Les révélations mecquoises: futuhat makkiyah

Parcourir les Titres Section I: les Connaissances (Maarif) Section II: les Interactions (Muamalat) Section IV: les Demeures (Manazil)
Présentations Section V: les Controverses (Munazalat) Section III: les États (Ahwal) Section VI : les Stations (Maqamat du Pôle)
Première Partie Deuxième Partie Troisième Partie Quatrième Partie

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى أسرار الزكاة

والأحكام إلا بأمر مشروع من عند الله فإن اتفق أن يكون أحد من أهل البيت بهذه المثابة من العلم والاجتهاد ولهم هذه المرتبة كالحسن والحسين وجعفر وغيرهم من أهل البيت فقد جمعوا بين الأهل والآل فلا تتخيل أن آل محمد صلى الله عليه وسلم هم أهل بيته خاصة ليس هذا عند العرب وقد قال تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ يريد خاصته فإن الآل لا يضاف بهذه الصفة إلا للكبير القدر في الدنيا والآخرة فلهذا قيل لنا قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم أي من حيث ما ذكرناه لا من حيث أعيانهما خاصة دون المجموع فهي صلاة من حيث المجموع وذكرناه لأنه تقدم بالزمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت أنه سيد الناس يوم القيامة ومن كان بهذه المثابة عند الله كيف تحمل الصلاة عليه كالصلاة على إبراهيم من حيث أعيانهما فلم يبق إلا ما ذكرناه وهذه المسألة هي عن واقعة إلهية من وقائعنا فلله الحمد والمنة

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال علماء هذه الأمة كأنبياء سائر الأمم وفي رواية أنبياء بنى إسرائيل‏

وإن كان إسناد هذا الحديث ليس بالقائم ولكن أوردناه تأنيسا للسامعين أن علماء هذه الأمة قد التحقت بالأنبياء في الرتبة

[الذين ليسوا بأنبياء وتغبطهم الأنبياء]

وأما

قول النبي صلى الله عليه وسلم في قوم يوم القيامة تنصب لهم منابر يوم القيامة ليسوا بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء

ويعني بالشهداء هنا الرسل فإنهم شهداء على أممهم فلا نريد بهؤلاء الجماعة من ذكرناهم وغبطهم إياهم فيما هم فيه من الراحة وعدم الحزن والخوف في ذلك الموطن والأنبياء والرسل وعلماء هذه الأمة الصالحون الوارثون درجات الأنبياء خائفون وجلون على أممهم وأولئك لم يكن لهم أمم ولا أتباع وهم آمنون على أنفسهم مثل الأنبياء على أنفسهم آمنون وما لهم أمم ولا أتباع ويخافون عليهم فارتفع الخوف عنهم في ذلك اليوم في حق نفوسهم وفي حق غيرهم كما قال تعالى لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يعني على نفوسهم وغيرهم من الأنبياء والعلماء ولكن الأنبياء والعلماء يخافون على أممهم وأتباعهم ففي مثل هذا تغبطهم في ذلك الموقف فإذا دخلوا الجنة وأخذوا منازلهم تبينت المراتب وتعينت المنازل وظهر عليون لأولي الألباب فهذه مسألة عظيمة الخطر جليلة القدر لم نر أحدا ممن تقدمنا تعرض لها ولا قال فيها مثل ما وقع لنا في هذه الواقعة إلا أن كان وما وصل إلينا فإن لله في عباده أخفياء لا يعرفهم سواه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ فقد تبين لك أن صلاة الحق على عباده باختلاف أحوالهم فالله يجعلنا من أجلهم عنده قدرا ولا يحول بيننا وبين عبوديتنا وتلخيص ما ذكرناه هو أن يقول المصلي اللهم صل على محمد بأن تجعل آله من أمته كما صليت على إبراهيم بأن جعلت آله أنبياء ورسلا في المرتبة عندك وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم بما أعطيتهم من التشريع والوحي فأعطاهم الحديث فمنهم محدثون وشرع لهم الاجتهاد وقرره حكما شرعيا فأشبهت الأنبياء في ذلك فحقق ما أومأنا إليه في هذه المسألة تر الحق حقا انتهى الجزء الخمسون‏

(الباب السبعون (باب الزكاة) في أسرار الزكاة)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

أخت الصلاة هي الزكاة فلا تقس *** النص في هذي وتلك على السواء

قامت على التثمين نشأتها لذا *** حملت على التقسيم عرش الاستوا

ولذاك تقسم في ثمانية من الأصناف *** شرعا وهو حكم من استوى‏

جاء الكتاب بذكرهم وصفاتهم *** وعلى مقامهم العلى قد احتوى‏

فزكت بها أموالهم وذواتهم *** وتقدست بصلاة من أخذ اللوا

ذاك النبي محمد خير الورى *** في جنسه وله العلو على السوي‏

نال المحبة من عنايته فما *** يشكو القطيعة والصبابة والجوى‏

[الفرق بين الزكاة والقرض‏]

