Les révélations mecquoises: futuhat makkiyah

Parcourir les Titres Section I: les Connaissances (Maarif) Section II: les Interactions (Muamalat) Section IV: les Demeures (Manazil)
Présentations Section V: les Controverses (Munazalat) Section III: les États (Ahwal) Section VI : les Stations (Maqamat du Pôle)
Première Partie Deuxième Partie Troisième Partie Quatrième Partie

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى الحج وأسراره

في مواضعها فقد أعطاها ما تستحقه عليه وهو حكيم وقته فإن الحكمة تعطي وضع كل شي‏ء في موضعه والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏

[ما ثم شي‏ء مطلق في عالم الإمكان‏]

وما ثم شي‏ء مطلق أصلا لأنه لا يقتضيه الإمكان ولا تعطيه أيضا الحقائق فإن الإطلاق تقييد فما من أمر إلا وله موطن يقبله وموطن يدفعه ولا يقبله لا بد من ذلك كالأغذية الطبيعية للجسم الطبيعي ما من شي‏ء يتغذى به إلا وفيه مضرة ومنفعة يعرف ذلك العالم بالطبيعة من حيث ما هي مدبرة للبدن وهو المسمى طبيبا ويعرفه الطبيعي مجملا والتفصيل للطبيب فما في العالم لسان حمد مطلق ولا لسان ذم مطلق والأصل الأسماء الإلهية المتقابلة فإن الله سمي لنا نفسه بها من كونه متكلما كما نزه وشبه ووحد وشرك ونطق عباده بالصفتين ثم قال سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا آخر الجزء الحادي والستين‏

(الباب الثاني والسبعون في الحج وأسراره)

الحج فرض إلهي على الناس *** من عهد والدنا المنعوت بالناسي‏

فرض علينا ولكن لا نقوم به *** وواجب الفرض أن نلقي على الرأس‏

فإن حرمت بإحرام تجردكم *** عن كل حال بإعسار وإفلاس‏

دعتك حالته في كل منزلة *** من المنازل بالعاري وبالكاسي‏

فيه الإجابة للرحمن من كثب *** بنعت عبد لدني والياس‏

فيه العبادات من صوم ومن صلة *** ومن صلاة وحكم الجود والبأس‏

وفي الطواف معان ليس يشبهها *** إلا تردد رب الجن والناس‏

إني قتيل خلاخيل كلفت بها *** عند الطواف وأقراط ووسواس‏

وفي المحصب شرع الفرد ناسبه *** رمى الجمار لخناس بوسواس‏

الله خصصه في بطن عرنته *** يوم الوقوف بإذلال وإبلاس‏

وكن مع الفرق في جمع بمزدلف *** فما عليك بذاك الفرق من بأس‏

من حج لله لا بالله كان كمن *** سعى لظلمته بضوء نبراس‏

في يوم غيم شديد الحر فاعتبروا *** فيما تفوه به للخلق أنفاسي‏

وكن إذا أنت دبرت الأمور به *** ما بين عقل إلهي وإحساس‏

واحذر شهودا ساف ثم نائلة *** إذا سعيت كأسقف وشماس‏

وفي مني فانحر القربان في صفة *** تدعى بها عند ذاك النحر بالقاسي‏

وترية الذات لا شفع يزلزلها *** مصونة بين حفاظ وحراس‏

عطرية النشر معسول مقبلها *** محفوفة ببهار الروض والآس‏

مكلومة بالذي نالته من صفتي *** وما يكون لذاك الكلم من آسي‏

[البيت مثال للعرش والطائفون به كالملائكة الحافين حول العرش‏]

اعلم أيدك الله أن الحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود والعمرة الزيارة ولما نسب الله تعالى البيت إليه بالإضافة في قوله لخليله إبراهيم عليه السلام أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ وأخبرنا أنه أول بيت وضعه للناس معبدا فقال إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ومن دَخَلَهُ كانَ آمِناً ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ جعله نظيرا ومثالا لعرشه وجعل الطائفين به من البشر كالملائكة الحافين من حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي بالثناء على ربهم تبارك وتعالى وثناؤنا على الله في طوافنا أعظم من ثناء الملائكة عليه سبحانه بما لا يتقارب ولكن ما كل طائف يتنبه إلى هذا الثناء الذي نريده‏

[أهل الله نائبون عن الله في الثناء على الله‏]

وذلك أن العلماء بالله إذا قالوا سبحان الله أو الحمد لله أو لا إله إلا الله إنما يقولونها بجمعيتهم للحضرتين والصورتين فيذكرونه بكل جزء ذاكر الله في العالم وبذكر أسمائه إياه ثم إنهم ما يقصدون من هذه الكلمات إلا ما نزل منها في القرآن لا الذكر الذي يذكرونه فهم في‏

هذا الثناء نواب عن الحق يثنون عليه بكلامه الذي أنزله عليهم وهم أهل الله بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أهل القرآن وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته فهم نائبون عنه في الثناء عليه فلم يشب ثناءهم استنباط نفسي ولا اختيار كوني ولا أحدثوا ثناء من عندهم فما سمع من ثنائهم إلا كلامه الذي أثنى به على نفسه فهو ثناء إلهي قدوس طاهر نزيه عن الشوب الكوني قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله فأضاف الكلام إليه لا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم‏

[قلب ولى الله بيت كريم وحرم عظيم‏]

ولما جعل الله تعالى قلب عبده بيتا كريما وحرما عظيما وذكر أنه وسعه حين لم يسعه سماء ولا أرض علمنا قطعا إن قلب المؤمن أشرف من هذا البيت وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين ولما كان في الطائفين من يعرف حرمة البيت فيعامله في الطواف به بما يستحقه من التعظيم والإجلال ومن الطائفين من لا يعرف ذلك فيطوفون به بقلوب غافلة لاهية وألسنة بغير ذكر الله ناطقة بل ربما يطوفون بفضول من القول وزور وكذلك الخواطر التي تمر على قلب المؤمن منها مذموم ومنها محمود وكما كتب الله طواف كل طائف للطائف به على أي حالة كان وعفا عنه فيما كان منه كذلك الخواطر المذمومة عفا الله عنها ما لم يظهر حكمها على ظاهر الجوارح إلى الحس وكما إن في البيت يمين الله للمبايعة الإلهية ففي قلب العبد الحق سبحانه من غير تشبيه ولا تكييف كما يليق بجلاله سبحانه حيث وسعه وأين مرتبة اليمين منه على الانفراد منه سبحانه ففيه اليمين المسمى كلتا يديه فهو أعظم علما وأكثر إحاطة فإنه محل لجميع الصفات وارتفاعه بالمكانة عند الله لما أودع الله فيه من المعرفة به‏

[أركان البيت وخواطر القلب‏]

ثم إن الله تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة أركان لأنه شكل مكعب الركن الواحد الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولا جل ذلك سمي كعبة تشبيها بالكعب فإذا اعتبرت الثلاثة الأركان جعلتها في القلب محل الخاطر الإلهي والركن الآخر ركن الخاطر الملكي والركن الثالث ركن الخاطر النفسي فالإلهي ركن الحجر والملكي الركن اليمني والنفسي المكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل وعلى هذا الشكل قلوب الأنبياء مثلثة الشكل على شكل الكعبة

[الركن الرابع للبيت والخاطر الرابع للقلب‏]

ولما أراد الله ما أراد من إظهار الركن الرابع جعله للخاطر الشيطاني وهو الركن العراقي فيبقى الركن الشامي للخاطر النفسي وإنما جعلنا الخاطر الشيطاني للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده أعوذ بالله من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وبالذكر المشروع في كل ركن تعرف مراتب الأركان وعلى هذا الشكل المربع قلوب المؤمنين وما عدا الرسل والأنبياء المعصومين ليميز الله رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين بالعصمة التي أعطاهم وألبسهم إياها فليس لنبي إلا ثلاثة خواطر إلهي وملكي ونفسي وقد يكون ذلك لبعض الأولياء الذين لهم جزء وافر من النبوة كسليمان الدنبلي لقيته وهو ممن له هذا الحال فأخبرني عن نفسه أن له بضعا وخمسين سنة ما خطر له خاطر قبيح ولأكثر الأولياء هذه الخواطر وزادوا بالخاطر الشيطاني العراقي فمنهم من ظهر عليه حكمه في الظاهر وهم عامة الخلق ومنهم من يخطر له ولا يؤثر في ظاهره وهم المحفوظون من أوليائه‏

[للأولياء الحفظ الإلهي وللأنبياء العصمة]

ولما اعتبر الله الشكل الأول الذي للبيت جعل له الحجر على صورته وسماه حجرا لما حجر عليه أن ينال تلك المرتبة أحد من غير الأنبياء والمرسلين حكمة منه سبحانه فللأولياء الحفظ الإلهي ولهم العصمة أخبرني بعض الأولياء من أهل الله وهو عبد الله بن الأستاذ الموروري أن الشيخ عبد الرزاق أو غيره الشك مني بل غيره بلا شك فإني تذكرته رأى إبليس فقال له كيف حالك مع الشيخ أبي مدين عبد صالح إمام في التوحيد والتوكل كان ببجاية فقال إبليس ما شبهت نفسي فيما نلقي إليه في قلبه إلا كشخص بال في البحر المحيط فقيل له لم تبول فيه قال حتى أنجسه فلا تقع به الطهارة فهل رأيتم أجهل من هذا الشخص كذلك أنا وقلب أبي مدين كلما ألقيت فيه أمرا قلب عينه فأخبر أنه يلقي في قلوب الأولياء وهو الذي ذكرناه وليس له على الأنبياء سبيل‏

[مقادير ارتفاع البيت ومنازل القلب‏]

وارتفاع البيت سبعة وعشرون ذراعا وذراع التحجير الأعلى فهو ثمانية وعشرون ذراعا كل ذراع مقدار لأمر ما إلهي يعرفه أهل الكشف فهي هذه المقادير نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الايمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس المضاهي لمنازل القمر والكواكب السيارة لإظهار الحوادث في العالم العنصري سواء حرفا حرفا ومعنى معنى‏

[الكنز المودع في الكعبة]

واعلم‏

أن الله تعالى قد أودع في الكعبة كنزا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجه فينفقه ثم بدا له في ذلك‏

لمصلحة رآها ثم أراد عمر بعده أن يخرجه فامتنع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو فيه إلى الآن‏

وأما أنا فسيق لي منه لوح من ذهب جي‏ء به إلي وأنا بتونس سنة ثمان وتسعين وخمسمائة فيه شق غلظه أصبع عرضه شبر وطوله شبر أو أزيد مكتوب فيه بقلم لا أعرفه وذلك لسبب طرأ بيني وبين الله فسألت الله أن يرده إلى موضعه أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أخرجته إلى الناس لثارت فتنة عمياء فتركته أيضا لهذه المصلحة فإنه صلى الله عليه وسلم ما تركه سدى وإنما تركه ليخرجه القائم بأمر الله في آخر الزمان الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما

وقد ورد خبر رويناه فيما ذكرناه من إخراجه على يد هذا الخليفة وما أذكر الآن عمن رويته ولا الجزء الذي رأيته فيه‏

[في القلب العارف كنز العلم بالله‏]

كذلك جعل الله في قلب العارف كنز العلم بالله فشهد لله بما شهد به الحق لنفسه من أنه لا إله إلا الله ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه فقال شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ فجعلها كنزا في قلوب العلماء بالله ولما كانت كنزا لذلك لا تدخل الميزان يوم القيامة وما يظهر لها عين إلا إن كان في الكثيب الأبيض يوم الزور ويظهر جسمها وهو النطق بها عناية لصاحب السجلات لا غير فذلك الواحد يوضع له في ميزانه التلفظ بها إذ لم يكن له خير غيرها فما يزن ظاهرها شي‏ء فأين أنت من روحها ومعناها فهي كنز مدخر أبدا دنيا وآخرة وكل ما ظهر في الأكوان والأعيان من الخير فهو من أحكامها وحقها

[حملة البيت وحملة القلب‏]

ثم إن الله جعل هذا البيت الذي هو محل ذكر اسم الله على أربعة أركان كذلك جعل الله القلب على أربع طبائع تحمله وعليها قامت نشأته كقيام البيت اليوم على أربعة أركان كقيام العرش على أربعة حملة اليوم كذا ورد في الخبر أنهم اليوم أربعة وغدا يكونون ثمانية فإن الآخرة فيها حكم الدنيا والآخرة فلذلك تكون غدا ثمانية فيظهر في الآخرة حكم سلطان الأربعة الأخر وكذلك يكون القلب في الآخرة تحمله ثمانية الأربعة التي ذكرناها والأربعة الغيبية وهي العلم والقدرة والإرادة والكلام ليس غير ذلك فإن قلت فهي موجودة اليوم فلما ذا جعلتها في الآخرة قلنا وكذلك الثمانية من الحملة موجودون اليوم في أعيانهم لكن لا حكم لهم في الحمل الخاص إلا غدا كذلك هذه الصفات التي ذكرناها لا حكم ينفذ لهم في الدنيا دائما وإنما حكمهم في الآخرة للسعداء وحكم الأربعة الذين هم طبائع هذا البيت ظاهرة الحكم في الأجسام فإن قلت فما معنى قولك حكمهم قلت فإن العلم لا يشاهد العالم معلومه إلا في الآخرة والقدرة لا ينفذ حكمها إلا في الآخرة فلا يعجز السعيد عن تكوين شي‏ء وإرادته غير قاصرة فما يهم بشي‏ء يريد حضوره إلا حضر وكلامه نافذ فما يقول لشي‏ء كن إلا ويكون فالعلم له عين في الآخرة وليس هذا حكم هذه الصفات في النشأة الدنيا مطلقة فاعلم ذلك فالإنسان في الآخرة نافذ الاقتدار

[بيت الله قلب عبده المؤمن‏]

فالله بيته قلب عبده المؤمن والبيت بيت اسمه تعالى والعرش مستوي الرحمن ف أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ف لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها فإنه يَعْلَمُ الْجَهْرَ وما يَخْفى‏ كما أنه يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفى‏ وأصفى وهو قوله وابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا فإنه أخفى من السر أي أظهر فإن الوسط الحائل بين الطرفين المعين للطرفين والمميز لهما هو أخفى منهما كالخط الفاصل بين الظل والشمس والبرزخ بين البحرين الأجاج والفرات والفاصل بين السواد والبياض في الجسم نعلم أن ثم فاصلا ولكن لا تدركه العين ويشهد له العقل وإن كان لا يعقل ما هو أي لا يعقل ماهيته فبين القلب والعرش في المنزلة ما بين الاسم الله والاسم الرحمن وإن كان أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ولكن ما أنكر أحد الله وأنكر الرحمن فقالوا وما الرَّحْمنُ فكان مشهد الألوهة أعم لإقرار الجميع بها فإنها تتضمن البلاء والعافية وهما موجودان في الكون فما أنكر هما أحد ومشهد الرحمانية لا يعرفه إلا المرحومون بالإيمان وما أنكره إلا المحرومون من حيث لا يشعرون أنهم محرومون لأن الرحمانية لا تتضمن سوى العافية والخير المحض فالله معروف بالحال والرحمن منكور بالحال فقيل لهم أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فعرفه أهل البلاء تقليد التعريف الله من وراء حجاب البلاء فافهم فقد نبهتك لأمور إن سلكت عليها جلت لك في العلم الإلهي ما لا يقدر قدره إلا الله فإن العارف بقدر ما ذكرناه من العلم بالله الذوقي اليوم عزيز

[الأسماء الإلهية تحج بيت القلب الذي وسع الحق‏]

ولما كان الحج لهذا البيت تكرار القصد في زمان مخصوص كذلك القلب تقصده الأسماء الإلهية في حال مخصوص إذ كل اسم له حال خاص يطلبه فمهما ظهر ذلك الحال من العبد طلب الاسم الذي يخصه فيقصده ذلك الاسم فلهذا تحج الأسماء الإلهية بيت القلب وقد تحج إليه من‏

حيث إن القلب وسع الحق والأسماء تطلب مسماها فلا بد لها أن تقصد مسماها فتقصد البيت الذي ذكر أنه وسعه السعة التي يعلمها سبحانه وإنما تقصده لكونها كانت متوجهة نحو الأحوال التي تطلبها من الأكوان فإذا أنفذت حكمها في ذلك الكون المعين رجعت قاصدة تطلب مسماها فتطلب قلب المؤمن وتقصده فلما تكرر ذلك القصد منها سمي ذلك القصد المكرر حجا كما يتكرر القصد من الناس والجن والملائكة للكعبة في كل سنة للحج الواجب والنفل وفي غير زمان الحج وحاله يسمى زيارة لا حجا وهو العمرة والعمرة الزيارة وتسمى حجا أصغر لما فيها من الإحرام والطواف والسعي وأخذ الشعر أو منه والإحلال ولم تعم جميع المناسك فسميت حجا أصغر بالنظر إلى الحج الأكبر الذي يعم استيفاء جميع المناسك ولهذا يجزئ القارن بينهما طواف واحد وسعى واحد لمسمى الحج لها وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرانه في حجة وداعه التي‏

قال فيها خذوا عني مناسككم‏

[الزور العام في الآخرة بمنزلة الحج في الدنيا]

وهكذا الحكم في الآخرة في الزور العام هو بمنزلة الحج في الدنيا وحج العمرة هو بمنزلة الزور الذي يخص كل إنسان فعلى قدر اعتماره تكون زيارته لربه والزور الأعم في زمان خاص للزمان الخاص الذي للحج والزور الأخص الذي هو العمرة لا يختص بزمان دون زمان فحكمها أنفذ في الزمان من الحج الأكبر وحكم الحج الأكبر أنفذ في استيفاء المناسك من الحج الأصغر ليكون كل واحد منهما فاضلا مفضولا لينفرد الحق بالكمال الذي لا يقبل المفاضلة وما سوى الله ليس كذلك حتى الأسماء الإلهية وهم الأعلون يقبلون المفاضلة وقد بينا ذلك في غير موضع وكذلك المقامات والأحوال والموجودات كلها فالزيارة الخاصة التي هي العمرة مطلقة الزمان على قدر مخصوص‏

[ما يختص من الأفعال الظاهرة المشروعة]

وسأذكر إن شاء الله ما يختص بهذا الباب من الأفعال الظاهرة المشروعة في العموم والخصوص على ألسنة علماء الرسوم بالظواهر والنصوص وما يختص أيضا بها من الاعتبارات في أحوال الباطن بلسان التقريب والاختصار والإشارة والإيماء كما عملنا فما تقدم من العبادات والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وفَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ولكن الله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ

(وصل في فصل وجوب الحج)

لا خلاف في وجوبه بين علماء الإسلام قال تعالى ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فوجب على كل مستطيع من الناس صغير وكبير ذكر وأنثى حر وعبد مسلم وغير مسلم‏

[الأحكام يتوقف قبول فعلها على وجود الإسلام‏]

ولا يقع بالفعل إلا بشروط له معينة فإن الايمان والإسلام واجب على كل إنسان والأحكام كلها الواجبة واجبة على كل إنسان ولكن يتوقف قبول فعلها أو فعلهما من الإنسان على وجود الإسلام منه فلا يقبل تلبسه بشي‏ء منها إلا بشرط وجود الإسلام عنده فإن لم يؤمن أخذ بالواجبين جميعا يوم القيامة وجوب الشرط المصحح لقبول هذه العبادات ووجوب المشروط التي هي هذه العبادات‏

[القائم مقام البيت والقائم مقام خادم البيت‏]

وقرئ بكسر الحاء وهو الاسم وبفتحها وهو المصدر فمن فتح وجب عليه أن يقصد البيت ليفعل ما أمره الله به أن يفعله عند الوصول إليه في المناسك التي عين الله له أن يفعلها ومن قرأ بالكسر وأراد الاسم فمعناه أن يراعي قصد البيت فيقصد ما يقصده البيت وبينهما بون بعيد فإن العبد بفتح الحاء يقصد البيت وبكسرها يقصد قصد البيت فيقوم في الكسر مقام البيت ويقوم في الفتح مقام خادم البيت فيكون حال العبد في حجه بحسب ما يقيمه فيه الحق من الشهود والله المرشد والهادي لا رب غيره‏

[اطلبونى في قلوب العارفين بى‏]

ولما كان قصد البيت قصدا حاليا لأنه يطلب بصورته الساكن فلله على الناس أن يجعلوا قلوبهم كالبيت تطلب بحالها أن يكون الحق ساكنها كما قال اطلبوني في قلوب العارفين بي فهذا معنى الكسر فيه وهو الاستعداد بالصفة التي ذكر الله إن القلب يصلح له تعالى بها ومن فتح فوجب عليه أن يطلب قلبه ليرى فيه آثار ربه فيعمل بحسب ما يرى فيه من الآثار الإلهية وهذا حال غير ذلك فبالكسر يقصد الله وبالفتح يقصد القلب لما ذكرناه‏

(وصل في فصل شروط صحة الحج)

لا خلاف إن من شرط صحته الإسلام إذ لا يصح ممن ليس بمسلم الإسلام الانقياد إلى ما دعاك الحق إليه ظاهرا وباطنا على الصفة التي دعاك أن تكون عليها عند الإجابة فإن جئت بغير تلك الصفة التي قال لك تجي‏ء بها فما أجبت دعاء الاسم الإلهي الذي دعاك ولا أنقدت إليه‏

[هل الدعوة من الله تقع على ذات العبد أو على صفته‏]

وهنا علم دقيق وهل الدعوة كانت من الله على المجموع وهو عينك وعين الصفة

أو المقصود من هذا الدعاء عين الصفة وأنت بحكم التبع لكون هذا الوصف الخاص لا يقوم بنفسه فما تكون أنت المطلوب ولا بد لك من اسم يكون لك من تلك الصفة يناديك به أو تكون أنت المدعو من حيث عينك والصفة تبع ما هي المقصود في الدعاء لأنها لم يذكر لها عين في هذا الدعاء الخاص فمن راعى من العارفين العين لا عين الصفة لكونه تعالى قال ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ وما قال على المسلمين ولا ذكر صفة زائدة على أعيانهم فأوجبها على الأعيان وجوبا إلهيا فإذا أتى بهذا الدعاء صاحب الاسم الذي هو الناس قيل فيه إنه قد أجاب إجابة ذاتية فيكون جزاء إجابته تجلى من دعاه ذاتا بذات ومن اعتبر أنه ما دعاه من حيث ما هو ذات وإنما دعاه من حيث ما هو متكلم فما أجاب هذا المدعو إلا عين الصفة لا عين الذات قيل له وكذلك المجيب المدعو ما أجاب منه إلا عين صفته فإن ذات المدعو من صفات من دعاه وهذه الصفة يعبر عنها بذات المدعو لأن المدعو مجموع صفات ذاتية له بمجموعها يكون إنسانا وهو كونه حيوانا ناطقا وليس عين هذا المجموع سوى عين ذاته ولهذا وقع الدعاء من الداعي بالاسم الجامع وهو الله‏

[لا يتصور أن يدعو أحد الله من حيث حقيقة هذا الاسم‏]

فإن قيل لا يصح أن يكون حقيقة هذا الاسم الجامع وإنما يأتي والداعي به اسم خاص يخصصه حال المدعو ويعين الاسم الخاص به كالجائع يقول يا الله أطعمني فالله الذي دعا يعم المعطي والمانع فتتعذر الإجابة إذا قصد الداعي ما يدل عليه هذا الاسم وما قصد الداعي إلا المطعم المعطي الرزاق ما قصد المانع فإن أطعمه الله فما أجابه إلا المطعم كذلك قوله ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ليس المقصود بهذا الاسم عين ما يدل عليه فإن من مدلولاته أسماء إلهية تمنع من إجابة المكلف وأسماء تعطي إجابة المكلف فما دعاه من هذا الاسم إلا الاسم الذي يطلب إجابة المكلف المدعو ولهذا يعصي من لم يجب الدعاء بقرائن الأحوال ولو كان من حيث الاسم الله ما عصى ولا أطاع وتقابلت الأمور فلهذا لا يتصور أن يدعو أحد الله من حيث حقيقة هذا الاسم ولا يدعو هذا الاسم الله أحدا من حيث حقيقته وإنما يدعو ويدعى منه من حيث اسم خاص يتضمنه يعرف بالحال‏

[الذات من الجانبين لا يصح أن تكون مطلوبة]

فاعلم إن الذات من الجانبين لا يصح أن تكون مطلوبة لأنها موجودة وإنما متعلق الطلب المعدوم ليوجد فما يدعى إلا المعدوم لأن الدعاء طلب والطلب عين الإرادة والإرادة لا تتعلق إلا بالمعدوم قلنا وكذلك وقع فإنه ما ظهر من هذا المدعو إلا الإجابة وكانت معدومة مع كون ذات المدعو لما يدعى إليه موجودة فظهرت الإجابة من المدعو بعد أن لم تكن لأن الإجابة لا تكون إلا بعد دعاء داع وهذا المدعو المعدوم الثابت لا يصح وجوده من ذات المدعو وإنما يصح في ذات المدعو إذا كان المدعو من العالم فيفتقر إلى أن يقول له الداعي كن فحينئذ يكون المدعو إجابة لأمره في ذات هذا المتوجه عليه الخطاب فما إجابته ذات المدعو فيما يظهر وإنما وقعت الإجابة من الصفة التي ظهرت فيه فيخيل إن الذات التي ظهرت فيها ذات هذا المدعو هو المخاطب بالتكوين وليس كذلك‏

[ما في الكون إلا مسلم‏]

وهكذا هو الوجود الإلهي والكوني في نفس الأمر وإن كان الظاهر يعطي غير هذا فما في الكون إلا مسلم لغة لأنه ما ثم إلا منقاد للأمر الإلهي لأنه ما ثم من قيل له كن فأبى بل يكون من غير تثبط ولا يصح إلا ذلك فإذا وقع الحج ممن وقع من الناس ما وقع إلا من مسلم‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت من خير

ولم يكن مشروعا من جانب الله له ذلك في حال الجاهلية وقبل بعثة الرسول فاعتبره له الله سبحانه لحكم الانقياد الأصلي الذي تعطيه حقيقة الممكن وهو الإسلام العام فمن اعتبر المجموع وجد ومن اعتبر عين الصفة وجد ومن اعتبر الذات وجد ولكل واحد شرب معلوم من علم خاص فإنه يدخل فيه هذا الإسلام الخاص المعروف في العرف الحاكم في الظاهر والباطن معا فإن حكم في الظاهر لا في الباطن كالمنافق الذي أسلم للتقية حتى يعصم ظاهره في الدنيا فهذا ما فعل ما فعل من الأمور الخيرية التي دعي إليها لخيريتها فما له أجر والذي فعلها وهو مشرك لخيريتها نفعته بالخير المنوي فلا بد أن ينقاد الباطن والظاهر وبالمجموع تحصل الفائدة مكملة لأن الداعي دعاه بالاسم الجامع والمدعو هي من الاسم الجامع لصفة جامعة وهو الحج والحج لا يكون إلا بتكرار القصد فهو جمع في المعنى فما في الكون إلا مسلم فوجب الحج على كل مسلم فلهذا لم يتصور فيه خلاف بين علماء الرسوم وعلماء الحقائق وعالم الحقائق أتم من عالم الرسم في هذه المسألة وأمثالها

[حكم حج الطفل‏]

فإن حج الطفل الرضيع صح حجه ولا تلفظ له بالإسلام ولا يعرف نية الحج ولو مات عندنا قبل البلوغ كتب الله له تلك‏

الحجة عن فريضته ولنا في ذلك خبر نبوي في الصبي قبل البلوغ‏

والعبد فللصبي الرضيع الإسلام العام الذي يثبته المحقق وقد اعتبره الشرع‏

رفعت امرأة صبيا لها صغيرا فقالت يا رسول الله أ لهذا حج قال لها نعم ولك أجر

فنسب الحج لمن لا قصد له فيه فلو لم يكن لذلك الرضيع قصد بوجه ما عرفه الشارع صاحب الكشف ما صح أن ينسب الحج إليه وكان ذلك كذبا

كانت امرأة ترضع صغيرا لها فمر رجل ذو شارة حسنة وخول وحشمة فقالت المرأة اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الرضيع الثدي ونظر إليه وقال اللهم لا تجعلني مثله ومرت عليها امرأة وهي تضرب والناس يقولون فيها زنت وسرقت فقالت المرأة اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فترك الصغير الثدي ونظر إليها وقال اللهم اجعلني مثلها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل كان جبارا متكبرا وقال في المرأة كانت بريئة مما نسب إليها

واتفق لي مع بنت كانت لي نرضع يكون عمرها دون السنة فقلت لها يا بنية فأصغت إلى ما تقول في رجل جامع امرأته فلم ينزل ما يجب عليه فقالت يجب عليه الغسل فغشي على جدتها من نطقها هذا شهدته بنفسي وكذلك زكاة الفطر على الرضيع والجنين‏

(وصل في فصل حج الطفل)

فمن قائل بجوازه ومن مانع والمجوز له صاحب الحق في هذه المسألة شرعا وحقيقة فإن الشرع أثبت له الحج وليس العجب إلا أن الحج يثبت بالنيابة فهو بالمباشرة في حق الطفل أثبت على كل حال وسيأتي ذكر النيابة في هذا العمل فيما بعد إن شاء الله‏

[الإسلام والإيمان في حق الصبى والرضيع‏]

وأين الإسلام في حق الصبي الصغير الرضيع فهل هو عند أهل الظاهر إلا بحكم التبع وأما عندنا فهو بالأصالة والتبع معا فهو ثابت في الصغير بطريقين وفي الكبير بطريق واحد وهو الأصالة لا التبع فالإيمان أثبت في حق الرضيع فإنه ولد على فطرة الايمان وهو إقراره بالربوبية لله تعالى على خلقه حين الأخذ من الظهر الذرية والإشهاد قال تعالى وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ فلو لم يعقلوا ما خوطبوا ولا أجابوا يقول ذو النون المصري كأنه الآن في أذني وما نقل إلينا أنه طرأ أمرا خرج الذرية عن هذا الإقرار وصحته ثم إنه لما ولد ولد على تلك الفطرة الأولى فهو مؤمن بالأصالة ثم حكم له بإيمان أبيه في أمور ظاهرة فقال والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ يعني إيمان الفطرة أَلْحَقْنا بِهِمْ (ذُرِّيَّتَهُمْ) ذرياتهم فورثوهم وصلى عليهم إن ماتوا وأقيمت فيهم أحكام الإسلام كلها مع كونهم على حال لا يعقلون جملة واحدة ثم قال وما أَلَتْناهُمْ من عَمَلِهِمْ من شَيْ‏ءٍ يعني أولئك الصغار ما أنقصناهم شيئا من أعمالهم وأضاف العمل إليهم يعني قولهم بَلى‏ فبقي لهم على غاية التمام ما نقصهم منه شيئا لأنهم لم يطرأ عليهم حال يخرجهم في فعل ما من أفعالهم عن ذلك الإقرار الأول كما طرأ للكبير العاقل فنقص من عمله ذلك بقدر ما طرأ عليه فأنقصه الله على قدر ما نقص‏

[الرضيع أتم إيمانا من الكبير بلا شك‏]

فالرضيع أتم إيمانا من الكبير بلا شك فحجه أتم من حج الكبير فإنه حج بالفطرة وباشر الأفعال بنفسه مع كونه مفعولا به فيها كما هو الأمر عليه في نفسه فإن الأفعال كلها لله فمن كل وجه صح له الحج حقيقة وشرعا والطفل مباشر بلا شك وغير عاقل العقل المعتبر في الكبير بلا شك وغير متلفظ بالإسلام ولا معتقد له ولا عالم به بلا شك ونريد الاعتقاد والعلم المعروف عند أهل الرسوم في العرف كل ذلك غير موجود في الصبي الرضيع وقد باشر العمل وهو معمول به وأضاف الحج إليه الشارع والصبي مستطيع في هذه الحالة بالاستعداد الذي هو عليه أن يكون معمولا به أعمال الحج كلها فهو محل للعمل لأنه وقف به في عرفة فوقف كما يقف الراكب بدابته وينسب الوقوف إليه ويطوف على راحلته ويسعى بين الصفا والمروة والراحلة هي التي تسعى وتطوف وتقف وينسب ذلك كله إليه بحكم المباشرة وأنه باشر أفعال الحج بنفسه فكذلك الصغير الرضيع يطاف به ويسعى فهو مباشر أفعال الحج ويوقف به مستطيع بالوجه الذي ذكرناه من الاستعداد لقبول ما يفعل به كما استعد الكبير الراكب لقبول ما تفعل به راحلته من سكون وحركة وينسب العمل إليه لا إلى الراحلة جريا على حكم الأصل الإلهي حيث تنسب الأفعال إلى العباد والأفعال أعني خلقها الله تعالى على الحقيقة وهم محال ظهورها

(وصل في فصل الاستطاعة)

فمن قائل الزاد والراحلة ومن قائل من استطاع المشي فلا تشترط الراحلة وكذلك الزاد ليس من شرطه إذا كان يمكنه‏

الاكتساب في القافلة ولو بالسؤال هذا في المباشرة

[الراحلة عين هذا الجسم لأنه مركب الروح‏]

فالراحلة عين هذا الجسم لأنه مركب الروح الذي هو اللطيفة الإنسانية المنفوخة فيه فيما يصدر منه بوساطة هذا الجسم من أعمال صلاة وصدقة وحج وإماطة وتلفظ بذكر كل ذلك أعمال موصلة إلى الله عز وجل والسعادة الأبدية والجسم هو المباشر لها والروح بوساطته فلا بد من الراحلة أن تشترط في هذا العمل الخاص بهذه الصورة

[الزاد هو السبب الذي بوجوده يكون التغذي‏]

وأما الزاد فمن اعتبر فيه الزيادة وهو السبب الذي بوجوده يكون التغذي الذي تكون عنه القوة التي بها تحصل هذه الأفعال فبأي شي‏ء حصلت تلك القوة سواء بذاتها أو عند هذا الزائد المسمى زادا لأن الله زاده في الحجاب ولهذا تعلقت به النفس في تحصيل القوة وسكنت عند وجوده واطمأنت وانحجبت عن الله به وهي مسرورة بوجود هذا الحجاب لما حصل لها من السكون به إذ كانت الحركة متعبة ظاهرا وباطنا وإذا فقد الزاد تشوش باطنه واضطرب طبعا ونفسا وتقلق عند فقد هذا السبب المسمى زاد أو زال عنه ذلك السكون والطمأنينة فكل ما يؤديه إلى السكون فهو زاد وهو حجاب أثبته الحق بالفعل وقرره الشرع بالحكم فيقوي أساسه‏

[أثر الأسباب أقوى من التجرد عنها]

فلهذا كان أثر الأسباب أقوى من التجرد عنها لأن التجرد عنها خلاف الحكمة والاعتماد عليها خلاف العلم فينبغي للإنسان أن يكون مثبتا لها فاعلا بها غير متعمد عليها وذلك هو القوي من الرجال ولكن لا يكون له مقام هذه القوة من الاعتماد أن تؤثر فيه الأسباب إلا بعد حصول الابتلاء بالتجريد عن الأسباب المعتادة وطرحها من ظاهره والاشتغال بها فإذا حصلت له هذه القوة الأولى حينئذ ينتقل إلى القوة الأخرى التي لا يؤثر فيها عمل الأسباب وأما قبل ذلك فغير مسلم للعبد القول به وهذا هو علم الذوق وحاله والعالم الذي يجد الاضطراب وعدم السكون فليس ذلك العلم هو المطلوب والمتكلم عليه فإنه غير معتبر بل إذا أمعنت النظر في تحقيقه وجدته ليس بعلم ولا اعتقاد فلهذا إلا أثر له ولا حكم في هذه القوة المطلوبة التي حصلت عن علم الذوق والحال وهذا هو مرض النفس وأما وجود الإحساس بالآلام الحسية من جوع وتعب فذلك لا يقدح فإنه أمر يقتضيه الطبع ليس للنفس فيه تعمل وليس بألم نفسي‏

(وصل في الاستطاعة بالنيابة مع العجز عن المباشرة)

فمن قائل بلزوم النيابة ومنهم من قال لا يلزم مع العجز عن المباشرة وقد ثبت شرعا عندنا الأمر بالحج عمن لا يستطيع لوليه أو بالإجارة عليه من ماله إن كان ذا مال وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله‏

[نيابة العبد عن الله ونيابة الله عن العبد]

فاعلم إن النيابة صحيحة

فإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فناب منابه في ذلك القول وقال فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله فناب الرسول الله صلى الله عليه وسلم مناب الحق لو باشر الكلام منه بلا واسطة وقال في النيابة يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ وقال في العموم وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ والاستخلاف نيابة فإن المال لله والتصرف لك فيه على حد من استخلفك فيه فهذا كله نيابة العبد عن الله في الأمور وأما نيابة الحق عن العبد فقوله تعالى لبني إسرائيل أَلَّا تَتَّخِذُوا من دُونِي وَكِيلًا وقال آمرا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وقال صلى الله عليه وسلم يخاطب ربه اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل‏

والوكالة نيابة عن الموكل فيما وكله فيه إن يقوم مقامه فأثبت لك الشي‏ء وسالك أن تستنيبه فيه بحكم الوكالة فمن كل وجه النيابة مشروعة

[هل تصح النيابة من جهة الحقيقة]

وهل تصح من جهة الحقيقة أم لا فمنا من يقول إنها تصح من جهة الحقيقة فإن الأموال ما خلقت إلا لنا إذ لا حاجة لله إليها فهي لنا حقيقة ثم وكلنا الحق تعالى أن يتصرف لنا فيها لعلمنا أنه أعلم بالمصلحة فتصرف على وجه الحكمة التي تقتضي أن تعود على الموكل منه منفعة فأتلف ماله هذا الوكيل الحق تعالى بغرق أو حرق أو خسف أو ما شاء تجارة له ليكسبه بذلك في الدار الآخرة أكثر مما قيل إنه في ظاهر الأمر إتلاف وما هو إتلاف بل هي تجارة بيع بنسيئة يسمى مثل هذا تجارة رزء لكن ربحها عظيم وهذا علم يعرفه الوكيل لا الموكل وهو يحفظ عليه ما له لمصلحة أخرى يقتضيها علمه فيها ومنا من وكل الله فاستخلفه الوكيل في التصرف على حد ما يرسمه الوكيل لعلم الوكيل بالمصلحة فصار الموكل وكيلا عن وكيله وهو الذي لا يتعدى الأمر المشروع في تصرفه فهو وإن كان المال له فالتصرف فيه بحكم وكيله وهذا نظر غريب ومنا من قال لا تصح من جهة الحقيقة فإن الله ما خلق الأشياء والأموال من الأشياء إلا له تعالى لتسبيحه ووقعت المنفعة لنا بحكم التبعية ولهذا قال وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فإذا

خلق الأشياء من أجله لا من أجلنا فما لنا شي‏ء نوكله فيه لكن نحن وكلاؤه في الأشياء فحد لنا حدودا فنتصرف فيها على ما حد لنا فإن زدنا على ما رسم لنا أو نقصنا عاقبنا فلو كانت الأموال لنا لكان تصرفنا فيها مطلقا وما وقع الأمر هكذا بل حجر علينا التصرف فيها فما هي وكالة مفوضة بل مقيدة بوجوه مخصوصة من رب المال الذي هو الحق الموكل وعلى كل وجه فالنيابة حاصلة إما منه تعالى وإما منا وقد ثبتت في أي طرف كان انتهى الجزء الثاني والستون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فصل صفة النائب في الحج)

اختلف علماء الرسوم سواء كان المحجوج عنه حيا أو ميتا هل من شرطه أن يكون قد حج عن نفسه أم لا فمن قائل ليس من شرطه أن يكون قد حج عن نفسه وإن كان قد حج عن نفسه فهو أفضل ومن قائل إن من شرطه أن يكون قد قضى فريضته وبه أقول‏

[الإيثار في هذا الطريق‏]

اعلم أنه من رأى أن الإيثار يصح في هذا الطريق قال لا يشترط فيه إن يكون قد حج عن نفسه وألحق ذلك بالفتوة حيث نفع غيره وسعى في حقه قبل سعيه في حق نفسه فله ذلك ولا سيما إن رأى أن مثل هذا الفعل هو في حق نفسه لما لها في الإيثار من الأجر فما آثر إلا نفسه ومن رأى أن حق نفسه أوجب عليه من حق غيره وعامل نفسه معاملة الأجنبي وإنها الجار الأحق فهو بمنزلة من قال لا يحج عن غيره حتى يكون قد حج عن نفسه وهو الأولى في الاتباع وهو المرجوع إليه لأنه الحقيقة وذلك أنه إن سعى أولا في حق نفسه فهو الأولى بلا خلاف وإن سعى في حق غيره فإن سعيه فيه إنما هو في حق نفسه فإنه الذي يجني ثمرة ذلك بالثناء عليه والثواب فيه فلنفسه سعى في الحالتين ولكن يسمى بسعيه في حق غيره مؤثر التركة فيما يظهر حق نفسه لحق غيره الواجب على ذلك الغير لا عليه فإنه في هذا أدى ما لا يجب عليه وجزاء الواجب أعلى من جزاء غير الواجب لاستيفاء عين العبودية في الواجب وفي الآخر رفعة وامتنان حالي على المتفتي عليه‏

[الساعي في حق نفسه والساعي في حق الغير]

فهو قائم في حق الغير بصفة إلهية لأن لها الامتنان وهو في قيام حق نفسه من طريق الوجوب تقيمه صفة عبودية محضة وهو المطلوب الصحيح من العبد الذي يضيف الفعل المذموم والمكروه في الطبع والعادة والعرف إلى نفسه إيثارا منه لجناب ربه حتى لا ينسب إليه ما جرى عليه لسان ذم كالذنب ولسان كراهة الطبع كالمرض وسائر العيوب غيرة على ذلك الجناب الإلهي وفداء له بنفسه وكذلك لو وقى عرض أخيه بعرضه كالمؤمن مع المؤمن ووقى ضررا كبيرا من نبي ورسول بنفسه كان أعلى ممن لم يفعل ذلك وآثر نفسه وهذا يرجع إلى قدر من آثرته على نفسك فمن راعى الإيثار والفتوة عمم ومن راعى من آثرته قسم الأمر إلى ما ذكرناه فهو بحسب ما يقام فيه ويخطر له هذا كله ما لم يقع فيه إجارة فإن وقعت النيابة بإجارة فلها حكم آخر

(وصل في الرجل يؤاجر نفسه في الحج)

فكرهه قوم مع الجواز ومنعه قوم‏

[العمل والعوض‏]

العمل يقتضي الأجرة لذاته وهي العوض في مقابلة ما أعطى من نفسه وما بقي إلا ممن تؤخذ فمنا من قال لا يأخذه من الله تعالى لأنه المستخدم لنا في ذلك العمل فالأجرة عليه ما من نبي ولا رسول إلا قد قال إذ قيل له قل فأمر فقال ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ من أَجْرٍ يعني في التبليغ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله فما خرجوا عن الأجرة والتبليغ عن الله من أفضل القرب إلى الله وإن الله استخدمه في التبليغ مع كونه عبدا فتعينت عليه الأجرة سبحانه بتعيينه عوضا مما أعطاه من نفسه فيما استخدمه فيه وترك مباحة الذي هو له وتخييره ومن رأى أن العوض إنما يستحقه من وقعت له المنفعة في ذلك التبليغ طلب الأجرة من المتعلم لأن المنفعة هو حصلها فالعوض يطلب منه فموضع الإجماع ثبوت الإجارة لأن المانع لا يمنعها وإنما يمنعها الخلق من جانب الحق غيرة إن يعبد لأمر لا لعينه لما في ذلك من عدم تعظيم الجناب الإلهي وهذا موجود كثير مثل النهي أن يفرد يوم الجمعة بصيام لعينه وكذلك قيام ليلتها وكذلك من يستحسن فعل عبادة بموضع يستحسنه وليس هذا من شأن القوم فإنهم قد أدركوا حرمان ذلك ذوقا وخسرانه‏

[باعث الحق وباعث الطبع‏]

مر رجل من القوم مع جماعة ممن سخر لهم الهواء وهم يسيرون فيه فالتفت واحد منهم في طريقه فنظر إلى الأرض وإذا هم قد جازوا

بقعة خضراء فيها عين خرارة فاستحسن ذلك طبعا فخطر له لو ركع فيها ركعتين فسقط من بين الجماعة وما رجع بعد ذلك إلى تلك الحالة لأنه ما طلب العبادة لما يستحقه الحق وإنما كان الباعث لذلك الطلب الطبع في ذلك المكان لحسنه طبعا فعوقب فمن رأى هذا قال لا أجرة إلا من الله إذ العمل بذاته يطلب الأجرة ولا بد

(وصل في فصل حج العبد)

فمن قائل بوجوبه عليه ومن قائل لا يجب عليه حتى يعتق وبالأول أقول وإن منعه سيده مع القدرة على تركه لذلك كان السيد عندنا من الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله‏

[ابن حنبل في حال سجنه أيام المحنة]

كان أحمد بن حنبل في حال سجنه أيام المحنة إذا سمع النداء للجمعة توضأ وخرج إلى باب السجن فإذا منعه السجان ورده قام له العذر بالمانع من أداء ما وجب عليه وهكذا العبد فإنه من جملة الناس المذكورين في الآية

[من استرقه الكون‏]

اعلم أن من استرقه الكون فلا يخلو إما أن استرقه بحكم مشروع كالسعي في حق الغير والسعي في شكر من أنعم عليه من المخلوقين نعمة استرقه بها فهذا عبد لا يجب عليه الحق فإنه في أداء واجب حق مشروع يطلبه به ذلك الزمان وهو عند الله عبد لغير الله عن أمر الله لأداء حق الله وإن كان استرقه غرض نفسي وهوى كياني ليس للحق المشروع فيه رائحة وجب عليه إجابة الحق فيما دعاه الله من الحج إليه في ذلك الفعل فإذا نظر إلى وجه الحق في ذلك الغرض كان ذلك عتقه فوجب الحج عليه وإن غاب عنه ذلك لغفلة لم يجب عليه وكان عاصيا لمعرفته بأن الله خاطبه بالحج مطلقا

[العبد المخلص لله‏]

وإن كان مشهده في ذلك الوقت أنه مظهر والمخاطب بالحج الظاهر فيه وليس عينه لم يوجب الحج عليه وهذا هو العبد المخلص لله وهذه عبودة لا عتق فيها أ لا ترى أن الشارع قد قال في الصبي يحج والعبد يحج قبل إن يعتق ثم يموت قبل العتق ويموت الصبي قبل البلوغ إن ذلك الحج يكتب له عن فريضته وذلك لأنه خرج بالموت عن رق الغير فعتق بالموت وحينئذ كتب له ذلك الحج بأداء واجب وإن كان فعله في غير زمان الوجوب على من يقول بذلك‏

(وصل في فصل هذه العبادة هل هي على الفور أو على التراخي والتوسعة)

فمن قائل على الفور ومن قائل على التراخي وبالفور أقول عند الاستطاعة

[الأسماء الإلهية وحكمها في العالم‏]

الأسماء الإلهية على قسمين في الحكم في العالم من الأسماء من يتمادى حكمه ما شاء الله ويطول فإذا نسبته من أوله إلى آخره قلت بالتوسع والتراخي كالواجب الموسع بالزمان فكل واجب توقعه في الزمان الموسع فهو زمانه سواء أوقعته في أول الزمان أو في آخره أو فيما بينهما فإن الكل زمانه وأديت واجبا فاستصحاب حكم الاسم الإلهي على المحكوم عليه موسع كالعلم في استصحابه للمعلومات وكالمشيئة وهكذا المكلف إن شاء فعل في أول وإن شاء فعل في آخر ولا يقال هنا وإن شاء لم يفعل لأن حقيقة فعل أثر وحقيقة لم يفعل استصحاب الأصل فلا أثر فلم يكن للمشيئة هنا حكم عياني ومن الأسماء من لا يتمادى حكمه كالموجد فهو بمنزلة من هو على الفور فإذا وقع لم يبق له حكم فيه فإنه تعالى إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ على الفور من غير تراخ فإن الموجد ناظر إلى تعلق الإرادة بالكون فإذا رأى حكمها قد تعلق بالتعيين أوجد على الفور مثل الاستطاعة إذا حصلت تعين الحج‏

(وصل في فصل وجوب الحج على المرأة وهل من شرط وجوبه أن يسافر معها زوج أو ذو محرم أم لا)

فقيل ليس من شرط الوجوب ذلك وقيل من شرطه وجود المحرم ومطاوعته‏

[النظر في معرفة الله من طريق الشهود]

النفس تريد الحج إلى الله وهو النظر في معرفة الله من طريق الشهود فهل يدخل المريد إلى ذلك بنفسه أو لا يدخل إلى ذلك إلا بمرشد والمرشد أحد شخصين إما عقل وافر وهو بمنزلة الزوج للمرأة وإما علم بالشرع وهو ذو المحرم فالجواب لا يخلو هذا الطالب أن يكون مرادا مجذوبا أو لا يكون فإن كان مجذوبا فالعناية الإلهية تصحبه فلا يحتاج إلى مرشد من جنسه وهو نادر وإن لم يكن مجذوبا فإنه لا بد من الدخول على يد موقف إما عقل أو شرع فإن كان طالبا المعرفة الأولى فلا بد من العقل بالوجوب الشرعي وإن طلب المعرفة الثانية فلا بد من الشرع يأخذ بيده في ذلك فبالمعرفة الأولى يثبت الشرع عنده وبالمعرفة الثانية يثبت الحق عنده ويزيل عنه من أحكام المعرفة الأولى العقلية نصفها ويثبت له نصفها فالعقل مع الشرع في هذه المسألة

[مثل الذي أعطى المعرفة الأولى والذي أعطى المعرفة الثانية]

كملك ولى في ملكه نائبا وأيده وقواه واحتجب الملك عن رعاياه وتحكم النائب واستفحل فلما قوى‏

واستحكم وانصبت إليه قلوب الرعايا وأحبته وملكها بإحسانه تقوى على الملك وعزله وخلعه على غير علم من الرعايا فقال له الملك إذ خلعتني فلا تظهر للرعية أنك خلعتني فتنسب إلى قلة المروءة حيث وليتك على علم منهم فجازيتني بالإساءة فربما يتطرق إليك الذم فلا تفعل وإني قد عهدت إلى الرعية عند ما وليتك واستنبتك أن يسمعوا لك ويطيعوا وجعلت لك النظر فيهم بما تراه وقلت لهم إن جميع ما يراه هذا النائب فاعملوا به سواء خالف نظري ورأيى أو وافقه فإني قد علمت أنه ما يأمركم إلا بما فيه صلاحكم فقد مشيت لك مرادك في الملك فإنك تحتاج إلي في أوقات فإنهم لو لا أني آمرهم من حيث لا تشعر ما أطاعوك وردوا أمرك فليس لك مصلحة في إظهار خلعي وعزلي فإنهم إن صح عندهم عزلي لم يقبلوا منك وعزلوك ولم يسمعوا لك ولا أطاعوا فهذا مثل العقل الذي أعطى المعرفة الأولى وهو الملك والشرع مثله مثل النائب وما خاطب الشارع إلا ليسمع ولا يسمع منه إلا ذو عقل فبالعقل الذي ولاة به يسمع المكلف خطابه لأنه إذا زال العقل سقط التكليف ولم يبق للشرع عليه سلطان ولا حجة فأولو الألباب والنهي هم المخاطبون وهذا هو عين إمداد الملك للرعايا الذي أوصاه بحفظه عليهم فافهم فهذه المعرفة الثانية بالله الذي أعطاها النائب في العامة والملك الذي هو العقل لا يعرفها ولكن أمر بقبولها حتى لا ينسب إلى التقصير ولا يتحدث عنه أنه عزل ولذلك تأول من العقلاء من تأول ما جاءت به الشريعة مما يخالف نظر العقل وسلمه آخرون فلم يقولوا فيه بشي‏ء فإنهم قالوا قد تقرر عندنا من الملك لما ولاة أن نسمع له ونطيع على كل حال فلا نسفه رأى العقل في توليته الشرع واستنابته وهكذا وقعت صورة الحال لمن نظر واستبصر فهذا اعتبار المرأة في السفر إلى الحج وما فيه من الخلاف الذي تقدم في وجوب ذي المحرم أو سقوطه‏

(وصل في فصل وجوب العمرة)

فمن قائل بوجوبها ومن قائل إنها سنة ومن قائل إنها تطوع العمرة الزيارة

[الحق بعد معرفته يناجي في بيته‏]

للحق بعد معرفته بالأمور المشروعة فإذا أراد أن يناجيه فلا يتمكن له ذلك إلا بأن يزوره في بيته وهو كل موضع تصح فيه الصلاة فيميل إليه بالصلاة فيناجيه لأن الزيارة الميل ومنه الزور وزار فلان القوم إذا مال إليهم وكذلك إذا أراد أن يزوره بخلعته تلبس بالصوم وتجمل به ليدخل به عليه وإذا أراد أن يزوره بعبوديته تلبس بالحج فالزيارة لا بد منها والعمرة واجبة في أداء الفرائض سنة في الرغائب تطوع في النوافل غير المنطوق بها في الشرع فأي جانب حكم عليك مما ذكرناه حكمت على العمرة به من وجوب أو سنة أو تطوع فافهم‏

(وصل في فصل في المواقيت المكانية للإحرام)

وهي أربعة بالاتفاق وخمسة باختلاف ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق وهو المختلف فيه أعني ذات عرق هل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمر بن الخطاب وقيل العقيق وجعلوه أحوط من ذات عرق فكان سادسا بخلاف فأشبه عدد المواقيت أعداد الصلوات‏

[الاعتبار في عدد المواقيت‏]

فمن جعلها أربعة اعتبر أن المغرب وتر صلاة النهار فكأنه جي‏ء بها لغيرها لا لنفسها كما في صلوات الفرض ومن اعتبر الفرضية في الجميع قال خمسة ومن اعتبر قوله عليه السلام إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم قال بوجوب الوتر لأن كل فرض واجب فاجتمع الوتر مع الخمس الصلوات المفروضة بالقطع في الوجوب لا في الفرضية فارتفع عن درجة التطوع ومما يقوي وجوبه تشبيهه بصلاة المغرب فقال في الوتر إنه لصلاة الليل فيقوي لشبهة بالفرض في المغرب حيث جعل وتر الصلاة النهار وضعف المغرب عن باقي الصلوات المفروضة لكون الوتر الذي ليس بفرض بالاتفاق شبه به فعين ما يقوى به الوتر هو الذي أضعف المغرب‏

[الصلاة نور والحج عبودية فارتبطا]

والصلاة نور والحج عبودية فارتبطا فإن الله قسم الصلاة بينه وبين العبد والمواقيت مكانية ومواقيت الفرائض الجماعة في المساجد

(وصل في فصل حكم هذه المواقيت)

فمن مر عليها وهو يريد الحج والعمرة وتعداها ولم يحرم منها فإن عليه دما وقال قوم لا دم عليه والذين قالوا بالدم فيهم من قال إن رجع إلى الميقات وأحرم سقط عنه الدم ومنهم من قال لا يسقط وإن رجع وقال قوم إن لم يرجع إلى الميقات فسد

حجه إذا تعين الدم فلا يسقط عمن تعين عليه‏

[سبب العقيقة التي كل إنسان مرهون بها]

لما تعين ذبح ولد إبراهيم الخليل على إبراهيم لم يسقط عنه الدم أصلا ففداه الله بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وهو الكبش حيث جعل بدل إفساد بنية نبي مكرم فحصل الدم لأنه وجب وبعد أن وجب فلا يرتفع فصارت صورة ولد إبراهيم صورة كبش كسوق الجنة يدخل في أي صورة شاء فذبحت صورة الكبش وليس ولد إبراهيم صورة الإنسان وهذا سبب العقيقة التي كل إنسان مرهون بعقيقته‏

(حكاية شهدناها)

قيل لبعض شيوخنا عن بنت من بنات الملوك ممن كان الناس ينتفعون بها وكان لها اعتقاد في هذا الشيخ فوجهت إليه ليدخل عليها فدخل عليها والملك الذي هو زوجها عندها فقام إليه السلطان إجلالا ثم نظر إليها الشيخ وهي في النزع فقال الشيخ أدركوها قبل أن تقضي قال له الملك بما ذا قال بديتها اشتروها فجي‏ء إليه بديتها كاملة فتوقف النزع والكرب الذي كانت فيه وفتحت عينيها وسلمت على الشيخ فقال لها الشيخ لا بأس عليك ولكن ثم دقيقة بعد أن حل الموت لا يمكن أن يرجع خائبا فلا بد له من أثر ونحن قد أخذناك من يده وهو يطالبنا بحقه فلا ينصرف إلا بروح مقبوضة وأنت إذا عشت انتفع بك الناس وأنت عظيمة القدر فلا نفديك إلا بعظيم ما عندي من هذا الموت ولي بنت هي أحب البنات إلى أنا أفديك بها ثم رد وجهه إلى ملك الموت وقال له لا بد من روح ترجع بها إلى ربك هذه بنتي تعلم محبتي فيها خذ روحها بدلا من هذه الروح فإني قد اشتريتها من الحق وباعني إياها وابنتي جعلك وحق لمجيئك ثم قام وخرج إلى ابنته وقال لابنته وما بها بأس يا بنية هبيني نفسك فإنك لا تقومين للناس مقام زينب بنت أمير المؤمنين في المنفعة فقالت يا أبت أنا بحكمك قد وهبتك نفسي فقال للموت خذها فماتت من وقتها فهذه عين مسألة الخليل وولده صلى الله عليهما فهذه الموازنات الإلهية لا يعرفها إلا أهلها

[إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم‏]

وعندنا إن الجعل لا بد منه ولا نلتزم أخذ روح ولا بد فإنا قد رأينا مثل هذا من نفوسنا فاشتريناه وما أعطينا فيه روحا وإنما فعل ذلك الشيخ لحال طرأ عليه في نفسه أوجب عليه ما فعله من إعطاء ابنته لأن مشهده في ذلك الوقت كانت قصة إبراهيم عليه السلام فحكم عليه حال إبراهيم عليه السلام فإن فهمت ما قلناه سعدت قال الله تعالى إِنَّ الله اشْتَرى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا يعني الجنة فلو لم يشتر أموالهم حتى حال بينهم وبينها لكان لهم ما يصلون به إلى المنعة ببقاء الحياة لبقاء الفداء الحاصل بالمال فلما أفلسهم أعدمهم فكان مشهد الشيخ من هذه الآية فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وكان مشهدنا نحن في هذه المسألة عين الشراء لا غير وهو الحي فمن كان عنده حي ولا بد فأعطينا العوض الذي اشترينا به حياته فبقي حيا وما ظهر للموت أثر في ذلك المشهد

[ميزان العموم وميزان الخصوص وميزان الاجتهاد]

فهذه آثار الأحوال على قدر الشهود وهي علوم الأذواق فهي عزيزة المنال فما كل عارف يعرفها وهي موازين لا تخطي فإنها بالوضع الإلهي نزلت ليوم القيامة بخلاف نزولها في الدنيا فإنها نزلت تعريفا وعند أهل الشهود في الدنيا كالأنبياء وفي يوم القيامة نزلت حقيقة بيد حق فلذلك ما جار نبي في حكم وفرضت له العصمة في أحكامه وكذلك الولي محفوظ في ميزانه وإن كانت العامة تنسبه إلى الجور فليس جورا في نفس الأمر وإنما هو جور بالنظر إلى موازينهم حيث لم يوافقها وكل حق فإنه ثم ميزان عموم كميزان الإجماع وميزان خصوص مثل هذا الميزان وميزان المجتهد في الحكم ولكن بقي أي ميزان أفضل في الخصوص هل هو ميزان المجتهد أو ميزان صاحب الكشف كما اختلفوا في إحرام الرجل من الميقات أو من منزله الخارج عن الميقات فمن قائل إن الإحرام من منزله الخارج عن الميقات أفضل ومن قائل إن الإحرام من الميقات أفضل ولكن على من يجيز الإحرام قبل الميقات فمن راعى الاتباع فضل الميقات ومن راعى المسارعة إلى التلبس بالعبادات مخافة الفوت فضل الإحرام من المنزل الذي خارج الميقات لكن المجمع عليه الميقات وهو تقييد

[الأفضل التقييد في الدين‏]

والأفضل التقييد في الدين فإن المباح الذي هو المطلق لا أجر فيه ولا وزر والعبادات تكليف والتكليف تقييد وجزاء تقييد الواجب أوجبه من أوجبه أعلى من الجزاء في الغير المقيد لأنه قد ورد أن الله يقول ما تقرب أحد بأحب إلي من تقربه بما افترضت عليه فجعله حب إليه من غير ذلك وهنا أسرار إلهية لا تتجلى إلا لأهل الفهم عن الله أهل الستر والكتم جعلنا الله منهم وأرجو أن أكون‏

(وصل في فصل حكم من مر على ميقات وأمامه ميقات آخر وهو يريد الحج أو العمرة)

اختلف الناس فيمن يريد الحج أو العمرة فيمر على ميقات وأمامه ميقات آخر فلم يحرم في الأول وتعدى إلى الآخر كالمار بذي الحليفة فلم يحرم وتعدى إلى الجحفة فإنها في طريقه فقال قوم عليه دم وقال قوم ليس عليه شي‏ء فمن راعى المسارعة إلى التلبس بالعبادة أعني بهذه العبادة الخاصة ورأى أن المسارعة إلى الخيرات سنة مؤكدة قال إن عليه دما في تعديها ومن رأى أن الأصل في الدين رفع الحرج وقول الله تعالى يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ فارادة موافقة الحق فيما أراده أولى وكل عبادة فأخر وقال لا دم عليه‏

[لا حكم للأسماء الإلهية في الأشياء إلا باستعداداتها]

فالعارف إذا كان مشهده الاسم الأول المقيد بالآخر الأول المطلق الذي لا يتقيد بالآخر رأى أن التلبس بالعبادة في الآخر الذي لا يجوز تعديه ولا فسحة فيه أولى فإنه فيه صاحب فرض من كل وجه لا يسعه تركه ومن رأى أن التلبس بهذه العبادة بحكم الاسم الأول أولى لكونه لا علم له بإتمامها فلا يدري هل يموت قبل أن يتلقاه الاسم الآخر فإن لم يحرم فارق موطن التكليف وهو لم يتلبس بعبادة الله اقتضاها له الموطن فحرم تجليها الإلهي فهو بحسب ما أشهده الحق وما خرج في هذا كله عن حكم اسم إلهي من الأسماء على شهود منه فإن قيل كيف يتعداه غير متلبس بهذه العبادة والميقات يقضى عليه بسلطانه وهو الاسم الأول قلنا لا حكم للأسماء في الأشياء إلا باستعدادات الأشياء للقبول وقبولها بحسب الحال التي تكون عليها في نفسها من ذاتها فإن الأسباب الخارجة الموجبة لأمر ما تضعف عن مقاومة الأسباب الداخلة التي في المكلف فربما يكون حال هذا المتعدي حال الختم فيطلبه بالتأخير فيعرف ذلك الاسم الأول فيضعف موطن ميقاته عن التأثير فيه لأنه ليس عين مشهده فيتعدى إلى الميقات الثاني لأن له الاسم الآخر ولا شك أن الآخر في الطريق يتضمن حكمه ما تقدمه مضافا إلى خصوصيته بخلاف الأول فالأول يدرج في الثاني وليس الثاني مدرجا في الأول‏

[كل لحظة إلهية متأخرة تتضمن ما تقدمها وفيها خصوصيتها]

ومن أصول القوم أن العارف لو جلس مع الله كذا وكذا سنة وفاتته لحظة من الله في وقته كان الذي فإنه في تلك اللحظة أكثر مما ناله قبل ذلك وسببه أن كل لحظة إلهية متاخرة تتضمن ما تقدمها من اللحظات وفيها خصوصيتها التي بها تميزت وبتلك الخصوصية صحت لها الكثرة على ما تقدمها فلهذا لم ير بالتعدي بأسا محمد صلى الله عليه وسلم آخر المرسلين فحصل جميع مقامات الرسل وزاد بخصوصيته بلا شك لأنه آخر النبيين وفي هذا إشارة لمن فهم فإن قيل إذا تلبس بالعبادة أولا ومر على الآخر وهو متلبس فقد حصل له ما في الآخر بمروره متلبسا بها قلنا هكذا هو إلا أنه لم يحصل له في الثاني الحكم الخاص بالثاني الذي هو الإنشاء منه وهو أوليته فيفوته أولية الإنشاء منه لهذه العبادة بالاسم الآخر فلهذا تعدى إليه قال السائل كذلك أيضا يفوته أولية الأول في الإنشاء قلنا إن كل أولية مضافة تحكم عليها حقيقة الأولية التي لا تضاف وهي المعتبرة فما فاته ما يتحسر عليه إذ حقيقتها موجودة في أولية الآخر والآخر لا وجود له في الأول‏

