الدائم في مشاهدة الوجه الإلهي الذي له في كل كون عرضي وغير عرضي‏

(أسماء النعوت)

فإن كان هجيره أسماء النعوت وهي أسماء النسب كالأول والآخر وما جرى هذا المجرى فهو فيها بحسب ما يقوم به من علم الإضافات في ذكره ربه بمثل هذه الأسماء فيعرفه إن لها عينا وجوديا كمثبتي الصفات أو لا عين لها

(أسماء التنزيه‏

ومنهم) من يتجلى له عند الاحتضار أسماء التنزيه كالغني فإن كان مثل هذا الاسم هجيره في مدة عمره فهو فيه بحسب شهوده هل يذكره بكونه غنيا عن كذا ويذكره غنيا حميدا من غير أن يخطر له عن كذا وكذا فيما يماثله من أسماء التنزيه سواء

(أسماء الذات‏

ومنهم) من كان هجيره الاسم الله أو هو والهو أرفع الأذكار عندهم كأبي حامد ومنهم من يرى أنت أتم وهو الذي ارتضاه الكتاني مثل قوله يا حي يا قيوم يا لا إله إلا أنت ومنهم من يرى أنا أتم وهو رأى أبي يزيد فإذا احتضر من هذا ذكره فهو بحسب اعتقاده في ذلك من نسبة تلك الكناية من توهم تحديد وتجريد عن تحديد ومنهم من يرى أن التجريد والتنزيه تحديد ومن المحال أن يعقل أمر من غير تحديد أصلا فإنه لا يخلو إما أن يعقل داخلا أو خارجا أو لا داخل ولا خارج أو هو عين الأمر لا غيره وكل هذا تحديد فإن كل مرتبة قد تميزت عن غيرها بذاتها ولا معنى للحد إلا هذا وهذا القدر كاف انتهى الجزء التاسع ومائة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(الباب السابع والسبعون ومائة في معرفة مقام المعرفة)

من ارتقى في درج المعرفة *** رأى الذي في نفسه من صفه‏

لأنها دلت على واحد *** للفرق بين العلم والمعرفة

لها وجود في وجود الذي *** أرسله الحق وما كلفه‏

فهو إمام الوقت في حاله *** ويشتهي الواقف أن يعرفه‏

تجري على الحكمة أحكامه *** في الرتبة العالية المشرفه‏

[أن المعرفة نعت إلهي وهي أحدية المكانة لا تطلب إلا الواحد]

اعلم أن المعرفة نعت إلهي لا عين لها في الأسماء الإلهية من لفظها وهي أحدية المكانة لا تطلب إلا الواحد والمعرفة عند القوم محجة فكل علم لا يحصل إلا عن عمل وتقوى وسلوك فهو معرفة لأنه عن كشف محقق لا تدخله الشبه بخلاف‏

العلم الحاصل عن النظر الفكري لا يسلم أبدا من دخول الشبه عليه والحيرة فيه والقدح في الأمر الموصل إليه‏

[لا يصح العلم لأحد إلا لمن عرف الأشياء بذاته‏]

واعلم أنه لا يصح العلم لأحد إلا لمن عرف الأشياء بذاته وكل من عرف شيئا بأمر زائد على ذاته فهو مقلد لذلك الزائد فيما أعطاه وما في الوجود من علم الأشياء بذاته إلا واحد وكل ما سوى ذلك الواحد فعلمه بالأشياء وغير الأشياء تقليد وإذا ثبت أنه لا يصح فيما سوى الله العلم بشي‏ء إلا عن تقليد فلنقلد الله ولا سيما في العلم به وإنما قلنا لا يصح العلم بأمر ما فيما سوى الله إلا بالتقليد فإن الإنسان لا يعلم شيئا إلا بقوة ما من قواه التي أعطاه الله وهي الحواس والعقل فالإنسان لا بد أن يقلد حسه فيما يعطيه وقد يغلط وقد يوافق الأمر على ما هو عليه في نفسه أو يقلد عقله فيما يعطيه من ضرورة أو نظر والعقل يقلد الفكر ومنه صحيح وفاسد فيكون علمه بالأمور بالاتفاق فما ثم إلا تقليد وإذا كان الأمر على ما قلناه فينبغي للعاقل إذا أراد أن يعرف الله فليقلده فيما أخبر به عن نفسه في كتبه وعلى ألسنة رسله وإذا أراد أن يعرف الأشياء فلا يعرفها بما تعطيه قواه وليسع بكثرة الطاعات حتى يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه فيعرف الأمور كلها بالله ويعرف الله بالله إذ ولا بد من التقليد وإذا عرفت الله بالله والأمور كلها بالله لم يدخل عليك في ذلك جهل ولا شبهة ولا شك ولا ريب فقد نبهتك على أمر ما طرق سمعك فإن العقلاء من أهل النظر يتخيلون أنهم علماء بما أعطاهم النظر والحس والعقل وهم في مقام التقليد لهم وما من قوة إلا ولها غلط قد علموه ومع هذا غالطوا أنفسهم وفرقوا بين ما يغلط فيه الحس والعقل والفكر وبين ما لا يغلط فيه وما يدريهم لعل الذي جعلوه غلطا يكون صحيحا ولا مزيل لهذا الداء العضال إلا من يكون علمه بكل معلوم بالله لا بغيره وهو سبحانه عالم بذاته لا بأمر زائد فلا بد أن تكون أنت عالما بما يعلمه به سبحانه لأنك قلدت من يعلم ولا يجهل ولا يقلد في علمه وكل من يقلد سوى الله فإنه قلد من يدخله الغلط وتكون إصابته بالاتفاق فإن قيل لنا ومن أين علمت هذا وربما دخل لك الغلط وما تشعر به في هذه التقسيمات وأنت فيها مقلد لمن يغلط وهو العقل والفكر قلنا صدقت ولكن لما لم نر إلا التقليد ترجح عندنا أن نقلد هذا المسمى برسول والمسمى بأنه كلام الله وعلمنا عليه تقليدا حتى كان الحق سمعنا وبصرنا فعلمنا الأشياء بالله وعرفنا هذه التقاسيم بالله فكان إصابتنا في تقليد هذا بالاتفاق لأنا قلنا مهما أصاب العقل أو شي‏ء من القوي أمرا ما على ما هو عليه في نفسه إنما يكون بالاتفاق فما قلنا إنه يخطئ في كل حال وإنما قلنا لا نعلم خطأه من إصابته فلما كان الحق جميع قواه وعلم الأمور بالله عند ذلك علم الإصابة في القوي من الغلط وهذا الذي ذهبنا إليه ما يقدر أحد على إنكاره فإنه يجده من نفسه فإذا تقرر هذا فاشتغل بامتثال ما أمرك الله به من العمل بطاعته ومراقبة قلبك فيما يخطر فيه والحياء من الله والوقوف عند حدوده والانفراد به وإيثار جنابه حتى يكون الحق جميع قواك فتكون على بصيرة من أمرك وقد نصحتك إذ قد رأينا الحق أخبر عن نفسه بأمور تردها الأدلة العقلية والأفكار الصحيحة مع إقامة أدلتها على تصديق المخبر ولزوم الايمان بها فقلد ربك إذ ولا بد من التقليد ولا تقلد عقلك في تأويله فإن عقلك قد أجمع معك على التقليد بصحة هذا القول أنه عن الله فما لك منازع منك يقدح فيما عندك فلا تقلد عقلك في التأويل واصرف علمه إلى الله قائله ثم اعمل حتى تنزل في العلم به كهو فحينئذ تكون عارفا وتلك المعرفة المطلوبة والعلم الصحيح الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ وبعد أن تقرر هذا فلنرجع إلى الطريقة المعهودة في هذا الباب التي بأيدي الناس من أهله فإن هذه الطريقة التي نبهناك عليها طريقة غريبة فنقول إن المحاسبي ذكر أن المعرفة هي العلم بأربعة أشياء الله والنفس والدنيا والشيطان والذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن‏

المعرفة بالله ما لها طريق إلا المعرفة بالنفس‏

فقال من عرف نفسه عرف ربه‏

وقال أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه‏

فجعلك دليلا أي جعل معرفتك بك دليلا على معرفتك به فأما بطريقة ما وصفك بما وصف به نفسه من ذات وصفات وجعله إياك خليفة نائبا عنه في أرضه وإما بما أنت عليه من الافتقار إليه في وجودك وأما الأمران معا لا بد من ذلك ورأينا الله يقول في العلم بالله المعبر عنه بالمعرفة سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فأحالنا الحق على الآفاق وهو ما خرج عنا وعلى أنفسنا وهو ما نحن عليه وبه فإذا وقفنا على الأمرين معا حينئذ عرفناه وتبين لنا أنه الحق فدلالة الله أتم وذلك إنا إذا نظرنا في نفوسنا ابتداء لم نعلم هل يعطي النظر فيما خرج عنا من العالم وهو

قوله في الْآفاقِ علما بالله ما لا تعطيه نفوسنا أو كل شي‏ء في نفوسنا فإذا نظرنا في نفوسنا حصل لنا من العلم به ما يحصل للناظر في الآفاق فأما الشارع فعلم إن النفس جامعة لحقائق العالم فجمعك عليك حرصا منه كما قال فيه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حتى تقرب الدلالة فتفوز معجلا بالعلم بالله فتسعد به وأما الحق فذكر الآفاق حذرا عليك مما ذكرناه أن تتخيل أنه قد بقي في الآفاق ما يعطي من العلم بالله ما لا تعطيه نفسك فأحالك على الآفاق فإذا عرفت عين الدلالة منه على الله نظرت في نفسك فوجدت ذلك بعينه الذي أعطاك النظر في الآفاق أعطاك النظر في نفسك من العلم بالله فلم تبق لك شبهة تدخل عليك لأنه ما ثم إلا الله وأنت وما خرج عنك وهو العالم ثم علمك كيف تنظر في العالم فقال أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ... أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآية أَ ولَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والْأَرْضِ وكل آية طلب منك فيها النظر في الآيات كما قال إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويَتَفَكَّرُونَ ويَسْمَعُونَ ويَفْقَهُونَ ولِلْعالِمِينَ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولِأُولِي النُّهى‏ ولِأُولِي الْأَلْبابِ لما علم أنه سبحانه خلق الخلق أطوارا فعدد الطرق الموصلة إلى العلم به إذ كل طور لا يتعدى منزلته بما ركب الله فيه فالرسول عليه السلام ما أحالك إلا على نفسك لما علم أنه سيكون الحق قواك فتعلمه به لا بغيره فإنه العزيز والعزيز هو المنيع الحمى ومن ظفر به غيره فليس بمنيع الحمى فليس بعزيز فلهذا كان الحق قواك فإذا علمته وظفرت به يكون ما علمه ولا ظفر به إلا هو فلا يزول عنه نعت العزة وهكذا هو الأمر فقد سد باب العلم به إلا منه ولا بد ولهذا ينزهه العقل ويرفع المناسبة من جميع الوجوه ويجي‏ء الحق فيصدقه في ذلك ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ يقول لنا صدق العقل فإنه أعطى ما في قوته لا يعلم غير ذلك فإني أعطيت كل شي‏ء خلقه والعقل من جملة الأشياء فقد أعطيناه خلقه وتمم الآية فقال ثُمَّ هَدى‏ أي بين فبين سبحانه أمرا لم يعطه العقل ولا قوة من القوي فذكر لنفسه أحكاما هو عليها لا يقبلها العقل إلا إيمانا أو بتأويل يردها تحت إحاطته لا بد من ذلك فطريقة السلامة لمن لم يكن على بصيرة من الله أن لا يتأول ويسلم ذلك إلى الله على علمه فيه هذه طريقة النجاة فالحق سبحانه يصدق كل قوة فيما تعطيه فإنها وفت بجميع ما أعطاها الله وبقي للحق من جانب الحق ذوق آخر يعلمه أهل الله وهم أهل القرآن أهل الله وخاصته فيعتقدون فيه كل معتقد إذ لا يخلو منه تعالى وجه في كل شي‏ء هو حق ذلك الوجه ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان إلها ولكان العالم يستقل بنفسه دونه وهذا محال فخلو وجه الحق عن شي‏ء من العالم محال وهذه المعرفة عزيزة المنال فإنها تؤدي إلى رفع الخطاء المطلق في العالم ولا يرتفع الخطاء الإضافي وهو المنسوب إلى مقابله فهو خطأ بالتقابل وليس بخطإ مع عدم التقابل فالكامل من أهل الله من نظر في كل أمر على حدة حتى يرى خلقه الذي أعطاه الله ووفاه إياه ثم يرى ما بين الله لعباده مما خرج عن خلق كل شي‏ء فينزل موضع البيان من قوله ثُمَّ هَدى‏ موضعه وينزل كل خلق على ما أعطاه خالقه فمثل هذا لا يخطئ ولا يخطئ بإطلاق في الأصول والفروع فكل مجتهد مصيب إن عقلت في الأصول والفروع وقد قيل بذلك وبعد أن تقرر ما ذكرناه فلنقل إن المعرفة في طريقنا عندنا لما نظرنا في ذلك فوجدناها منحصرة في العلم بسبعة أشياء وهو الطريق التي سلكت عليه الخاصة من عباد الله الواحد علم الحقائق وهو العلم بالأسماء الإلهية الثاني العلم بتجلى الحق في الأشياء الثالث العلم بخطاب الحق عباده المكلفين بالسنة الشرائع الرابع علم الكمال والنقص في الوجود الخامس علم الإنسان نفسه من جهة حقائقه السادس علم الخيال وعالمه المتصل والمنفصل السابع علم الأدوية والعلل فمن عرف هذه السبع المسائل فقد حصل المسمى معرفة ويندرج في هذا ما قاله المحاسبي وغيره في المعرفة

(العلم الأول) وهو العلم بالحقائق‏

وهو العلم بالأسماء الإلهية وهي على أربعة أقسام‏

[القسم الأول‏]

قسم يدل على الذات وهو الاسم العلم الذي لا يفهم منه سوى ذات المسمى لا يدل على مدح ولا ذم وهذا قسم لم نجده في الأسماء الواردة علينا في كتابه ولا على لسان الشارع إلا الاسم الله وهو اسم مختلف فيه وقسم ثان وهو يدل على الصفات وهو على قسمين قسم يدل على أعيان صفات معقولة يمكن وجودها وقسم يدل على صفات إضافية لا وجود لها في الأعيان وقسم ثالث وهو يدل على صفات أفعال وهو على قسمين صريح ومضمن وقسم رابع مشترك يدل بوجه على صفة فعل مثلا وبوجه على صفة تنزيه أما علم الأسماء الإلهية وهو العلم الأول من المعرفة فهو العلم بما تدل‏