قال الله تعالى آمرا عباده وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً والقرض هنا صدقة التطوع فورد

الأمر بالفرض كما ورد بإعطاء الزكاة والفرق بينهما أن الزكاة موقنة بالزمان والنصاب وبالأصناف الذين تدفع إليهم والقرض ليس كذلك وقد تدخل الزكاة هنا في الفرض فكأنه يقول وآتُوا الزَّكاةَ قرضا لله بها فيضاعفها لكم مثل‏

قوله تعالى في الخبر الصحيح جعت فلم تطعمني فقال له العبد وكيف تطعم وأنت رب العالمين فقال الله له إن فلانا استطعمتك فلم تطعمه أما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏

والخبر مشهور صحيح فالقرض الذي لا يدخل في الزكاة غير موقت لا في نفسه ولا في الزمان ولا بصنف من الأصناف‏

[الزكاة المشروعة والصدقة]

والزكاة المشروعة والصدقة لفظتان بمعنى واحد قال تعالى خُذْ من أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها وقال تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ فسماها صدقة فالواجب منها يسمى زكاة وصدقة وغير الواجب فيها يسمى صدقة التطوع ولا يسمى زكاة شرعا أي لم يطلق الشرع عليه هذه اللفظة مع وجود المعنى فيها من النمو والبركة والتطهير

في الخبر الصحيح أن الأعرابي لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن رسوله زعم أن علينا صدقة في أموالنا وقال له صلى الله عليه وسلم صدق فقال له الأعرابي هل على غيرها قال لا إلا أن تطوع‏

فلهذا سميت صدقة التطوع يقول إن الله لم يوجبها عليكم فمن تطوع خيرا فهو خير له ولهذا قال تعالى بعد قوله وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً وما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله‏

[النفس مجبولة على حب المال وجمعه‏]

وإن كان الخير كل فعل مقرب إلى الله من صدقة وغيرها ولكن مع هذا فقد انطلق على المال خصوصا اسم الخير قال تعالى وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً أي جبل على ذلك يؤيده ومن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فالنفس مجبولة على حب المال وجمعه قال تعالى وإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ يعني المال هنا فجعل الكرم فيه تخلقا لا خلقا ولهذا سماها صدقة أي كلفة شديدة على النفس لخروجها عن طبعها في ذلك ولهذا آنسها الحق تعالى‏

بقول نبيه للأنفس إن الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله‏

[الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها]

وذلك لأمرين أحدهما ليكون السائل يأخذها من يد الرحمن لا من يد المتصدق‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول إنها تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل‏

فتكون المنة لله على السائل لا للمتصدق فإن الله طلب منه القرض والسائل ترجمان الحق في طلب هذا القرض فلا يخجل السائل إذا كان مؤمنا من المتصدق ولا يرى أن له فضلا عليه فإن المتصدق إنما أعطى لله للقرض الذي سأل منه وليربيها له فهذا من الغيرة الإلهية والفضل الإلهي والأمر الآخر ليعلمه أنها مودعة في موضع تربو له فيه وتزيد هذا كله ليسخو بإخراجها ويتقي شح نفسه‏

[في جبلة الإنسان طلب الأرباح في التجارة]

وفي جبلة الإنسان طلب الأرباح في التجارة ونمو المال‏

فلهذا جاء الخبر بأن الله يربي الصدقات‏

ليكون العبد في إخراج المال من الحرص عليه الطبيعي لأجل المعاوضة والزيادة والبركة بكونه زكاة كما هو في جمع المال وشح النفس من الحرص عليه الطبيعي فرفق الله به حيث لم يخرجه عما جبله الله عليه فيرى التاجر يسافر إلى الأماكن القاصية الخطرة المتلفة للنفوس والأموال ويبذل الأموال ويعطيها رجاء في الأرباح والزيادة ونمو المال وهو مسرور النفس بذلك فطلب الله منه المقارضة بالكل إذ قد علم منه أنه يقارض بالثلثين وبالنصف ويكون فرحه بمن يقارضه بالكل أتم وأعظم‏

[البخل بالصدقة دليل على قلة الايمان‏]