[المعاني توجب أحكامها لمن قامت به‏]

ومن نظر في الأسماء بهذه العين علم كيف يقبل تصريفها فيه ويعين لها من ذاته ما يليق بها على شهود منه وبينة وعلم صحيح وبهذا يتميز لأنه في نفس الأمر كذا هو ما يتلقاه منه إلا ما يليق به ولكن لا علم لكل أحد بذلك وبهذا تتفاوت الناس ويرفع الله درجات بعضهم على بعض ويعلم أيضا كيف يصرفها في غيره إذا مكنته من نفسها أو مكنه منها حاله لأنه ليس في الحقيقة أن يقوم بك العلم ولا تكون عالما فهذا هو التمكن الحالي الذي تقتضيه ذاته ولا يصح غيره لأن المعاني توجب أحكامها لمن قامت به ولو لا ذلك ما صح وجود العالم عن الحق أ لا ترى أن المحال لما لم يكن في استعداده قبول ما يقبله الممكن من الوجود لم يكن له وجود ولا يصح كالشريك لله تعالى في ألوهيته ولما كان الممكن في استعداده الذاتي قبول الإيجاد وجد فلا تغب عن حقائق الأمور فإنها تتداخل في حكم الناظر فيها لا في نفسها ومن غاب عن الحقائق هوى في مهاوي الجهالات ويفوته درجة العلم الذي أمر الله نبيه بطلب الزيادة منه فلا شي‏ء أشرف من العلم ولم يأمر بطلب زيادة في غيره من الصفات لأنه الصفة العامة التي لها الإحاطة بكل صفة وموصوف‏

(وصل في فصل الآفاقي يمر على الميقات يريد مكة ولا يريد الحج ولا العمرة)

اختلف العلماء فيمن ليس من أهل مكة يريد مكة ولا يريد حجا ولا عمرة ومر على ميقات من المواقيت هل يلزمه الإحرام أم لا إذا لم يكن ممن يكثر التردد إلى مكة فقال قوم يلزمه الإحرام وقال قوم لا يلزمه الإحرام وبه أقول‏

[رجال الله المسيرون ورجال الله السائرون‏]

رجال الله على نوعين رجال يرون أنهم مسيرون ورجال يرون أنهم يسيرون فمن رأى أنه مسير لزمه الإحرام‏

على كل حال فإنه مسير على كل حال ومن رأى أنه يسير لا غير فهو بحكم ما بعثه على السير فإن كان بعثه باعث يقتضي الإحرام أحرم فإنه كمن أراد الحج أو العمرة أو هما معا وإن كان باعثه غير ذلك فهو بحسب باعثه كما قاله صلى الله عليه وسلم لمن أراد الحج والعمرة وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح أيضا إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‏

فليس له أن يحرم وهو لم ينو حجا ولا عمرة وما عندنا شرع يوجب عليه أن ينوي الحج أو العمرة ولا بد ثم فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا ما أراد وما حجر ولا ذم‏

فقال فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏

(وصل في فصل ميقات الزمان)

يقول الله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فمن قائل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة وبه أقول ومن قائل شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة ومن قائل في أي وقت شاء من السنة وكذلك العمرة في أي وقت شاء من السنة وكرهها بعضهم في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق واختلفوا في تكرارها في السنة الواحدة فمنهم من استحب عمرة في كل سنة وكره ما زاد على ذلك ومنهم من قال لا كراهة في ذلك وبه أقول‏

[الزمان الذي فوق الطبيعة والزمان الذي تحت الطبيعة]

اعلم أن الميقات الزماني إنما عينه الاسم الإلهي الدهر واعلم أن الزمان منه ما هو فوق الطبيعة وهو مذهب المتكلمين ومنه ما هو تحت الطبيعة فله الحكم العام فالذي له من الحكم تحت الطبيعة فحكم جسماني يتميز بحركات الأفلاك والزمان في نفسه معقول والطريق إلى معقوليته الوهم فهو امتداد متوهم تقطعه حركات الأفلاك كالخلاء امتداد متوهم لا في جسم فحاصله على هذا القول أنه عدم لا وجود وأما الزمان الذي فوق الطبيعة فتميزه الأحوال وتعينه في أمر وجودي يلقيه إلى العقل الاسم الدهر وتصحبه لفظة متى في لسان العرب فمتى يصحب الزمان الطبيعي وغير الطبيعي وقد وقع في الأمور والنسب الإلهية والزمانية نسبة الزمان والمكان وهما ظرفان ففي المكان‏

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للسوداء أين الله‏

وقوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ من الْغَمامِ فذكر اعتقادهم وما جرح وما صوب ولا أنكر ولا عرف ومثل هذا في الشرع كثير وفي الزمان قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ولِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ

[الدهر الزمانى مظهر للاسم الإلهي الدهر]

وقد ورد في الصحيح لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر

تنزيها لهذه اللفظة أي أنها من الألفاظ المشتركة كالعين والمشتري فالدهر الزماني مظهر للاسم الدهر والاسم بالفعل هو الظاهر فيه والفعل في الكون للظاهر لا للمظهر وحكم المظهر إنما هو في الظاهر حيث سماه بنفسه ولهذا تأوله من تأوله فقال معناه إنه الفاعل في الدهر وهذا خطأ بين لأنه لم يفرق بين الفعل من حيث نسبته إلى الفاعل ونسبته إلى المفعول فالحق فاعل والمفعول واقع في الدهر والفعل حال بين الفاعل والمفعول ولم يفرق هذا المتأول بين الفاعل والمفعول فهلا سلم علم ذلك لقائله وهو الله تعالى ولا تأوله تأول من لا يعرف ما يستحقه جلال الله من التعظيم‏

(وصل في فصل الإحرام)

[الحج في مراسمه وفي حقائقه‏]

وهو أول التلبس بهذه العبادة (حكاية الشبلي في ذلك) قال صاحب الشبلي وهو صاحب الحكاية عن نفسه قال لي الشبلي عقدت الحج قال فقلت نعم فقال لي فسخت بعقدك كل عقد عقدته منذ خلقت مما يضاد ذلك العقد فقلت لا فقال لي ما عقدت ثم قال لي نزعت ثيابك قلت نعم فقال لي تجردت من كل شي‏ء فقلت لا فقال لي ما نزعت ثم قال لي تطهرت قلت نعم فقال لي زال عنك كل علة بطهرك قلت لا قال ما تطهرت ثم قال لي لبيت قلت نعم فقال لي وجدت جواب التلبية بتلبيتك مثله قلت لا فقال ما لبيت ثم قال لي دخلت الحرم قلت نعم قال اعتقدت في دخولك الحرم ترك كل محرم قلت لا قال ما دخلت ثم قال لي أشرفت على مكة قلت نعم قال أشرف عليك حال من الحق لإشرافك على مكة قلت لا قال ما أشرفت على مكة ثم قال لي دخلت المسجد قلت نعم قال دخلت في قربه من حيث علمت قلت لا قال ما دخلت المسجد ثم قال لي رأيت الكعبة فقلت نعم فقال رأيت ما قصدت له فقلت لا قال ما رأيت الكعبة ثم قال لي رملت ثلاثا ومشيت أربعا فقلت نعم فقال هربت من الدنيا هربا علمت أنك قد فاصلتها وانقطعت عنها ووجدت بمشيك الأربعة أمنا مما هربت منه فازددت لله شكرا لذاك فقلت لا قال ما رملت ثم قال لي صافحت الحجر وقبلته قلت نعم فزعق زعقة وقال‏

ويحك إنه قد قيل إن من صافح الحجر فقد صافح الحق سبحانه وتعالى ومن صافح الحق سبحانه وتعالى فهو في محل إلا من أظهر عليك أثر إلا من قلت لا قال ما صافحت ثم قال لي وقفت الوقفة بين يدي الله تعالى خلف المقام وصليت ركعتين قلت نعم قال وقفت على مكانتك من ربك فأريت قصدك قلت لا قال فما صليت ثم قال لي خرجت إلى الصفا فوقفت بها قلت نعم قال أيش عملت قلت كبرت سبعا وذكرت الحج وسألت الله القبول فقال لي كبرت بتكبير الملائكة ووجدت حقيقة تكبيرك في ذلك المكان قلت لا قال ما كبرت ثم قال لي نزلت من الصفا قلت نعم قال زالت كل علة عنك حتى صفيت قلت لا فقال ما صعدت ولا نزلت ثم قال لي هرولت قلت نعم قال ففررت إليه وبرئت من فرارك ووصلت إلى وجودك قلت لا قال ما هرولت ثم قال لي وصلت إلى المروة قلت نعم قال رأيت السكينة على المروة فأخذتها أو نزلت عليك قلت لا قال ما وصلت إلى المروة ثم قال لي خرجت إلى منى قلت نعم قال تمنيت على الله غير الحال التي عصيته فيها قلت لا قال ما خرجت إلى منى ثم قال لي دخلت مسجد الخيف قلت نعم قال خفت الله في دخولك وخروجك ووجدت من الخوف ما لا تجده إلا فيه قلت لا قال ما دخلت مسجد الخيف ثم قال لي مضيت إلى عرفات قلت نعم قال وقفت بها قلت نعم قال عرفت الحال التي خلقت من أجلها والحال التي تريدها والحال التي تصير إليها وعرفت المعرف لك هذه الأحوال ورأيت المكان الذي إليه الإشارات فإنه هو الذي نفس الأنفاس في كل حال قلت لا قال ما وقفت بعرفات ثم قال لي نفرت إلى المزدلفة قلت نعم قال رأيت المشعر الحرام قلت نعم قال ذكرت الله ذكرا أنساك ذكر ما سواه فاشتغلت به قلت لا قال ما وقفت بالمزدلفة ثم قال لي دخلت منى قلت نعم قال ذبحت قلت نعم قال نفسك قلت لا قال ما ذبحت ثم قال لي رميت قلت نعم قال رميت جهلك عنك بزيادة علم ظهر عليك قلت لا قال ما رميت ثم قال لي حلقت قلت نعم قال نقصت آمالك عنك قلت لا قال ما حلقت ثم قال لي زرت قلت نعم قال كوشفت بشي‏ء من الحقائق أو رأيت زيادات الكرامات عليك للزيارة

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحجاج والعمار زوار الله وحق على المزور أن يكرم زواره‏

قلت لا قال ما زرت ثم قال لي أ حللت قلت نعم قال عزمت على أكل الحلال قلت لا قال ما أحللت ثم قال لي ودعت قلت نعم قال خرجت من نفسك وروحك بالكلية قلت لا قال ما ودعت وعليك العود وانظر كيف تحج بعد هذا فقد عرفتك وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك‏

[أهل الله ما منهم إلا من له مقام معلوم‏]

فاعلم أيدك الله أني ما سقت هذه الحكاية إلا تنبيها وتذكرة وأعلاما أن طريق أهل الله على هذا مضى حالهم فيه والشبلي هكذا كان إدراكه في حجه فإنه ما سأل إلا عن ذوقه هل أدركه غيره أم لا وغيره قد يدرك هذا وقد يدرك ما هو أعلى منه وأدون منه فما منهم إلا من له مقام معلوم فما اخترعت في اعتباراتي في هذه العبادات طريقة لم أسبق إليها إلا أن الأذواق تتفاوت بحسب ما تكون عناية الله بالعبد في ذلك‏

[ما يمنع المحرم أن يلبسه‏]

ثم نرجع ونقول على نحو ما تقدم في الفصول ولنبتدئ أولا فيما يمنع المحرم أن يلبسه وهو القميص والعمامة والبرنس والخلف إلا أن لا يجد النعل والسراويل إلا أن لا يجد الإزار ولا ثوبا مسه زعفران ولا ورس وفيما ذكرناه متفق عليه ومختلف فيه وفي التفصيل تفسير إن شاء الله وحال الرجل في هذا يخالف حال المرأة فإن المرأة تلبس المخيط والخفاف والخمر وما للمرأة إحرام إلا في وجهها وكفيها

[أفعال الحج أكثرها تعبدات لا تعلل‏]

وسبب هذا كله في هذه العبادة أنهم وقد الله دعاهم الحق إلى بيته وما دعاهم إليه سبحانه بمفارقة الأهل والوطن والعيش الترف وحلاهم بحلية الشعث والغبرة إلا ابتلاء ليريهم من وقف مع عبوديته ممن لم يقف ولهذا أفعال الحج أكثرها تعبدات لا تعلل ولا يعرف لها معنى من طريق النظر لكن تنال ربما من طريق الكشف والإخبار الإلهي الوارد على قلوب الواردين العارفين من الوجه الخاص الذي لكل موجود من ربه فزينة الحاج تخالف زينة جميع العبادات فإنهم وفد الله الحاج منهم والمعتمر وأعني من انفرد بالحج ومن انفرد بالعمرة فهما وفدان فالقارن بينهما له خصوص وصف لأنه جامع لمرتبة الوفدين لأن وفود الله ثلاثة على ما

ذكره النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد الله ثلاثة الغازي والحج والمعتمر

انتهى الجزء الثاني والستون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

[وصل حال المرأة يخالف حال الرجل في أكثر أحكام الحج‏]

واعلم أيضا أن المرأة إنما خالفت الرجل في أكثر الأحكام في الحج لأنها جزء منه وإن اجتمعا في الإنسانية ولكن تميزا بأمر عارض عرض لهما وهو الذكورية للرجل والأنوثة للمرأة

[محبة الرجل للمرأة ومحبة المرأة للرجل‏]

وخلقت منفعلة عنه ليحن إليها حنين من ظهرت سيادته بها فهو يحبها محبة من أعطاه درجة السيادة وهي تحن إليه وتحبه حنين الجزء إلى الكل وهو حنين الوطن لأنه وطنها مع ما يضاف إلى ذلك من كون كل واحد موضعا لشهوته والتذاذه وقد تبلغ المرأة في الكمال درجة الرجال وقد ينزل الرجل في النقص إلى ما هو أقل من درجة النقص الذي للمرأة وقد يجتمعان في أحكام من العبادات ويفترقان‏

[الغالب فضل عقل الرجل على عقل المرأة]

غير أن الغالب فضل عقل الرجل على عقل المرأة لأنه عقل عن الله قبل عقل المرأة لأنه تقدمها في الوجود والأمر الإلهي لا يتكرر فالمشهد الذي حصل للمتقدم لا سبيل أن يحصل للمتأخر لما قلنا من أنه تعالى لا يتجلى في صورة مرتين ولا لشخصين في صورة واحدة للتوسع الإلهي وهذه هي الدرجة التي يزيد بها الرجل على المرأة وأين الكل من الجزء وإن لحقه في الكمال ولكنه كمال خاص كما لحق بعض أعضاء الإنسان إذا قطع في الدية تلف الإنسان في كمالها وبعض الأعضاء على النصف من ذلك وأقل فما كل جزء يلحق بالكل في كل الدرجات‏

[خلق الرجل وخلق المرأة]

فحرم المخيط على الرجل في الإحرام ولم يحرم على المرأة فإن الرجل وإن كان خلق من مركب فهو من البسائط أقرب فهو أقرب الأقربين والمرأة خلقت من مركب محقق فإنها خلقت من الرجل فبعدت من البسائط أكثر من بعد الرجل والمخيط تركيب فقيل لها ابقي على أصلك وقيل للرجل ارتفع عن تركيبك فأمر بالتجرد عن المخيط ليقرب من بسيطه الذي لا مخيط فيه وإن كان مركبا فإنه ثوب منسوج ولكنه أقرب إلى الهباء منه من القميص والسراويل وكل مخيط والهباء بسيط فما قرب منه عومل بمعاملته وما بعد عنه تميز في الحكم عن القريب‏

[خلق البنون من امتزاج الأبوين لا من واحد منهما]

ثم إن الرجل وهو آدم خلق على صورته وخلقت حواء على صورة آدم وخلق البنون من امتزاج الأبوين لا من واحد منهما بل من المجموع حسا ووهما فكان استعداد الأبناء أقوى من استعداد الأبوين لأن الابن جمع استعداد الاثنين فكمال الابن الكامل أعظم من كمال الأب ولهذا اختص محمد صلى الله عليه وسلم بالكمال الأتم لكونه ابنا وكل ابن في النشأة له هذا الكمال غير أنهم في الكمال يتفاضلون لأجل الحركات العلوية والطوالع النورانية والاقترانات السعادية فما كل ابن له هذا الكمال الثاني الزائد على نشأته فهذه دقيقة أخرى يعطيها الوجه الخاص الإلهي في التجلي للسبب الذي يكون عنه هذا الابن يعين ذلك الوجه اسم إلهي يكون في الكمال الإحاطي أكمل من غيره من الأسماء كالعالم فإنه أتم في الإحاطة من سائر الأسماء بما لا يتقارب‏

[خلق عيسى وآدم وحواء]

فمن كان ذا أب وأم واسم إلهي إحاطي خاص رفيع الدرجات كان أكمل ممن كان ذا أب وأم واسم إلهي دونه في الإحاطة والدرجة ومن كان عن أم وأب متوهم مثالي أشبه جده لأمه إذ لا أب له مثل عيسى عليه السلام فصفته صفة جده آدم في صدوره عن الأمر بذا ورد التعريف الإلهي فقال إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ أي الاسم الإلهي الذي وجد عنه آدم وجد عنه عيسى خَلَقَهُ من تُرابٍ الضمير يعود على آدم فعيسى أخ لحواء وهو ابن بنتها ومن كان عن أب دون أم قصر عن درجة أبيه كحواء خلقت من القصيري فقصرت وعوجها استقامتها فانحناؤها حنوها على أبنائها وعلى ما له من الخزائن مثل انحناء الأضلاع على ما في الجوف من الأحشاء والأمعاء المختزنة فيه لصلاح صاحبه فاعوجاجها عين استقامتها التي أريدت له ولهذا اعوجاج القوس عين استقامته فإن رمت أن تقيمه على الاستقامة الخطية المعلومة كسرته فلم تبلغ أنت بالاستقامة التي تطلبها منه غرضك الذي تؤمله وهذا لجهلك بالاستقامة اللائقة به‏

[ما في العالم إلا مستقيم عند العلماء بالله‏]

فما في العالم إلا مستقيم عند العلماء بالله الواقفين على أسرار الله في خلقه فإنه قد بين لنا ذلك في قوله تعالى أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ وهو عين كمال ذلك الشي‏ء فما نقصه شي‏ء وسبب ذلك كوننا مخلوقين على من له الكمال المطلق فأشبهنا في التقييد بإطلاقه فإن الإطلاق تقييد بلا شك إذ به يميز عن المقيد فما يصدر عن الكامل شي‏ء إلا وذلك على كماله اللائق به فما في العالم ناقص أصلا ولو لا الأعراض التي تولد الأمراض لتنزه الإنسان في صورة العالم كما يتنزه العالم ويتفرج فيه فإنه بستان الحق والأسماء ملاكه بالاشتراك فكل اسم له فيه حصة فهذا الذي تعطيه الحقائق فالكمال للأشياء وصف ذاتي والنقص أمر عرضي وله كمال في ذاته‏

فافهم فما هلك امرؤ عرف قدره فقد بان لك شأن المرأة من شأن الرجل وأنهما وإن افترقا من وجه فهما يجتمعان من وجه‏

(وصل في فصل اختلاف العلماء في المحرم إذا لم يجد غير السراويل هل له لباسها)

فمن قائل لا يجوز له لباسها فإن لبسها افتدى ومن قائل يلبسها إذا لم يجد إزارا

[صفات المعاني ليست بأعيان زائدة على الذات‏]

اعلم أن الإزار والرداء لما لم يكونا مخيطين لم يكونا مركبين ولهذا وصف الحق نفسه بهما لعدم التركيب إذ كان كل مركب في حكم الانفصال وهذا سبب وجوب قول القائل بأن صفات المعاني الإلهية ليست بأعيان زائدة على الذات مخافة التركيب ونزع مثبتوها زائدة إلى أن يقولوا فيها لا هي هو ولا هي غيره لما في التركيب من النقص إذ لو فرض انفصال المتصل لصح ولم يكن محالا من وجه انفصاله وإنما يستحيل ذلك إذا استحال لاتصافه بالقدم الذي هو نفي الأولية والقديم لا شك أنه يستحيل أن ينعدم بالبرهان العقلي فإذا فرضنا عدم صفات المعاني التي بوجودها يكون كمال الموصوف ظهر نقص الموصوف وإن كان فرض محال لاستحالة عدم القديم والله يقول لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا وهذا بطريق فرض المحال والحق كامل الذات فاجعل بالك‏

[المحرم تلبس بصفة حسية هي للحق معنوية]

يقول تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري‏

فهذا إحرام إلهي فإنه ذكر ثوبين ليسا بمخيطين فالحق سبحانه المحرم من الرجال بما وصف به نفسه ولم يفعل ذلك بالمرأة ولا أيضا حجر ذلك عليها فإنها قد تكمل في ذلك كما يكمل الرجال فلو لبسته المرأة لكان أولى بها عندنا فالمحرم قد تلبس بصفة هي للحق معنوية وفي الخلق حسية هي في الحق كبرياء وعظمة وفي الخلق رداء وإزار كما تلبس الصائم بصفة هي للحق ولهذا جعل في قواعد الإسلام مجاورا له وإن كان في الحقيقة وجود العظمة والكبرياء إنما محلهما ظاهر العبد لا قلبه فقد تكون العظمة والكبرياء حال الإنسان لا صفته ولو اتصف بها هلك جهلا وإذا كانتا حالا له في موطنهما نجا وسعد وشكر له ذلك فأول درجة هذه العبادة إن ألحق المتلبس بها من عباده بربه في التنزيه عن الاتصاف بالتركيب فتلبس بالكمال في أول قدم فيها ولهذا لا نجوز نحن للمحرم أن يلبس شيئا من المخيط ولا يغطي رأسه إلا لضرورة من أذى يلحقه لا يندفع ذلك الأذى إلا بلباس ما حجر عليه وإما إن فعله لغير أذى فما تلبس بالعبادة ولا حج ولا يفدي إلا من لبس ذلك من أذى والأذى في الجناب الإلهي أن ينسب إلى التركيب لما فيه من النقص قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله فوصف نفسه بأنه يؤذي وجعل له هذا الأذى الاسم الصبور

فلا أحد أصبر على أذى من الله‏

لقدرته على الأخذ عليه فلا يؤاخذ ويمهل‏

[لبس السراويل هو ستر العورة التي هي محل السر الإلهي‏]

فالعبد إذا لم يقمه الله في مقام شهود العظمة التي هي الإزار وأقيم في مقام الإدلال فانبسط على الحق وهذا موجود في الطريق وقد وردت به الأخبار النبوية في عجوز موسى وغيره لبس السراويل ستر للعورة التي هي محل السر الإلهي وستر للاذى لأنهما محل خروج الأذى أيضا فتأكد سترهما بما يناسبهما وهو السراويل والسراويل أشد في السترة للعورة من الإزار والقميص وغيره لأن الميل عن الاستقامة عيب فينبغي ستر العيب ولهذا سميت عورة لميلها فإن لها درجة السر في الإيجاد الإلهي وأنزلها الحق منزلة القلم الإلهي كما أنزل المرأة منزلة اللوح لرقم هذا القلم فلما مالت عن هذه المرتبة العظمى والمكانة الزلفى إلى أن تكون محلا لوجود الروائح الكريهة الخارجة منهما من أذى الغائط والبول وجعلت نفسها طريقا لما تخرجه القوة الدافعة من البدن سميت عورة وسترت لأنها ميل إلى عيب فالتحقت بعالم الغيب وانحجبت عن عالم الشهادة فبالسراويل لا تشهد ولا تشهد فالسراويل أستر في حقها ولكن رجح الحق الإزار لأنه خلق العبد للتشبه به لكونه خلقه على صورته‏

(وصل في فصل لباس المحرم الخفين)

فمن قائل وهو الأكثر إن المحرم يلبس الخفين إذا لم يجد النعلين وليقطعهما أسفل من الكعبين ومن قائل يلبسهما ولا يقطعهما وعلل عطاء قطعهما بأنه فساد والله لا يحب الفساد ومطلق حديث ابن عباس إن الخفين لمن لم يجد النعلين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر قطعهما وبه قال أحمد وعطاء

[مراعاة التنزيه ومراعاة ظهور ما أظهره الحق‏]

القدم صفة إلهية وصف الحق بها نفسه ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فمن راعى التنزيه وأدركته الغيرة على الحق في نزوله لما هو من وصف العبد المخلوق قال بلباس الخف غير

المقطوع لأنه أعظم في الستر ومن راعى ظهور ما أظهره الحق لكون الحق أعرف بنفسه من عبده به ونزه نفسه في مقام آخر لم يرد أن يتحكم على الحق بعقله وقال الرجوع إليه أولى من الغيرة عليه فإن الحقيقة تعطي أن يغار له لا عليه شرعا وما شرع لباس الخفين إلا لمن لا يجد النعلين والنعل واق غير ساتر فقال بقطع الخفين وهو أولى‏

(وصل في فصل من لبسهما مقطوعتين مع وجود النعلين)

فمن قائل عليه الفدية ومن قائل لا فدية عليه‏

[معرفة الله بطريق الخبر أعلى من معرفته بطريق النظر]

لما اجتمع الخف مع النعل في الوقاية من أذى العالم الأسفل وزاد الخف الوقاية من أذى العالم الأعلى من حيث ما هما عالم لمشترك الدلالة والدلالة تقبل الشبه وهو الأذى الذي يتعلق بها ولهذا معرفة الله بطريق الخبر أعلى من المعرفة بالله من طريق النظر فإن طريق الخبر في معرفة الله إنما جاء بما ليست عليه ذاته تعالى في علم الناظر فالمعرفة بالأدلة العقلية سلبية وبالأدلة الخبرية ثبوتية وسلبية في ثبوتية وسلبية في ثبوت فلما كان أكشف لم يرجح جانب الستر فجعل النعل في الإحرام هو الأصل فإنه ما جاء اتخاذ النعل إلا للزينة والوقاية من الأذى الأرضي فإذا عدم عدل إلى الخف‏

[كل ما سكت عنه الشرع فهو عافية]

فإذا زال اسم الخف بالقطع ولم يلحق بدرجة النعل لستره ظاهر الرجل فهو لا خف ولا نعل فهو مسكوت عنه كمن يمشي حافيا فإنه لا خلاف في صحة إحرامه وهو مسكوت عنه وكل ما سكت عنه الشرع فهو عافية وقد جاء الأمر بالقطع فالتحق بالمنطوق عليه بكذا وهو حكم زائد صحيح يعطي ما لا يعطي الإطلاق فتعين الأخذ به فإنه ما قطعهما إلا ليلحقهما بدرجة النعل غير أن فيه سترا على الرجل ففارق النعل ولم يستر الساق ففارق الخف فهو لا خف ولا نعل وهو قريب من الخف وقريب من النعل وجعلناه وقاية في الأعلى لوجود المسح على أعلى الخف فلو لا اعتبار أذى في ذلك بوجه ما ما مسح أعلى الخف في الوضوء لأن إحداث الطهارة مؤذن بعلة وجودية يريد إزالتها بإحداث تلك الطهارة والطهارة التي هي غير حادثة ما لها هذا الحكم فإنه طاهر الأصل لا عن تطهير

[العارف بحسب ما يقام فيه وما يكون مشهده‏]

فالإنسان في هذه المسألة إذا كان عارفا بحسب ما يقام فيه وما يكون مشهده فإن أعطاه شهوده أن يلبس مع وجود النعلين حذرا من أثر العلو في ظاهر قدمه عصم بلباسه قدمه من ذلك الأثر وإن كان عنده قوة إلهية يدفع بها ذلك الأثر قبل أن ينزل به لبس النعلين ولم يجز له لباس المقطوعين إذ كان الأصل في استعمال ذلك عدم النعلين فرجح الكشف والإعلان على الستر والأسرار في معرفة الله في الملإ الأعلى وهو علم التنزيه المشروع والمعقول‏

[درجات التنزيه في العقل‏]

فإن التنزيه له درجات في العقل ما دونه تنزيه بتشبيه وأعلاه عند العقل تنزيه بغير تشبيه ولا سبيل لمخلوق إليه إلا برد العلم فيه إلى الله تعالى والتنزيه بغير التشبيه وردت به الشريعة أيضا وما وجد في العقل فغاية النظر العقلي في تنزيه الحق مثلا عن الاستواء أنه انتقل عن شرح الاستواء الجسماني عن العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالاستواء السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان الإحاطي الأعظم أو على الملك فما زال في تنزيهه من التشبيه فانتقل من التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فوقه في الرتبة فما بلغ العقل في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله ليس كمثله شي‏ء أ لا تراهم استشهدوا في التنزيه العقلي في الاستواء بقول الشاعر

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق‏

وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق على العرش لقد خسر المبطلون أين هذا الروح من قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فاستواء بشر من جملة الأشياء لقد صدق أبو سعيد الخراز وأمثاله حيث قالوا لا يعرف الله إلا الله‏

لا يعرف الشوق إلا من يكابده *** ولا الصبابة إلا من يعانيها

(وصل في فصل اختلاف الناس في لباس المحرم المعصفر بعد اتفاقهم على أنه لا يلبس المصبوغ بالورس ولا الزعفران)

فقال بعضهم لا بأس بلباس المعصفر فإنه ليس بطيب وقال قوم هو طيب ففيه الفدية إن لبسه‏

[الطيب للمحرم غير جائز]

الطيب للمحرم عندنا وأعني التطيب لا وجود الطيب عنده الذي يطيب به قبل عقد الإحرام واستصحبه غير جائز إلا إذا أراد الإحلال وقبل أن يحل فمن السنة أن يتطيب ولا أقول في الأول والثاني إن تطيبه عليه السلام كان لحرمه ولحله فإنه لم يرد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ورد من قول عائشة فتطرق إليه الاحتمال بين أن يكون عن أمر فهمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فيما اقتضاه نظرها وفهمها أو عن نص صريح منه لها في ذلك ورأيناه قد نهى عن الطيب زمان مدة

إقامته على الإحرام إلا إذا أراد الحل‏

[العصفر حكمه حكم الطيب‏]

فالعصفر وإن كان ليس طيبا حكمه حكم الطيب فإن لبس الرداء المعصفر قبل الإحرام عند الإحرام ولم يرد نص باجتنابه فله أن يبقى عليه أو يلبسه عند الإحلال وقبل الإحلال ولا يلبسه ابتداء في زمان بقاء الإحرام هذا هو الأظهر في هذه المسألة عندنا إلا أن يرد نص جلي في المعصفر في النهي عنه ابتداء وانتهاء وما بينهما فنقف عنده‏

[خلو العبد عن نفسه أو عن ربه في هذه العبادة]

الصفرة من الشي‏ء المعصفر وهو الخالي والخلي وبه سمي صفر من الشهور في أول وضع هذا الاسم لخلو الأرض فيه عن النبات في ذلك الوقت الموافق لوضع هذا الاسم ولهذا جاز مع بعده لوجود الربيع الذي أزال كون الأرض خالية منه في الهلال الأول المسمى صفرا فإن خلى العبد عن نفسه في هذه العبادة فهو الذي جاز له لباس المعصفر وإن خلى عن ربه فيها لم يجز له لباس المعصفر ولهذا وجد الخلاف فيه‏

(وصل في فصل اختلافهم في جواز الطيب للمحرم عند الإحرام وقبل أن يحرم لما يبقى عليه من أثره بعد الإحرام)

فكرهه قوم وأجازه قوم وبإجازته أقول بل هي السنة عندي بلا شك إما قبل الإحرام فجائز وإما إذا أحرم هل يغسل ذلك الطيب من أجل بقاء الرائحة أم لا هذا هو محل الخلاف الصحيح بين العلماء

[الطيب هو الثناء على العبد بالنعوت الإلهية]

رائحة الطيب يلتذ بها صاحب الطبع السليم ولا تستخبثها نفسه وهو الثناء على العبد بالنعوت الإلهية التي هي التخلق بالأسماء الحسنى لا بمطلق الأسماء وهو في هذه العبادة الأغلب عليه مقام العبودية لما فيها من التحجير ومن الأفعال التي يجهل حكمتها النظر العقلي فكأنها مجرد عبادة فلا تقوم إلا بأوصاف العبودة فمن رأى هذا منع من التخلق بالأسماء في هذه الحالة وفي ابتداء الدخول فيها لأنه لا يدخل فيها باسم إلهي فلا يتطيب عند الإحرام خوفا من الرائحة الباقية مع الإحرام وهو بمنزلة حكم الخلق الإلهي في المتخلق إذا تخلق به‏

[ما ثم خلق إلا وقد اتصف الله به من أوصاف العباد]

ومن رأى أنه يجوز له ذلك كان مشهده إنه ما ثم خلق إلا وقد اتصف به الله تعالى من أوصاف العباد من الفرح والضحك والتعجب وغير ذلك بالتصريح كما بيناه وبغير التصريح مثل قوله وأَقْرِضُوا الله ومثل قوله الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وقوله ومَكَرَ الله وأمثال هذا فمن كان هذا مشهده قال لا يخلو الإنسان العبد عن نعت إلهي يكون عليه فأجاز له ذلك وإنما لم يحدث تطيبا في زمان بقاء الإحرام إلى أن يريد التحلل فإنه في زمان بقاء الإحرام تحت قهر اسم العبودة فليس له أن يحدث ثناء إلهيا فيزيل عنه حكم ما يعطيه الاسم الحاكم لتلك العبادة فإنها لا تتصور عبادة إلا بحكم هذا الاسم فإذا زال لم يكن ثم من يقيمها إلا النائب الذي هو الفدية لا غير

[الأول من كل شي‏ء قوى لا يغلب وصادق لا يكذب‏]

وأما حكم الطيب للإحرام والإحلال فهو لسلطان الاسم الأول فإن الأول من كل شي‏ء قوي لا يغلب وصادق لا يكذب فلم يكن لغيره من الأسماء هذه القوة فلم يقاومه منازع فحقيقته الأولية فلا يكون وسطا فحكم في أولية الإحرام وفي آخرية الإحرام وهو الذي فهمته عائشة من ذلك‏

فقالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله ولحرمه‏

قبل وجود الإحرام منه والتحليل ولم تقل طيبته لآخر إحرامه حين أراد أن ينقضي ويعقبه الإحلال وإنما راعت الإحلال في آخر أفعال الحج وهو طواف الإفاضة وكذلك راعت الإحرام المستقبل ما غسل عنه طيبا

(وصل في فصل مجامعة النساء)

أجمع المسلمون على أن الوطء يحرم على المحرم مطلقا وبه أقول غير أنه إذا وقع فعندنا فيه نظر في زمان وقوعه فإن وقع منه بعد الوقوف بعرفة أي بعد انقضاء زمان جواز الوقوف بعرفة من ليل أو نهار فالحج فاسد وليس بباطل لأنه مأمور بإتمام المناسك مع الفساد ويحج بعد ذلك وإن جامع قبل الوقوف بعرفة وبعد الإحرام فالحكم فيه عند العلماء كحكمه بعد الوقوف يفسد ولا بد من غير خلاف أعرفه ولا أعرف لهم دليلا على ذلك ونحن وإن قلنا بقولهم واتبعناهم في ذلك فإن النظر يقتضي أن وقع قبل الوقوف أن يرفض ما مضى ويجدد الإحرام ويهدي وإن كان بعد الوقوف فلا لأنه لم يبق زمان للوقوف وهنا بقي زمان للإحرام لكن ما قال به أحد فجرينا على ما أجمع عليه العلماء مع أني لا أقدر على صرف هذا الحكم عن خاطري ولا أعمل عليه ولا أفتى به ولا أجد دليلا وقد رفضت العمرة عائشة حين حاضت بعد التلبس بها وأحرمت بالحج فقد رفضت إحراما وفي أمر عائشة وشأنها عندي نظر هل أردفت على عمرتها أو هل رفضتها بالكلية فإن أراد بالرفض ترك الإحرام بالعمرة وأن وجود الحيض أثر في صحتها مع بقاء زمان الإحرام فالجماع‏

مثله في الحكم وإن لم يرد بالرفض الخروج عن العمرة وإنما أراد إدخال الحج عليها فرفض أحدية العمرة لا اقترانها بالحج فهي على إحرامها في العمرة والحج مردف عليها

[الإنسان مصرفا تحت حكم الأسماء الإلهية]

والجماع في الحج في الطريق لا شك أن الإنسان لما كان مصرفا تحت حكم الأسماء الإلهية ومحلا لظهور آثار سلطانها فيه ولكن يكون حكمها فيه بحسب ما يمكنها حال الإنسان أو زمانه أو مكانه والأحوال والأزمان تولى الأسماء الإلهية عليها وإن كان كل حال هي عليه أو دخول الإنسان في ظرفية زمان خاص أو ظرفية مكان ما هو إلا عن حكم اسم إلهي بذلك فقد يتوجه على الإنسان أحكام أسماء إلهية كثيرة في آن واحد ويقبل ذلك كله بحاله لأنه قد يكون في أحوال مختلفة يطلب كل حال حكم اسم خاص فلا يتوجه عليه إلا ذلك الاسم الذي يطلبه ذلك الحال الخاص ومع هذا كله فلا بد أن يكون الحاكم الأكبر اسما ما له المضاء فيه والرجوع إليه مع هذه المشاركة

[الإنسان واحد في نفسه ذو آلات متعددة]

ثم إني أبين لك مثالا فيما ذكرناه وذلك إنا نرى الإنسان يجتنب ما حرم الله على عينه أن ينظر إليه على انتهاكه حرمة ما حرم على أذنه من الإصغاء إلى الغيبة في حال انتهاكه حرمة ما حرم عليه من جهة لسانه من كذب أو نميمة مع إعطاء صدقة فرض من زكاة أو ندب متطوع بها من جهة ما أمرت به يده المنفقة وذلك كله في زمان واحد من شخص واحد الذي هو المخاطب من الإنسان المصرف جميع جوارحه القابل للأوامر الأسمائية في باطنه التي تحكم عليه وتمضى تصريف الجوارح بأمره لها فيما يراها تتصرف فيه وهو واحد في نفسه ذو آلات متعددة فلو لا تعدد هذه الآلات ما صح أن يحكم عليه إلا اسم واحد فوجود الكثرة التي سببها الآلات أوجبت له مع أحديته في نفسه قبول اختلاف أحكام الأسماء الإلهية عليه فيكون الإنسان منصورا من وجه مخذولا في حين كونه منصورا ولكن من وجه آخر والعين واحدة المصرفة المكلفة وهي النفس الناطقة ويكون عزيزا بالمعز في حال كونه ذليلا بالمذل لشخص ذي عزة له عنده مكانة فلقيه فأعزه فاعتز وفي تلك الحال عينها سلط عليه الاسم المذل شخصا آخر لا يعرفه فأذله فذل من جهة هذا وعز من جهة هذا في الزمان الواحد وحكمهما في آن واحد والقابل لهذين الحكمين واحد العين فلهذا الذي مهدناه أمر المحرم إذا جامع أهله أن يمضي في مقام نسكه إلى أن يفرغ مع فساده ولا يعتد به وعليه القضاء من قابل على صورة مخصوصة شرعها له الشارع لأن صاحب الوقت الذي هو المحرم عليه أفعالا مخصوصة أوجبتها هذه العبادة التي تلبس بها هو الحاكم الأكبر واتفق أن هذا المحرم التفت بالاسم الخاذل إلى امرأته فجامعها في حال إحرامه فلما لم يكن الوقت له شرعا وكان لغيره لم يقو قوته فأفسد منه ما أفسد وبقي الحكم لصاحب الوقت فأمره أن يمضي في نسكه مع فساده وعاقبه بتلك الالتفاتة إلى الخاذل حيث أعانه عليه بنظره إلى امرأته واستحسانه لإيقاع ما حكم عليه به حاكم الوقت أن يعيد من قابل فلو بطل وأزال حكمه عنه في ذلك الوقت ووقع الجماع بعد الإحرام وقبل الوقوف رفض ما كان واستقبل الحج كما هو ولم يكن عليه إلا دم لا غير لما أبطل فلما لم يزل حكمه منه بذلك الفعل أمر بإتمام نسكه الذي نواه في عقده وهو مأجور فيما فعل من تلك العبادة مأزور فيما أفسد منها في إتيانه ما حرم عليه إتيانه كما قال تعالى فَلا رَفَثَ وهو النكاح ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ في الْحَجِ‏

[ترجمان الحق هو صاحب الزمان وحاكم الوقت‏]

خرج أبو داود في المراسيل قال ثنا أبو توبة حدثنا معاوية يعني ابن سلام أخبرني يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم شك أبو توبة أن رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما اقضيا نسككما وأهديا هديا ثم ارجعا حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى منكما واحد صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى أحد منكما صاحبه فأحرما وأتما نسككما وأهديا

فهذا ترجمان الحق الذي هو الرسول قوى الاسم الإلهي الذي هو حاكم الوقت وصاحب الزمان فيما يريده من إتمام هذه العبادة مع ما طرأ فيها من الإخلال وذلك أن الاسم الحاكم لا يسمع المحكوم عليه خطابه إياه لأن الله أخذ بسمعه عنه فقال لمن فتق الله سمعه لسماع كلامه وهو المعبر عنه بالرسول بلغ لهذا المكلف عني أن يمضي في فعله حتى يتم وذكر له ما قال وبينه لهذا الشخص لأن الرسول ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ والمؤمن كثير بأخيه فقام الرسول مقام الحاجب المنفذ أوامر الملك صاحب الحكم هكذا هو في الحكم العام‏

[حكم النفس الطبيعية على عقل إلهى رجع إليها]

وأما في العالم الأخص فهو حكم نفس طبيعية على عقل إلهي رجع إليها من حيث علمه بأن لها وجها خاصا إلى خالقها فغاب عن التثبت‏

في ذلك فيما أوصل إليه ترجمان الحق الذي هو الرسول فوافق النفس ما حكم به عليها الطبع فيما أمرت به ولو لا ذلك الوجه الخاص ما انخدع العقل واتصف باللؤم الذي هو صفة الطبع بحكم الأصالة وفي مثل هذا قلنا

يعز علينا أن تكون عقولنا *** بحكم نفوس إن ذا لعظيم‏

إذا غلب الطبع اللئيم نجاره *** على عقل شخص إنه للئيم‏

[الحضيض يقابل أوجه‏]

فالعقول وإن كانت عالية الأوج فإن الحضيض يقابل أوجه وهو موطن الطبع النفسي فهو ينظر إليها من أوجه فيراها في مقابلته على خط مستقيم لا اعوجاج فيه وذلك الخط هو الذي يكون عليه العروج من الحضيض إلى الأوج إذا زكت النفس وعليه يكون نزول العقل إلى الحضيض من الأوج إذا خذل العقل وإنما خذله استقامة الخط فإنه على الاستقامة فطر ثم إنه رأى النفس زكت بعروجها عليه فهذا الذي خدع العقل من النفس فإنه لا حظ للعقل في الطبع وساعده على النزول‏

قول الترجمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دليتم بحبل لهبط على الله‏

والعقل مجبول على طلب الزيادة من العلم بالله فأراد في نزوله إلى الطبع على ذلك الخط من وجه ليرى هل نسبة الحق إلى الحضيض نسبته إلى الأوج أم لا فيريد علما بالذوق بأنه على ذلك الحد أو ما هو عليه بل له نسبة أخرى فتحصل له الفائدة على كل حال فلهذا القصد أيضا أمر بإتمام نسكه ولم يبطل عمله ولا سيما وقد سمع أن أربعة أملاك التقوا ملك كان يأتي من المغرب وآخر مقبل من المشرق وآخر نازل من الفوق وآخر صاعد من التحت فسأل كل واحد صاحبه من أين جئت فكل قال من عند الله فلا بد للعقل مع شوقه لطلب الزيادة من العلم أن يتحرك ليحصل هذا العلم بالله ذوقا حاليا لا تقليد فيه ولا يتمكن له ذلك وهو في أوجه إلا إن قنع بالتقليد فنزل على ذلك الخط لطلب هذه المعارف وفي نزوله لا بد أن يرى موضع اجتماع الخطوط فيشاهد علوما كثيرة فهي زلة أوجبت علما فشفع ذلك العلم في صاحب هذه الزلة فجبر له نقصه فلو لا زلة هذا المجامع في الحج ما عرفنا حكم الشرع فيه لو وقع هذا بعد موت المترجم صلى الله عليه وسلم فمن رحمة الله حصل تقرير هذا العلم لنكون على بصيرة من ربنا في عباداتنا

(وصل في فصل غسل المحرم بعد إحرامه)

اتفقوا على أنه يجوز له غسل رأسه من الجنابة واختلفوا في كراهية غسله من غير الجنابة فقالوا لا بأس بغسله وبه أقول وكره ذلك بعضهم‏

[الرأس محل القوى الإنسانية ومجمع القوى الروحانية]

لما كان الرأس محل القوي الإنسانية كلها ومجمع القوي الروحانية اعتبر فيه الحكم دون غيره من الأعضاء لجمعيته وله من الأسماء الإلهية الله لأنه الاسم المنعوت الجامع فحفظه متعين على المكلف لأنه لو اختل من قواه قوة أدى ذلك الاختلال إما إلى فساد يمكن إصلاحه أو إلى فساد لا يمكن إصلاحه وإما إلى فساد يكون فيه تلفه فيزول عن إنسانيته ويرجع من جملة الحيوانات فيسقط عنه التكليف فتنقطع المناسبة بينه وبين الله وأعني مناسبة التقريب خاصة لا مناسبة الافتقار لأن مناسبة الافتقار لا تزول عن الممكن أبدا لا في حال عدمه ولا في حال وجوده‏

[إذا أراد الحق أن يمنحك نزل إليك ما أنت تصعد إليه‏]

فإذا اغترب الإنسان عن موطن عبوديته فهي جنابته فيقال له ارجع إلى وطنك فلا قدم لك في الربوبية أصلا من ذاتك فإذا أراد الحق أن يمنحك منها ما شاء نزل إليك ما أنت تصعد إليه لأنه يعلمك ويعلم محلك وأينك وأنت لا تعرفه فأين تطلبه فما خرجت عن عبوديتك إلا لجهلك أ لا تراه سبحانه لما أراد أن يهبك من الربانية ما شاء نزل إليك بأمر سماه شرعا بوساطة رسول ملكي فملكك أمورا وجعل لك الحكم فيها على حد ما رسم لك فمن كونك حاكما فيها هو القدر الذي أعطاك من الربوبية وعلى قدر ما حد لك ومنعك من تجاوزه هو ما أبقى عليك من العبودية

فأنت ملك وأنت عبد *** وأنت في أنت مستعار

ولا وجود في غير عين *** فلا احتكام ولا افتقار

قد حار مثلي من حرت فيه *** فلا اضطرار ولا اختيار

ولا فناء ولا بقاء *** ولا فرار ولا قرار

[الطهارة والنظافة مقصود الشارع‏]

فوجب الغسل من الجنابة بالاتفاق لأنك عبد بالاتفاق ولست ربا بالاتفاق وأما في غير الجنابة

فحكمة الغسل لحفظ القوي *** وحفظها من أوجب الحكم‏

لا سيما وكونها واجبا *** لأنها دلت على العلم‏

بعينها وكل علم لها *** لذاتها كالكيف والكم‏

فضلها الله على خلقه *** بما لها من جودة الفهم‏

فمن راعى حفظ هذي القوي مما ينالها من الضرر لسد المسام وانعكاس الأبخرة المؤذية لها المؤثرة فيها قال بالغسل ومن غلب الحرمة لصغر الزمان في ذلك وندور الضرر ضعف عنده الموجب فكره ذلك أ لا تراهم كيف أنفقوا في الجنابة لقوة الموجب وإن كان الغسل بالماء يزيده شعثا في تلبيد الرأس والله تعالى قد أمرنا بإلقاء التفث عنا لما ذكرناه من حفظ القوي وما في معناها لأن الطهارة والنظافة مقصودة للشارع لأنه القدوس وما له اسم يقابله فيكون له حكم‏

[التنزيه الأقوى في الجناب الإلهى‏]

ولما جهل علماء الرسوم حكمة هذه العبادة من حيث إنهم ليس لهم كشف إلهي من جانب الحق جعلوا أكثر أفعالها تعبدا ونعم ما فعلوه فإن هذا مذهبنا في جميع العبادات كلها مع عقلنا بعلل بعضها من جهة الشرع بحكم التعريف أو بحكم الاستنباط عند أصحاب القياس ومع هذا كله فلا نخرجها عن أنها تعبد من الله إذ كانت العلل غير مؤثرة في إيجاد الحكم مع وجود العلة وكونها مقصودة وهذا أقوى في تنزيه الجناب الإلهي إذا فهمت‏

(وصل في فصل غسل المحرم رأسه بالخطمي)

أما غسل المحرم رأسه بالخطمي فإنهم اتفقوا على منعه فإن غسل به قال بعضهم فيه الفداء وقال بعضهم إن غسل فلا شي‏ء عليه وبه أقول من غير منع منه ولا من غيره‏

[كل سبب موجب للنظافة ينبغي استعماله‏]

إذ كل سبب موجب للنظافة ظاهرا وباطنا ينبغي استعماله في كل حال‏

فإن الله جميل يحب الجمال‏

وما ورد كتاب ولا سنة ولا إجماع على منع المحرم من غسل رأسه بشي‏ء

[من حقيقة الصورة التي خلق عليها الإنسان العزة]

ولما أمر الله تعالى الإنسان أن يدخل في الإحرام فيصير حراما بعد ما كان حلالا وصفه بصفة العزة أن يصل إليه شي‏ء من الأشياء التي كانت تصل إليه قبل أن يتصف بهذه المنعة إذ الأشياء تطلب الإنسان لأنها خلقت من أجله فهي تطلبه بالتسخير الذي خلقها الله عليه والإنسان مخلوق على الصورة ومن حقيقة الصورة التي خلق عليها العزة أن تدرك أو تنال بأكثر الوجوه مثل قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يعني في الدنيا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ مع ثبوت الرؤية في الآخرة فهذه عزة إضافية لأنه حجر ثم أباح فجعل لمن حصل الصورة بخلقه عزة وتحجيرا في عبادات من صوم وحج وصلاة أن يصل إليه بعض ما خلق من أجله فاعتز وامتنع عن بعض الأشياء ولم يمتنع عن أن يناله بعضها كما لم يمنع من خلق على صورته أن تناله التقوى منا والتقوى في المتقين من خلقه فقوى الشبهة في الشبه ليلحق الأدلة بالشبه إذ الكل منه وإليه بل الكل عينه‏

[ما حرمت الأشياء على الإنسان بل هو حرام عليها]

فما حرمت عليه الأشياء على الحقيقة وإنما هو الحرام على الأشياء لأنه ما خلق إلا لربه والأشياء خلقت له فهي تطلبه كما أنه يطلب ربه فامتناع في وقت كامتناع ووصول في وقت كوصول إن فهمت فقد بينت لك مرتبتك قال تعالى في حق الإنسان وسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ وقال هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً وقال وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وفي التوراة المنزلة على موسى عليه السلام يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي فلا تهتك ما خلقت من أجلي فيما خلقت من أجلك‏

فأبان سبحانه لك عن مرتبتك لتعرف موطن ذلتك من موطن عزتك وأنت ما اعتززت ولا صرت حراما على الأشياء منك بل هو جعلك حراما على الأشياء إن تنالك فأمرك أن تحرم فدخلت في الإحرام فصرت حراما وما جعل ذلك لك عن أمره سبحانه إلا ليكون ذلك قربة إليه ومزيد مكانة عنده تعالى وحتى لا تنسى عبوديتك التي خلقت عليها بكونه تعالى جعلك مأمورا في هذه المنعة دواء لك نافعا يمنع من علة تطرأ عليك لعظيم مكانتك فلا بد أن يؤثر فيك خلقك على صورته عزة في نفسك فشرعها لك في طاعته بأمر أمرك فيه أن تكون حراما لا احتجار عليك بل احتجارا لك‏

[الإنسان عبد عينا ورتبة سيد عينا لا رتبة]

أ لا ترى من خذله الله كيف اعتز على أمثاله بقوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏ هل جعله في ذلك إلا علمه بمرتبته لا علمه بنفسه فالإنسان عبد عينا ورتبة كما هو سيد عينا لا رتبة ولهذا إذا ادعى الرتبة قصم وحرم وإذا ادعى العين عصم ورحم والإنسان واحد في الحقيقة غير أنه ما بين معتنى به وغير معتنى به فهذا اعتبار هذا الفصل والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ انتهى الجزء الرابع والستون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(وصل في فصل دخول المحرم الحمام)

فمن الناس من كرهه ومن الناس من قال لا بأس به وبه أقول‏

[الحمام ينعم البدن ويزيل الدرن ويذكر الآخرة]

ليس في أحوال الدنيا من يدل على الآخرة بل على الله تعالى وعلى قدر الإنسان مثل الحمام يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل الحمام بالشام نعم البيت بيت الحمام ينعم البدن ويزيل الدرن ويذكر الآخرة ومن هذه آثاره في العبد لا يكره له استعماله فإنه نعم الصاحب وبه سمي لأن الحمام من الحميم والحميم الصاحب الشفيق قال تعالى فَما لَنا من شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي شفيق وسمي حميما لحرارته واستعمل فيه الماء لما فيه من الرطوبة فالحمام حار رطب طبع الحياة وبها ينعم البدن وبالماء يزول الدرن وبتجريد الداخل فيه عن لباسه وبقائه عريانا لا شي‏ء في يديه من جميع ما يملكه يذكر الآخرة والموت وقيام الناس من قبورهم عراة حفاة لا يملكون شيئا فدخول الحمام أدل على الآخرة من الموت فإن الميت لا ينقلب إلى قبره حتى يكسى وداخل الحمام لا يدخل إليه حتى يعري والتجريد أدل ثم إنه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم نقني من الخطايا والذنوب كما ينقى الثوب من الدرن وتنقية البدن من الدرن والوسخ من أخص صفات الحمام ولأجله عمل واعتبار الحمام بأحوال الآخرة مجاله رحب عظيم الفائدة ما يعقله إلا العلماء بالله‏

(وصل في فصل تحريم صيد البر على المحرم)

[صيد الزاهد وصيد العارف‏]

اتفقوا على ذلك وهو اتفاق أهل الله أيضا في اعتباره ومعناه قال بعضهم الزاهد صيد الحق من الدنيا والعارف صيد الحق من الجنة فمال الزاهد إلى قوله وما عِنْدَ الله خَيْرٌ وأَبْقى‏ ومال العارف إلى قوله والله خَيْرٌ وأَبْقى‏ فالخلق صيد للحق صادهم من نفوسهم برا أو بحرا وسأبين ذلك إن شاء الله‏

[حبالات الحق لصيد النفوس الشاردة]

فاعلم إن الحق تعالى نصب حبالات صيد النفوس الشاردة عما خلقت له من عبادته ثم خدعهم بالحب الذي جعل لهم في تلك الحبالات أو الطعوم أو ذوات الأرواح المشبهة لهم في الحياة جعلها مقيدة في الحبالات من حيث لا يشعر الناظرون إليها فمن الصيد من أوقعه في الحبالة رؤية الجنس طمعا في اللحوق بهم ليرى ما هم فيه فصار في قبضة الصائد فقيده وهو كان المقصود لأنه مطلوب لعينه ومن الصيد من أوقعه الطمع في تحصيل الحب المبذور في الحبالة ثم إن الصائد له تصافير يحكي بها أصوات الطير إذا سمعها الطائر نزل فوقع في الحبالة فهو بمنزلة من سمع نداء الحق فأجاب فهذا لم يصد بالإحسان والآخر أحسن إليه بالحب المبذور في الحبالة فأبصره فقاده الإحسان فرمى بنفسه عليه فصاده فلو لا الإحسان ما جاء إليه فمجيئه معلول والبر هو المحسن والإحسان والحق غيور فما أراد من هذه الطائفة الخاصة الذين جعلهم الله حراما ليكونوا له أن يجعلهم عبيد إحسان فيكونون للإحسان لا له ولهذا دعاهم شعثا غبرا مجردين من المخيط ملبين لإجابته بالإهلال كما لجأ الطائر لصوت الصائد فحرم عليهم لمكانتهم صيد البر الذي هو الإحسان ما داموا حرما حلالا في المكان الحلال والحرام وسكانا في الحرام وإن كانوا حلالا أو حراما فحيث ما كانت الحرمة امتنع صيد الإحسان فإن الله من صفاته الغيرة فلم يرد أن يدعو هذه الطائفة المنعوتين بالإحرام من باب النعم والإحسان فيكونوا عبيد إحسان لا عبيد حقيقة فإنه استهضام بالجناب الإلهي‏

[من صحبك لغرض انقضت صحبته بانقضائه‏]

فقال من صحبك لغرض انقضت صحبته بانقضائه وصحبة العبد ربه ينبغي أن تكون ذاتية كما هي في نفس الأمر لأنه لا خروج للعبد عن قبضة سيده وإن أبق في زعمه فما خرج عن ملكه وهو جاهل بملك سيده لأنه حيث ما مشى في ملكه مشي فما خرج عن ملك سيده ولا ملكه فلله ملك السموات والأرض فلهذا حرم على الحاج صيد البر وهوقوله صلى الله عليه وسلم حبوا الله لما يغذوكم به من نعمه‏

خطابا منه لعبيد الإحسان حيث جهلوا مقاديرهم وما ينبغي لجلال الله من الانقياد بالطاعة إليه‏

[الماء عنصر الحياة الذي خلق الله منه كل شي‏ء حى‏]

ولم يحرم صيد البحر على المحرم ما دام محرما لأن صيد البحر صيد ماء وهو عنصر الحياة الذي خلق الله منه كل شي‏ء حي والمطلوب بإقامة هذه العبادة وغيرها إنما هو حياة القلوب كما قال أَ ومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ في معرض الثناء بذلك فإذا كان المقصود حياة القلوب والجوارح بهذه العبادة وبالعبادات كلها ظاهرها وباطنها فوقعت المناسبة بين ما طلب‏

منه وبين الماء فلم يحرم صيده أن يتناوله ولهذا جاء بلفظ البحر لاتساعه فإنه يعم وكذلك هو الأمر في نفسه فإنه ما من شي‏ء من خلقه إلا وهو يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولا يسبح إلا حي فسرت الحياة في جميع الموجودات فاتسع حكمها فناسب البحر في الاتساع فلهذا أضافه إلى البحر ولم يقل إلى الماء لمراعاة السعة التي في البحر فصيد البحر حلال للحلال وللحرام‏

(وصل في فصل صيد البر إذا صاده الحلال هل يأكل منه المحرم أم لا)

فمن قائل يجوز له أكله على الإطلاق ومن قائل هو محرم عليه على الإطلاق ومن قائل إن لم يصد من أجله ولا من أجل قوم محرمين جاز أكله وإن صيد من أجل محرم فهو حرام على المحرم وأما مذهبنا في هذا فلم ينقدح لي فيه شي‏ء ولا نرجح عندي فيه دليل إلا أنه يغلب على ظني الخبر الصحيح الوارد أنه إذا لم يكن للمحرم فيه تعمل فله أكله وترجح أحد احتمالي لفظة الصيد المحرم في الآية لأن الصيد المذكور قد يراد به الفعل وقد يراد به المصيد ولا أدري أي ذلك أراد الحق تعالى أو أراد الأمرين جميعا الفعل والمصيد فمن يرى أنه الفعل لا المصيد فيقول بجواز أكله على الإطلاق ولا معنى لقول من يقول إن صيد من أجله لأني ما خوطبت بنية غيري فإن أمرت أنا الحلال أو أشرت إليه أو نبهته أو أومأت إليه في ذلك أو أعنته بشي‏ء فلي فيه تعمل فيحرم على ذلك وأنا آثم فيه وهذا القول وإن كنت لم أره لغيري ولكن هو من محتملات القول الثالث وهو قوله إن لم يصد من أجله قد يريد بإشارته أو دلالته وقد يريد أن الحلال نوى أن يصيد ما يأكله المحرم‏

[الحلال لا تحجير عليه في تصرفه‏]

الحلال لا تحجير عليه في تصرفه فأشبه الحق في هذه الصفة فإن رفع التحجير تنزيه عن التقييد فهي صفة إلهية وليس لأحد أن يمتنع بتقييده عن تصريف الحق له إذ كان تقييده من تصريفه فله قبول ما يصرفه فيه كما قبل تقييده لا فرق فهذه عبودية محضة خالصة حيث رآها في الحلال من كونه غير محجور عليه ما حجر على المحرم أعني رأى الصفة الإلهية التي ليس من شأنها أن تقبل الاحتجار بل هو الفعال لما يريد كما أنه تعالى أشبه المقيد المحرم في أمور أوجبها على نفسه لعباده في غير موضع كما قال أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فأدخل نفسه معنا وهذا من أصعب معارض لآية قوله تعالى فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فإنه ليس بمحل لفعله ووفاؤه بالعهد لمن وفى بعهده لا بد منه لصدقه في خبره فقد فعل ما يريد وليس بمحل لتعلق إرادته لأنه موجود ولا ترجع إلى ذاته من فعله حال لم يكن عليها فهذا غاية الإشكال في العلم الإلهي وإن تساهل الناس في ذلك فإنما ذلك لجهلهم بمتعلق الإرادة

[القول الثالث أقرب الأقوال إلى الصحة]

والقول الثالث أقرب الأقوال إلى الصحة لأنه أقرب إلى الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب وهذا النظر الذي لنا في هذه المسألة ما هو قول رابع فإنا ما قطعنا بالحكم في ذلك لكن يغلب على ظني ترجيح القول الثالث على القولين وإن لم يكن بذاك الصريح‏

(وصل في فصل المحرم المضطر هل يأكل الميتة أو الصيد)

فمن قائل يأكل الميتة والخنزير دون الصيد ومن قائل يصيد ويأكل وعليه الجزاء وبالأول أقول فإن اضطر إلى الصيد صاد وعليه الجزاء لأنه متعمد فما خص الله مضطرا من غير مضطر

[جميع حركات الكون من جهة الحقيقة اضطرارية]

كل مخلوق الاضطرار يصحبه دائما لأنه حقيقته ومع اضطراره فقد كلف فالذي ينبغي له أن يقف عند ما كلف فإن الاضطرار المطلق لا يرتفع عنه وإنما يرتفع عنه اضطرار خاص إلى كذا فجميع حركات الكون من جهة الحقيقة اضطرارية مجبور فيها وإن كان الاختيار في الكون موجودا نعرفه‏

[المختار مجبور في اختياره‏]

ولكن ثم علم آخر علمنا به أن المختار مجبور في اختياره بل تعطي الحقائق أن لا مختار لأنا رأينا الاختيار في المختار اضطراريا أي لا بد أن يكون مختارا فالاضطرار أصل ثابت لا يندفع يصحب الاختيار ولا يحكم على الاضطرار الاختيار فالوجود كله في الجبر الذاتي لا أنه مجبور بإجبار من غير فإن المجبر للمجبور الذي لو لا جبره لكان مختارا مجبور في اختياره لهذا المجبور

فالخلق مجبور ولا سيما *** والأصل مجبور فأين الخيار

فكل مخلوق على شكله *** في حالة الجبر وفي الاضطرار

تميز المخلوق عن أصله *** بما له من ذلة وافتقار

فكن مع الحق بأوصافه *** ما بين جبر دائم واختيار

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(وصل في فصل نكاح المحرم)

فمن قائل لا ينكح ولا ينكح فإن نكح فالنكاح باطل ومن قائل لا بأس أن ينكح وينكح والذي أقول به إنه مكروه غير محرم والله أعلم‏

[الإحرام عقد والنكاح عقد]

الإحرام عقد والنكاح عقد فاشتركا في النسبة فجاز

[الراتع حول الحمى‏]

الوطء للمحرم حرام والعقد سبب مبيح للوطء فحرم أو كره فإنه حمى والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإنما اجتنبت الشبه خوفا من الوقوع في المحظور