عليه مما جاءت له وهو في هذه الأقسام التي قسمناها حتى نبينها في هذا الباب إن شاء الله والعلم أيضا بخواصها والكلام فيه محجور على أهل الله العارفين بذلك لما في ذلك من كشف أسرار وهتك أستار وتأبى الغيرة الإلهية إظهار ذلك بل أهل الله مع معرفتهم بذلك لا يستعملونها مع الله والدليل على ذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أعلم الناس بها وبإجابة الله تعالى من دعاه بها لما هي عليه من الخاصية في علم الله بها وقد دعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في أمته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه ذلك ولم يجبه وإن كان قد عوضه فمن باب آخر وهو أن كل دعاء لا يرد جملة واحدة وإن عوقب صاحبه ولكن يرد ما دعا به خاصة إذا دعا فيما لا يقتضيه خاصية ذلك الاسم وأجاب دعاء بلعام بن باعورا في موسى عليه السلام وقومه لما دعاه بالاسم الخاص بذلك وهو قوله آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ فلم يكن له من الاسم إلا حروفه فنطق بها ولهذا قال فَانْسَلَخَ مِنْها فكانت في ظاهره كالثوب على لابسه وكما تنسلخ الحية من جلدها ولو كان في باطنه لمنعه الحياء والمقام من الدعاء على نبي من الأنبياء وأجيب لخاص الاسم وعوقب وجعل مثله كَمَثَلِ الْكَلْبِ ونسي حروف ذلك الاسم فلو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يدعو بالاسم الخاص ويستعمله لأجابه الله في عين ما سأل مع علمنا بأنه علم علم الأولين والآخرين وأنه أعلم الناس فعلمنا إن دعاءه لم يكن بخاص الاسم وتأدب وسبب ذلك الأدب الإلهي فإنه لا يعلم ما في نفس الله كما قال عيسى عليه السلام تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ فلعل ذلك الذي يدعوه فيه ما له فيه خيرة فعدلوا عليه السلام إلى الدعاء فيما يريدون من الله بغير الاسم الخاص بذلك المراد فإن كان لله في علمه فيه رضي وللداعي فيه خيرة أجاب في عين ما سئل فيه وإن لم يكن عوض الداعي درجات أو تكفيرا في سيئات ومعلوم عند الخاص والعام إن ثم اسما عاما يسمى الاسم الأعظم وهو في آية الكرسي وأول سورة آل عمران ومع علم النبي عليه السلام به ما دعا به في ما ذكرناه ولو دعا به أجابه الله في عين ما سأل فيه وعلم الله في الأشياء لا يبطل فلهذا أدب الله أهله فهذا من علم الأسماء الإلهية ومن الأسماء ما هي حروف مركبة ومنها ما هي كلمات مركبة مثل الرحمن الرحيم هو اسم مركب كبعلبك والذي هو حروف مركبة كالرحمن وحده‏

[خواص الحروف‏]

واعلم أن الحروف كالطبائع وكالعقاقير بل كالأشياء كلها لها خواص بانفرادها ولها خواص بتركيبها وليس خواصها بالتركيب لأعيانها ولكن الخاصية لاحدية الجمعية فافهم ذلك حتى لا يكون الفاعل في العالم إلا الواحد لأنه دليل على توحيد الإله فكما أنه واحد لا شريك له في فعله الأشياء كذلك سرت الحقيقة في الأفعال المنسوبة إلى الأكوان إنها لا تصدر منها إذا كانت مركبة إلا لأحدية ذلك التركيب وكل جزء منها على انفراده له خاصية تناقض خاصية المجموع فإذا اجتمع اثنان فصاعدا أعطى أثرا لا يكون لكل جزء من ذلك المجموع على انفراده كسواد المداد حدث السواد عن المجموع لأحدية الجمع وكل جزء على انفراد لا يعطي ذلك السواد وهكذا تركيب الكلمات كتركيب الحروف ومن هنا تعلم أن الحرف الواحد له عمل ولكن بالقصد كما عمل ش في لغة العرب عند السامع إن بشي ثوبه وهو حرف واحد وق أن يقي نفسه من كذا وع إن يعي ما سمعه مع كونه حرفا واحدا وأما كن فهو من فعل الكلمة الواحدة لا من فعل الحروف وخاصيته في الإيجاد وله شروط مع هذا يتأدب هل الله مع الله فجعلوا بدله في الفعل بسم الله وقد استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في غزوة تبوك وما سمع منه قبل ذلك ولا بعده وإنما أراد إعلام الناس من علماء الصحابة بمثل هذه الأسرار بذلك فالذي نذكر في هذا الباب العلم بما ذكرناه من أقسام الأسماء الإلهية أسماء الذات التي هي كالأعلام فلا أعرف بيد العالم في كتاب ولا سنة منها شيئا إلا الاسم الله في مذهب من لا يرى أنه مشتق من شي‏ء ثم إنه مع الاشتقاق الموجود فيه هل هو مقصود للمسمى أو ليس بمقصود للمسمى كما يسمى شخصا بيزيد على طريق العلمية وإن كان هو فعلا من الزيادة ولكن ما سميناه به لكونه يزيد وينمو في جسمه وفي علمه وإنما سميناه به لنعرفه ونصيح به إذا أردناه فمن الأسماء ما يكون بالوضع على هذا الحد فإذا قيلت على هذا فهي أعلام كلها وإذا قيلت على طريق المدح إن كانت من أسماء المدح فهي أسماء صفات علي الحقيقة ومن شأن الصفة إنها لا يعقل لها وجود إلا في موصوف بها لأنها لا تقوم بنفسها سواء كان لها وجود عيني أو إضافي‏

لا وجود له في عينه فهي تدل على الموصوف بها بطريق المدح أو الذم وبطريق الثناء وبهذا وردت الأسماء الحسنى الإلهية في القرآن ونعت بها كلها ذاته سبحانه وتعالى من طريق المعنى وكلمة الله من طريق الوضع اللفظي‏

[أسماء الذات وأسماء الضمائر]

فالظاهر أن الاسم الله للذات كالعلم ما أريد به الاشتقاق وإن كانت فيه رائحة الاشتقاق كما يراه بعض علماء هذا الشأن من أصحاب العربية وأما أسماء الضمائر فإنها تدل على الذات بلا شك وما هي مشتقة مثل هو وذا وأنا وأنت ونحن والياء من أني والكاف من أنك فلفظة هو اسم ضمير الغائب وليست الضمائر مخصوصة بالحق بل هي لكل مضمر فهو لفظ يدل على ذات غائبة مع تقدم كلام يدل عليه عند السامع وإن لم يكن كذلك فلا فائدة فيه ولذلك لا يجوز الإضمار قبل الذكر إلا في ضرورة الشعر لما يتقيد به الشاعر من الأوزان وأنشد وافى ذلك‏

جزى ربه عني عدي بن حاتم‏

فأضمر قبل الذكر فإنه أراد أن يقول جزى عني عدي بن حاتم ربه فلم يتزن فقدم الضمير من أجل الوزن ومن الضمائر لفظة ذا وهي من أسماء الإشارة مثل قوله ذلِكُمُ الله وكذلك لفظة ياء المتكلم مثل قوله فَاعْبُدْنِي وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وكذلك لفظة أنت وتاء المخاطب مثل قوله كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ولفظة نحن ولفظ إنا مشددة ولفظة نا مثل قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وكذلك حرف كاف الخطاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فهذه كلها أسماء ضمائر وإشارات وكنايات تعم كل مضمر ومخاطب ومشار إليه ومكنى عنه وأمثال هذه ومع هذا فليست أعلاما ولكنها أقوى في الدلالة من الأعلام لأن الأعلام قد تفتقر إلى النعوت وهذه لا افتقار لها وما منها كلمة إلا ولها في الذكر بها نتيجة وما أحد من أهل الله أهل الأذواق رأيناه نبه على ذلك في طريق الله للسالكين بالأذكار الأعلى لفظ هو خاصة وجعلوها من ذكر خصوص الخصوص لأنها أعرف من الاسم الله عندهم في أصل الوضع لأنها لا تدل إلا على العين خاصة المضمرة من غير اشتقاق وإنما غلبها أهل الله على سائر المضمرات والكنايات لكونها ضمير غيب مطلق عن تعلق العلم بحقيقته وقالوا إن لفظة هو ترجع إلى هويته التي لا يعلمها إلا هو فاعتمدوا على ذلك ولا سيما الطائفة التي زعمت أنه لا يعلم نفسه تعالى الله عن ذلك وما علمت الطائفة أن غير لفظة هو في الذكر أكمل في المرتبة مثل الياء من أني والنون من نزلنا ولفظة نحن فهؤلاء أعلى مرتبة في الذكر من هو في حق السالك لا في حق العارف فلا أرفع من ذكر هو عند العارفين في حقهم وكما هي عندهم أعلى في الرتبة من لفظة هو كذلك هي أعلى من أسماء الخطاب مثل كاف المخاطب وتائه وأنت فإنه لا يقول إني وإنا ونحن إلا هو عن نفسه فمن قالها به فهو القائل ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ فنتيجته أعظم لأن الذكر يعظم بقدر عظم علم الذاكر ولا أعلم من الله وباقي أسماء الضمائر مثل هو وذا وكاف الخطاب هي من خواص عين المشار إليه فهي أشرف من الهو ومع هذا فما أحد من أهل الله سن الذكر بها كما فعلوا بلفظة هو فلا أدري هل منعهم من ذلك عدم الذوق لهذا المعنى وهو الأقرب فإنهم ما جعلوها ذكرا فإن قالوا فإنها تطلب التحديد قلنا فذلك سائغ في جميع المضمرات ونحن نقول بالذكر بذلك كله مع الحضور على طريق خاص وقد ورد في الشرع ما يقوي ما ذهبنا إليه من ذلك‏

قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

وقوله عن الله كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله‏

والحق بلا شك هو القائل بالنون وأنا وإنا ونحن وإني فلنذكره بها نيابة عنه أو نذكره به لأنه الذاكر بها على لساني فهو أتم في الحضور بالذكر وأقرب فتحا للوقوف على ما تدل عليه ولهذه الأسماء أيضا أعني المضمرات خواص في الفعل لم أر أحدا يعرف منها من أهل الله إلا لفظة هو فإذا قلت هو كان هو وإن لم يكن هو عند قولك هو ولكن يكون هو عند قولك هو وكذلك ما بقي من أسماء الإضمار فاعلم ذلك فإنه من أسرار المعرفة بالله ولا يشعر به ولا نبه أحد عليه من أهل الله غيرة وبخلا أو خوفا لما يتعلق به من الحظر لما يظهر فيه من تكوين الله عند لفظة هو من العبد إذ كان الله يقولها على لسان عبده آية ذلك من كتاب الله فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي فإن تكوين الله بلفظ هو من العبد هو ظهوره في مظهر خاص في ذلك الوقت إذ لا يظهر غيره ولا قال هو إلا هو فهو أظهر نفسه فهو الظاهر المظهر والباطن المبطن والعزيز المعز والغني المغني فقد نبهتك على سر هذا الذكر بهذا الاسم وعلى هذا تأخذ جميع أسماء الضمائر والإشارات والكنايات‏

ولكن الطهارة والحضور والأدب والعلم بهذه الأمور لا بد منه حتى تعرف من تذكر وكيف تذكر ومن يذكر وبمن تذكر والله خير الذاكرين له ولك‏

(القسم الثاني) من علم الأسماء الإلهية

وهذا القسم ينقسم قسمين العلم بأسماء صفات المعاني مثل الحي وهو اسم يطلب ذاتا موصوفة بالحياة والعلم يسمى الموصوف به عالما والقادر للموصوف بالقدرة والمريد للموصوف بالإرادة والسميع والبصير والشكور للموصوف بالسمع والبصر والكلام وهذه كلها معان قائمة بالموصوف أو نسب على خلاف ينطلق عليه منها أسماء ولها أحكام في الموصوف بها وتلك الأسماء وإن كانت تدل على ذات موصوفة بصفة تسمى علما وقدرة ولكن لها مراتب كمن قام به العلم يسمى عالما وعليما وعلاما وخبيرا ومحصيا ومحيطا هذه كلها أسماء لمن وصف بالعلم ولكن مدلول كونه عالما خلاف مدلول كونه عليما وخبيرا يفهم من ذلك ما لا يفهم من العالم فإن عليما للمبالغة فيفهم منه ما لا يفهم من العالم فإن من يعلم أمرا ما من المعلومات يسمى عالما ولا يسمى عليما ولا علاما إلا إذا تعلق علمه بمعلومات كثيرة وخبير التعلق العلم بعد الابتلاء قال تعالى ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وكذا المحصي يتعلق بحصر المعلومات من وجه يصح فهو تعلق خاص يطلبه العلم وكذلك المحيط له تعلق خاص وهو العلم بحقائق المعلومات الذاتية والرسمية واللفظية وما يتناهى منها إنه متناه وما لا يتناهى منها إنه غير متناه فقد أحاط به علما إنه لا يتناهى فإن هنا زلت طائفة كبيرة من أهل العلم وهكذا تأخذ جميع الصفات كالقادر والمقتدر والقاهر كل ذلك تطلبه القدرة وبين هذه الأسماء فرقان وإن كانت الصفة الواحدة تطلبها فإن القاهر في مقابلة المنازع والقهار في مقابلة المنازعين والقادر في مقابلة القابل للأثر فيه مع كونه معدوما في عينه ففيه ضرب من الامتناع وهي مسألة مشكلة لأن تقدم العدم للممكن قبل وجوده لا يكون مرادا ولا هو صفة نفسية للممكن فهذا هو الإشكال فينبغي أن يعلم والمقتدر لا يكون إلا في حال تعلق القدرة بالمقدور لأنه تعمل في تعلق القدرة بالمقدور لإيجاد عينه كالمكتسب والكاسب فقد بان لك الفرقان بين الأسماء وإن كانت تطلب صفة واحدة ولكن بوجوه مختلفة إذ لا يصح الترادف في العالم لأن الترادف تكرار وليس في الوجود تكرار جملة واحدة للاتساع الإلهي فاعلم ذلك وما وجدنا في الشرع للكلام اسما إلهيا إلا الشكور والمجيب فالكلام ما وجدنا اسما من لفظ اسمه في الشرع وكذلك الإرادة ليس لها اسم في علمي من لفظ اسمهما غير أن من أسمائها من جهة معناها أسماء الأفعال فإنه قال فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ولها تعلق صعب التصور وهو إرادته أن يقول وليس قوله من الأفعال ولا هو نسبة عدمية ولا صفة عدمية وكذلك يتصور في القدرة أيضا وذلك أن يقال الحق قادر أن يكلم عباده بما شاء فهنا علم ينبغي أن يعرف وذلك أن الله أدخل تعلق إرادته تحت حكم الزمان فجاء بإذا وهي من صيغ الزمان فقال إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ والزمان قد يكون مزادا ولا يصح فيه إذا لأنه لم يكن بعد فيكون له حكم فعلم هذا من علوم غامض الأسماء الإلهية ثم اعلم أن الذي يعقد عليه أهل الله تعالى في أسمائه سبحانه هي ما سمي به نفسه في كتبه أو على ألسنة رسله وأما إذا أخذناها من الاشتقاق أو على جهة المدح فإنها لا تحصى كثرة والله يقول ولِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ وورد في الصحيح أن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة

وما قدرنا على تعيينها من وجه صحيح فإن الأحاديث الواردة فيها كلها مضطربة لا يصح منها شي‏ء وكل اسم إلهي يحصل لنا من طريق الكشف أو لمن حصل فلا نورده في كتاب وإن كنا ندعو به في نفوسنا لما يؤدي إليه ذلك من الفساد في المدعين الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وفي زماننا منهم كثير ولما فحصنا عن الحفاظ لم نر أحدا اعتنى بها مثل الحافظ أبي محمد علي بن سعيد بن حزم الفارسي وغاية ما وصلت إليه قدرته ما أذكره من الأسماء الحسنى هذا مبلغ إحصائه فيها من الطرق الصحاح على ما حدثناه علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الفريابي عن أبي محمد عبد الحق بن عبد الله الأزدي الإشبيلي وحدثناه عبد الحق إجازة وغير واحد ما بين سماع وقراءة وإجازة عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني عن أبي محمد علي بن حزم الفارسي قال إنما تؤخذ يعني الأسماء من نص القرآن ومما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وقد بلغ إحصاؤنا ما نذكره وهي‏