فالبخيل بالصدقة بعد هذا التعريف الإلهي وما تعطيه جبلة النفوس من تضاعف الأموال دليل على قلة الايمان عند هذا البخيل بما ذكرناه إذ لو كان مؤمنا على يقين من ربه مصدقا له فيما أخبر به عن نفسه في قرض عبده وتجارته لسارع بالطبع إلى ذلك كما يسارع به في الدنيا مع أشكاله عاجلا وآجلا فإن العبد إذا قارض إنسانا بالنصف أو بالثلث وسافر المقارض إلى بلد آخر وغاب سنين وهو في باب الاحتمال أن يسلم المال أو يهلك أو لا يربح شيئا وإذا هلك المال لم يستحق في ذمة المقارض شيئا ومع هذه المحتملات يعمى الإنسان ويعطي ماله وينتظر ما لا يقطع بحصوله وهو طيب النفس مع وجود الأجل والتأخير والاحتمال فإذا قيل له أقرض الله وتأخذ في الآخرة أضعافا مضاعفة بلا ثلث ولا نصف بل الربح ورأس المال كله لك وما تصبر إلا قليلا وأنت قاطع بحصول ذلك كما تأبى النفس وما تعطي إلا قليلا فهل ذلك إلا من عدم حكم الايمان على الإنسان في نفسه حيث لا يسخو بما تعطيه جبلته من السخاء به ويقارض زيدا وعمرا كما ذكرناه طيب النفس والموت أقرب إليه من شراك نعله كما كان يقول بلال‏

كل امرئ مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله‏

ولهذا سماها الله صدقة أي هي أمر شديد على النفس تقول العرب رمح صدق أي صلب شديد قوي أي تجد النفس لإخراج هذا المال لله شدة وحرجا كما قال ثعلبة بن حاطب‏

(وصل مؤيد) [زكاة المنافقين‏]

قال تعالى في حق ثعلبة بن حاطب ومِنْهُمْ من عاهَدَ الله لَئِنْ آتانا من فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ من الصَّالِحِينَ وما أخبر الله تعالى عنه أنه قال إن شاء الله فلو قال إن شاء الله لفعل ثم قال تعالى في حقه فَلَمَّا آتاهُمْ من فَضْلِهِ بَخِلُوا به وتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ وذلك أن الله لما فرض الزكاة جاء مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه زكاة غنمه فقال هذه أخية الجزية وامتنع فأخبر الله فيه بما قال فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً في قُلُوبِهِمْ إِلى‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ‏

[امتنع رسول الله عن أن يقبل صدقة ثعلبة بن حاطب‏]

فلما بلغه ما أنزل الله فيه جاء بزكاته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه ولم يقبل صدقته إلى أن مات صلى الله عليه وسلم‏

وسبب امتناعه صلى الله عليه وسلم من قبول صدقته أن الله أخبر عنه أنه يلقاه منافقا والصدقة إذا أخذها النبي منه صلى الله عليه وسلم طهره بها وزكاه وصلى عليه كما أمره الله وأخبر الله أن صلاته سكن للمتصدق يسكن إليها وهذه صفات كلها تناقض النفاق وما يجده المنافق عند الله فلم يتمكن لهذه الشروط أن يأخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة لما جاءه بها بعد قوله ما قال وامتنع أيضا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذها منه أبو بكر وعمر لما جاء بها إليهما في زمان خلافتهما فلما ولي عثمان بن عفان الخلافة جاءه بها فأخذها منه متأولا أنها حق الأصناف الذين أوجب الله لهم هذا القدر في عين هذا المال‏

[ما انتقد على فعل عثمان بن عفان‏]

وهذا الفعل من عثمان من جملة ما انتقد عليه وينبغي أن لا ينتقد على المجتهد حكم ما أداه إليه اجتهاده فإن الشرع قد قرر حكم المجتهد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما نهى أحدا من أمرائه أن يأخذ من هذا الشخص صدقته وقد ورد الأمر الإلهي بإيتاء الزكاة

[حكم رسول الله قد يفارق حكم غيره‏]

وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا قد يفارق حكم غيره فإنه قد يختص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور لا تكون لغيره لخصوص وصف إما تقتضيه النبوة مطلقا أو نبوته صلى الله عليه وسلم فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم في أخذ الصدقة تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها وما قال يتطهرون ولا يتزكون بها فقد يكون هذا من خصوص وصفه وهو رءوف رحيم بأمته فلو لا ما علم أن أخذه يطهره ويزكيه بها وقد أخبره الله أن ثعلبة بن حاطب يلقاه منافقا فامتنع أدبا مع الله‏

[الاجتهاد سائغ وكل مجتهد مأجور]

فمن شاء وقف لوقوفه صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر ومن شاء لم يقف كعثمان لأمر الله بها العام وما لم يلزم غير النبي صلى الله عليه وسلم أن يطهر ويزكي مؤدي الزكاة بها والخليفة فيها إنما هو وكيل من عينت له هذه الزكاة أعني الأصناف الذين يستحقونها إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نهى أحدا ولا أمره فيما توقف فيه واجتنبه فساغ الاجتهاد وراعى كل مجتهد الدليل الذي أداه إليه اجتهاده فمن خطأ مجتهدا فما وفاه حقه وإن المخطئ والمصيب منهم واحد لا بعينه‏