[نحن مطلوبون بمعرفة الوحدة وإثبات الواحد]

النكاح والعقد لا يصح إلا بين اثنين لا يصح من واحد فحرم أو كره لأنا مطلوبون بمعرفة الوحدة وإثبات الواحد والوحدانية وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الله‏

[التجلي في الأحدية لا يصح‏]

التجلي في الأحدية لا يصح لأن التجلي يطلب الاثنين ولا بد من التجلي فلا بد من الاثنين فعقد النكاح للمحرم جائز فالعارف على قدر ما يقام فيه من أحوال الشهود

[جواب الجنيد عن المعرفة والعارف‏]

قيل للجنيد وقد سئل عن المعرفة والعارف فقال لون الماء لون إنائه فأثبت الاثنين فلا بد منك ومنه ولا بد من التمييز فلا بد من الواحد فإن قلت ما في الوجود إلا واحد صدقت وإن قلت ما في الوجود إلا اثنان صدقت وإن قلت ما في الإيجاد إلا اثنان صدقت فإنه عن ذات واحدة وإن قلت ما في الإيجاد إلا واحد صدقت لأنه يستحيل تعلق قدرتين بمقدور والتوحيد غيب والإثبات شهادة وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة فأثبت الاثنينية بالنسبة إلى العالم وبالنسبة إلى الله عالم بالشهادة لا غير إذ يستحيل أن يكون عنه شي‏ء غيبا خلافا لمن يجعل العلة في الرؤية الوجود

(وصل في فصل المحرمين وهم ثلاثة)

إما قارن وإما مفرد بحج أو مفرد بعمرة وهو المتمتع‏

[حديث حجة الوداع‏]

فهذا الفصل يستدعي إيراد حجة الوداع وبعد إيرادها تذكر ما يتعلق بأفعال هذه العبادة من الأحكام على أسلوب ما مضى فنقول‏

حدثنا غير واحد إجازة وسماعا عن ابن صاعد العراوي عن عبد الغافر الفارسي عن الجلودي عن إبراهيم بن سفيان المروزي عن مسلم بن الحجاج القشيري عن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة إن النبي صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمسون أن يأتموا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلموا مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصنع قال اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل من شي‏ء عملنا به فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته قال جابر لسنا ندري إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ واتَّخِذُوا من مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلم ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ إِنَّ الصَّفا والْمَرْوَةَ من شَعائِرِ الله أبدأ بما بدأ الله فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي‏ء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال لو إني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة

ابن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله أ لعامنا هذا أم لأبد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى فقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد وقدم علي من اليمين ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت إني أمرت بهذا قال فكان علي يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال صدقت صدقت ما ذا قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن معي الهدى فلا تحل قال فكان جماعة البدن الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس فقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شي‏ء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوع وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث كان مسترضعا في بنى سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوعة وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن إن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم أعني فما أنتم قائلون قالوا نشهد إنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ثم ينكبها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن فأقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصوى الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل إن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر حتى أتى بطن محسر فحرك ناقته قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرجك على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا فنحر ما غير وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بنى عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال أترعوا يا بنى عبد المطلب فلو لا إن يغلبنكم الناس على سقايتكم لترعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه انتهى حديث جابر

[اعتبار القران والإفراد من الوجهة الروحية]

ثم‏

نرجع فنقول القارن من قرن بين صفات الربوبية وصفات العبودية في عمل من الأعمال كالصوم أو من قرن بين العبد والحق في أمر بحكم الاشتراك فيه على التساوي بأن يكون‏

لكل واحد من ذلك الأمر حظ مثل ما للآخر كانقسام الصلاة بين الله وبين عبده فهذا أيضا قران وأما الإفراد فمثل قوله لَيْسَ لَكَ من الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ومثل قوله قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ومثل قوله كُلٌّ من عِنْدِ الله وكقوله وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وما جاء من مثل هذا مما انفرد به عبد دون رب أو انفرد به رب دون عبد فمما انفرد به عبد دون رب قوله تعالى أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وقوله تعالى لأبي يزيد يا أبا يزيد تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار فهذا معنى القران والإفراد في الحج وسيأتي حكم ذلك في التفصيل إن شاء الله تعالى‏

(وصل في فصل المتمتع)

والمتمتعون على نوعين إما قارن وإما مفرد بعمرة واختلف علماء الإسلام في التمتع فمنهم من قال أن يهل الرجل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات ممن مسكنه خارج الحرم فكمل أفعال العمرة كلها ثم يحل منها ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه وفي تلك الأشهر من غير أن ينصرف إلى بلده وقال بعضهم وهو الأحسن هو متمتع وإن عاد إلى بلده حج أو لم يحج فإن عليه هدي التمتع المنصوص عليه في قوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ فكان يقول عمرة في أشهر الحج متعة وقال بعضهم ولو اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى أتى الحج وحج من عامه إنه متمتع وذهب ابن الزبير إلى أن المتمتع الذي ذكره الله هو المحصر بمرض أو عدو وذلك إذا خرج الرجل حاجا فحبسه عدو أو أمر تعذر به حتى تذهب أيام الحج فيأتي البيت ويطوف ويسعى ويحل ثم يتمتع وعليه بحجة إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي وعلى ما قال ابن الزبير لا يكون التمتع المشهور إجماعا وقال أيضا إن المكي إذا تمتع من بلد غير مكة كان عليه الهدى واتفق العلماء على إن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع والذي أقول به إن قوله تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إنه يريد بذلك أي بهذه الإشارة بإجازة الصوم في أيام التشريق من أجل رجوعه إلى بلده لا إن المكي ليس بمتمتع فإن العلماء اختلفوا في المكي هل يقع منه التمتع أم لا يقع فمن قائل إنه يقع منه التمتع واتفقوا أنه ليس عليه دم وحجتهم الآية التي ذكرناها وهي محتملة وإن الدم يمكن أن يلزمه أو بدله وهو الصوم بعد انقضاء أيام التشريق فإنه من حاضري المسجد الحرام ثم ينبغي أن نذكر من أجل هذه الآية اختلافهم في حد حاضري المسجد الحرام فقال بعضهم حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وذي طوى وما كان مثل ذلك من مكة وقال بعضهم هم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة وقال بعضهم من كان بينه وبين مكة ليلة وقال بعضهم من كان ساكن الحرم وقال بعضهم هم أهل مكة فقط والذي أقول به إنهم ساكنو الحرم مما رد الأعلام إلى البيت فإنه من لم يكن فيه فليس بحاضر بلا شك فلو قال تعالى في حاضر المسجد الحرام كنا نقول بما جاور الحرم لأن حاضر البلد ربضه الخارج عن سورة امتد في المساحة ما امتد وإنما علق سبحانه ما ذكره بحاضري المسجد الحرام وهم الساكنون فيه فمعنى التمتع تحلل المحرم بين النسكين العمرة والحج وهذا عندي ما يكون إلا لمن لم يسق الهدى فإن ساق الهدى وأحرم قارنا فإنه متمتع من غير إحلال فإنه ليس له أن يحل حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وبعد أن ذكرنا حكم التمتع فلنرجع إلى ما وضعنا عليه كتابنا هذا في هذه العبادات فنقول والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

[أشهر الحج حضرة إلهية]

إن أشهر الحج حضرة إلهية انفردت بهذا الحكم فأي عبد اتصف بصفة سيادة من تخلق إلهي ثم عاد إلى صفة حق عبودية ثم رجع إلى صفة سيادته في حضرة واحدة فذلك هو المتمتع فإن دخل في صفة عبودية بصفة ربانية في حال اتصافه بذلك فهو القارن وهو متمتع ومعنى التمتع أنه يلزمه حكم الهدى فإن كان له هدي وهو بهذه الحالة من الإفراد بالعمرة أو القران فذلك الهدى كافية ولا يلزمه هدي ولا يفسخ جملة واحدة وإن أفرد الحج ومعه هدي فلا فسخ فإلى هنا بمعنى مع ولهذا يدخل القارن فيه لقوله فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أي مع الحج فتعم المفرد والقارن بالدلالة فإن العمرة الزيارة فإذا قصدت على التكرار وأقل التكرار مرة ثانية كانت الزيارة حجا فدخلت العمرة في الحج أي يحرم بها في الوقت الذي يحرم بالحج وأكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن جعل للقارن طوافا واحدا وسعيا واحدا

وهذا مقام الاتحاد وهو التباس عبد بصفة رب وإن كان المقصود العبد فهو التباس رب بصفة عبد فإذا حل المتمتع لأداء حق نفسه ثم ينشأ الحج فقد يكون تمتعه بصفة ربانية إن كان‏

ممن جعله الله نورا أو كان الحق سمعه وبصره فلا يتصرف فيما يتصرف فيه إلا بصفة ربانية

[صفات التنزيه وصفات التشبيه‏]

والصفات الإلهية على قسمين صفة إلهية تقتضي التنزيه كالكبير والعلي وصفة إلهية تقتضي التشبيه كالمتكبر والمتعالي وما وصف الحق به نفسه مما يتصف به العبد فمن جعل ذلك نزولا من الحق إلينا جعل الأصل للعبد ومن جعل ذلك للحق صفة إلهية لا تعقل نسبتها إليه لجهلنا به كان العبد في اتصافه بها يوصف بصفة ربانية في حال عبوديته فيكون جميع صفات العبد التي يقول فيها لا تقضي التنزيه هي صفات الحق تعالى لا غيرها غير أنها لما تلبس بها العبد انطلق عليها لسان استحقاق للعبد والأمر على خلاف ذلك وهذا هو الذي يرتضيه المحققون من أهل طريقنا على أنه ما رأينا أحدا نص عليه ولا حققه ولا أبداه مثل ما فعلنا نحن وهو قريب إلى الأفهام إذا وقع الإنصاف وذلك أن العبد ما استنبطه ولا وصف الحق به ابتداء من نفسه وإنما الحق وصف بذلك نفسه على ما بلغت رسله وما كشفه لأوليائه ونحن ما كنا نعلم هذه الصفات إلا لنا لا له بحكم الدليل العقلي فلما جاءت الشرائع بذلك وقد كان هو ولم نكن نحن علمنا إن هذه الصفات هي له بحكم الأصل ثم سرى حكمها فينا منه فهي له حقيقة وهي لنا مستعارة إذ كان ولا نحن فالأمر فيها على ما مهدناه هين المأخذ قريب المتناول فلا يهولنك ذلك إذ كان الحق به متكلما وأنت السامع فإن قيل لك في ذلك شي‏ء فليكن جوابك للمعترض أن تقول له أنا ما قلته هو قال ذلك عن نفسه فهو أعلم بما نسبه إلى نفسه ونحن مؤمنون به على حد علمه فيه وهذه أسلم العقائد فمن كشف له الحق تعالى صورة تلك النسبة كان على علم من الله تعالى بها ذوقا وشربا ولو لا هذا الامتزاج ما صح أن يكون الإنسان والحيوان من نطفة أمشاج فأظهر الكل بالكل وضرب الكل في الكل فظهرنا به له ولنا فنحن به من وجه وما هو بنا لأنه الظاهر ونحن على أصلنا وإن كنا أعطينا باستعدادنا في أعياننا أمورا لها سمي بما يظنه المحجوب أسماء لنا من عرش وكرسي وعقل ونفس وطبيعة وفلك وجسم وأرض وسماء وماء وهواء ونار وجماد ونبات وحيوان وإنسان وجان كل ذلك لعين واحدة ليس إلا

[الإنسان ظلوم جهول‏]

فسبحان الأعلى المخصوص بالأسماء الحسنى والصفات العلى وقد علم من هو الأولى بصفة الآخرة والأولى ف هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ والإنسان ظلوم بما غصب من هذه الصفات من حيث جعلها لنفسه حقيقة جهول بمن هي له وبأنها غصب في يده فمن أراد أن يزول عنه وصف الظلم والجهالة فليرد الأمانة إلى أهلها والأمر المغصوب إلى صاحبه والأمر في ذلك هين جدا والعامة تظن أن ذلك صعب وليس كذلك‏

(وصل في فصل الفسخ)

وهو أن ينوي الحج وليس معه هدي فيحول النية إلى العمرة فيعتمر ويحل ثم ينشئ الحج فمن قائل بجوازه ومن قائل بوجوبه ومن قائل بأن ذلك لا يجوز وبالوجوب أقول‏

[الهدية من القادم للذي قدم عليه‏]

العمرة حج أصغر فجاز تحويل النية إليها وكيف لا وقد تضمن فعلها الحج الأكبر فقام طواف الحج الأكبر وسعيه للقارن مقام ما للعمرة من الطواف والسعي وهما ركنان فاندرجت العمرة التي هي الحج الأصغر في الحج الأكبر وصارا عينا واحدة فجاز الفسخ لعدم الهدى فإن الهدية من القادم للذي قدم عليه معتادة فإذا لم يجي‏ء بها كلف أن لا يدخل على من قصده بالنية الأولى حتى يتمتع ويهدي ولا بد ولكن لا يقدم هديه حتى ينشئ نية أخرى بالقصد على حسب ما نواه فإذا أحرم بالحج أي نوى قصد الكبير سبحانه لا المتكبر الذي هو بمنزلة العمرة التي هي حج أصغر قدم الهدى الذي أوجبه التمتع أما نسيكة على ما تيسروا ما صوما لمن قصده بتلك الزيارة فهي الهدية له فإن الصوم له وهو الذي نزل عليه الحاج فلذلك كان الصوم هدية لأنه يستحقها بل هي أليق به من الهدى فإنه لا يناله من الهدى إلا التقوى خاصة من المهدي والصوم كله هو له فهو أعظم في الهدية وإنما جعله الله لمن لم يجد هديا لأن الهدى ينال الحق منه التقوى وينال العبد منه ما يكون له به التغذي وقوام نشأته فراعى سبحانه منفعة العبد مع ما للحق فيه من نصيب التقوى مع الوجود فإذا لم يجد رفق به سبحانه فأوجب عليه الصوم إذ كان الصوم له ولم يوجب عليه غير ذلك لأنه ليس له من عمل العباد إلا الصوم فأقامه مقام الهدية بل هو أسنى وقنع منه بثلاثة أيام في الحج رفقا به حتى يكون قد أتى إليه بشي‏ء فيفرح القادم بتلك التقدمة التي قدمها لربه في هذا

القدوم فهذا من وجه رفق الله بعبده وأخر السبعة إذا رجع إلى أهله فهناك يأخذها منه فإنه في رجوعه أيضا قادم عليه فإن الحق مع أهله أينما كانوا فإذا رجع إلى أهله وجد الحق معهم فصام هدية سبعة أيام فقبلها الحق منه في أهله أو حيثما ما كان فإن الله مع عباده أينما كانوا

[العين واحدة وإن اختلفت النسب‏]

ومن رأى أن العين واحدة وإن اختلفت النسب لم ير أنه فسخ مع وجود الفسخ مثل قوله وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فنفى وأثبت كذلك هذا وما فسخت إذ فسخت فمن كان شهوده في نفسه الحج خاصة لم يحل له الأصغر والأكبر فلم يفسخ وبقي على نيته الأولى لقوله تعالى وأَتِمُّوا الْحَجَّ فهو بحسب مشهده والأول أتم وهو القائل بالفسخ والتعدي عن الفسخ فهو فاسخ لا فاسخ‏

(تفريع في التمتع)

اختلف علماء الإسلام فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فمن قائل عمرته في الشهر الذي حل فيه فهذا متمتع عنده بلا شك فإن حل في غير أشهر الحج عنده فليس بمتمتع واشترط بعضهم أن يكون طوافه كله في أشهر الحج وقال بعضهم إن طاف ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة في شوال كان متمتعا وقال بعضهم من أهل بعمرة في غير أشهر الحج فسواء طاف في أشهر الحج أو لم يطف لا شي‏ء عليه فإنه ليس بمتمتع‏

[أسماء الحق منها ما يعطى الاشتراك ومنها لا]

اعلم أنه لما كانت أسماء الحق منها ما يعطي الاشتراك ومنها ما لا يعطي الاشتراك والذي لا يعطي الاشتراك كالمعز والمذل والذي يعطي الاشتراك كالعليم والخبير فإذا كان العبد تحت حكم اسم ما من الأسماء الإلهية التي تعطي الاشتراك فهو بمنزلة من أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وعملها في أشهر الحج فهل للاسم الأول فيه حكم إذا انتقل إلى الاسم الآخر فانظر إن كان أحدهما يتضمن الآخر في أمر ما كالخبير والعالم كان في عمله تحت حكم الآخر لأنه صاحب الوقت وأنت أخيذه بأكثر مما أخذ منك الوقت الأول وإن كان مشهدك أول الإنشاء وأنه المؤثر ولولاه لم يصح حكم هذا الآخر كالنية في الصلاة ثم لا يحضر في أثناء الصلاة فصحت الصلاة لحكم الأول وقوته فمن كان مشهده هذا نفى أن يكون هذا متمتعا فإنه بحكم الإنشاء لا بحكم الانتهاء فاعلم ذلك‏

[شروط التمتع الخمسة]

وأما أكثر شروط التمتع الذي يكون به المتمتع متمتعا فهي عند بعضهم خمسة منها أن يجمع بين العمرة والحج في سفر واحد الثاني أن يكون ذلك في عام واحد الثالث أن يفعل شيئا من العمرة في أشهر الحج الرابع أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها الخامس أن يكون وطنه غير مكة

[الجمع في سفر واحد]

أما الجمع في سفر واحد وذلك أن يدعوه اسمان فما زاد أو اسم يتضمن اسمين فما زاد كما قدمنا فيجيب في ذلك السفر الواحد إليهما بحسب ما دعوا إليه كالمغني إذا دعاه إليه فإنه يتضمن في المدعو حكم الاسم المعز فإنه إذا استغنى اعتز والعزة لا تكون إلا من الاسم المعز وما اعتز هنا إلا بالاسم المغني لأنه أغناه فأورثته صفة الغني العزة فلو لا إن المغني يتضمن الاسم المعز ما ظهرت العزة في هذا الغني بما استغنى به‏

[كمال الزمان بظهور الأبد]

وأما العام الواحد فإنه كمال الزمان إذا العام فيه كمال الزمان لحصره الفصول فكمال الزمان هو بظهور الأبد الذي به كمل الدهر فإن الأزل نفي الأولية والأبد نفي الآخرية فما بقي طرفان فليس إلا دهر واحد إذ كان نسبة الأزل للحق نسبة الزمان للخلق في العامة بنسبة الزمان الماضي فينا فلهذا إلا يعبر عن الفعل فيه إلا بالماضي فيقولون كان ذلك في الأزل وفعل ذلك في الأزل وقد بينا حقيقة مدلول هذه اللفظة في كتابنا هذا وفي جزء لنا سميناه الأزل‏

[قصد الإنسان من ربه من حيث ما يقتضيه حق الله‏]

وأما كونه أن يكون شي‏ء من العمرة في أشهر الحج فهو أن يكون قصد الإنسان إلى ربه من حيث ما يقتضيه حق الله عليه فيه ووفاء بحق العبودية فللعمل وجه في هذا ووجه في هذا

[الخروج من حكم اسم إلهى مقابل لاسم إلهى لا يجتمعان‏]

وأما أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة والإحلال منها فهو بمنزلة الإخلاص في العبادة والخروج من حكم اسم إلهي مقابل لاسم إلهي لا يجتمعان كالضار والنافع والمعطي والمانع‏

[العبد موطنه العبودية]

وأما الوطن أن يكون غير مكة فذلك بين فإن العبد موطنه العبودية ولا يستطيع الخروج من موطنه إلا إذا دعاه الحق إليه فلو ضمه معه موطن لما دعاه إليه‏

(وصل في فصل في القران)

فهو عندنا أن يهل بالعمرة والحج معا فإن أهل بالعمرة ثم بعد ذلك أهل بالحج فهذا مردف وهو قارن أيضا ولكن بحكم الاستدراك فمن جمع بين العمرة والحج في إحرام واحد فهو قران سواء قرن بالإنشاء أو بعده بزمان ما لم يطف بالبيت‏

وقيل ما لم يطف ويركع ويكره بعد الطواف وقبل الركوع فإن ركع لزمه ومن قائل له ذلك بعد الركوع من الطواف وما بقي عليه شي‏ء من عمل العمرة إلا إذا لم يبق عليه من

أفعال العمرة إلا الحلاق فإنهم اتفقوا على أنه ليس بقارن وذلك كله عند بعضهم إن ساق الهدى وبه أقول فإن لم يسق معه هديا فاختلفوا في حجه وكذلك مفرد الحج سواء فمن قائل ببطلان الحج ويجب عليه الفسخ ولا بد ومن قائل بجواز الفسخ لا بوجوبه ومن قائل بمنعه وإنه يتم حجه الذي نواه سواء ساق الهدى أم لم يسق والقارن الذي يلزمه هدي التمتع هو عند الجمهور من غير حاضري المسجد الحرام إلا ابن الماجشون فإن القارن عنده من أهل مكة عليه الهدى وأما الإفراد فهو ما تعرى من هذه الصفات وهو الإهلال بالحج فقط واختلف العلماء من الصحابة فيه إذا لم يكن له هدي وقد ذكرناه آنفا في هذا الفصل وأما الذين أجازوا الحج لمن لم يسق الهدى وفي أصل الإهلال بالحج وإن ساق الهدى أي أفضل فمن قائل الإفراد أفضل ومن قائل القران ومن قائل التمتع اعلم أن المحرم لا يحرم كما إن الموجود لا يوجد وقد أحرم المردف قبل أن يردف ثم أردف على إحرام العمرة المتقدم وأجزأه بلا خلاف والإحرام ركن في كل واحد من العملين وبالاتفاق جوازه فيترجح قول من يقول يطوف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وحلاقا واحدا أو تقصيرا على من لا يقول بذلك‏

[القدرة المقارنة للفعل وأثرها في المقدور]

قد تقدم لك حكم تداخل الأسماء الإلهية في الحكم وقد تقدم لك انفراد حكم الاسم الإلهي الذي لا يداخله حكم غيره في حكمه فلتنظره هنالك فمن أفرد قال الأفعال كلها لله والعبد محل ظهورها ومن قرن قال الأفعال لله بوجه وتنسب إلى من تظهر منه بوجه يسمى ذلك كسبا عند بعض النظار وخلقا عند آخرين واتفق الكل على إن خلق القدرة المقارنة لظهور الفعل من العبد لله وإنها ليست من كسب العبد ولا من خلقه واختلفوا هل لها أثر في المقدور أم لا فمنهم من قال لها أثر في المقدور ولا يكون مقدورها إلا عنها وما صح التكليف وتوجه على العبد إذ لو لم يكن قادرا على الفعل لما كلف ولا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وهو ما يقدر على الإتيان به وقال في إن القدرة لله التي في العبد لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها والذي أعطاها إنما هو القدرة التي خلق فيه فله الاقتدار بها على إيجاد ما طلب منه أن يأتي به من التكليف ومنهم من قال ليس للقدرة الحادثة أثر خلق في المقدور الموجود من العبد وليس للعبد في الفعل الصادر منه إلا الكسب وهو اختياره لذلك الفعل إذ لم يكن مضطرا ولا مجبورا فيه‏

[الاقتضاءات الذاتية ليست أفعالا بل أحكاما]

وأما أهل الله الذين هم أهله فأعيان الأفعال الظاهرة من أعيان الخلق إنما هي نسب من الظاهر في أعيان هذه الممكنات وإن استعداد الممكنات أثرت في الظاهر في أعيان الممكنات ما ظهر من الأفعال والعطاء بطريق الاستعداد لا يقال فيه إنه فعل من أفعال المستعد لأنه لذاته اقتضاه كما أعطى قيام العلم لمن قام به حكم العالم وكون العالم عالما ليس فعلا البتة فالاقتضاءات الذاتية العلية ليست أفعالا منسوبة إلى من ظهرت عنه وإنما هي أحكام له فأفعال المكلفين فيما كلفوا به من الأفعال أو التروك مع علمنا بأن الظاهر الموجود هو الحق لا غيره بمنزلة ما ذكرناه من محاورة الأسماء الإلهية ومجاراتها في ميادين المناظرة وتوجهاتها على المحل الموصوف بصفة ما بأحكام مختلفة وقهر بعضها بعضا كفاعل الفعل المسمى ذنبا ومعصية يتوجه عليه الاسم العفو والغفار والمنتقم والمعاقب فلا بد أن ينفذ فيه أحد أحكام هذه الأسماء إذ لا يصح أن ينفذ فيه الجميع في وقت واحد لأن المحل لا يقبله للتقابل الذي بين هذه الأحكام فقد ظهر قهر بعض الأسماء في الحكم لبعض والحضرة الإلهية واحدة

[نسبة الأفعال إلى الله مع أحدية الذات واختلاف الحكم‏]

فإذا علمت هذا هان عليك إن تنسب الأفعال كلها لله كما تنسب الأسماء الحسنى كلها لله تعالى أو الرحمن مع أحدية العين واختلاف الحكم فاعلم ذلك وخذه في جميع ما يسمى فعلا فتعرف عند ذلك من هو المكلف والمكلف وتنطق فيه بحسب مشهدك انتهى الجزء الخامس والستون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(وصل في فصل الغسل للإحرام)

فمن قائل بوجوبه ومن قائل إن الوضوء يجزئ عنه ومن قائل إنه سنة مؤكدة آكد من غسل الجمعة

[الطهارة الباطنة واجبة في كل عبادة]

اعلم أن الطهارة الباطنة في كل عبادة واجبة عند أهل الله إلا من يرى أن المكلف إنما هو الظاهر في مظهر ما من أعيان الممكنات فإنه‏

يراه سنة لا وجوبا

[الاستعداد عين المظهر وأثر في الظاهر]

ومن يرى من أهل الله أن الاستعداد الذي هو عليه عين المظهر كما أثر في الظاهر فيه إن يتميز عن ظهور آخر بأمر ما وباسم ما من حيوان أو إنسان أو مضطر أو بالغ أو عاقل أو مجنون فذلك الاستعداد عينه أوجب عليه الحكم بأمر ما كما أوجب له الاسم فقال له اغتسل لإحرامك أي تطهر بجمعك حتى تعم الطهارة ذاتك لكونك تريد أن تحرم عليك أفعالا مخصوصة لا يقتضي فعلها هذه العبادة الخاصة المسماة حجا أو عمرة فاستقبالها بصفة تقديس أولى لأنك تريد بها الدخول على الاسم القدوس فلا تدخل عليه إلا بصفته وهي الطهارة كما لم تدخل عليه إلا بأمره إذ المناسبة شرط في التواصل والصحبة فوجب الغسل‏

[إنما يحرم على المحرم أفعال مخصوصة لا جميع الأفعال‏]

ومن رأى أنه إنما يحرم على المحرم أفعال مخصوصة لا جميع الأفعال قال فلا يجب عليه الغسل الذي هو عموم الطهارة فإنه لم يحرم عليه جميع أفعاله فيجزئ الوضوء فإنه غسل أعضاء مخصوصة من البدن كما أنه ما يحرم عليه إلا أفعال مخصوصة من أفعاله وإن اغتسل فهو أفضل وكذلك إن عمم الطهارة الباطنة فهو أولى وأفضل‏

(وصل في فصل النية للإحرام)

وهو أمر متفق عليه إلا من شذ

[القصد بالمنع عين بقائك على ما أنت عليه‏]

القصد بالمنع عين بقائك على ما أنت عليه فهذا حكم منسوب إليك تؤجر عليه وما عملت شيئا وجوديا وهو كالنهي في التكليف وله من الأسماء المانع و

[القصد أبدا لا يكون متعلقه إلا معدوما]

القصد أبدا لا يكون متعلقة إلا معدوما فيقصد في المعدوم أبدا أحد أمرين إما إيجاد عين وهو الكون وإما إيجاد حكم وهو النسبة وما ثم ثالث يقصد فمثل إيجاد العين إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ ولا يريده إلا وهو معدوم أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيظهر وجود عين المراد بعد ما كان معدوما ومثل إيجاد الحكم وهو النسبة قوله تعالى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فالإذهاب معدوم وهو الذي يشاء إن شاءه فإن شاء أعدمه بمنع شرطه الذي به بقاء حكم الوجود عليه فيصير عليه حكم اسم المعدوم وما فعل الفاعل شيئا فتعلق القصد بالإعدام فاتصف الموجود بحكم العدم لا أنه كان العدم فإن العدم لا يكون مع وجود حكمه وهو النسبة

[ما ثم وجود إلا الله خاصة]

وإذا تأملت فما ثم وجود إلا الله خاصة وكل موصوف بالوجود مما سوى الله فهو نسبة خاصة والإرادة الإلهية إنما متعلقها إظهار التجلي في المظاهر أي في مظاهر ما وهو نسبة فإن الظاهر لم يزل موصوفا بالوجود والمظهر لم يزل موصوفا بالعدم فإذا ظهر أعطى المظهر حكما في الظاهر بحسب حقائقه النفسية فانطلق على الظاهر من تلك الحقائق التي هو عليها ذلك المظهر المعدوم حكم يسمى إنسانا أو فلكا أو ملكا وما كان من أشخاص المخلوقات كما رجع من ذلك الظهور للظاهر اسم يطلق عليه يقال به خالق وصانع وضار ونافع وقادر وما يعطيه ذلك التجلي من الأسماء وأعيان الممكنات على حالها من العدم كما إن الحق لم يزل له حكم الوجود فحدث لعين الممكن اسم المظهر وللمتجلي فيه اسم الظاهر

[كل موجود سوى الله هو نسبة لا عين‏]

فلهذا قلنا فكل موجود سوى الله فهو نسبة لا عين فأعطى استعداد مظهر ما أن يكون الظاهر فيه مكلفا فيقال له افعل ولا تفعل ويكون مخاطبا بأنت وبكاف الخطاب‏

[التكليفات كلها أحكام‏]

فالقصد للإحرام هو القصد للمنع أن يمنع به ما يمكن أن لا يمنع فحينئذ يصير المنع حكما والتكليفات كلها أحكام فالنية للإحرام أن يقصد بذلك المنع القربة إلى الله والقربة معدومة فيكون سبب وجود حكمها هذا المنع فحصل للعبد بعد أن لم يكن فيصير مظهرا عند ذلك وهو غاية القرب ظهور في مظهر لأن بذلك الظهور يظهر حكم المظهر في الظاهر فيه كما يظهر بطريق القرب حكم الداعي في المدعو بما يكون منه من الإجابة قال تعالى وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ إذ لا تكون إجابة إلا بعد الدعاء فأعطاه الداعي حكم الإجابة كما دعاه تعالى إلى الحج إلى بيته على صفة مخصوصة تسمى الإحرام فأجاب العبد رافعا صوته وهو الإهلال بالتلبية وهي قوله لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك‏

(وصل في فصل هل تجزئ النية عن التلبية)

اختلف علماء الرسوم رضي الله عنهم في ذلك فقال بعضهم التلبية في الحج كتكبيرة الإحرام في الصلاة وصاحب هذا القول يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية كما يجزئ عنده في الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير وهو كل ما يدل على التعظيم وقال بعضهم لا بد من لفظ التلبية

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خذوا عني مناسككم‏

ومما شرع‏

لفظ التلبية وهو قوله لبيك كما شرع الله أكبر في تكبيرة الإحرام في الصلاة فأوجب بعضهم تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورتها لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وفي رواية لبيك إله الحق وفي رواية إله الخلق فهي واجبة بهذا اللفظ عند هؤلاء وعند جمهور العلماء مستحبة وبه أقول واللفظ بها أولى واختلفوا في الزيادة على هذا اللفظ وفي تبديله كما قلنا وكذلك اختلفوا في رفع الصوت بالتلبية وهو الإهلال فأوجبه بعضهم وبه أقول ولكنه عندي إذا وقع منه مرة واحدة أجزأه وما زاد على الواحدة فهو مستحب وأولى وقال بعضهم رفع الصوت بالتلبية مستحب إلا في مساجد الجماعات ما عدا المسجد الحرام ومسجد منى عند بعضهم واختلفوا في التلبية هل هي ركن أم لا فقال بعضهم هي ركن من أركان الحج وبه أقول فإن الله يقول فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وهو قد دعانا إلى بيته فلا بد أن أقول لبيك ثم نأخذ في الفعل لما دعاني الله أن نأتيه به من الصفات وقال بعضهم ليست ركنا

[القصد إلى الله بالحج قصد خاص لاسم خاص‏]

اعلم أن القصد إلى الله تعالى بهذه العبادة الخاصة الجامعة بين الإحرام والتصرف في أكثر المباحات هو قصد خاص لاسم خاص وهو الداعي إلى البيت بهذا القصد لا إليه لكن من أجله بصفة عبودية مشوبة بصفة سيادة تظهر حكم السيادة في هذه العبادة في النحر لأنه إتلاف صورة وفي الرمي بالجمار فإنه وصف فعل إلهي في قوله وأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً روى أن إبليس تعرض لإبراهيم الخليل في أماكن هذه الجمرات مرارا فحصبه بعدد ما شرع وفي زمانها وكذلك في إلقاء التفث فإنه وصف إلهي من قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ وفرغ ربك والوفاء بما نذر فيه كذلك لقوله أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏

[ظهور حكم السيادة في عبادة الحج‏]

والطواف بالبيت لكون هذا الفعل إحاطة بالبيت من قوله إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ والذكر فيها من قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وذكر الله لنا أكبر من ذكرنا له إلا أن ذكرناه به لا بنا فذكرنا به أكبر إحاطة فإن في ذكرنا نحن وهو وفي ذكره هو بلا نحن قرئ على أبي يزيد إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال بطشي أشد يعني إذا بطش العبد به لا بنفسه وإنما قول أبي يزيد عندي فشرحه خلاف هذا فإن بطش العبد بطش معرى عن الرحمة ما عنده من الرحمة شي‏ء في حال بطشه وبطش الحق بكل وجه فيه رحمة بالمبطوش به من وجه يقصده الباطش الحق فهو الرحيم به في بطشه فبطش العبد أشد لأنه لا تقوم به رحمة بالمبطوش به وما أشبه ذلك من الرمل والسعي وكل فعل له في الألوهية وصف‏

[فليكن قصدك إلى البيت بربك لا بنفسك‏]

وإذا عرفت أن القصد إلى البيت من الله لا إليه فليكن قصدك إلى البيت بربك لا بنفسك فتكون ذا قصد إلهي فإنه تعالى قصد هذا البيت دون غيره من البيوت وطلب من عباده أن يقصدوه بوصف خاص وهو الإحرام وجميع أفعال الحاج وجعل أوله طوافا وآخره طوافا فختم بمثل ما به بدأ عند الوصول إلى البيت فما أمرك بالقصد إلى البيت لا إليه إلا لكونه جعله قصدا حسيا فيه قطع مسافة أقربها من بيتك الذي بمكة إلى البيت وهو معك أينما كنت فلا يصح أن تقصد بالمشي الحسي من هو معك فأعلمك أنه معك‏

[الدلالة على البيت دلالة لك على نفسك‏]

ثم إنه ذلك على البيت الذي هو مثلك ومن جنسك أعني أنه مخلوق فدلالته لك على البيت دلالته لك على نفسك في قوله من عرف نفسه عرف ربه فإذا قصدت البيت إنما قصدت نفسك فإذا وصلت إلى نفسك عرفت من أنت وإذا عرفت من أنت عرفت ربك فتعلم عند ذلك هل أنت هو أو لست هو فإنه هناك يحصل لك العلم الصحيح فإن الدليل قد يكون خلاف المدلول وقد يكون عين المدلول فلا شي‏ء أدل على الشي‏ء من نفسه ثم تبعد الدلالة بحسب بعد المناسبة فالإنسان أقرب دليل عليه من كونه مخلوقا على الصورة ولهذا ناداك من قريب لقرب المناسبة فقال فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ‏

[إنما سمى البيت بيتا للمبيت فيه والمبيت لا يكون إلا ليلا]

وقد تقدم في أول الباب أسرار ظهرت في اعتبار البيت ثم جاء بلفظة البيت لما فيه من اشتقاق المبيت فكأنه إنما سمي بيتا للمبيت فيه فإنه الركن الأعظم في منافع البيت كقولهم الحج عرفة يريد معظمه فراعى حكم المبيت لأنه في المبيت يكون النوم فهو محتاج إلى من يحفظ رحله ونفسه لنومه فإنه في حال يقظته يتصف بحفظ رحله ونفسه فلما راعى فيه المبيت والمبيت لا يكون إلا بالليل لا بالنهار ولهذا راعى أحمد بن حنبل في غسل اليد في الوضوء قبل إدخالها في الإناء لمن قام من نوم الليل خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده فجاء بلفظ المبيت فجعل الحكم في نوم الليل‏

[ما جعل الحق تجليه لعباده في الحكم الزمانى إلا في الليل‏]

ولما كان الليل محل التجلي فيه فإن الحق ما جعل تجليه لعباده في الحكم الزماني إلا في الليل فإن فيه ينزل ربنا وفيه كان الإسراء برسول الله صلى الله عليه‏

وسلم وفيه معارج الأرواح في النوم لرؤية الآيات ولما تحققت هذه الأمور كلها خص سبحانه هذا المكان بلفظ البيت فسماه بيتا فافهم ما أشرنا إليه فقال جل وتعالى ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ إشارة إلى النسيان ولم يقل على بنى آدم حِجُّ الْبَيْتِ يعني قصد هذا المكان من كونه بيتا ليتنبه باسمه على ما قصد به دون غيره من اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي من قدر على الوصول إليه ولذلك شرع وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وأمثاله‏

[البيت هو الحجاب على الوجه المقصود]

فالإجابة لله بالتلبية لدعائه ورفع الصوت به من أجل البيت لبعده عن المدعو فإنه دعاه من البيت لأنه دعاه ليراه فيه لتجليه كما أسرى بعبده ليلا ليريه من آياته التي هي دلائل عليه وقد يكون ظهور الشي‏ء للطالب دليلا على نفسه فيكون من آياته أن يتجلى له فيراه فيكون له دليلا على نفسه وهذا مذهب ابن عباس فوجب رفع الصوت بالتلبية وهو الإهلال لأجل ما للبيت من الحظ في هذا الدعاء فإنه المقصود في اللفظ فهو الحجاب على الوجه المقصود

[الله مع العبد في شهوده على قدر علمه به‏]

فإن كنت محمدي المشهد فلا تزد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فتراه بعينه فإنه لا يتجلى لك بتلبيته إلا ما تجلى له وقد تقرر أنه أعلم الخلق بالله والعلم بالله لا يحصل إلا من التجلي وقد تجلى لك في تلبيتك هذه فنظرته بعين محمد صلى الله عليه وسلم وهي أكمل الأعين لأنه أكمل العلماء بالله والله مع العبد في شهوده على قدر علمه به فإن زدت على هذه التلبية فقد أشركت حيث أضفت إليها تلبية أخرى وأنت تعلم أن الجمع يعطي من الحكم ما لا يعطي الإفراد فلا تتخيل أنك لما جئت بتلبيته صلى الله عليه وسلم كاملة ثم زدت عليها ما شئت إن باستيفائك إياها يحصل لك ما حصل لمن لم يزد عليها هذا جهل من قائله بما هي عليه حقائق الأمور أ لا تراه صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته تلك وما زاد عليها ولا أنكر على أحد ما لبى به فلم يكن لزومه إياها باطلا فالزم الاتباع تكن عبدا ولا تبتدع في العبودية حكما فتكون بذلك الابتداع ربا فإنه البديع سبحانه‏

[الشركة لا تصح في الوجود لأن الوجود على صورة الحق‏]

فالزم حقيقتك تحظ به وإن شاركته لم تحظ به فإنه لا يشارك فتقع في الجهل لأن الشركة لا تصح في الوجود لأن الوجود على صورة الحق وما في الحق شريك بل هو الواحد الشركة ما لها مصدر تصدر عنه فتحقق هذا التنبيه في الشركة فإنه بعيد أن تسمعه من غيري وإن كان معلوما عنده فإنه يحكم عليه الجبن الذي فطر عليه فيفزع من كون الحق أثبت الشركة وصفا في المخلوق وما شعر هذا الناظر بقوله أنا أعني الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بري‏ء وهو الذي أشرك فما قال إن الشركة صحيحة ولا إن الشريك موجود إذ لا يصح وجود معنى الشركة على الحقيقة لأن الشريكين حصة كل واحد منهما معينة عند الله وإن جهلها الشريكان فأنت الذي أشركت وما في نفس الأمر شركة لأن الأمر من واحد

هذا هو الحق الذي *** إن قلته لا تغلب‏

وما سوى هذا فلا *** فهو مثال يضرب‏

مثل تقدير وجود المحال وجوده بحكم الفرض‏

[أركان البيت وأركان الحج‏]

ولما كان القصد إلى البيت والبيت في الصورة ذو أربعة أركان وفي الوضع الأول ذو ثلاثة أركان كان القصد على صورة البيت في أكثر المذاهب فاركان الحج أربعة الإحرام والوقوف والسعي وطواف الإفاضة هذا هو الذي عليه أكثر الناس ومن راعى صورة البيت في الوضع الأول كان عنده على التثليث لم ير طواف الإفاضة فرضا فأقام البيت على شكل مثلث متساوى الساقين لا متساوى الأضلاع ولا يصح أن يكون متساوى الأضلاع إذ لو كان لم يكن ثم من يميز الساقين لأنه مثلهما ولا بد من تساوى الساقين والتمييز بينهما وهما اليدان والقبضتان وإنما سميتا ساقين للاعتماد الذي في حقيقة الساق ولما كان الاعتماد على القبضتين وإليهما يرجع حكم الأمر في الدارين الجنة والنار وما ثم غيرهما كان اسم الساق أولى والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ فلا بد من التساوي حتى يصح الالتفاف عليه كله من كله وما زاد على هؤلاء الأربعة وجعل ركنا فمن نظر آخر خارج عن شكل البيت وصورته فهو بمنزلة من يطلب أمرا فيرى ما يشبهه فيقول هو هو وإن كان هو اعتبار صحيح ولكن ما له هذا الظهور في الشبه لأن الصورة لا تشهد له أعني صورة البيت الذي هو المقصود بالحج لا غير

(وصل في فصل الإحرام أثر صلاة)

وهو مستحب عند العلماء فرضا كان أو نفلا غير أن بعضهم يستحب أن يتنفل له بركعتين فإنه أولى إذ كانت السنة

من النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في ذلك والسنة أحق بالاتباع فإنه لهذا سنت وقد قال خذوا عني مناسككم‏

في حجه صلى الله عليه وسلم‏

[الصلاة والحج والعمرة عبادات بين طرفى تحريم وتحليل‏]

إنما شرع الإحرام أثر صلاة لأن الصلاة عبادة بين طرفي تحريم وتحليل فتحريمها التكبير وتحليلها التسليم فأشبهت الحج والعمرة فإنهما عبادتان بين طرفي تحريم وتحليل فوقعت المناسبة ولأن الصلاة أيضا أثبت الحق فيها نفسه وعبده على السواء فجعل لنفسه منها أمرا انفرد به وجعل لعبده منها حظا أفرده به وجعل منها برزخا أوقع فيه الاشتراك بينه وبين عبده فإنها عبادة مبنية على أقوال وأفعال والحج كذلك ينبني على أقوال وأفعال فما فيه من التعظيم فهو لله ومن الذلة والافتقار والتفث فهو للعبد وما فيه مما يظهر فيه اشتراك فهو برزخ فوقعت المناسبة أيضا فيه أكثر من غيره من العبادات فإن الصوم وإن كان بين طرفي تحريم وتحليل فما يشتمل على أقوال ولا على أفعال‏

[المناسبة بين الحج والصلاة والنكاح‏]

ثم إن كان لك أهل في موضع إحرامك فينبغي لك إذا أردت الإحرام أن تطأ أهلك فإن ذلك من السنة ثم تغتسل وتصلي وتحرم فإن المناسبة بين الحج والصلاة والنكاح كون كل واحد من هذه العبادات بين طرفي تحريم وتحليل وقد راعى الله ذلك أعني المناسبة من هذا الوجه في الصلاة والنكاح فقال حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى‏ الآيتين وجعل هذه الآية بين آيات نكاح وطلاق تتقدمها وتتأخر عنها وعدة وفاة وفي ظاهر الأمر أن هذا ليس موضعها وما في الظاهر وجه مناسب للجمع بينها وبين ما ذكرنا إلا كونهما بين طرفي تحريم وتحليل متقدم أو متأخر

[الإنسان بربه فينبغي أن يكون لربه في جميع حركاته وسكناته‏]

ولما أراد الله من العبد فيما نبهه به أن لا يفعل شيئا من الأفعال الصادرة منه في ظاهر الأمر إلا وهو يعلم أن الله هو الفاعل لذلك الفعل في‏

قوله كنت سمعه وبصره فبي يسمع وبي يبصر وبي يتحرك‏

وقال في الصلاة إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فنسب القول إليه لا إلى العبد ولم يقل بلسان عبده فلهذا شرع الإحرام عقيب صلاة لينتبه الإنسان بما ذكرناه أنه بربه في جميع حركاته وسكناته على اختلاف أحكامها فيكون في عبادة دائما بهذا الحضور ويكون فيها لا فيها

فالله أظهر نفسه بحقائق *** الأكوان في أعيانها فاعبده به‏

إن كنت تعبده فلست بعابد *** فانظر إلى قولي لعلك تنتبه‏

[الإحرام للعبد نظير التنزيه للحق‏]

وتفطن فإن الله ما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ سدى بل قال ذلك لتعرف أنت وأمثالك صورة الأمر كيف هو فالإحرام للعبد نظير التنزيه للحق وهو قولك في حق الحق ليس كذا وليس كذا لكونه قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ والعزة الامتناع والتسبيح تنزيه والتنزيه بعد عما نسب إليه من الصاحبة والولد وغيرهما والإحرام منع وتنزيه وبعد عن الجماع وعن أشياء قد عين الشارع اجتنابها وهو عين التنزيه والتباعد عنها ومنع صاحب هذه العبادة من الاتصاف بها

(وصل في فصل نسبة المكان إلى الحج من ميقات الإحرام)

أي من أي مكان أحرم عليه السلام فمنهم من قال من مسجد ذي الحليفة ومنهم من قال حين استوت به راحلته ومنهم من قال حين أشرف على البيداء وكل قال وأخبر عن الوقت الذي سمعه فيه يهل فمنهم من سمعه يهل عقيب الصلاة من المسجد ثم سمعه آخر يهل حين استوت به راحلته ثم سمعه آخر يهل حين أشرف على البيداء وقال علماء الرسوم في المكي إذا أحرم لا يهل حتى يأخذ في الرواح إلى منى والأولى عندي أن يهل عقيب الصلاة إذا أحرم ثم إذا أخذ في الرواح ثم لا يزال يهل إلى الوقت المشروع الذي يقطع عنده التلبية لأن الدعاء كان لجميع أفعال الحج فالتلبية إجابة لذلك الدعاء فما بقي فعل من أفعال الحج أمامه لم يفعله فلا يقطع التلبية حتى يفرغ من أفعال الحج الذي دعاه إلى فعلها هذا يقتضي النظر إلا أن يرد نص من الشارع بتعيين وقت قطع التلبية فيقف عنده‏

لقوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم‏

[الدعاء طلب للقرب من حكم العبد]

ولما كان الدعاء عند أهل الله نداء على رأس البعد وبوح بعين العلة فإن الإجابة تؤذن في الحال بالبعد فكان النداء طلبا للقرب من حكم هذا البعد فالإجابة مقدمة بشرى من العبد للحق يبشره بالإجابة لما دعاه إليه من كونه يتجلى في صورة تعطي هذه النسب وإن كانت السعادة للعبد في تلك الإجابة ولكن ما خلق الله الجن والإنس إلا ليعبدوه فدعاهم لما خلقهم له ولما كان في الإمكان الإجابة وعدم الإجابة لذلك كانت الإجابة بشرى للداعي أن دعاءه‏

مسموع وأمره مطاع حين أبي غيره وامتنع ممن سمع الدعاء

[نسبة الأعمال إلى العمال وفناؤهم عن رؤيتها]

وربما يدخل في هذا من يقول بالتراخي مع الاستطاعة والأولى بكل وجه المبادرة عند الاستطاعة وارتفاع الموانع فجعل قوله تعالى يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ورِضْوانٍ في مقابلة هذه البشرى بالإجابة جزاء وقال لَهُمُ الْبُشْرى‏ في الْحَياةِ الدُّنْيا وفي الْآخِرَةِ جزاء أيضا مؤكدا لبشراهم بإجابة داعي الحق بالعبادات فقالوا لبيك أي إجابة لك لما دعوتنا إليه وخلقتنا له فلم يرجع داعي الحق خائبا ثم حققوا الإجابة بما فعلوه مما كلفوه على حد ما كلفوه من نسبة الأعمال إليهم وفنائهم عن رؤيتها منهم برؤية مجريها على أيديهم ومنشئها فيهم فهم عمال لأعمال كذا هو الأمر في الحقيقة اطلع العباد على ذلك أو لم طلعوا فشرف العالم بالاطلاع على من لم يطلع وفضل عليه يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ والله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ والله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏

(وصل في فصل المكي يحرم بالعمرة دون الحج)

فإن العلماء ألزموه بالخروج إلى الحل ولا أعرف لهم حجة على ذلك أصلا واختلفوا إذا لم يخرج إلى الحل فقيل عليه دم وقيل لا يجزيه ووقفت على ما احتجوا به في ذلك فلم أره حجة فيما ذهبوا إليه والذي أذهب إليه في هذه المسألة أن المكي يجوز له أن يحرم من بيته بالعمرة كما يحرم بالحج سواء ويفعل أفعال العمرة كلها من طواف وسعى وحلق أو تقصير ويحل ولا شي‏ء عليه جملة واحدة

فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقت المواقيت لمن أراد الحج والعمرة ولم يفرق بين حج ولا عمرة قال ميقات أهل مكة من مكة

وما يلزم من الأفعال في نسك العمرة فعل وما يلزم من نسك الحج فعل وما خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم قط الجمع بين الحل والحرم وإنما شرع ذلك للآفاقى لا للمكي فقال لعبد الرحمن بن أبي بكر اخرج بعائشة إلى التنعيم من أجل أن تحرم بالعمرة مكان عمرتها التي رفضتها حين حاضت وعائشة آفاقية وهذا هو دليل العلماء فيما ذهبوا إليه وهو دليل في غاية الضعف لا يحتج بمثل هذا على المكي‏

[المكي هو في حرم الله أي موجود في عين القرب من الله‏]

والأوجه في تمشية الحكمة في المكي أن لا يخرج إلى الحل إذا أحرم بالعمرة فإنه في حرم الله تعالى فهو في عبودية مشاهدة قد منعه الموطن أن يكون غير عبد ثم أكد تلك العبودية بالإحرام فهو إحرام في حرم تأكيد للعبودية وإجلال للربوبية فإذا خرج إلى الحل نقص عن هذه الدرجة والمطلوب الزيادة في الفضل أ لا ترى الآفاقي لما خرج إلى الحل هناك أحرم فلم يكن المطلوب منه في خروجه أن يبقى على إحلاله ثم دخل في الحرم محرما فزاد فضلا على فضل فكان المطلوب الزيادة فالمكي في حرم الله أي موجود في عين القرب من الله بالمكان فلما ذا يخرج والقرب بيته وموطنه حاشا الشارع أن يرى هذا وكذلك ما قاله ولا رآه ولا أمر به‏

[لا بد للمحرم الآفاقى بين الحل والحرم‏]

والآفاقي لما كان همه متعلقا بوطنه الخارج عن الحرم كان خروجه إلى الحل من أجل الإحرام بالعمرة كالعقوبة له لما كانت الهمة به متعلقة فإنه في نية المفارقة لحرم الله وطلب موطنه الخارج عنه فخرج من الأفضل إلى ما هو دونه وأين جار الله ممن ليس بجار له والله قد وصى بالجار حتى‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه‏

يعني يلحقه بالقرابة أصحاب السهام في الورث وكذلك في الحج واتفق من نسك الحج الوقوف بعرفة وعرفة في الحل وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما شرع الوقوف بعرفة إلا لكونها في الحل ولا بد للمحرم أن يجمع بين الحل والحرم ما تعرض الشارع إلى شي‏ء من ذلك ولو كان مقصوده لأبان عنه وما ترك الناس في عماية بل بين صلى الله عليه وسلم في المواقيت ما ذكرناه فوصف المناسك وعينها وأحوالها وأماكنها وأزمانها فالله يلهمنا رشد أنفسنا ويجعلنا ممن اتبع وتأسى آمين بعزته والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(وصل في فصل متى بقطع الحاج التلبية)

فمن قائل إذا زاغت الشمس من يوم عرفة وهو عند الزوال ومن قائل حتى يرمي جمرة العقبة كلها ومن قائل حين يرمي أول حصاة من جمرة العقبة وقد تقدم قولنا في ذلك وهو أنه ما بقي عليه فعل من أفعال الحج فلا يقطع التلبية حتى يفرغ منه فإن الله يدعوه ما بقي عليه فعل من أفعال الحج فالإجابة لازمة وما ثم نص من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فإنه غاية ما وصل إلينا أن الواحد ما سمعه يلبي بعد ما زاغت الشمس والآخر ما سمعه يلبي حين رمى أول حصاة من جمرة العقبة والآخر ما سمعه يلبي بعد آخر رميه حصاة من آخر جمرة العقبة فصدق كل واحد منهم في أنه ما سمع مثل قولهم‏

في الإهلال بالحج سواء عند الإحرام والكل ثقات فيما ذكروه فإنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع اتصال التلبية زمان الحج من غير فتور بحيث أن لا يتفرغ إلى كلام ولا إلى ذكر بل كان يلبي وقتا ويذكر وقتا ويستريح وقتا ويأكل وقتا ويخطب وقتا فسرد التلبية ما هو مشروع وإن أكثر منها فلا بد من قطع في أثناء أزمان الحج فهذا كله ليس بخلاف وكذلك المعتمر لا يقطع التلبية عندنا ما بقي عليه فعل من أفعال العمرة عندنا فإن الذين قالوا إن المحرم بالعمرة يخرج إلى الحل منهم من قال يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم يعني المسجد ومنهم من قال إذا افتتح الطواف‏

[ما بعض الأفعال المفروضة بالمراعاة أولى من بعض وكذلك المسنونة]

واعلم أنه ما من فعل من أفعال الحج والعمرة يشرع فيه المحرم إلا والحق يدعوه إلى فعل ما بقي من الأفعال لا بد من ذلك فكما يلزمه الإجابة ابتداء إلى الفعل يلزمه الإجابة إلى كل فعل حتى يفعله فإن المحرم قد دخل في الحج من حين أحرم وما قطع التلبية وطاف بالبيت وما قطع التلبية وسعى وما قطع التلبية وخرج إلى عرفة وما قطع التلبية وما بعض الأفعال المفروضة بالمراعاة أولى من بعض وكذلك المسنونة ما بعضها أولى من بعض في المراعاة إذ لم يرد نص يوقف عنده من الشارع‏

[الرسول داع إلى الله بأمر الله فالله هو المجاب‏]

ففي الفرائض إجابة الله وفي السنن إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ فإن الرسول داع بأمر الله فالله هو المجاب وعتب صلى الله عليه وسلم على ذلك المصلي الذي دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يجبه حين دعاه والمدعو في الصلاة فقال يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت قول الله تعالى اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ والتلبية إجابة

وأفعال الحج ما بين مفروض ومسنون وإذا أنصفت فقد بان لك الحق فألزمه إلا أن تقف على نص من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فالمرجع إليه‏

[العارفون لا يقطعون التلبية لا في الدنيا ولا في الآخرة]

وأما العارفون فإنهم لا يقطعون التلبية لا في الدنيا ولا في الآخرة فإنهم لا يزالون يسمعون دعاء الحق في قلوبهم مع أنفاسهم فهم ينتقلون من حال إلى حال بحسب ما يدعوهم إليه الحق وهكذا المؤمنون الصادقون في الدنيا بما دعاهم الشرع إليه في جميع أفعالهم وإجابتهم هي العاصمة لهم من وقوعهم في محظور فهم ينتقلون أيضا من حال إلى حال لدعاء ربهم إياهم فهو داع أبدا والعارف غير محجوب السمع فهو مجيب أبدا

[التجلي دائم غير دائر لا ينقطع ولا يتكرر]

جعلنا الله ممن شق سمعه دعاء ربه وشق بصره لمشاهدة تجليه فالتجلي دائم لا ينقطع فشهود الحق ما لا يرتفع فدوام لدوام واهتمام لاهتمام وانتقال لمقام وهو أعلى من مقام انتقلت منه من وجه يرجع إليك وما هو أعلى من وجه يرجع إلى الحق فإن الأمور إذا نسبتها إلى الحق لم تتفاضل في الشرف وإذا نسبتها إليك تفاضلت في حقك والمكمل عندنا من تكون الأمور بالنسبة إليه كما تكون بالنسبة إلى الله وهو الذي يرى وجه الحق في كل أمر وهذا الباب ما رأيت له ذائقا فيما نقل إلينا جملة واحدة ولا بد أن يكون له رجال لا بد من ذلك ولكنهم قليلون فإن المقام عظيم والخطب جسيم وكنت أتخيل في بعض المقتدين بنا أنه حصله فجاءني منه يوما عتاب في أمر شهد عندي ذلك الخطاب أنه ما حصله‏

(وصل في فصل الطواف بالكعبة)

وصفته أن يجعل البيت عن يساره ويبتدئ فيقبل الحجر الأسود إن قدر عليه ثم يسجد عليه أو يشير إليه إن لم يتمكن له الوصول إليه ويتأخر عنه قليلا بحيث أن يدخله في الطواف بالمرور عليه ثم يمشي إلى أن ينتهي إليه يفعل ذلك سبع مرات يقبل الحجر في كل مرة ويمس الركن اليماني الذي قبل ركن الحجر بيده ولا يقبله فإن كان في طواف القدوم فيرمل ثلاثة أشواط ويمشي أربعة أشواط ولكن في أشواط رملة يمشي قليلا بين الركنين اليمانيين ويقول رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النَّارِ إلى أن تفرغ سبعة أشواط كل ذلك بقلب حاضر مع الله‏

[الطائفون حول البيت كالحافين من حول العرش‏]

ويخيل أنه في تلك العبادة كالحافين من حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فيلزم التسبيح في طوافه والتحميد والتهليل وقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولنا في ذلك‏

جسم يطوف وقلب ليس بالطائف *** ذات تصد وذات ما لها صارف‏

يدعى وإن كان هذا الحال حليته *** هذا الإمام الهمام الهمهم العارف‏

هيهات هيهات ما اسم الزور يعجبني *** قلبي له من خفايا مكره خائف‏

[الكعبة تسأل الطواف وزمزم يسأل التضلع من مائه‏]

ولقد نظرت يوما إلى الكعبة وهي تسألني الطواف بها وزمزم يسألني التضلع من مائه رغبة في الاتصال بالمؤمن سؤال نطق مسموع بالأذن فخفنا من الحجاب بهما لعظيم مكانتهما من الحق عما نحن عليه في أحوالنا من القرب الإلهي الذي يليق بذلك الموطن في معرفتنا فأنشدتهما مخاطبا ومعرفا بما هو الأمر عليه مترجما عن المؤمن الكامل‏

يا كعبة الله ويا زمزمه *** كم تسألاني الوصل صه ثم مه‏

إن كان وصلي بكما واقعا *** فرحمة لا رغبة فيكمه‏

ما كعبة الله سوى ذاتنا *** ذات ستارات التقى المعلمة

ما وسع الحق سماء ولا *** أرض ولا كلم من كلمه‏

ولاح للقلب فقال اصطبر *** فإنه قبلتنا المحكمة

منكم إلينا وإلى قلبكم *** منافيا بيتي ما أعظمه‏

فرض على كعبتنا حبكم *** وحبنا فرض عليكم ومه‏

ما عظم البيت على غيره *** سواك يا عبدي بأن تلزمه‏

قد نور الكعبة تطوافكم *** بها وأبيات الورى مظلمه‏

ما أصبر البيت على شركهم *** لولاكمو كان لهم مشأمه‏

لكنكم في تواصيتموا *** بالصبر تحقيقا وبالمرحمة

ما أعشق القلب بذاتي وما *** أشده حبا وما أعلمه‏

[مراسلة ومعاتبة بين الكعبة وابن عربى‏]

وكانت بيني وبين الكعبة في زمان مجاورتي بها مراسلة وتوسلات ومعاتبة دائمة وقد ذكرت بعض ما كان بيني وبينها من المخاطبات في جزء سميناه تاج الرسائل ومنهاج الوسائل يحتوي فيما أظن على سبع رسائل أو ثمان من أجل السبعة الأشواط لكل شوط رسالة مني إلى الصفة الإلهية التي تجلت لي في ذلك الشوط ولكن ما عملت تلك الرسائل ولا خاطبتها بها إلا لسبب حادث وذلك أني كنت أفضل عليها نشأتي واجعل مكانتها في مجلى الحقائق دون مكانتي واذكرها من حيث ما هي نشأة جمادية في أول درجة من المولدات وأعرض عما خصها الله به من علو الدرجات وذلك لارقى همتها ولا تحجب بطواف الرسل والأكابر بذاتها وتقبيل حجرها فإني على بينة من ترقي العالم علوه وسفله مع الأنفاس لاستحالة ثبوت الأعيان على حالة واحدة فإن الأصل الذي يرجع إليه جميع الموجودات وهو الله وصف نفسه إنه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ فمن المحال أن يبقى شي‏ء في العالم على حالة واحدة زمانين فتختلف الأحوال عليه لاختلاف التجليات بالشئون الإلهية وكان ذلك مني في حقها لغلبة حال غلب علي فلا شك أن الحق أراد أن ينبهني على ما أنا فيه من سكر الحال فأقامني من مضجعي في ليلة باردة مقمرة فيها رش مطر فتوضأت وخرجت إلى الطواف بانزعاج شديد وليس في الطواف أحد سوى شخص واحد فيما أظن انتهى الجزء السادس والستون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل) فيما جرى من الكعبة في حقي في تلك الليلة

وذلك أني لما نزلت قبلت الحجر وشرعت في الطواف فلما كنت في مقابلة الميزاب من وراء الحجر نظرت إلى الكعبة فرأيتها فيما تخيل لي قد شمرت أذيالها واستعدت مرتفعة عن قواعدها وفي نفسها إذا وصلت بالطوال إلى الركن الشامي إن تدفعني بنفسها وترمي بي عن الطواف بها وهي تتوعدني بكلام أسمعه بإذني فجزعت جزعا شديدا وأظهر الله لي منها حرجا وغيظا بحيث لم أقدر على إن أبرح من موضعي ذلك وتسترت بالحجر ليقع الضرب منها عليه جعلته كالمجن الحائل بيني وبينها وأسمعها والله وهي تقول لي تقدم حتى ترى ما أصنع بك كم تضع من قدري وترفع من قدر بنى آدم وتفضل العارفين علي وعزة من له العزة لا تركتك تطوف بي فرجعت مع نفسي وعلمت إن الله يريد تأديبي فشكرت الله على ذلك وزال جزعي الذي كنت أجده وهي والله فيما

يخيل لي قد ارتفعت عن الأرض بقواعدها مشمرة الأذيال كما يتشمر الإنسان إذا أراد أن يثب من مكانه يجمع عليه ثيابه هكذا خيلت لي قد جمعت ستورها عليها لتثب علي وهي في صورة جارية لم أر صورة أحسن منها ولا يتخيل أحسن منها فارتجلت أبياتا في الحال أخاطبها بها وأستنزلها عن ذلك الحرج الذي عاينته منها فما زلت أثنى عليها في تلك الأبيات وهي تتسع وتنزل بقواعدها على مكانها وتظهر السرور بما أسمعها إلى أن عادت إلى حالها كما كانت وأمنتني وأشارت إلي بالطواف‏

[أمانة ابن عربى التي أودعها عند الكعبة]