الله الرحمن الرحيم العليم الحكيم الكريم العظيم حليم القيوم الأكرم السلام التواب الرب الوهاب الأقرب سميع مجيب واسع العزيز الشاكر القاهر الآخر الظاهر الكبير الخبير القدير البصير الغفور الشكور الغفار القهار الجبار المتكبر المصور البر مقتدر الباري العلي الغني الولي القوي الحي الحميد المجيد الودود الصمد الأحد الواحد الأول الأعلى المتعال الخالق الخلاق الرزاق الحق اللطيف رءوف عفو الفتاح المتين المبين المؤمن المهيمن الباطن القدوس الملك مليك الأكبر الأعز السيد سبوح وتر محسان جميل رفيق المسعر القابض الباسط الشافي المعطي المقدم المؤخر الدهر فهذا الذي روينا عن أشياخنا عن أشياخهم عنه في إحصائه وعندنا من القرآن أسماء أخر جاءت مضافة وهي عندنا من الأسماء وليست عنده من الأسماء وكذلك في الأخبار ومن أراد أن يقف على أسماء الله تعالى على الحقيقة فلينظر في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وعلى الحقيقة فما في الوجود إلا أسماؤه ولكن حجبت عيون البصائر عن العلم بها أعيان الأكوان فإنه سبحانه الواقي لا غيره فهو المحتجب بكل واق وشبه هذا فهو فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وجاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً ونُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وقيام السموات والأرض وهو الصبور وقابِلِ التَّوْبِ وسَرِيعُ الْحِسابِ وشَدِيدُ الْعِقابِ ورَفِيعُ الدَّرَجاتِ وذُو الْعَرْشِ وذو المعارج وقد رميت بك على الطريق فهذا قسم الصفات الدالة على المعاني والنسب والإضافات كالأول والآخر والظاهر والباطن‏

(القسم الثالث) وهو أسماء الأفعال‏

وهي صريح كالمصور ومضمن مثل قوله ومَكَرَ الله وأسماء الأفعال كلها أسماء الإرادة

(القسم الرابع) أسماء الاشتراك‏

كاسمه المؤمن والرب فالمؤمن المصدق والمؤمن معطي الأمان والرب المالك والرب المصلح والرب السيد والرب المربي والرب الثابت فإذا حصل بيدك اسم من الأسماء الإلهية فانظر في أية مرتبة هو من هذه المراتب فادع به من حيث مرتبته لا تخرجه عنها جملة واحدة ولا تغفل عن دلالته على الذات التي لها هذه النعوت كلها تكن أحدي العين في عين الكثرة فتكون الواحد الكثير فإن المراتب والحقائق تطلب الأسماء لمن هي صفاته حتى إذا دعي بها زهت وعلمت إن لله بها عناية حيث أطلق عليه من أحكامها أسماء وحيث جعل ذاته محلا لأحكامها فالحلم معنى معقول يطلق منه اسم على من ظهر فيه حكمه وهو الحليم مع المقدرة والمتجاوز والصفوح والعفو وكذلك مرتبة الكرم معنى معقول يطلق منه اسما على من ظهر منه حكمه كالكريم والمعطي والجواد والوهاب والمنعم وهكذا تأخذ جميع الأسماء على حد ما أشرت إليك ولا تتعد بها مراتبها مع علمك أنه ليس في أسماء الله ترادف وإنها كلها متباينة فهذا قد أبنت لك عن العلم الأول من المعرفة الذي لأهل الله مجملا مع نبذ من التفصيل فتفهم ذلك‏

النوع الثاني من علوم المعرفة وهو علم التجلي‏

اعلم أن التجلي الإلهي دائم لا حجاب عليه ولكن لا يعرف أنه هو وذلك أن الله لما خلق العالم أسمعه كلامه في حال عدمه وهو قوله كن وكان مشهودا له سبحانه ولم يكن الحق مشهودا له وكان على أعين الممكنات حجاب العدم لم يكن غيره فلا تدرك الموجود وهي معدومة كالنور ينفر الظلمة فإنه لا بقاء للظلمة مع وجود النور كذلك العدم والوجود فلما أمرها بالتكوين لإمكانها واستعداد قبولها سارعت لترى ما ثم لأن في قوتها الرؤية كما في قوتها السمع من حيث الثبوت لا من حيث الوجود فعند ما وجد الممكن انصبغ بالنور فزال العدم وفتح عينيه فرأى الوجود الخير المحض فلم يعلم ما هو ولا علم أنه الذي أمره بالتكوين فأفاده التجلي علما بما رآه لا علما بأنه هو الذي أعطاه الوجود فلما انصبغ بالنور التفت على اليسار فرأى العدم فتحققه فإذا هو ينبعث منه كالظل المنبعث من الشخص إذا قابلة النور فقال ما هذا فقال له النور من الجانب الأيمن هذا هو أنت فلو كنت أنت النور لما ظهر للظل عين فإنا النور وأنا مذهبه‏

ونورك الذي أنت عليه إنما هو من حيث ما يواجهني من ذاتك ذلك لتعلم أنك لست أنا فإنا النور بلا ظل وأنت النور الممتزج لإمكانك فإن نسبت إلى قبلتك وإن نسبت إلى العدم قبلك فأنت بين الوجود والعدم وأنت بين الخير والشر فإن أعرضت عن ظلك فقد أعرضت عن إمكانك وإذا أعرضت عن إمكانك جهلتني ولم تعرفني فإنه لا دليل لك على أني إلهك وربك وموجدك إلا إمكانك وهو شهودك ظلك وإن أعرضت عن نورك بالكلية ولم تزل مشاهدا ظلك لم تعلم أنه ضل إمكانك وتخيلت أنه ظل المحال والمحال والواجب متقابلان من جميع الوجوه فإن دعوتك لم تجبني ولم تسمعني فإنه يصمك ذلك المشهود عن دعائي فلا تنظر إلي نظرا يفنيك عن ظلك فتدعى أنك أنا فتقع في الجهل ولا تنظر إلى ظلك نظرا يفنيك عني فإنه يورثك الصمم فتجهل ما خلقتك له فكن تارة وتارة وما خلق الله لك عينين إلا لتشهدني بالواحدة وتشهد ظلك بالعين الأخرى وقد قلت لك في معرض الامتنان أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ولِساناً وشَفَتَيْنِ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي بينا له الطريقين طريق النور والظل إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً فإن العدم المحال ظلمة وعدم الممكن ظل لا ظلمة ولهذا في الظل راحة الوجود واعلم أن التجلي الأول الذي حصل للممكن عند ما اتصف بالوجود وانصبغ بالنور هو التجلي للأرواح النورية التي ليست لها هذه الهياكل المظلمة ولكن لها ظل إمكانها الذي لا يبرح فيها وهي وإن كانت نورا بما انصبغت به فظلها فيها لا ظهور له عليها وحكمه فيها لا يزول وهذه المرتبة كان يريد أن يكون‏

نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إذ كان يقول في دعائه اللهم اجعلني نورا

ثم بعد هذا التجلي الإبداعي الذي هيم بعض الأرواح النورية تجلى تجليا لبعض هذه الأرواح المبدعة فعلم منه في هذا التجلي جميع المراتب التي تظهر عنه في عالم الأنوار والظلم واللطائف والكثائف والبسائط والمركبات والجواهر والأعراض والأزمنة والأمكنة والإضافات والكيفيات والكميات والأوضاع والفاعلات والمنفعلات إلى يوم القيامة وأنواع العالم ومبلغها مائتا ألف مرتبة وسبع آلاف مرتبة وستمائة مرتبة وقام هذا

العدد من ضرب ثلاثمائة وستين في مثلها ثم أضيف إليها ثمانية وسبعون ألفا فكان المجموع ما ذكرناه وهو علم العقل الأول وعمر العالم من حين ولي النظر فيه هذا المفعول الإبداعي وما قبل ذلك فمجهول لا يعلمه إلا الله تعالى فلما علم العقل من هذا التجلي هذه المراتب وهي علومه كان من جملة ذلك انبعاث النفس الكلية عنه وهي أول مفعول انبعاثي وهي ممتزجة بين ما انفعل عنها وبين ما انفعلت عنه فالذي انفعلت عنه نور والذي انفعل عنها ظلمة وهي الطبيعة فظهر ظل النفس في ظاهرها مما يلي جانب الطبيعة لكن لم يمتد عنها ظلها كما يمتد عن الأجسام الكثيفة وانتقش فيها جميع ما للعقل من العلوم التي ذكرناها ولها وجه خاص إلى الله لا علم للعقل به فإنه سر الله الذي بينه وبين كل مخلوق لا تعرف نسبته ولا يدخل تحت عبارة ولا يقدر مخلوق على إنكار وجوده فهو المعلوم المجهول وهذا هو التجلي في الأشياء المبقي أعيانها وأما التجلي للأشياء فهو تجلى يفني أحوالا ويعطي أحوالا في المتجلي له ومن هذا التجلي توجد الأعراض والأحوال في كل ما سوى الله ثم له تجل في مجموع الأسماء فيعطي في هذا التجلي في العالم المقادير والأوزان والأمكنة والأزمان والشرائع وما يليق بعالم الأجسام وعالم الأرواح والحروف اللفظية والرقمية وعالم الخيال ثم له تجل آخر في أسماء الإضافة خاصة كالخالق وما أشبهه من الأسماء فيظهر في العالم التوالد والتناسل والانفعالات والاستحالات والأنساب وهذه كلها حجب على أعيان الذوات الحاملات لهذه الحجب عن إدراك ذلك التجلي الذي لهذه الحجب الموجد أعيانها في أعيان الذوات وبهذا القدر تنسب الأفعال للأسباب ولولاها لكان الكشف فلا يجهل ولكن كما قال ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ووقوع خلاف المعلوم محال فبالتجلي تغير الحال على الأعيان الثابتة من الثبوت إلى الوجود وبه ظهر الانتقال من حال إلى حال في الموجودات وهو خشوع تحت سلطان التجلي فله النقيضان يمحو ويثبت ويوجد ويعدم وقد بين الله لنا ذلك بقوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا فنقله من حال الشموخ إلى حال الخشوع والاندكاك وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الحديث الذي صححه الكشف إن الله إذا تجلى لشي‏ء خشع له‏

فالله متجل على الدوام لأن التغيرات مشهودة على الدوام في الظواهر والبواطن والغيب والشهادة والمحسوس والمعقول فشأنه التجلي وشأن الموجودات التغيير بالانتقال من حال إلى حال فمنا من يعرفه ومنا من لا يعرفه فمن عرفه عبده في كل حال ومن لم يعرفه أنكره في كل حال‏

ثبت في الصحيح أن النبي ص‏

قال الحمد لله على كل حال‏

فأثنى عليه على كل حال لأنه المعطي بتجليه كل حال وأوضح من هذا في التبليغ ما يكون مع إقامة الحدود وإنكار ما ينبغي أن ينكر فإن المنكر بالتغيير أنكر يَسْئَلُهُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ أحوال إلهية في أعيان كيانية بأسماء نسبية عينتها تغييرات كونية فتجلى أحدي العين في أعيان مختلفة الكون فرأت صورها فيه فشهد العالم بعضه بعضا في تلك العين فمنه المناسب وهو الموافق ومنه غير المناسب وهو المخالف فظهرت الموافقة والخلاف في أعيان العالم دنيا وآخرة لأنه لا تزال أعيان العالم تبصر بعضها بعضا في تلك العين المنجلية فتنعكس أنوارها عليها بما تكتسبه من تلك العين فيحدث في العالم ما يحدث دنيا وآخرة عن أثر حقيقة تلك العين لما تعلقت بها أبصار العالم كالمرآة تقابل الشمس فينعكس ضوءها على القطن المقابل لانعكاس النور فيحدث فيه الحرق هذا عين ما يظهر في العالم من تأثير بعضه في بعض من شهود تلك العين فالمؤثر روحاني والذي تأثر طبيعي وما من شي‏ء تكون له صورة طبيعية في العالم إلا ولها روح قدسي وتلك العين لا تنحجب أبدا فالعالم في حال شهود أبدا والتغيير كائن أبدا لكن الملائم وغير الملائم وهو المعبر عنه بالنفع والضرر فهذا علم التجلي من أحد أقسام المعرفة إن لم يحصل للإنسان مع بقية إخوانه فليس بعارف ولا حصل له مقام المعرفة

النوع الثالث من المعرفة وهو العلم بخطاب الحق عباده بالسنة الشرائع‏

اعلم وفقك الله أن ما عدا الثقلين من كل ما سوى الله على معرفة بالله ووحي من الله وعلم بمن تجلى له مفطور على ذلك سعيد كله ولهذا قال تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ من في السَّماواتِ ومن في الْأَرْضِ فعم ثم فصل ليبين للناس ما نزل إليهم فقال والشَّمْسُ والْقَمَرُ والنُّجُومُ والْجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ من النَّاسِ وهو قوله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وقَلِيلٌ ما هُمْ يقول وما هم قليل يعني أنهم كثير فهو قوله وكَثِيرٌ من النَّاسِ ثم قال وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وسبب ذلك إن وكله من حيث نفسه الناطقة الموجودة بين الطبيعة والنور بما جعل الله فيها من الفكر ليكتسب به المعرفة بالله تعالى اختيارا من الله وأعطاها العقل كما أعطى سائر الموجودات وأعطاه صفة القبول وعشقه بالقوة المفكرة لاستنباط العلوم من ذاته لتظهر فيه قوة إلهية فإنه يحب الرئاسة والظهور والشفوف على أبناء جنسه لاشتراكهم في ذلك ثم لما أعطاهم القوة المفكرة نصب لهم علامات ودلائل تدل على الحدوث لقيامها بأعيانهم ونصب لهم دلائل وعلامات تدل على القدم الذي هو عبارة عن نفي الأولية عن وجوده وتلك الدلائل بأعيانها هي التي نصبها للدلالة على الحدوث فسلبها عن الذات القديمة المسماة الله هو الدليل ليس غير ذلك فللأدلة وجهان وهي عين واحدة يدل ثبوتها على حدوث العالم وسلبها على موجد العالم فلما نظر بهذا النظر وقال عرفت الله بما نصبه من الأدلة على معرفتنا بنا وبه وهي الآيات المنصوبة في الآفاق وفي أنفسنا حتى يتبين لنا أنه الحق وقد تبين وهو الذي عبرنا عنه بالتجلي فإن التجلي إنما هو موضوع للرؤية وذلك قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فذكر الرؤية والآيات للتجلي فيتبين لهم أنه الحق يعني ذلك التجلي الذي رأوه علامة أنه علامة على نفسه ف يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ المطلوب ولهذا تمم فقال في الآية عينها أَ ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ يعني أن يكون دليلا على نفسه وأوضح الدلالات دلالة الشي‏ء على نفسه بظهوره فلما حصلت لعقولهم هذه المعرفة بالتنزيه عما نسبوه إلى ذوات العالم وهو دليل واحد العين متردد في الدلالة بين سلب لمعرفة الله وبين إثبات لمعرفة العالم أقام الحق لهذا الجنس الإنساني شخصا ذكر أنه جاء إليهم من عند الله برسالة يخبرهم بها فنظروا بالقوة المفكرة فرأوا إن الأمر جائز ممكن فلم يقدموا على تكذيبه ولا رأوا علامة تدل على صدقه فوقفوا وسألوه هل جئت إلينا بعلامة من عنده حتى نعلم أنك صادق في رسالتك فإنه لا فرق بيننا وبينك وما رأينا لك أمرا تميزت به عنا وباب الدعوى مفتوح ومن الدعوى ما يصدق ومنها ما لا يصدق فجاء بالمعجزة فنظروا فيها نظر إنصاف وهي بين أمرين الواحد أن تكون مقدورة لهم فيدعي الصرف عنها مطلقا فلا تظهر إلا على يدي من هو رسول إلى يوم القيامة هذا إذا كانت معجزة لا آية فقط فإن المعجزات نصبت للخصم الألد الفاقد نور الايمان والأمر الآخر أن تكون المعجزة خارجة عن مقدور البشر بالحس والهمة معا فإذا أتى بأحد هذين الأمرين وتحققه الناظر دليلا آمن برسالته وصدقه في مقالته وإخباره عن ربه إذا كانت الدلالة على المجموع بحسب ما وقعت به الدعوى ولا يمكن في ذوق طريقنا تصديقه مع‏