(وصل) [الذين يكنزون الذهب والفضة]

اعلم أن الله تعالى لما قال الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ كان ذلك قبل فرض الزكاة التي فرض الله على عباده في أموالهم فلما فرض الله الزكاة على عباده المؤمنين طهر الله بها أموالهم وزال بأدائها اسم البخل من مؤديها فإنه قال فيمن أنزلت الزكاة من أجله فَلَمَّا آتاهُمْ من فَضْلِهِ بَخِلُوا به وتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ فوصفهم بعدم قبول حكم الله فأطلق عليهم صفة البخل لمنعهم ما أوجب الله عليهم في أموالهم ثم فسر العذاب الأليم بما هو الحال عليه فقال تعالى يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ‏

[جزاء مانعى الزكاة]

وذلك أن السائل إذا رآه صاحب المال مقبلا إليه انقبضت أسارير جبينه لعلمه أنه يسأله من ماله فتكوى جبهته فإن السائل يعرف ذلك في وجهه ثم إن المسئول يتغافل عن السائل ويعطيه جانبه كأنه ما عنده خبر منه فيكوي بها جنبه فإذا علم من السائل أنه يقصده ولا بد أعطاه ظهره وانصرف فأخبر الله أنه تكوى بها ظهورهم فهذا حكم مانعي الزكاة أعني زكاة الذهب والفضة وأما زكاة الغنم والبقر والإبل فأمر آخر

كما ورد في النص أنه يبطح لها بقاع قرقر فتنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها وتعضه بأفواهها

فلهذا خص الجباة والجنوب والظهور بالذكر في الكي والله أعلم بما أراد

[شرع الله الزكاة طهارة للأموال‏]

فأنزل الله الزكاة كما قلنا طهارة للأموال وإنما اشتدت على الغافلين الجهلاء لكونهم اعتقدوا أن الذي عين لهؤلاء الأصناف ملك لهم وأن ذلك من أموالهم وما علموا إن ذلك المعين‏

ما هو لهم وإنه في أموالهم لا من أموالهم فلا يتعين لهم إلا بالإخراج فإذا ميزوه حين ذلك يعرفون أنه لم يكن من مالهم وإنما كان في مالهم مدرجا هذا هو التحقيق وكانوا يعتقدون أن كل ما بأيديهم هو مالهم وملك لهم فلما أخبر الله أن لقوم في أموالهم حقا يؤدونه وما له سبب ظاهر تركن النفس إليه لا من دين ولا من بيع إلا ما ذكر الله تعالى من ادخار ذلك له ثوابا إلى الآخرة شق ذلك على النفوس للمشاركة في الأموال‏

[المال مال الله والإنسان مستخلف فيه‏]

ولما علم الله هذا منهم في جبلة نفوسهم أخرج ذلك القدر من الأموال من أيديهم بل أخرج جميع الأموال من أيديهم فقال تعالى وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي هذا المال ما لكم منه إلا ما تنفقون منه وهو التصرف فيه كصورة الوكلاء والمال لله وما تبخلون به فإنكم تبخلون بما لا تملكون لكونكم فيه خلفاء وعلى ما بأيديكم منه أمناء فنبههم بأنهم مستخلفون فيه وذلك لتسهل عليهم الصدقات رحمة بهم يقول الله كما أمرناكم أن تنفقوا مما أنتم مستخلفون فيه من الأموال أمرنا رسولنا ونوابنا فيكم أن يأخذوا من هذه الأموال التي لنا بأيديكم مقدارا معلوما سميناه زكاة يعود خيرها عليكم فما تصرف نوابنا فيما هو لكم ملك وإنما تصرفوا فيما أنتم فيه مستخلفون كما أيضا أبحنا لكم التصرف فيه فلما ذا يصعب عليكم فالمؤمن لا مال له وله المال كله عاجلا وآجلا

[الزكاة من حيث هي صدقة شديدة على النفس‏]

فقد أعلمتك أن الزكاة من حيث ما هي صدقة شديدة على النفس فإذا أخرج الإنسان الصدقة تضاعف له الأجر فإن له أجر المشقة وأجر الإخراج وإن أخرجها عن غير مشقة فهذا فوق تضاعف الأجر بما لا يقاس ولا يحد كما ورد في الماهر بالقرآن أنه ملحق بالملائكة السفرة الكرام والذي يتتعتع عليه القرآن يضاعف له الأجر للمشقة التي ينالها في تحصيله ودرسه فله أجر المشقة وأجر التلاوة

[الزكاة بركة في المال وطهارة للنفس‏]