فرميت بنفسي على المستجار وما في مفصل إلا وهو يضطرب من قوة الحال إلى أن سرى عني وصالحتها وأودعتها شهادة التوحيد عند تقبيل الحجر فخرجت الشهادة عند تلفظي بها وأنا أنظر إليها بعيني في صورة سلك وانفتح في الحجر الأسود مثل الطاق حتى نظرت إلى قعر طول الحجر فرأيته نحو ذراع فسألت عنه بعد ذلك من رآه من المجاورين حين احترق البيت فعمل بالفضة وأصلح شأنه فقال لي رأيته كما ذكرت في طول الذراع ورأيت الشهادة قد صارت مثل الكبة واستقرت في قعر الحجر وانطبق الحجر عليها وانسد ذلك الطاق وأنا أنظر إليه فقالت لي هذه أمانة عندي أرفعها لك إلى يوم القيامة أشهد لك بها عند الله هذا قول الحجر لي وأنا أسمع فشكرت الله ثم شكرتها على ذلك ومن ذلك الوقت وقع الصلح بيني وبينها وخاطبتها بتلك الرسائل السبعة فزادت بي فرحا وابتهاجا حتى جاءتني منها بشرى على لسان رجل صالح من أهل الكشف ما عنده خبر بما كان بيني وبينها مما ذكرته فقال لي رأيت البارحة فيما يرى النائم هذه الكعبة وهي تقول لي يا عبد الواحد سبحان الله ما في هذا الحرم من يطوف بي إلا فلان وسمتك لي باسمك ما أدري أين مضى الناس ثم أقمت لي في النوم وأنت طائف بها وحدك لم أرى معك في الطواف أحدا قال الرائي فقالت لي انظر إليه هل ترى بي طائفا آخر لا والله ولا أراه أنا فشكرت الله على هذه البشرى من مثل ذلك الرجل وتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له‏

[الأبيات التي استنزل بها ابن عربى الكعبة]

وأما الأبيات التي استنزلت بها الكعبة فهي هذه‏

بالمستجار استجار قلبي *** لما أتاه سهم الأعادي‏

يا رحمة الله للعباد *** أودعك الله في الجماد

يا بيت ربي يا نور قلبي *** يا قرة العين يا فؤادي‏

يا سر قلب الوجود حقا *** يا حرمتي يا صفا ودادي‏

يا قبلة أقبلت إليها *** من كل ربع وكل وادي‏

ومن بقاء فمن سماء *** ومن فناء فمن مهاد

يا كعبة الله يا حياتي *** يا منهج السعد يا رشادي‏

أودعك الله كل أمن *** من فزع الهول في المعاد

فيك المقام الكريم يزهو *** فيك السعادات للعباد

فيك اليمين التي كستها *** خطيئتي جدة السواد

ملتزم فيك من يلازم *** هواه يسعد يوم التناد

ماتت نفوس شوقا إليها *** من ألم الشوق والبعاد

من حزن ما نالها عليهم *** قد لبست حلة الحداد

لله نور على ذراها *** من نوره للفؤاد بادي‏

وما يراه سوى حزين *** قد كحل العين بالسهاد

يطوف سبعا في أثر سبع *** من أول الليل للمنادي‏

بعبرة ما لها انقطاع *** رهين وجد حلف اجتهاد

سمعته قال مستغيثا *** من جانب الحجر آه فؤادي‏

قد انقضى ليلنا حثيثا *** وما انقضى في الهوى مرادي‏

[الحجر الأسود يمين الله في الأرض لنبايعه في كل شوط]

ولما نسب الله العرش إلى نفسه وجعله محل الاستواء الرحماني فقال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ جعل الملائكة حافين به من حول العرش بمنزلة الحرس حرس الملك والملازمين بابه لتنفيذ أوامره وجعل الله الكعبة بيته ونصب الطائفين به على ذلك الأسلوب وتميز البيت على العرش وعلى الضراح وسائر البيوت الأربعة عشر بأمر ما نقل إلينا إنه في العرش ولا في غير هذا من البيوت وهو الحجر الأسود يمين الله في الأرض لنبايعه في كل شوط مبايعة رضوان وبشرى بقبول لما كان منا في كل شوط مما هو لنا أو علينا فما لنا فقبول وما علينا فغفران فإني رأيت في واقعة والناس به طائفون وشرر النار يتطاير من أفواههم فاولته كلام الطائفين في الطواف به بما لا ينبغي فإذا انتهينا إلى اليمين الذي هو الحجر استشعرنا من الله سبحانه بالقبول فبايعناه وقبلنا يمينه المضافة إليه قبلة قبول فرح واستبشار هكذا في كل شوط فإن كثر الازدحام عليه لتجليها في صورة محسوسة محصورة أشرنا إليه أعلاما بأنا نريد تقبيله وأعلاما بعجزنا عن الوصول إليه ولا نقف ننتظر النوبة حتى تصل إلينا فنقبله لأنه لو أراد ذلك منا ما شرع لنا الإشارة إليه إذا لم نقدر عليه فعلمنا أنه يريد منا اتصال المشي في السبعة الأشواط من غير أن يتخللها وقوف إلا قدر التقبيل في مرورنا إذا وجدنا السبيل إليه ونحن نعلم أن يمين الله مطلقة ونحن في قبضتها وما بيننا وبينها حجاب ولكن لما ظهرت في مظهر عين محصورة يعبر عنها بالحجر قيدها استعداد هذه العين المسماة حجر النسبة ظهور اليمين بها فأثرت الضيق والحصر مع أنها يمين الله لا شك ولكن على الوجه الذي يعلمه سبحانه من ذلك فصح النسب‏

[ما في الوجود إلا الله والأعيان الإمكانية على أصلها من العدم‏]

ومن هنا يعرف قولنا إنه ما في الوجود إلا الله والأعيان الإمكانية على أصلها من العدم متميزة لله في أعيانها على حقائقها وأن الحق هو الظاهر فيها من غير ظرفية معقولة فيظهر بصورة تلك العين لو صح أن توجد لكانت بهذه الصورة في الحس فانظر ما أعجب أمر الوجود فعين المستفيد للوجود عين المفيد فإن كانت الاستفادة غير الوجود وهي الصورة فالمستفيد الظاهر والمفيد العين لأن الصورة التي ظهر بها الظاهر هي صورة عين المظهر حقيقة فكل حكم ينسب إلى الظاهر إنما هو منها وأفادها الظاهر بظهوره حكم التأثير فيه إذ لم يكن لها ذلك الحكم إذ كانت ولا تجل في صورتها ولا ظهور وإنما بينا لك ذلك لتعرف من هو الطائف والمطوف به والحجر والمقبل فتكون بحسب ما علمت من ذلك فعلمك عين صورتك وفيها تحشر روحك يوم القيامة وبذلك يتميز في الزور الأعظم فلا يفوتنك علم ما نبهتك عليه والسلام‏

(وصل في فصل حكم الرمل في الطواف)

فقول بأنه سنة فأوجب فيه على من تركه الدم وقول بأنه فضيلة فلا يجب في تركه شي‏ء وأعني في طواف القدوم‏

[الرمل إسراع في نفس الخير إلى الخير]

الرمل إسراع في نفس الخير إلى الخير فهو خير في خير وذلك لحكمة استعجال إدراك علم الأمر الإلهي فإن الله تعالى يقول وما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فإن البصر لا شي‏ء أسرع منه فإن زمان لمحته عين زمان تعلقه بالملموح ولو كان في البعد ما كان وأبعد الأشياء في الحس الكواكب الثابتة التي في فلك المنازل وعند ما تنظر إليها يتعلق اللمح بها فهذه سرعة الحس فما ظنك بالمعاني المجردة عن التقييد في سرعة نفوذها فإن للسرعة حكما في الأشياء لا يكون لغير السرعة ومن هنا يعرف قول الحق للشي‏ء كن فيكون فحال كن الإلهية حال المكون المخلوق ولهذا أسرع ما يكون من الحروف في ذلك فاء التعقيب فلهذا جاء بها في جواب الأمر

[صورن نش‏ء العالم وظهوره ونفوذ الأمر الإلهي فيه‏]

فإن أردت أن تعرف صورة نش‏ء العالم وظهوره وسرعة نفوذ الأمر الإلهي فيه وما أدركت الأبصار والبصائر منه فانظر إلى ما يحدث في الهواء من سرعة الحركة بجمرة النار في يد المحرك لها إذا أرادها فتحدث في عين الرائي دائرة أو خطا مستطيلا إن أخذ بالحركة طولا أو أي شكل شاء ولا تشك أنك أبصرت دائرة نار ولا تشك أن ما ثم دائرة وإنما أنشأ ذلك في نظرك سرعة الحركة وهو قوله وما أَمْرُنا وهو قوله كن إِلَّا واحِدَةٌ كالجمرة كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ إدراك الدائرة وما هي دائرة فذلك عين الصورة المخلوقة الظاهرة لإدراك العين فتحكم من حيث نظرك ببصرك وبصيرتك وفكرك إنه خلق وبعلمك وكشفك أنه حق مخلوق به ما ظهر لعينك مما ليس هو فهذا عدم في عين وجود فانظر ما ألطف هذا الإدراك مع كون الحس محلا لظهوره على تقييده وكثافته وقصوره فما ظنك بما هو الأمر عليه بالنسبة إلى جناب الحق فسبحان من يكلم نفسه بنفسه في أعيان خلقه كما

قال فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله وإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فهو المتكلم والقائل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏

[زمان إضاءة البرق عين زمان انصباغ الهواء به‏]

حقق يا أخي نظرك في سرعة البرق إذا برق فإن برق البرق إذا برق كان سببا لانصباغ الهواء به وانصباغ الهواء به سبب لظهور أعيان المحسوسات به وظهور أعيان المحسوسات به سبب في تعلق إدراك الأبصار بها والزمان في ذلك واحد مع تعقلك تقدم كل سبب على مسببه فزمان إضاءة البرق عين زمان انصباغ الهواء به عين زمان ظهور المحسوسات به عين زمان إدراك الأبصار ما ظهر منها فسبحان من ضرب الأمثال ونصب الأشكال ليقول القائل ثم وما ثم أو ما ثم فو عزة من له العزة والجلال والكبرياء ما ثم إلا الله الواجب الوجود الواحد بذاته الكثير بأسمائه وأحكامه القادر على المحال فكيف الإمكان والممكن وهما من حكمه فو الله ما هو إلا الله فمنه وإليه يرجع الأمر كله ولهذا سن الرمل ثلاثا لا زائد ولا ناقص الواحد له والثالث لما ظهر والثاني بين الأول والثالث السبب لظهور ما ظهر عنه لا بد من ذلك‏

[إذا حققت ما رأيت: رأيت أن ثم ما رأيت‏]

فإذا حققت ما رأيت رأيت أن ثم ما رأيت فخرج إدراك العقل للأمور المعقولة على هذه الصورة مثلثة الشكل وهي المقدمات المركبة من الثلاثة لإنتاج المطلوب وكذلك في الحس حس ومحسوس وتعلق لحس بمحسوس لا يدري هل الحس تعلق بالمحسوس أو المحسوس انطبع في الحس قصر العقل والله وخنس الفكر وحار الوهم وطمس الفهم فالأمر عظيم والخطب جسيم والشرع نازل والعقل قابل والأمر نافذ والحوادث تحدث والقوي قائمة والموازين موضوعة والكلمات لا تنفد والكائنات لا تبعد وما ثم شي‏ء مع هذا المعلوم المتعدد والعين واحدة والأمر واحد حارت الحيرة في نفسها إذ لم تجد من يحاربها فالحيرة التي يتخيل أن العالم موصوف بها ليس كما تخيلت بل ذلك حيرة الحيرة فما ثم إلا هو والحيرة كلت والله الألسنة عما علمته الأفئدة أن تعبر عن ذلك وكلت والله الأفئدة عن عقل ما هو الأمر عليه فلا تدري هل هي الحائرة أم لا والحيرة موجودة ولا يعرف لها محل تقوم به فلمن هي موجودة وفيمن ظهر حكمها وما ثم إلا الله‏

وما ثم إلا الله لا شي‏ء غيره *** وما ثم ثم إذ كانت العين واحدة

لذلك قلنا في الذوات بأنها *** وإن لم تكن لله بالله ساجدة

(وصل في فصل منه)

اختلف العلماء في أهل مكة هل عليهم رمل إذا حجوا أو لا فقال قوم كل طواف قبل عرفة مما يوصل بسعي فإنه يرمل فيه وقال قوم باستحباب ذلك وكان بعضهم لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت وهو مذهب ابن عمر على ما رواه مالك عنه‏

[الإنسان تحت حكم كل نفس‏]

إذا كانت العلة ما ذكرناها آنفا في الرمل تعين الرمل على أهل مكة وغيرهم ولا سيما والأمر في نفسه أن الإنسان تحت حكم كل نفس وكل نفس قادم وكل قادم فهو طائف وكل طواف قدوم فيه رمل هكذا هي السنة فيه لمن أراد أن يتبعها ومن جهل قدوم نفسه وأن الإنسان في كل حال مخلوق فهو قادم على الوجود من العدم لم ير عليه طوافا فإنه من أهل هذه الصفة كما هم أهل مكة من مكة

(وصل في فصل استلام الأركان)

فقال قوم وهم الأكثرون باستلام الركنين فقط وقال جابر كنا نرى إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها وقال قوم من أهل السلف باستحباب استلام الركنين في كل وتر من الأشواط وهو الأول والثالث والخامس والسابع وأجمعوا على إن تقبيل الحجر الأسود خاصة من سنن الطواف واختلفوا في تقبيل الركن اليماني الثاني‏

[الاستلام وهو لمس الركن باليد على نية البيعة]

أما الاستلام وهو لمس الركن باليد على نية البيعة فلا يكون إلا في ركن الحجر في الحجر خاصة لكون الحق جعله يمينا له فلمسه بطريق البيعة ومن لم ير اللمس للبيعة ورآه للبركة استلم جميع الأركان فإن لمسها والقرب منها كله بركة وما يختص ركن الحجر إلا بالبيعة والمصافحة وتقع المشاركة في البركة له مع سائر الأركان ففيه كونه ركنا وزيادة فمن راعى كونه ركنا أشرك في الاستلام معه الركن اليماني والركن الثالث هو في الحجر غير معين إذ لا صورة له في البيت والركن الشامي والعراقي ليسا بركنين للبيت الأول الموضوع فلما لم يكونا بالوضع الأول الإلهي لم يكونا ركنين فخالف حكمهما حكم الركنين ومن رأى أن الأفعال كلها من الله رأى أن الذي عين الركنين والركن الثالث في الحجر بالوضع الأول هو الذي عين الأربعة الأركان‏

بالوضع الثاني إذ لا واضع إلا الله فاستلم الأركان كلها من كونها أركانا موضوعة بوضع إلهي وفق الله من شاء من المخلوقين لإظهارها على أيديهم ولكن لا دخول لهم من كونهم أركانا في التقبيل والمصافحة فينبغي للطائف إذا قيل الحجر وسجد عليه بجبهته كما جاءت السنة وصافحه بلمسه إياه بيده أن يستلم ركنه حتى يكون قد استلم الأركان كلها فإن لم يفعل فما استلم إلا أن يرى أن الحجر الأسود من جملة أحجار الركن فيكون عين مصافحته استلامه‏

(وصل في فصل الركوع بعد الطواف)

طفت بالبيت سبعة وركعت *** بمقام الخليل ثم رجعت‏

لطوافى فطفت سبعا وعدنا *** لمقام الخليل ثم ركعت‏

لم أزل بين ذا وذاك أنادي *** يا حبيب القلوب حتى سمعت‏

يا عبيدي فقلت لبيك ربي *** ها أنا ذا أجبت ثم أطعت‏

فأمروا بالذي تشاءون مني *** إن باب القبول مني فتحت‏

أجمع العلماء على أنه من سنن الطواف ركعتان بعد انقضاء الطواف وجمهورهم على أنه يأتي بهما بعد انقضاء كل أسبوع إن طاف أكثر من أسبوع وأجاز بعضهم أن لا يفرق بين الأسابيع ولا يفصل بينهما بركوع ثم يركع لكل أسبوع ركعتين والذي أقول به إن الأولى أن يصلي عند انقضاء كل أسبوع فإن جمع أسابيع فلا ينصرف إلا عن وتر

فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما انصرف من الطواف إلا عن وتر

فإنه انصرف عن سبعة أشواط أو عن طواف واحد فإن زاد فينصرف عن ثلاثة أسابيع وهي أحد وعشرون شوطا ولا ينصرف عن أسبوعين فإنه شفع وبالأشواط أربعة عشر شوطا وهي شفع فجاء بخلاف السنة في طوافه من كل وجه‏

[الطواف صلاة أبيح فيها الكلام‏]

فاعلم إن الطواف قد روى أنه صلاة أبيح فيها الكلام وإن لم يكن فيه ركوع ولا سجود كما سميت صلاة الجنائز صلاة شرعا وما فيها ركوع ولا سجود وأقل ما ينطلق عليه اسم صلاة ركعة وهي الوتر وإذا انضاف إلى الطواف ركعتان كانت وترا مثل المغرب التي توتر صلاة النهار فأشبه الطواف مع الركعتين صلاة المغرب وهي فرض فأوتر الحق شفعية العبد

[كل مركب فقير يحتاج إلى وتر يستند إليه‏]

ولا يقال في الرابع من الأربعة إنه قد شفع وترية العبد فإن العبد ما له وترية في عينه فإنه مركب وكل مركب فقير فيحتاج إلى وتر يستند إليه لا ينفرد بشفعية في نفسه فلا يكون أبدا إلا وترا ثلاثة أو خمسة أو سبعة إلى ما لا يتناهى من الأفراد فإن كان رابعا أو سادسا فهو رابع ثلاثة لا رابع أربعة وسادس خمسة لا سادس ستة فهو واحد الأصل مضاف إلى وتر فما نسبته إلا لعينه إذ هو عين كل وتر لأنه بظهوره أبقى اسم الوترية على من أضيف إليه فقيل رابع ثلاثة لا رابع أربعة ورابع الثلاثة لا يكون إلا واحدا

[الأحدية المطلقة له- تعالى- في حال وجود العالم وفي حال عدمه‏]

فسواء ورد على وتر أو على شفع الحكم فيه واحد فإنك تقول فيه خامس أربعة كما تقول رابع ثلاثة فما زالت الأحدية تصحبه في كل حال فهو مثل‏

قوله كان الله ولا شي‏ء معه وهو الواحد وهو الآن على ما عليه كان‏

فأقام الآن مقام الأعداد والأعداد منها أشفاع ومنها أوتار فإذا أضفت الحق إليها لم تجعله واحدا منها فتقول ثالث اثنين ورابع ثلاثة إلى ما لا يتناهى فتميز بذاته فالذي ثبت له من الحكم ولا عالم ثبت له والعالم كائن فتلك الأحدية المطلقة له في حال وجود العالم وفي حال عدمه‏

[الطائف وتر انفرد بالطواف أو أضاف إليه ركعتين‏]

فالطائف إن انفرد بالطواف كان وترا وإن أضاف إليه الركعتين كان وترا من حيث إنه صلاة يقوم مقام الركعة الواحدة ومن تم طوافه أشبه الصلاة الرباعية لوجود الثمان السجدات التي يتضمنها الأسبوع من السجود على الحجر عند تقبيله بالحس وهي ثمان تقبيلات في كل أسبوع عند الشروع فيه وفي كل شوط عند انقضائه فمن أقام الطواف بهذا الاعتبار على الطريقين جوزي جزاء صلاة الفريضة الرباعية والثلاثية الجامعة للفرض والوتر الذي هو سنة أو واجب فالأولى أن لا يؤخر الركعتين عن أسبوعهما وليصلهما عند انقضاء الأسبوع فإن قرأ في الطواف كان كمن قرأ في الصلاة ومن لم يقرأ فيه كان كمن يرى أن الصلاة تجزئ بلا قراءة

[أدوار الطواف السبع وأفلاك السماوات السبع‏]

واعلم أن هاتين الركعتين عقيب الطواف إنما ولدها فيك الطواف فإن الطواف قام لك مقام الأفلاك التي هي السموات السبع لأنه شكل مستدير فلكي وكذلك الفلك فلما أنشأت سبعة أدوار في الطواف أنشأت سبعة أفلاك أوحى الله في كل سماء أمرها من حيث لا يشعر بذلك إلا عارف بالله فإذا

أطلعك الله على ما أودع في هذه الأشواط الفلكية كنت طائفا

[حركات الأطواف السبعة وآثار الصلاة السبع‏]

ثم إنه جعل حركات السموات التي هي الأفلاك مؤثرة في الأركان الأربعة لا يجاد ما يتولد منها فأنت الأركان الأربعة لأنك مركب من أربعة أخلاط ومجموعهما هو عين ذاتك الحسية التي هي الجسم فأنشأت فيك حركات هذه الأطواف السبعة الصلاة وهي المولدة من أركانك عنها وكانت ركعتان لأن النشأة المولدة مركبة من اثنين جسم ونفس ناطقة وهو الحيوان الناطق فالركعة الواحدة لحيوانيتك والثانية للنفس الناطقة ولهذا جعل الله الصلاة نصفين نصفا له ونصفا للعبد وجعل الله لكل حركة دورية من هذا الأسبوع في الصلاة أثرا ليعرف أنها متولدة عنه فظهر في الصلاة سبعة آثار جسمانية وسبعة آثار روحانية عن حركة كل شوط من أسبوع الطواف أثر فإنه شكل باق وفلك معنوي لا يراه إلا من يرى خلق الموجودات من الأعمال أعيانا فالآثار الموجودة السبعة الجسمانية في نشأة الصلاة القيام الأول والركوع والقيام الثاني وهو الرفع من الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين والسجود الثاني والجلوس للتشهد والأذكار التي في هذه الحركات الجسمانية سبعة هي أرواحها فقامت نشأة الصلاة كاملة

[أرفع ما في النشأة الإنسانية وأرفع ما في نشأة الصلاة]

ولما كان في النشأة الإنسانية أمر اختصه الله وفضله على سائر النشأة الإنسانية وجعله إماما فيها وهو القلب كذلك جعل في نشأة الصلاة أمرا هو أرفع ما في الصلاة وهو الحركة التي يقول فيها سمع الله لمن حمده فإن المصلي فيها نائب عن الله كالقلب نائب عن الله في تدبير الجسد وهو أشرف هيئات الصلاة فإنه قيام عن خضوع عظمت فيه ربك في حضرة برزخية وهي أكمل النشآت لأنها بين سجود وقيام جامعة للطرفين والحقيقتين فلها حكم القائم وحكم الساجد فجمعت بين الحكمين‏

[سلطان فاتحة الكتاب‏]

وأثرها في القراءة في الصلاة أيضا سباعي عن أثر كل شوط في الطواف وهي قراءة السبع المثاني أعني فاتحة الكتاب وسلطانها إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإنها برزخية بين الله وبين عبده فهي جامعة والسلطان جامع وما قبلها لله مخلص وما بعدها للعبد مخلص وأعلى المقامات إثبات إله ومألوه ورب ومربوب فهو كمال الحضرة الإلهية فما تمدح إلا بنا ولا شرفنا إلا به فنحن به وله وهي سبع آيات لا غير وهي القراءة الكافية في الصلاة

[ظهور الحق في الأعيان الوجودية]

وكما أن العبد هو الذي أنشأ في ذاته الأشواط السبعة المستديرة الشكل الفلكية وفي ذاته أثرت إيجاد الصلاة وفي ذاته ظهرت الصلاة بكمالها فلم يخرج عن ذاته شي‏ء من ذلك كله كذلك الأمر في ظهور الحق في الأعيان اكتسب من استعداد كل عين ظهر فيها ما حكم على الظاهر فيها والعين واحدة فقيل فيه طائف أعطاه هذا الاسم هذه الصورة التي أنشأها وهو الطواف وقيل فيه مصل أعطاه هذا الحكم صورة الصلاة التي أنشأها في ذاته عن طوافه فهو هو وما ثم غيره‏

فلو رأيت الذي رأينا *** وصفته بالذي وصفنا

من أنه واحد كثير *** بذا عرفناه إذ عرفنا

فنحن لا وهو ذو ظهور *** فالعين منه والنعت منا

[بيت الله الصحيح الذي لا سدنة عليه‏]

وقد ذكرنا في أول هذا الكتاب ما بقي في الحجر من البيت ولما ذا أبقاه الله فيه وبينا الحكمة الإلهية في ذلك من رفع التحجير والتجلي الإلهي في الباب المفتوح لمن أراد الدخول إليه وذلك هو بيت الله الصحيح وما بقي منه بأيدي الحجبة بني شيبة وقع في باطنه التحجير لأنه في ملك محدث وهو الموجود المقيد فلا بد أن يفعل ما تعطيه ذاته والحديث النبوي في ذلك مشهور والخلفاء والأمراء غفلوا عن مقتضى معنى قوله تعالى حين مسك رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح البيت الذي أخذه من بنى شيبة فأنزل الله تعالى إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها فتخيل الناس أن الأمانة هي سدانة البيت ولم تكن الأمانة إلا مفتاح البيت الذي هو ملك لبني شيبة فرد إليهم مفتاحهم وأبقى صلى الله عليه وسلم عليهم ولاية السدانة ولو شاء جعل في تلك المرتبة غيرهم وللإمام أن يفعل ذلك إذا رأى في فعله المصلحة لكن الخلفاء لم يريدوا أن يؤخروا عن هذه الرتبة من قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فهم مثل سائر ولاة المناصب إن أقاموا فيه الحق فلهم وإن جاروا فعليهم وللإمام النظر فبقي بيت الله عند العلماء بالله لا حكم لبني شيبة ولا لغيرهم فيه وهو ما بقي منه في الحجر

فمن دخله دخل البيت ومن صلى فيه صلى في البيت كذا قال صلى الله عليه وسلم‏

لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

ولا يحتاج العارفون لمنة بنى شيبة فإن الله قد كفاهم بما أخرج لهم منه في الحجر فجناب الله أوسع أن يكون عليه سدنة من خلقه ولا سيما من نفوس جبلت على الشح وحب الرئاسة والتقدم ولقد وفق الله الحجاج رحمه الله لرد البيت على ما كان عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فإن عبد الله بن الزبير غيره وأدخله في البيت فأبى الله إلا ما هو الأمر عليه وجهلوا حكمة الله فيه يقول علي بن الجهم‏

وأبواب الملوك محجبات *** وباب الله مبذول الفناء

(وصل في فصل وقت جواز الطواف)

فمن قائل بإجازة الطواف بعد صلاة الصبح والعصر وبه أقول وسبب ذلك أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وقد استقبل الكعبة وهو يقول يا مالكي أو قال يا ساكني الشك مني هذا البيت لا تمنعوا أحدا طاف به وصلى في أي وقت شاء من ليل أو نهار فإن الله يخلق له من صلاته ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة فمن ذلك الوقت قلت بإجازة الطواف في هذين الوقتين وكنت قبل هذه الرؤيا عندي في ذلك وقفة فإن حديث النسائي الذي يشبهه حديثنا رأيتهم قد توقفوا في الأخذ به فلما رأيت هذه المبشرة ارتفع عني الإشكال وثبت به عندي حديث النسائي وحديث أبي ذر الغفاري والحمد لله ومن قائل بالمنع وقت الطلوع ووقت الغروب خاصة ومن قائل بالكراهة بعد العصر والصبح ومنعه عند الطلوع والغروب ومن قائل بإباحته في الأوقات كلها وهو قولنا إلا أني أكره الدخول في الصلاة حال الطلوع وحال الغروب إلا أن يكون قد أحرم بها قبل حال الطلوع والغروب‏

(تحرير ذلك)

لا يخلو المصلي أن يكون قبلته موضع طلوع الشمس أو غروبها بحيث أن يستقبلها فهنالك أكره له ذلك وأما إذ لم يكن في قبلته فلا بأس وأما عند الكعبة فالحكم له يدور من حيث شاء لا يستقبل الشمس طالعة ولا غاربة وقد فارق الكفار الذين يسجدون لها في الصورة الظاهرة في استقبالها وهو مفارق لهم في الباطن بلا شك ولا ريب سياق الحديثين‏

[سياق حديثى النسائي وأبى ذر]

حديث النسائي‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى في أي وقت شاء من ليل أو نهار

وما خص حال طلوع ولا حال غروب لأن العبد بشهود البيت متمكن أن لا يقصد استقبال مغرب ولا مشرق وليس كذلك في الآفاق وما أحسن تحريه صلى الله عليه وسلم في المصلي إلى السترة أن لا يصمد إليها صمدا وليمل بها يمينا أو شمالا قليلا

حديث أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة

وهذه الأحاديث تعضد رؤيانا

[الله متجل على الدوام لا تقيد تجليه الأوقات‏]

واعلم أن الله متجل على الدوام لا تقيد تجليه الأوقات والحجب إنما نرفع عن أبصارنا قال تعالى فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ وقال ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ يعني المحتضر قال إبراهيم الخليل لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وهو يحب الله بلا شك فالله ليس بآفل فتجليه دائم وتدليه لازم والذي بين ذا وذا إنك اليوم نائم فلا مانع لمن كان الحق مشهده ولهذا لم يمنع في تلك الحالة من ذكر الله والجلوس بين يديه لانتظار الصلاة والدعاء فيه وإنما منع السجود خاصة لكون الكفار يسجدون لها في ذلك الوقت‏

[محال أن يكون أثر الكفر أقوى من أثر الإيمان‏]

وهنا تنبيه على سر معقول وهو أنه من المحال أن يكون أثر الكفر أقوى من أثر الايمان عندنا وعندهم حتى يمنع من ظهوره وحكمه كما يظهر في هذا الأمر من كون سجود الكفار للشمس وهو كفر منع المؤمن من السجود لله والمانع إبداله القوة واعلم أن الأمر في ذلك خفي أخفاه الله إلا عن العارفين فإن الله بهذا المنع أبقى على الكفار بعض حق إلهي بذلك القدر وقع المنع وظهرت القوة في الحكم بمنع المؤمن من السجود في ذلك الوقت لسجود الكفار للشمس وذلك أن الله يقول وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وكذلك فعلوا فإنهم ما عبدوا الشمس إلا لتخيلهم أنها إله فما سجدوا إلا لله لا لعين الشمس بل لعين حكمهم فيها إنها الله ولقد أضافني واحد من علمائهم فأخذت معه في عبادتهم الشمس وسجودهم لها فقال لي ما ثم إلا الله وهذه الشمس أقرب نسبة إلى الله لما جعل الله فيها من النور والمنافع فنحن نعظمها لما عظمها الله بما جعل لها ثم نرجع ونقول فلما علم الحق أنهم ما عبدوا سواه وإن أخطئوا في النسبة والمؤمن لا يعبد إلا الله فأشبه الكافر في إيمانه بالله فكان الأمر مثل الشرع الإلهي ينسخ بعضه بعضا فما

أثر الكفر هنا في الايمان ولا كان أقوى منه بل لما كان الأمر كما ذكرنا فيما كان في الكافر من اعتقاده الإله كان ذا حق ومن نسبة الألوهة للشمس كان كافرا فراعى الحق المعنى الذي قصدوه فمن هنالك ثبت لهم التخصيص بالسجود دون المؤمنين والنسخ لسجود المؤمنين في ذلك الوقت لله فهو أثر إيمان في إيمان لا أثر كفر في إيمان‏

(وصل في فصل الطواف بغير طهارة)

فمن قائل لا يجوز طواف بغير طهارة لا عمدا ولا سهوا ومن قائل يجزئ ويستحب له الإعادة وعليه دم لأنهم أجمعوا على أن الطهارة من سنة الطواف ومن قائل إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم ولا يجزئه إن كان يعلم وبعضهم يشترط طهارة الثوب للطائف كاشتراطه للمصلي والذي أقول به إنه يجوز الطواف بغير وضوء للرجل والمرأة إلا أن تكون حائضا فإنها لا تطوف وإن طافت لا يجزئها وهي عاصية لورود النص في ذلك وما ورد شرع بالطهارة للطواف إلا ما ورد في الحائض خاصة وما كل عبادة تشترط فيها هذه الطهارة الظاهرة

[ما في الوجود بحكم الحقيقة إلا طاهر]

اعلم أنه ما في الوجود حال ليس فيه لله وجه يحفظ عليه وجوده من كل قائم بنفسه بذلك الوجه الإلهي طهارته فما في الوجود بحكم الحقيقة إلا طاهر فإن الاسم القدوس يصحب الموجودات وبه يثبت قوله وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من تفريقكم بين الله وبين عباده ولا ينبغي أن يحال بين العبد وبين سيده ولا يدخل بين العبد والسيد إلا بخير لقيت بعض السياح على ساحل البحر بين مرسى لقيط والمنارة فقال لي إني لقيت بهذا الموضع شخصا من الأبدال مصادفة وهو ماش على موج البحر فسلمت عليه فرد علي السلام وكان في البلاد ظلم عظيم وجور فقلت له يا هذا أ ما ترى إلى ما في البلاد من الجور فنظر إلي مغضبا وقال لي ما لك وعباد الله لا تقل إلا خيرا ولهذا شرع الله الشفاعة وقبل العذر ولا شك أن النجاسة أمر عرضي عينه حكم شرعي والطهارة أمر ذاتي فإن ظهر حكم العرض في وقت ما كمانع الحيض من الطواف فمرجع الأمر إلى ما تقتضيه الذات من الطهارة

[لا تجوز إمامة الفاسق في حال فسقه‏]

أ يكذب المؤمن قال لا إنباء صحيح فإن الكاذب لا يكون صادقا فيما هو فيه كاذب فافهم والحيض كذب النفس بالاتفاق والطواف حالة إيمان فالحائض لا تطوف كما نقول في إمامة الفاسق إنها لا تجوز إمامته في حال فسقه بلا خلاف فإنه من كان فاسقا في حال فسقه ثم توضأ شرعا وأحرم بالصلاة إماما فهو في طاعة لله ولا يجوز لنا أن نطلق عليه في تلك الحال فاسقا فما صلينا خلف إمام فاسق وكذا فعل عبد الله بن عمر الذي يحتجون به في الصلاة خلف الفاسق وأخطئوا فإن الحجاج ليس بفاسق في حال أدائه ما أوجب الله عليه من طاعته في الصلاة

[ما من معصية للمؤمن إلا والإيمان يصحبها]

وهذه مسألة أغفلها الفقهاء ويخبطون فيها وما حصلوا على طائل وقد بينا أنه ما تخلص قط من مؤمن معصية لا تشوبها طاعة أصلا والطاعة قد تخلص فلا تشوبها معصية فما من معصية إلا والايمان يصحبها من المؤمن أنها معصية يحرم عليه فعلها والايمان بكونها معصية طاعة لله فالحجاج أو غيره في حال فسقه مؤمن مطيع بإيمانه فضعفت معصيته أن تقاوم طاعته وفي حال صلاته أو طاعته في فعل ما من أفعاله فليس بفاسق بل هو مطيع فرجح من طمس الله على قلبه الفسق على الايمان والطاعة مع ضعف الفسوق عن الطاعة بما شابها من الايمان بكون ذلك الفعل فسوقا فقالوا لا تجوز إمامة الفاسق بغير المعنى الذي ذكرناه فلو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى لكان الوجه فيه ما قلناه فغاية درجة الفاسق في حال فسقه المسلم أن يكون ممن خلط عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً وفي حال طاعته فليس بفاسق‏

[إنا مأمورون بحسن الظن بالناس‏]

وأعجب ما في هذه المسألة أنا مأمورون بحسن الظن بالناس منهيون عن سوء الظن بعبادي وقد رأينا من علمنا أنه فسق قد توضأ وصلى فلما ذا نطق عليه اسم الفسوق في حال عبادته وأين حسن الظن من سوء الظن به والمستقبل فلا علم لنا به فيه والماضي لا ندري ما فعل الله فيه والحكم لوقت الطاعة التي هو عليها متلبس بها فحسن الظن أولى بالعبد إذا كان ولا بد من الفضول ولقد أخبرني من أثق به في دينه عن رجل فقيه إمام متكلم مسرف على نفسه قال لي دخلت عليه في مجلس يدار فيه الخمر وهو يشرب مع الجماعة ففرغ النبيذ فقيل له نفذ إلى فلان يجي‏ء إلينا بنبيذ فقال لا أفعل فإني ما أصررت على معصية قط وإن لي بين الكأسين توبة ولا أنتظره فإذا حصل في يدي أنظر هل يوفقني ربي فاتركه أو يخذلني فاشربه فهكذا هم العلماء رحمه الله مات هذا العالم وفي قلبه حسرة من كونه لم يلقني واجتمعت به وما عرفني وسألني عني وكان‏

بالأشواق إلى رحمه الله وذلك بمرسية سنة خمس وتسعين وخمسمائة

[الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف والسيئة بمثلها]

ولقد أشهدني الحق في سرى في واقعة وقال لي بلغ عبادي ما عاينته من كرمي بالمؤمن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها والسيئة لا يقاوم فعلها الايمان بها أنها سيئة فما لعبادي يقنطون من رحمتي ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وأنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا

(وصل في فصل أعداد الطواف وهي ثلاثة القدوم والإفاضة والوداع)

[رمز أعداد الطواف‏]

طواف القدوم يقابل طواف الوداع فهو كالاسم الأول والآخر إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ وانتهت دورة الملك وطواف الإفاضة بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يخرج طواف القدوم لؤلؤ المعارف في المناسك وطواف الوداع الْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلطواف الزيارة وجه إلى طواف القدوم فقد يجزئ عنه ووجه إلى طواف الوداع فقد يجزئ عنه وقد قال العلماء بالقولين جميعا وسيأتي ذكرها في هذا الفصل إن شاء الله‏

[أسرار أعداد الطواف‏]

وقد تقدم الاعتبار في الطواف وما ينشأ منه فطواف القادم كالعقل إذا أقبل على الله بالاستفادة وطواف الوداع إذا أراد الخروج إلى النفس بالإفادة كالرسول صلى الله عليه وسلم يقبل على الروح الأمين عند ما يلقي إليه من الوحي الإلهي ثم الرسول يلقي إلى الخلق عند مفارقة الروح لتبليغ الرسالة فالرسول بين طواف قدوم ووداع وما بينهما طواف زيارة وكانت ثلاثة أطواف لما قررناه إن ظهور العلوم لا يكون إلا عن ثلاث مراتب فكرية كانت أو وهبية وقد بينا لك أن البرزخ أبدا هو أقوى في الحكم لجمعه بين الطرفين فيتصور بأي صورة شاء ويقوم في حكم أي طرف أراد ويجزئ عنهما فله الاقتدار التام ويظهر سر ما قلنا في حكم ظاهر الشرع فيه‏

[أحكام أعداد الطواف‏]

فمن ذلك أنهم أجمعوا على أن الواجب من هذه الأطواف الثلاثة الذي بفوته يفوت الحج هو طواف الإفاضة فإن المعرف إذا قدم مكة بعد الرمي وطواف الإفاضة أجزأه عن طواف القدوم وصح حجه وإن المودع إذا طاف في زعمه طواف الوداع ولم يكن طاف طواف الإفاضة كان ذلك الطواف طواف إفاضة أجزأ عن طواف الوداع لأنه طواف بالبيت معمول به في وقت طواف الوجوب الذي هو الإفاضة فقبله الله طواف إفاضة وأجزأ عن طواف الوداع كما ذكرنا فيمن صام في رمضان متطوعا أن وجوب رمضان يرده واجبا لحكم الوقت ولم تؤثر فيه النية وجمهور العلماء على أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد قال بعضهم أجمعوا على إن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج إلا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة واستحب بعض العلماء لمن جعل طواف الإفاضة يجزئ عن طواف القدوم أن يرمل فيه وأما المكي فما عليه سوى طواف واحد وأما المتمتع فإن لم يكن قارنا فعليه طوافان وإن كان قارنا فطواف واحد هذا عندي وقال قوم على القارن طوافان انتهى الجزء السابع والستون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(وصل في فصل حكم السعي)

فمن قائل إنه واجب إن لم يسع كان عليه الحج ومن قائل إنه سنة فإن رجع إلى بلده ولم يسع فعليه دم ومن قائل إنه تطوع ولا شي‏ء على تاركه‏

[الكمال غير مجبور على النساء ولهن أصل في التشريع‏]

لما كان الكمال غير محجور على النساء وإن كانت المرأة أنقص درجة من الرجل فتلك درجة الإيجاد لأنها وجدت عنه وذلك لا يقدح في الكمال فإن الرجل الذي هو آدم نسبته إلى ما خلق منه وهو التراب نسبة حواء إليه ولم تمنع هذه النسبة الترابية لآدم عن الكمال الذي شهد له به وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكمال لمريم وآسية فلما اعتبر الله هذا في المرأة جعل لها أصلا في التشريع من حيث لم تقصد فطافت بين الصفا والمروة هاجر أم إسماعيل عليه السلام وهرولت في بطن الوادي سبع مرات تنظر إلى من يقبل من أجل الماء لعطش قام بابنها إسماعيل فخافت عليه من الهلاك والحديث مشهور فجعلها الله أعني جعل فعل هاجر من السعي بين الصفا والمروة وقرره شرعا من مناسك الحج‏

[الخواطر النفسية إذا أثرت الشفقة والسعي في حق الغير]

فمن رآه واجبا عظم فيه الحرمة ولم ير أنه يصح الحج بتركه كذلك الخواطر النفسية إذا أثرت الشفقة والسعي في حق الغير أثر القبول في الجناب الإلهي فقال يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ الذي خرجت منه إلى تدبير هذا

البدن بالنفخ الإلهي لأن الرجوع لا يكون إلا لحال خرج منه وإلا فما هو رجوع فإنه ما قال لها أقبلي وإنما قال لها ارجعي ولا يكون الأمر إلا كذلك فرجعوها كمالها

[السعي في الإفاضة من عرفات يكون بالسكينة والوقار]

لما قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ الله فوجب السعي لنداء الحق بالواسطة فكيف وقد نادى الحق عباده في كتابه المنزل علينا فقال ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فوجب السعي غير أن الشريعة التي شرع الله في السعي إلى الجمعة أن يكون بالسكينة والوقار كالسعي في الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة بالسكينة

فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للناس لما رآهم أسرعوا في الإفاضة من عرفات التي هي موقف حصول المعرفة بالله فلما أفاضوا عن أمره إلى المزدلفة وهو مقام القربة والاجتماع بالمعروف فيها وهو تجل خاص منه لقلوب عباده ولهذا سميت جمعا ومزدلفة من الزلفى وهو القرب فقال لهم رسول الله السكينة السكينة

كما

قال في السعي إلى الجمعة لا تأتوها وأنتم تسعون أي مسرعون في السعي وائتوها وعليكم السكينة في سعيكم والوقار

فاجتمعت الجمعة وجمع في هذه الحقيقة الجمعية به تعالى في المقامين وقوله والوقار سعى في سكون وتهد مشي المثقل لأنه من الوقر وهو الثقل فإن المعرفة بالله تعطي ذلك فإنه من عرفه شاهده ومن شاهده لم يغب فإذا دعاه من مقام إلى مقام فهو لا يسرع إلا من أجله وهو مشاهد له فإنه به يسعى فيمشي على ترسل مشي المثقل فهذا معنى الوقار فإنه لا يكون السكون في الأشياء إلا عن هيبة وتعظيم لا عن إعياء وتعب فإن السعي بالله لا تعب فيه ولا نصب‏

(وصل في فصل صفة السعي)

قال جمهور علماء الشريعة إن من سنة السعي بين الصفا والمروة أن يدعو إذا رقى في الصفا مستقبل البيت ثم ينحدر فإذا وصل إلى الميل الأخضر وهو بطن الوادي رمل إلى أن يصل إلى الميل الثاني الأخضر وذلك كان حد الصعود إلى المروة وحد سعة الوادي وإنما اليوم قد ارتدم بما جاءت به السيول ولهذا جعل من جعل الميلين علامة لبطن الوادي ليكون حد الرمل المشروع في السعي ثم يسعى من غير إسراع إذا جاز الميل الثاني على صورة ما انحدر من الصفا فإذا وصل إلى المروة فعل في المروة مثل ما فعل في الصفا ثم رجع يطلب الصفا من المروة فيكون حاله مثل الحال الأول في الرمل والهدو حتى يكمل سبع مرات‏

[بدء السعي بالصفا لأن الله تهمم بها في الذكر]

وإنما يبدأ بالصفا لأن الله تهمم بها في الذكر فبدأ بها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا واقترأ الآية ثم دعا بعدها وختم بالمروة

لما كان الأول نظير الآخر وكان حكمهما على السواء ختم بها لأن بها تكمل السبعة لأن الشي‏ء المقابل هو من مقابله على خط السواء كما

قال صلى الله عليه وسلم لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها

لأن استقبال الشي‏ء واستدباره على خط واحد وكذلك لما سكت إبليس في إتيانه العبد للاغواء عن الفوقية سكت عن التحت لأنه على خط استواء مع الفوق لأنه لعنه الله رأى نزول الأنوار على العبد من فوقه فخاف من الاحتراق فلم يتعرض في إتيانه إلى الفوق ورأى التحت على خط استواء من الفوق وإن ذلك النور يتصل بالتحت للاستواء لم يأت من التحت والعلة واحدة وقال عطاء إن جهل فبدأ بالمروة أجزأ عنه وقال بعضهم إن بدأ بالمروة الغي ذلك الشوط وقد ذكرنا في حديث جابر المتقدم ما يدعو به إذا رقى على الصفا والمروة من فعله صلى الله عليه وسلم‏

[اعتبار إساف ونائلة]

كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة فلا يغفلها الساعي بين الصفا والمروة فعند ما يرقى في الصفا يعتبر اسمه من الأسف وهو حزنه على ما فاته من تضييع حقوق الله تعالى عليه ولهذا يستقبل البيت بالدعاء والذكر ليذكره ذلك فيظهر عليه الحزن فإذا وصل إلى المروة وهو موضع نائلة يأخذه من النيل وهو العطية فيحصل نائلة الأسف أي أجره ويفعل ذلك في السبعة الأشواط لأن الله امتن عليه بسبع صفات ليتصرف بها ويصرفها في أداء حقوق الله لا يضيع منها شيئا فيأسف على ذلك فيجعل الله له أجره في اعتبار نائلة بالمروة إلى أن يفرغ‏

[بطون الأودية مساكن الشياطين‏]

ثم إنه يرمل بين الميلين وهو بطن الوادي وبطون الأودية مساكن الشياطين ولهذا تكره الصلاة فيها وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام في بطن الوادي عن وقت صلاة الصبح قال ارتفعوا فإنه واد به شيطان‏

فإن فيه إصابتهم الفتنة فيرمل في بطن الوادي ليخلص معجلا من الصفة الشيطانية والتخلص من صحبته فيها إذ كانت مقرة كما يفعل في بطن محسر بمنى يسرع في الخروج منه لأنه واد من أودية النار التي خلق الشيطان منها وكذلك الإسراع في بطن عرنة وهو وادي عرفة وهو موضع وقوف إبليس يوم عرفة بما وصفه الله‏

فيه في ذلك اليوم من الذلة والصغار والبكاء لما يرى من رحمة الله وعفوه وحط خطايا الحاج من عباده‏

[الساعي بين الصفا والمروة هو من الله إلى الله مع الله بالله‏]

ثم إن السعي في هذا الموضع جمع الثلاثة الأحوال وهو الانحدار والترقي والاستواء وما ثم رابع فحاز درجة الكمال في هذه العبادة أعطى ذلك الموضع وهو في كل حال منها سالك فانحداره إلى الله وصعوده إلى الله واستواءه مع الله وهو في كل ذلك بالله لأنه عن أمر الله في الله فالساعي بين الصفا والمروة من الله إلى الله مع الله بالله في الله عن أمر الله فهو في كل حال مع الله لله‏

[لا أعلى في الإنسان من الصفة الجمادية]

والصفا والمروة صفة جمادية مناسبة للحجارة التي ظهر بترتيبها شكل البيت المخصوص فإنها بذلك الشكل أعطت اسم البيت ولو لا ذلك لم يوجد اسم البيت وقد بينا لك أن الجمادات هي أعرف بالله وأعبد لله من سائر المولدات وإنها خلقت في المعرفة لا عقل لها ولا شهوة ولا تصرف إلا إن صرفت فهي مصرفة بغيرها لا بنفسها ولا مصرف إلا الله فهي مصرفة بتصريف الله والنبات وإن خلق في المعرفة مثلها فإنه نزل عن درجتها بالنمو وطلب الرفعة عليها بنفسه حين كان من أهل التغذي وهو يعطي النمو وطلب الارتفاع والجماد ليس كذلك ليس له العلو في الحركة الطبيعية لكن إذا رقى به إلى العلو وترك مع طبعه طلب السفل وهو حقيقة العبودية والعلو نعت إلهي فإنه هو العلي فالحجر يهرب من مزاحمة الربوبية في العلو فيهبط من خشية الله وبهذا أخبر الله عنه فقال وإِنَّ مِنْها لما ذكر الحجارة لَما يَهْبِطُ من خَشْيَةِ الله فجعل هبوط الطبيعي من خشية فهو منشا من الخشية لله والشهود له ذاتي وإِنَّما يَخْشَى الله من عِبادِهِ الْعُلَماءُ به فمن خشي فقد علم من يخشى وهذا هو مذهب سهل بن عبد الله التستري فلا أعلى في الإنسان من الصفة الجمادية ثم بعدها النباتية ثم بعدها الحيوانية وهي أعظم تصريف في الجهات من النبات ثم الإنسان الذي ادعى الألوهة فعلى قدر ما ارتفع عن درجة الجماد حصل له من تلك الرفعة صورة إلهية خرج بها عن أصله فالحجارة عبيد محققون ما خرجوا عن أصولهم في نشأتهم‏

[الأحجار محل لإظهار المياه التي هي معادن الحياة]

ثم إن الله جعل هذه الأحجار محلا لإظهار المياه التي هي أصل حياة كل حي في العالم الطبيعي وهي معادن الحياة وبالعلم يحيى الإنسان الميت بالجهل فجمعت الأحجار بالخشية وتفجر الأنهار منها بين العلم والحياة قال تعالى وإِنَّ من الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ مع اتصافها بالقساوة وذلك لقوتها في مقام العبودية فلا تتزلزل عن ذاتها لأنها لا تحب مفارقة موطنها لما لها فيه من العلم والحياة اللتين هما من أشرف الصفات‏

[ما يناله الساعي من الصفا إلى المروة]

فنال الساعي من الصفا إلى المروة وهما الحجارة ما تعطيه حقيقة الحجارة من الخشية والحياة والعلم بالله والثبات في مقامهم ذلك فمن سعى ووجد مثل هذه الصفات في نفسه حال سعيه فقد سعى وحصل نتيجة سعيه فانصرف من مسعاه حي القلب بالله ذا خشية من الله عالما بقدره وبما له ولله وإن لم يكن كذلك فما سعى بين الصفا والمروة

(وصل في فصل شروطه)

اتفق العلماء أن من شرطه الطهارة من الحيض فأما الطهارة من الحدث فكلهم قالوا ليس من شرطه الطهارة من الحدث إلا الحسن‏

[لو لا حدث العبد ما صحت عبوديته‏]

فاعلم أنه لما قررنا في فصل السعي ما قررنا وفي اعتباره الحجارة من حكم الصفا والمروة لذلك اتفقوا أنه لا يشترط الطهارة من الحدث في هذا النسك لأنه عبد محض فيها ولم تصح له هذه العبودة إلا بحدثه فلو لا حدثه ما صحت عبوديته فإذا تطهر من حدثه خرج عن حقيقته وادعى المشاركة في الربوبية بقدر ما خرج فإن كان طهرا عاما كالغسل كان أبعد له من حقيقته وإن كان طهرا خاصا كالوضوء فهو أقرب والأخذ بالمناسب أتم في الحقائق‏

[لا بد لكل موجود حي من نسبة فعل إليه‏]

وأما من يرى الطهارة في هذا النسك فإنه يقول لا بد لكل موجود حي من نسبة فعل إليه على أي وجه كان ولا أكثر محدث بقي على أصله أتم من الحجارة ومع هذا فإن الله وصفها بالخشية وهو فعل نسب إليها أي قيل إنها تخشى فينبغي أن تتطهر من هذه النسبة لا من الخشية لتكون الخشية من الله فيها وكذلك التشقق نسب إليها لخروج المياه فلا بد من التطهير من هذه النسب ولهذا نزع الحسن إلى اشتراط الطهارة في هذا الشك وهو حسن مثل اسمه أي هو مذهب حسن‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يذكر الله إلا على طهر أو قال طهارة

ولا بد فيه من ذكر الله فالقول بالطهارة أولى والحسن عندنا من أئمة طريق الله جل جلاله ومن أهل الأسرار والإشارات‏

(وصل في فصل ترتيبه)

اتفق العلماء أن السعي ما يكون إلا بعد الطواف بالبيت وأنه من سعى قبل الطواف يرجع فيطوف وإن خرج عن مكة فإن جهل ذلك حتى أصاب النساء في العمرة أو في الحج كان عليه حج قابل والهدى أو عمرة أخرى وقال بعضهم لا شي‏ء عليه وقال بعضهم إن خرج عن مكة فليس عليه أن يعود وعليه دم وبه أقول‏

[عبودية الاضطرار والوفاء بمقامها]

اعلم أن الله لما دعانا ما دعانا إلا أن نقصد البيت فلا ينبغي أن نبدأ إذا وصلنا إليه بغير ما دعانا إليه ولا نفعل شيئا حتى نطوف به فإذا قصدناه بالصفة التي أمرنا بها حينئذ تصرفنا بعد ذلك على حد ما رسم لنا في سائر المناسك إن كنا عبيد اضطرار ووفينا بمقامنا من العبودية وهكذا فعل المشرع صلى الله عليه وسلم الذي‏

قال لنا خذوا عني مناسككم‏

وقال الله لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وقال إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وقال من رغب عن سنتي فليس مني‏

فأبان بفعله صلى الله عليه وسلم عن مراد الله منا في هذه العبادة هذا هو التحقيق‏

[الإدلال خروج عن الإذلال‏]

فإن اتسع العبد إدلالا بالدال اليابسة وهو عندنا خروج عن الإذلال بالذال المعجمة من الذلة لما خلقه الله على الصورة وهي تقتضي العزة أراد أن يكون له في الفعل اختيار وبهذه الإرادة كلف ليصح ظهوره بالصورة إذا اختار لأنه علم أنه لا بد لها من الحكم في موطن ما فقدم السعي وقال وإن دعانا إلى بيته فلا بد من الوصول إليه والطواف به فإنه ما حجر علينا أن لا نمر بغير البيت في طريقنا فلو حجر وقفنا عند تحجيره فدل سكوته على ذلك أنه خيرنا إذ لا بد من الطواف بالبيت لأنه أمرنا بذلك فقال ولْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فجعلنا الحكم في تقديم السعي لمكان خلقنا على الصورة ليكون لها حكم الاختيار والاختبار ووفاء بمقامها ومراعاة له فإنه يقول عن نفسه ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ونحن على الصورة فلا بد من هذه الحقيقة أن يكون لها أثر ومع هذا فالأولى أن نصرف اختيار الصورة منه في غير هذا الموطن لما تقدم من بيان الشارع الذي هو العبد المحقق محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقدم السعي على الطواف ولا المروة على الصفا في السعي وقال الله لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله والْيَوْمَ الْآخِرَ ... ومن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فلم يذم أدبا معنا لنتعلم بل نزه نفسه بالغنى عما دعاهم إليه وأنهم إن أجابوا لذلك فإن الخير الذي فيه عليهم يرجع والله غني عنه وبهذا وجد رخصة من قدم السعي ثم أتبعه بالحميد أي هو أهل الثناء بالمحامد في الأولى والآخرة فله الحمد على كل حال سواء تحركت يا هذا بالصورة فاخترت لما تعطيه قوة الصورة أو تحركت عبدا مضطرا فإن الحمد لله في كل ذلك يقول الله بالحال لو لا صورتي ما اخترت ولم تكن مختارا فصورتي هي التي كانت لها الخيرة لا لك إقامة عذر للعبد وهذا من كرم الله فلا حرج فلهذا لم يعلق به الذم ولا تعرض لذكره في عدم الاقتداء والتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ما حجر كما قلنا وهذا تنبيه من الله غريب في الموقع حيث لم يذم ولا حمد بل جعله مسكوتا عنه‏

(وصل في فصل ما يفعله الحاج في يوم التروية إذا كان طريقة على منى)

يوم التروية هو يوم الخروج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة والمبيت فيه ويصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من اليوم التاسع الذي هو يوم عرفة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء على أن ذلك ليس بشرط في صحة الحج فإذا أصبح يوم عرفة غدا إلى عرفة ووقف بها

[الحاج بين علم الحرم ومعرفة الحل‏]

لما وصل الحاج إلى البيت ونال من العلم بالله ما نال ونال في المبايعة والمصافحة ليمين الله تعالى ما يجده أهل الله في ذلك وحصل من المعارف الإلهية وطوافه بالبيت وسعيه وصلاته بمنى أراد الله أن يميز له ما بين العلم الذي حصل له في الموضع المحرم وبين المعرفة الإلهية التي يعطيه الله في الحل وهو عرفة فإن معرفة الحل تعطي رفع التحجير عن العبد وهو في حال إحرامه محجور عليه لأنه محرم بالحج فيجمع في عرفة بين معرفته بالله من حيث ما هو محرم وبين معرفة الله من حيث ما هو في الحل لأن معرفة الله في الحرم وهو محرم معرفة مناسبة النظير فإنه بالإحرام محجور عليه وبالحرم محجور عليه وهذا خلاف حكم عرفة فإنه محرم في حل فهو في عرفة أبعد مناسبة وأشد مشقة لأنه تقابل ضد وتمييز فإنه لم يحرم الحل بإحرام الحاج ولم يحل الحاج من إحرام بإحلال الموضع فلم يؤثر أحدهما في الآخر فتميز العبد بالحجر لبقائه على إحرامه ليس فيه من الحق المختار شي‏ء وتميز الحق بالحل أنه غير محجور عليه فهو يفعل ما يريد لما يتوهمه الوهم بدليل العقل أن الحق يحكم على الفعل منه علمه به فما يبدل وهذا نقيض‏

الاختيار فأشبه المحجور عليه فيحصل له في عرفة في الحل معرفة إزالة هذا لتحجير الذي أثبته الوهم بدليل العقل فإنه في هذا الموطن من العلم بالله ساوى الوهم العقل فحجر على الله وجعلاه تحت حكم علمه في الشي‏ء في مذهب من يرى أن العلم صفة زائدة على ذاته قائمة به تحكم على ذاته بحسب ما تعلقت به فمن قال إن علمه ذاته لا يلزمه هذا وهذه معرفة بالله بديعة عجيبة لا يعرف قدرها إلا من عرفها

[يوم الحج الأكبر يوم الحصول على الأمر النهارى والتجلي الليلى‏]

فلما أراد الحاج حصول هذه المعرفة مر في طريقه بمنى وهو موضع الحج الأكبر وأراد أن يذوق طعمه قبل الوقوف بعرفة إذ كان مرجعه إليه يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر فإنه في ذلك الزمان الأول يجتمع فيه من وقف بعرفة ومن وقف بالمزدلفة فكان معظم الحاج بمنى فصلى بها وبات ليذوق ذلك في حكم النهار وحكم الليل فيحصل بين الأمر النهاري والتجلي الليلي وما يحصل في أوقات الصلوات من الأمر الخاص في هذا الموطن حتى يرى إذا رجع إليها بعد الوقوف هل يتساوى الذوق في ذلك أو يتغير عليه الحال لتأثير عرفة والمزدلفة فيه فكان مبيته وقعوده بمنى حالة اختيار وتمحيص ليكون من ذلك على علم في المال بخلاف المعرف فإنه لا يحصل له ذلك فلا يعرف هل يتغير حكم منى بعد عرفة عن حكمه قبل عرفة أم لا فهذا كان سبب ذلك‏

(وصل في فصل الوقوف بعرفة)

أما الوقوف بعرفة فإنهم أجمعوا على أنه ركن من أركان الحج وأن من فاته فعليه الحج من قابل والهدى في قول أكثرهم ونحن لا نقول بالهدي لمن فاته فإنه ليس بمتمتع لأنه ما حج مع عمرته في سنة واحدة والسنة في يوم عرفة أن يدخلها قبل الزوال فإذا زالت الشمس خطب الإمام الناس ثم جمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر ثم وقف حتى تغيب الشمس هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم و

[إمامة الحج هي للسلطان الأعظم‏]

إمامة الحج هي للسلطان الأعظم لا خلاف بينهم في ذلك وأنه يصلي وراءه برا كان أو فاجرا وقد قدمنا إنه بر في وقت صلاته فما صليت إلا خلف بر ولا كان أمامك إلا برا فلا فائدة للفجور والفسق الذي يذكره علماء الرسوم في هذه المسألة وقد قدمنا الكلام فيها

[من السنة يوم عرفة أن نأتى إلى المسجد مع الامام‏]

وأن من السنة علينا في ذلك اليوم أن نأتي إلى المسجد مع الإمام للصلاة ويعتبر في ذلك المشي بالله مع الله إلى الله في بيت المعرفة لأنه مسجد في عرفة وهو مسجد عبودية ولا يصح أن يكون المسجد إلا موطن عبودية لأن السجود هو التطأطؤ وهو نزول من أعلى إلى أسفل وبه سمي الساجد ساجدا لنزوله من قيامه‏

[مسجد عرفة هو بيت المعرفة بالله وبالنفس‏]

فيعطيه مسجد عرفة المعرفة بنفسه ليكون له ذلك سلما إلى معرفة ربه فإنه‏

من عرف نفسه عرف ربه‏

الذي سجد له والمعرفة تطلب في التعدي أمرا واحدا فهو تعلقه أي تعلق علم العبد ومعرفته بأحدية الله خاصة فلو لم يقل عرفة وقال ما يدل على العلم كما دل عرفة على العلم لم نجعل تعلقه بالأحدية وكنا نجعله بأمر آخر

[الإنسان يطلب في معرفة نفسه شفعيتها من حيث أحديتها]

فعلمنا إن الإنسان يطلب في معرفة نفسه شفعيتها من حيث أحديتها التي تمتاز بها معرفة أحدية الحق إذ لا يعرف الواحد إلا من هو واحد فبأحديتك في شفيعتك عرفت أحديته تعالى فجاء في المعرفة باسم عرفة لأجل القصد بمعرفة أحدية الخالق لأنه لا أحدية له في غير الذات من المناسبات إلا أحدية الخالق بمعنى الموجد ولذلك تمدح بها وجعلها فرقانا بين من ادعى الألوهية أو ادعيت فيه فقال أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فلو وقعت المشاركة في الخلق لما صح أن يتخذها تمدحا ولا دليلا مع الاشتراك في الدلالة هذا لا يصح فيعلم قطعا إن الخالق صفة أحدية لله لا تصح لأحد غير الله فلهذا كانت معرفة الله في عرفة معرفة أحدية إذا لمعرفة هذا نعتها في اللسان الذي خوطبنا به من الله فإذا عرفت هذا فقد عرفت‏

(وصل في فصل الأذان)

اعلم أن العلماء اختلفوا في وقت أذان المؤذن بعرفة الظهر والعصر فقال بعضهم يخطب الإمام حتى يمضي صدر من خطبته أو معظمها ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب وقال قوم يؤذن إذا أخذ في الخطبة الثانية وقال قوم إذا صعد الإمام المنبر أمر المؤذن بالأذان فاذن كالجمعة فإذا فرغ المؤذن قام الإمام يخطب وعلى هذا القول رأيت العمل اليوم وهو مذهب أبي حنيفة والأول مذهب مالك والثاني قيل إنه مذهب الشافعي وقد حكي عن مالك أنه قال كما قال أبو حنيفة حكاه ابن نافع عن مالك والحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام وجمع بين الظهر والعصر ولم ينتقل بينهما

[حقيقة الأذان الإعلام لا الذكر]

حقيقة الأذان الإعلام لا الذكر وقد يكون أعلاما بذكر لذكر أيضا فكله ذكر

إلا الحيعلتين فإنه نداء بأمر إلى عبادة معينة فمن راعى الجمع في عين الفرق جعل لهما أذانا واحدا وإقامتين ومن راعى الفرق بين الظهر والعصر جعل في الجمع حكم التفرقة فقال بأذانين وإقامتين ولهذا وقع الخلاف فقال قوم بأذانين وإقامتين وقال قوم بأذان واحد وإقامتين فمن راعى الصلاة جعله بعد الخطبة ومن راعى سماع الخطبة جعله قبل الخطبة ومن راعى كونه ذكر الله بصورة الأذان كالذي أمر أن يقول مثل ما يقول المؤذن على أنه ذاكر الله لا مؤذن فإن القائل مثل المؤذن لا يقال فيه إنه مؤذن إنما هو ذاكر بصفة الأذان فهذا يقول بالأذان في نفس الخطبة ويكتفي بقرينة حال قصد الناس عرفة في ذلك اليوم ليس لهم شغل إلا الاهتمام بالأفعال التي تلزمهم في ذلك اليوم فمنها استماع الخطبة والصلاة فأغنى عن الأذان الذي هو الإعلام إلا أن يقصد أعلاما بدخول وقت الصلاة لمن يجهل ذلك فيكون أذانا بذكر