الدلالة إلا بتجل إلهي لقلبه من اسمه النور فإذا انصبغ باطنه بذلك النور صدقه فذلك نور الايمان وغيره لم يحصل عنده من ذلك النور شي‏ء مع علمه بأنه صادق من حيث الدلالة لا من حيث النور المقذوف في القلب فجحد مع علمه وهو قوله تعالى وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا ودونهم في هذه الرتبة من قيل فيه وأضله الله على علم فذلك نور العلم به لا نور الايمان فلما صدقه من صدقه وأظهر صدقه واعتمد على عقله حيث قاده إلى الحق ولم يحصل له ضوء من نور الايمان يستضي‏ء به وما علم أنه بذلك النور صدقه لا بنور علمه الذي هو عند من جحده مع علمه بصدق دعواه فلما اعتمد على عقله هذا المصدق وجاء آخر من المصدقين به أيضا كشف الله له عن نور إيمانه ونور علمه فكان نورا على نور وجاء ثالث ما عنده من نور العلم النظري شي‏ء ولا يعرف موضع الدلالة من تلك الآية المعجزة وقذف الله في قلبه نور الايمان فآمن وصدق وليس معه نور علم نظري ولكن فطرة سليمة وعقل قابل وهيكل منور بعيد من استعمال الفكر فسارع في القبول فقعد هؤلاء الثلاثة الأصناف بين يدي هذا الرسول الذي صدقوه فأخذ الرسول يصف لهم مرسله الحق تعالى ليعرفهم به المعرفة التي ليست عندهم مما كانوا قد أحالوا مثل ذلك على الحق تعالى وسلبه عنه أهل الأدلة النظرية وأثبتوا تلك الصفات للمحدثات دلالة على حدوثها فلما سمعوا ما تنكره الأدلة العقلية النظرية وترده افترقوا عند ذلك على فرق فمنهم من ارتد على عقبه وشك في دليله الذي دله على صدقه وأقام له في ذلك الدليل شبهات قادحة فيه صرفته عن الايمان والعلم به فارتد على عقبه ومنهم من قال إن في جمعنا هذا من ليس عنده سوى نور الايمان ولا يدري ما العلم ولا ما طريقه وهذا الرسول لا نشك في صدقه وفي حكمته ومن الحكمة مراعاة الأضعف فخاطب هذا الرسول بهذه الصفات التي نسبها إلى ربه أنه عليها هذا الضعيف الذي لا نظر له في الأدلة وليس عنده سوى نور الايمان رحمة به لأنه لا ينبت له الايمان إلا بمثل هذا الوصف وللحق أن يصف نفسه بما شاء على قدر عقل القابل وإن كان في نفسه على خلاف ذلك واتكل هذا المخبر بهذا الوصف والمراعي حق هذا الأضعف على ما يعرفه من علمنا به وتحققه من صدقنا فيه ووقوفنا مع دليلنا فلا يقدح شي‏ء من هذا فيما عندنا إذ قد عرفنا مقصود هذا الرسول بالأمر فثبتوا على إيمانهم مع كونهم أحالوا ما وصف الرسول به ربه في أنفسهم وأقروه حكمة واستجلابا للأضعف وفرقة أخرى من الحاضرين قالوا هذا الوصف يخالف الأدلة ونحن على يقين من صدق هذا المخبر وغايتنا في معرفتنا بالله سلب ما نسبناه لحدوثها فهذا أعلم بالله منا في هذه النسبة فنؤمن بها تصديقا له ونكل علم ذلك إليه وإلى الله فإن الايمان بهذا اللفظ ما يضرنا ونسبة هذا الوصف إليه تعالى مجهولة عندنا لأن ذاته مجهولة من طريق الصفات الثبوتية والسلب فما يعول عليه والجهل بالله هو الأصل فالجهل بنسبة ما وصف الحق نفسه به في كتابه أعظم فلنسلم ولنؤمن على علمه بما قاله عن نفسه وفرقة أخرى من الحاضرين قالوا لا نشك في دلالتنا على صدق هذا المخبر وقد آتانا في نعت الله الذي

أرسله إلينا بأمور إن وقفنا عند ظاهرها وحملناها عليه تعالى كما نحملها على نفوسنا أدى إلى حدوثه وزال كونه إلها وقد ثبت فننظر هل لها مصرف في اللسان الذي جاء به فإن الرسول ما أرسل إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ فنظروا أبوابا مما يؤول إليها ذلك الوصف مما يقتضي التنزيه وينفي التشبيه فحملوا تلك الألفاظ على ذلك التأويل فإذا قيل لهم في ذلك أي شي‏ء دعاكم إلى ذلك قالوا أمر أن القدح في الأدلة فإنا بالأدلة العقلية أثبتنا صدق دعواه ولا نقبل ما يقدح في الدلالة العقلية فإن ذلك قدح في الدلالة على صدقه والأمر الآخر قد قال لنا هذا الصادق إن الله الذي أرسله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ووافق الأدلة العقلية فتقوى صدقه عندنا بمثل هذا فإن قلنا ما قاله في الله على الوجه الذي يعطيه ظاهر اللفظ ونحمله عليه كما نحمله على المحدثات ضللنا فأخذنا

في التأويل إثباتا للطريقين وفرقة أخرى وهي أضعف الفرق لم يتعدوا حضرة الخيال وما عندهم علم بتجريد المعاني ولا بغوامض الأسرار ولا علموا معنى قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ولا قوله وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وهم واقفون في جميع أمورهم مع الخيال وفي قلوبهم نور الايمان والتصديق وعندهم جهل باللسان فحملوا الأمر على ظاهره ولم يردوا علمه إلى الله فيه فاعتقدوا نسبة ذلك النعت إلى الله مثل نسبته إلى نفوسهم وما بعد هذه الطائفة طائفة في الضعف أكثر منها فإنهم على نصف الايمان حيث‏

قبلوا نعت التشبيه ولم يعقلوا نعوت التنزيه من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ والفرقة الناجية من هؤلاء الفرق المصيبة للحق هي التي آمنت بما جاء من عند الله على مراد الله وعلمه في ذلك مع نفي التشبيه ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فهذه يا ولي ألسنة الشرائع في العالم فجاء بالصورة في حق الحق والعين واليد والرجل والسمع والبصر والرضي والغضب والتردد والتبشبش والتعجب والفرح والضحك والملل والمكر والخداع والاستهزاء والسخرية والسعي والهرولة والنزول والاستواء والتحديد في القرب والصبر على الأذى وما جرى هذا المجرى مما هو نعت المخلوقين ذلك لنؤمن عامة ولنعلم أن التجلي الإلهي في أعيان الممكنات أعطى هذه النعوت فلا شاهد ولا مشهود إلا الله فالسنة الشرائع دلائل التجليات والتجليات دلائل الأسماء الإلهية فارتبطت أبواب المعرفة بعضها ببعض فكل لفظ جاءت به الشريعة فهو على ما جاءت به لكن عالمنا يعرف بأي لسان تكلم الشرع ولمن خاطب وبمن خاطب وبما خاطب ولمن ترجع الأفعال وإلى من تنسب الأقوال ومن المتقلب في الأحوال ومن قال سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لنقول ولا بشي‏ء من آلائك ربنا نكذب هذا أراد أن يسمع منا وقد قلناه والحمد لله‏

(النوع الرابع) من علوم المعرفة وهو العلم بالكمال والنقص في الوجود

اعلم أنه من كمال الوجود وجود النقص فيه إذ لو لم يكن لكان كمال الوجود ناقصا بعدم النقص فيه قال تعالى في كمال كل ما سوى الله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فما نقصه شيئا أصلا حتى النقص أعطاه خلقه فهذا كمال العالم الذي هو كل ما سوى الله إلا الله ثم الإنسان فلله كمال يليق به وللإنسان كمال يقبله ومن نقص من الأناسي عن هذا الكمال فذلك النقص الذي في العالم لأن الإنسان من جملة العالم وما كل إنسان قبل الكمال وما عداه فكامل في مرتبته لا ينقصه شي‏ء بنص القرآن‏

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الإنسان كمل من الرجال كثيرون ومن النساء مريم وآسية

وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام فما ظهر في العالم نقص إلا في هذا الإنسان وذلك لأنه مجموع حقائق العالم وهو المختصر الوجيز والعالم هو المطول البسيط فأما كمال الألوهية فظاهر بالشرائع وأما بأدلة العقول فلا فعين ما يراه العقل كما لا هو النقص عند الله لو كان كما يقتضيه دليل العقل فجاء العقل بنصف معرفة الله وهو التنزيه وسلب أحكام كثيرة عنه تعالى وجاء الشارع يخبر عن الله بثبوت ما سلب عنه العقل بدلالته وتقرير ما سلبه عنه فجاء بالأمرين للكمال الذي يليق به تعالى فحير العقول فهذا هو الكمال الإلهي فلو لم يعط الحيرة لما ذكره لكان تحت حكم ما خلق فإن القوي الحسية والخيالية تطلبه بذواتها لترى موجدها والعقول تطلبه بذواتها وأدلتها من نفي وإثبات ووجوب وجواز وإحالة لتعلم موجدها فخاطب الحواس والخيال بتجريده الذي دلت عليه أدلة العقول والحواس تسمع فحارت الحواس والخيال وقالوا ما بأيدينا منه شي‏ء وخاطب العقول بتشبيهه الذي دلت عليه الحواس والخيال والعقول تسمع فحارت العقول وقالت ما بأيدينا منه شي‏ء فعلا عن إدراك العقول والحواس والخيال وانفرد سبحانه بالحيرة في الكمال فلم يعلمه سواه ولا شاهده غيره فلم يحيطوا به علما ولا رأوا له عينا فآثار تشهد وجناب يقصد ورتبة تحمد وإله منزه ومشبه يعبد هذا هو الكمال الإلهي وبقي الإنسان متوسط الحال بين كمال الحيرة والحد وهو كمال العالم فبالإنسان كمل العالم وما كمل الإنسان بالعالم فلما انحصرت في الإنسان حقائق العالم بما هو إنسان لم يتميز عن العالم إلا بصغر الحجم خاصة وبقيت له رتبة كماله فجميع الموجودات قبلت كمالها والحق كامل والإنسان انقسم قسمين قسم لم يقبل الكمال فهو من جملة العالم غير أنه مجموع العالم جمعية المختصر من الكبير وقسم قبل الكمال فظهرت فيه لاستعداده الحضرة الإلهية بكمالها وجميع أسمائها فأقام هذا القسم خليفة وكساه حلة الحيرة فيه فنظرت الملائكة إلى نشأة جسده فقالت فيه ما قالت لتنافر حقائقه التي ركب الله فيها جسده فلما أعلمها الحق بما خلقه عليه وأعطاه إياه حارت فيه فقالت لا علم لنا والحائر لا علم له فأعطاه علم الأسماء الإلهية التي لم تسبحه الملائكة بها ولا قدسته كما

قال عليه السلام إنه يحمد الله غدا في القيامة عند سؤاله في الشفاعة بمحامد لا يعلمها الآن يقتضيها الموطن‏

فإن محامد الله تعالى بحسب ما تطلبها المواطن والنشآت فأعطت نشأة آدم ومن أشبهه من أولاده الأهلية للخلافة في العالم وما كان ذلك لغيرهم فكان كمال‏

الإنسان بهذا الاستعداد لهذا التجلي الخاص فظهر بأسماء الحق على تقابلها وأعطاه الحق فيما بين له مصارفها فهو يظهر بما ظهر من استخلفه وهي المسمى في الخلافة بالحق والعدل قال الله لداود إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فيهوي بمتبعه عن هذه الدرجة التي أهلت لها وأهلت لك ولأمثالك كما قال أبو العتاهية

أتته الخلافة منقادة *** إليه تجرر أذيالها

ولم تك تصلح إلا له *** ولم يك يصلح إلا لها

ولو رامها أحد غيره *** لزلزلت الْأَرْضُ زِلْزالَها

فإذا أعطى التحكم في العالم فهي الخلافة فإن شاء تحكم وطهر كعبد القادر الجيلي وإن شاء سلم وترك التصرف لربه في عباده مع التمكن من ذلك لا بد منه كأبي مسعود بن الشبلي إلا أن يقترن به أمر إلهي كداود عليه السلام فلا سبيل إلى رد أمر الله فإنه الهوى الذي نهي عن اتباعه وكعثمان رضي الله عنه الذي لم يخلع ثوب الخلافة عن عنقه حتى قتل لعلمه بما للحق فيه فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نهاه أن يخلع عنه ثوب الخلافة فكل من اقترن بتحكمه أمر إلهي وجب عليه الظهور به ولا يزال مؤيدا ومن لم يقترن به أمر إلهي فهو مخير إن شاء ظهر به ظهر بحق وإن شاء لم يظهر فاستتر بحق وترك الظهور أولى فتلحق الأولياء الأنبياء بالخلافة خاصة ولا يلحقونهم في الرسالة والنبوة فإن بابهما مسدود فللرسول الحكم فإن استخلف فله التحكم فإن كان رسولا فتحكمه بما شرع وإن لم يكن رسولا فتحكمه عن أمر الله بحكم وقته الذي هو شرع زمانه فإنه بالحكم ينسب إلى العدل والجور انتهى الجزء العاشر ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(النوع الخامس) من علوم المعرفة وهو علم الإنسان بنفسه من جهة حقائقه‏

اعلم أن الإنسان ما أعطى التحكم في العالم بما هو إنسان وإنما أعطى ذلك بقوة إلهية ربانية إذ لا تتحكم في العالم إلا صفة حق لا غير وهي في الإنسان ابتلاء لا تشريف ولو كانت تشريفا بقيت معه في الآخرة في دار السعداء ولو كانت تشريفا ما قيل له ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فحجرت عليه والتحجير ابتلاء والتشريف إطلاق ولا نسب في التحكم إلى عدل ولا إلى جرر ولا ولي الخلافة في العالم إلا أهل الله بل ولى الله التحكم في العالم من أسعده الله به ومن أشقاه من المؤمنين ومع هذا أمرنا الحق أن نسمع له ونطيع ولا نخرج يدا من طاعة وقال فإن جاروا فلكم وعليهم وهذه حالة ابتلاء لا حالة شرف فإنه في حركاته فيها على حذر وقدم غرور ولهذا يكون يوم القيامة على بعض الخلفاء ندامة فإذا وقف الإنسان على معرفة نفسه واشتغل بالعلم بحقائقه من حيث ما هو إنسان فلم ير فرقا بينه وبين العالم ورأى أن العالم الذي هو ما عدا الثقلين ساجد لله فهو مطيع قائم بما تعين عليه من عبادة خالقه ومنشئه طلب الحقيقة التي يجتمع فيها مع العالم فلم يجد إلا الإمكان والافتقار والذلة والخضوع والحاجة والمسكنة ثم نظر إلى ما وصف به الحق العالم كله فرآه قد وصفه بالسجود له حتى ظله ورأى أنه ما وصف بذلك من جنسه إلا الكثير لا الكل كما وصف كل جنس من العالم فخاف أن يكون من الكثير الذي حق عليه العذاب ثم رأى أن العالم قد فطروا بالذات على عبادة الله وافتقر هذا الإنسان إلى من يرشده ويبين له الطريق المقربة إلى سعادته عند الله لما سمع الله يقول وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فعبده بالافتقار إليه كما عبد سائر العالم ثم رأى أن الله قد حد له حدودا ورسم له أمورا ونهاه أن يتعداها وإن يأتي من أمره سبحانه ما استطاع فتعين عليه العلم بما شرع الله له ليقيم عبادة الله الفرعية كما أقام العبادة الأصلية فإن العبادة الأصلية هي التي تطلبها ذوات الممكنات بما هي ممكنات والعبادات الفرعية هي أعمال يفتقر فيها العبد إلى إخبار إلهي من حيث ما يستحقه سيده وما تقتضيه عبوديته فإذا علم أمر سيده ونهيه ووفى حق سيده تعالى وحق عبودته فقد عرف نفسه وكل من عرف نفسه عرف ربه ومن عرف ربه عبده بأمره فما ثم من جمع بين العبادتين عبادة الأمر وعبادة النهي إلا الثقلان فإن الأرواح الملكية لا نهي عندها؟؟