والزكاة بمعنى التطهير والتقديس فلما أزال الله عن معطيها من إطلاق اسم البخل والشح عليه فلا حكم للبخل والشح فيه وبما في الزكاة من النمو والبركة سميت زكاة لأن الله يربيها كما قال ويُرْبِي الصَّدَقاتِ فتزكوا فاختصت بهذا الاسم لوجود معناه فيها ففي الزكاة البركة في المال وطهارة النفس والصلابة في دين الله ومن أوتي هذه الصفات فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً

[الزكاة هي القرض الحسن‏]

وأما قوله فيها إن تقرضه قرضا حسنا فالحسن في العمل أن تشهد الله فيه فإنه من الإحسان وبهذا فسر الإحسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عنه جبريل عليه السلام وذلك إن تعلم أن المال مال الله وإن ملك إياه بتمليك الله وبعد التمليك نزل إليك في ألطافه إلى باب المقارضة يقول لك لا يغيب عنك طلبي منك القرض في هذا المال من أن تعرف أن هذا المال هو عين مالي ما هو لك فكما لا يعز عليك ولا يصعب إذا رأيت أحدا يتصرف في ماله كيف شاء كذلك لا يعز عليك ولا يصعب ما أطلبه منك مما جعلتك مستخلفا فيه لعلمك بأني ما طلبت منك إلا ما أمنتك عليه لأعطيه من أشاء من عبادي فإن هذا القدر من الزكاة ما أعطيته قط لك بل أمنتك عليه والأمين لا يصعب عليه أداء الأمانة إلى أهلها فإذا جاءك المصدق الذي هو رسول رب الأمانة ووكيلها أد إليه أمانته عن طيب نفس فهذا هو القرض الحسن‏

[الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه‏]

فإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إذا رأيته علمت أن المال ماله والعبد عبده والتصرف له ولا مكره له وتعلم أن هذه الأشياء إذا عملتها لا يعود على الله منها نفع وإذا أنت لم تعملها لا يتضرر بذلك وإن الكل يعود عليك فالزم الأحسن إليك تكن محسنا إلى نفسك وإذا كنت محسنا كنت متقيا أذى شح نفسك فجمع لك هذا الفعل الإحسان والتقوى فيكون الله معك ف إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ومن المتقين من يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بأداء زكاته ومن المحسنين من يعبدني كأنه يراني ويشهدني ومن شهوده إياي علمه أني ما كلفته التصرف إلا فيما هو لي وتعود منفعته عليه منة وفضلا مع الثناء الحسن له على ذلك والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏

(وصل إيضاح) [فرض الزكاة في الأموال والأنفس‏]

واعلم أن الله فرض الزكاة في الأموال أي اقتطعها منها وقال لرب المال هذا القدر الذي عينته بالفرض من المال ما هو لك بل أنت أمين عليه فالزكاة لا يملكها رب المال ثم إن الله تعالى أنزل نفوسنا منا منزلة الأموال منا في الحكم فجعل فيها الزكاة كما جعلها في الأموال فكما أمرنا بزكاة الأموال قال لنا في النفوس قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها كما أفلح من زكى ماله كما ألحقها بالأموال في البيع والشراء فقال إِنَّ الله اشْتَرى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ فجعل الشراء والبيع في النفوس والأموال وفي هذه الآية مسألة فقهية كذلك جعل الزكاة في الأموال والنفوس فزكاة الأموال معلومة كما سنذكرها في هذا الباب على التفصيل إن شاء

الله‏

[الزكاة النفوس‏]

وزكاة النفوس بوجه أبينه لك إن شاء الله أيضا على الأصل الذي ذكرناه أن الزكاة حق الله في المال والنفس ما هو حق لرب المال والنفس فنظرنا في النفس ما هو لها فلا تكليف عليها فيه بزكاة وما هو حق الله فتلك الزكاة فيعطيه لله من هذه النفس لتكون من المفلحين بقوله قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها ومن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏

[النفس من حيث عينها ممكنة لذاتها]

فإذا نظرنا إلى عين النفس من حيث عينها قلنا ممكنة لذاتها لا زكاة عليها في ذلك فإن الله لا حق له في الإمكان يتعالى الله علوا كبيرا فإنه تعالى واجب الوجود لذاته غير ممكن بوجه من الوجوه ووجدنا هذه النفس قد اتصفت بالوجود قلنا هذا الوجود الذي اتصفت به النفس هل اتصفت به لذاتها أم لا فرأينا إن وجودها ما هو عين ذاتها ولا اتصفت به لذاتها فنظرنا لمن هو فوجدناه لله كما وجدنا القدر المعين في مال زيد المسمى زكاة ليس هو بمال لزيد وإنما هو أمانة عنده‏

[وجود النفس من الله ولله‏]