[ذكر الموفقين من العلماء بالله‏]

فإن الذكر في طريق الله لا يختص بالقول فقط بل تصرف العبد إذا رزق التوفيق في جميع حركاته لا يتحرك إلا في طاعة الله تعالى من واجب أو مندوب إليه ويسمى ذلك ذكر الله أي لذكره في ذلك الفعل أنه لله بطريق القربة سمي ذكرا

قالت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يذكر الله على كل أحيانه‏

فعمت جميع أحواله في يقظة ونوم وحركة وسكون تريد أنه ما تصرف ولا كان في حال من الأحوال إلا في أمر مقرب إلى الله لأنه جليس الذاكرين له فجميع الطاعات كلها من فعل وترك إذا فعلت أو تركت لإجل الله فذلك من ذكر الله أي الله ذكر فيها ومن أجله فعلت أو تركت على حكم ما شرع فيها وهذا هو ذكر الموفقين من العلماء بالله‏

[الفرق بين صلاة الجمعة والصلاة في عرفة]

وأجمع العلماء على إن الإمام لو لم يخطب يوم عرفة قبل الصلاة إن صلاته جائزة بخلاف الجمعة فهذا فرق بين الجمعة وبين الصلاة في عرفة هذا هو ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما خطب قبل الصلاة كما أجمعوا على إن القراءة في هذه الصلاة سر لا جهر بخلاف الجمعة

[الخطيب في يوم عرفة مذكر الحق في قلب العبد]

فالخطيب في هذا اليوم مذكر الحق في قلب العبد وواعظه وجوارحه كالجماعة الحاضرين سماع تلك الخطبة فهو يحرضهم على طاعة الله ويعرفهم أن الله ما دعاهم إلى هذا الموطن للوقوف بين يديه إلا تذكرة لقيام الناس يوم القيامة لرب العالمين ويعرفهم أن الله يأتيهم في هذا اليوم بخلاف إتيانه يوم القيامة فإن ذلك الإتيان إنما هو للفصل والقضاء وتميز الفرق بعضها من بعض بسيماهم واليوم إتيانه للواقفين في هذا الموطن إتيان بمغفرة ورحمة وفضل وإنعام ينال ذلك الفضل الإلهي في هذا اليوم من هو أهله يعني المحرمين بالحج ومن ليس من أهله ممن شاركهم في الوقوف والحضور في ذلك اليوم وليس بحاج فحكمهم كالجليس مع القوم الذين لا يشقى جليسهم قال تعالى للملائكة في أهل مجالس الذكر فيمن جاء لحاجة له لا للذكر إنهم القوم لا يشقى جليسهم فعمتهم مغفرة الله ورضوانه وضاعف الله للمحرمين من حيث إنهم أهل ذلك الموقف ما تستحقه الأهلية هذا كله وأمثاله يشعر العبد به نفسه كما ينبغي للخطيب أن بذكر الناس بمثل هذا الفضل الإلهي لتكون عبادتهم في ذلك اليوم شكر الله تعالى وينسون ما هم فيه من الشعث والتعب في جنب ما حصل لهم من الله‏

[صلاة العارفين جمعا بعرفة]

ثم يقومون للصلاة بعد الفراغ من الخطبة فيصلون في ذلك الموطن صلاة من هو بعرفة في حال كونهم شعثا غبرا عرايا من المخيط حاسرين عن رءوسهم واقفين على أقدامهم بين يدي رب عظيم فيصلون في ذلك اليوم جمعا صلاة العارفين كما قلنا

صلاة العارفين لها خشوع *** ومسكنة وذل وافتقار

وفاعلها وحيد في شهود *** عليه في شهادته اضطرار

[الذكر النفسي إشعار لتحقيق الذاكر بالحق‏]

ولما كانت حالته في هذا اليوم خاصة به بينه وبين ربه في صلاته تعين عليه أن تكون قراءته سرا وهو الذكر النفسي إشعارا لتحققه بالحق في ذلك الموطن فإنه إذا ذكره في نفسه والقرآن ذكر ذكره الحق في نفسه من حيث لا يشعر العبد بأن الله ذكره فإن الله إذا ذكره في نفسه فذكره في حضرة أزلية لا حدوث فيها فكان للعبد بهذا الذكر قدم في الأزل حيث أحضره الحق في نفسه بالذكر فإنه إذا ذكره في ملأ فقد ذكره في حضرة حدوث والحدوث صفة العبد فما زاد منزلة بذلك إلا كونه ذكرا خاصا وموطن عرفة عظيم فكانت القراءة فيه في الصلاة نفسية لتحصل هذه المنزلة في ذلك اليوم‏

(وصل في فصل) فإن كان الإمام مكيا

فاختلفوا هل يقصر أم لا هنا وبمنى وبالمزدلفة فمن قائل بالقصر ولا بد في هذه الأماكن كان مكيا أو لم يكن وكان من أهل الموضع أو لم يكن ومن قائل لا يقصر إلا إن كان مسافرا

[سر الإتمام والقصر في الصلاة يوم عرفة]

فمن راعى السفر أراد أن يناجي الحق تعالى في هذه الصلاة في مقام الوحدانية فيجعل للحق الركعة التي يناجيه منها من حيث أحديته ويجعل لنفسه الركعة الثانية التي يناجيه فيها من حيث أحدية العبد التي بها عرف أحدية الحق في يوم عرفة لتعدي هذا الفعل إلى أمر واحد ومن راعى الإتمام جعل للحق ركعتين الواحدة من حيث ذاته تعالى والثانية من حيث ما هو معلوم لنا بنسبة خاصة تقضي بأن يوصف بأنه معلوم لنا إذ قد كان غير موصوف بأنه معلوم إذ لم يكن لنا وجود في أعياننا فلم يكن ثم من يطلب منه أن يعرفه ويجعل الركعتين الأخريين الواحدة منها لذات العبد من حيث عينه والركعة الثانية من حيث إمكانه الذي يعطيه الافتقار إلى مرجحه في انتسابه إليه وهذه معرفة لدليل والمشاهدة فإنها دليل أيضا فإن المشاهدة طريق موصلة إلى العلم بالمشهود والفكر طريق موصل إلى العلم بالله أيضا من حيث استقلال العقل به وإن لم يشهد فهذا سر الإتمام في الصلاة والقصر لما يعطيه مكان عرفة من المعرفة بالله في الصلاة بهذا المكان‏

(وصل في فصل الجمعة بعرفة)

اختلف العلماء في وجوب الجمعة ومتى تجب فقيل لا تجب الجمعة بعرفة وقال آخرون ممن قال بهذا القول إنه اشترط في وجوب الجمعة أن يكون هنالك من أهل عرفة أربعون رجلا ومن قائل إذا كان أمير الحاج ممن لا يفارق الصلاة بمنى ولا بعرفة صلى بهم فيهما الجمعة إذا صادفها وقال قوم إذا كان وإلى مكة يجمع بهم والذي أقول به إنه يجمع بهم سواء كان مسافرا أو مقيما وكثيرين أو قليلين مما ينطلق عليهم في اللسان اسم جماعة

[واقعة وقعت لابن عربى ليلة كتابة هذا الوجه من الفتوحات المكية]

واقعة وقعت لنا في ليلة كتابتي هذا الوجه وهي مناسبة لهذا الباب كنت أرى فيما يراه النائم شخصا من الملائكة قد ناولني قطعة من أرض متراصة الأجزاء ما لها غبار في عرض شبر وطول شبر وعمق لا نهاية له فعند ما تحصل في يدي أجدها قوله تعالى وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلى قوله واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ فكنت أتعجب ما كنت أقدر إن أنكر أنها عين هذه الآيات ولا أنكر أنها قطعة أرض وقيل لي هكذا أنزل القرآن أو أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم فكنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول لي هكذا أنزلت علي فخذها ذوقا وهكذا هو الأمر فهل تقدر على إنكار ما تجده من ذلك قلت لا فكنت أحار في الأمر حتى قلت لغلبة الحال علي في ذلك‏

ما ثم إلا حيرة عمت *** كلي وبعضي وهي من جملتي‏

والله ما ثم حديث سوى *** هذا الذي قد شهدت مقلتي‏

فما أرى غيري وما هو أنا *** وذاك مجلاه وذي كلتي‏

فقلت هذا كشف مطابق للجمعة التي جاء بها جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة مرآة مجلوة وفيها نكتة وقال له يا رسول الله هذه الجمعة وهذه النكتة الساعة التي فيها والحديث مشهور فانظر ما أعجب الأمور الإلهية وتجليها في القوالب الحسية وهذا دليل على ارتباط الأمر بيننا وبين الحق‏

فالكل حق والكل خلق *** وكل ما تشهدون حق‏

يحوي على الأمر من قريب *** وما له في اللسان نطق‏

وكله مثل ما تراه *** وكله في الوجود صدق‏

انتهى إمداد الواقعة الجامعة فلنرجع ونقول والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

[ما وجد كون إلا عن جمع معقول ولا ظهر مجموعا من حقائق‏]

الحج نداء إلهي وأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ والجمعة نداء إلهي إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فوقعت المناسبة فالجماعة موجودة فوجبت إقامتها بعرفة ولا سبيل إلى تركها ولا سيما والحقائق تعضد ذلك فما وجد كون من الأكوان إلا عن جمع معقول ولا ظهر كون في عين إلا مجموعا من حقائق تظهر ذلك ولم يصح وجود حادث شرعا ولا عقلا وكل ما سوى الله حادث إلا عن ذات ذات إرادة

وعلم وقدرة وحياة عقلا وذات إرادة وقول أمري شرعا

[أحدية المرتبة هي أحدية الكثرة]

ثم الوجه الآخر من الجمعية أن الحادث عن اقتدار إلهي وقبول إمكاني لا بد منهما من شرطها وجود حياة شرعا تقول للشي‏ء كن فثبتت الجمعية شرعا في إيجاد الأكوان وثبتت عقلا كما قررنا فالوحدة في الإيجاد والوجود والموجود لا يعقل ولا ينقل إلا في لا إله إلا هو فهذه أحدية المرتبة وهي أحدية الكثرة فافهم فإذا أطلقت الأحدية فلا تطلق عقلا ونقلا إلا بإزاء أحدية المجموع مجموع نسب أو صفات أو ما شئت على قدر ما أعطاه دليلك ولكل نسبة أو صفة أحدية تمتاز بها عن غيرها في نفس الأمر فمن أراد أن يميزها عند السامع أو المتعلم فما يقدر على ذلك إلا بمجموع حقائق كل حقيقة معلومة عند السامع وما في العلوم أعجب من هذا العلم حيث تعقل الأحدية في كل موجود ولا يصح وجود موجود حادث إلا بمجموع مجموعا وهذه حيرة عظيمة

حيرة الأمر حيرة *** وهي في الغير غيرة

[المطلوب منا توحيد الإله خاصة]

ولذلك ما طلب الحق تعالى في الايمان منا إلا توحيد إلا له خاصة وهو أن تعلم أنه ما ثم إلا إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم قال الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فلم يكن ثم جمع يقتضي هذا الحكم وهو أن يكون إلها إلا هذا المسمى بهذه الأسماء الحسنى المختلفة المعاني التي افتقر إليها الممكن في وجود عينه‏

[وجوب إقامة الجمعة بعرفة بوقتها وشرطها]

وإذا كان الأمر على ما قررناه فلا واجب أوجب من إقامة الجمعة بعرفة إذا جاء وقتها وشرطها

[لا أجهل ممن قال: لا يصدر عن الواحد إلا واحد]

فلا أدري في العالم أجهل ممن قال لا يصدر عن الواحد إلا واحد مع قول صاحب هذا القول بالعلية ومعقولية كون الشي‏ء علة لشي‏ء خلاف معقولية شيئيته والنسب من جملة وجوه الجمع فما أبعد صاحب هذا القول من الحقائق ومن معرفة من له الأسماء الحسنى أ لا ترى أهل الشرائع وهم أهل الحق يقولون بنسبة الألوهة لهذا الموجد للممكن المألوه ومعقول الألوهة ما هو معقول الذات فالأحدية معقولة لا تتمكن العبارة عنها إلا بمجموع مع كون العقل يعقلها وهي أحدية المجموع وآحاده‏

[التجلي الإلهي لا يصح في الأحدية أصلا]

أ لا ترى أن التجلي الإلهي لا يصح في الأحدية أصلا وما ثم غير الأحدية وما يتعقل أثر عن واحد لا جمعية له فيا ليت شعري كيف جهلت العقول ما هو أظهر من الشمس فيقول ما صدر عن الواحد إلا واحد ويقول إن الحق واحد من جميع الوجوه وهو يعلم أن النسب من بعض الوجوه وإن الصفات في مذهب الآخر من بعض الوجوه فأين الواحد من جميع الوجوه‏

[أحدية الألوهية وأحدية المجموع‏]

فلا أعلم من الله بالله حيث لم يفرض الوحدة إلا أحدية المجموع وهي أحدية الألوهة له تعالى فقال هُوَ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ الله الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ وهي تسعة وتسعون اسما مائة إلا واحدا وكل اسم واحد مدلوله ليس مدلول عين الاسم الآخر وإن كان المسمى بالكل واحدا فما عرف الله إلا الله‏

ما يعرف الله إلا الله فاعترفوا *** العين واحدة والحكم مختلف‏

فقل لقوم أبوا إلا عقولهم *** هذا هو النهر المنساب فاغترفوا

ولا تقولن إن العقل ليس له *** سوى دلائله فيما بدا فقفوا

هنا ولا تبرحوا حتى يجوز بكم *** إليه كشف وما في الكشف منصرف‏

[من طلب الواحد في عينه لم يحصل إلا على الحيرة]

فمن طلب الواحد في عينه لم يحصل الأعلى الحيرة فإنه لا يقدر على الانفكاك من الجمع والكثرة في الطالب والمطلوب وكيف يقدر على نفي الكثرة وهو يحكم على نفسه بأنه طالب وعلى مطلوبه بأنه مطلوب‏

[يوم عرفة يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود]

ويوم عرفة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وما عجله الحق في الدنيا لعباده إلا لانقضاء أجله المحدود كما قال سبحانه وتعالى في الآخرة إنه يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ويوم عرفة يوم مغفرة عامة شاملة فإذا اتفق أن يكون يوم جمعة ففضل على فضل ومغفرة إلى مغفرة وعيد إلى عيد فالأولى والأحق بالإمام أن يقيم فيه الجمعة فإنها أفضل صلاة مشروعة هي في موضع الأولى فلها الأولية التي لا ثاني لها فينبغي أن يقيمها من ثبتت له المغفرة الإلهية شرعا فطهر طهارة ظاهرة وباطنة فهو المقدس عن كل ذنب يحجب عن الله ثم إنه موطن الغبرة والشعث والخشوع والابتهال والدعاء والتضرع فوجبت الجمعة فيه إن حضر يومها فيكون يوما عيد عيد عرفة وعيد الجمعة فإن لم يقمها الإمام لم يحظ إلا بعيد

واحد ولا يكون ذلك يوم جمعة أصلا بل يسلب عنه ذلك الحكم لعدم صلاة الجمعة فيه وقد زال عنه اسمه الأول وهو العروبة فلا جمعة ولا عروبة فإن اعتبرت الرتبة الباطنة فقد يرجع عليه اسمه الأول وهو العروبة لا غير فتفطن لما ذكرته لك من زوال اسم الجمعة عنه لأنه ما سمي به إلا لاجتماع الناس فيه على إمام واحد كما اجتمعنا في وجودنا على إله واحد والله الهادي انتهى الجزء الثامن والستون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(وصل في فصل توقيت الوقوف بعرفة في يومه وليلته)

لم تختلف العلماء

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقف إلا بعد الزوال وبعد ما صلى الظهر والعصر ارتفع عن مصلاه ووقف داعيا إلى غروب الشمس فلما غربت دفع إلى المزدلفة

وأجمعوا على إن من وقف بعرفة قبل الزوال أنه لا يعتد به إن فارق عرفة وأنه إن لم يرجع ويقف بعد الزوال أو يقف من ليلته تلك قبل طلوع الفجر فقد فاته الحج‏

[الزمان العربي يتقدم ليله على نهاره‏]

اعلم أن العرب والزمان العربي في اصطلاحهم وما تواطئوا عليه يتقدم ليله على نهاره جريا على الأصل فإن موجد الزمان وهو الله تعالى يقول وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فجعل الليل أصلا وسلخ منه النهار كما تسلخ الشاة من جلدها فكان الظهور لليل والنهار مبطون فيه كجلد الشاة ظاهر كالستر عليها حتى تسلخ منه فسلخ الشهادة من الغيب ووجودنا من العدم‏

[العجم يقدمون النهار على الليل‏]

فظهر علم العرب على العجم فإن العجم الذين حسابهم بالشمس يقدمون النهار على الليل ولهم وجه بهذه الآية وهو قوله فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وإذا حرف يدل على زمان الحال أو الاستقبال ولا يكون الموصوف بأنه مظلم إلا بوجود الليل في هذه الآية فكان النهار غطاء عليه ثم سلخ منه أي أزيل فإذا هم مظلمون أي ظهر الليل الذي حكمه الظلمة فإذا الناس مظلمون‏

[الممكن وإن كان موجودا فهو في حكم المعدوم‏]

الممكن وإن كان موجودا فهو في حكم المعدوم وأصدق بيت قالته العرب قول لبيد

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل‏

والباطل عدم‏

[ظهور الحكم الأعجمى في الشرع العربي في يوم عرفة]

فظهر هذا الحكم الأعجمي في الشرع العربي في يوم عرفة فإن العرب والشرع أخروا ليلة عرفة عن يومها كما فعلت الأعاجم أصحاب حساب الشمس فجعل الشرع العربي ليلة عرفة الليلة المتقبلة من يوم عرفة التي يكون صبيحتها يوم النحر وهو اليوم العاشر وسائر الزمان عندهم الليلة لليوم الذي يكون صبيحتها وعند الأعاجم ليلة الجمعة مثلا الذي يكون يوم السبت صبيحتها فاجتمع العرب والعجم في تأخير هذه الليلة عن يومها أعطى ذلك مقام المزدلفة المسمى جمعا فإنه جمع فيه العرب والعجم على حكم واحد فجعلوا ليلة عرفة ليوم عرفة المتقدم لكون الشارع شرع أنه من أدرك الوقوف بعرفة ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك الحج والحج عرفة

[كل يوم كامل بليلته إلا يوم عرفة]

وكل يوم كامل بليلته من غروب إلى غروب عند العرب ومن شروق إلى شروق عند العجم إلا يوم عرفة فإنه ثلاثة أرباع اليوم المعلوم إلا ساعة وخمسة أسداس ساعة فإنه من زوال الشمس إلى طلوع الفجر خاصة فقد نقص من زمان يوم عرفة عن اليوم المعلوم من طلوع الفجر إلى الزوال وسبب ذلك أنه لما اعتبر في عرفة إنه مقام المعرفة بالله التي أوجبها علينا فكان ينبغي أن لا نسمي عارفين بالله حتى نعلم ذاته وما يجب لها من كونها إلها فإذا عرفناه على هذا الحد فقد عرفناه‏

[معرفة الله من حيث ذاته ومن حيث كونه إلها]

فصارت المعرفة مقسمة نصفين النصف الواحد معرفة الذات والنصف الآخر معرفة كونه إلها فلما بحثنا بالأدلة العقلية وأصغينا إلى الأدلة الشرعية أثبتنا وجود الذات وجهلنا حقيقتها وأثبتنا الألوهة لها وهو نصف المعرفة بكمالها والربع وجودها أعني وجود الذات المنسوبة إليها الألوهة والربع الرابع معرفة حقيقتها فلم نصل إلى معرفة حقيقتها ولا يمكن الوصول إلى ذلك والزائد على الربع الذي جهلناه أيضا هو جهلنا بنسبة ما نسبناه إليها من الأحكام فإنا وإن كنا نعرف النسبة من كونها نسبة فقد نجهل النسبة الخاصة لجهلنا بالمنسوب إليه فحصلت المعرفة من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جهلنا بالنسبة ومن طلوع الشمس إلى الزوال وهو ربع اليوم جهلنا بالذات فما أعطى عرفة من المعرفة بالله إلا ما أعطاه زمانه فاعلم فنقص العلم بها عن درجة العلم بكل معلوم فمن لم نعلمه بحقيقته فما علمناه فعلمنا بوجود الذات من أجل الاستناد لا بالذات وعلمنا نسبة الألوهة لها لا كيفية النسبة وهو نصف المعرفة وهذا النصف يتضمن‏

ربعين الربع الواحد العلم بصفات التنزيه والسلوب والربع الآخر المعرفة بصفات الأفعال والنسب فالحاصل بأيدينا ثلاثة أرباع المعرفة إلا والربع الواحد لا نعرفه أبدا والذي ينظر من المعرفة المناسب لما زاد على الربع من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس هو بمنزلة ما جهلنا من نسبة وصف ما وصف الحق به نفسه من صفة التشبيه فلا ندري كيف ننسب إليه مع إيماننا به وإثباتنا له هذا الحكم مع جهلنا لكن على ما يعلمه الله من ذلك فهذا في مقابلة الزائد على ربع اليوم فلهذا نقص يوم عرفة عن سائر الأيام الزمانية فتحقق صحة يوم عرفة إنه من الزوال إلى طلوع الفجر من ليلة عرفة

(وصل في فصل من دفع قبل الإمام من عرفة)

اختلف علماء الإسلام فيمن وقف بعرفة بعد الزوال ثم دفع منها قبل الإمام وبعد الغيبوبة فقيل أجزأه لأنه جمع بعرفة بين الليل والنهار فإن دفع قبل الغروب قيل عليه دم وقيل لا شي‏ء عليه وحجة تام والذي أقول به إنه لا شي‏ء عليه وأن حجه تام الأركان غير تام المناسك لأنه ترك الأفضل‏

[حكم من ترك شيئا من اتباع الرسول عند أهل طريق الله‏]

لا شك أنه من ترك شيئا من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم مما لم ينفرض عليه فإنه ينقص من محبة الله إياه على قدر ما نقص من اتباع الرسول وأكذب نفسه في محبته لله لعدم إتمام الاتباع وعند أهل طريق الله لو اتبعه في جميع أموره وأخل بالاتباع في أمر واحد مما لم ينفرض عليه بل خالف سنة لاتباع في ذلك مما أبيح له الاتباع فيه أنه ما اتبعه قط وإنما اتبع هوى نفسه لا هو مع ارتفاع الأعذار الموجبة لعدم الاتباع هذا مقرر عندنا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لأمتك إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي فجعل الاتباع دليلا وما قال في شي‏ء دون شي‏ء يُحْبِبْكُمُ الله والله يقول لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وهو الاتباع وقال وأَوْفُوا بِعَهْدِي في دعواكم محبتي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وهو إني أحبكم إذا صدقتم في محبتي وجعل الدليل على صدقهم حصول محبة الله إياهم وحصول محبة الله إياهم دليل الاتباع وعلى قدر ما نقص ينقص وعند أهل الله هو أمر لا يقبل النقص وإن العذر لا ينقصه فإنه في حبس الله عن الاتباع في أمر ما فالحق ينوب عنه عندي‏

[عند ما يحاسب أبو يزيد نفسه في صدق المحبة]

حكاية قال أبو يزيد في هذا الباب كنت أظن في بري بأمي أني ما أقوم فيه لهوى نفسي بل لتعظيم الشريعة حيث أمرتني ببرها فكنت أجد في نفسي لذة عظيمة كنت أتخيل أن تلك اللذة من تعظيم الحق عندي لا من موافقة نفسي فقالت لي في ليلة باردة اسقني يا أبا يزيد ماء فثقل على التحرك لذلك فقلت والله ما خفف على ما كانت تكلفني فعله إلا الموافقة كان في نفسي من حيث لا أشعر فأبطل عمله وما سلم لها قال أبو يزيد فقمت بمجاهدة وجئت بالكوز إليها فوجدتها قد سارع إليها النوم ونامت فوقفت بالكوز على رأسها حتى استيقظت فناولتها الكوز وقد بقي في أذن الكوز قطعة من جلد أصبعي لشدة البرد انقرضت فتألمت الوالدة لذلك قال أبو يزيد فرجعت إلى نفسي وقلت لها حبط عملك في كونك كنت تدعين النشاط في عبادتك والاتباع إن ذلك من محبتك الله فإنه ما كلفك ولا ندبك وأوجب عليك إلا ما هو محبوب له وكل ما يأمر به المحبوب عند المحب محبوب ومما أمرك الله به يا نفسي البر بوالدتك والإحسان إليها والمحب يفرح ويبادر لما يحبه حبيبه ورأيتك قد تكاسلت وتثاقلت وصعب عليك أمر الوالدة حين طلبت الماء فقمت بكسل وكراهة فعلمت أنه كل ما نشطت فيه من أعمال البر وفعلته لا عن كسل ولا تثاقل بل عن فرح والتذاذ به إنما كان ذلك لهوى كان لك فيه لا لأجل الله إذ لو كان لله ما صعب عليك الإحسان لوالدتك وهو فعل يحبه الله منك وأمرك به وأنت تدعين حبه وأن حبه أورثك النشاط واللذة في عبادته فلم يسلم لنفسه هذا القدر

[و كذلك كان القوم من أهل الله يحاسبون نفوسهم‏]

وكذلك غير أبي يزيد من أهل الله كان يحافظ على الصف الأول دائما منذ سبعين سنة وهو يزعم أنه يفعل ذلك رغبة فيما رغبة الله فيه موافقة لله فاتفق له عائق عن المشي إلى الصف الأول فخطر له خاطر إن الجماعة التي تصلي في الصف الأول إذا لم يروه يقولون أين فلان فبكى وقال لنفسه خدعتني منذ سبعين سنة أتخيل أني لله وأنا في هواك وما ذا عليك إذا فقدوك فتاب وما رؤي بعد ذلك يلزم في المسجد مكانا واحدا معينا ولا مسجدا معينا فهكذا حاسب القوم نفوسهم ومن كانت حالته هذه ما يستوي مع من هو فاقد لهذه الصفة كذلك من وقف مع الإمام لأنها عبادة يشترط فيها الإمام إلى أن يدفع معه ما يستوي في الاتباع مثل من دفع قبله‏

(وصل في فصل من وقف بعرنة من عرفة فإنه منها)

اختلف العلماء فيمن وقف بعرنة بعرفة فإنه من عرفة فقيل حجه نام وعليه دم وقال بعضهم لا حج له‏

[عرنة من عرفة موقف إبليس‏]

عرنة من عرفة موقف إبليس فإن إبليس يحج في كل سنة وذلك موقفه يبكي على ما فاته من طاعة ربه وهو مجبور في الإغواء وإن كان من اختياره إبرار القسمة بربه فإنه وإن سبق له الشقاء فله شبهة يستند إليها في امتثاله أمر سيده بعد أن حقت الكلمة كلمة العذاب عليه بقوله تعالى قال اذْهَبْ واسْتَفْزِزْ وأَجْلِبْ وعِدْهُمْ فإنه يجد لذلك تنفيسا ومع هذا فإنه يحزن لما يرى من المغفرة التي حصلت لأهل عرفة الشاملة لهم وهو فيها أعني بعرفة فلا بد له عند نفسه من طرف منها يناله من عين المنة الإلهية ولو بعد حين هذا ظنه بربه وأما خروجه من جهنم فلا سبيل إليه لأنه وأتباعه من المشركين الذين هم أهل النار يملأ الله بهم جهنم ولا نقص فيها بعد ملئها فلا خروج‏

[أمر الله الحاج أن يرتفع عن موقف إبليس‏]

وأمر الله الحاج أن يرتفع عن موقف إبليس فإنه موقف البعد فإبليس تحت حكم الاسم البعيد وأهل عرفة تحت حكم الاسم القريب فما برحوا من حكم الأسماء فحج من وقف بعرنة لكونه من عرفات تام إلا أنه ناقص الفضيلة كما بينا في الدفع قبل الإمام فعرنة موضع مكروه للوقوف به من أجل مشاركة الشيطان أ لا ترى النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع في ذلك عن بطن الوادي الذي فاتته فيه صلاة الصبح فعلل وقال إنه وأدبه شيطان لأنه هو الذي هدأ بلالا حتى نام عن مراقبة الفجر وقد ورد في الحديث أن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد

الحديث فما أراد صلى الله عليه وسلم بارتفاعه عن بطن عرنة إلا البعد من مجاورة الشيطان ولو صلى في ذلك الموضع أجزأه أعني الموضع الذي أصابته فيه الفتنة ففارق الموضع مفارقة تنزيه لا مفارقة تحريم ولما كان لإبليس طرف من المعرفة لذلك لم تطرده الملائكة عن عرنة بل وقف فيها غير إن الناس انعزلوا عنه في ناحية منها لانعزال إمامهم وعرفات كلها موقف وعرنة من عرفات فأمرنا بالارتفاع عن بطن عرنة لما ذكرناه‏

[لا تكون الإفاضة للحاج إلا من بطن عرفة]

ومن حمل هذا الأمر على الوجوب أبطل الحج ولا تكون الإفاضة للحاج إلا من بطن عرنة فإن حد المزدلفة حرف الوادي الذي هو عرنة وقال تعالى فَإِذا أَفَضْتُمْ من عَرَفاتٍ ولم يخص مكانا من مكان بل الخروج عنها بالكلية إلى المزدلفة وقد علمنا إن الله يغفر لأهل الموقف من الحاج وغيرهم ورحمة الله وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فالتقييد ما هو من صفة من له الوجود المطلق فبرحمة الله يحيا ويرزق كل موجود سوى الله فالرحمة شاملة وهي في كل موطن تعطي بحسب ذلك الموطن فأثرها في النار بخلاف أثرها في الجنة والله الموفق لا رب غيره‏

(وصل في فصل المزدلفة)

أجمع العلماء على أنه من بات بالمزدلفة وصلى فيها المغرب والعشاء وصلى الصبح يوم النحر ووقف بعد الصلاة إلى أن أسفر ثم دفع إلى من أن حجه تام واختلفوا هل الوقوف بها بعد صلاة الصبح والمبيت بها من سنن الحج أو فروضه فقال جماعة هو من فروض الحج ومن فاته فعليه الحج من قابل والهدى وقال بعضهم من فاته الوقوف بها والمبيت فعليه دم وقال بعضهم إن لم يصل بها الصبح فعليه دم‏

[الأركان في العبادات والصفات النفسية في الأعيان‏]

المزدلفة اسم قرب والعمل فيها قربة فمن فاته صفة القرب في محل القرب فما حج فإن الحج نشأة كاملة من هذه الأفعال كلها فهي له كالصفات النفسية للموصوف إذا زال واحد منها بطل كون ذلك الموصوف وهكذا كل عبادة تقوم من أشياء مختلفة بمجموعها تصح تلك العبادة وهي المعبر عنها بأركانها فتسمى في العبادة ركنا وتسمى في الذوات والأعيان صفة نفسية غير إن النشآت وإن كانت لها صفات نفسية هي التي تحفظ على ذلك الشي‏ء عينه لها أيضا لوازم وهي التي توجد في الحدود الرسمية وهي لا تنفك عن الموصوف بها فمن يرى أن الموصوف لا ينفك عنها كالضحك للإنسان أشبهت الصفة النفسية قال ببطلان الملزوم لعدم اللازم ومن قال يصح حد الشي‏ء الذاتي دون هذا اللازم قال لا يكون للشي‏ء حكم البطلان مع ارتفاع اللازم في الذهن وإن لم يرتفع في الوجود

[ذكر الله عند المشعر الحرام‏]

ولما سماه الله المشعر الحرام لنشعر بالقبول من الله في هذه العبادة بالعناية والمغفرة وضمان التبعات ووصفه بالحرمة لأنه في الحرم فيحرم فيه ما يحرم في الحرم كله فإنه من جملته فأمر بذكر الله فيه يعني بما ذكرناه فإن الشي‏ء لا يذكر بأن يسمى وإنما يذكر بما يكون عليه من صفات المحمدة فإن الأسماء في أصل الوضع إنما هي أعلام للمسمى بها لا نعوت‏

فلا يذكر بالاسم العلم إلا للتعريف لتعلم من هو المذكور بما ذكرته من المحامد أو غيرها

(وصل في فصل رمى الجمار)

أما جمرة العقبة فموضع الاتفاق فيها إن ترمي من بعد طلوع الشمس إلى قريب من الاستواء بسبع حصيات يوم النحر لا يرمي في ذلك اليوم غيرها واختلفوا في رميها قبل طلوع الفجر فقيل لا يجوز وعليه الإعادة يعني إعادة الرمي وقيل يجوز والمستحب بعد طلوع الشمس وبالأول أقول وقال قوم إن رماها قبل غروب الشمس يوم النحر أجزأه ولا شي‏ء عليه وقال بعضهم استحب لمن رماها قبل غروب الشمس يوم النحر أن يريق دما واختلفوا فيمن لم يرم حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد فقيل عليه دم وقيل لا شي‏ء عليه إن رماها من الليل وإن أخرها إلى غد فعليه دم وقال قوم لا شي‏ء عليه وإن أخرها إلى الغد وأما الرعاء فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم معنى الرخصة للرعاء إنما ذلك إذا مضى يوم النحر ورموا جمرة العقبة ثم‏

كان اليوم الثالث وهو أول أيام النفر رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرموا في ذلك اليوم له ولليوم الذي بعده‏

فإن نفروا فقد فرغوا وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا وقال بعضهم معنى الرخصة عند العلماء هو جمع يومين في يوم واحد إلا أن مالكا إنما يجمع عنده ما وجب فيجمع في اليوم الثالث فيرمي عن الثاني والثالث فإنه لا يعصي أحد عنده إلا بما وجب ورخص كثير من العلماء في جمع يومين في يوم واحد سواء تقدم ذلك اليوم الذي أضيف إليه غيره أو تأخر واختلفوا فيمن قدم من هذه الأفعال ما أخره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أو من أخر ما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم منها فقال بعضهم من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية وقال آخرون لا شي‏ء عليه وسيرد في سرد الأخبار النبوية الواردة في الحج إن شاء الله بعد هذا ما تقف عليه ويقع التنبيه على كل خبر بحسب ما يتضمنه وقال بعضهم إن حلق قبل أن يرمي أو ينحر فعليه دم وإن كان قارنا فعليه دمان وقال بعضهم عليه ثلاثة دماء دمان للقران ودم للحلق قبل النحر وأجمعوا على أنه من نحر قبل أن يرمي فلا شي‏ء عليه وإنه من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه يلزمه إعادة الطواف وقال بعضهم لا إعادة عليه وقال الأوزاعي إذا طاف الإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله فعليه دم واتفقوا على إن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة منها في يوم النحر سبعة وأن من رمى هذه الجمرة أعني جمرة العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو من وسطها إن ذلك كله واسع والمختار منها فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بطن الوادي وأجمعوا على أنه يعيد الرمي إذا لم تقع الحصاة في العقبة وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بإحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع وأنه يجوز أن يرمى منها يومين وينفر في الثالث وقدروها عندهم أن تكون مثل حصى الخذف والسنة في رمى الجمرات في أيام التشريق أن يرمي الأولى فيقف عندها ويدعو وكذلك الثانية ويطيل المقام ثم يرمي الثالثة ولا يقف عندها والتكبير عندهم عند كل رمى جمرة حسن وأن يكون رمى أيام التشريق بعد الزوال واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق فقال جمهور العلماء عليه إعادة الرمي بعد الزوال وروى عن بعض علماء أهل البيت أنه قال رمى الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها وأجمعوا على إن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد واختلفوا في الوجوب من ذلك بين الدم والكفارة فقال بعضهم إن ترك رمى الجمار كلها أو بعضها أو واحدة منها فعليه دم وقال بعضهم إن تركها كلها كان عليه دم وإن ترك جمرة واحدة فصاعدا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن يبلغ ذلك ما ترك الجميع إلا جمرة العقبة فمن تركها فعليه دم وقال بعضهم عليه في الحصاة مد من طعام وفي الحصاتين مدان وفي الثلاث دم وقال الثوري مثله إلا أنه قال في الرابعة دم ورخصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة فقالت ليس فيها شي‏ء وقال أهل الظاهر لا شي‏ء في ذلك وسأورد الأخبار فيما ذكرناه إن شاء الله وجمهور العلماء على إن جمرة العقبة ليست من أركان الحج وأما التحلل من الحج فهو تحللان تحلل أكبر وهو طواف الإفاضة وتحلل أصغر وهو رمى جمرة العقبة

(اعتبار هذا الفصل)

الجمرات الجماعات وكل جمرة جماعة أية جماعة كانت ومنه الاستجمار في الطهارة ولهذا استحب له أن يكون أكثر من واحد حتى يوجد فيه معنى الجماعة

ولا معنى لمن يرى الاستجمار بالحجر الواحد إذ كان له ثلاثة حروف فإن العرب لا تقول في الحجر الواحد أنه جمرة ويستحب أن يكون وترا من ثلاث فصاعدا وأكثره سبع في العبادة لا في اللسان فإن الجمرة الواحدة سبع حصيات وكذلك الجمرة الزمانية التي تدل على خروج فصل شدة البرد كل جمرة في شباط سبعة أيام وهي ثلاث جمرات متصلة كل جمرة سبعة أيام فتنقضي الجمرات بمضي أحد وعشرين يوما من شباط مثل رمى الجمار إحدى وعشرين حصاة وهي ثلاث جمرات وكذلك الحضرة الإلهية تنطلق بإزاء ثلاثة معان الذات والصفات والأفعال ورمى الجمرات مثل الأدلة والبراهين على سلب كحضرة الذات أو إثبات كحضرة الصفات المعنوية أو نسب أو إضافة كحضرة الأفعال‏

[دلائل الجمرة الأولى لمعرفة حضرة الذات‏]

فدلائل الجمرة الأولى لمعرفة الذات ولهذا نقف عندها لغموضها إشارة إلى الثبات فيها وهي ما يتعلق بها من السلوب إذ لا يصح أن يعرف بطريق إثبات صفة معينة ولا يصح أن يكون لها صفات نفسية متعددة بل صفة نفسه عينه لا أمر آخر فلا بد أن تكون صفته النفسية الثبوتية واحدة وهي عينه لا غير فهو مجهول العين معلوم بالافتقار إليه وهذه هي معرفة أحديته تعالى فيأتي خاطر الشبهة بالإمكان إلى هذه الذات فيرميه بحصاة الافتقار إلى المرجح وهو واجب الوجود لنفسه ويأتي بصورة الدليل على ما يعطيه نظمه في موازين العقول فهذه حصاة واحدة من الجمرة الأولى فإذا رماه بها مكبرا أي يكبر عن هذه النسبة الإمكانية إليه فيأتيه في الثانية بأنه جوهر فيرميه بالحصاة الثانية وهو دليل الافتقار إلى التحيز أو إلى الوجود بالغير فيأتيه بالجسمية فيرميه بحصاة الافتقار إلى الأداة والتركيب والأبعاد فيأتيه بالعرضية فيرميه بحصاة الافتقار إلى المحل والحدوث بعد أن لم يكن فيأتيه بالعلية فيرميه بالحصاة الخامسة وهي دليل مساوقة المعلول له في الوجود وهو كان ولا شي‏ء معه فيأتيه في الطبيعة فيرميه بالحصاة السادسة وهي دليل نسبة الكثرة إليه وافتقار كل واحد من آحاد الطبيعة إلى الأمر الآخر في الاجتماع به إلى إيجاد الأجسام الطبيعية فإن الطبيعة مجموع فاعلين ومنفعلين حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة ولا يصح اجتماعها لذاتها ولا افتراقها لذاتها ولا وجود لها إلا في عين الحار والبارد والرطب واليابس فيأتيه في العدم وهو أن يقول له إذا لم يكن هذا ولا هذا ويعدد ما تقدم فما ثم شي‏ء فيرميه بالحصاة السابعة وهي دليل آثاره في الممكن والعدم لا أثر له وقد ثبت بدليل افتقار الممكن في وجوده إلى مرجح ووجود موجود واجب الوجود لنفسه وهو هذا الذي أثبتناه مرجحا وانقضت الجمرة الأولى‏

[دلائل الجمرة الثانية لمعرفة حضرة الصفات‏]

ثم أتينا إلى الثانية وهي حضرة الصفات المعنوية وقال لك سلمنا إن ثم ذاتا مرجحة للممكن فمن قال إن هذه الذات عالمة بما ظهر عنها فرميناه بالحصاة الأولى إن كان هذا هو الخاطر الأول الذي خطر لهذا الحاج المعنوي وقد يخطر له الطعن في صفة أخرى أولا فيرميه بحسب ما يخطر له إلى تمام سبع صفات وهي الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام وبعض أصحابنا لا يشترط هذه الثلاثة أعني السمع والبصر والكلام في الأدلة العقلية ويتلقاها من السمع إذا ثبت ويجعل مكانها ثلاثة أخرى وهي علم ما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه مع الأربعة التي هي القدرة والإرادة والعلم والحياة فهذه سبعة علوم فورد الخاطر الشيطاني بشبهة لكل علم منها فيرميه هذا الحاج بحصاة كل دليل عقلي على الميزان الصحيح في نظم الأدلة بحسب ما يقتضيه ويطيل التثبت في ذلك وهو الوقوف عند الجمرة الوسطى والدعاء عندها

[دلائل الجمرة الثالثة لمعرفة حضرة الأفعال‏]

ثم يأتي الجمرة الثالثة وهي حضرة الأفعال وهي سبع أيضا فيقوم في خاطره أولا المولدات وأنها قامت بأنفسها فيرميه بحصاة افتقارها من الوجه الخاص إلى الحق عز وجل فإذا علم الخاطر الشيطاني أنه لا يرجع عن علمه بالافتقار أظهر له أن افتقاره إلى سبب آخر غير الحق وهو العناصر وقد رأينا من كان يعبدها بالموصل وإذا خطر له ذلك فأما أن يتمكن منه بأن ينفي أثر الحق تعالى عنه فيها فإن لم يقدر فقصاراه أن يثبتها شركا فيرميه بالحصاة الثانية فيريه في دلالتها إن العناصر مثل المولدات في الافتقار إلى غيرها وهو الله تعالى لأن العارف أبدا إنما ينظر في كل ممكن ممكن الوجه الخاص الذي من الله إليه ما ينظر إلى السبب الذي أوقف الله وجوده عليه أو ربطه به على جهة العلية أو الشرط هذا هو نظر أهل طريق الله من أصحابنا وما رأيت أحدا من المتقدمين قبلنا ولا من أهل زماننا في علمي نبه على إثبات هذا الوجه الخاص في كل ممكن مع كونهم لا يجهلونه ولكن صدق الله في قوله ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ يعني الأسباب ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ يعني نسبته إلينا لا إلى السبب فالحمد لله الذي فتح أبصارنا

إلى إدراك هذا الوجه في كل ممكن فإذا رماه بالحصاة الثانية كما ذكرناه أخطر له السبب الذي يتوقف وجود الأركان عليه وهو الفلك فقال إن موجد هذه الأركان الفلك وصدقت فيما قتله فيرميه بالحصاة الثالثة وهي افتقار الفلك وهو الشكل إلى الله من الوجه الخاص كما ذكرنا فيصدقه في الافتقار ويقول له أنت غالط إنما كان افتقار الشكل إلى الجسم الذي لولاه ما ظهر الشكل فيرميه بالحصاة الرابعة وهو افتقار الجسم إلى الله من الوجه الخاص فيصدقه ويقول له صحيح ما قلت من الافتقار القائم ولكن إلى جوهر الهباء الذي تسميه أهل النظر الهيولى الكل الذي لم تظهر صورة الجسم إلا فيه فيرميه بالحصاة الخامسة وهو دليل افتقار الهباء إلى الله كما ذكرنا قبله فيقول بل افتقارها إلى النفس الكلية المعبر عنها في الشرع باللوح المحفوظ فيرميه بالحصاة السادسة وهو دليل افتقار النفس الكلية إلى الله من الوجه الخاص أيضا فيصدقه في الافتقار ولكن يقول له بل افتقارها إلى العقل الأول وهو القلم الأعلى الذي عنه انبعثت هذه النفس فيرميه بالحصاة السابعة وهو دليل افتقار العقل الأول إلى الله وليس وراء الله مرمى فما يجد ما يقول له بعد الله فلذلك ما يقف عند جمرة العقبة وهي آخر الجمرات لأنه كما قلنا وليس وراء الله مرمى‏

[منى موضع التمني وبلوغ الأمنية]

فهذا تحرير رمى جمرات العارفين بمنى موضع التمني وبلوغ الأمنية فإنها أيام أكل وشرب وتمتع ونعيم فهي جنة معجلة وفيه إلقاء التفث والوسخ وإزالة الشعث من الحاج ومن قوة التمني الذي سمي به منى إنه يبلغ بصاحبه الذي هو معدوم مما تمناه مبلغ من عنده ما تمناه هذا المتمني بالفعل على أتم الوجوه مثل رب المال يفعل به أنواع الخير وينفقه في سبل البر ابتغاء فضل الله فيتمنى العديم أن لو كان له مثله ليفعل فعله فهما في الأجر سواء بل هو أتم فإنه يحصل له الأجر التام على أكمل وجوهه من غير سؤال فإن صاحب الفعل يسأل عنه من أين جمعه وهل أخلص في إخراجه وبعد هذا التعب والمشقة يحصل على أجره والمتمني يحصل على ذلك من غير سؤال ولا مشقة

[بعد رمى الجمار يحلق الحاج رأسه‏]

من بعد رمى الجمار يحلق رأسه أعني جمرة العقبة يوم النحر وإنما سميتها جمارا وإن كانت جمرة واحدة في ذلك اليوم فإن كل واحدة من الحصى بإضافتها إلى الأخرى تسمى جماعة فهي جمار بهذا النظر كما تقول إذا اجتمع جوهران كانا جسمين أي انطلق على كل واحد منهما باجتماعه مع الآخر جسم فهما جسمان بهذا النظر كما قال ومن كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وما خلق من كل شي‏ء إلا زوجا واحدا ذكرا وأنثى مثلا فسماه زوجين بهذا الاعتبار الذي ذكرناه لأن كل واحد بالنظر إلى نفسه دون أن ينضم إليه هذا الآخر لا يكون زوجا فإذا ضم إليه آخر انطلق على كل واحد منهما اسم الزوج فقيل فيها زوجان ولما اعتبر الله هذا بالذكر لذلك قلنا نحن ثم بعد رمى الجمار فسمينا جمرة العقبة جمارا إذ كانت عدة حصيات فما في كلامنا حشو لأنه لا تكرار في الوجود للاتساع الإلهي‏

[حلق الرأس بعد رمى جمرة العقبة أولى من تقصير الشعر]

فإذا رمى جمرة العقبة حلق رأسه وهو أولى من تقصير الشعر فإن الشعور بالأمر ما هو عين حصول العلم به على التمام من التفصيل وإنما يشعر العبد أن ثم أمرا ما فإذا حصله زال الشعور وكان علما تاما بتفصيل ما شعر به كمن يشعر بالتفصيل في المجمل قبل حصول العلم بتعيين تفصيله فإلقاء الشعور هو إزالة الشعور بوجود العلم لأن الشعر ستر على الرأس‏

[ثم يتطيب الحاج ليوجد منه رائحة ما انتقل إليه‏]

ثم يتطيب ليوجد منه رائحة ما انتقل إليه من تحليل ما كان حجر عليه كما تطيب لإحرامه حين أحرم ليوجد منه ريح ما انتقل إليه وجعله طيبا لأنه انتقال في الحالتين لخير مشروع مقرب إلى الله تعالى فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ من الطَّيِّبِ فجعل الطيب في الحالين تنبيها على طيب الأفعال‏

[ثم يذبح الحاج قربانه محررا روح الحيوان من سجن هيكله الطبيعي‏]

ثم نحر أو ذبح قربانه ينوي بذلك تسريح روح هذا الحيوان من سجن هذا الهيكل الطبيعي المظلم إلى العالم الأعلى عالم الانفساح والخير فإن الحيوانات كلها عندنا ذات أرواح وعقول تعقل عن الله ولهذا قال فيها تعالى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ فسرحنا أرواح هذه الحيوانات في هذا اليوم شكر الله كما خرجنا نحن فيه من حال التحجير وهو الإحرام الذي كنا عليه إلى الإحلال والتصرف في المباحات المقربة إلى الله بحكم الاختيار ثم أكلنا منها ليكون جزء منها عندنا لنشاهد ما هو عليه من الذكر المخصوص به ذوقا ولنجعله كالمساعد لنا فيما نرومه من الحركة في طاعة الله تعالى إذ لا بد من الغذاء فكان أخذ هذا النوع من الغذاء أولى‏

[ثم ينزل الحاج إلى البيت ذاكرا ومصليا خلف مقام إبراهيم‏]

ثم نزلنا إلى البيت زائرين ربنا تعالى ليرانا محلين كما يرانا محرمين على جهة الشكر له حيث سرح أعياننا وأباح لنا التصرف فيما كان حجره علينا فقبلنا يمينه على ذلك مبايعة وتحية ثم طفنا به سبعة أشواط وصلينا خلف مقام إبراهيم‏

[التنبيه على اتخاذ مقام إبراهيم مصلى‏]

وقد تقدم الكلام في المراد بالطواف والصلاة في طواف القدوم إلا أنه ما نبهنا على اتخاذ مقام إبراهيم مصلى لننال ما ناله من الخلة على قدر ما يعطيه حالنا فإن الله أمرنا أن نتخذه مصلى ونبهنا على ما تأولناه صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم‏

فقال لنا قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد والمؤمنون آله كما صليت على إبراهيم‏

وما اختص به إلا الخلة فلما دعونا بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب الله دعاءنا فيه لنتخذ عنده يدا بذلك فصلى الله عنه علينا بذلك عشرا فقام تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالمكافاة عناية منه به عليه السلام وتشريفا لنا حيث لم تكمل المكافاة في ذلك لملك ولا غيره‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك لما حصلت الإجابة من الله فيما دعوناه فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم يعني نفسه خليل الله‏

ولو صحت له هذه الخلة من قبل دعاء أمته له بذلك لكان غير مفيد صلاتنا عليه أي دعاءنا له بذلك فإن قيل قد حصلت الخلة بدعاء الصحابة أو لا فما فائدة دعائنا ونحن مأمورون في هذا الوقت بالصلاة عليه مع حصول الخلة فهكذا حكم الأول فربما نال الخلة قبل دعاء أصحابه وتكون نسبة دعائهم بها له كدعائنا اليوم قلنا حكم الخلة ما ظهر هنا وإنما يظهر ذلك في الآخرة والحكم للمعنى لا يكون إلا بعد حصول المعنى فمتى قام المعنى بمحل وجب حكمه لذلك المحل ففي الآخرة تنال الخلة لظهور حكمها هناك وأما الذي يظهر هنا منها لوامع تبدو وتؤذن بأنه قد أهل لها واعتنى به هذا هو الصحيح والجواب الأول أن لكل نفس منا حظا من محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصورة التي في باطنه أعني في باطن كل إنسان منه صلى الله عليه وسلم فهو في كل نفس بصورة ما يعتقد فيه كل شخص فيدعو له بالصلاة عليه المذكورة صلى الله عليه وسلم فتنال تلك الصورة المحمدية التي عنده تلك الحال المدعو بها بدعائه والصلاة عليه فما حصلت له الخلة من هذا الوجه إلا بعد دعاء كل نفس وهكذا يجده أهل الله في كشفهم فاعلم ذلك‏

(واقعة) [لابن عربى في مقام إبراهيم ع‏]

اعلم وفقك الله بينا أنا أكتب هذا الكلام في مقام إبراهيم الخليل عليه السلام ومقامه عليه السلام قوله تعالى فيه وإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى لأنه وفى بما رأى من ذبح ابنه أخذتني سنة فإذا قائل من الأرواح أرواح الملإ الأعلى يقول لي عن الله تعالى ادخل مقام إبراهيم وهو أنه كان أواها حليما ثم تلا على إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ فعلمت إن الله تعالى لا بد أن يعطيني من الاقتدار ما يكون معه الحلم إذ لا حليم عن غير قدرة على من يحلم عنه وعلمت إن الله تعالى لا بد أن يبتليني بكلام في عرضي من أشخاص فأعاملهم مع القدرة عليهم بالحلم عنهم ويكون أذى كثير فإنه جاء حليم ببنية المبالغة وهي فعيل ثم وصف بالأواه وهو الذي يكثر منه التأوه لما يشاهده من جلال الله وكونه ما في قوته مما ينبغي أن يعامل به ذلك الجلال الإلهي من التعظيم إذ لا طاقة للمحدث على ما يقابل به جلال الله من التكبير والتعظيم فهذا أيضا من قصدنا مقام إبراهيم لنتخذه مصلى أي موضع دعاء في صلاة أو أثر صلاة لنيل هذا المقام والصفة التي هي نعت إبراهيم خليل الله وحاله ومقامه فنرجو إن يكون لنا نصيب من الخلة كما حصل من درجة الكمال والختام والرفعة السارية في الأشياء في هذه الأمة الحظ الوافر بالبشرى في ذلك‏

[من مقامات إبراهيم الخليل‏]

ومن مقام إبراهيم أيضا أنه كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ولَمْ يَكُ من الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وهَداهُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مطلق الشرك المعفو عنه والمذموم فيما نسب إليه من قوله في الكوكب هذا رَبِّي ومن مقام إبراهيم أيضا عليه السلام أنه أوتي الحجة على قومه بتوحيد الله وأنه شاكر لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ فهو مجتبى وهداه أي وفقه بما أبان له إلى صراط مستقيم وهو صراط الرب الذي ورد في قول هود إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ومن مقامه عليه السلام أيضا أنه كان حنيفا مائلا في جميع أحواله من الله إلى الله عن مشاهدة وعيان ومن نفسه إلى الله عن أمر الله وإيثار لجناب الله بحسب المقام الذي يقام فيه والمشهد الذي يشهده ومن كل ما ينبغي أن يمال عنه عن أمر الله ومن مقامه عليه السلام أيضا أنه كان مسلما منقاد إلى الله عند كل دعاء يدعوه إليه من غير توقف والأمة معلم الخير فنرجو ما نورده من هذا العلم للناس أن يكون حظي من تعليم الخير وأن نقوم ونختص بأمر واحد من جانب الله أي من العلم به مما لا نشارك فيه نقوم فيه مقام الأمة لانفرادي به والقانت المطيع لله فأرجو إن أكون ممن أطاع الله في السر والعلانية ولا تكون الطاعة إلا عند المراسم الإلهية والأوامر الموقوفة على الخطاب فأرجو إن أكون ممن يأمره الله في سره فيمتثل مراسمه بلا واسطة ومن مقامه عليه السلام أيضا الصلاح والصلاح‏

عندنا أشرف مقام يصل إليه العبد ويتصف به في الدنيا والآخرة فإن الصلاح صفة امتن الله بها على من وصفه بها من خاصته وهي صفة يسأل نيلها كل نبي ورسول وعندنا من العلم بها ذوق عظيم ورثناه من الأنبياء عليهم السلام ما رأيته لغيرنا والصلاح صفة ملكية روحانية

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيها إذا قال العبد في التشهد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض‏

ومن مقام إبراهيم عليه السلام إن الله آتاه أجره في الدنيا وهو قول كل نبي إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله أجر التبليغ فكان أجره أن نجاه الله من النار فجعلها عليه بَرْداً وسَلاماً فأرجو من الله أن يجعل كل مخالفة ومعصية صدرت مني يكون حكمها في حكم النار في إبراهيم عليه السلام حين رمى فيها عناية من الله لا عن عمل وإِنَّهُ في الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي لذلك الأجر ما نقصه كونه في الدنيا قد حصله بما يناله منه في الآخرة شيئي ومن مقام إبراهيم عليه السلام الوفاء فإنه الَّذِي وَفَّى فأرجو أن أكون من الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ولا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ و(الَّذِينَ) يَصِلُونَ ما أَمَرَ الله به أَنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ وعليه أدل الناس أبدا وأربى عليه أصحابي فلا أترك أحدا عهد مع الله عهدا وهو يسمع مني ينقضه كان ما كان من قليل الخير وكثيره ولا أدعه يتركه لرخصة تظهر له تسقط عنه الإثم فيه ومع هذا فيوفي بعهد الله ولا بنقضه تماما للمقام الأعلى وكما لا فإن النفس إذا تعودت نقض العهد واستحلته لا يجي‏ء منها شي‏ء أبدا فهذا كله من مقام إبراهيم الذي أمرنا أن نتخذه مصلى فقال واتَّخِذُوا من مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى أي موضع دعاء إذا صليتم فيه إن ندعو في نيل هذه المقامات التي حصلت لإبراهيم الخليل عليه السلام كما قررناه‏

[واقعة لابن عربى في مقام إبراهيم الخليل ع‏]

وفي هذه الواقعة أيضا قيل لي قل لأصحابك استغنموا وجودي من قبل رحلتي فنظمت ذلك وضمنته هذا اللفظ فقلت بعد ما استيقظت‏

قد جاءني خطاب *** من عند بغيتي‏

بأن أقول قولا *** لأهل ملتي‏

استغنموا وجودي *** من قبل رحلتي‏

لكي أرى بعيني *** من كان قبلتي‏

وفي وجودي أيضا *** من كان علتي‏

فإنني فقير *** لسد خلتي‏

محبتي مقامي *** والحال خلتي‏

فعينه وجودي *** والعلم حلتي‏

دعوت عين نفسي *** لما تولت‏

عن ذكر ما أتاها *** وما استقلت‏

فعند ما تجلى *** مع الأهلة

إلى شهود عيني *** من خلف كلتي‏

ومد لي يمينا *** من أجل قبلتي‏

فما رأيت غيري *** إذ كان جملتي‏

ورأيت في هذه الواقعة أنواعا كثيرة من مبشرات إلهية بالتقريب الإلهي وما يدل على العناية والاعتناء فأرجو من الله أن يحقق ذلك في الشاهد فإن الأدب يعطي أن أقول في مثل هذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يكن من عند الله يمضه مع علمه بأنه من عند الله فما قلت مثل هذا قط في واقعة إلا وخرجت مثل فلق الصبح فإني في هذا القول متأس ومقتد

برسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى في المنام أن جبريل عليه السلام أتاه بعائشة في سرقة حرير حمراء وقال له هذه زوجتك فلما قصها على أصحابه قال إن يكن من عند الله يمضه‏

فجاء بالشرط لسلطان الاحتمال الذي يعطيه مقام النوم وحضرة الخيال فكان كما رأى وكما قيل له فزوجها بعد ذلك فاتخذت ذلك في كل مبشرة أراها وانتفعت بالاتباع فيه وما قلت هذا كله إلا امتثالا لأمر الله في قوله وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وأية نعمة أعظم من هذه النعم الإلهية الموافقة للكتاب والسنة

[ماء زمزم هو علم خفى في صورة طبيعية عنصرية]

ثم نرجع ونقول فإذا فرغ من طواف الإفاضة إن كان عليه سعى خرج يسعى على ما قررنا قبل في السعي عند الكلام عليه وإلا أتى زمزم فتضلع من مائها وهي بئر فهو علم خفي في صورة طبيعية عنصرية قد اندرج فيها تحيي بها النفوس يدل على العبودية المحضة فإن حكم الله تعالى في الطبيعة أعظم منه في السموات والأرض لأنهما من عالم الطبيعة عندنا وعن الطبيعة ظهر كل جسم وجسد وجسماني في عالم الأجسام العلوي والسفلي‏

(وصل) في فصل‏

قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ ولم يقل للحاج فأنزل الحج في الآية منزلة الناس ما أنزله منزلة الديون والبيوع وإن كان المعنى يطلبه فعلمنا إن حكم الحج عند الله ليس حكم الأشياء التي‏

تعتبر فيها الأهلة أعني مواقيت الأهلة

[أكثر أفعال الحج تعبد محض‏]

والحج فعل مضاف مخصوص معين يفعله الإنسان كسائر أفعاله في بيوعه ومدايناته فاعتنى بذكر هذه الأفعال المخصوصة لأنها أفعال مخصوصة لله عز وجل بالقصد ليس للعبد فيها منفعة دنيوية إلا القليل من الرياضة البدنية ولهذا تميز حكم الحج عن سائر العبادات في أغلب أحواله وأفعاله في التعليل فأكثره تعبد محض لا يعقل له معنى عند الفقهاء فكان بذاته عين الحكمة ما وضع لحكمة موجبة وفيه أجر لا يكون في غيره من العبادات وتجل إلهي لا يكون في غيره من الأعمال‏

[الهلال في أول شهر الوقوف بمنزلة الواحد من العدد]

فكان الهلال في أول شهر الوقوف بمنزلة الواحد من العدد وتجلى الهلال في أول ليلة فيه تجلى الحق في العبد بالإيمان الذي هو أول مطلوب بالشرع من الإنسان المكلف والايمان روح وجسمه صورة التلفظ بلا إله إلا الله وهي الشهادة بالتوحيد وكذلك نشهد أول ليلة الهلال ثم لا يزال يعظم التجلي في بسائط العدد إلى أن ينتهي إلى ليلة التاسع وهي آخر ليلة بسائط العدد التي هي آحاده فكمل تجليه في آحاد بسائط العدد فكان الوقوف بعرفة يوم التاسع فحصلت له معرفة الله تعالى بكمال البسائط ولهذا قابلها ودخل فيها بالتجريد عن المخيط وهو التركيب أ لا تراه يلبس في اليوم العاشر المخيط لأنه انتقل من الآحاد إلى أول العقد وهي العشرة

[عقد الأنشوطة وعقد غير الأنشوطة]

والعقد لا يكون إلا بين اثنين بضم الواحد إلى الآخر بصورة العطف والالتفاف وهو على قسمين أعني العقد وهو أنشوطة وغير أنشوطة فعقد الأنشوطة يسرع إليه الانحلال فيما عهد إليه وعاهد عليه الله وغير الأنشوطة لا يسرع إليه الانحلال‏

[الاثنتا عشرة مرتبة في التجليات الكمالية في الحج‏]

وبقي بعد التسعة من أفعال الحج ثلاثة وهو فعل المزدلفة ومنى وطواف الإفاضة والفعل المختص بالمزدلفة إنما هو من أول الفجر إلى طلوع الشمس وليس المبيت في المزدلفة خاصا بها لأنها ليلة عرفة والمزدلفة لا ليلة لها ولها المبيت لا الليلة كليلة سودة بنت زمعة الليلة لها والمبيت لعائشة فلسودة ليلة بلا مبيت ولعائشة مبيت ليلة سودة لا ليلتها ولهذا كانت تلك الليلة تضاف إلى سودة بالذكر كذلك بقي من مراتب العدد ثلاثة بعد التاسع وهي العشرة والمائة والألف وما بقي للعدد مرتبة سوى ما ذكرته كذلك ليس بعد طواف الإفاضة عمل للحاج في الحج يحرم عليه به شي‏ء هو له حلال فإنه به أحل الحل كله وليس بعده لغير المكي إلا طواف الوداع لأنه ودع مراتب العدد وبقي التركيب فيه إلى ما لا نهاية له فهذه اثنتا عشرة مرتبة قد حصلها العبد في التجليات الكمالية العددية ودخل في الليلة الثالث عشرة الهلال في الكمال وهي من الليالي البيض المرغب في صومها كأيام التشريق المرغب في فطرها التي يصومها المتمتع الآفاقي‏

[السلوك منه- تعالى- بالخروج إلينا والسلوك إليه منا]