قال فيهم لا يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ ولم يذكر لهم نهي وقال في عبادتهم الذاتية يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ‏

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ فإن حقيقة نشأتهم تعطي ذلك فهذه هي العبادة الذاتية وهي عبادة سارية في كل ما سوى الله ولما كان الإنسان مجموع حقائق العالم كما قلنا وعرف نفسه من جهة حقائقه تعين عليه أن يقوم وحده من حيث هو بعبادة جميع العالم وإن لم يفعل فما عرف نفسه من جهة حقائقه لأنها عبادة ذاتية وصورة معرفته بذلك أن يشاهد جميع حقائقه كلها في عبادتها كشفا كما هي عليه في نفسها سواء كوشف بذلك أو لم يكاشف فهذا الذي أريده بالعلم بحقائقه أي عن الكشف فإذا شاهدها لم يتمكن له مخالفة أمر سيده فيما أمر به من عبادته بالوقوف عند حدوده ومراسمه فيما دخل فيه وفيما خرج عنه فإذا قال سبحان الله بكله على ما رسمنا انتقش في جوهر نفسه جميع ما قاله العالم كله من حيث تلك التسبيحة وهذه هي النفس الزكية التي تسمى لسان العالم بحيث لو صح أن يتعطل شي‏ء من العالم في عبادة ربه لقام هذا العبد العارف بهذا القدر مقامه فيما فرط فيه وسد مسده لو تصور هذا ويجازى هذا العبد من جانب الحق بهذا القدر وهو مجازاة الأصغر بجائزة الأكبر يقول لو قدرنا العالم كله ما سوى الإنسان غفل عن عبادة الله طرفة عين وكان هذا الإنسان ذاكر الله قائما بحقه في تلك اللحظة ناب مناب العالم وسد مسده فجوزي بجزاء العالم كله وإن كان لا يتصور من العالم غفلة فإنه ليس من أهل الغفلة إلا الثقلان خاصة فانظر ما أعطاك العلم بنفسك وبما أنت عليه من حقائق الكون‏

(النوع السادس) من علوم المعرفة وهو علم الخيال‏

وعالمه المتصل والمنفصل وهذا ركن عظيم من أركان المعرفة وهذا هو علم البرزخ وعلم عالم الأجساد التي تظهر فيها الروحانيات وهو علم سوق الجنة وهو علم التجلي الإلهي في القيامة في صور التبدل وهو علم ظهور المعاني التي لا تقوم بنفسها مجسدة مثل الموت في صورة كبش وهو علم ما يراه الناس في النوم وعلم الموطن الذي يكون فيه الخلق بعد الموت وقبل البعث وهو علم الصور وفيه تظهر الصور المرئيات في الأجسام الصقيلة كالمرآة وليس بعد العلم بالأسماء الإلهية ولا التجلي وعمومه أتم من هذا الركن فإنه واسطة العقد إليه تعرج الحواس وإليه تنزل المعاني وهو لا يبرح من موطنه تجبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وهو صاحب الإكسير الذي تحمله على المعنى فيجسده في أي صورة شاء لا يتوقف له النفوذ في التصرف والحكم تعضده الشرائع وتثبته الطبائع فهو المشهود له بالتصرف التام وله التحام المعاني بالأجسام يحير الأدلة والعقول فلنبينه إن شاء الله في هذا الفصل بأوجز ما يمكن وأبلغ والله الموفق لا رب غيره اعلموا يا إخواننا أنه ما من معلوم كان ما كان إلا وله نسبة إلى الوجود بأي نوع كان من أنواع الوجود فإنه على أربعة أقسام فمنها معلوم يجمع مراتب الوجود كلها ومنها معلوم يتصف ببعض مراتب الوجود ولا يتصف ببعضها وهذه المراتب الأربعة التي للوجود منها الوجود العيني وهو الموجود في نفسه على أي حقيقة كان من الاتصاف بالدخول والخروج أو بنفيهما فيكون مع كونه موجودا في عينه لا داخل العالم ولا خارج لعدم شرط الدخول والخروج وهو التحيز وليس ذلك إلا لله خاصة وأما ما هو من العالم قائم بنفسه غير متحيز كالنفوس الناطقة والعقل الأول والنفس والأرواح المهيمة والطبيعة والهباء وأعني بهذه كلها أرواحها فكل ذلك داخل في العالم إلا أنه لا داخل أجسام العالم ولا خارج عنها فإنها غير متحيزات‏

(و المرتبة الثانية) الوجود الذهني‏

وهو كون المعلوم متصورا في النفس على ما هو عليه في حقيقته فإن لم يكن التصور مطابقا للحقيقة فليس ذلك بوجود له في الذهن‏

(و المرتبة الثالثة) الكلام‏

وللمعلومات وجود في الألفاظ وهو الوجود اللفظي ويدخل في هذا الوجود كل معلوم حتى المحال والعدم فإن له الوجود اللفظي فإنه يوجد في اللفظ ولا يقبل الوجود العيني أبدا أعني المحال وأما العدم فإن كان العدم الذي يوصف به الممكن فيقبل الوجود العيني وإن كان العدم الذي هو المحال فلا يقبل الوجود العيني‏

(و المرتبة الرابعة) الوجود الكتابي‏

وهو الوجود الرقمي وهو نسبته إلى الوجود في الخط أو الرقم أو الكتابة ونسبة المعلومات كلها من المحال وغير المحال نسبة واحدة فهذا المحال وإن كان لا يوجد له عين فله نسبة وجود في اللفظ والخط فما ثم معلوم لا يتصف بالوجود بوجه وسبب ذلك قوة الوجود الذي هو أصل الأصول وهو الله تعالى إذ به ظهرت هذه المراتب وتعينت هذه الحقائق وبوجوده عرف من يقبل مراتب الوجود كلها ممن لا يقبلها فالأسماء متكلما بها كانت أو مرقومة ينسحب وجودها على كل معلوم فيتصف ذلك المعلوم‏

بضرب من ضروب الوجود فما في العلم معدوم مطلق العدم ليس له نسبة إلى الوجود بوجه ما هذا ما لا يعقل فافهم هذا الأصل وتحققه ثم اعلم بعد هذا أن حقيقة الخيال المطلق هو المسمى بالعماء الذي هو أول ظرف قبل كينونة الحق‏

ورد في الصحيح أنه قيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء

وإنما قال هذا من أجل إن العماء عند العرب هو السحاب الرقيق الذي تحته هواء وفوقه هواء فلما سماه بالعماء أزال ما يسبق إلى فهم العرب من ذلك فنفى عنه الهواء حتى يعلم أنه لا يشبهه من كل وجه فهو أول موصوف بكينونة الحق فيه فإن للحق على ما أخبر خمس كينونات كينونة في العماء وهو ما ذكرناه وكينونة في العرش وهو قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ وكينونة في السماء في‏

قوله ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا

وكينونة في الأرض وهو قوله وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الْأَرْضِ وكينونة عامة وهو مع الموجودات على مراتبها حيثما كانت كما بين ذلك في حقنا فقال وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وكل هذه النسب بحسب ما يليق بجلاله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تصور بل كما تعطيه ذاته وما ينبغي أن ينسب إليها من ذلك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ فلا يصل أحد إلى العلم ولا إلى الظفر بحقيقته الْحَكِيمُ الذي نزل لعباده في كلماته فقرب البعيد في الخطاب لحكمة أرادها تعالى ففتح الله تعالى في ذلك العماء صور كل ما سواه من العالم إلا إن ذلك العماء هو الخيال المحقق أ لا تراه يقبل صور الكائنات كلها ويصور ما ليس بكائن هذا لاتساعه فهو عين العماء لا غيره وفيه ظهرت جميع الموجودات وهو المعبر عنه بظاهر الحق في قوله هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ ولهذا في الخيال المتصل يتخيل من لا معرفة له بما ينبغي لجلال الله بتصوره فإذا تحكم عليه الخيال المتصل فما ظنك بالخيال المطلق الذي هو كينونة الحق فيه وهو العماء فمن تلك القوة ضبطه الخيال المتصل ثم جاء الشرع في أماكن يقرر ما ضبطه الخيال المتصل من كينونة الحق في قبلة المصلي وفي مواجهة المصلي إياه فقبله الخيال المتصل وهو من بعض وجوه الخيال المطلق الذي هو الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة وانتشاء هذا العماء من نفس الرحمن من كونه إلها لا من كونه رحمانا فقط فجميع الموجودات ظهر في العماء بكن أو باليد الإلهية أو باليدين إلا العماء فظهوره بالنفس خاصة ولو لا ما ورد في الشرع النفس ما أطلقناه مع علمنا به وكان أصل ذلك حكم الحب والحب له الحركة في المحب والنفس حركة شوقية لمن تعشق به وتعلق له في ذلك التنفس لذة وقد قال تعالى كما ورد كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف‏

فبهذا الحب وقع التنفس فظهر النفس فكان العماء فلهذا أوقع عليه اسم العماء الشارع لأن العماء الذي هو السحاب يتولد من الأبخرة وهي نفس العناصر لما فيه من حكم الحرارة فلهذا الالتفات سماه عماء ثم نفى عنه الهواء الذي يحيط به كما يحيط بجسم السحاب ويصرفه الهواء حيث شاء فنفى أن يكون هذا العماء يتحكم فيه غيره إذ هو أقرب الموجودات إلى الله الكائن عن نفسه فلما عمر هذا العماء الخلأ كله الذي هو مكان العالم أو ظرفه إذ لو انعدم العالم لتبين الخلأ وهو امتداد متوهم في غير جسم فهذا العماء هو الحق المخلوق به كل شي‏ء وسمي الحق لأنه عين النفس والنفس مبطون في المتنفس هكذا يعقل فالنفس له حكم الباطن فإذا ظهر له حكم الظاهر ف هُوَ الْأَوَّلُ في الباطن والْآخِرُ في الظاهر وهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ فإنه فيه ظهر كل شي‏ء مسمى من معدوم يمكن وجود عينه ومن معدوم يوجد عينه ثم ظهر في عين هذا العماء أرواح الملائكة المهيمة وما هم ملائكة بل هم أرواح مطهرة ثم ما زال يظهر فيه صور أجناس العالم شيئا بعد شي‏ء وطورا بعد طور إلى أن كمل من حيث أجناسه فلما كمل بقيت الأشخاص من هذه الأجناس تتكون دائما تكوين استحالة من وجود إلى وجود لا من عدم إلى وجود فخلق آدم من تراب وخلق بنى آدم من نطفة وهي الماء المهين ثم خلق النُّطْفَةَ عَلَقَةً فلهذا قلنا في الأشخاص إنها مخلوقة من وجود لا من عدم فإن الأصل على هذا كان وهو العماء من النفس وهو وجود وهو عين الحق المخلوق به وأجناس العالم مخلوقون من العماء وأشخاص العالم مخلوقون من العماء أيضا ومن أنواع أجناسه فما خلق شي‏ء من عدم لا يمكن وجوده بل ظهر في أعيان ثابتة وهو قولنا في أول هذا الكتاب الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه عن عدم من حيث إنه لم يكن لها عين ظاهرة وعدمه وعدم العدم وجود أي وإن لم يكن لها عين فهذه العين من وجود ظهرت على الحقيقة فأعدمت العدم الأول الذي‏

أثبته بنسبة ما فهو من حيث تلك النسبة ثابت ومن هذه النسبة الأخرى منفي وإذا تحققت هذا فإن شئت قلت هو عن عدم وإن شئت قلت هو عن وجود بعد علمك بالأمر على ما هو عليه ولو لا قوة الخيال ما ظهر من هذا الذي أظهرناه لكم شي‏ء فإنه أوسع الكائنات وأكمل الموجودات ويقبل الصور الروحانيات وهو التشكل في الصور المختلفة من الاستحالة الكائنة والاستحالة منها ما فيها سرعة كاستحالة الأرواح صورا جسدية والمعاني صورا جسدية تظهر في كون هذا العماء وثم استحالات فيها بطء كاستحالة الماء هواء والهواء نارا والنطفة إنسانا والعناصر نباتا وحيوانا فهذه كلها وإن كانت استحالات فما لها سرعة استحالة الصور في القوة المتخيلة في الإنسان وهو الخيال المتصل ولا في استحالات صور الأرواح في صور الأجسام أجسادا كالملائكة في صور البشر فإن السرعة هنالك أقوى

وكذا زوالها أسرع من استحالات الأجسام بعد الموت إلى ما تستحيل إليه ثم إذا فهمت هذا الأصل علمت أن الحق هو الناطق والمحرك والمسكن والموجد والمذهب فتعلم أن جميع الصور بما ينسب إليها مما هو له خيال منصوب وأن حقيقة الوجود له تعالى أ لا ترى إلى واضع خيال الستارة ما وضعه إلا ليتحقق الناظر فيه علم ما هو أمر الوجود عليه فيرى صورا متعددة حركاتها وتصرفاتها وأحكامها لعين واحدة ليس لها من ذلك شي‏ء والموجد لها ومحركها ومسكنها بيننا وبينه تلك الستارة المضروبة وهو الحد الفاصل بيننا وبينه به يقع التمييز فيقال فيه إله ويقال فينا عبيد وعالم أي لفظ شئت ثم إن هذا العماء هو عين البرزخ بين المعاني التي لا أعيان لها في الوجود وبين الأجسام النورية والطبيعة كالعلم والحركة هذا في النفوس وهذه في الأجسام فتتجسد في حضرة الخيال كالعلم في صورة اللبن وكذلك تعيين النسب وإن كانت لا عين لها لا في النفس ولا في الجسم كالثبات في الأمر نسبة إلى الثابت فيه يظهر هذا الثبات في صورة القيد المحسوس في حضرة الخيال المتصل وكالأرواح في صور الأجسام المتشكلة الظاهرة بها كجبريل في صورة دحية ومن ظهر من الملائكة في صور الذر يوم بدر هذا في الخيال المنفصل وكالعصا والحبال في صور الحيات تسعى كما قال يُخَيَّلُ إِلَيْهِ يعني إلى موسى من سِحْرِهِمْ أي من علمهم بما فعلوه أَنَّها تَسْعى‏ فأقاموا ذلك في حضرة الخيال فأدركها موسى مخيلة ولا يعرف أنها مخيلة بل ظن أنها مثل عصاه في الحكم ولهذا خاف فقيل له لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى‏ فالفرقان بين الخيال المتصل والخيال المنفصل أن المتصل يذهب بذهاب المتخيل والمنفصل حضرة ذاتية قابلة دائما للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها لا يكون غير ذلك ومن هذا الخيال المنفصل يكون الخيال المتصل والخيال المتصل على نوعين منه ما يوجد عن تخيل ومنه ما لا يوجد عن تخيل كالنائم ما هو عن تخيل ما يراه من الصور في نومه والذي يوجد عن تخيل ما يمسكه الإنسان في نفسه من مثل ما أحس به أو ما صورته القوة المصورة إنشاء لصورة لم يدركها الحس من حيث مجموعها لكن جميع آحاد المجموع لا بد أن يكون محسوسا فقد يندرج المتخيل الذي هو صورة الملك في صورة البشر وهو من الخيال المنفصل في الخيال المتصل فيرفعه في الخيال المتصل وهو خيال بينهما صورة حسية لولاها ما رفع مثالها الخيال المتصل ومن هذا الباب التجلي الإلهي في صور الاعتقادات وهذا مما يجب الايمان به‏