كذلك الوجود الذي اتصفت به النفس ما هو لها إنما هو لله الذي أوجدها فالوجود لله لا لها ووجود الله لا وجودها فقلنا لهذه النفس هذا الوجود الذي أنت متصفة به ما هو لك وإنما هو لله خلعه عليك فأخرجه لله وأضفه إلى صاحبه وأبق أنت على إمكانك لا تبرح فيه فإنه لا ينقصك شي‏ء مما هو لك وأنت إذا فعلت هذا كان لك من الثواب عند الله ثواب العلماء بالله ونلت منزلة لا يقدر قدرها إلا الله وهو الفلاح الذي هو البقاء فيبقى الله هذا الوجود لك لا يأخذه منك أبدا

[الوجود والإيجاد والبقاء والإبقاء]

فهذا معنى قوله قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها أي قد أبقاها موجودة من زكاها وجود فوز من الشر أي من علم إن وجوده لله أبقى الله عليه هذه الخلعة يتزين بها منعما دائما وهو بقاء خاص ببقاء الله فإن الخائب الذي دساها هو أيضا باق ولكن بإبقاء الله لا ببقاء الله فإن المشرك الذي هو من أهل النار ما يرى تخليص وجوده لله تعالى من أجل الشريك وكذلك المعطل وإنما قلنا ذلك لئلا يتخيل من لا علم له أن المشرك والمعطل قد أبقى الله الوجود عليهما فبينا أن إبقاء الوجود على المفلحين ليس على وجه إبقائه على أهل النار ولهذا وصف الله أهل النار بأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون بخلاف صفة أهل السعادة فإنهم في الحياة الدائمة وكم بين من هو باق ببقاء الله وموجود بوجود الله وبين من هو باق بإبقاء الله وموجود بالإيجاد لا بالوجود وبهذا فاز العارفون لأنهم عرفوا من هو المستحق لنعت الوجود وهو الذي استفادوه من الحق فهذا معنى قوله قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها

[وجوب الزكاة في النفوس كوجوبها في الأموال‏]

فوجبت الزكاة في النفوس كما وجبت في الأموال ووقع فيها البيع والشراء كما وقع في الأموال وسيرد طرف من هذا الفصل عند ذكرنا في هذا الباب في الرقيق وما حكمه ولما ذا لم تلحق النفس بالرقيق فتسقط فيه الزكاة وإن كان الرقيق يلحق بالأموال من جهة ما كما سنذكره إن شاء الله في داخل هذا الباب كما سأذكر أيضا فيما تجب فيه الزكاة من الإنسان بعدد ما تجب فيه من أصناف المال في فصله إن شاء الله من هذا الباب‏

(وصل) [فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى‏]

وأما قوله تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏ أي أن الله لا يقبل زكاة نفس من أضاف نفسه إليه فإنه قال فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فأضافها إليكم أي إذا رأيتم أن أنفسكم لكم لا لي والزكاة إنما هي حقي وأنتم أمناء عليها فإذا دعيتم فيها فتزعمون أنكم أعطيتموني ما هو لكم وإني سألتكم ما ليس لي والأمر على خلاف ذلك فمن كان بهذه المثابة من العطاء فلا يزكي نفسه فإني ما طلبت إلا ما هو لي لا لكم حتى تلقوني فينكشف الغطاء في الدار الآخرة فتعلمون في ذلك الوقت هل كانت نفوسكم التي أوجبت الزكاة فيها لي أو لكم حيث لا ينفعكم علمكم بذلك ولهذا قال فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فأضاف النفوس إليكم وهي له‏

[نفس عيسى من جهة هي له ومن جهة هي لله‏]

أ لا ترى عيسى عليه السلام كيف أضاف نفسه إليه من وجه ما هي له وأضافها إلى الله من وجه ما هي لله فقال تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ فأضافها إلى الله أي نفسي هو نفسك وملكك فإنك اشتريتها وما هي في ملكي فأنت أعلم بما جعلت فيها وأضاف نفسه إليه فإنها من حيث عينها هي له ومن حيث وجودها هي لله لا له فقال تَعْلَمُ ما في نَفْسِي من حيث عينها ولا أعلم ما في نفسك من حيث وجودها وهو من حيث ما هي لك والنفس‏

[النفس واحدة الذات متعددة النسب والإضافات‏]

وإن كانت واحدة اختلفت الإضافات لاختلاف النسب فلا بعارض قوله فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ما ذكرناه من قوله قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها فإن أنفسكم هنا يعني أمثالكم‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم لا أزكي على الله أحدا