وانتهى نصف الشهر الذي يتضمن السلوك منه بالخروج إلينا وإياه سبحانه نقصد ثم نشرع في النصف الثاني من الشهر في السلوك إليه منا إلى أن ينتهي إلى ليلة السرار وهو الكمال الغيبي كما كان في النصف الكمال الشهادي فكمل غيبا وشهادة ودار الدور بإهلال ثان وحكم آخر دنيا وآخرة فإنه قال في وصف الجنة لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وعَشِيًّا فجعلها محلا للزمان المعروف عند العرب مثل الدنيا

[الحاج في الحج يجنى ثمرات الزمان والعدد]

فالحاج في الحج يجني ثمرة الزمان وما يحوي عليه من المعارف الإلهية المختصة بشهر ذي حجة ويجني ثمرة العدد في المعارف الإلهية لأن العدد له حكم فيها أ لا تراه قد قال واذْكُرُوا الله في أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وقال إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد

فدخل تحت حكم العدد بأسماء مخصوصة وقال إن الله ثلاثمائة خلق‏

فأدخل الأخلاق الإلهية تحت حكم العدد فله سلطان في الإلهيات ذكرا واسما وخلقا فمن لم يقف عليه حرم خيرا كثيرا من المعرفة بالله ولذلك قدمنا في هذا الباب وجود الآحاد في الكثرة والكثرة في الآحاد وهو العدد فهو المعطي الفائدة للعادين قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ كما قال فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فألحقهم بالعلماء كذلك الحج هو المعطي ما يحوي عليه من المعارف الإلهية للحاج فلهذا أضيف الميقات للحج في الهلال وما أضيف للحاج كما أضيف للناس‏

[النصف لا يؤذن بالنقص لكونه نصفا]

وجعلها مواقيت لما ذكرناه فإن الفعل ينتهي فيه إلى نصف الشهر وهو تمام وكمال في نفس الأمر فإن النصف لا يؤذن بالنقص لكونه نصفا ولو كان نقصا لكان الذي حصل له متصفا في تحصيله بالنقص لأنه ما حصل له النصف الآخر بل لو حصل له النصف الآخر لكان نقصا حصوله‏

قال تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي‏

فظهر كمال الحق في تحصيل النصف من الصلاة ولو اتصف بتحصيل النصف الثاني لكان نقصا فيما ينبغي لله من الكمال وظهر كمال العبد في تحصيل النصف من الصلاة ولو اتصف بتحصيل النصف الآخر لكان نقصا في كمال عبوديته وفيما ينبغي له من الكمال فيها فكان يوصف‏

بأوصاف الرب وليس له ذلك‏

[الشرك من مظالم العباد]

أ لا ترى الشريك الموضوع لله تعالى من المشرك كيف لا يغفر الله هذه المظلمة فإنها من حقوق الغير لا من حق الله فإنه من كرم الله ما كان لله من حق على العبد وفرط فيه غفره الله له وذلك لأن حقيقته التفريط ولا يعصمه من ذلك إلا الله فالعصمة فيما تقتضيه حقيقته ليست له إنما هي لله وبيد الله فمن لم يخرج عن حقيقته فلا مطالبة عليه ولهذا كانت لله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ على خلقه فتعين إن الشرك من مظالم العباد فإن الشريك يأتي يوم القيامة من كوكب ونبات وحيوان وحجر وإنسان فيقول يا رب سل هذا الذي جعلني إلها ووصفني بما لا ينبغي لي خذ لي بمظلمتي منه فيأخذ الله له بمظلمته من المشرك فيخلده في النار مع شريكه إن كان حجرا أو نباتا أو حيوانا أو كوكبا إلا الإنسان الذي لم يرض بما نسب إليه ونهى عنه وكرهه ظاهرا وباطنا فإنه لا يكون معه في النار وإن كان هذا من قوله وعن أمره ومات غير موحد ولا تائب كان معه في النار إلا أن الذي لا يرضى بذلك ينصب للمشرك مثال صورته يدخل معه ليعذب بها ولا عذاب على كوكب ولا حجر ولا شجر ولا حيوان وإنما يدخلون معهم زيادة في عذابهم حتى يروا أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ من دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فيقولون لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ فهم جمر جهنم فالناس المشركون والحجارة المعبودون‏

[الذين سبقت لهم الحسنى هم عنها مبعدون‏]

وأما من سبقت لهم الحسنى وهم الذين لم يأمروا ولم يرضوا فهم عَنْها مُبْعَدُونَ كعيسى وعزيز وأمثالهما وعلي بن أبي طالب وكل من ادعى فيه أنه إله وقد سعد فيدخل الله معهم في جهنم مثلهم الذين كانوا يصورونها في الكنائس وغيرها نكاية لهم لأن كل عابد من المشركين قد مسك مثال صورة معبوده المتخيلة في نفسه فتجسد إليه تلك الصورة المتخيلة ويدخلها النار معه فإنه ما عبد إلا تلك الصورة التي مسكها في نفسه‏

[تجسد المعاني غير منكور شرعا وعقلا]

وتجسد المعاني المتخيلة غير منكور شرعا وعقلا فأما العقل فمعلوم عند كل متخيل وأما الشرع فقد ورد بتصور الأعمال والأعمال أعراض أ لا ترى الموت وهو معنى نسبي إضافي فإنه عبارة عن مفارقة الروح الجسد وأن الله يمثله يوم القيامة للناس صورة كبش أملح فيوضع بين الجنة والنار ويذبح‏

فهكذا تلك المثل‏

[لا شي‏ء أشد من ظلم النفس‏]

وأما الظالم لنفسه من أهل الشرك فنفسه تطالبه عند الله بمظلمتها ولا شي‏ء أشد من ظلم النفس أ لا ترى القاتل نفسه الجنة عليه محرمة

[كمال الشي‏ء ما لا يخرجه عن حقيقته‏]

فثبت بهذا إن الكمال للشي‏ء ما لا يخرجه عن حقيقته فإذا أخرج عن حقيقته وما تستحقه ذاته كان نقصا فلهذا قلنا إن النصف كمال في حق من هو سهمه مال الورث وإن انقسم إلى ثلث وربع وثمن وثلثين ونصف وسدس وغير ذلك وكل جزء إذا حصل لمستحق صاحب الفريضة فقد حصل له كمال نصيبه فهو موصوف بالكمال في النصيب مع كونه ما حصل له إلا سدس المال إن كان له السدس ولا يتصف بالنقص‏

[و أتموا الحج والعمرة لله‏]

قال الله وأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ والعمرة بلا شك تنقص في الأفعال عن أفعال الحج وكمالها إتيانها كما شرعت وكذلك الحج يتصف بالكمال إذا استوفيت صورته وكملت نشأته وهما نشأتان ينشئهما العبد المكلف أنشأها بما أعطاه الله من خلقه على الصورة الإلهية فضرب له بسهم في الربوبية بأن جعل له فعلا وإنشاء فإن انحجب بذلك عن عبوديته فقد نقص وشقي وكان صاحب علة ولهذه العلة جعل الله له دواء فقال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم جرح العجماء جبار فأضاف الجرح وهو فعل للعجماء فإن ادعى الربوبية لكونه فاعلا فهو يعلم أنه أفضل من العجماء فإن نسب الفعل إليهما فتنكسر نفسه ويبرأ من علته إن استعمل هذا الدواء ثم يفكر في إن الشرع قد جعل جرح العجماء جبار وجرح الإنسان مأخوذ به على جهة القصاص مع كون العجماء لها اختيار في الجرح وإرادة ولكن العجماء ما قصدت أذى المجروح وإنما قصدت دفع الأذى عن نفسها فوقع الجرح والأذى تبعا بخلاف الإنسان فإنه قد يقصد الأذى فمن حيوانيته يدفع الأذى ومن إنسانيته يقصد الأذى‏

[الإنسان بنيان صنعه رب كريم وأكرم ورحمن‏]

فالعبد رق والرب الكريم خلق فعين الشكل وفصل الأجزاء في الكل ثم الرَّحْمنُ ... خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ وهو ما ينطق به اللسان ثم الرب الأكرم عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ما يخطه البنان فالإنسان بنيان صنعة رب كريم وأكرم ورحمان فهذه أربعة أسماء توجهت على خلق الماء فجعل من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ إذ كان عرشه عليه فالكون المخلوق ظله بفيئه ثم رده إليه فالإلقاء رتق واللقاء فتق فعين السماء من الأرض فتميز الرفع من الخفض وأحكم الصنعة الإنسانية وصبغها بالصبغة الإيمانية في حضرة الفهوانية

بالمشاهدة الإحسانية فلما كتب رتب فوضع كل شي‏ء مكانه وأقام أوزانه لما وضع ميزانه‏

فكل جزء له حكم يميزه *** في عينه أبدا من بين إخوانه‏

فالكل في الكل مضروب لذي نظر *** ضرب الحساب لإفهام بتبيانه‏

لأنه في دجى الأحشاء رتبه *** إذ كان سواه في تعديل بنيانه‏

أقام نشأته من عين صورته *** وعين الحق فيها وضع ميزانه‏

الأصل مني وحكم الوزن منه لذا *** أبدته في عينه أحكام أوزانه‏

وأودع العالم العلوي فيه بما *** أعطاه من نفسه بحد إمكانه‏

فصار جمعا لما قد كان فرقه *** من الحقائق في أعيان أكوانه‏

بالجمع صح له تحصيل صورته *** لم يدر ذلك لو لا حكم إيمانه‏

أحاط علما بأن الأمر فيه على *** خلاف ما هو في آيات قرآنه‏

من كان يقرأه يدري حقيقته *** بأنه لم يزل في حكم فرقانه‏

فلو لا شرف النفس ما دفع الحيوان الأذى عن نفسه وما قصد أذى الغير مع جهله بأنه يلزمه من غيره ما يلزمه من نفسه للاشتراك في الحقيقة وكذلك الإنسان إذا دفع الأذى عن نفسه لم يقع عليه مطالبة من الحق فإن تعدى وزاد على القصاص أو تعدى ابتداء أخذ به ولكن ما يتعدى إلا من كونه إنسانا فقد تجاوز حيوانيته إلى إنسانيته والأصل في هذا التعدي من الأصل لأن الأصل له الغني وأين حكمه من حكم ما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فهذا الأمر من الخالق أعني من الاسم الخالق لا من الاسم الغني فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عن حجكم أو عمرتكم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ‏

(وصل في فصل الإحصار)

اختلف العلماء بالذكر في هذه الآية في حكم المحصر بمرض أو بعد وهل هذا المحصر في هذه الآية بعدو أو بمرض فقالت طائفة المحصر هنا بالعدو وقالت طائفة المحصر هنا بالمرض وقال قوم المحصر الممنوع عن الحج أو العمرة بأي نوع كان من المنع بمرض أو بعدو أو غير ذلك وهو الظاهر وبه أقول مراعاة للقصد وما أوقع الخلاف إلا فهمهم في اللسان لأنه جاء في الآية بالوزن الرباعي ونقل إنه يقال حصره المرض وأحصره العدو فأما المحصر بالعدو فاتفق الجمهور على أنه يحل من عمرته وحجه حين أحصر وقال الثوري والحسن بن صالح لا يحل إلا يوم النحر وبالأول أقول وهو أنه يحل حين أحصر غير أني أزيد هنا شيئا لم يره من وافقنا في الإحلال حين الإحصار وهو أن المحرم إن كان قال حين أحرم إن محلي حيث تحبسني كما أمر فلا هدي عليه ويحل حيث أحصر وإن لم يقل ذلك وما في معناه فعليه الهدى والذين قالوا بالتحلل حين أحصر اختلفوا في إيجاب الهدى عليه وفي موضع نحره عند من يقول بوجوبه على شرطنا أو على غير شرطنا فيما أحصر عنه من حج أو عمرة فقال بعضهم لا هدي عليه وإن كان معه هدي تطوع نحره حيث أحل وبنحر الهدى المتطوع به حيث أحل أقول وقال بعضهم بإيجاب الهدى عليه واشترط بعضهم ذبح الهدى الواجب بالحرم وأما الإعادة فمن العلماء من لا يرى عليه إعادة وبه أقول في حج التطوع وعمرته إن كان عليه في ذلك حرج فإن لم يكن عليه فيه حرج فليعد وأما الفريضة فلا تسقط عنه إلا إن مات قبل الإعادة فيقبلها الله له عن فريضته وإن لم يحصل منه إلا ركن الإحرام بل ولو لم يحصل منه إلا القصد والتعمل وقال بعضهم إن كان أحرم بالحج فعليه حجة وعمرة وإن كان قارنا فعليه حجة وعمرتان فإن كان معتمرا قضى عمرته ولا تقصير عليه واختار بعض من يقول بهذا القول التقصير وقد حكى بعضهم الإجماع على إن المحصر بمرض وما أشبهه عليه القضاء ولكن لا أدري أي إجماع أراد فإن إطلاق الفقهاء لفظة الإجماع قد تجاوزوا بها حدها الأول إلى غيره فقد يطلقون الإجماع على اتفاق المذهبين ويطلقونه على اتفاق الأربعة المذاهب ولكن ما هو الإجماع الذي يتخذ دليلا إذا لم يوجد الحكم في كتاب ولا سنة متواترة فهذا قد ذكرنا من اختلافهم في هذه المسألة ما ذكرناه وتركنا ما لا يحتاج إليه في هذا الوقت فلنرجع إلى طريقنا فنقول‏

[نسبة الفعل إلى الله وإلى الإنسان‏]

قوله تعالى‏

أُحْصِرْتُمْ هو من أحصر لا من حصر يقال فعل به كذا إذا أوقع به الفعل فإذا عرضه لوقوع ذلك الفعل يقال فيه أفعل ومثاله ضرب زيد عمرا إذا أوقع به الضرب وأضرب زيد عمرا إذا جعله يضرب غيره وفي اللسان أحصره المرض وحصره العدو بغير ألف فهو في المرض من الفعل الرباعي وفي العدو من الفعل الثلاثي فالعبد لما كان محل ظهور الأفعال الإلهية فيه وما تشاهد في الحس إلا منه ولا يمكن أن يكون إلا كذلك نسب الله الفعل للعبد ونسب الناس الفعل للمخلوق وإن كان أصاره الحق لذلك فصار فنسبة صار تجعل الفعل للعبد ونسبة أصار تجعل الفعل لله فمن راعى أصار لم يوجب عليه الهدى لأن الأصل عدم الفعل من العبد ومن راعى أصاره الحق فصار أوجب عليه الهدى ولهذا فصلنا نحن في ذلك فقلنا إن قال محلي حيث يحبسني فقد تبرأ العبد من حكم الحصر فلا هدي عليه وإن لم يقل كان الهدى عليه عقوبة للترك فالفعل من المخلوق للعبد ظهور الفعل منه بالاختيار والقصد والمباشرة حقيقة مشهودة للبصر والفعل من المخلوق من كون الحق أصاره إلى ذلك فكان له كالآلة للفاعل والآلة هي المباشرة للفعل وينسب الفعل لغير الآلة بصرا وعقلا فيقال زيد الضارب والمباشر للضرب والذي يقع به الضرب إنما هو السوط لا زيد هكذا أفعال العباد فهم للحق كالآلة لزيد النجار أو الحائك أو الخائط أو ما كان وبهذا القدر تعلق الجزاء والتكليف لوجود الاختيار من الآلة والأصل الغفلة الغالبة وهي مسألة دقيقة في غاية الغموض ولا دليل في العقل يخرج الفعل عن العبد المخلوق ولا جاء به نص من الشارع لا يحتمل التأويل فالأفعال من المخلوقين مقدرة من الله ووجود أسبابها كلها بالأصالة من الله وليس للعبد ولا لمخلوق فيها بالأصالة مدخل إلا من حيث ما هو مظهر لها ومظهر اسم فاعل واسم مفعول يقال في الصنع إذا اختل في صنعته شي‏ء لعدم مساعدة الآلة مع علمه بالصنعة قد أخل منها بكذا وكذا أو يستفهم لم أخللت بها مع علمنا بأنك عالم بها فيقول لم تساعدني الآلة على إبراز ما كان في علمي ويقول المصنوع ما قصر لظهور عينه لا لقصد الصانع فمن حيث الصنعة في المصنوع ما اختل شي‏ء ومن حيث مصنوع ما كان المراد سواه إذا كان الصانع المخلوق اختل فإن كان الخالق فما اختل في الصنعة شي‏ء لأن الكل مقصود لعدم قصور تعلق الإرادة فكل واقع وغير واقع مراد للحق أراد الله إيجاد عرض ما ولم يرد إيجاد محل يقوم به هذا العرض فلم يمكن إيجاد ذلك العرض ما لم يكن المحل فلا بد من وجود المحل إذ كان لا بد من وجود العرض فوجود العرض عن إيجاد اختياري ووجود المحل عن إيجاد غير اختياري ولا يجوز أن يكون اضطرار يا إذ كان لا بد من وجود ذلك العرض فاضطرار الكون من حقيقة عدم هذا الاختيار المحقق فتفطن‏

[العالم خرج على صورة الحق‏]

فإنك إن لم تعرف الأمور من جهة حقائقها لم تعرف أن العالم خرج على صورة الحق يرتبط ما فيه من الحقائق بالحقائق الإلهية وهذا مدرك صعب عليه حجب كثيرة لا ترتفع بفكر ولا بكشف فالأمر دائر بين تأثير حق في خلق وخلق في حق قال تعالى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وقال ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ الله فللناقة شرب أعني ناقة صالح ولَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ضرب مثال لقوم يعقلون وما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فالحصر عم الوجود فكل موجود موصوف بحصر ما فهو محصر من ذلك الوجه وقد أبنت لك ما لا يقدر على دفعه كشف ولا دليل عقل نظري والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(وصل في فصول أحكام القاتل للصيد في الحرم وفي الإحرام)

وقد تقدم من حكم الصيد طرف في هذا الباب والكلام هنا في قتله لا في صيده في الحرم كان أو في الحل لقوله لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُمْ حُرُمٌ الآية وهي آية محكمة واختلفوا في تفاصيلها على حسب فهمهم فيها فمن ذلك هل الواجب قيمته أو مثله فذهب بعضهم إلى أن الواجب المثل وقال بعضهم هو مخير بين القيمة والمثل‏

[قتل الصيد في الحرم أو في الإحرام شهادة للصيد]

قتل الصيد شهادة للصيد فهو حي يرزق لأنه قتل تعديا بغير حق في سبيل الله إذ سبيل الله حرمه والحرم صفة المحرم والبقعة فهذا الصيد المتعدي عليه إما بهاتين الصفتين أو بإحداهما فمن تعمد قتله محرما أو في الحرم فقد تعدى عليه فعاد ما أراد به من الموت وإن لم يقم به على القاتل فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فالصيد مقتول لا ميت والقاتل ميت لا مقتول فهذا هو الميت المكلف كما يطلب الجواب من الميت في قبره عند السؤال مع وصفه بالموت وهذا هو الموت المعنوي فكلف بجزاء مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏

... هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ كما يعذب الميت في قبره ومن عادَ لمثل ذلك الفعل فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ إما بإعادة الجزاء فإنه وبال والوبال الانتقام وإما أن يسقط عنه في الدنيا هذا الوبال المعين وينتقم الله منه بمصيبة يبتليه بها إما في الدنيا وإما في الآخرة فإنه لم يعين‏

[علوم الأسرار المصونة عن الأغيار]

واعلم أن كل علم من علوم الأسرار المصونة في خزائن الغيرة التي لا يوهب إلا لأهله فإنه‏

قال صلى الله عليه وسلم لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها

فهي كالصيد في حمى الحرم أو الإحرام أو هما معا أعني في الحمائين فإذا قتلها وهو أن يمنحها غير أهلها فلا يعرف قدرها فتموت عنده عاد وبالها عليه فيكفر بها ويتزندق فذلك عين الجزاء حكم به عدلان وهما الكتاب والسنة فإن كان الجزاء مثلا فيبحث عن جاهل عنده حكمة لا يعرف قدرها فيبين له عن مكانتها حتى يحيى بها قلبه فيقتل متعمدا من ذلك الشخص عين الجهل القائم به الذي كان سبب إضاعة هذا العلم عنده وصورة العقوبة والوبال فيه عليه إنه حرم حكمة ذلك الجهل في ذلك الجاهل حتى رآها صفة مذمومة منهيا عنها مستعاذا بالله منها في قوله أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ من الْجاهِلِينَ فحرم ما هو كمال في نفس الأمر إذ كان الجهل من جملة الأسرار المخزونة في أعيان الجاهلين فحفظها تبرم العالم منها فكأنهم تبرءوا عن حقائقهم فالذي تبرءوا منه وقعوا فيه فإنهم تبرءوا من الجهل بالجهل لو عقلوه فحكم جهلهم فيهم أعظم من جهل الجهلاء فإنهم ما تفطنوا لقول الله فَلا تَكُونَنَّ من الْجاهِلِينَ فلا ينتهي إلا عن معلوم محقق عنده فإنه إن لم يعلم الجهل فلا يدري ما نهي عنه وإذا علمه فقد اتصف به فإن الجهل إن لم يكن ذوقا فلا يحصل له العلم به فإنه من علوم الأذواق‏

[العلم بالله عين الجهل به‏]

أ لا ترى الطائفة قد أجمعوا على إن العلم بالله عين الجهل به تعالى وقال الله تعالى في الجاهل ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ من الْعِلْمِ فسمى الجهل علما لمن تفطن وهي صفة كيانية حقيقة للعبد إن خرج منها ذم وإن بقي فيها حمد فإنه ما علم من الله سوى ما عنده وما عنده ينفد فإنه عنده وما هو هو لا ينفد وهو هو عين الجهل والذي عنده عين العلم فهو عين الدلالة والدليل وهو الدال فهو عين العلم بالله‏

والعلم بالله نفي العلم بالله *** والثبت من صفة المنعوت بالساهي‏

فالعلم جهل لكون العين واحدة *** والجهل علم بكون الله في اللاهي‏

انتهى الجزء التاسع والستون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فصل اختلافهم في آية قتل الصيد في الحرم والإحرام في كفارته هل هي على الترتيب أم لا)

الآية قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ إلى آخر الآية اختلفوا في هذه الآية هل هي على الترتيب وبه قال بعضهم إنه المثل أولا فإن لم فالإطعام فإن لم فالصيام أو الآية على التخيير وقال به بعضهم وهو أن الحكمين يخير أن الذي عليه الجزاء وبه أقول فإن كلمة أو تقتضي التخيير ولو أراد الترتيب لقال وأبان كما فعل في كفارات الترتيب فمن لم يجد فمذهبنا في هذه المسألة أن المثل المذكور هنا ليس كما رآه بعضهم أن يجعل في النعامة بدنة وفي الغزالة شاة وفي البقرة الوحشية بقرة إنسية بل في كل شي‏ء مثله فإن كانت نعامة اشترى نعامة صادها حلال في حل وكذلك كل مسمى صيد مما يحل صيده وأكله من الطير وذوات الأربع أو كفارة بإطعام وحد ذلك عندي إن ينظر إلى قيمة ما يساوي ذلك المثل فيشتري بقيمته طعاما فيطعمه للمساكين أو عدل ذلك صياما فننظر إلى أقرب الكفارات شبها بهذه الكفارة الجامعة لهدي أو إطعام أو صيام فلم نجد إلا من حلق رأسه وهو محرم لأذى نزل به فَفِدْيَةٌ من صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فذكر الثلاثة المذكورة في كفارة قاتل الصيد فجعل الشارع هنالك في الإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع وجعل الصيام ثلاثة أيام فجعل لكل صاع يوما فننظر القيمة فإن بلغت صاعا أو أقل فيوم فإن الصوم لا يتبعض وإن بلغت القيمة أن نشتري بها صاعين أو دون الصاعين أو أكثر من الصاع فيومان وهكذا ما بلغت القيمة وأعني بالقيمة قيمة المثل يشتري بها طعاما فيطعم والصيام محمول على ما حصل من الطعام بالشراء على ما قرناه فهو مخير بين المثل والإطعام بقيمة المثل والصيام‏

بحسب ما حصل من الطعام من قيمة المثل والمثل والطعام تناوله سبب في بقاء حياة المتغذي به لأن هذا المتغذي أتلف نفسا وأزال حياة فجبرها وكفر ذلك بما يكون سببا لا بقاء حياة فكأنه أحياها زمان بقائها بحصول ذلك الغذاء من المثل أو الطعام‏

[الصيام صفة ربانية]

وأما الصيام فإنها صفة ربانية فكلف إن يأتي بها هذا القاتل إن لم يكفر بالمثل أو بالإطعام فإن أبيت فأخرج عن التحجير حتى يكون قاتل الصيد غير محجور عليه فلا يكلف شيئا قال وما هو قال الصوم فإنه لي وأنا لا أتصف بالحجر علي فتلبس بصفتي تحصل في الحمى عن الحجر عليك فإذا صمت كان الصوم لي والجوع لك فيما في الصوم من الجوع في حقك الذي ليس لي يكون كفارة لأن الجوع من الأسباب المزيلة للحياة من الحي فأشبه القتل الذي هو سبب مزيل للحياة من الحي ولم تزل حياتك بهذا الجوع لأنه جوع صوم والصوم من صفاتي وهو غير مؤثر في الحياة الأزلية فلهذا لم يجع جوع الإتلاف‏

[الحق مذهب الأشياء لا معدمها]

والحق سبحانه مذهب الأشياء لا معدمها لأنه فاعل والفاعل من يفعل شيئا فإن لا شي‏ء ما يكون مفعولا فهو وإن أذهب الأشياء من موطن كان لها وجود في موطن آخر فإن الكون الذي منه الاجتماع والافتراق لا يدل على عدم الأعيان فالموت إذهاب لا إعدام فإنه انتقال من دنيا إلى آخرة التي أولها البرزخ فلما كان الإذهاب من صفات الحق لا الإعدام كما قال تعالى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ويَأْتِ بِآخَرِينَ ولم يقل يعدمكم لذلك لم يجعل جوع الصوم جوع إتلاف النفس وإن كان إذهابا لا إعداما وذلك أنه لا يصح الإعدام لهذا الموجود لأن المتصف بالوجود إنما هو الحق الظاهر في أعيان المظاهر فالعدم لا يلحق به أصلا فإنه يقول للشي‏ء إذا أراده كُنْ فَيَكُونُ هو

[الحق هو الظاهر في أعيان المظاهر]

نظرت في كون من قالت إرادته *** إذا توجه للأشياء كن فتكون‏

فعند ما حققت عيني تكونه *** إذا به عينه لا غيره فأكون‏

فخذ فديتك علما كنت تجهله *** وانظر إلى أصعب الأشياء كيف يهون‏

فالعلم أشرف نعت ناله بشر *** وصاحب العلم محفوظ عليه مصون‏

إن قام قام به أو راح راح به *** والحال والمال في حكم الزوال يكون‏

وليس ناظم هذا غيره فله *** ما قلت فهو الذي في عين كل مكون‏

لو لا تجليه في الأعيان ما ظهرت *** نعوت كان به وكائن ويكون‏

لذا تسمى بدهر لا انقضاء له *** ولا ابتداء فشكل الكون منه كنون‏

(وصل في فصل هل يقوم الصيد أو المثل)

فمذهبنا قد تقدم أن المثل يقوم وبينا ما هو المثل فقال بعضهم يقوم الصيد وقال قوم يقوم المثل وهو قولنا وخالفناهم في المثل ما هو وكذلك اختلفوا في تقدير الصيام بالطعام وقد تقدم مذهبنا فيه فقالت طائفة لكل مد يوما وقال قوم لكل مدين يوما

(وصل في فصل قتل الصيد خطأ)

اختلف فقيل فيه الجزاء وقيل لا شي‏ء عليه فيه وبه أقول فإن قتل الخطاء هو قتل الله ولا حكم على الله فإنه بالنسبة إلى الله مقصود القتل وبالنسبة إلينا خطأ لظهور القتل على أيدينا وعدم القصد فيه فالمقتول متعمد أي مقصود بالقتل غير مقصود بالقتل فلهذا تصور الاختلاف لإطلاق الحكمين فيه فمن راعى أنه قتله من كونه ظاهرا في مظهر القاتل ما أوجب الجزاء لأن تلك العين التي ظهر فيها أعطته الحكم عليه بأن لا جزاء لأنه قاصد للقتل ومن راعى أنه القاتل من خلف حجاب الكون الظاهر ولكن ما أوقعه وظهر في الوجود الأعلى يد الظاهر أوجب الجزاء لأن الحكم لما ظهر والقصد غيب وما تعبدنا به فالقاتل إن عرف من نفسه أنه قتل غير قاصد فأوجب عليه ظاهر الشرع بالحكمين الجزاء جبرا كان ذلك له صدقة تطوع بوجوب شرعي في أصل مجهول عند الحاكم فجمع لهذا القاتل بين أجر التطوع والواجب فأسقط عنه ما يسقطه الواجب والتطوع معا وإن لم يره أحد مضى ولا شي‏ء عليه‏

(وصل في فصل اختلافهم في الجماعة المحرمين اشتركوا في قتل صيد)

اختلفوا إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقيل على كل واحد جزاء وقيل عليهم جزاء واحد والذي أقول به إن عرف كل واحد من الشركاء أنه ضربه في مقتل كان على كل من ضربه في مقتل جزاء ومن جرحه في غير مقتل فلا جزاء عليه وهو آثم حيث تعرض بالأذى لما حرم عليه الجماعة هنا إذ يأثم الإنسان بجميع ما كلف من أعضائه الثمانية فعليه لكل عضو توبة من حيث ذلك العضو ومن رأى التوبة من جانب من تاب إليه لا ما تاب منه فهو القائل بجزاء واحد وفرق بعضهم بين المحرمين يقتلون الصيد وبين المحلين يقتلون الصيد في الحرم فقال في المحرمين على كل واحد منهم جزاء وقال في المحلين جزاء واحد

(وصل في فصل هل يكون أحد الحكمين قاتلا للصيد)

فذهب قوم إلى أنه لا يجوز وأجازه قوم فمن رأى أنه لا فاعل إلا الله وهو الحاكم وهو الفاعل أجاز ذلك ومن رأى أن الفعل للمخلوق لم يجز ذلك وبالأول أقول وأثبت القول الثاني على غير الوجه الذي يعتقده القائل به‏

(وصل في فصل اختلافهم في موضع الإطعام)

فقيل يطعم في الموضع الذي قتل فيه الصيد إن كان هناك طعام أو في أقرب المواضع إليه إن لم يكن هناك ما يطعم وقال بعضهم حيثما أطعم أجزأه وبه أقول لأن الله ما عين وقال بعضهم لا يطعم إلا مساكين مكة من كان الله قبلته لم يخصص الإطعام بموضع معين ومن كان قبلته البيت حدد

(وصل في فصل اختلافهم في الحال يقتل الصيد في الحرم بعد إجماعهم على أن المحرم إذا قتل الصيد إن عليه الجزاء)

فقال قوم عليه الجزاء وقال قوم لا شي‏ء عليه وبه أقول‏

(وصل في فصل المحرم يقتل الصيد ويأكله)

فمن قائل عليه كفارة واحدة وبه أقول وقيل عليه كفارتان وبه قال عطاء وفيه وجه عندي فإن الشرع اعتبره فما أطلق أكله إلا لمن لم يعن عليه بشي‏ء فأحرى إذا كان هو القاتل فإن أكله يحرم عليه صيده كما حرم عليه قتله فهذه ثلاثة حرم صيد وقتل وأكل‏

[من حق نفسه عليه أن لا يطعمها إلا ما لها حق فيه‏]

لما كان الآكل لنفسه سعى ومن حق نفسه عليه أنه لا يطعمها إلا ما لها حق فيه وما لا حق لها فيه فقد ظلمها فجوزي جزاء من ظلم نفسه‏

(وصل في فصل فدية الأذى)

أجمع العلماء على أنها واجبة على من أماط الأذى من ضرورة وهو وجوب اللعنة على الذين يؤذون الله ورسوله فوجب دفع الأذى حرمة للمحرم ووجبت الكفارة حرمة للإحرام‏

[الكلام في الله بما لا ينبغي أذى فوجبت إماطته‏]

الكلام في الله بما لا ينبغي أذى فوجبت إماطته حرمة للحق ولا فاعل إلا الله فوجبت الكفارة وهي الستر لهذه النسبة بأن لا يضاف مثل هذا الفعل إلى الله تعالى وجل والكفارات كلها ستر حيثما وقعت واختلفوا فيمن أماط الأذى من غير ضرورة فقال قوم عليه الفدية المنصوص عليها وقال قوم عليه دم وبه أقول فإنه غير متأذ في نفسه أي أنه ليس بذي ألم لذلك ولذلك جعل محل الأذى الرأس المحس به وما جعله الشعر فما ثم ضرورة توجب الحلق‏

[الإنسان مخلوق على الصورة]

لما كان الإنسان مخلوقا على الصورة وجبت إماطة الأذى عنه للنسبة عناية به ووجبت الكفارة فيما أوجب الله عليه فعله أو أباحه له لئلا يشغله الإحساس بالأذى عن ذكر الله وما شرع الحج إلا لذكر الله فوجبت الكفارة حيث لم يصبر على الأذى فما وفي الصورة حقها فإنه‏

ورد أنه ما أحد أصبر على أذى من الله‏

وبهذا سمي الصبور وبعدم المؤاخذة مع الاقتدار سمي الحليم‏

(وصل في فصل) اختلافهم هل من شرط من وجبت عليه الفدية بإماطة الأذى‏

أن يكون متعمدا أم الناسي والمتعمد سواء فقال قوم هما سواء وقال آخرون لا فدية على الناسي وبه أقول والناسي هنا هو الناسي لإحرامه وكلاهما متعمد لإماطة الأذى فإذا وجبت على المضطر وهو الذي قصد إزالتها لإزالة الأذى مع تذكره الإحرام فهي على الناسي أوجب لأنه مأمور بالذكر الذي يختص بالإحرام فإذا نسي الإحرام فما جاء بالذكر الذي للمحرم فاجتمع عليه إماطة الأذى ونسيان الإحرام فكانت‏

الكفارة أوجب‏

[إضافة الأفعال: إلى الله أو إلى العباد أو إليهما بوجهين مختلفين‏]

وأصل ما ينبغي عليه هذا الباب وجميع أفعال العبادات كلها علم إضافة الأفعال هل تضاف إلى الله وإلى العباد أو إلى الله وإلى العباد فإن وجودها محقق ونسبتها غير محققة فلنقل أولا في ذلك قولا إذا حققته ونظرت فيه نظر منصف عرفته أو قاربت فإني أفصل ولا أعين الأمر على ما هو في نفسه لما فيه من الضرر واختلاف الناس فيه والخلاف لا يرتفع من العالم بقولي فإبقاؤه في العموم على إبهامه أولى وعلماء رجالنا يفهمون ما أومئ إليه فيها فأقول إن الله قد قال إنه ما خلق الله الخلق إلا بالحق وتكلم الناس في هذا الحق المخلوق به وما صرح أحد به ما هو إلا أنهم أشاروا إلى أمور محتملة

[الحق المخلوق به والعالم المخلوق أمران محققان‏]

فاعلم إن الحق المخلوق به والعالم المخلوق أمران محققان أنهما أمران عند الجميع غير أنهما نظير الجوهر الهبائي والصورة ومعلوم عند الجماعة أن الأفعال تصدر من الصورة ولكن من هو الصورة هل العالم أو المخلوق به الذي هو الحق الذي قال الله فيه ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ فمن رأى أن الحق المخلوق به مظهر صور العالم ظهرت فيه بحسب ما تعطيه حقائق الصور على اختلافها بحسب الأفعال إلى الخلق ومن رأى أن أعيان الممكنات التي هي العالم هو الجوهر الهبائي وأن الحق المخلوق به هو الصورة في هذا العالم وتنوعت أشكال صوره لاختلاف أعيان العالم فاختلفت عليه النعوت والألقاب كما تنسب الأسماء الإلهية من اختلاف آثارها في العالم فمن رأى هذا نسب الفعل إلى الله بصورة الصورة الظاهرة ومن رأى أن ظهور الصورة لا يتمكن إلا في الجوهر الهبائي وأن الوجود لا يصح للجوهر الهبائي في عينه إلا بحصول الصورة فلا تعرف الصورة إلا بالجوهر الهبائي ولا يوجد الجوهر الهبائي إلا بالصورة نسب الأفعال إلى الله بوجه وإلى العباد بوجه فعلق المحامد والحسن بما ينسب من الأفعال للحق وعلق المذام والقبح بما ينسب من الأفعال للعباد بالخلق الذي هو العالم لحكم الاشتراك العقلي والتوقف في العلم بكل واحد منهما وتوقف كمال الوجود على وجودهما وقد رميت بك على الجادة

[و ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏]

فهذا تفسير وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فنفى الرمي عمن أثبته له يقول الله في هذه الآية عين ما قلناه في هذه المسألة وذهبنا إليه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهذا قوله وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي يبينه لنمشي عليه ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فمشينا عليه بحمد الله فأثبت بهذه الآية أن أعيان العالم هو الجوهر الهبائي إلا أنه لا يوجد إلا بوجود الصورة وكذلك أعيان العالم ما اتصفت بالوجود إلا بظهور الحق فيها فالحق المخلوق به لها كالصورة وقد أعلمتك أن الفعل كله إنما يظهر صدوره من الصورة وهو القائل ولكِنَّ الله رَمى‏ فكان الحق عين الصورة التي تشاهد الأعمال منها فتحقق ما ذكرناه فإنه لا أوضح مما بين الله في هذه الآية وبيناه نحن في شرحنا إياها على التفصيل والله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ... صِراطِ الله والصراط الذي عليه الرب والصراط المضاف إلى الحقيقة في قوله وأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ولكل صراط حكم ليس للآخر فافهم والسلام وأما صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فهو الشرع‏

(وصل في فصل اختلافهم في توقيت الإطعام والصيام)

اختلفوا في توقيت الإطعام والصيام فالأكثرون على أن يطعم ستة مساكين وقال قوم عشرة مساكين والصيام عشرة أيام واختلفوا في كم يطعم كل مسكين فقال بعضهم مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين وقال بعضهم من البر نصف صاع ومن التمر والزبيب والشعير صاع وأما قص الأظفار فقال قوم ليس فيها شي‏ء وقال قوم فيه دم وفروع هذا الباب كثيرة جدا

[ما يطعم حضرات الصفات من حضرات الكونيات‏]

فمن اعتبر الستة المساكين نظر إلى ما يطعم الصفات مما تطلب فوجدناها ستة كونية عن ستة إلهية فما للالهية من الحكم للكونية من الحكم وإطعامها ما تطلبه لبقاء حقيقتها فإنه لها كالغذاء للأجسام الطبيعية فالمعلوم للعلم طعام فيه يتعلق وكذلك الإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر وأما الحياة فليس لها مدخل في هذا الباب فغاية حقيقتها الشرطية لا غير وهو باب آخر

[نهاية بسائط الأعداد التي تعم الحضرتين‏]

ولما كانت الحضرة حضرتين كان من المجموع اثنا عشر وهو نهاية أسماء بسائط العدد الذي يعم الحضرتين فإن العدد يدخل عليهما ولهذا ورد تعدد الصفات والأسماء المنسوبة إلى الله وأما حكمه في الكون فلا يقدر أحد على إنكاره كما أنها أيضا نهاية انتهاء وزن الفعل الذي هو مركب من مائة وثمانين درجة وسأبين حكمها إن شاء الله‏

[أوزان الفعل الاثنا عشر في الأسماء]

فأما أوزان الفعل في الأسماء فهي اثنا عشر وزنا كل وزن يطلب ما لا يطلبه الآخر وهي‏

محصورة في هذا العدد كما نهاية أسماء العدد محصورة في الاثني عشر فمن ذلك في تسكين عين الفعل ثلاثة وفي فتحة ثلاثة وفي ضمه ثلاثة وفي كسره ثلاثة فالمجموع اثنا عشر فالتسكين مثل فعل كدعد وفعل كقفل وفعل كهند والمفتوح العين فعل مثل جمل وفعل مثل صرد وفعل مثل عنب والمضموم العين فعل مثل عضد وفعل مثل عنق وفعل لم يوجد له اسم على وزنه في اللسان وعلله أهل هذا الشأن بأنهم استثقلوا الخروج من الكسر إلى الضم ومبني كلامهم على التخفيف وهذا التعليل عندنا ليس بشي‏ء بسطناه في النسخة الأولى من هذا الكتاب وقد مرت بنا كلمة للعرب على وزن فعل بكسر فاء الفعل وضم عينه لا أذكرها الآن إلا أنها لغة شاذة والمكسور العين فعل مثل كتف وفعل مثل إبل ولم يوجد على وزن فعل سوى دئل وهو اسم دويبة تعرفها العرب‏

[مجموع الحروف التي هي أصول في أوزان الكلام عند العرب‏]

ثم إن الله أجرى حكمته في خلقه أن لا تأخذ العرب في أوزان الكلام إلا هذه الأحرف الثلاثة الفاء والعين واللام ولها ثلاث مراتب في النشأة وأخذوا من كل مرتبة حرفا أخذوا الفاء من حروف الشفتين عالم الملك والشهادة وأخذوا العين من حروف الحلق عالم الغيب والملكوت وأخذوا اللام من الوسط عالم البرزخ والجبروت وهو من حروف اللسان الذي له العبارة والتصرف في الكلام فكان مجموع هذه الحروف التي جعلوها أصولا في أوزان الكلام مائة وثمانين درجة وهو شطر الفلك الظاهر وهو الذي يكون له الأثر أبدا في التكوين والشطر الغائب لا أثر له إلا حيث يظهر

[ثبوت أعيان الممكنات في حال عدمها]

وسبب ذلك أن أشعة أنوار الكواكب تتصل بالمحل العنصري وهو مطارح شعاعاتها والعناصر قابلة للتكوين فيها فإذا اتصلت بها سارع التعفين فيها لما في الأنوار من الحرارة وفي ركن الماء والهواء من الرطوبة فظهرت أعيان المكونات إن الله خمر طينة آدم بيده والتخمير تعفين وما غاب عن هذه الأنوار فلا أثر لها فيه أ لا ترى في كسوف الشمس إذا اتفق أن يكون بالليل لا حكم له عندنا لعدم مشاهدة الظاهر ظاهر كرة الأرض التي نحن عليها فلا حكم له إلا حيث يظهر بتقدير العزيز العليم فإنه حيث يظهر يشهد ما حضر عنده فيؤثر فيه لشهوده عادة طبيعية أجراها الله وهذا من أدل دليل على قول المعتزلي في ثبوت أعيان الممكنات في حال عدمها وأن لها شيئية وهي قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فيرانا سبحانه في حال عدمنا في شيئية ثبوتنا كما يرانا في حال وجودنا لأنه تعالى ما في حقه غيب فكل حال له شهادة يعرفه صاحب الشهادة فيتجلى تعالى للأشياء التي يريد إيجادها في حال عدمها في اسمه النور تعالى فينفهق على تلك الأعيان أنوار هذا التجلي فتستعد به لقبول الإيجاد استعداد الجنين في بطن أمه في رابع الأشهر من حمله لنفخ الروح فيه فيقول له عند هذا الاستعداد كن فيكون من حينه من غير تثبط فانظر إلى هذه الحكمة ما أجلاها

[الأصول أبدا هي التي تراعى‏]

ثم إنه من تمام الحكمة أنه إذا كان في القابلات للتكوين من لا يقبله لحقيقة هو عليها إلا بزيادة درجات وهو بين أصله وحقيقته فإنه يكرر اللام من هذا الوزن إذا كانت حروف الوزن من نفس الكلمة ومن أصولها مثل جعفر وزنه فعلل فكرر واحدا من أصل الأوزان لأن حروف الموزون كلها أصول فإن كان الحرف في الكلمة زائدا جئنا به على صورته ولم نعطه حرفا من حروف الفعل فنقول في وزن مكسب مفعل فالأصول أبدا هي التي تراعي في الأشياء وهي التي لها الآثار فيها وقال بعضهم‏

إن الجياد على أعراقها تجري‏

يقول على أصولها فمن كان أصله كريما فلا بد أن يؤثر فيه أصله وإن ظهر عنه لؤم فهو أمر عارض يرجع إلى أصله ولا بد في آخر الأمر وكذلك اللئيم الأصل وهذه مسألة قليل من يتفطن لها وهي لما ذا ترجع أصول الممكنات هل أصلها كريم فيكون واجب الوجود أصلها أو يكون أصلها لئيما وهو الإمكان فلا يزال الفقر والبخر واللؤم يصحبها ويكون ما نسبت إليها من المحامد بحكم العرض وهنا أسرار ودقائق وكلناك لنفسك في الاطلاع عليها فإن ظهورها في العموم يتعذر فتركنا علم ذلك لمن يطلعه الله عليه فيقف على ما هو الأمر عليه في نفسه وقد بقي من أمهات مسائل هذا الباب يسير نذكر اعتبارها في سرد أحاديث ما يتعلق بهذا الباب إن شاء الله تعالى انتهى الجزء السبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(وصل فصول الأحاديث النبوية فيما يتعلق بهذا الباب‏

ولا أذكرها بجملتها وإنما أذكر منها ما تمس الحاجة إليه) وبعد أن قد ذكرنا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله فلنذكر في بقية هذا الباب ما تيسر من الأخبار النبوية فمن ذلك‏

(حديث فضل الحج والعمرة)

خرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة

[الكفارة تعطي الستر والجنة تعطي الستر]

فالكفارة تعطي الستر والجنة تعطي الستر غير أن ستر العمرة لا يكون إلا بين عمرتين وستر الحج لم يشترط فيه ذلك إلا أنه قيده بأنه يكون مبرورا والبر الإحسان والإحسان مشاهدة أو كالمشاهدة فإنه‏

قال صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه‏

فصارت الجنة عن حج مقيد بصفة بر فقام البر للحج مقام العمرة الثانية للعمرة الأولى والسبب في ذلك أن التكفير والجنة نتيجة والنتيجة لا تكون عن واحد فإن ذلك لا يصح وإنما تكون عن مقدمتين فحصل التكفير عن عمرتين وحصلت الجنة عن حج مبرور أي يكون عن صاحب صفة بر فما أعجب مقاصد الشارع‏

[زيارات أهل السعادة لله تعالى‏]

فالعمرة الزيارة وهي زيارات أهل السعادة لله تعالى هنا بالقلوب والأعمال وفي الدار الآخرة بالذوات والأعيان وبين الزيارتين حجب موانع بين الزائرين وبين أهليهم من أهل الجنان وفي حالة الدنيا بين المعتمرين وبين غيرهم فلا يدرك ما حصلوه في تلك الزيارة من الأسرار الإلهية والأنوار ما لو تجلى بشي‏ء منها لإبصار من ليس لهم هذا المقام لأحرقهم وذهب بوجودهم فكان ذلك الستر رحمة بهم وقد عاينا ذلك في المعارف الإلهية مشاهدة حين زرناه بالقلوب والأعمال بمكة التي لا تصح العمرة إلا بها وأما الزيارة من غير تسميتها بالعمرة فتكون لكل زائر حيث كان وكذلك الحج فهي زيارة مخصوصة كما هو قصد مخصوص ولما فيها من الشهود الذي يكون به عمارة القلوب تسمى عمرة

[معنى التكفير في الحج والعمرة]

فهذا معنى التكفير في هذا العمل الخاص وقد يكون التكفير في غير هذا وهو أن يسترك عن الانتقام أن ينزل بك لما تلبست به من المخالفات ومن الناس من يكون له التكفير سترا من المخالفات أن تصيبه إذا توجهت عليه لتحل به لطلب النفس الشهوانية إياها فيكون معصوما بهذا الستر فلا يكون للمخالفة عليه حكم وهذان المعنيان خلاف الأول ومن الناس من يجمع ذلك كله وفي الدنيا من هذه الأحكام الثلاثة كلها وفي الآخرة اثنان خاصة وهو الستر الأول والستر أن لا يصيبه الانتقام‏

[الستر عن المخالفات‏]

وأما الستر عن المخالفات فلا يكون إلا في الدنيا لوجود التكليف والآخرة ليست بمحل للتكليف إلا في يوم القيامة في موطن التمييز حين يدعون إلى السجود فهو دعاء تمييز لا دعاء تكليف إلا الحديث الذي خرجه الحميدي في كتاب الموازنة ولم يثبت ولما اقترن به الأمر أشبه التكليف فجوزوا بالسجود جزاء المكلفين كما تجي‏ء الملائكة إليهم من عند الله بالأمر والنهي وليس المراد به التكليف وهو قولهم للسعداء أَلَّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وهذا نهي وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وهذا أمر وليس بتكليف كذلك إذا أمروا بالسجود إنما هو للتمييز والفرقان بين من سجد لله خالصا وسجد اتقاء ورياء وسمعة لاجتماعهم في السجود لله فلذلك وقع الشبه لأنهم ما سجدوا مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كما أمروا فميز الله يوم القيامة بينهما كما ميز بين المجرمين قال تعالى وامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏

(حديث ثان في الحث على المتابعة بين الحج والعمرة)

لأن كل واحد منهما قصد زيارة بيت الله العتيق‏

خرج النسائي عن عبد الله هو ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة

وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة فجعل في الأول العمرة إلى العمرة وكذلك الحج والبر وهنا جعل الحج والعمرة مقدمتين ليكون منهما أجر آخر ليس ما أعطاه الحديث الأول وهو نفي الفقر فيحال بينك وبين عبوديتك إذا جمعت بين هاتين العبادتين‏

[العبد لا يتميز عن الرب إلا بالافتقار]

وما ثم إلا عبد ورب والعبد لا يتميز عن الرب إلا بالافتقار فإذا أذهب الله بفقره كساه حلة الصفة

الربانية فأعطاه أن يقول للشي‏ء إذا أراده كُنْ فَيَكُونُ وهذا سر وجود الغني في الفقر ولا يشعر به كل أحد فإنه لا يقول لشي‏ء كن فيكون حتى يشتهيه ولهذا قال تعالى ولَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ فما طلب إلا ما ليس عنده ليكون عنده عن فقر لما طلب لأن شهوته أفقرته إليه ودعته إلى طلبه ليس ذلك المشتهي طلبه وعنده الصفة الربانية التي أوجبت له القوة على إيجاد هذا المشتهي المطلوب فقال له كن عن فقر بصفة إلهية فكان هذا المطلوب في عينه فتناول منه ما لأجله طلب وجوده وليس هو كذا في حق الحق لأن الله لم يطلب تكوين الموجودات لافتقاره إليها وإنما الأشياء في حال عدمها الإمكانى لها تطلب وجودها وهي مفتقرة بالذات إلى الله الذي هو الموجد لها لفقرها الذاتي وفي وجودها من الله فقبل الحق سؤالها وأوجدها لها ولأجل سؤالها لا من حاجة قامت به إليها لأنها مشهودة له تعالى في حال عدمها ووجودها والعبد ليس كذلك فإنه فاقد لها حسا في حال عدمها وإن كان غير فاقد لها علما إذ لو لا علمه بها ما عين بالإيجاد شيئا عن شي‏ء ودون شي‏ء

[العبد مركب من ذاتين: معنى وحس‏]

غير أن العبد مركب من ذاتين من معنى وحس وهو كماله فما لم يوجد الشي‏ء المعلوم للحس فما كمل إدراكه لذلك الشي‏ء بكمال ذاته فإذا أدركه حسا بعد وجوده وقد كان أدركه علما فكمل إدراكه للشي‏ء بذاته فتركيبه سبب فقره إلى هذا الذي أراد وجوده وإمكانه سبب فقره إلى مرجحه وأما الحق تعالى فليس بمركب بل هو واحد فإدراكه للأشياء على ما هي الأشياء عليه من حقائقها في حال عدمها ووجودها إدراك واحد فلهذا لم يكن في إيجاده الأشياء عن فقر كما كان لهذا العبد المخلوق عليه صفة الحق وهذه مسألة لو ذهب عينك جزاء لتحصيلها لكان قليلا في حقها لأنها مزلة قدم زل فيها كثير من أهل طريقنا والتحقوا فيها بمن ذم الله تعالى في كتابه من قولهم إِنَّ الله فَقِيرٌ وهذا سببه فما وجد الممكن ولا وجدت المعرفة الحادثة إلا لكمال رتبة الوجود وكمال رتبة المعرفة لا لكمال الله بل هو الكامل في نفسه سواء وجد العالم أو لم يوجد وعرف بالمعرفة المحدثة أو لم يعرف كما أنه على الحقيقة لا يعرف ولا يعرف منه ممكن إلا نفسه‏

[الذنب أشبه الذنب وله من معناه صفتان شريفتان‏]

وأما نفي الذنوب فإنها من حكم الاسم الآخر لأن ذلك من الأمر بمنزلة الذنب من الرأس متاخرة عنه لأن أصله طاعة فإنه ممتثل للتكوين إذ قيل له كن فما وجد إلا مطيعا ثم عرض له بعد ذلك مخالفة الأمر المسمى ذنبا فأشبه الذنب في التأخر فانتفى بالأصل لأنه أمر عارض والعرض لا بقاء له وإن كان له حكم في حال وجوده ولكن يزول فهذا يدلك على إن المال إلى السعادة إن شاء الله ولو بعد حين ثم إن للذنب من معنى الذنب صفتين شريفتين إذا علمها الإنسان عرف منزلة الذنب عند الله وذلك أن ذنب الدابة له صفتان شريفتان ستر عورتها وبه تطرد الذباب عنها بتحريكها إياه وكذلك الذنب فيه عفو الله مغفرته وشبه ذلك ما لا يشعر به مما يتضمنه من الأسماء الإلهية يطرد عن صاحبه أذى الانتقام والمؤاخذة وهما بمنزلة الذباب الذي يؤذي الدابة فلا يصيب الانتقام إلا للابتر الذي لا ذنب له يقول تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي لا عقب له أي لا يترك عقبا ينتفع به بعد موته كما

قال عليه السلام أو ولد صالح يدعو له ولدا كان أو سبطا وذكرا أو أنثى‏

بقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم إن الذي ألحق بك الشين هو الأبتر فلم يعقب وعقب الشي‏ء مؤخره ولهذا قلنا في الذنب إنه مؤخر لأنه في عقب الدابة وبعدمه يكون أبتر فلو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم ولم يقل فيعاقبهم فغلب المغفرة وجعل لها الحكم فاصل وجود الذنب بذاته لما يتضمنه من المغفرة والمؤاخذة فيطلب تأثير الأسماء وليس أحد الاسمين المتقابلين في الحكم أولى من الآخر لكن سبقت الرحمة لغضب في التجاري فلم تدع شيئا إلا وسعته رحمته ومن رحمة الطبيب بالعليل صاحب الأكلة إدخال الألم عليه بقطع رجله فافهم واجعل بالك‏

[مؤاخذات الحق لعباده تطهير ورحمة]

فمؤاخذات الحق عباده في الدنيا الآخرة تطهير ورحمة والتنبيه أيضا على ذلك إن العقاب لا يكون إلا في الذنب والعقوبة لفظة تقتضي التأخير عن المتقدم فهي تأتي عقيبه فقد تجد العقوبة الذنب في المحل وقد لا تجده إما بأن يقلع عنه وإما أن يكون الاسم العفو والغفور استعانا عليه بالاسم الرحيم فزال فترجع العقوبة خاسرة ويزول عن المذنب اسم المذنب لأنه لا يسمى مذنبا إلا في حال قيام الذنب به وهو المخالفة والغفران في نفس الذنب وما يأتي عقيبه لأنه غير متيقن بالمؤاخذة والانتقام عليه فلا يأتي الغفران عقيبه فلا يسمى الغفران عقابا وجزاء الخير يسمى ثوابا لثورانه وعجلته فيكون في نفس الخير المستحق له لأنه من ثاب إلى الشي‏ء إذا ثار إليه بالعجلة والسرعة ولهذا قال سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ‏

وقال يُسارِعُونَ في الْخَيْراتِ وهُمْ لَها سابِقُونَ فجعل المسارعة في الخير وإليه ولا يسابق إليها إلا بالذنوب وطلب المغفرة فإنها لا ترد إلا على ذنب وإن كانت في وقت تستر العبد عن إن تصيبه الذنوب وهو المعصوم والمحفوظ فلها الحكمان في العبد محو الذنب بالستر عن العقوبة أو العصمة والحفظ ولا ترد على تائب فإن التائب لا ذنب له إذ التوبة إزالته فما ترد المغفرة إلا على المذنبين في حال كونهم مذنبين غير تائبين فهناك يظهر حكمها وهذا ذوق لم يطرق قلبك مثله قبل هذا وهو من أسرار الله في عباده الخفية في حكم أسمائه الحسنى لا يعقل ذلك إلا أهل الله شهودا فمثل هذا يسمى التضمين فإنه أمر بالمسابقة إلى المغفرة وما أمر بالمسابقة إلى الذنب ولما كان العفو والغفران يطلب الذنب وهو مأمور بالمسابقة إلى المغفرة فهو مأمور بما له يكون ليظهر حكمها فما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ولكن من حيث ما هو فعل لا من حيث ما هو حكم وإنما أخفى ذكره هنا وذكر المغفرة لقوله إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ والأمر من أقسام الكلام فما أمر بالذنوب وإنما أمر بالمسابقة والإسراع إلى الخير وفيه وإلى المغفرة فافهم‏

[الكير ينفى خبث الأجسام المعدنية]

وأما تشبيه بنفي الكير خبث الحديد والفضة والذهب وهو ما تعلق بهذه الأجسام في المعادن من أصل الطبيعة استعانوا بالنار على إزالة ذلك واستعانوا على النار بإشعال الهواء واستعانوا على تحريك الهواء بالكير فما انتفى الخبث إلا عن مقدمتين وهما النار والهواء فلو لا وجود هاتين القوتين العلمية والعملية ما وقع نفي هذا الخبث‏

[أسرار الله في الأشياء لا تنحصر]

وقد تقدم الكلام في الحج المبرور وإن كان له هنا معنى آخر ليس هو ذلك المعنى المتقدم ولكن يقع الاكتفاء بذلك الأول مخافة التطويل فإن أسرار الله في الأشياء لا تنحصر بل ينقدح في كل حال لأصحاب القلوب ما لا يعلمه إلا الله والعامة لا نعلم ذلك ولهذا تقول الخواص من عباد الله ما ثم تكرار للاتساع الإلهي وإنما الأمثال تحجب بصورها القلوب عن هذا الإدراك فتتخيل العامة التكرار والله واسِعٌ عَلِيمٌ فمن تحقق بوجود هذا الاسم الواسع لم يقل بالتكرار بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ

(حديث ثالث في فصل إتيان البيت شرفه الله)

خرج مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه‏

وفي لفظ البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حج لله فلم يرفث ولم يفسق‏

الحديث‏

[الولادة خروج من الضيق إلى السعة]

فاعلم أنه يوم خروج المولود من بطن أمه خرج من الضيق إلى السعة بلا شك ومن الظلمة إلى النور والسعة هي رحمة الله التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ والضيق نقيض رحمة الله مع أن الرحمة وسعته حيث أوجدت عينه وجعلت له حكما في نفوس العالم حسا ومعنى يقول تعالى وإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً والمولود على النقيض من الحق في هذه المسألة فإن الحق لما كان له نعت لا شي‏ء موجود إلا هو كان ولا منازع ولا مدع مشاركة في أمر ولا موجب لغضب ولا استعطاف غني عن العالمين فكان بنفسه لنفسه في ابتهاج الأزل والتذاذ الكمال بالغنى الذاتي فكان الله ولا شي‏ء معه وهو على ما عليه كان‏

[مثل من خرج من السعة إلى الضيق‏]

فلما أوجد العالم كانت هذه الحالة لهذا المولود ولكن على النقيض زاحمه العالم في الوجود العيني وما قنع حتى زاحمه في الوحدة وما قنع حتى نسب إليه ما لا يليق به فوصف نفسه لهذا كله بالغضب على من نازعه في كل شي‏ء ذكرناه فكان مثل من خرج من السعة إلى الضيق ومن الفرح إلى الغم فانتقم وعذب بصفة الغضب وعفا وتجاوز بصفة الكرم وحفظ وعصم بصفة الرحمة فظهر الاستناد من الموجودات إلى الكثرة في العين الواحدة فاستند هذا إلى غير ما استند هذا فزال ابتهاج التوحيد والأحدية بالأسماء الحسنى وبما نسب إليه من الوجوه المتعددة الأحكام فلم يبق للاسم الواحد ابتهاج فرجع الأمر إلى أحدية الألوهية وهي أحدية الكثرة لما تطلبه من الأسماء لبقاء مسمى الأحدية فقال وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ولم يتعرض إلى ذكر النسب والأسماء والوجوه فإن طلب الوحدة ينافي طلب الكثرة فلا بد أن يكون هذا الأمر هكذا

[القاصد لبيت الله من أجل الله‏]

فصير قاصد بيته لحج أو عمرة من أجل الله في حال من ولدته أمه أي أنه خرج من الضيق إلى السعة فشبهه بمثله وهو المولود ولم يشبهه بوصفه تعالى الذي ذكرناه آنفا ولكن اشترط فيه أنه لا يرفث فإنه إن نكح أولد فلا يشبه المولود فإنه إذا ولد خرج من السعة إلى الضيق فإنه حصل له في ماله مشاركة بالولد وصار بحكم الولد أكثر منه بحكم نفسه فضاق الأمر عليه ولا سيما إذا تحرك‏

ولده بما لا يرضيه فإنه يورثه الحرج وضيق الصدر لمزاحمة الثاني فلهذا اشترط في الآتي إلى البيت أن لا يرفث ولا يفسق أي لا يخرج على سيده فيدعي في نعته ويزاحمه في صفاته إذ الفسوق الخروج‏

[الكون مع الله في شيئية الوجود كما في شيئية الثبوت‏]

فمن بقي في حال وجوده مع الله كما كان في حال عدمه فذلك الذي أعطى الله حقه ولهذا الداء العضال أحاله على استعمال دواء أَ ولا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ من قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً يقول له كن معي في شيئية وجودك كما كنت إذ لم تكن موجودا فأكون أنا على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه فمن استعمل منا هذا الدواء عرف حق الله فأعطاه ما يجب له ومن لم يعرف ولا استعمل هذا الدواء وخلط كثرت أمراضه وآلامه في عين أفراحه وأغضب الحق عليه فيما هو فارح مسرور به ففي بعض أفراحك غضبه فتنبه إلى ما في هذا الحديث من الأسرار على هذا الأسلوب وأمثاله فإن فيه علوما يطول الكتاب بتفصيلها وتعيينها

(حديث رابع في فصل عرفة والعتق فيه)

خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء حتى يقولوا مغفرتك ورضاك عنهم‏

[يوم عرفة شفيع عند الله في عبيد الشهوات‏]

فقصد الحق مباهاة الملائكة بهم وسؤاله إياهم ما أراد هؤلاء حجاب رقيق على قصد المباهاة جبر القلوب الملائكة ولما ظهر الإباق في عبيد الله واسترقتهم الأهواء والشهوات وصاروا عبيدا لها وخلق الله النار من الغيرة الإلهية فغارت لله وطلبت الانتقام من العبيد الذين أبقوا وقد جاء الخبر أن العبد إذا أبق فقد كفر

والكفر سبب الاسترقاق فصاروا عبيدا للأهواء بالكفر فاحتالت النار على أخذهم من يد الأهواء للانتقام فلما استحقتهم النار وأرادت إيقاع العذاب بهم اتفق أن وافق من الزمان يوم عرفة فجاء اليوم شفيعا عند الله في هؤلاء العبيد بأن يعتقهم من ملك النار إذ كانت النار من عبيد الله المطيعين له فجاد الله عليهم بشفاعة ذلك اليوم فأعتق الله رقابهم من النار فلم يكن للنار عليهم سبيل‏

[طهارة القلوب من الشهوات المردية]

فكثر خير الله وطاب وطهر الله قلوبهم من الشهوات المردية لا من أعيان الشهوات فأبقى أعيان الشهوات عليهم وأزال تعلقها بما لا يرضى الله فلما أوقفهم بعرفات أظهر عليهم أعيان الشهوات لتنظر إليها الملائكة ولما كانت الملائكة لا شهوة لهم كانوا مطيعين بالذات ولم يقم بهم مانع شهوة يصرفهم عن طاعة ربهم فلم يظهر سلطان لقوة الملائكة عندهم إذ ليس لهم منازع فكانوا عقولا بلا منازع فلما أبصرت الملائكة عقول هؤلاء العبيد مع كثرة المنازعين لهم من الشهوات ورأوا حضرة البشر ملأى منها علموا أنه لو لا ما رزقهم الله من القوة الإلهية على دفع حكم تلك الشهوات المردية فيهم ما أطاقوا وأنهم ربما لو ابتلاهم الله بما ابتلى به البشر من الشهوات ما أطاقوا دفعها فقصرت نفوسهم عندهم وما هم فيه من عبادة ربهم وعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وأن الله له بهم عناية عظيمة السلطان وهذا كان المراد من الله التباهي مع هذه الحالة ولذلك وصف الحق نفسه بالدنو منهم ليستعينوا بقربه على دفع الشهوات المردية من حيث لا تشعر الملائكة ثم يقول الله للملائكة وهو أعلم ما أراد هؤلاء لينظروا إلى سلطان عقولهم على شهواتهم وما هم فيه من الالتجاء والتضرع والابتهال بالدعاء ونسيان كل ما سوى الله في جنب الله‏