خرج مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث طويل وفيه حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر فيأتيهم رب العالمين تبارك وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فيقول ما ذا تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم قال فيقول أنا ربكم قال فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبين ربكم آية تعرفونه بها فيقولون نعم قال ف يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم قال فيقولون نعم أنت ربنا

الحديث فانظر نظر المنصف في هذا الخبر من تحول الحق سبحانه في الصور وهو سبحانه لا غيره فأنكر في صورة وأقر به في صورة والعين واحدة والصور مختلفة فهذا عين ما أردناه من اختلاف الصور في العماء أعني صور العالم فالصور بما هي صور هي المتخيلات والعماء الظاهرة فيه هو الخيال وفي هذا الحديث شفاء لكل صاحب علة إذا

استعمله بالنظر السديد على الإنصاف وطلب الحق وهكذا تجليه على القلوب وفي أعيان الممكنات فهو الظاهر وهو الصور بما تعطيه أعيان الممكنات باستعداد إنها فيمن ظهر فيها فالممكنات هو العماء والظاهر فيه هو الحق والعماء هو الحق المخلوق به واختلاف أعيان الممكنات في أنفسها في ثبوتها والحكم لها فيمن ظهر فيها وهكذا أيضا تجلى الحق للنائم في حال نومه ويعرف أنه الحق ولا يشك وكذلك في الكشف ويقول له عابر الرؤيا حقا رأيت وهو في الخيال المتصل فما أوسع حضرة الخيال وفيها يظهر وجود المحال بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجود المحال فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا يقبل الصور وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة فقد قبل المحال الوجود الوجود في هذه الحضرة وفيها يرى الجسم في مكانين كما رأى آدم نفسه خارجا عن قبضة الحق فلما بسط الحق يده فإذا فيه آدم وذريته الحديث فهو في القبضة وهو عينه خارج عن القبضة فلا تقبل هذه الحضرة إلا وجود المحالات وكذلك الإنسان في بيته نائم ويرى نفسه على صورته المعهودة في مدينة أخرى وعلى حالة أخرى تخالف حاله الذي هو عليها وهو عينه لا غيره لمن عرف أمر الوجود على ما هو عليه ولو لا هذه الرائحة ما قدر العقلاء على فرض المحال عند طلب الدلالة على أمر ما لأنه لو لم يقبل المحال الوجود في حضرة ما ما صح أن يفرض ولا يقدر فإذا قلت مثل هذا لمن فرضه ينسى بالخاصية حكم ما فرضه ويقول لا يتصور وجود المحال وهو يفرض وجوده ويحكم عليه بما يحكم على الواقع فلو لم يتصوره ما حكم عليه وإذا تصوره فقد قبل الوجود بنسبة ما فتحقق ما قلناه تجد الحق ومن هذا الباب مشاهدة المقتول في سبيل الله في المعركة وهو في نفس الأمر حي يرزق ويأكل يدركه المؤمن بإيمانه والمكاشف ببصره وكالميت في قبره يشاهده ساكتا وهو متكلم يسأل ويجيب فإن قلت لمن يرى هذا إنه خيل له يقول لك بل أنت خيل لك إنه ساكت وهو متكلم وخيل لك إنه مضطجع وهو قاعد ويعضده في قوله الايمان بالخبر الصحيح الوارد فهو أقوى في الدلالة منك فعينه أتم نظرا من عينك والكامل النظر الذي هو أكمل من الاثنين يقول لكل واحد صدقت هو ساكت متكلم مضطجع قاعد مقتول حي وكل صورة مشهودة فيه من الباب الذي ذكرناه ومن ذلك الصورة في المرآة وكل جسم صقيل إن كان الجسم الصقيل كبيرا كبرت الصورة المرئية فيه ثم إذا نظرت إلى الصورة من خارج وجدتها غير متنوعة فيما ظهر فيها من التنوع بتنوع المرائي حتى في تموج الماء تظهر الصورة متموجة وكل عين أي كل نظرة تقول للأخرى إنها في مقام الخيال وإن الحق بيدها وتصدق كل نظرة منها فتعلم قطعا إن الصورة المرئية في المرائي والأجسام الصقيلة إنما ظهورها في الخيال كرؤية النائم وتشكل الروحاني سواء وإنها ليست في المرآة ولا في الحس فإنها تخالف صورة الحس من حيث تعلقه الخاص به دون المرآة وليس في الوجود في الغيب والشهادة إلا ما ذكرناه وكذلك إدراكات الجنة فاكهتها لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ مع وجود الأكل وارتفاع الحجر فيأكلها من غير قطع بمجرد القطف وقربه من الشخص وعدم امتناعها من القطف ووجود الأكل وبقاء العين في غصن الشجرة فتشاهدها غير مقطوعة وتشهدها قطفا في يدك تأكلها وتعلم ولا تشك أن عين ما تأكله هو عين ما تشهده في غصن شجرته غير مقطوع وكذلك سوق الجنة تظهر فيه صور حسان إذا نظر إليها أهل الجنان فكل صورة يشتهيها دخل فيها فيلبسها ويظهر بها في ملكه ولعينه وهو يراها في السوق ما انفصلت ولا فقدت ولو اشتهاها كل من في الجنة دخل فيها وهي على حالها في السوق ما برحت فهذا كله نظير الحقائق كالبياض في كل أبيض بذاته لا أنه انقسم ولا تجزأ بل حقيقة البياضية معقولة ما انتقص منها شي‏ء مع وجودها في كل أبيض وكذلك الحيوانية في كل حيوان والإنسانية في كل إنسان فيعترف بهذا جميع العقلاء وينكرون ما ذكرناه من هذه الأمور في التجلي وغيره فما جاء من ذلك في الكتاب والسنة اعترف‏

به المؤمنون وساعدوا أهل الكشف وأنكره أصحاب النظر وإن قبلوه قبلوه بتأويل بعيد أو بتسليم لمن قاله إذا كان القائل الله أو رسوله فإن ظهر عنك مثله جهلوك وأنكروا ذلك ونسبوك إلى فساد الخيال فهم يعترفون بما أنكروه فإنهم أثبتوا الخيال وفساده ولا يدل فساده على عدمه وإنما هو فساده حيث لم يطابق عنده الصحيح الذي هو صحيح وسواء عندنا قلت فيه صحيح أو فاسد قد ثبت عينه وإن تلك الصورة في الخيال فدعها تكون صحيحة أو فاسدة ما أبالي ولم يكن مقصودنا إلا إثبات وجود الخيال‏

لم نتعرض إلى صحة ما يظهر فيه ولا إلى فساده فقد ثبت أن الحكم له بكل وجه وعلى كل حال في المحسوس والمعقول والحواس والعقول وفي الصور والمعاني وفي المحدث وفي القديم وفي المحال وفي الممكن وفي الواجب ومن لا يعرف مرتبة الخيال فلا معرفة له جملة واحدة وهذا الركن من المعرفة إذا لم يحصل للعارفين فما عندهم من المعرفة رائحة ثم إنه مما يؤيد ما ذكرناه إنك لا تشك إنك مدرك لما أدركته إنه حق محسوس لما تعلق به الحس وأن الحديث الوارد عن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في قوله الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا

فنبه أن ما أدركتموه في هذه الدار هو مثل إدراك النائم بل هو إدراك النائم في النوم وهو خيال ولا تشك أن الناس في البرزخ بين هذه الدار والدار الآخرة وهو مقام الخيال فانتباهك بالموت هو كمن يرى أنه استيقظ في النوم في حال نومه فيقول في النوم رأيت كذا وكذا وهو يظن أنه قد استيقظ ويعضد هذا الخبر قوله تعالى في حق الميت فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي تدرك ما لم تكن أدركته بالموت فهو يقظة بالنسبة لما كنت عليه في حال الحياة الدنيا ثم إذا بعثت في النشأة الآخرة يقول المبعوث من بَعَثَنا من مَرْقَدِنا هذا فكان كونه في مدة موته كالنائم في حال نومه مع كون الشارع سماه يقظة وهكذا كل حال تكون فيه لا بد لك من الانتقال عنه وتبقي مثل ما كنت عليه في خيالك المتصل وفي قوة كونه كان على الحقيقة في الخيال المنفصل إذ لو كان حقيقة ما تغير ولا انتقل فإن الحقائق لا تتبدل وحقيقة الخيال التبدل في كل حال والظهور في كل صورة فلا وجود حقيقي لا يقبل التبديل إلا الله فما في الوجود المحقق إلا الله وأما ما سواه فهو في الوجود الخيالي وإذا ظهر الحق في هذا الوجود الخيالي ما يظهر فيه إلا بحسب حقيقته لا بذاته التي لها الوجود الحقيقي ولهذا جاء الحديث الصحيح بتحوله في الصور في تجليه لعباده وهو قوله كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ فإنه لا يبقى حالة أصلا في العالم لا كونية ولا إلهية إِلَّا وَجْهَهُ يريد ذاته إذ وجه الشي‏ء ذاته فلا تهلك أين الصورة التي تحول فيها من الصورة التي تحول عنها هذا حظ الصورة التي تحول عنها من نسبة الهلاك إليها فكل ما سوى ذات الحق فهو في مقام الاستحالة السريعة والبطيئة فكل ما سوى ذات الحق

خيال حائل وظل زائل فلا يبقى كون في الدنيا والآخرة وما بينهما ولا روح ولا نفس ولا شي‏ء مما سوى الله أعني ذات الحق على حالة واحدة بل تتبدل من صورة إلى صورة دائما أبدا وليس الخيال إلا هذا فهذا هو عين معقولية الخيال أنظره في الأصل حيث قال في العماء فشبه بالسحاب والتشبيه تخيل والعماء هو جوهر العالم كله فالعالم ما ظهر إلا في خيال فهو متخيل لنفسه فهو هو وما هو هو ومما يؤيد ما ذكرناه وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فنفى عين ما أثبت أي تخيلت أنك رميت ولا شك أنه رمى ولهذا قال إِذْ رَمَيْتَ ثم قال الرمي صحيح ولكِنَّ الله رَمى‏ أي ظهرت يا محمد بصورة حق فأصابت رميتك ما لا تصيبه رمية البشر كما نفخ عيسى في صورة الطير فكان طيرا فظهر في نفخ عيسى النفخ الإلهي وهو قوله ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي والنفخ نفس والعماء عين ذلك النفس فهو نفخ في وجود الحق فتشكل منه خلق في حق فكان الحق المخلوق به ما ظهر من صور العالم فيه وما ظهر من اختلاف التجلي الإلهي فيه وهذا القدر كاف فيما ذهبنا إليه من علم الخيال وقد تقدم في هذا الكتاب معرفة الأرض التي خلقت من بقية طينة آدم عليه السلام وهي ما ظهر من صور العالم فيها فالعلم بتلك الأرض جزء من هذه المسألة

(النوع السابع) من المعرفة وهو علم العلل والأدوية

ويحتاج إليه من يربي من الشيوخ ولا تنفع هذه الأدوية إلا فيمن يقبل استعمالها فإن لم يستعملها العليل فلا يظهر لها أثر فلنبين إن شاء الله العلل بطريق الحصر لأمهاتها ثم نذكر الأدوية المختصة بها العلل في هذه الطريقة ليس لها محل إلا النفوس خاصة لا حظ للعقول فيها البتة ولا للأبدان فإن علل العقول معروفة وعلل الأجسام معروفة وأدوية علل الأجسام موقوفة على الأطباء وأدوية علل العقول اتخاذ الخلوات بالميزان الطبيعي وإزالة التفكر فيها ومداومة الذكر ليس غير ذلك وما بقي لنا الخوض فيه إلا علل النفوس وهي ثلاثة أمراض مرض في الأقوال ومرض في الأفعال ومرض في الأحوال وأما مرض الاعتقادات فهو مرض العقول وقد ذكرناه فلنذكر أمراض الأقوال فمنها التزام قول الحق وهو من أكبر الأمراض دواؤه معرفة المواطن التي ينبغي أن يصرفه فيها فإن الغيبة حق وقد نهي عنها والنميمة حق وقد نهي عنها وما يفعله الرجل مع أهله في فراشه إذا أفضى إليها فيقول في ذلك حقا وهذا القول من الكبائر والنصيحة في الملإ بالحق حق وهو فضيحة ولا تقع إلا من‏

الجهلاء وأصحاب الأغراض لأن الفائدة المطلوبة من النصيحة حصول المنفعة وثبوت الود فإذا وقع النصح في الملإ لم يحصل القبول وأثمر عداوة وذمه الله فإنه يخجل بتلك النصيحة في الملإ ويجعل الشخص الذي خاطبه بالنصح في الملإ يكذب في اعتذاره عن ذلك ويجد عليه فيه ويكون ذلك سببا إلى فساد كبير فلو نصحه في خلوة بطريقة حسنة بأن يظهر له عيب نفسه في نفس الأمر ولا يشعره إنه يقصده بذلك ليعلمه إن كان جاهلا بقبح ذلك الأمر الذي نصحه فيه شكره في نفسه وأحبه ودعي له وأثمر له الخير وكان في ميزانه فما كل حق مأمور به ولا مستحسن شرعا ولا عرفا وكذلك من يجبه الناس بما يكرهون وإن كان حقا فإنه يدل على لؤم الطباع والجهل وقلة الحياء من الله فإنه بعيد أن يسلم في نفسه من عيب يكون فيه لا يرضى الله فلو اشتغل بالنظر في عيبه لشغله ذلك عن عيب غيره ومن التزم تتبع حركات صاحبه بحيث أن يقيد عليه أنفاسه فهو من أشد الأمراض فإنه شغل بما لا يعنيه وغفلة عن نفسه والنفس تخزنه عندها في زمان صداقته ليوم ما وهو لا يشعر ويحجبه عن هذا الشعور محبته فيه في الوقت فإذا وجد في نفسه أدنى كراهة في صاحبه أو أعراض لملل أو هفوة صدرت منه في حقه أخرج ما كان عنده مخزونا من القبائح التي كان خباؤها عنده واختزنها له في نفسه في تتبعه فيقول له في معرض التوبيخ أ لم تقل كذا في يوم كذا أ لم تفعل كذا في يوم كذا ثم إذا عدد عليه ما كان اختزنه يقول له وهذا كله يدل على قلة الدين أو عدم الدين وأنا كنت أرى منك هذا كله وأقول لعل له في هذا وجهاد ولا وجه لك فيه في الشرع وهذا خلاف الحق فيسمعه ما يكره وما كان غافلا عنه وما كان يعلم أن هذا يحصي عليه أنفاسه ويرجع عليه من أكبر الأعداء وأصل هذا كله من التتبع لمثالبه واختزانه إياها في خزانة نفسه وذلك لسوء الطبع ودناءة الأصل والفرع وهذا يوجد في الأصحاب والأصدقاء كثيرا وقد قيل في ذلك‏

احذر عدوك مرة *** واحذر صديقك ألف مرة

فلربما هجر الصديق *** فكان أعرف بالمضرة

وهذا كله وبال يعود على قائله وإن كان حقا ومن أمراض الأقوال السؤال عن أحوال الناس وما يفعلون ولم جاء فلان ولم مشى فلان والسؤال عن كل ما لا يعني وسؤاله عن أهله ما فعلوا في غيبته دواه‏