وسيرد الكلام إن شاء الله في هذا الباب في وجوب الزكاة وعلى من تجب وفيما تجب فيه وفي كم تجب ومن كم تجب ومتى تجب ومتى لا تجب ولمن تجب وكم يجب له من تجب له باعتبارات ذلك كله في الباطن بعد أن نقررها في الظاهر بلسان الحكم المشروع كما فعلنا في الصلاة لنجمع بين الظاهر والباطن لكمال النشأة

[الاعتبار في الجمع بين الظاهر والباطن‏]

فإنه ما يظهر في العالم صورة من أحد من‏

خلق الله بأي سبب ظهرت من أشكال وغيرها إلا ولتلك العين الحادثة في الحس روح تصحب تلك الصورة والشكل الذي ظهر فإن الله هو الموجد على الحقيقة لتلك الصورة بنيابة كون من أكوانه من ملك أو جن أو إنس أو حيوان أو نبات أو جماد وهذه هي الأسباب كلها لوجود تلك الصورة في الحس فلما علمنا أن الله قد ربط بكل صورة حسية روحا معنويا بتوجه إلهي عن حكم اسم رباني لهذا اعتبرنا خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قد ما بقدم لأن الظاهر منه هو صورته الحسية والروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن من عبرت الوادي إذا جزته وهو قوله تعالى إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ وقال فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي جوزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم فتدركونها ببصائركم وأمر وحث على الاعتبار

[أهل الجمود من العلماء وقفوا مع الظاهر فقط]

وهذا باب أغفله العلماء ولا سيما أهل الجود على الظاهر فليس عندهم من الاعتبار إلا التعجب فلا فرق بين عقولهم وعقول الصبيان والصغار فهؤلاء ما عبروا قط من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم الله والله يرزقنا الإصابة في النطق والإخبار عما أشهدناه وعلمناه من الحق علم كشف وشهود وذوق فإن العبارة عن ذلك فتح من الله تأتي بحكم المطابقة وكم من شخص لا يقدر أن يعبر عما في نفسه وكم من شخص تفسد عبارته صحة ما في نفسه والله الموفق لا رب غيره‏

[حظ الزكاة من الأسماء الإلهية]

واعلم أنه لما كان معنى الزكاة التطهير كما قال تعالى تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بها كان لها من الأسماء الإلهية الاسم القدوس وهو الطاهر وما في معناه من الأسماء الإلهية ولما لم يكن المال الذي يخرج في الصدقة من جملة مال المخاطب بالزكاة وكان بيده أمانة لأصحابه لم يستحقه غير صاحبه وإن كان عند هذا الآخر ولكنه هو عنده بطريق الأمانة إلى أن يؤديه إلى أهله كذلك في زكاة النفوس فإن النفوس لها صفات تستحقها وهي كل صفة يستحقها الممكن وقد يوصف الإنسان بصفات لا يستحقها الممكن من حيث ما هو ممكن ولكن يستحق تلك الصفات الله إذا وصف بها ليميزها عن صفاته التي يستحقها كما إن الحق سبحانه وصف نفسه بما هو حق للممكن تنزلا منه سبحانه ورحمة بعباده‏

[زكاة النفس إخراج حق الله منها]

فزكاة نفسك إخراج حق الله منها فهو تطهيرها بذلك الإخراج من الصفات التي ليست بحق لها فتأخذ مالك منه وتعطي ماله منك وإن كان كما قال تعالى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً وهو الصحيح فإن نسبتنا منه نسبة الصفات عند الأشاعرة منه فكل ما سوى الله فهو لله بالله إذ لا يستحق أن يكون له إلا ما هو منه قال صلى الله عليه وسلم مولى القوم منهم وهي إشارة بديعة فإنها كلمة تقتضي غاية الوصلة حتى لا يقال إلا أنه هو وتقتضي غاية البعد حتى لا يقال إنه هو إذ ما هو منك فلا يضاف إليك فإن الشي‏ء لا يضاف إلى نفسه لعدم المغايرة فهذا غاية الوصلة وما يضاف إليك ما هو منك فهذا غاية البعد لأنه قد أوقع المغايرة بينك وبينه فهذه الإضافة في هذه المسألة كيد الإنسان من الإنسان وكحياة الإنسان من الإنسان فإنه من ذات الإنسان كونه حيوانا وتضاف الحيوانية إليه مع كونها من عين ذاته ومما لا تصح ذاته إلا بها

[نسبة الممكنات إلى الواجب بالذات‏]