(حديث خامس في الحاج وفد الله)

خرج النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفد الله ثلاثة الغازي والحاج والمعتمر

[لله في عباده نسب وإضافات‏]

أراد وفد طلبه في بيته لا غير فإن الله معهم أينما كانوا فما وفد عليك من أنت معه ولكن لله تعالى في عباده نسب وإضافات كما قال تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً فجعلهم وفود الرحمن لأن الرحمن لا يتقى وكانوا حين كانوا متقين في حكم اسم إلهي تجلى الحق فيه لهم فكانوا يتقونه فلما أراد أن يرزقهم الأمان مما كانوا فيه من الاتقاء حشرهم إلى الرحمن فلما وفدوا عليه أمهم‏

[معنى وفد الله إن عقلت‏]

وهكذا نسبتهم إلى رب البيت لما تركوا الحق خليفة في الأهل والمال كما جاءت به السنة من دعاء المسافر فارقوا ذلك الحال واتخذوه اسما إلهيا جعلوه صاحبا في سفرهم وجاءت به السنة والعين واحدة في هذا كله ولذلك‏

ورد أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل‏

فإذا قدموا على البيت وهو قصر الملك وحضرته تحجب لهم عنده الاسم إلهي الذي صحبهم في السفر عن أمر الاسم الذي تخلف في الأهل وهو الاسم الحفيظ فتلقاهم رب البيت‏

وأبرز لهم يمينه فقبلوه وطافوا ببيته إلى أن فرغوا من حجهم وعمرتهم وفي كل منسك يتلقاهم اسم إلهي ويتسلمهم من يد الاسم الإلهي الذي يصحبهم من منسك إلى منسك إلى أن يرجعوا إلى منازلهم فيحصلوا في قبضة من خلفوه في الأهل فهذا معنى وفد الله إن عقلت‏

(حديث سادس الحج للكعبة من خصائص هذه الأمة أهل القرآن)

ذكر الترمذي عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك زاد أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج فلا عليه إن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا

قال هذا حديث غريب وفي إسناده مقال‏

[أهل الكتاب غير مخاطبين بالحج إلى البيت‏]

اعلم أنه لو كان أهل التوراة والإنجيل مخاطبين بالحج إلى هذا البيت لم يقل له فلا عليه إن يموت يهوديا أو نصرانيا أي أن الله ما دعاهم إليه أي أنه من كان بهذه المثابة فليس من أهل القرآن‏

[الوكيل يملك التصرف في مال الموكل ولا يملك المال‏]

الوكيل يملك التصرف في مال الموكل ولا يملك المال وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فأمره بالإنفاق فيما حد له أن ينفقه فيه ومما حد له الإنفاق في الحج‏

[الوكيل هو الحق الموكل العبد]

الوكيل الحق الموكل العبد الوكيل هنا اعلم بالمصالح من الموكل وقد ظهر له المصلحة في الحج والمال بيد الوكيل وهو وكيل لا ينزع يده من المال فإن أعطاه ما يحج به ولم يحج ثبت سفه الموكل فحكم عليه الحاكم بالحجر فحجر عليه الإسلام وألحقه بالسفهاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ ولكِنْ لا يَعْلَمُونَ فإن شاء حكم عليه بحكم اليهود أو بحكم النصارى الذين لم يخاطبوا بهذه المصلحة فلا نصيب له في الإسلام لأن الحج ركن من أركانه وقد استطاع ولم يفعل وإذا فارق الإسلام فلا يبالي إلى أية ملة يرجع‏

(حديث سابع في فرض الحج)

خرج مسلم عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أ كل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشي‏ء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شي‏ء فدعوه‏

وقال النسائي من حديث ابن عباس لو قلت نعم لوجبت ثم إذن لا تسمعون ولا تطيعون ولكنها حجة واحدة

[انفرد الحج بالأحدية فلا يتكرر وجوبه بالأيام أو بالسنين‏]

لما ثبت أن المكلف أحدي في ألوهته وأنه قال وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ثم أمر بالقصد إليه في بيته وحد القصد فجعلها حجة واحدة لمناسبة الأحدية فختم الأركان بمثل ما به بدأ وهو الأحدية فبدأ بلا إله إلا الله وختم بالحج فجعله واحدة في العمر فلا يتكرر وجوبه بالأيام كتكرر وجوب الصلوات ولا بالسنين كتكرر وجوب الزكاة بالحول ووجوب الصيام بدخول رمضان في كل سنة والحج ليس كذلك فانفرد بالأحدية لأن الآخر في الإلهيات عين الأول فيحكم له بحكمه وفي متن هذا الخبر حكم كثيرة يطول ذكرها لو شرعنا فيها والأحاديث كثيرة في هذا الباب فلنأخذ من كل حديث بطرف على قدر ما يُلْقِي الرُّوحَ من أَمْرِهِ على قلبي بلمته أو ما شئت‏

(حديث ثامن في الصرورة)

خرج أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صرورة في الإسلام‏

وفي الحديث الذي خرجه الدارقطني عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمسلم صرورة

وكلا الحديثين متكلم فيه‏

[الإنسان في الحج ما دام ينتظر الأسباب الموصلة إلى الحج‏]

الصرورة هو الذي لم يحج قط والمسلم من ثبت إسلامه وفي نية المسلم الحج ولا بد والإنسان في صلاة ما دام ينتظر الصلاة كما هو في حج ما دام ينتظر الأسباب الموصلة إلى الحج فلا يقال فيه إنه صرورة فإنه حاج ولا بد وإن مات فله أجر من حج بانتظاره كما لو مات منتظر الصلاة لكتب مصليا فلا صرورة في الإسلام‏

(حديث تاسع في إذن المرأة زوجها في الحج)

خرج الدارقطني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها

وفي إسناد هذا الحديث رجل مجهول يقال إنه محمد بن أبي يعقوب الكرماني رواه‏

عن حسان بن إبراهيم الكرماني إن منعها زوجها فهو من الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله إن كان لها محرم تسافر معه عندنا في هذه المسألة إذا كانت آفاقية وأما إن كانت من أهل مكة فلا تحتاج إلى إذنه فإنها في محل الحج كما لا تستأذنه في الصلاة ولا في صوم رمضان ولا في الإسلام ولا في أداء الزكاة

[قصد البيت للحج وقصد النفس إلى معرفة الله‏]

لما كان الحج القصد إلى البيت على طريق الوجوب لمن لم يحج كذلك قصد النفس إلى معرفة الله ليس لها من ذاتها النظر في ذلك فإنها مجبولة في أصل خلقها على دفع المضار المحسوسة والنفسية وجلب المنافع كذلك وهي لا تعرف أن النظر في معرفة الله مما يقربها من الله أم لا وهي به في الحال متضررة لما يطرأ عليها في شغلها بذلك من ترك الملاذ النفسية فلا بد ممن يحكم عليها في ذلك ويأذن لها في النظر بمنزلة إذن الزوج للمرأة

[هل تجب معرفة الله بالشرع أم بالعقل‏]

فمنا من قال يأذن لها العقل فإذا أذن لها في النظر في الله بما تعطيه الأدلة العقلية فإن العلم بالشي‏ء كان ما كان أحسن من الجهل به عند كل عاقل فإن النفس تشرف بالعلم بالأشياء على غيرها من النفوس ولا سيما وهي تشاهد النفوس الجاهلة بالعلوم الصناعية وغير الصناعية تفتقر إلى النفوس العالمة فيتبين لها مرتبة شرف العلم هذا إذا لم يعلم أن الخوض في ذلك مما يقرب من الله وينال به الحظوة عند الله ومنا من قال الزوج في هذه المسألة إنما هو الشرع فإن أذن لها في الخوض في ذلك اشتغلت به حتى تناله فتعرف منه توحيد خالقها وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز أن يفعله فيعلم بالنظر في ذلك أن بعثة الرسل من جانب الله إلى عباده ليبينوا لهم ما فيه نجاتهم وسعادتهم إذا استعملوه أو اجتنبوه فيكون وجوب النظر في ذلك شرعا من حيث إنه أوجب عليهم النظر لثبوته في نفسه وهي مسألة خلاف بين المتكلمين هل تجب معرفة الله على الناس بالعقل أو بالشرع‏

[زوج النفس هل هو الشرع أم العقل‏]

وعلى كل حال فزوج النفس هنا إما الشرع في مذهب الأشعري وإما العقل في مذهب المعتزلي ليس لها من نفسها في هذا التصرف الخاص حكم ولا نظر بطريق الوجوب إلا إن كان لها بذلك التذاذ لحب رياسة من حيث إنها ترى النفوس تفتقر إليها فيما تعلمه وجهلته نفوس الغير فتكون عند ذلك بمنزلة المرأة وإن كان لها زوج إذا كانت بمكان الحج في زمان الحج عندنا ولا سيما إن كان صاحبها أيضا ممن يحج فأكد في الأمر

(حديث عاشر سفر المرأة مع العبد ضيعة)

ذكر البزار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سفر المرأة مع عبدها ضيعة

في إسناده مقال‏

[سفر النفس في معرفة الله مع الايمان غاية المحمدة]

سفر النفس في معرفة الله مع الايمان بالشرع غاية المحمدة والسعادة ويكون في تلك الحالة العقل من جملة عبيدها لأنها الحاكمة عليه بأن يقبل من الشارع في معرفة الله كل ما جاء به فإن سافرت مع عقلها في معرفة ما أتى به هذا الشارع من العلم بصفات الحق مما يحيله دليله وانفردت معه دون الايمان فإنها تضيع عن طريق الرشد والنجاة فإن كان السفر الأول قبل ثبوت الشرع فليكن العبد هناك الهوى لا العقل والنفس إذا سافرت في صحبة هواها أضلها عن طريق الرشد والنجاة وما فيه سعادتها قال تعالى أَ فَرَأَيْتَ من اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وقال وأَمَّا من خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ يعني إن تسافر معه فإنه على الحقيقة عبدها لأنه من جملة أوصافها الذي ليس له عين إلا بوجودها فهي المالكة له فإذا اتبعته صار مالكا لها وهو لا عقل له ولا إيمان فيرمى بها في المهالك فتضيع فاعتبر الشارع ذلك في السفر المحسوس في المرأة مع عبدها وجعله تنبيها لما ذكرناه‏

(حديث أحد عشر في تلبيد الشعر بالعسل في الإحرام)

خرج أبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالعسل‏

[رد ما تعدد من الصفات والمعاني إلى عين واحدة]

لما كان الشعر من الشعور والتلبيد أن يلصق بعضه ببعض حتى يصير كاللبد قطعة واحدة وهو أن يرد الإنسان ما تعدد عنده من الصفات والمناسبة الإلهية شرعا والأسماء الحسنى وعقلا كالمعاني الثابتة بالأدلة النظرية يرد ذلك إلى عين واحدة كما قال تعالى قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ وقال وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ

[رمزية عسل النحل من بين العلوم‏]

ثم إنه لبده بالعسل دون غيره من خطمي وغيره مما يكون به التلبيد وذلك أن العسل لما أنتجه صنف من الحيوان ممن له نصيب في الوحي صحت المناسبة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ممن يوحى إليه والنحل ممن يوحى إليه فالعسل من النحل بمنزلة العلوم التي جاء بها النبي صلى الله عليه‏

وسلم من قرآن وأخبار قال تعالى وأَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفنا في ردنا ما تعدد من الأحكام لعين واحدة لا يكون عن نظر عقلي وإنما يكون عن وهب إلهي وكشف رباني الذي لا تقدح فيه شبهة فهذا أعني تلبيد الرأس بالعسل دون غيره من الملبدات‏

(حديث ثاني عشر المحرم لا يطوف بعد طواف القدوم إلا طواف الإفاضة)

خرج البخاري عن ابن عباس قال انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة يعني في حجة الوداع الحديث وفيه ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة

يعني طواف القدوم‏

[أصل العبادات مبنية على التوقيف‏]

أصل أعمال العبادات مبنية على التوقيف ينبغي أن لا يزاد فيها ولا ينقص منها والمحرم بالحج كالمحرم بالصلاة فلا ينبغي أن يفعل فيها إلا ما شرع أن يفعل فيها ومن الأفعال في العبادات ما هو مباح له فعله أو تركه ومنها ما يكون من الفعل فيها مرغبا ومنها أفعال تقدح في كمالها ومنها أفعال تبطلها ولو كانت عبادة كمن تعين عليه كلام وهو في الصلاة فإن تكلم بذلك بطلت الصلاة أو فعل فعلا يجب عليه مما يبطل الصلاة فعله ولا خلاف بين العلماء في أنه إن طاف لا يؤثر في حجه فسادا ولا بطلانا

[الشبه بين الحق والعبد من جهة المباح‏]

الحقائق لا تتبدل فالتطوع لا يكون وجوبا والتطوع ما يكون المكلف فيه مخيرا إن شاء فعله وإن شاء تركه فله الفعل والترك فمن رأى الترك لم يؤثر في حكم التطوع تحريما ولا كراهة ومن رأى الفعل لم يؤثر في حكمه وجوبا وهذا سار في جميع أحكام الشرائع الخمسة فنسبة التطوع للعبد نسبة أفعال الله إلى الله لا يجب عليه فعلها ولا تركها ولهذا جعل المشيئة في ذلك فأكمل ما يكون العبد في اتصافه بصفة الحق في تصرفه في المباح فإن الربوبية ظاهرة فيه والإباحة مقام النفس وعينها وخاطرها من الأحكام الخمسة الشرعية لأنها على الصورة أوجدها الله فلا بد أن يكون حكمها هذا وأما شبه الإيجاب فلا يكون ذلك إلا في النذر لا غيره فإن الحق أوجب على نفسه أمورا ذكرها لنا في كتابه وصاحب النذر أوجب على نفسه ما لم يوجب الله عليه ابتداء فما أوجب الله على العبد الوفاء بنذره إلا بالنسبة التي أوجب على نفسه فتقوى الشبه في وجوب النذر كما تقوى في التطوع‏

[الشبه بين الحق والعبد من جهة التحريم والوجوب‏]

وأما التحريم ففيه من الشبه تحجير المماثلة فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فحجر على الكون أن يماثله أو يماثل مثله المفروض فكان عين التحجير عليه إن يتجلى في صورة تقبل التشبيه فإن كان نفس الأمر يقتضي نفي التشبيه فقد شاركناه في ذلك فإنه لا يقبل التشبيه بنا ولا نقبل التشبيه به وإن لم يكن في نفس الأمر كذا وإنما اختار ذلك أي قام في هذا المقام لعبيدة فقد حكم على نفسه بالتحجير فيما له أن يقوم في خلافه كما حجر علينا فعلى الحالتين قد حصل نوع من الشبه وأما لوجوب فصورة الشبه أنه على ما يجب له ونحن على ما يجب لنا قال لأبي يزيد تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار فله الغني والعزة من حيث ذاته واجبة ولنا الذلة والافتقار من حيث ذاتنا واجب هذا هو الوجوب الذاتي وأما الوجوب بالموجب فإنه أوجب علينا ابتداء أمورا لم نوجبها على أنفسنا فيكون قد أوجب علينا بإيجابنا إياها على أنفسنا كالنذر فأوجب على نفسه أن يخلق الخلق ابتداء أوجبه عليه طلب كمال العلم به وكمال الوجود فهما الذي طلبا منه خلق الخلق لما كان له الكمال وما رأى لكماله حكما لم يكن لكماله تعلق فطلب فأوجب يطلبه عليه إن يوجد له صورة يرى نفسه فيها لأن الشي‏ء لا يرى نفسه في نفسه عند المحققين وإنما يرى نفسه في غيره بنفسه ولذلك أوجد الله المرآة والأجسام الصقيلة لنرى فيها صورنا فكل أمر ترى فيه صورتك فتلك مرآة لك‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن مرآة أخيه‏

فخلق الخلق فكمل الوجود به وكمل العلم به فعاين كمال الحق نفسه في كمال الوجود فهذا واجب بموجب فوقع الشبه بالوجوب بالموجب كما وقع فيما وقع من الأحكام‏

[الشبه بين الحق والعبد من جهة الندب والكراهة]

وحكم الندب والكراهة يلحقان بالمباح وإن كان بينهما درجة فالمندوب هو ما يتعلق بفاعله الحمد ولا يذم بترك ذلك الفعل وشبهه في الجناب الإلهي ما يعطيه من النعم لعباده زائدا على ما ندعو إليه الحاجة فيحمد على ذلك وإن لم يفعله فلا يتعلق به ذم لأن الحاجة لا تطلبه إذ قد استوفت حقها فهذا شبه المندوب وأما شبه المكروه فالله يقول عن نفسه إنه يكره فإنه‏

قال وأكره مساءته‏

وقال ولا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ والكراهة المشروعة هي ما يحمد تاركها ولا يذم فاعلها فتشبه الندب ولكن في النقيض فإذا كان للعبد غرض فيما عليه فيه ضرر وهو أكثر ما في الناس فيسأل نيل ذلك الغرض من الله فما فعله الله له فيكره‏

العبد ذلك الترك من الله ويقول لعل الله جعل لي في ذلك خيرا من حيث لا أشعر وهو قوله وعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وهو ما لا يوافق الغرض وهو خير لكم فإن فعله له لا يذمه عليه فإنه يعذر من نفسه ويقول أنا طلبته فهذا عين الشبه بين العبد والرب من جهة المكروه‏

[العالم خرج على صورة الحق‏]

وانحصرت أقسام أحكام الشريعة في الحضرة الإلهية وفي العبد ولهذا يقول الصوفية إن العالم خرج على صورة الحق في جميع أحكامه الوجودية فعم التكليف الحضرتين وتوجه على الصورتين فإن قلت فأين الشبه في الجهل ببعض الأشياء وما هناك جهل قلنا قد قلنا في ذلك‏

إن قلت إني لست غير إله *** وهو أنا فإنه يجهل‏

لأنني أجهل من هو أنا *** وهو أنا فما الذي نفعل‏

فمن يقول إنه الظاهر في المظاهر والمظاهر على ما هي عليه والظاهر فيها هو الموصوف بالعلم بأمور وبالجهل بأمور أعطاه ذلك استعداد المظهر لما انصبغ به فصح الشبه على هذا بل هو هو قال الجنيد في هذا لون الماء لون إنائه انتهى الجزء الحادي والسبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(حديث ثالث عشر بقاء الطيب على المحرم بعد إحرامه)

خرج مسلم عن عائشة قالت كأنى أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم زاد النسائي بعد ثلاث وهو محرم‏

يعني بعد ثلاث ليال من إحرامه‏

[بقاء الطيب على المحرم من بقاء صفة الحق عليه‏]

الله تعالى تسمى بالطيب وجعل سبحانه في أمور ومواطن أن يتقرب إليه بصفاته التي تسمى بها وإن من صفاته الكرم وجعله فينا من صفات القرب إليه وهكذا سائر ما وصف الحق به نفسه فبقاء الطيب على المحرم من بقاء صفة الحق عليه إذ كان جعلها وتخلق بها في وقت يجوز له التخلق بها فإن صفات الحق لا يتخلق بها على الإطلاق بل عين لها أحوالا ومواطن فافهم ذلك‏

(حديث رابع عشر في المحرم يدهن بالزيت غير المطيب)

خرج الترمذي عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدهن بالزيت وهو محرم غير المفتت‏

قال أبو عيسى المفتت المطيب وفي إسناده مقال من أجل فرقد

[الزيت مادة الأنوار]

الزيت مادة الأنوار والمحرم أولى به من كل متلبس بعبادة لكثرة المناسك في الحج فإن لم يكن نوره قويا ممدودا بالنور الإلهي الذي أودع الله في الزيت وأمثاله من الأدهان لبقاء النور وإلا يفوته كثير من إدراك معاني المناسك فنبه بالادهان بالزيت على الإمداد الإلهي للنور قال تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى‏ نُورٍ فجعله نورا يَهْدِي الله لِنُورِهِ من يَشاءُ والهداية لا تكون إلا بدليل ولا دليل هنا إلا الزيت ومن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ من نُورٍ فكل ما أبقى عليك وجود النور فذلك النور مجعول له ومراعاة الأصول من التمكن في العلم والحكمة

(حديث خامس عشر في اختضاب المرأة بالحناء ليلة إحرامها)

ذكر الدارقطني عن ابن عمر أنه كان يقول من السنة أن تدلك المرأة بشي‏ء من الحناء عشية الإحرام وتغلف رأسها بغسلة ليس فيها طيب ولا تحرم عطلا العطل الخالية من الزينة

[الحق أولى من تجمل له‏]

في الصحيح إن الله جميل يحب الجمال والحق أولى من تجمل له‏

خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أراد هنا أن يلحقها بليلة القدر بين الليالي فإن سائر الليالي عطل من زينة ليلة القدر كذلك المرأة إذا أحرمت بغير زينة ولما كانت مأمورة بالستر وفي الإحرام مأمورة بالكشف أراد أن يبقى لها ضربا من حكم الستر في زمان إحرامها فاختضبت بالحناء فسترت بياضها حمرة الحناء فكانت زينة وسترا فأباح للمرأة في هذا الحديث التزين بزينة الله وزينة الله أسماؤه والمرأة في الاعتبار نفس الإنسان فمن تخلق بأسماء الله وصفاته فقد تحلى بزينة الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ في كتابه وعلى ألسنة رسله ولا سيما في الأشهر الحرم ولا سيما شهر ذي الحجة وأعني بالأشهر الحرم التي للحاج أن يحرم فيها والإحرام كله شهرة فإنه لا ستر فيه وسبب إزالة الستر فيه والتجرد إنما هو

لكونه جعل محرما فمنع من أمور كثيرة كان يفعلها في زمان حله فجبره بإزالة الستر الذي يقتضي التحجير حتى لا يجمع عليه تحجيرين الستر والإحرام‏

(حديث سادس عشر إحرام المرأة في وجهها)

ذكر الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها

[الأصل أن لا حجاب ولا ستر]

رجوع إلى الأصل فإن الأصل أن لا حجاب ولا ستر والأصل ثبوت العين لا وجودها ولم تزل بهذا النعت موصوفة وبقبولها سماع الخطاب إذا خوطبت منعوتة فهي مستعدة لقبول نعت الوجود مسارعة لمشاهدة المعبود فلما قال لها في حال عدمها كن كانت فبانت بنفسها وما بانت فوجدت غير محجور عليها في صورة موجدها ذليلة في عز مشهدها لا تدري ما الحجاب ولا تعرفه‏

[الإنسان أكثر الحيوان غيرة]

فلما بانت المراتب للاعيان وأثرت الطبيعة الشح في الحيوان ووفره في حقيقة نفس الإنسان لما ركبه الله عليه في نشأته من وفور العقل وتحكيم القوي الروحانية والحسية منه انجرت الغيرة المصاحبة للشح الطبيعي فكان أكثر الحيوان غيرة لأن سلطان الشح والوهم فيه أقوى مما في سواه والعقل ليس بينه وبين الغيرة مناسبة في الحقيقة ولهذا خلقه الله في الإنسان لدفع سلطان الشهوة والهوى الموجبين لحكم الغيرة فيه فإن الغيرة من مشاهدة الغير المماثل المزاحم له فيما يروم تحصيله أو هو حاصل له من الأمور التي إذا ظفر بها واحد لم تكن عند غيره وقد جبله الله على الحرص والطمع أن يكون كل شي‏ء له وتحت حكمه لإظهار حكم سلطان الصورة التي خلق عليها فإن من حقيقتها أن يكون كل شي‏ء تحت سلطانها حتى إن بعض الناس أرسل حكم غيرته فيما لا ينبغي أن يرسلها فغار على الله وما خلق وما كلف إلا أن يغار لله لا على الله فبهذا بلغ من العبد سلطان استحكامها في الإنسان فألحقته بالجاهلين‏

[العقل الكامل خلق لربه لا لغيره‏]

والعقل الكامل يعلم أنه خلق لربه لا لغيره وعلم بذاته أن من خلقه لا يمكن أن يزاحمه في أمر ولا يعارضه في حكم فيقول هو هو على ما هو عليه في نفسه ف لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وأنا أنا على ما أنا عليه في نفسي ولي أمثال من جنسي فليس له فيما أنا عليه قدم إلا التحكم وليس لي فيما هو عليه إلا قبول الحكم فلا مزاحمة ولا غيرة فالإنسان بما هو عاقل إن كان تحت سلطان عقله فلا يغار لأنه ما خلق إلا لله والله لا يغار عليه فإذا غار العاقل فإنما يغار من حيث إيمانه فهو يغار لله ولها موطن مخصوص شرعه له لا تعداه فكل غيرة تتعدى ذلك الحد فهي خارجة عن حكم العقل منبعثة عن شح الطبيعة وحكم الهوى حتى إن بعض الناس يرى أمورا قد أباحها الشرع يجد في نفسه أن لو كان له الحكم فيها لحجرها وحرمها فيرجح نظره في مثل هذا على ما أباح الله فعله ويرى أنه في رأيه أرجح من الله ميزانا ومن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الذي خطر له وربما يغتاظ حتى يقول أي شي‏ء أصنع هذا شي‏ء قد أباحه الله فلنصبر على ذلك فيصبر على كره وحنق في نفسه على ربه فهو في هدنة على دخن وهذا أعظم ما يكون من سوء الأدب مع الله وهو ممن أَضَلَّهُ الله عَلى‏ عِلْمٍ وقد ظهر مثل هذا في الزمان الأول في آحاد الناس وأما اليوم فهو فاش في الناس كلهم‏

[الشارع هو الله والرسول مبلغ عن الله‏]

فنحن نعلم أن الشارع هو الله وأن الرسول شخص مبلغ عن الله حكمه فيما أراه الله لا ينطق عن هوى نفسه إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏ والله يقول عن نفسه وما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ودل عليه دليل العقل والله أشد غيرة من عباده وما قرر من الشرائع إلا ما تقع به المصلحة في العالم فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ومهما زاد فيها أو نقص منها أو لم يعمل بما قرره فقد اختل نظام المصلحة المقصودة لله فيما نزله من الشرائع وقرره من الأحكام‏

[أباح الله لإمائه إتيان المساجد]

فأباح الله لإمائه إتيان المساجد فرأى بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لو رأى ما أحدث النساء بعده لمنع النساء المساجد كما منعت نساء بنى إسرائيل فرأوا إن الله لم يعلم أن مثل هذا يقع من عباده إذ كان هو المشرع سبحانه لا غيره فرجحوا نظرهم على حكم الله حتى إن بعضهم كان يغار على امرأته أن تخرج إلى المسجد وكان قويا في استعمال إيمانه وكانت المرأة تحب إتيان المسجد للصلاة وكانت ذات جمال فائق ويمنعه الخبر الوارد في تحريم منع النساء من إتيان المساجد فيجد في ذلك شدة فلو قدرت أن يرد الله الحكم لهذا الشخص في هذه المسألة لرجح نظره على حكم الله ومنع النساء المساجد والجائز كالواقع فما زال يحتال عليها حتى امتنعت من نفسها من إتيان المسجد فسر بذلك فلو استحكم في هذا الرجل سلطان العقل ما غار ولو استحكم فيه سلطان الايمان ما وجد حرجا في قلبه فصبر عليه مما حكم الله به في ذلك قال‏

تعالى فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً

[لا أغير من الله‏]

وإنما ضربنا المثل في هذا المساق بتعيين هذا الخبر في النساء لأنا في مسألة المرأة إنها لا تستر وجهها في الإحرام والغيرة يعطي حكمها الستر وقد ثبت في الصحيح أنه لا أغير من الله يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سعد إن سعد الغيور وأنا أغير من سعد والله أغير مني ومن غيرته حرم الفواحش‏

وما زاد على غيرة الله فهو في نفسه وعند نفسه أغير من الله وإن ذلك الأمر الذي هو عند الله ليس بفاحشة إذ لو كان عند الله فاحشة لحرمها فإن الله حرم الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ فعم الحكم فهذا شخص قد جعل فاحشة ما ليس عند الله فاحشة وأكذب الله فيما قال وجعل بغيرته التي يجدها أنه أحكم من الله في نصب هذا الحكم فلا يزال من هو بهذه المثابة معذبا في نفسه فما أحسن قوله ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً

[الحكم الإلهي المنزل ابتداء والحكم الإلهي المطلوب لبعض عباد الله‏]

فلو عرض الإنسان نفسه وأدخلها في هذا الميزان لرأى نفسه كافرة بعيدة من الايمان فإن الله نفى الايمان عمن هذه صفته وأقسم بنفسه عليه إنه ليس بمؤمن فهو حكم إلهي بقسم تأكيدا له فقال فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ فلو كان الستر لها أصلا لما قيل لها في الإحرام لا تستري وجهك أ لا ترى آية الحجاب ما نزلت ابتداء وإنما نزلت باستدعاء بعض المخلوقين هي وغيرها وكثير من أحكام الشرع نزلت بأسباب كونية لو لا تلك الأسباب ما أنزل الله فيها ما أنزل ولذلك يفرق أهل الله بين الحكم الإلهي ابتداء وبين الحكم الإلهي إذا كان مطلوبا لبعض عباد الله فيكون ذلك الطلب سببا لنزول ذلك الحكم فكان الحق مكلف في تنزيله إذ لو لا هذا ما أنزله بخلاف ما أنزله ابتداء فالمحقق يأخذ الحكم الإلهي المنزل ابتداء بغير الوجه الذي يأخذ به الحكم الإلهي الذي لم ينزل ابتداء فلا يغرنك أيها السائل كون الحق أنزل الأشياء بحكم سؤالات السائلين فبادر إلى قبول حكمه أي نوع كان مشروح الصدر طيب النفس إن أردت أن تكون مؤمنا وأما العاقل الوافر العقل فمستريح مع الله والحكم الإلهي مستريح معه‏

لقد كان صلى الله عليه وسلم يقول اتركوني ما تركتكم‏

حتى‏

قال في وجوب الحج كل عام لو قلت نعم لوجبت ولكنها حجة واحدة

فكره المسائل وعابها فالله يفهمنا وإياك مقاصد الشرع فلا يحجبنا ما ظهر منها مما بطن‏

[عبادة الحج شبيهة بالناس يوم القيامة في أحوالهم‏]

وعبادة الحج شبيهة بالناس في أحوالهم يوم القيامة شعثا غبرا متضرعين مهطعين إلى الداعي تاركين للزينة يرمون بالأحجار شغل المجافين لأنهم في عبادة لو علموا ما فيها لذهلت عقولهم فكانوا كالمجانين يرمون بالحجارة فجعله الله تنبيها لهم في رمى الجمار أن المشهد عظيم يذهب بالعقول عن أماكنها وما ثم عبادة هي تعبد محض في أكثر أفعالها إلا الحج وكذلك النساء في الدار الآخرة في القيامة مكشفات الوجوه كما هن في حال الإحرام ولو لا تعلق الأغراض النفسية في إنزال الحجاب ما نزلت آية الحجاب فإن الله ما أخرها لهذا السبب هي وغيرها من الأحكام الموقوفة على مثل هذا إلا ذخيرة لحساب هذا الشخص الذي كان سببا في تكليف الناس بها فيتمنى يوم القيامة أنه لا يكون سببا في ذلك لما يشدد عليه والناس عن هذا غافلون‏

[المجتهد المتشدد والمجتهد الذي يغلب عليه رفع الحرج عن الأمة]

وكذلك أهل الاجتهاد يوم القيامة وهم رجلان الواحد يغلب الحرمة والثاني يغلب رفع الحرج عن هذه الأمة استمساكا بالآية ورجوعا إلى الأصل فهو عند الله أقرب إلى الله وأعظم منزلة من الذي يغلب الحرمة إذ الحرمة أمر عارض عرض للأصل ورافع الحرج مع الأصل وإليه يعود حال الناس في الجنان يتبوءون من الجنة حيث يشاءون وما أغفل أهل الأهواء وإن كانوا مؤمنين عن هذه المسألة وسيندمون والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

[أدوية مرض غيرة الطبيعة]

الوجود دار واحدة ورب الدار واحد والخلق عيال الله يعمهم هذا الدار فأين الحجاب أ غير الله يرى أ غير الله يرى أ ينحجب الشي‏ء عن حقيقته جزء الكل من عينه خلقت حواء من آدم النساء شقائق الرجال هذه أدوية من استعملها في مرض الغيرة أزالت مرضه ولم تبق فيه إلا غيرة الايمان فإنها غيرة لا تزول في الحياة الدنيا في الموضع الذي حكمها فيه نافذ فإياك يا أخي وهوس الطبيعة فإن العبد فيه ممكور به من حيث لا يشعر وما أسرع الفضيحة إليه عند الله‏

[غيرة الإيمان وغيرة الطبيعة]

قال صلى الله عليه وسلم ما كان الله لينهاكم عن الربا ويأخذه منكم‏

فمن غار الغيرة الإيمانية في زعمه فحكمه أن لا يظهر منه ولا يقوم به ذلك الأمر الذي غار عليه حين رآه في غيره فإن قام به فما تلك غيرة الايمان بل تلك غيرة الطبيعة وشحها ما وقاه الله منه‏

فليس بمفلح في غيرته وما أكثر وقوع هذا وكم قاسينا في هذا الباب من المحجوبين حين غلبت أهواؤهم على عقولهم فإنا آخذ بحجزهم عن النار وهم يتقحمون فيها

مرسل الغيرة في موطنها *** هو فرد أحدي مصطفى‏

والذي يرسلها مطلقة *** فهو دار رسمه منه عفا

مرض الغيرة داء مزمن *** والذي قد شرع الله شفا

فمن استعمله بل ومن *** حاد عنه لم يزل منحرفا

فأقل الأمر فيه أن يرى *** وهو موصوف به معترفا

[رسول الله أسوة حسنة]

دعا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنا وهذه وأشار إلى عائشة فقال الرجل لا فأبى أن يجيب دعوته صلى الله عليه وسلم إلى أن أنعم لم فيها أن تأتي معه فأقبلا يتدافعان إلى منزل ذلك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة

والله تعالى يقول لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أين إيمانك لو رأيت اليوم صاحب منصب من قاض أو خطيب أو وزير أو سلطان يفعل مثل هذا تأسيا هل كنت تنسبه إلا إلى سفساف الأخلاق ولو لم تكن هذه الصفة من مكارم الأخلاق ما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق‏

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر الحسن والحسين وقد أقبلا يعثران في أذيالهما فلم يتمالك أن نزل من المنبر وأخذهما وجاء بهما حتى صعد المنبر وعاد إلى خطبته‏

أ ترى ذلك من نقص حاله لا والله بل من كمال معرفته فإنه رأى بأي عين نظر ولمن نظر مما غاب عنه العمي الذين لا يبصرون وهم الذين يقولون في مثل هذه الأفعال أ ما كان له شغل بالله عن مثل هذا وهو صلى الله عليه وسلم والله ما اشتغل إلا بالله‏

[من مكر الله الخفي بالعارفين‏]

كما قالت من لم تعرف فيا ليتها سلمت حين سمعت القارئ يقرأ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ في شُغُلٍ فاكِهُونَ مساكين أهل الجنة في شغل هُمْ وأَزْواجُهُمْ يا مسكينة ذكر الشغل تعالى عن هؤلاء وما عرفك بمن ولا بمن تفكهوا هم وأزواجهم فيما ذا حكمت عليهم إنهم شغلوا عن الله لو اشتغلت هذه القائلة بالله ما قالت هذه المقالة لأنها لا تنسب إليهم شغلهم بغير الله حتى تتصور في نفسها هذه الحالة التي تخيلتها فيهم وإذا تصورتها لم يكن مشهودها في ذلك الوقت إلا تلك الصورة فهي المسكينة لما تحققنا من كلامها إن وقتها ذلك كان شغلا عن الله وأصحاب الجنة في باب الإمكان وهي قد شهدت على نفسها شهود تحقيق أنها مع غير الله في شغل وهذا من مكر الله الخفي بالعارفين في تجريح الغير ببادئ الرأي والتعريض في حق نفوسهم إنهم منزهون عن ذلك هكذا صاحب الغيرة المطلقة لا يزال في عذابها مقيما متعوب الخاطر وهو عند الله في عين البعد من حيث لا يشعر

(حديث سابع عشر في بقاء الطيب على المحرمة)

ذكر أبو داود من حديث عمر بن سويد قال حدثتني عائشة بنت طلحة إن عائشة أم المؤمنين حدثتها قالت كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سأل على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا

[تسمى الله بالطيب وحبب إلى نبيه الطيب‏]

تسمى الله بالطيب وحبب إلى نبيه صلى الله عليه وسلم الطيب وإنما منع المحرم من إحداثه في أثناء أفعال الحج إلى وقت طواف الإفاضة فإنه يستعمله للإحلال قبل أن يحل كما استعمله للإحرام قبل أن يحرم فأشبه النية في العمل لأن الإحرام عمل مشروع والإحلال منه عمل مشروع فصار في منزلة من لا يقبل العمل إلا به فهي مرتبة عظمى وهو أقوى من النية في الصحبة للمكلف فإن المكلف يذهل عن النية في أثناء الفعل فيقدح ذلك في صورة الفعل لا في ذات الفعل فيخرج الفعل مما يكمله حضور النية والطيب لذاته يبقى لا كلفة فيه فالأجر له من جهته ما دام موجودا فيه فهو أقوى سلطانا من النية

[الطيب من مدارك الأنفاس الرحمانية]

ولا يستعمل الطيب إلا لرائحته فهو من مدارك الأنفاس الرحمانية فيدفع الكربات ويرفع الهموم ويزيل الضيق والحرج ويؤدي إلى السعة والسراح والجولان في المعارف الإلهية لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فالطيب محبوب لذاته فأشبه الكمال وهو في المرأة سبب موجب للنظر إليها وما منعها الشارع من‏

ذلك في حال إحرامها مع كشف وجهها وهذا نقيض الغيرة التي في العامة التي ما خوطبنا بها فعليك بالغيرة الإيمانية الشرعية لا تزد عليها فتشقى في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلا تزال متعوب النفس وأما في الآخرة بما يؤدي إلى سؤال الحق عن ذلك بما ينجر معها من سوء الظن ومن الاعتراض بالحال على الله وحصول الكراهة في النفس بما أباحه الله‏

(حديث ثامن عشر في المسارعة إلى البيان عند الحاجة واحتزام المحرم)

ذكر أبو داود عن صالح بن حسان أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا محرما محتزما بحبل أبرق فقال يا صاحب الحبل ألقه‏

فيحتجون بمثل هذا الحديث أن المحرم لا يحتزم والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال فيه ألقه لأنك محرم فما علل للإلقاء بشي‏ء فيحتمل أن يكون لكونه مجرما ويحتمل أن يكون لأمر آخر وهو أن يكون ذلك الحبل إما مغصوبا عنده وإما للتشبه بالزنار الذي جعل علامة للنصارى‏

[الاحتزام مأخوذ من الحزم‏]

اعلم أن الاحتزام مأخوذ من الحزم وهو الاحتياط في الأخذ بالأمور التي يكون في الأخذ بها حصول السعادة للإنسان ومرضاة الرب إذا كان الحزم على الوجه المشروع في الوجه المشروع والحبل إذا كان حبل الله وهو السبب الموصل إلى إدراك السعادة فإن كان ذلك المحتزم احتزم بحبل الله معلما بأخذ الشدائد والأمور والمهمة وقال له ألقه فإنما ذلك مثل‏

قوله من يشاد هذا الدين يغلبه‏

وقوله إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق‏

وكان كثيرا ما يأمر صلى الله عليه وسلم بالرفق وقال إن الله يحب الرفق في الأمر كله‏

والحزم ضد الرفق فإن الحزم سوء الظن وقد نهينا عن سوء الظن والأمر أيسر مما يتخيله الحازم وهو يناقض المعرفة فإنه لا يؤثر في القدر الكائن والأمر الشديد على الواحد إذا انقسم على الجماعة هان قال بعضهم‏

إذا الحمل الثقيل تقسمته *** رقاب الخلق خف على الرقاب‏

[حبل الله عهده ودينه‏]

أ لا ترى الله تعالى يقول واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وقال في الواحد ومن يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ وقال تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوى‏ فيعتصم به الواحد والجماعة ولما ذكر الحبل أمر الجماعة بالاعتصام به حتى يهون عليهم ثم إنه مع كونهم جماعة قد يشق عليهم لشدته وقد تضعف الجماعة عنه فأعانهم بنفسه وما ذكر من نفسه إلا ما يعلم أنه الموصوف بالقدرة منه‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يد الله مع الجماعة

فيستعينون به ويعينهم بكون يد الله معهم على الاعتصام بحبل الله وهو عهده ودينه المشروع فينا الذي لا يتمكن لكل واحد منا على الانفراد الوفاء به فيحصل بالمجموع لاختلاف أحوال المخاطبين ولا يكون إلا هكذا فلهذا اعتبره صلى الله عليه وسلم تنبيها له فقال له ألقه هذا اعتباره الذي يحتاج إليه ولا سيما المحرم فإنه محجور عليه فزاد بالحبل احتجارا على احتجار فكأنه قال له يكفيك ما أنت عليه من الاحتجار فلا تزد فما كان أرفقه بأمته صلى الله عليه وسلم‏

[من الحزم أن تكون نفقة المرء في صحبته‏]

وإنما رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهميان للمحرم‏

لأن نققته فيه الذي أمره الله أن يتزود بها إذا أراد الحج فقال وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ فالتقوى هاهنا ما يتخذه الحاج من الزاد ليقي به وجهه من السؤال ويتفرغ لعبادة ربه وليس هذا هو التقوى المعروف ولهذا ألحقه بقوله عقيب ذلك واتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فأوصاه أيضا مع تقوى الزاد بالتقوى فيه وهو أن لا يكون إلا من وجه طيب ولما كان الهميان محلا له وظرفا ووعاء وهو مأمور به في الاستصحاب رخص له في الاحتزام به فإنه من الحزم أن تكون نفقة الرجل صحبته فإن ذلك أبعد من الآفات التي يمكن أن تطرأ عليه فتتلفه‏

ذكر أبو أحمد بن عدي الجرجاني من حديث ابن عباس قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهميان للمحرم‏

وإن كان هذا الحديث لا يصح عند أهل الحديث وهو صحيح عند أهل الكشف‏

(حديث تاسع عشر في الإحرام من المسجد الأقصى)

خرج أبو داود من حديث أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة

في إسناده مقال‏

(المناسبة) [مرتبة الأولية التي للمسجد الحرام‏]

المسجد يناقض الرفعة فهو بعيد منها وهو سبب في حصولها

قال عليه السلام من تواضع لله رفعه الله‏

والأقصى البعيد والحرام المحجور فهو بعد في قرب لمن هو فيه فالأقصى بالنسبة إلى المسجد هو بعيد مما خوطب به ممن هو في المسجد الحرام‏

وهم أهل مكة وما هو أقصى من أهله بل هو الأقرب وهو أيضا قصي من الأولية لأن البيت الذي هو الكعبة قد حاز الأولية وبين الأقصى وبينه أربعون سنة وهو حد زمان التيه لقوم موسى عن دخول المسجد الأقصى لما كان في عين القرب وهو مرتبة الأولية التي للمسجد الحرام فأبوا نصرة نبيه موسى وقالوا له فَاذْهَبْ أَنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ فقال لهم إني تارككم تائهين في هذه القعدة أربعين سنة لا تستطيعون دخول بيت المقدس كما لم يكن ظهوره للعبادة بعد المسجد الحرام إلا بعد أربعين سنة وما بقي معهم موسى عليه السلام في التيه إلا لكونه رسولا إليهم فبقوا حيارى لا هم في عين القرب من الأولية ولا حصل لهم غرضهم في دخول بيت المقدس وما أخذهم الله إلا بظاهر قولهم إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ فاحذر أن تكون من قوم موسى الذين صفتهم هذا بل كن من قوم موسى الذين هم أمة يقضون بالحق وبه يَعْدِلُونَ كذلك مقام النبوة من مقام الولادة بينهما من التوقيت الزماني أربعون سنة فما بعث نبي إلا من أربعين سنة فإنه غاية استحكام العقل وقوة سلطانه وابتداء ضعف الطبيعة ثم يمشي بحكمه فيما بقي من عمره في وفور من عقله ونقص من طبيعته‏

[المحرم من المقام الأبعد في طلب المقام الأقرب‏]

فمن أحرم من المقام إلا بعد يطلب المقام إلا قرب وكلاهما معبد كان المحرم برزخا بينهما وكان المعبدان طرفيه فما لم يصل إليه هو ما تأخر من ذنبه وما تقدم عنه هو ما تقدم من ذنبه فيغفر له ما بين المسجدين والغفر الستر فوجبت له الجنة لأنها ستر عن النار لمن دخل فيها وذاته ستر على نار شهواته فباطن الجنة نار محرقة لأن الشهوة من الإنسان متحكمة فيها وهي نار طبيعته بلا شك فما زال العبد السعيد مكتنفا بالستر في التقدم أن لا تصيبه عقوبة الذنب وفي التأخر اكتنف بستر الحفظ والعصمة أن لا يصيبه الذنب فهو ممن وجبت له الجنة إذا كان هذا حكمه فهو مستور في كنف الله فهو في الجنة وإن كان في الدنيا

(حديث عشرون في التنعيم إنه ميقات أهل مكة)

من مراسل أبي داود عن ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة التنعيم‏

[أهل مكة أقرب الخلق إلى أولية المعابد]

كيف لا يكون ميقاتهم التنعيم وهم جيران الله وأهل بيته وهم أقرب الخلق إلى أولية المعابد فيتجلى لهم الحق في اسمه الأول ولا يحصل هذا التجلي إلا لأهل الحرم وفيه يتفاضلون بحكم الأهلية فإنهم بين عصبة وأصحاب سهام ولا يحصل هذا التجلي لغيرهم ممن جاور غيره من البيوت المضافة إلى الله وكل من كان فيه وفارقه فإنما حكمه حكم المسافر وإليه ينسب لا إلى غيره كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر منه إلى المدينة قبل الفتح فأثبت لهم جوار الله لما وجدوا اسم المهاجرين وإنما وقع هذا الاسم لأمور عرضية والبيت لله على أصله من الحرمة والتحريم عند الفريقين فأهل مكة بحكم الأصل مكيون جيران الله في حرمه وهم عرب لهم حفظ الجار ومراعاة الجوار والحق يعامل عباده بما تواطئوا عليه في أخلاقهم‏

(إليهم يحج الخلق من كل جانب) *** يقولون حج العبد والعبد لم يحج‏

وما حج إلا من له الفعل والأمر *** وما ثم إلا الله ما ثم غيره‏

فمنه العطاء الجزل والنائل الغمر

[مراعاة الأصول هو المرجوع إليها]

وإذا كان المكي في غير مكة لا يزول عنه اسم الأهلية كما إن الآفاقي إذا كان بمكة لا يزول عنه اسم الجار كما أنا وإن حزنا بخلقنا الصورة الربانية فنحن بحكم الأصل عبيد عبودية لا حرية فيها فما نحن سادة ولا أرباب فمراعاة الأصول هي المرجوع إليها وإليه يرجع الأمر كله فهو الأصل فافهم هذه الآية فهم حفي بها خابر ولا أثر لما يقدح في الأصل من العوارض فإن ذلك ليس قادحا في نفس الأمر

(حديث حادي وعشرين في تغيير ثوبي الإحرام)

ذكر أبو داود عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ثوبيه بالتنعيم وهو محرم‏

هذا من المراسيل‏

اعتباره [تغيير حال الشدة بالرخاء]

تغيير حال الشدة بالرخاء وذلك من كان حاله البلاء الذي يوجب للمؤمن الصبر عليه والرضي به لكونه من عند الله تعالى فتجده عند هذا البلاء شاكرا فقد عامل البلاء بما لا يستحقه (و هذه مسألة) أغفلها أيضا أصحابنا وغلطوا في تحقيقها والعبارة عنها واحتجوا في ذلك بما قاله أبو يزيد البسطامي الأكبر وهو

أريدك لا أريدك للثواب *** ولكني أريدك للعقاب‏

وكل مآربي قد نلت منها *** سوى ملذوذ وجدي بالعذاب‏

[البلاء هو قيام الألم في نفس المتألم‏]

فاعلم إن البلاء المحقق إنما هو قيام الألم ووجوده في نفس المتألم ما هو السبب المربوط به عادة كوجود الضرب بالسوط والحرق بالنار والجرح بالحديد وما أشبه ذلك من الآثار الحسية مما يكون عنها الآلام الحسية وكذلك ضياع المال والمصيبة في الأهل والولد والتوعد بالوعيد الشديد وجميع الأسباب الخارجة عنه الموجبة للآلام النفسية عادة إذا حصلت بهذا الشخص وهي ثوبا الإحرام فإن الإحرام يحول بينه وبين الترفه والتنعم فمثل هذه الأمور في العادة يوجب الآلام فيتعين شرعا على المبتلى بها الصبر والرضي والتسليم لجريان الأقدار عليه بذلك فتسمى هذه الأسباب عذابا وليست في الحقيقة عذابا وإنما العذاب هو وجود الألم عند هذه الأسباب لا عين الأسباب‏

[اللذة هي النعيم والتنعم‏]

وكذلك اللذة التي هي نقيض الألم هي صفة للملتذ يوصف بها وهو النعيم والتنعم وله أسباب ظاهرة وهي نيل أغراضه كانت ما كانت فإنه يتنعم بوجودها إذا حصلت فهو صاحب تنعم في مقام تنعيم فعبد على مثل هذا بالشكر لا بالصبر وسمي أسباب وجود اللذة في الملتذ نعيما وليس النعيم في الحقيقة إلا اللذة الموجودة في النفس وهي أيضا لذات حسية ونفسية وأسباب كأسباب الآلام خارجة وقائمة بحسه فأما صاحب أسباب الآلام إذا وجد اللذة والالتذاذ في نفسه مع قيام هذه الأسباب الموجبة للآلام عادة لم يجب عليه الصبر فإنه ليس بصاحب ألم وإنما هو صاحب لذة متقلب في نعم من الله فيجب عليه الشكر للتنعم القائم به وبالعكس في حصول أسباب النعم يجد عندها الألم فيجب عليه الصبر

[في كل مصيبة ثلاث نعم من الله على العبد المصاب‏]

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصابني الله بمصيبة فأثبت أنه مصاب بها أي نزلت به مصيبة أي سبب موجب للألم عادة فقال أ لا رأيت أن لله علي في تلك المصيبة ثلاث نعم النعمة الواحدة حيث لم تكن في ديني النعمة الثانية حيث لم تكن أكثر منها النعمة الثالثة ما وعد الله من الثواب عليها فأنا أنظر إليه فمثل هذا ما يسمى صابرا فإنه صاحب نعم متعددة فهو ملتذ بمشهوده فيجب عليه شكر المنعم وبالعكس وهو وجود أسباب اللذة فينعم الله عليه بمال وعافية ووجود ولد أو ولاية جديدة يكون له فيها رياسة وأمر ونهي وهذه كلها أسباب تلتذ النفوس بها وإذا كانت مطعومات شهية وملبوسات لينة فاخرة ومشمومات عطرة فهو صاحب لذة حسية

[الصبر مع البلاء والشكر مع النعماء]

فيفكر صاحب هذه الأسباب بما للحق عليه فيها من الحقوق من شكر المنعم والتكليف الإلهي في ذلك وما يتعين عليه في المال والولد والولاية من التصرف في ذلك كله على الوجه المشروع المقرب إلى الله وإقامة الوزن في ذلك كله فعند ما يخطر له هذا وهو الواجب عليه من الله أن ينظر في ذلك أعقبت هذه الأسباب الملذة في العادة هذا الفكر الموجب للألم فقام الألم به فهو صاحب بلاء لأنه صاحب ألم عن ظهور أسباب نعيم فيجب عليه الصبر على ذلك الألم ويسعى في أداء ما يجب عليه من الحق في ذلك أو يزهد فيه إن أفرط فيه الألم فما وقع الصبر إلا في موضعه مع وجود أسباب ضده ولا وقع الشكر إلا في موضعه مع وجود أسباب ضده ولذا قال أبو يزيد

سوى ملذوذ وجدي بالعذاب‏

فما أراد بالعذاب هنا وجود الألم فإن الألم بالشي‏ء مضاد للتلذذ به فلا يجتمعان في محل واحد أبدا وهو طلب اللذة عند وجود سبب الآلام وهو خرق عادة كنار إبراهيم عليه السلام هي في الظاهر نار ولكن ما أثرت إحراقا في جسم إبراهيم ولا وجد ألما لها بل كانت عليه بردا وسلاما فتعين الشكر عليه لأنه ما ثم ألم يجب الصبر عليه فالصبر أبدا لا يكون إلا مع البلاء والبلاء وجود الألم والشكر أبدا لا يكون إلا مع النعماء والنعيم بوجود اللذة في المحل فما يقع الشكر من العبد إلا على مسمى النعمة ولا يقع الصبر من العبد إلا على مسمى الألم وهو البلاء

[جزاء الصديقين الصابرين وجزاء الصديقين الشاكرين‏]

أ لا ترى النبي صلى الله عليه وسلم ما غير ثوبي إحرامه إلا بمكان يسمى التنعيم ينبه بذلك أصحابه ومن يأتي بعده من إخوانه إنكم إذا نالتكم مشقة الإحرام في الحج وما يتضمنه من الأسباب المؤلمة المؤذية فانظر فيما لله في طيها من النعم التي لا تحصى فيعقبكم رؤية ذلك تنعيما والتذاذا بما أنتم بسبيله لأنه سبب موجب لنيل تلك المشاهد الكرام والنعم الجسام فتهون عليكم صعوبة طريقكم فتكونون من الشاكرين فتجازوا يوم القيامة جزاء الصديقين الصابرين وجزاء الصديقين الشاكرين وكذلك في أسباب النعم إذا رأيتموها بلاء واختبارا وأديتم حقوقها

فإن لكم الجزاءين جزاء الشاكر وجزاء الصابر فهذا معنى تغيير النبي صلى الله عليه وسلم ثوبيه بالتنعيم وهو محرم فإن شاء قال الحمد لله المنعم المفضل وإن شاء قال الحمد لله على كل حال لوجود الحالين عنده فاعلم ذلك أ لا ترى تلبيته صلى الله عليه وسلم لبيك إن الحمد فعم الحالتين ثم قال والنعمة لك وما قال والبلاء منك مع ظاهر الحال من المشقة والتحجير وأعظمها امتناعه مما حبب إليه وهو التمتع بالنساء

(حديث ثان وعشرون لا حج لمن لم يتكلم)

ذكر ابن الأعرابي عن زينب بنت جابر الأحمسية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في امرأة حجت معها مصمتة قولي لها تتكلم فإنه لا حج لمن لم يتكلم يروي هذا الحديث متصلا إلى زينب ذكره ابن حزم في كتاب المحلى‏

[العبادة المشروعة يجب الكلام فيها بذكر]

قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وهو كلام وهو صفة إلهية وأنت في عبادة مشروعة فينبغي بل يجب الكلام فيها بذكر ورد الحديث أن المناسك في الحج إنما وضعت لإقامة ذكر الله وعن الكلام صدرنا وهو قوله كن فكنا فالصمت حالة عدمية والكلام حالة وجودية فالكلام له الأثر وبه سمي كلاما لأنه من الكلم وهو الجرح والجرح أثر في البدن والإنسان موجود فلا ينبغي أن يتصف إلا بصفة وجودية وهو الكلام لا بوصف عدمي وهو الصمت فإن حقيقة الإنسان النطق فإذا صمت كذب على نفسه بالحال على إن الله قد جعل للصمت موطنا وهو صمت إضافي وهو ترك الكلام فيما لا يعني أو فيما يكون عليك لا لك‏

(حديث ثالث وعشرون في رفع الصوت بالتلبية وهو الإهلال في الحج)

ذكر النسائي عن السائب بن خلاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل عليه السلام فقال يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية

[يباهي الله بالحاج ملائكته‏]

قد ثبت بالدليل العقلي والسمعي أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ وإِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ وقد جاء الشرع بذلك فاستوى المؤمن والعالم فلم يبق لرفع الصوت بالتلبية لجناب الحق مدخل غير أنه تعالى أخبر أنه يباهي بالحاج ملائكته فإذا رفعوا أصواتهم وضجوا بالتلبية شعثا غبرا مهطعين إلى الله تعالى فإنه الداعي لهم كان أعظم عند الملائكة في المباهاة المرادة للحق في ذلك‏

[يا إبراهيم عليك بالنداء وعلى البلاغ‏]

ثم إنه من الأرواح المفارقة لحالة الدنيا بالموت ممن دعانا إلى الحق بعمل الحج كما

روى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه لما بنى البيت أمره ربه تعالى أن يصعد عليه وأن يؤذن في الناس بالحج فقال يا رب وما عسى يبلغ صوتي فأوحى إليه عليك بالنداء وعلى البلاغ فنادى إبراهيم عليه السلام يا أيها الناس إن لله بيتا فحجوه قال فاسمع الله ذلك النداء عباده فمنهم من أجاب ومنهم من لم يجب‏

وكانت إجابتهم مثل قولهم بَلى‏ حين أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ فأجابوه إجابة يسمعها من كان الحق سمعه منهم من سارع إلى إجابة الحق وهم الذين يُسارِعُونَ في الْخَيْراتِ والقائلين بأن الحج على الفور للمستطيع ومنهم من تلكأ في الإجابة فلم يسرع إلا بعد حين منهم الذين يقولون الحج مع الاستطاعة على التراخي فمن هناك قضوا في هذا الوقت بما قضوا به من ذلك وهم لا يشعرون لأن الله تعالى ما أطلعهم على هذا المشهد لما أخرجهم إلى الحياة الدنيا ف هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ‏

[التأذين بالحج والنداء للصلوات الخمس‏]

ثم إن الذين أجابوه منهم من كرر الإجابة ومنهم من لم يكرر فمن لم يكرر لم يحج إلا واحدة ومن كرر حج على قدر ما كرر وله أجر فريضة في كل حجة وقد نبه الشارع على ذلك بتكرار التلبية في الحج فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك إله الحق فأتى بخمس للتأذين بالحج تشبيها بالنداء للصلوات الخمس فيجيب لكل أذان لأنه كانت قرة عينه في الصلاة ومما يؤيد ما ذهبنا إليه إن الإهلال بالحج ما شرع إلا أثر صلاة لا بد منها

[ثرى من أهل مصر ما حدث نفسه بالحج قط]

ولقد رأيت رجلا بمكة من أهلها يزيد على الثلاثين سنة عمره ما حج قط ولا اعتمر ولا طاف بالبيت فكانت أول عمرة اعتمرها معي وكنت أعلمته كيف يصنع فيها وأخبرت عن رجل بجدة على ليلة من مكة يكون عمره بضعا وثمانين سنة ما حج قط وأخبرت عن رجل من أهل مصر من أهل الثروة ما حدث نفسه بالحج قط فقبض عليه عن أمر صاحب مكة لنازلة وقعت تخيل فيه أنه صاحب النازلة فجاءوا به إلى صاحب مكة وهو مقيد بالحديد ليقتله فوافق يوم الوقوف بعرفة فلما أبصره الواشي قال أيها الأمير ما هو هذا فخلى سبيله واعتذر إليه فاغتسل وأهل بالحج فهكذا هي العناية

[من لم يجب النداء الابراهيمى‏]

وأما من لم يجب‏

ذلك النداء الإبراهيمي فهم الذين لم يضرب الله لهم بسهم في الحج مع كونهم سمعوا ومن أصمه الله عن ذلك النداء فهو الذي لا يؤمن بالحج وأما الذين يحج عنهم إذا لم يحجوا فالذي يحج عنهم له الحج كاملا بثوابه وللمحجوج عنه ثواب الحج لا الحج فيحشر في الحاج وليس بحاج هذا أعطاه الكشف‏

[رفع الصوت بالتلبية لإظهار قوة سلطان الاسم البعيد]

فلهذا قد ذكرنا أن رفع الصوت بالتلبية إنما كان للمباهاة وأما المعنى الآخر في حكم الأسماء الإلهية فإنه من أسمائه البعيد وهو التائه الوارد في القرآن حيث وقع فلا ينادي إلا الاسم البعيد من الحالة التي ينادى فيها العبد ليجيب نداء الحق إلى الحالة التي يدعوه إليها والبعد يطلب رفع الصوت بالتلبية لإظهار قوة سلطان الاسم البعيد بأن له التأثير فيما بعد كتأثير القريب إذ لا مفاضلة في الأسماء الإلهية كما قررناه غير مرة فاعلم ذلك انتهى الجزء الثاني والسبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(حديث رابع وعشرون في ذكر الله قبل الإهلال بالحج)

خرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة

[الجمع بين الحمدين جمع بين الدرجتين‏]

حمد الله ولم يذكر صورة التحميد فليحمل على الثناء على الله بما يقتضيه حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموطن فإنه فيه بين ما يسره وبين ما حجر عليه فعله مما كانت له في إباحته إرادة فمن حيث ما هو صاحب سراء من إجابة الخلق دعوة الله يقول الحمد لله المنعم المفضل ومن حيث ما حجر عليه ومنع مما له فيه إرادة يقول الحمد لله على كل حال فجمع بين الحمدين ليجمع الله له بين الدرجتين لأنه كامل فيكمل له الجزاء وهكذا ينبغي أن يحضر الحاج في نفسه في ذلك الوقت عند تحميده ربه إحضار الحالتين ليجمع له بين الحمدين حالا ونطقا فيحصل على الجزاءين فلهذا قال الصاحب حمد الله ولم يعين‏

[الحق منزه عن التحجير في تصريفه بخلقه‏]

وأما التسبيح في ذلك الموطن فإنه موطن التحجير والإحرام والحق منزه عن التحجير في تصريفه في خلقه فهو يصرفهم كيف يشاء لا مانع ولا تحجير عليه فوجب التسبيح لما يقتضيه الموطن ومن وجب له التسبيح فهو الكبير عن الاتصاف بمثل ما هم الناس عليه في ذلك الوقت من الحال فلا بد من التكبير فإذا أعطى الله ما ينبغي له حينئذ يتفرغ لمقصوده فيما دعي إليه من الحج والعمرة فيهل بالحج والعمرة كما ورد

(حديث خامس وعشرون في النهي عن العمرة قبل الحج)

خرج أبو داود عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشهد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج‏

وهذا مرسل وضعيف جدا فإن الأحاديث الصحاح تعارضه‏

[النهى أن يتقدم العمل على النية]

فصار مدلول لفظ الحج في هذا الحديث أنه القصد وهو النية فهي نهي أن يتقدم العمل على النية فيه فإن النية ما شرعت إلا عند الشروع في العمل والعمرة زيارة الحق في بيته المضاف إليه الذي دعا الناس إلى الإتيان إليه فمن زاره من غير قصد وهو المسمى بالحج لغة لا شرعا فما زاره فنهى عن الزيارة قبل القصد يعني نية الزيارة على جهة القربة فيصح الحديث على هذا المعنى‏

(حديث سادس وعشرون ما يبدأ به الحاج إذا قدم مكة)

خرج مسلم عن عروة بن الزبير قال حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أنه أول شي‏ء بدأ به حين قدم مكة إنه توضأ ثم طاف بالبيت‏

[الطواف بالبيت عموم الزيارة له‏]