التأسي برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في كونه ما أتى أهله من سفره ليلا ونهيه أصحابه عن ذلك حتى لا يفجأهم فيرى منهزما يكره‏

والاستئذان من هذا الباب إبقاء للستر فإنه قد علم إن لكل أحد هنات وأيضا فما كل ما يعمله الإنسان وإن كان خيرا يحب أن يعلمه منه كل أحد فإذا ألح هذا السائل عن العلم به أضر بالمسئول حيث جعله ينطق بما لا يريده أو يكذب فإن لم ينطق أثر في نفس السائل خرازة ويقول لو كنت عنده بمكانة ما ستر عني ما سألته عنه فنقص من خلوص مودته التي كانت له في نفسه ولو حصلت له تهمة في نفسه تؤديه إلى مثل هذا الفعل فليس له ذلك شرعا ولا عقلا ولا مروءة وهذا باب قل أن يقع إلا من خبيث الباطن لا دين له سيئ السريرة

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏

ومن أمراض الأقوال الامتنان والتحدث بما يفعله من الخير مع الشخص على طريق المن والمن الأذى دواؤه لما كان يسوءه ذلك ويحبط أجر رب النعمة فإن الله تعالى قد أبطل ذلك العمل بقوله لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والْأَذى‏ وأي أذى أعظم من المن فإنه أذى نفسي ودواؤه إنه لا يرى أوصل إليه مما كان في يديه إلا ما هو له في علم الله وإن ذلك الخير إنما كان أمانة بيده ما كان له لكنه لم يكن يعرف صاحبها فلما أخرجها بالعطاء لمن عين الله في نفس الأمر حينئذ يعرف صاحب تلك الأمانة فشكر الله على أدائها ومن أعطى هذا النظر فلا تصح منه منة أصلا ومن أمراض الأقوال أيضا أن يفعل الرجل الخير مع بعض أولاده لأمر في نفسه وبعض أولاده ما فعل معهم ذلك الخير فيقول له قائل بحضور من لم يفعل معه ذلك من أولاده لم لم تفعل مثل ذلك مع هذا الولد الآخر فهذا من فضول الكلام حيث قاله بحضور ولده ويثمر في نفس الولد عداوة لأبيه ولا يقع مثل هذا إلا من جاهل كثير الفضول فإنها كلمة شيطانية وليس لها دواء بعد وقوعها وأما قبل وقوعها فداؤها أن ينظر في‏

قول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏

ومن أمراض الأقوال أيضا أن يقول الإنسان أنا أقول الحق ولا أبالي عز على السامع ذلك أو لم يعز عليه من غير أن ينظر إلى فضول القول ومواطنه ثم يقول‏

قلت لفلان الحق وعز عليه سماعه ويزكي نفسه ويجرح غيره وينسى قوله تعالى لا خَيْرَ في كَثِيرٍ من نَجْواهُمْ وهو دواء هذه العلة الدواء لا خَيْرَ في كَثِيرٍ من نَجْواهُمْ إِلَّا من أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ولها مواطن وصفة مخصوصة وهو أن يأمره في السر لا في الجهر فإن الجهر علة لا يشعر بها لأنه قد يعطيها لغير الله ثم قال أَوْ مَعْرُوفٍ وقول المعروف هو القول في موطنه الذي عينه الله ويرجو حصول الفائدة به في حق السامع فهذا معنى أَوْ مَعْرُوفٍ فمن لم يفعل فهو جاهل وإن ادعى العلم ثم قال أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فيعلم إن مراد الله التوادد والتحابب فيسعى في ذلك وإن لم يجعل الكلام في موضعه أدى إلى التقاطع والتنافر والتدابر ثم بعد هذا كله قال في حق المتكلم ومن لم يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ولا يكون ذلك إلا ممن يعلم ما يرضى الله ولا يعلم ما يرضى الله إلا بالعلم بما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله فيرى عند ما يريد أن ينطق بالأمر هل نطقه به في ذلك الموطن يرضى الله من جميع الوجوه فإن وجد وجها يقدح فيه فالكل غير مقبول وغير مرضي عند الله فإنه لا يحتمل التجزي ولا الانقسام وهذا موضع غلط ودواؤه ما قلنا من العمل المشروع والعلم بما يرضى الله ومن أمراض الأقوال أيضا تغيير المنكر على شخص معين من سلطان وغيره دون أن يعم دواءه معرفة الميزان في ذلك وبراءته في نفسه من كل منكر يعلم أن الشرع ينكره عليه في مذهبه واجتهاده لا غير ولا يلزمه ما هو عند غيره منكر وعنده مباح ثم الذي هو عنده منكر ينظر إلى من يغير عليه ذلك إن كان ممن هو عنده معروف كالنبيذ عند الحنفي المتخذ من التمر إذا رآه يشربه أو يتوضأ به وهو عنده حرام فلا يغيره إلا على من يعتقد تحريمه خاصة أو يكون من المنكر المجمع عليه فهذا هو الميزان وتفاريع الأقوال كثيرة وحصر عللها وأدويتها في أمرين الواحد أن تتكلم إذا اشتهيت أن تسكت وتسكت إذا اشتهيت أن تتكلم والأمر الآخر أن لا تتكلم إلا فيما إن سكت عنه كنت عاصيا وإن لم فلا وإياك والكلام عند ما تستحسن كلامك وتستحليه فإن الكلام في ذلك الوقت من أكبر الأمراض وما له دواء إلا الصمت لا غير إلا أن تشهد على رفع الستر هذا هو الضابط

(وصل) وأما أمراض الأفعال‏

فهو أن يكون أداؤك لذلك الفعل الذي هو عبادة كالصلاة مثلا في الملإ أحسن من أدائك في السر يقول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في مثل هذه الفعلة تلك استهانة استهان بها ربه في رجل حسن صلاته في الملإ وأساءها في الخلوة وهذا من أصعب الأمراض النفسية ودواؤه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ ويَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ والله أحق أن يستحي منه وأمثال هذه الآيات والأخبار ولهذا دواء آخر ولكن يغمض تركيبه وهو أن ينوي بتحسينه تعليم الجاهل وتذكرة الغافل ومن الأمراض الفعلية أيضا ترك العمل من أجل الناس وهو الرياء عند الجماعة وأما العمل من أجل الناس فذلك شرك ما هو رياء عند السادة من أهل الله ودواؤه والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ وما أشبه هذه الآية فاعلم ذلك‏

(وصل) وأما أمراض الأحوال‏

فصحبة الصالحين حتى يشتهر في الناس أنه منهم وهو في نفسه مع شهوته فإن حضروا سماعا وهو قد تعشق بجارية أو غلام والجماعة لا تعلم بذلك فأصابه وجد وغلب عليه الحال لتعلقه بذلك الشخص الذي في نفسه فيتحرك ويصيح ويتنفس الصعداء ويقول الله الله أو هو هو ويشير بإشارات أهل الله والجماعة تعتقد في حاله أنه حال إلهي مع كونه ذا وجد صحيح وحال صحيحة ولكن فيمن دواءه وقَدْ خابَ من دَسَّاها وما أشبه هذه الآية من الأخبار ومن أمراض الأحوال أيضا أن يلبس دون ما في نفسه دواؤه أن يلبس ما في نفسه مما يحل له لباسه وأمثال هذا فمن عرف هذه العلل وأدوائها واستعملها مع نفسه نفعها (حكي) عن الشيخ روز بهار أنه كان قد ابتلي بحب امرأة مغنية وهام فيها وجدا وكان كثير الزعقات في حال وجده في الله بحيث إنه كان يشوش على الطائفين بالبيت في زمن مجاورته فكان يطوف على سطوح الحرم وكان صادق الحال ولما ابتلي بحب هذه المغنية لم يشعر به أحد وانتقل حكم ذلك الذي كان عنده بالله بها وعلم أن الناس يتخيلون فيه إن ذلك الوجد لله على أصله فجاء إلى الصوفية وخلع الخرقة ورمى بها إليهم وذكر للناس قصته وقال لا أريد أكذب في حالي ولزم خدمة المغنية فأخبرت المرأة بحاله ووجده بها وأنه من أكابر أهل الله فاستحت المرأة وتابت إلى الله مما كانت فيه ببركة صدقه ولزمت خدمته وأزال الله ذلك التعلق بها من قلبه فرجع إلى الصوفية ولبس خرقته ولم ير أن يكذب مع الله في‏

حاله فهكذا صدقهم فهذا حصر الأمر فإن الإنسان لا يخلو أن يقام في قول أو فعل أو حال وما ثم رابع وكذلك صاحب القيام في حال الوجد إذا قام بوجده ثم زال عنه جلس من حينه ولا يتواجد فإن تواجد ولم يقل للحاضرين إنه متواجد فهو صاحب مرض فهذا جماع هذه المسألة وتفاريع الأقوال والأفعال والأحوال كثيرة فليحذر من الكذب في ذلك وليلزم الصدق ولا يظهر للناس إلا بما يظهر لله في الموطن الذي ينبغي فإن العلم بحكم الله في تفاصيل هذه الأمور شرط في أهل الله ولا بد من ذلك فما عبد الله من لم يعلم حكمه فإن الله ما اتخذ وليا جاهلا فهذا قد ذكرنا جماع أبواب المعرفة وفصولها التي إذا حصلها الإنسان سمي عارفا خاصة فإن زاد على هذا العلم بالله وما يجب له وما يجوز عليه وما يستحيل ويفرق بين علمه بذاته وبين علمه بكونه إلها فهذا مقام العلماء بالله لا مقام العارفين فإن المعرفة محجة وطريق والعلم حجة والعلم نعت إلهي والمعرفة نعت كياني نفسي رباني وهذا الباب للمعرفة غير أن أصحابنا من أهل الله قد أطلقوا على العلماء بالله اسم العارفين وعلى العلم بالله من طريق الذوق معرفة وحدوا هذا المقام بنتائجه ولوازمه التي تظهر عن هذه الصفة في أهلها (سئل) الجنيد عن المعرفة والعارف فقال لون الماء لون إنائه أي هو متخلق بأخلاق الله حتى كأنه هو وما هو هو وهو هو فالعارف عند الجماعة من أشعر الهيبة نفسه والسكينة وعدم العلاقة الصارفة عنه وأن يجعل أول المعرفة لله وآخرها ما لا يتناهى ولا يدخل قلبه حق ولا باطل وأن توجب له الغيبة عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق فلا يشهد غير الله ولا يرجع إلى غيره فهو يعيش بربه لا بقلبه وأن تكون المعرفة إذا دخلت قلبه تفسد أحواله التي كان عليها بأن تقلبها إليه تعالى لا بأن تعدمها فإنها عندهم كما قال الله تعالى عن قول بلقيس إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وعندنا ليس كذلك بل يجعلوا أعزة أهلها بالله بعد ما كانت بغير الله وذلتها لله لا لغير الله فلا حال عندهم للعارف لمحو رسومه وفناء هويته وغيبة أثره وأنه لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وإن العارف أخرس منقطع مقتطع منقمع عاجز عن الثناء على معروفه وأنه خائف متبرم بالبقاء في هذا الهيكل وإن كان منورا لما عرفه الشارع أن في الموت لقاء الله فتنغصت عليه الحياة الدنيا شوقا إلى ذلك اللقاء فهو صافي العيش كدر طيب الحياة في نفس الأمر لا في نفسه قد ذهب عنه كل مخلوق وهابه كل ناظر إذا رى‏ء ذكر الله وأنه ذو أنس بالله وأن يكون مع الله بلا فصل ولا وصل حيي في قلبه تعظيم قلبه مرآة للحق حليم محتمل فارغ من الدنيا والآخرة ذو دهش وحيرة يأخذ أعماله عن الله ويرجع فيها إلى الله بطنه جائع وبدنه عار لا يأسف على شي‏ء إذ لا يرى غير الله طيار تبكي عينه ويضحك قلبه فهو كالأرض يطئوها البر والفاجر وكالسحاب يظل كل شي‏ء وكالمطر يسقى ما يحب وما لا يحب لا تمييز عنده لا يقضي وطره من شي‏ء بكاؤه على نفسه وثناؤه على ربه يضيع ماله ويقف مع ما للحق لا يشتغل عنه طرفة عين عرف ربه بربه مهدي في أحواله لا يلحظه الأغيار ولا يتكلم بغير كلام الله مستوحش من الخلق ذو فقر وذلة يورث غنى وعزة معرفته طلوع حق على الأسرار ومواصلة الأنوار حاله فوق ما يقول استوت عنده الحالات في الفتح فيفتح له على فراشه كما يفتح له في صلاته وإن اختلفت الواردات بحسب المواطن دائم الذكر ذو لوامع يسقط التمييز لا يكدره شي‏ء ويصفو به كل شي‏ء تضي‏ء له أنواع العلم فيبصر بها عجائب الغيب مستهلك في بحار التحقيق صاحب أمواج تغط فترفع وتحط صاحب وقت واستيفاء حقوق المراسم الإلهية على التمام نعته في تحوله من صفة إلى صفة دائم لا يتعمل ولا يجتلب أحيد الوقت يسع الأشياء ولا تسعه يرجو ولا يرجى رحيم مؤنس مشاهد جلال الحق وجمال الحضرة امعة مع كل وارد يصادف الأمور من غير

قصد له وجود في عين فقد ذو قهر في لطف ولطف في قهر حق بلا خلق مشاهد قيام الله على كل شي‏ء فإن عنه به باق معه به غائب عن التكوين حاضر مع المكون صاح بغيره سكران بحبه جامع للتجلي لا يفوته ما مضى بما هو فيه ثابت المواصلة محكم للعبادة في العادة مع إزالة العلل طائع بذاته قابل أمر ربه منزه عن الشبيه تجري عليه منه أحكام الشرع في عين الحقيقة ذو روح وريحان قلبه طريق مطرقة لكل سالك صاحب دليل وكشف وشهود يكرم الوارد ويتأدب مع الشاهد بري‏ء من العلل صاحب إلقاء وتلق مضنون به مستور بولهه محبوس في الموقف ذاهب تحت القهر رجوعه سلوك وحجابه شهود سره لا يعلم به زره كلما ظهر له وجه‏

علم أنه بطن عنه وجه منفرد بلا انفراد متواتر الأحوال بحكم الأسماء أمين بالفهم قابل للزيادة موحد بالكثرة صاحب حديث قديم يعلم ما وراء الحجب من غير رفع حجاب ذو نور طامس شعاعاته محرقة وفجآت وارداته مقلقة يرد عليه ما لا يعرف متمكن في تلوينه لكون خالقه كل يوم في شأن مجرد بكله عن السوي واقف بالحق في موطنه مريد لكل ما يراد منه ذو عناية إلهية تجذبه سالك في سكون مقيم في سفره صاحب نظرة ونظر يجد ما لا تسعه العبارة من دقائق الفهم عن الله من غير سبب مهذب الأخلاق غير قائل بالاتحاد ذاهب في كل مذهب بغير ذهاب مقدس الروح عن رعونات النفوس معلوم المراتب في البساط مؤمن بالناطق في سره مصغ إليه راغب فيما يريد به مشفق مما في باطنه مظهر خلاف ما يخفى لمصلحة وقته ولهه لا يحكم عليه غريب في الملإ الأعلى والأسفل ذو همة فعالة مقيدة غير مطلقة غيور على الأسرار أن تذاع لا يسترقه شي‏ء يطالع بالكوائن على طريق المشورة باستجلاء في ذلك يجده يمنعه ذلك من الانزعاج لأنه لا يقتضيه مقام الكون له جماع الخير يتحكم بالمشيئة لا بالاسم قد استوت طرفاه فازله مثل أبده تدور عليه المقامات ولا يدور عليها له يدان يقبض بهما ويبسط في عالم الغيب والشهادة عن أمر الحق ولاية وخلافة حمال أعباء المملكة يستخرج به غيابات الأمور ينشئ خواطره أشخاصا على صورته محفوظ الأربعة فريد من النظر آله في الملكوت وقائع مشهودة ونعوت العارف أكثر من أن تحصى فهذه بعض إشارات الطائفة في حقيقة العارف والمعرفة جئنا بها لنعلم مقاصدهم في ذلك حتى لا يقول أحد عنا إنا قد انفردنا بطريق لم يسلكوا عليها بل الطريق واحدة وإن كان لكل شخص طريق تخصه فإن الطرق إلى الله تعالى على عدد أنفاس الخلائق يعني أن كل نفس طريق إلى الله وهو صحيح فعلى قدر ما يفوتك من العلم بالأنفاس ومراعاتها يفوتك من العلم بالطريق وبقدر ما يفوتك من العلم بالطرق يفوتك من غاياتها وغاية كل طريق هو الله فإنه إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وأما صفة العارف عندنا من الموطن الإلهي الذي يشهده العارفون من الحق في وجودهم وهو شهود عزيز وذلك أن يكون العارف إذا حصلت له المعرفة قائما بالحق في جمعيته نافذ الهمة مؤثرا في الوجود على الإطلاق من غير تقييد لكن على الميزان المعلوم عند أهل الله مجهول النعت والصفة عند الغير من جميع العالم من بشر وجن وملك وحيوان لا يعرف فيحد ولا يفارق العادة فيميز حامل الذكر مستور الحال عام الشفقة على عباد الله يفرق في رحمته بين من أمر برحمته حتى يجعل له خصوص وصف عارف بإرادة الحق في عباده قبل وقوع المراد فيريد بإرادة الحق لا ينازع ولا يقاوم ولا يقع في الوجود ما لا يريده وإن وقع ما لا يرضى وقوعه بل يكرهه شديد في لين يعلم مكارم الأخلاق في سفسافها فينزلها منازلها مع أهلها تنزيل حكيم بري‏ء ممن تبرأ الله منه محسن إليه مع البراءة منه مصدق بكل خبر في العالم كما يعلم عند الغير أنه كذب فهو عنده صدق مؤمن عباد الله من غوائله مشاهد تسبيح المخلوقات على تنوعات أذكارها لا تظهر إلا لعارف مثله إذا تجلى له الحق يقول أنا هو لقوة التشبه في عموم الصفات الكونية والإلهية إذا قال بسم الله كان عن قوله ذلك كل ما قصده بهمته لا يقول كن أدبا مع الله يعطي المواطن حقها كبير بحق صغير لحق متوسط مع حق جامع لهذه الصفات في حال واحدة خبير بالمقادير والأوزان لا يفرط ولا يفرط يتأثر مع الأناة لتغير الأحوال فلا يفوته من العالم ولا مما هو عليه الحق في الوقت شي‏ء مما يطلبه العالم في زمن الحال يشاهد نشأ الصور من أنفاسه بصورة ما هو عليه في قلبه عند خروج النفس فإذا ورد عليه النفس الغريب من خارج لتبريد القلب خلع على ذلك النفس خلعة الوقت فينصبغ ذلك النفس بذلك النور الذي يجد في القلب يستر مقامه بحاله وحاله بمقامه فيجهله أصحاب الأحوال بمقامه ويجهله أصحاب المقامات بحاله له عنف على شهوته إذا لم ير وجه الحق في طبيعتها يبذل لك لا له عطاءه غير معلول لا يمن إذا امتن ويمتن بقبول المن لا يؤاخذ الجاهل بجهله فإن جهله له وجه في العلم لا يشعر المعطي من عنده حين ما يعطيه يعرفه أن ذلك أمانة عنده أمر بإيصالها إليه لا

يعرفه أن ذلك من عند الله يفتح مغاليق الأمور المشكلة بالنور المبين يأكل من فوقه ومن تحت رجله يضم القلوب إليه إذا شاء من حيث لا تشعر ويرسلها إذا شاء من حيث لا تشعر يملك أزمة الأمور وتملكه بما فيها من وجه الحق لا غير ينظر إلى العلو فينسفل بنظره وينظر إلى السفل فيعلو ويرتفع بنظره يحجر الواسع ويوسع المحجور يسمع كل مسموع منه لا من حيثية ذلك المسموع ويبصر كل مبصر منه لا من حيث ذلك المبصر يقتضي بين الخصمين‏

بما يرضى الخصمين فيحكم لكل واحد لا عليه مع تناقض الأمر يميل إلى غير طريقه في طريقه لحكمة الوقت يغلب ذكر النفس على ذكر الملإ من أجل المفاضلة غيرة أن يفاضل الحق فإنه ذاكر بحق في حق الأمور كلها عنده ذوقية لا خبرية يعرف ربه من نفسه كما علم الحق العالم من علمه بنفسه لا يؤاخذ بالجريمة فإن الجريمة استحقاق والمجرم المستحق عظمته في ذلته وصغاره لا ينتقل عن ذلته في موطن عظمته دنيا وآخرة هو في علمه بحسب علمه إن اقتضى العمل عمل وإن اقتضى أن لا عمل لم يعمل عنده خزائن الأمور بحكمه ومفاتيحها بيده ينزل بقدر ما يشاء ويخرج ما يشاء من غير اشتعار غواص في دقائق الفهوم عند ورود العبارات له نعوت الكمال له مقام الخمسة في حفظ نفسه وغيره ينظر في قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فلا يتعداه يدبر أمور الكون بينه وبين ربه كالمشير العالم الناصح في الخدمة القائم بالحرمة لا أينية لسره لا يبخل عند السؤال ينظر في الآثار الإلهية الكائنة في الكون ليقابلها بما عنده لما سمع الله يقول سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ يسمع نداء الحق من ألسنة الخلق يسع الأشياء ولا تسعه سوى ربه فهو ابنه وعينه مرتب للأوامر الإلهية الواردة في الكون ثابت في وقت التزلزل لا تزلزله الحادثات ليست في الحضرة الإلهية صفة لا يراها في نفسه يظهر في أي صورة شاء

بصفة الحياة مع الوقوف عند المحدود يعرف حقه من حق خالقه يتصرف في الأشياء بالاستحقاق ويصرف الحق فيها بالاستخلاف له الاقتدار الإلهي من غير مغالبة لا تنفذ فيه همم الرجال ولا يتوجه للحق عليه حق يتولى الأمور بنفسه لا بربه لأنه لا يرى نفسه لغلبته ربه عليه تعود عليه صفات التنزيه مع وجود التشبيه يحصي أنفاسه بمشاهدة صورها فيعلم ما زاد وما نقص في كل يوم وليلة ينظر في المبدأ والمعاد فيرى التقاء طرفي الدائرة يلقى الكلمة في المحل القابل فيبدل صورته وحاله في أي صورة كان ما يطأ مكانا إلا حيي ذلك المكان بوطأته لأنه وطئه بحياة روحية إذا قام قام لقيامه ربه ويغضب لغضبه ويرضى لرضاه فإن حالته في سلوكه كانت هكذا فعادت عليه هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ لا يخطر له خاطر في شي‏ء إلا تكون ولا يعرف ذلك الشي‏ء أنه كونه له على الأشياء شرف العماء لا شرف الاستواء فهو وحيد في الكون غير معروف العين من لجأ إليه خسر ولا تقتضي حاجته إلا به فإنه ظاهر بصورة العجز وقدرته من وراء ذلك العجز لا يمتنع عن قدرته ممكن كما لا يمتنع عن قدرة خالقه محال ليصح الامتياز فهذا وإن تأخر بظاهره فهو متقدم بباطنه ليجمع في شهوده بين الأول والآخر والباطن والظاهر بحسن للمسي‏ء والمحسن يرجع إلى الله في كل أمر ولا ينتقم لنفسه ولا لربه إلا بأمره الخاص فإن لم يأمره عفي بحق لشهوده السابقة في الحال القليل عنده كثير والكثير عنده قليل يجري مع المصالح فيكون الحق له ملكا يسبح أسماء الله بتنزيهها عن أن تنالها أيدي الغافلين غيرة على الجناب الإلهي من حيث كونها دلائل عليه دلالة الاسم على المسمى إن ولي منصبا يعطي العلو لم ير فيه متعاليا بالله فأحرى بنفسه يعدل في الحكم ولا يتصف بالظلم جامع علوم الشرع من عين الجمع مستغن عن تعليم المخلوقين بتعليم الحق يعطي ما تحصل به المنفعة ولا يعطي ما تكون به المضرة إن عاقب فتطهير لا تبقي مع نور عدله ظلمة جور ولا مع نور علمه ظلمة جهل يبين عن الأمور بلسان إلهي فيكشف غامضها ويجليها في منصتها يخترع من مشاهدة صورة موجدة لا من نفسه وليس هذا لكل عارف إلا لمن يعلم المصارف فإنه مشهد ضنين له البقاء في التلوين يرث ولا يورث بالنبوة العامة يتصرف ويعمل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي يؤذي فيحلم عن مقدرة وإذا آخذ فبطشه شديد لأنه خالص غير مشوب برحمة قال أبو يزيد بطشي أشد فهذه صفة العارف عندي فتحقق فإن موطن هذا لمأخذ عزيز والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏

(وصل) في تسمية هذا المقام بالمعرفة وصاحبه بالعارف‏

اختلف أصحابنا في مقام المعرفة والعارف ومقام العلم والعالم فطائفة قالت مقام المعرفة رباني ومقام العلم إلهي وبه أقول وبه قال المحققون كسهل التستري وأبي يزيد وابن العريف وأبي مدين وطائفة قالت مقام المعرفة إلهي ومقام العلم دونه ربه أيضا أقول فإنهم أرادوا بالعلم ما أردناه بالمعرفة وأرادوا بالمعرفة ما أردناه بالعلم فالخلاف فيه لفظي وعمدتنا قول الله تعالى وإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ من الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا من الْحَقِّ فسماهم عارفين وما سماهم علماء ثم ذكر ذكرهم فقال يَقُولُونَ رَبَّنا ولم يقولوا إلهنا آمَنَّا ولم يقولوا علمنا ولا شاهدنا فأقروا بالاتباع فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وما قالوا نحن من الشاهدين وقالوا وما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وما جاءَنا من الْحَقِّ ونَطْمَعُ‏

ولم يقولوا ونقطع أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا ولم يقولوا إلهنا مع القوم ولم يقولوا مع عبادك الصالحين كما قالت الأنبياء فقال الله لهؤلاء الطائفة التي صفتهم هذه فَأَثابَهُمُ الله بِما قالُوا جَنَّاتٍ محل شهوات النفوس فأنزلناهم حيث أنزلهم الله وقد استوفينا القول في الفرق بين المعرفة والعلم في كتاب مواقع النجوم وبينا فيه إن القائل بمقام المعرفة إذا سألته عنه أجاب بما يجيب به المخالف في مقام العلم فوقع الخلاف في التسمية لا في المعنى ثم حدث لهم في هذا المقام خلاف آخر هل الموصوف به مالك جميع المقامات أم لا والصحيح إنه ليس من شرطه التحكم وأن ملك جميع المقامات بما يعطيه من الأحوال والتصرف في العالم وإنما شرطه أن يعلم فإذا أراد التحكم نزل إلى الحال لأن التحكم للأحوال إذا علم إن نزوله غير مؤثر في مقامه ولهذا لا ينزلون إلى الحال إلا عن أمر إلهي فإذا سمع من شيخ محقق في هذا الطريق إن صاحب هذا المقام مالك جميع المقامات فإنه يريد بالعلم لا بالحال وقد يعطي الحال ولكن ما هو بشرط فإن قال أحد إنه شرط فهو مدع لا معرفة له بطريق الله ولا بأحوال الأنبياء وأكابر الأولياء ويرد عليه هذا القول فإن الكامل كلما علا في المقام نقص في الحال أعني في الدنيا وأما في الآخرة فلا كما أن المشاهدة تغني عن رؤية الأغيار كذلك المقام يذهب بالأحوال لأن الثبوت يقابل الزوال انتهى الجزء الحادي عشر ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

[إن الله جعل في القوة المفكرة التصرف في الموجودات‏]

واعلموا أن الله تعالى لما خلق القوة المسماة عقلا وجعلها في النفس الناطقة ليقابل بها الشهوة الطبيعية إذا حكمت على النفس أن تصرفها في غير المصرف الذي عين لها الشارع فعلم الله أنه قد أودع في قوة العقل القبول لما يعطيه الحق ولما تعطيه القوة المفكرة وقد علم الله أنه جعل في القوة المفكرة التصرف في الموجودات والتحكم فيها بما يضبطه الخيال من الذي أعطته القوي الحسية ومن الذي أعطته القوة المصورة مما لم تدركه من حيث المجموع بالقوة الحسية فعلم أنه لا بد أن تحكم عليه القوة المفكرة بالتفكر في ذات موجدة وهو الله تعالى فأشفق عليها من ذلك لما علمه من قصورها عن درك ما ترومه من ذلك فخاطبها قرآنا ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يقول ما حذرناكم من النظر في ذات الله إلا رحمة بكم وشفقة عليكم لما نعلم ما تعطيه القوة المفكرة للعقل من نفي ما نثبته على ألسنة رسلي من صفاتي فتردونها بأدلتكم فتحرمون الايمان فتشقون شقاوة الأبد ثم‏

أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن ينهانا أن نفكر في ذات الله‏

كما فعل بعض عباد الله فأخذوا يتكلمون في ذات الله من أهل النظر واختلفت مقالاتهم في ذات الله وكل تكلم بما اقتضاه نظره فنفى واحد عين ما أثبته الآخر فما اجتمعوا على أمر واحد في الله من حيث النظر في ذاته وعصوا الله ورسوله بما تكلموا به مما نهاهم الله عنه رحمة بهم فرغبوا عن رحمة الله وضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فقالوا هو علة وقال آخرون ليس بعلة وقال آخرون ذات الحق لا تصح أن تكون جوهرا ولا عرضا ولا جسما بل عين أنيتها عين ماهيتها وإنها لا تدخل تحت شي‏ء من المقولات العشرة وأطنبوا في ذلك وكانوا كما جاء في المثل أسمع جعجعة ولا أرى طحنا ثم جاء الشرع بنقيض ما دلت عليه العقول فجاء بالمجي‏ء والنزول والاستواء والفرح والضحك واليد والقدم وما قد روينا في صحيح الأخبار مما هو من صفات المحدثات ثم جاء ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ مع ثبوت هذه الصفات فلو استحالت كما يدل عليه العقل ما أطلقها على نفسه ولكان الخبر الصدق كذبا إذ ما بعث الله رسولا إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ليبين لهم ما أنزل إليهم ليفهموا وقد بين صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وبلغ وأشهد الله على أمته أنه بلغ فجهلنا النسبة ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ خاصة وفهمنا معقول هذه الألفاظ الواردة وأن المعقول منها واحد بالنظر إلى الوضع فتختلف نسبتها باختلاف المنسوب إليه ما تختلف حقائقها لأن الحقائق لا تتبدل فمن وقف مع هذه الألفاظ ومعانيها وقال بعدم علم النسبة إلى الحق فهو عالم مؤمن ومن نسبها على وجه من وجوه المصارف الخارجة عن التجسيم فلا مؤمن ولا عالم فلو أنصف هذا الناظر في ذات الله ما نظر في ذات الله وآمن بما جاء من عند الله إذ قد دله دليل على صدق المخبر وهو الرسول فهذا منعني في هذا الباب من الكلام في ذات الله بما تعطيه أدلة العقول وعدلنا إلى علم ذلك بما جاء من المنقول مع نفي المماثلة في النسبة والعلم الصحيح‏



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de l'arabe de manière semi-automatique!