لما دعا الله سبحانه عباده إلى هذه العبادة ما دعاهم إلا إلى بيته لا إلى غيره فقال ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يعلو على ظهر البيت حين أكمله بالبناء أن ينادي إن لله بيتا فحجوه فلما وصلوا إلى البيت لم يتمكن أن يكون البدء إلا الطواف به حتى يعمه من جميع جهاته ولا يطاف بالبقعة ما لم تكن محجورة بصورة ينطلق عليها اسم البيت أ لا تراهم لما بقي من البقعة ما بقي خارجا إذ قصرت بهم النفقة من جهة الحجر أقاموا لذلك الباقي حائط الحجر حتى لا يكون الطواف إلا بصورة زائدة على البقعة هذا كله لئلا يتخيل أن المقصود البقعة فأعلمهم الله تعالى أن المقصود صورة البيت في هذه البقعة فوقع القصد للمجموع لا للمفرد ومتى لم يكن‏

المجموع لم يصح القصد ولا صحت العبادة

[أصل الاستناد في الوجود]

وذلك لأن أصل استنادنا في وجودنا ما هو للذات الغنية من كونها ذاتا بل من كون هذه الذات إلها فاستناد للمجموع ولهذا كثرت الآلهة في العالم في ذوات مختلفة في زعم من جعلها آلهة كما كثرت البيوت في بقاع مختلفة وما صح منها أن يكون بيتا لهذه العبادة إلا هذا الخاص لهذا الجمع الخاص وإن كانت كلها بيوتا في بقع ثم إن الله تعالى لما اتصف بالغيرة ورأى ما يستحقه من المرتبة قد نوزع فيها ورأى أن المنسوب إليهم هذا النعت وهذا الاسم لم يكن لهم فيه قصد ولا إرادة من فلك وملك ومعدن ونبات وحيوان وكوكب وإنهم يتبرءون منهم يوم القيامة قضى الله حوائج من عبدهم غيرة ليظهر سلطان هذه النسبة لأنهم ما عبدوه لكونه حجرا ولا شجرا بل عبدوه لكونه إلها في زعمهم فالإله عبدوا فما رأى معبود إلا هو ولهذا يوم القيامة ما يأخذهم إلا بطلب المعبودين فإن ذلك من مظالم العباد فمن هنالك يجازيهم الله بالشقاء لا من حيث عبادتهم فالعبادة مقبولة ولهذا يكون المال إلى الرحمة مع التخليد في جهنم فإنهم أهلها فتفطن‏

[العلماء السعداء والجهلاء الأشقياء]

فقد اجتمعوا معنا في كوننا ما عبدنا هذه الذات لكونها ذاتا بل لكونها إلها فوضعنا الاسم حقيقة على مسماه فهو الله حقا لا إله إلا هو فلما نسبنا ما ينبغي لمن ينبغي سمينا علماء سعداء وأولئك جهلاء أشقياء لأنهم وضعوا الاسم على غير المسمى فأخطئوا فهم عباد الاسم والمسمى مدرج فوقع التمييز بيننا وبينهم في الدار فسكنا دارا تسمى جنة لها ثمانية أبواب الباب الثامن وضع الاسم على مسماه حقيقة وكانت النار سبعة أبواب لأن الباب الثامن هو وضع الاسم على مسماه وأهل جهنم ما وضعوه على مسماه فجهلوا فظهر الحجاب فلم يروا إلا مسماهم وذهب الاسم عنهم يطلب مسماه فأخذه من استحقه وهو الله فعرفوا في الآخرة ما جهلوه في الدنيا ولم تنفعهم معرفتهم‏

[المعبود على الحقيقة هو الله‏]

ولكن راعى الحق سبحانه قصدهم حيث أنهم ما عبدوا إلا الله لا الأعيان فصيرهم في العاقبة إلى شمول الرحمة بعد استيفاء حقوق المعبودين منهم ولذلك جعله من الكبائر التي لا تغفر ولكن ما كل مشرك بل المشركون الذين بعثت إليهم الرسل أو لم يوفوا النظر حقه ولا اجتهدوا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن المجتهد وإن أخطأ فإنه مأجور ولم يعين فرعا من أصل بل عم وصدق قوله ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وقوله سبقت رحمتي غضبي‏

وإن الميزان ما هو على السواء في القبضتين وإنما هو على السواء بين العمل والجزاء لذلك وضع الميزان وهذه المسألة الميزانية غلط فيها جماعة من أهل الله منهم أبو القسم بن قسي صاحب خلع النعلين ومن تابعه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(حديث سابع وعشرون أين يكون البيت من الطائف)

خرج الترمذي عن جابر قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخل فاستلم الحجر ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا

الحديث‏

[الشيطان ليس له جهة اليمين سبيل‏]

لما كان الحجر يمين الله وجعل للإنسان المخلوق على الصورة يمينا شرع له أن يكون في طوافه بين يمين الله ويمينه فيكون مؤيدا بالقوتين معا فلا يجد الشيطان إليه دخولا لأن الشيطان ليس له على اليمين سبيل وإنما يلقي في قلب العبد وهو مائل إلى جهة الشمال فيكون يمين الحق في الطواف في حق الطائف يحفظه وهو ذو يمين من نشأته فلا يزال محفوظا فإذا انتقل من موازنته وهو من حد الركن العراقي إلى الركن اليماني تحفظه عناية البيت المنسوب إلى الله فإن قلت فقد أخبر الله تعالى عن إبليس أنه يأتينا من قبل اليمين قلنا اليمين الذي أراد الشيطان هنا ليس هو يمين الجارحة فإنه لا يلقي على الجوارح وكذلك ما هو شمال الجوارح ولا أمام الإنسان ولا خلفه وأن محل إلقائه إنما هو القلب فتارة يلقي في القلب ما يقدح في أفعال ما يتعلق بيمينه أو شماله أو من خلفه أو من بين يديه ونحن إنما نريد باليمين هنا هذه الجهة المخصوصة فإن قلت وكذا المشرك له هذه اليمين قلنا بالمجموع وقع ما وقع وما يكون المجموع إلا للمؤمن وهذا معنى قوله تعالى وأَمَّا إِنْ كانَ من أَصْحابِ الْيَمِينِ يريد يمين المبايعة التي بيدها الميثاق ما يريد يمين الجارحة

(حديث ثامن وعشرون من رأى الركوب في الطواف والسعي)

خرج مسلم عن جابر قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة الحديث وكذلك أيضا وقف بعرفة وبجمع ورمى الجمار كل ذلك وهو راكب‏

[الرسول محمول في جميع أحواله بغيره لا بنفسه‏]

إعلام منه صلى الله عليه وسلم أنه محمول في جميع أحواله من طاعة ربه وأنه بغيره لا بنفسه وكان من حامله كعضو من أعضائه بالنسبة إليه فكما إن أعضاءه محمولة لنفسه‏

عضوا عضوا حمل الكل للجزء كذلك الإنسان بجملته لمن يحمله فهو طائف لا طائف وساع لا ساع وواقف لا واقف وما سمي بالحاج إلا بهذه الأفعال وهو محمول فيها بسعي حامله ووقوفه ومع هذا ينسب إليه‏

[الحق هو العامل بك لا أنت‏]

فنبهك على ما هو الأمر عليه يقول لك وإن قال لك اعمل فهو العامل بك لا أنت ثم ينسب العمل إليك ويجعل الجزاء للعمل لا لك غير أن العمل ليس بمحل للتنعم والتألم بالجزاء ولا بد له من قائم يقوم به فليكن محله من نسب الفعل إليه حسا وهو المكلف وعاد الحامل له كالآلة وإذا كان الحامل هو الله كان المحمول لظهور ذلك الفعل فيه كالآلة له وهذا عكس الأول فلهذا طاف وسعى ووقف ورمى راكبا ليراه الناس فيتأسون وأهل الله فيعتبرون لمعرفتهم بما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحالة مع تمكنه أن يفعل هذه الأفعال من غير ركوب‏

(حديث تاسع وعشرون إلحاق اليدين بالرجلين في الطواف)

ذكر الدارقطني عن أم كبشة أنها قالت يا رسول الله إني آليت أن أطوف بالبيت حبوا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم طوفي على راحلتك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك‏

[اليدان للإنسان كالجناحين للطائر]

اليدان للإنسان كالجناحين للطائر فكما يسبح في الأرض برجليه حين يمشي كذلك يسبح في الماء بيديه إذا مشى فيه ومع كون الإنسان يمشي على رجليه فإنه يستعين بحركة يديه إذا مشى‏

[باطن الإنسان- وهو روحه- ملك من النوع الثالث‏]

ولما كان باطن الإنسان وهو روحه ملكا في الحقيقة من ملائكة التدبير وهم النوع الثالث من الملائكة وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة أنهم ذوو أجنحة وما خص ملكا من ملك فنعلم قطعا إن نفوسنا من حيث هي من الملائكة الذين مقامهم تدبير هذه الأجسام العنصرية إنهم ذوو أجنحة وجعلت هذه الأجسام الطبيعية حجابا دوننا عن إدراكنا إياها

[جبريل له ستمائة جناح‏]

أ لا ترى إلى جبريل عليه السلام لما تجسد في صورة دحية وفي صورة الأعرابي ما ظهر لعين أجنحته عين جملة واحدة حكم على سترها ظهور صورة الجسم الذي ليس من شأنه أن يكون له جناح مع كون جبريل له ستمائة جناح‏

[الملائكة لهم الأجنحة التي بها يمشون في الهواء]

فلما كانت لهم السباحة بالأجنحة التي بها يمشون في الهواء وهو ركن من الأربعة الأركان كما هي الرجلان للسعي في ركن التراب ألحق اليد بالرجلين فقال لها في هذا القول طوفي سبعا عن روحك لأن مشيه بالجناحين وهو قوله عن يديك وسبعا عن رجليك لأن بهما يكون المشي في الطواف وغيره فضاعف عليها التكليف لما جعلت المشي في غير آلته فافهم‏

(حديث ثلاثون في الاضطباع في الطواف)

ذكر الترمذي عن يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعا وعليه برد

قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح‏

[الاضطباع لغة ورمزا]

الاضطباع أن يكون طرف من الرداء على كتفك اليسرى وما بقي منه تتأبطه تحت ذراعك اليمنى ثم تمر به إلى صدرك إلى كتفك اليسرى فتغطيها بطرفه فيكون الكتف الأيمن مكشوفا والأيسر مستورا هذا ليجمع بين حالتي الستر والتجلي والغيب والشهادة والسر والعلن‏

[القلب موضع الغيب من الإنسان‏]

وإنما وقع الستر من جهة القلب لأنه موضع الغيب من الإنسان وعنه تظهر الأفعال في عالم الشهادة وهي الجوارح فلو لا قصده لتحريكها ما ظهرت عليها حركة فذلك تأثير الغيب في الشهادة وأصل ذلك من العلم الإلهي‏

قول الله تعالى في الذكر إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه‏

[الذكر الإلهي المستور والذكر العلانية]

اعلم أن له ذكرا مستورا نسبه إلى نفسه وأن له ذكرا علانية والعين واحدة ما لها وجهان مع وجود الاختلاف في الحكم وعن هذه النسبة الإلهية ظهر العالم في مقام الزوجية فقال ومن كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وإن كان واحدا فله نسبتان ظاهرة وباطنة إذ كان هو الظاهر والباطن فما أعز معرفة الله على أهل النظر الفكري وما أقربها على أهل الله جعلنا الله من أهله‏

(حديث حادي وثلاثون السجود على الحجر عند تقبيله)

ذكر البزار عن جعفر بن عبد الله بن عثمان المخزومي قال رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر ثم سجد عليه قلت ما هذا قال رأيت خالك ابن عباس قبل الحجر ثم سجد عليه وقال رأيت عمر قبله وسجد عليه وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وسجد عليه‏

[علة تقبيل الحجر والسجود عليه‏]

لما كان الحجر أرضيا وجعل الله الأرض ذلولا وهي لفظة مبالغة في الذلة فإن فعولا من أبنية المبالغة في اللسان العربي قال الشاعر

ضروب بنصل السيف سوق سمانها

وإنما أعطيت المبالغة

في الذلة لكون الأذلاء وهم عبيد الله أمروا بالمشي في مَناكِبِها أي عليها فمن وطئه الذليل فهو أشد مبالغة في وصفه بالذلة من الذي يطؤه فكما جبر الله كسر الأرض من هذه الذلة بما شرع من السجود عليها بالوجوه التي هي أشرف ما في ظاهر الإنسان والحجر من الأرض فصحبه ذلك الانكسار لأنه قد فارق الأرض التي هي محل سجود الجباة والوجوه الذي ينجبر به انكسارها فشرع السجود على الحجر مع كونه فارق الأرض في حال الانكسار فحصل له من الجبر نصيبه بهذا السجود لأنه حجر معتنى به وقبل لكونه يمينا منسوبا إلى الله فتقبيله للمبايعة إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله فهذه علة السجود عليه‏

(حديث ثاني وثلاثون سواد الحجر الأسود)

ذكر الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم‏

قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح‏

[لو لا خطيئته ما ظهرت سيادته‏]

آدم عليه السلام لو لا خطيئته ما ظهرت سيادته في الدنيا فهي التي سودته وأورثته الاجتباء فما خرج من الجنة بخطيئته إلا لتظهر سيادته وكذلك الحجر الأسود لما خرج وهو أبيض فلا بد من أثر يظهر عليه إذا رجع إلى الجنة يتميز به على أمثاله فيظهر عليه خلعة التقريب الإلهي فأنزله الله منزلة اليمين الإلهي التي خمر الله بها طينة آدم حين خلقه فسودته خطايا بنى آدم أي صيرته سيدا بتقبيلهم إياه فلم يكن من الألوان من يدل على السيادة إلا اللون الأسود فكساه الله لون السواد ليعلم أن ابنه قد سوده بهذا الخروج إلى الدنيا كما سود آدم فكان هبوطه هبوط خلافة لا هبوط بعد ونسب سواده إلى خطايا بنى آدم كما حصل الاجتباء والسيادة لآدم بخطيئته أي بسبب خطايا بنى آدم أمروا أن يسجدوا على هذا الحجر ويقبلوه ويتبركوا به ليكون ذلك كفارة لهم من خطاياهم فظهرت سيادته لذلك فهذا معنى سودته خطايا بنى آدم أي جعلته سيدا وجعلت اللونية السوادية دلالة على هذا المعنى فهو مدح لا ذم في حق بنى آدم أ لا ترى آدم ما ذكر الله أولا للملائكة إلا خلافته في الأرض وما تعرض للملائكة فلما ظهر من الملائكة في حق آدم ما ظهر قام ذلك الترجيح منهم لأنفسهم وكونهم أولى من آدم بذلك ورجحوا نظرهم على علم الله في ذلك فقام لهم ذلك مقام خطايا بنى آدم فكان سببا لسيادة آدم على الملائكة فأمروا بالسجود له لتثبت سيادته عليهم‏

[العاقل لا يعترض على الله فيما يجريه في عباده‏]

فالسعيد من وعظ بغيره فالعاقل منا لا يعترض على الله فيما يجريه في عباده من تولية من يحكم بهواه ولا يعمل في رعيته بما شرع له فلله في ذلك حكم وتدبير فإن الله أمر بالسمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله إذ قد جعله الله لذلك الأمر فإن عدل فلنا وله وإن جار فلنا وعليه فنحن في الحالين لنا فنحن السعداء وما نبالي بعد ذلك إذا أثبت الله السعادة لنا بما يفعل في خلقه فإن تكلمنا في ولاتنا وملوكنا بما هم عليه من الجور سقط ما هو لنا في جورهم وأسأنا الأدب مع الله حيث رجحنا نظرنا على فعله في ذلك لأن لنا الذي هو في جورهم هو نصيب أخروي بلا شك فقد حرمناه نفوسنا ومن حرم نفسه أجر الآخرة فهو من الخاسرين والذين لنا إذا عدلوا فهو نصيب دنيوي والدنيا فانية ونحن قد فرحنا وآثرنا نصيب الدنيا على نصيب الآخرة من حيث لا نشعر لاستيلاء الغفلة علينا فكنا بهذا الفعل ممن أراد حرث الدنيا كما إن قوله إذا عدلوا فلهم نصيب أخروي فزهدوا فيه بجورهم فعاد عليهم وبال ذلك الجور فالمسلم من سلم وفوض ورأى أن الأمور كلها بيد الله فلا يعترض إلا فيما أمر أن يعترض فيكون اعتراضه عبادة وإن سكت في موضع الاعتراض كان حكمه حكم من اعترض في موضع السكوت جعلنا الله من الأدباء المهذبين الذين يقضون بِالْحَقِّ وبه يَعْدِلُونَ‏

[وقائع لابن عربى ومخاطبات في سره‏]

واقعة قيل لي فيها وفيه مناسبة من هذا الحديث ما يعلم من الله وما يجهل فقلت‏

العلم بالله ديني إذ أدين به *** والجهل بالعين إيماني وتوحيدي‏

فقيل لي صدقت هذا قوله تعالى ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ فما عندك في تجليه فقلت‏

في كل مجلى أراه حين أشهده *** ما بين صورة تنزيه وتحديد

فقيل لي سبحان من تنزه عن التنزيه بالتشبيه وعن التشبيه بالتنزيه قيل لأبي سعيد الخراز بم عرفت الله فقال‏

بجمعه بين الضدين يعني في وصفه ثم تلا هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ وكان بساقي دمل كنت أتألم منه من شدة وجعه فغلب علي في تلك الحال شهوده سبحانه فقلت‏

رأيته في دملى *** فقلت داء معضل‏

لا راحة ترجى ولا *** ضر فقل ما أعمل‏

فقيل لي سلم فقلت نعم المعلم فسلمت وما تكلمت‏

رأيت هذي الواقعة *** لكل علم جامعة

فما رأيت مثلها *** من العلوم النافعة

وخوطبت في سرى فيها بأمور لا يمكنني إذاعتها ولا تلتبس علي بضاعتها غير أن التجلي للبشر لا يكون إلا بالصور والعمل الإلهي في البصر عند تعلق النظر وقد عرفت فالزم‏

(حديث ثالث وثلاثون شهادة الحجر يوم القيامة)

ذكر الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر والله ليبعثنه الله يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق‏

[من أعجب ما في القرآن أن تكون على بمعنى اللام‏]

هذا من أعجب ما في القرآن أن يكون على بمعنى اللام قال تعالى وما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي للنصب لأن الشهادة عليك إنما هي بما لا ترتضيه لأن المشهود عليه لو اعترف ما شهد عليه ولا ينكر إلا ما يتوقع من الاعتراف به الضرر فعلى عندنا هنا على بابها وهكذا كل أداة على بابها لا يعدل بها إلى خلاف ما وضعت له بالأصالة إلا بقرينة حال وكذلك فعل من أخرج هنا على عن بابها وجعلها بمعنى اللام جعل قرينة الحال أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد بهذا القول إلا تعظيم استلامه في حقنا وأن الخير العظيم لنا في ذلك إذا استلمناه إيمانا وهو قوله بحق عندهم يعني بحق مشروع لأنه يمين الله المنصوب للتقبيل والاستلام في استلام كل أمة لها هذا الايمان ولذلك نكر قوله بحق ولم يجي‏ء به معرفا قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً فجاء بالنكير فالشرائع كلها حق فمن استلمه بحق أي حق كان في أي ملة كان دخل تحت هذا الحكم من الشهادة الحجرية بالإيمان‏

[ما من شي‏ء موجود إلا والحق يصحبه‏]

وأما من ترك على على بابها وهو الأولى فإن الحق هنا وإن كان نكرة فهو في المعنى معرفة وإنما نكر لسريانه في كل شي‏ء فما من شي‏ء موجود أو متصف بالوجود إلا والحق يصحبه كما قال وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فأينما كنا كان الحق معنا كينونية وجودية منزهة كما يليق به وكنا أمر وجودي فالباطل عدم والحق وجود

[ينبغي لنا أن نقبل الحجر بعبوديتنا]

ولما جعل الحجر يمين الله ومحل الاستلام والتقبيل انبغي لنا أن نقبله بعبوديتنا ولا نحضر عند التقبيل كون الحق سمعنا وبصرنا والعامل منا فإنا إذا كان مشهدنا هذا فيكون الحق مستلما يمينه ولا يستلم إلا باليمين واليمين هو الحجر والشي‏ء لا يستلم نفسه وقد اختار آدم عليه السلام يمين ربه مع علمه بأن كلتي يدي ربه يمين مباركة ومع هذا عدل إلى اختيار اليمين فلما أراد العبد أن يجتني يوم القيامة ثمرة غرس الاستلام فقال له ما استلمت وإنما الحق استلم يده بيده ثم جي‏ء بالحجر فقيل له تعرف هذا فيقول نعم فيقال له بم تشهد في استلامه إياك فيقول استلمني بك لا بعبوديته فيقال للعبد قد علمت بهذه الشهادة أن الاستلام ما كان بك وإنما كان بالحق فتكون عند ذلك الشهادة على الإنسان لا للإنسان فلا يبقى له ما يطلبه فأخبرنا الشارع بما هو الأمر عليه لنستلمه عبودية واضطرارا مكلفين بذلك تعبدا محضا كما فعل عمر بن الخطاب‏

[بايع النبي في بيعة الرضوان نفسه بنفسه‏]

فإن قلت فقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان نفسه بنفسه وجعل يده على يده وأخذ يده بيده وقال هذا عن عثمان وكان عثمان غائبا في تلك البيعة وكذلك العبد إذا استلمه بحق يكون الحق يستلم يمينه بيده فإن كلتي يديه يمين ويكون ذلك الاستلام عن هذا العبد الذي استلمه بحق فيجني ثمرته إذ قال هذا عن عثمان ويكون عذر هذا العبد كون مشهد الحال غلب عليه سلطانه حيث لم يشاهد إلا الله في أعيان كل شي‏ء من الموجودات قلنا الفرق بين المسألتين أن المناسبة بين المثلين صحيحة والجامع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عثمان الإنسانية وهي حقيقة النشأة والعبودية فجازت النيابة وأن يقوم كل واحد مقام الآخر والفرق الثاني أن اليد التي بايعوها هي يد الله فبايعوها بأيديهم وهنا المستلم يمين الله والمستلم يد الله أيضا ولا مناسبة

بين الله وبين خلقه وهناك المناسبة موجودة

[الأكابر يستلمون الحجر بوجهين بحق وبعبوديته‏]

فإن قيل المناسبة هنا خلقه على الصورة ولهذا صح له التخلق بالأسماء الإلهية قلنا أما الصورة فلا ننكرها وأما التخلق فلا ننكره ولكن أضاف الاستلام هنا للعبد وجعل استلامه بحق وما ثم إلا الاستلام وهو بحق فما استلم إلا الحق والصورة هنا ما هي عين الحق بلا شك فإنها لو كانت عين الحق ما قال خلق آدم على صورته وهنا كان الحق سمعه وبصره ويده فهنا هو الحق عينه من حيث ما هو سامع وناظر وفاعل أي فعل كان فهو عين الصفة التي يكون لها الحكم والأثر والحال في الكون فاختر عند استلامه بأي حالة تستلم ومع هذا فكلها أحوال حسنة وبينهما فرقان بين وإخراج على عن بابها في هذا الموضع أولى بالعموم وإبقاؤها على بابها أولى بالخصوص والأكابر منا من يستلمه بالوجهين يستلمه بحق ويستلمه بعبودية فيجمع بين الصفتين فيكون ذا جزاءين فيكون له وعليه كما كان يسلك منه وإليه‏

(حديث رابع وثلاثون في الصلاة خلف المقام)

خرج أبو داود عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فطاف بالبيت وصلى خلف المقام‏

الحديث‏

[اتخاذ مقام إبراهيم مصلى‏]

لما أمرنا الله تعالى أن نتخذ من مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقد مضى اعتباره فجعلناه بين أيدينا لنشاهده حتى لا نغفل عنه في حال صلاتنا فيذكرنا شهوده بأن نسأل الله تحصيل هذا المقام إن لم نكن فيه وإن كان حالنا فيذكرنا شهوده أن نسأل الله دوامه علينا وبقاءنا فيه فلا بد في الحالين أن نكون خلفه لئلا نكون ممن نبذه وراء ظهره فلم يتذكره لعدم شهوده إياه‏

(حديث خامس وثلاثون إشعار البدن وتقليدها النعال والعهن)

خرج مسلم عن ابن عباس قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت عنها الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته‏

الحديث‏

[الشيطنة صفة بعد من رحمة الله‏]

اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر في الإبل أنها شياطين وجعل ذلك علة في منع الصلاة في معاطنها والشيطنة صفة بعد من رحمة الله لا من الله لأن الكل في قبضة الله وبعين الله والإشعار الإعلام والمحسنون ما عليهم من سبيل وإنما يدعي إلى الله من لم يكن عنده في الصفة التي يدعى إليها والشفاعة لا تقع إلا فيمن أتى كبيرة تحول بينه وبين سعادته ولا أبعد من شياطين الإنس والجن والهدية بعيدة من المهدي إليه لأنها في ملك المهدي فهي موصوفة بالبعد

[رد من شرب عن باب الله إلى الله‏]

وما يتقرب المتقرب إلى الله من أهل الدعاء إلى الله بأولى من رد من شرد عن باب الله وبعد إلى الله ليناله رحمة الله فإن الرسل ما بعثت بالتوحيد إلا للمشركين وهم أبعد الخلق من الله ليردوهم إلى الله ويسوقوهم إلى محل القرب وحضرة الرحمة فلهذا أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم البدن مع ذكره فيها أنها شياطين ليثبت عند العالمين به إن مقامه صلى الله عليه وسلم رد البعداء من الله إلى حال التقريب‏

[الدار الآخرة هي للذين لا يريدون علوا في الأرض‏]

ثم إنه أشعرها في سنامها الأيمن وسنامها أرفع ما فيها فهو الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم فكان أعلاما من النبي صلى الله عليه وسلم لنا بأنه من هذه الصفة أتى عليهم لنجتنبها فإن الدار الآخرة إنما جعلها الله لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ والسنام علو ووقع الإشعار في صفحة السنام الأيمن فإن اليمين محل الاقتدار والقوة والصفحة من الصفح إشعار من أن الله يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله وزال عن كبريائه الذي أوجب له البعد لأنه أَبى‏ واسْتَكْبَرَ

[الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن‏]

وجعل صلى الله عليه وسلم الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن جعل النعال في أرقابها إذ لا يصفع بالنعال إلا أهل الهون والذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء يشهد وعلق النعال في قلائد من عهن وهو الصوف ليتذكر بذلك ما أراد الله بقوله وتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ فإذا كانت هذه صفته كان قربانا من التقريب إلى الله فحصلت له القربة بعد ما كان موصوفا بالبعد إذ كان شيطانا فإذا كانت الشياطين قد أصابتهم الرحمة فما ظنك بأهل الإسلام‏

[بعث النبي إلى الموحدين وإلى المشركين بوجهين‏]

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا بعث إلى الموحدين ليشهدوا بتوحيدهم على جهة القربة التي لا يستقل العقل بإدراكها أعني بإدراك هذه القربة إلا من جهة الشرع فيحقق بعثه إلى المشرك والموحد بوجهين فالمشرك وهو الشيطان المتكبر دعاه إلى عين القربة كما ذكرناه فقبل قربة وزال عنه بما ذكرناه من الإشعار وتقليد النعال ما كان فيه من صفة البعد

[مثل تقريب الموحدين‏]

ثم نبه صلى‏

الله عليه وسلم على مقام دعوته للموحدين حيث دعاهم إلى النطق بها قربة ولم يكن لهم علم بذلك فاهدى مرة إلى البيت غنما وهي من الحيوان الطاهر الذي تجوز لنا الصلاة في مرابضها فكان مثل تقريب الموحدين‏

خرج مسلم عن عائشة قالت أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت غنما فقلدها

والتقليد للغنم أي هذه صفتها التي أوجبت لها القرب أن تكون قربانا

(حديث سادس وثلاثون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر)

ذكره أبو داود عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال أي يوم هذا فقالوا هذا يوم النحر فقال هذا يوم الحج الأكبر

يعني الذي سماه الله في قوله وأَذانٌ من الله ورَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ

[يوم الحج الأكبر هو يوم مجمع الحاج بجملته‏]

وإنما سمي في ذلك الوقت يوم الحج الأكبر لأنه كان مجمع الحاج بجملته إذ كان من الناس من يقف بعرفة وكانت الحمس تقف بالمزدلفة فكانوا متفرقين فلما كان يوم منى اجتمع فيه أهل الوقوف بالمزدلفة وبعرفة فكان يوم الحج الأكبر لاجتماع الكل فيه ولما كان إبقاء هذا الاسم عليه بعد أن صار الوقوف كله بعرفة حدث له معنى آخر في الإسلام نبه الشارع عليه ولهذا سن طواف الإفاضة في هذا اليوم فأحل في هذا اليوم من إحرامه مع كونه متلبسا بالحج حتى يفرغ من أيام منى فلما أحل من إحرامه في هذا اليوم زال عن التحجير الذي كان تلبس به في هذه العبادة وأبيح له جميع ما كان حرم عليه‏

[يوم الحج الأكبر إحلاله عبادة وإحرامه عبادة]

وأحل الحل كله في هذا اليوم وكان إحلاله عبادة كما كان إحرامه عبادة وما زال عنه اسم الحج لما بقي عليه من الرمي فكان يوم الحج الأكبر لهذا السراح والإحلال فكانت أيام منى أيام أكل وشرب وبعال فمن أراد فضل هذا اليوم فليطف فيه طواف الإفاضة ويحل الحل كله فإن لم يفعل فما هو من أهل الحج الأكبر فلا يغلبنك الشيطان عن فضل هذا اليوم بأن تتميز في أهله وهو يوم النحر نحر البدن وقبولها قربانا وإعادة منفعتها علينا من أكل لحومها والأجر الجزيل في نحرها والصدقة بلحومها

(حديث سابع وثلاثون نحر البدن قائمة)

خرج أبو داود عن أبي الزبير عن جابر عن عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها

[مشاهدة القائم على كل نفس بما كسبت‏]

أعلاما لما كان نحرها قربة أراد المناسبة في صفة نحرها في الوترية فأقامها على ثلاث قوائم فإن الله وتر يحب الوتر والثلاث أول الأفراد فلها أول المراتب في ذلك والأولية وترية أيضا وجعلها قائمة لأن القيومية مثل الوترية صفة إلهية فهو القائم تعالى عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فيذكر الذي ينحرها بقيامها وأن النحر كسب له مشاهدة القائم على كل نفس بما كسبت‏

[إنما شرعت المناسك لإقامة ذكر الله‏]

وقد صح أن المناسك إنما شرعت لإقامة ذكر الله وهذا من مناسك الحج أعني صفة النحر فيذكر الله بهذه الصفة وشفع الرجلين لقوله الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ وهو اجتماع أمر الدنيا والآخرة وأفرد اليمين من يد البدنة حتى لا تعتمد إلا على وتر الاقتدار والشفع والوتر فالبدنة قائمة بحق لخلق بشفعية رجليها ووترية يدها فتذكر الله بهذه الصفة وإن القيام ما صح للأشياء الأعلى وتر بحالة تجمع الشفعية والوترية وهي أول حالة يظهر فيها هذا الجمع وليس إلا الثلاثة ولا يمكن للبدنة القيام الأعلى ثلاث قوائم‏

[أعمال الحج كلها لا تصح إلا من قائم‏]

وكان العقل في اليد اليسرى لأنها خلية عن القوة التي لليمنى والقيام لا يكون الأعلى الأقوى لأجل الاعتماد قال في الصلاة أَقِيمُوا الصَّلاةَ وقال قد قامت الصلاة فأخبر بالماضي قبل قيام العبد لها فأراد قيام صلاة الله على العبد ليقوم العبد إلى الصلاة فيقيم بقيامه نشأتها قال تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ فهو المشار إليه بقوله قد قامت الصلاة فالقيام معتبر في العبادات ومنه الوقوف بيوم عرفة وفي جمع وعند رمي الجمار وأعمال الحج كلها لا تصح إلا من قائم‏

(حديث ثامن وثلاثون منى كلها منحر)

خرج مسلم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال منى كلها منحر

[من بلغ المنى المشروع فقد بلغ الغاية]

قد قلنا إن منى من بلوغ الأمنية ومن بلغ المنى المشروع فقد بلغ الغاية فجعله محلا للقرابين وهو إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية ليتغذى بها أجسام إنسانية فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبلا أو بقرا أو غنما وهذه مسألة دقيقة لم يتفطن لها إلا من نور الله بصيرته من أهل الله ويحتوي عليها قوله تعالى وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ‏

وكانوا في حال تفريق في أطوار من المخلوقات يميز الله أجزاء كل مجموع وهي معينة عند أرواحها المدبرة لها في كل حال تكون عليها من اجتماع وافتراق وتتبدل الأسماء عليها بحسب مزاجها الخاص بها في ذلك الاجتماع‏

[القائلون بالتناسخ زلوا فضلوا وأضلوا]

ومن هنا هبت نفحة على القائلين بالتناسخ فلم يتحققوا معناها فزلوا وضلوا وأضلوا ولأنهم نظروا فيها من حيث أفكارهم فأخطئوا الطريق فغلطوا فهم مخطئون غير كافرين إلا من أنكر البعث منهم الذي هو نشأة الآخرة فهو ملحق بالكفار والأرواح المدبرة لها في كل حال لا تتبدل تبدل الصور لأنها لا تقبل التبديل لأحديتها وإنما تقبل التبديل المركب من أجسام وأجساد حسا وبرزخا

[إلحاق الأسافل بالأعالى والتحام الأباعد بالأدانى‏]

فمن بلوغ المنى إلحاق الأسافل بالأعالي والتحام الأباعد بالأداني‏

فمنهم من تجسد لي بأرض *** ومنهم من تجسد في الهواء

ومنهم من تجسد حيث كنا *** ومنهم من تجسد في السماء

فيخبرنا ونخبره بعلم *** ولكن لا نكون على السواء

فإني ثابت في كل عين *** وهم لا يقدرون على البقاء

فهم يتصورون بكل شكل *** كلون الماء من لون الإناء

[الأرواح المدبرة تطلب الأجسام طلبا ذاتيا]

عملت هذه الأبيات في تجسد الأرواح المفارقة لاجتماع أجسامها في الحياة الدنيا المسمى موتا وكنا رأينا منهم جماعة متجسدين من الأنبياء والملائكة والصالحين من الصحابة وغيرهم وهم يتجسدون في صور المعاني المتجسدة في صور المحسوسات فإذا تجلى المعنى وظهر في صورة حسية تبعه الروح في صورة ذلك الجسد كان ما كان لأن الأرواح المدبرة تطلب الأجسام طلبا ذاتيا فحيث ما ظهر جسم أو جسد حسا كان ذلك أو معنى تجسد كالعمل الصالح في صورة شاب حسن الوجه والنشأة والرائحة فإن الروح تلزمه أبدا في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ إذ لم تكن‏

(الحديث التاسع والثلاثون في رفع الأيدي في سبعة مواطن)

ذكر البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين وعند الحجر

[رفع الأيدى إنما هو للتبري عن الملك‏]

رفع الأيدي في هذه المواطن كلها للتبري مما ينسب إلى الأيدي من الملك فيرفعها صفرا خالية لا شي‏ء فيها بل الملك كله لله وهذه المواطن كلها موطن سؤال والسؤال من غنى مالك لا يتصور وإنما السؤال عن الحاجة فمن صفة الفقير الذي لا يملك ما يسأل فيه فإذا سأل الغني فتحقق من أي صفة يسأل وكما يسأل هل يسأل ما هو عنده أو ما ليس عنده فاجعل الحكم في ذلك بحسب ما نبهتك عليه‏

[عناية الله بالفقراء]

وقد اعتنى الله بالفقراء حيث جعل سؤالهم الأغنياء طلبا إلهيا في قوله وآتُوا الزَّكاةَ وفي قوله وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً وفي‏

قوله جعت فلم تطعمني‏

فإذا فهمت الصفة التي أوجبت السؤال عرفت كيف تسأل وممن تسأل وما تسأل وبيد من تقع الأعطية وما يصنع بها وتعلم رفع الأيدي عند السؤال بالظهور وبالبطون وما الفرق في أحوالهما

(الحديث الأربعون حديث الاستغفار للمحلقين والمقصرين)

خرج مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال وللمقصرين‏

[مقصود الشارع بطلب الغفر]

لما لم يفهموا مقصود الشارع بطلب الغفر الذي هو الستر للمحلقين وهم الذين حسروا عن رءوسهم الشعر فانكشفت رءوسهم فطلب من الله سترها ثوابا لكشفها والمقصر ليس له ذلك فلما لم يفهموا عنه قال وللمقصرين خطابا لهم إذ قد قال صلى الله عليه وسلم خاطبوا الناس على قدر عقولهم أي على قدر ما يعقلونه من الخطاب حتى لا يرموا به‏

(الحديث الحادي والأربعون حديث طواف الوداع)

خرج مسلم عن ابن عباس قال كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت‏

[الأول يطلب الآخر في عالم المفارقة]

لما كان هذا البيت أول مقصود الحاج لأنه ما أمر بالحج إلا إلى البيت والأول يطلب الآخر في عالم المفارقة وليس من شرطه في كل منسوب إليه الأولية بخلاف الآخر فإنه يطلب الأول بذاته لا بد من ذلك فافهم حتى تعرف إذا نسبت إليك الأولية كيف تنسبها وإذا نسبت إليك الآخرية كيف تنسبها فإذا علمت أن الآخر يطلب الأول‏

في عالم المفارقة وأنت من عالم حاله المفارقة لأنك آفاقي تعين عليك أن يكون آخر عهدك الطواف بالبيت‏

(فصل في كفارة التمتع)

قال تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ لا خلاف في وجوبها واختلفوا في الواجب فجماعة العلماء على أن فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ شاة وقال ابن عمر إن اسم الهدى لا ينطلق الأعلى الإبل والبقر وإن معنى قوله تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ بقرة أدون من بقرة أو بدنة أدون من بدنة والذي أقول به لو أهدى دجاجة أجزأه وأجمعوا على إن هذه الكفارة على الترتيب فلا يكون الصيام إلا بعد أن لا يجد هديا

[حد الزمان الذي ينتقل به الفرض من الهدى إلى الصيام‏]

واختلف العلماء في حد الزمان الذي ينتقل بانقضائه فرضه من الهدى إلى الصيام فقائل إذا شرع في الصيام فقد انتقل واجبة إلى الصوم وإن وجد الهدى في أثناء الصوم ومن قائل إن وجد الهدى في صوم الثلاثة الأيام لزمه وإن وجده في السبعة لم يلزمه وبالأول أقول وأما صيام الثلاثة الأيام في الحج فاختلفوا فيمن صامها في أيام عمل العمرة أو صامها في أيام منى فأجازها بعضهم في أيام منى ومنعه آخرون وقالوا إذا فاتته الأيام الأول وجب الهدى في ذمته ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحج وأجازه أبو حنيفة عندنا يصوم الثلاثة الأيام ما لم ينقض شهر ذي الحجة وأما السبعة الأيام فاتفقوا على أنه إن صامها في أهله أجزأه واختلفوا إذا صامها في الطريق فقائل يجزيه وبه أقول وقائل لا يجزيه‏

[الهدى أولى في المناسبة في كفارة المتمتع‏]

الهدى أولى في المناسبة في كفارة المتمتع فإنه بدل من تمتعه وبالهدي يتمتع من تصدق عليه منه والصوم نقيض التمتع وأما مناسبة الصوم فيه فلأنه تمتع بالإحلال فجوزي بنقيض التمتع وهو الصوم فرجح الحق في هذه الكفارة التمتع بالهدي في حق من تصدق عليه به فإذا لم يجد حينئذ قوبل بنقيض التمتع وهو الصوم انتهى الجزء الثالث والسبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(أحاديث مكة والمدينة شرفهما الله)

[أحاديث مكة]

(الحديث الأول في دخول مكة والخروج منها على الاقتداء بالسنة)

خرج مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلي‏

الثنية العليا تسمى كداء بالمد والفتح والهمزة والثنية السفلي تسمى كدى بالضم والقصر

[مكة أشرف بقاع الأرض‏]

لما كانت مكة أشرف بقاع الأرض وموطنا لظهور يمين الحق وحضرة المبايعة أشبهت كثيب المسك الأبيض في جنة عدن موطن الزور الأعظم والرؤية العامة والكثيب أشرف مكان في جنة عدن وعدن أشرف الجنان لأنها قصبة الجنة والقصبة حيث تكون دار الملك وهي دار تورث من قصدها الإمداد الإلهي والفتح في العلم الإلهي الذي تعطيه المشاهدة

[المعنى الرمزى في كداء]

فلهذا شرع الدخول إلى مكة من كداء بفتح الكاف للفتح الإلهي في كاف التكوين من قوله كُنْ والمد للامداد الإلهي بالعطاء من العلم به الذي هو أشرف هبة يعطيها من قصده والمد في هذه الألفاظ زيادة ومكة موضع المزيد في كل خير لأنه فرع عن الأصل لأن الأصل في الكون الفقر والقصور والعجز ولهذا يجوز في ضرورة الشعر قصر الممدود لأنه رجوع إلى الأصل ولا يجوز له مد المقصور لأنه خروج عن الأصل فلا يخرج إلا بموجب وما هو ثم‏

[الموجب للمد المزاد في الحرف من الكلمة]

فإن الموجب للمد المزاد في الحرف من الكلمة إنما هو الهمزة أولا كآمن وآخرا كجاء أو الحرف المشدد مثل الطامة والصاخة والدابة والتشديد هو تضعيف الحرف والتضعيف زيادة لأنه دخول حرف في حرف وهو الإدغام فهو ظهور عبد بصفة رب فكان له المزيد وأخذ المد إذ لم يكن له ذلك بالأصل وكذلك ظهور رب بصفة عبد في تنزل إلهي فهو من باب الإدغام تشريف للعبد من الله وكل لنفسه سعى‏

[سعى العبد وهرولة الرب‏]

فأما السعي في حق العبد فمعلوم محقق لافتقاره وأما الهرولة في السعي المنسوبة إلى الله فصفة تطلب الشدة في الطلب أكثر من طلب الساعي بغير صفة الهرولة فدل على إن الطلب هناك أشد لأجل تعطيل حكم ما تقتضيه الأسماء الإلهية ولهذا يقول في تجليه هل من نائب فأتوب عليه فهو سؤال من الاسم التواب هل من داع فأجيبه فهذا لسان الاسم المجيب هل من مستغفر فاغفر له هذا لسان الاسم الغفور لأنه إن لم يكن في الكون من يستدعي هذا الاسم‏

وإلا بقي معطل الحكم فلهذا كان سعيه هرولة وطلبه أشد لأنه لا يليق به النقص والعبد كله نقص وضعف فليس له لضعفه شدة السرعة في السعي لأنه يفتقر إلى المعين بقوله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏

[خلفاء الحق في العباد لهم الأمر والنهى‏]

وأما إذا خرج خرج من كدى بضم الكاف والقصر وهو ما اكتسبه في حضرة الحق من الرفعة وجار في كاف التكوين وهو المقول عندنا الفعل بالهمة فلهذا رفع الكاف قال الحق لأبي يزيد اخرج إلى خلقي بصفتي فمن رآك رآني وهو ظهور صفات الربوبية عليه أ لا ترى خلفاء الحق في العباد لهم الأمر والنهي والحكم والتحكم وهذه صفات الإله والسوقة مأمورة بالسمع والطاعة وأعطاه القصر في كدى ينبهه وإن كنت خرجت بصفتي فلا تحجبنك عن عبوديتك فالقصر والعجز لا يفارقك فإنك مهما فارقك ذلك قصمتك فخرج حين خرج من مكة حضرة الله لرعيته رفيعا بشرف الحضرة مشاهدا لعبوديته بالقصر فلهذا كان يدخل من كداء ويخرج من كدى وهذا القدر في الحج كاف فإن فروعه تطول لو تقصيناها ما وفي بها العمر فما بقي الأفضل مكة والمدينة والزيارة تكون بذلك خاتمة الباب‏

(الحديث الثاني أرض مكة خير أرض الله)

خرج النسائي عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول لمكة إنك والله لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولو لا أني أخرجت منك ما خرجت‏

[من صح له التقدم كان متبوعا]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم للقرآن فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما فإن كانوا في السلم سواء فأكبرهم سنا

فمن اجتمع فيه مثل هذه الخصال صح له التقدم ومن صح له التقدم كان متبوعا وكان أحق بالله من التابع‏

[البيت المكي أول بيت وضع للناس معبدا]

والبيت المكي أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ معبدا والصلاة فيه أفضل من الصلاة فيما سواه فهو أقدمهم بالزمان وهو اعتبار السن فله تقدم السن وما يتقدم بالسن إلا من حوى جميع الفضائل كلها فإنه جاء آخرا فلو اكتفينا بهذا لكان فيه غنى عن ذكر ما سواه وإن نظرنا إلى الهجرة فإنه بيت مقصود ينبغي الهجرة إليه والحجر الأسود من جملة أحجاره وهو أقدم الأحجار هجرة من سائر الأحجار هاجر من الجنة إليه فشرفه الله باليمين وجعله للمبايعة وأما أكثرهم قرآنا فإنه أجمع للخيرات من سائر البيوت لما فيه من الآيات البينات من حجر وملتزم ومستجار ومقام إبراهيم وزمزم إلى غير ذلك وأما علمه بالسنة فإن السنن فيه أكثر لكثرة مناسكه واحتوائه على أفعال وتروك لا تكون في غيره من العبادات ولا في بيت من البيوت فإنه محل الحج وأما السلم فإنه أقدم الحرم فهو سلم كله من دخله كان آمنا فصح له التقدم من كل وجه على كل بلد وكل بيت‏

(الحديث الثالث تحريم مكة)

خرج مسلم عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بنى ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب فقال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنها لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار ألا وإنها ساعتي هذه وهي حرام لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها ولا يلقط ساقطتها إلا لمنشد ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يعطي يعني الدية وإما أن يقاد أهل القتيل‏

الحديث‏

[لا حمى ولا حرم أعظم من حرم الله وحماه‏]

فهذا هو حمى الله وحرمه ولا موجود أعظم من الله فلا حمى ولا حرم أعظم من حرم الله ولا حماه في الإمكان فإن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس كذا قال صلى الله عليه وسلم وقال أيضا في حديث مسلم أن هذا البلد حرمه الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة

الحديث وهو قوله تعالى إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها

(الحديث الرابع في منع حمل السلاح بمكة)

خرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة

[السلاح عدة للخائف أو لمتوقع الخوف‏]

لما كان السلاح عدة للخائف أو لمتوقع الخوف أو لآخذ بثار أو لمتعد يدفع بذلك عن نفسه إن نوزع في غرضه والله تعالى قد جعله حَرَماً آمِناً فلم يكن لحمل السلاح فيه معنى‏

(الحديث الخامس في زمزم)

خرج أبو داود الطيالسي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في زمزم إنها مباركة طعام طعم وشفاء سقم‏

(الحديث السادس فيه)

خرج الدارقطني من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ماء زمزم لما شرب له‏

وهذا الخبر صح عندي بالذوق فإني شربته لأمر فحصل لي‏

(الحديث السابع في تغريب ماء زمزم لفضله)

ذكره الترمذي عن عائشة أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله‏

وهو حديث حسن غريب‏

(الحديث الثامن في دخول مكة بالإحرام)

ذكر أبو أحمد بن عدي الجرجاني من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام من أهلها أو من غير أهلها

وفي إسناده مقال وحمل الإحرام المذكور في هذا الحديث عندي على أنه لا يدخلها إلا محترما لها إذ قد

صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام‏

وقال في توقيت المواقيت لمن أراد الحج والعمرة

(الحديث التاسع في احتكار الطعام بمكة)

ذكر مسلم من حديث يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه وقال تعالى ومن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ من عَذابٍ أَلِيمٍ‏

ولا يؤخذ أحد بإرادة السوء والظلم في غير حرم مكة وأحاديث شرفها كثيرة

(و أما أحاديث المدينة)

فمنها

حديث الزيارة وهو الأول‏

خرج الدارقطني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زار قبري وجبت له شفاعتي‏

(الحديث الثاني في فضل من مات فيها)

ذكر الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن مات بها

وهو حديث صحيح‏

(الحديث الثالث في تحريم المدينة)

ذكر مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها وقال المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء

(الحديث الرابع فيمن صاد في المدينة)

ذكر أبو داود عن سليمان بن أبي عبد الله قال رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلبه ثيابه فجاءوا يعني مواليه فكلموه فيه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه‏

(الحديث الخامس في نقل حمي المدينة إلى الجحفة)

ذكر مسلم عن عائشة قالت قدمنا المدينة وهي وبئة فاشتكى أبو بكر واشتكى بلال فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه قال اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة وأشد وأصححها لنا وبارك لنا في صاعها ومدها وحول حماها إلى الجحفة

(الحديث السادس والسابع في طيبها ونفيها الخبث)

ذكر مسلم من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنها طيبة يعني المدينة وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة

وقال صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها خرجه مسلم من حديث جابر

(الحديث الثامن في عصمة المدينة من الدجال والطاعون)

ذكر مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون‏

(الحديث التاسع في ذلك)

خرج البخاري عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال لها يومئذ سبعة أبواب لكل باب ملكان‏

وأما حديث فضل الصلاة في مسجد المدينة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى فمشهور

(الحديث العاشر في تحريم وادي وج من الطائف)

ذكر تحريمه أبو داود عن عروة بن الزبير قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن الأسود حذوها فاستقبل وجاء ببصره وقال مرة واديه ووقف حتى أنفد الناس كلهم ثم قال إن صيد وج وعضاهه حرام محرم لله وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا

(وصل) وأما حكمة حرم المدينة

فلأن الله قرن الشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته بشهادة التوحيد تشريفا له وأنه لا يكون الايمان إلا بهما والله قد حرم مكة فجعل لرسوله صلى الله عليه وسلم تحريم المدينة تأييد الشرف الشهادة فجعل له أن يحرم كما حرم الله ثم إن الله وتر يحب الوتر وقد شفع حرمة الحرم بحرمة المدينة فجعل حرما ثالثا للوترية وجعل تحريمه لله لا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه الوتر ولهذا ما حرم إلا ما هو مجاور مكة يؤذن أن الحرمة لله فيه كالحرمة لمكة ولهذا قال حرام محرم الله فبهذا قد ذكرنا من الأحاديث الواردة في الحرمين والحرم الثالث الذي أوترهما

[حكمة زيارة النبي‏]

فأما زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فلكونه لا يكمل الايمان إلا بالإيمان به فلا بد من قصده للمؤمن من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله فلما جاءت الشفعية بالطاعة والله وتر يحب الوتر ثلث الطاعة للوتر المطلوب في الأشياء كما فعل في الحرم فقال أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فأوتر ومن شرط المبايعة لأولي الأمر السمع والطاعة في المنشط والمكره‏

[الأشهر الأربعة الحرم‏]

فإن قيل فالأشهر الحرم أربعة قلنا صدقت ولما علمها الله أربعة لم يجعلها سردا من أجل حب الوترية فجعل ثلاثة منها سردا وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم فثبت الوترية وجعل الرابع رجب وسماه رجب الفرد إثباتا للوترية وذلك لأن الله وتر يحب الوتر في الأشياء ليرى صورة وتريته فيها فلا يرى إلا رتبته ولا يحب إلا صفته ولهذا خرج العالم على صورة الأسماء الإلهية ليكون مجلاه فلا يرى في الوجود إلا هو سبحانه لا إله إلا هو

(وصل) [الافتخار بيت الحرمين‏]

رأينا أن نقيد في خاتمة هذا الباب ما رويناه من الافتخار بين الحرمين وهو ما حدثنا به محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني نزيل مكة قال حدثنا حسن بن علي قال حدثنا الحسين بن خلف بن هبة بن قاسم الشامي قال حدثنا أبي قال حدثنا الحسين بن أحمد ابن فراس قال حدثنا أبي عن أبيه إبراهيم بن فراس عن أبي محمد إسحاق بن نافع الخزاعي عن إبراهيم بن عبد الرحمن المكي عن محمد بن عباس المكي قال أخبرنا بعض مشايخ المكيين أن داود بن عيسى بن موسى هو موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ولي مكة والمدينة أقام بمكة وولى ابنه سليمان المدينة فأقام بمكة عشرين شهرا فكتب إليه أهل المدينة وقال الزبير بن أبي بكر كتب إليه يحيى بن مسكين بن أيوب بن مخراق يسأله التحول إليهم ويعلمونه أن مقامه بالمدينة أفضل من مقامه بمكة وأهدوا إليه في ذلك شعرا قاله شاعرهم يقول فيه‏

[فضائل المدينة]

أ داود قد فزت بالمكرمات *** وبالعدل في بلد المصطفى‏

وصرت ثمالا لأهل الحجاز *** وسرت بسيرة أهل التقى‏

وأنت المهذب من هاشم *** وفي منصب العز والمرتجي‏

وأنت الرضي للذي نابهم *** وفي كل حال ونجل الرضي‏

وبالفي‏ء أغنيت أهل الخصاص *** فعدلك فينا هو المنتهى‏

ومكة ليست بدار المقام *** فهاجر كهجرة من قد مضى‏

مقامك عشرون شهرا بها *** كثير لهم عند أهل الحجى‏

فصم ببلاد الرسول التي *** بها الله خص نبي الهدى‏

ولا ينفينك عن قربه *** مشير مشورته بالهوى‏

فقبر النبي وآثاره *** أحق بقربك من ذي طوى‏

قال فلما ورد الكتاب والأبيات على داود بن عيسى أرسل إلى رجال من أهل مكة فقرأ عليهم الكتاب فأجابه رجل منهم يقال له عيسى بن عبد العزيز السعلبوس بقصيدة يرد عليه ويذكر فيها فضل مكة وما خصها الله تعالى به من الكرامة والفضيلة ويذكر المشاعر والمناقب فقال وفقه الله هذه القصيدة

[فضيلة مكة وما خصها الله به من المكارم والمناقب‏]

أ داود أنت الإمام الرضي *** وأنت ابن عم نبي الهدى‏

وأنت المهذب من كل عيب *** كبيرا ومن قبله في الصبي‏

وأنت المؤمل من هاشم *** وأنت ابن قوم كرام تقي‏

وأنت غياث لأهل الخصاص *** تسد خصاصتهم بالغنى‏

أتاك كتاب حسود جحود *** أسا في مقالته واعتدى‏

يخير يثرب في شعره *** على حرم الله حيث ابتنى‏

فإن كان يصدق فيما يقول *** فلا يسجدن إلى ما هنا

وأي بلاد تفوق أمها *** ومكة مكة أم القرى‏

وربي دحا الأرض من تحتها *** ويثرب لا شك فيما دحا

وبيت المهيمن فينا مقيم *** يصلي إليه برغم العدي‏

ومسجدنا بين فضله *** على غيره ليس في ذا مرا

صلاة المصلي تعد له *** مئين الوفا صلاة وفا

كذاك أتى في حديث النبي *** وما قال حق به يقتدى‏

وأعمالكم كل يوم وفود *** إلينا شوارع مثل القطا

فيرفع منها إلهي الذي *** يشاء ويترك ما لا يشأ

ونحن تحج إلينا العباد *** فيرمون شعثا بوتر الحصى‏

ويأتون من كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *** على أنيق ضمر كالقنا

لتقضوا مناسككم عندنا *** فمنهم سغاب ومنهم معي‏

فكم من ملب بصوت حزين *** ترى صوته في الهوا قد علا

وآخر يذكر رب العباد *** ويثني عليه بحسن الثناء

فكلهمو أشعث أغبر *** يؤم المعرف أقصى المدى‏

فظلوا به يومهم كله *** وقوفا يضجون حتى المسا

حفاة ضحاة قياما لهم *** عجيج يناجون رب السما

رجاء وخوفا لما قدموا *** وكل يسائل دفع البلا

يقولون يا ربنا اغفر لنا *** بعفوك والصفح عمن أسا

فلما دنا الليل من يومهم *** وولى النهار أجدوا البكاء

وسار الحجيج له رجة *** فحلوا بجمع بعيد العشا

فباتوا جميعا فلما بدا *** عمود الصباح وولى الدجى‏

دعوا ساعة ثم شدوا الشسوع *** على قلص ثم أموا منى‏

فمن بين من قد قضى نسكه *** وآخر يبدأ بسفك الدماء

وآخر يهدي إلى مكة *** ليسعى ويدعوه فيمن دعا

وآخر يرمل حول الطواف *** وآخر ماض يؤم الصفا

فأبوا بأفضل مما رجوا *** وما طلبوا من جزيل العطا

وحج الملائكة المكرمون *** إلى أرضنا قبل فيما مضى‏

وآدم قد حج من بعدهم *** ومن بعده أحمد المصطفى‏

وحج إلينا خليل الإله *** وهجر بالرمي فيمن رمى‏

فهذا لعمري لنا رفعة *** حبانا بهذا شديد القوي‏

ومنا النبي نبي الهدى *** وفينا تنبأ ومنا ابتدى‏

ومنا أبو بكر بن الكرام *** ومنا أبو حفص المرتجي‏

وعثمان منا فمن مثله *** إذا عدد الناس أهل الحياء

ومنا علي ومنا الزبير *** وطلحة منا وفينا انتشا

ومنا ابن عباس ذو المكرمات *** نسيب النبي وحلف الندا

ومنا قريش وآباؤها *** فنحن إلى فخرنا المنتهى‏

ومنا الذين بهم تفخرون *** فلا تفخرون علينا بنا

ففخر أولاء لنا رفعة *** وفينا من الفخر ما قد كفا

وزمزم والحجر فينا فهل *** لكم مكرمات كما قد لنا

وزمزم طعم وشرب لمن *** أراد الطعام وفيه الشفا

وزمزم تنفي هموم الصدور *** وزمزم من كل سقم دوا

ومن جاء زمزم من جائع *** إذا ما تضلع منها اكتفى‏

وليست كزمزم في أرضكم *** كما ليس نحن وأنتم سوا

وفينا سقاية عم الرسول *** ومنها النبي امتلأ وارتوى‏

وفينا المقام فأكرم به *** وفينا المحصب والمختبى‏

وفينا الحجون ففاخر به *** وفينا كداء وفينا كدى‏

وفينا الأباطح والمروتان *** فبخ بخ فمن مثلنا يا فتى‏

وفينا المشاعر منشا النبي *** وأجياد والركن والمتكى‏

وثور وهل عندكم مثل ثور *** وفينا ثبير وفينا حرا

وفيه اختباء نبي الإله *** ومعه أبو بكر المرتضى‏

فكم بين أحد إذا جاء فخر *** وبين القبيسي فيما ترى‏

وبلدتنا حرم لم تزل *** محرمة الصيد فيما خلا

ويثرب كانت حلالا فلا *** تكذب فكم بين هذا وذا

وحرمها بعد ذاك النبي *** فمن أجل ذلك جا ذا كذا

ولو قتل الوحش في يثرب *** لما فدى الوحش حتى اللقا

ولو قتلت عندنا نملة *** أخذتم بها أو تؤدوا الفداء

ولو لا زيارة قبر النبي *** لكنتم كسائر من قد ترا

وليس النبي بها ثاويا *** ولكنه في جنان العلى‏

فإن قلت قولا خلاف الذي *** أقول فقد قلت قول الخطاء

فلا تفحشن علينا المقال *** ولا تنطقن بقول الخنا

ولا تفخرن بما لا يكون *** ولا ما يشينك عند الملإ

ولا تهج بالشعر أرض الحرام *** وكف لسانك عن ذي طوى‏

وإلا فجاءك ما لا تريد *** من الشتم في أرضكم والأذى‏

فقد يمكن القول في أرضكم *** بسب العقيق ووادي قبا

[الحكم على اللذين تماريا في فضل مكة والمدينة]

فأجابهما رجل من بنى عجل ناسك كان مقيما بجدة مرابطا فحكم بينهما فقال‏

إني قضيت على الذين تماريا *** في فضل مكة والمدينة فاسألوا

فلسوف أخبركم بحق فافهموا *** فالحكم وقتا قد يجور ويعدل‏

فإنا الفتى العجلي جدة مسكني *** وخزانة الحرم التي لا تجهل‏

وبها الجهاد مع الرباط وإنها *** لبها الوقيعة لا محالة تنزل‏

من آل حام في أواخر دهرها *** وشهيدها بشهيد بدر يعدل‏

شهداؤنا قد فضلوا بسعادة *** وبها السرور لمن يموت ويقتل‏

يا أيها المدني أرضك فضلها *** فوق البلاد وفضل مكة أفضل‏

أرض بها البيت المحرم قبلة *** للعالمين بها المساجد تعدل‏

حرم حرام أرضها وصيودها *** والصيد في كل البلاد محلل‏

وبها المشاعر والمناسك كلها *** وإلى فضيلتها البرية ترحل‏

وبها المقام وحوض زمزم مترعا *** والحجر والركن الذي لا يجهل‏

والمسجد العالي الممجد والصفا *** والمشعران ومن يطوف ويرمل‏

هل في البلاد محلة معروفة *** مثل المعرف أو محل يحلل‏

أو مثل جمع في المواطن كلها *** أو مثل خيف منى بأرض منزل‏

تلكم مواضع لا يرى بخرابها *** إلا الدعاء ومحرم ومحلل‏

شرفا لمن وافى المعرف ضيفه *** شرفا له ولأرضه إذ ينزل‏

وبمكة الحسنات يضعف أجرها *** وبها المسي‏ء عن الخطيئة يسأل‏

يجزى المسي‏ء على الخطيئة مثلها *** وتضاعف الحسنات منه وتقبل‏

ما ينبغي لك أن تفاخر يا فتى *** أرضا بها ولد النبي المرسل‏

بالشعب دون الردم مسقط رأسه *** وبها نشأ صلى عليه المرسل‏

وبها أقام وجاءه وحي السما *** وسرى به الملك الرفيع المنزل‏

أ نبوة الرحمن فيها أنزلت *** والدين فيها قبل دينك أول‏

هل بالمدينة هاشمي ساكن *** أو من قريش ناشئ أو مكهل‏

إلا ومكة أرضه وقراره *** لكنهم عنها نبوا فتحولوا

وكذاك هاجر نحوكم لما أتى *** إن المدينة هجرة فتحملوا

فأجرتموا وقريتموا ونصرتموا *** خير البرية حقكم أن تفعلوا

فضل المدينة بين ولأهلها *** فضل قديم نوره يتهلل‏

من لم يقل إن الفضيلة فيكمو *** قلنا كذبت وقول ذلك أرذل‏

لا خير فيمن ليس يعرف فضلكم *** من كان يجهله فلسنا نجهل‏

في أرضكم قبر النبي وبيته *** والمنبر العالي الرفيع الأطول‏

وبها قبور السابقين بفضلهم *** عمر وصاحبه الرفيق الأفضل‏

والعترة الميمونة اللاتي بها *** سبقت فضيلة كل من يتفضل‏

آل النبي بنوا على أنهم *** أمسوا ضياء للبرية يشمل‏

يا من تنص إلى المدينة عينه *** فيك الصغار وصعر خدك أسفل‏

أنا لنهواها ونهوى أهلها *** وودادها حق على من يعقل‏

قل للمديني الذي يزدار داود *** الأمير ويستحث ويعجل‏

قد جاءكم داود بعد كتابكم *** قد كان حبلك في أميرك يفتل‏

فاطلب أميرك واستزره ولا تقع *** في بلدة عظمت فوعظك أفضل‏

ساق الإله لبطن مكة ديمة *** تروى بها وعلى المدينة تسبل‏

انتهى الجزء الرابع والسبعون (تم المجلد الأول من الفتوحات المكية ويتلوه المجلد الثاني أوله الباب الثالث والسبعون الذي هو أول الجزء الخامس والسبعين على حسب تجزئة المؤلف)

[الجزء الثاني‏]

الجزء الثاني من كتاب الفتوحات المكية التي فتح الله بها على الشيخ الإمام العامل الراسخ الكامل خاتم الأولياء الوارثين برزخ البرازخ محيي الحق و الدين أبي عبدالله محمّد بن علي المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي قدّس الله روحه و نوّر ضريحه آمين طبع على النسخة المقابلة على نسخة المؤلف الموجودة بمدينة قونية وقام بهذا المهم جماعة من العلماء بأمر المغقور له الأمير عبد القادر الجزايرلي رحم الله الجميع وأثابهم المكان الرفيع طبع بمطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر على نفقة الحاج فدا محمد الكشميري وشركاه‏



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de l'arabe de manière semi-automatique!