فتمثل هذه الإصابة تعقل ما أومأنا إليه من نسبة الممكنات إلى الواجب الوجود لنفسه فإن الإمكان للممكن واجب لنفسه فلا يزال انسحاب هذه الحقيقة عليه لأنها عينه وهي تضاف إليه وقد يضاف إليه ما هو عينه فهذا معنى قوله لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي ما توصف أنت به ويوصف الحق به هو لله كله فما لك لا تفهم ما لك بما في قوله أعطني ما لك فهو نفي من باب الإشارة واسم من باب الدلالة أي الذي لك وأصليته من اسم المالية ولهذا قال خذ من أموالهم أي المال الذي في أموالهم مما ليس لهم بل هو صدقة مني على من ذكرتهم في كتابي يقول الله أ لا تراه قد قال إن الله فرض علينا زكاة أو صدقة في أموالنا فجعل أموالهم ظرفا للصدقة والظرف ما هو عين المظروف فمال الصدقة ما هو عين مالك بل مالك ظرف له فما طلب الحق منك ما هو لك‏

[زكاة النفوس آكد من زكاة الأموال‏]

فالزكاة في النفوس آكد منها في الأموال ولهذا قدمها الله في الشراء فقال إِنَّ الله اشْتَرى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ثم قال وأَمْوالَهُمْ فالعبد ينفق في سبيل الله نفسه وماله وسيرد من ذلك في هذا الباب ما نقف عليه إن شاء الله‏

(وصل في وجوب الزكاة)

الزكاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع فلا خلاف في ذلك‏

[زكاة الوجود رد ما هو الله إلى الله‏]

أجمع كل ما سوى الله على إن وجود ما سوى الله إنما هو بالله فردوا وجودهم إليه سبحانه لهذا الإجماع ولا خلاف في ذلك بين كل ما سوى الله فهذا اعتبار الإجماع في زكاة الوجود فرددنا ما هو لله إلى الله فلا موجود ولا موجود إلا الله‏

وأما الكتاب ف كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وليس الوجه إلا الوجود وهو ظهور الذوات والأعيان وأما السنة فلا حول ولا قوة إلا بالله فهذا اعتبار وجوب الزكاة العقلي والشرعي‏

(وصل في ذكر من تجب عليه الزكاة)

اتفق العلماء على أنها واجبة على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك للنصاب ملكا تاما هذا محل الاتفاق واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبد وأهل الذمة والناقص الملك مثل الذي عليه الدين أو له الدين ومثل المال المحبس الأصل‏

(وصل) [اعتبار ما اتفقوا عليه‏]

[المسلم‏]

اعتبار ما اتفقوا عليه المسلم هو المنقاد إلى ما يراد منه وقد ذكرنا أن كل ما سوى الله قد انقاد في رد وجوده إلى الله وإنه ما استفاد الوجود إلا من الله ولا بقاء له في الوجود إلا بالله‏

[الحرية]

وأما الحرية فمثل ذلك فإنه من كان بهذه المثابة فهو حر أي لا ملك عليه في وجوده لأحد من خلق الله جل جلاله‏

[البلوغ‏]

وأما البلوغ فاعتباره إدراكه للتمييز بين ما يستحقه ربه عز وجل وما لا يستحقه وإذا عرف مثل هذا فقد بلغ الحد الذي يجب عليه فيه رد الأمور كلها إلى الله تعالى علوا كبيرا وهي الزكاة الواجبة عليه‏

[العقل‏]

وأما العقل فهو أن يعقل عن الله ما يريد الله منه في خطابه إياه في نفسه بما يلهمه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قيد وجوده بوجود خالقه فقد عقل نفسه إذ العقل مأخوذ من عقال الدابة وعلى الحقيقة عقال الدابة مأخوذ من العقل فإن العقل متقدم على عقال الدابة فإنه لو لا ما عقل إن هذا الحبل إذا شدت به الدابة قيدها عن السراح ما سماه عقالا

[المالك للنصاب‏]

وأما قولهم المالك للنصاب ملكا تاما فملكه للنصاب هو عين وجوده لما ذكرناه من الإسلام والحرية والبلوغ والعقل وأما قولهم ملكا تاما إذ التام هو الذي لا نقص فيه والنقص صفة عدمية قال فهو عدم فالتام هو الوجود فهو قول الإمام أبي حامد وليس في الإمكان أبدع من هذا العالم إذ كان إبداعه عين وجوده ليس غير ذلك أي ليس في الإمكان أبدع من وجوده فإنه ممكن لنفسه وما استفاد إلا الوجود فلا أبدع في الإمكان من الوجود وقد حصل فإنه ما يحصل للممكن من الحق سوى الوجود فهذا معنى اعتبار قولهم ملكا تاما

[وصل اعتبار ما اختلفوا فيه‏]

وأما اعتبار ما اختلفوا فيه فمن ذلك الصغار فقال قوم تجب الزكاة في أموالهم وقال قوم ليس في مال اليتيم صدقة وفرق قوم بين ما تخرجه الأرض وبين ما لا تخرجه فقالوا عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك من الماشية والناض والعروض وفرق آخرون بين الناض وغيره فقالوا عليه الزكاة إلا في الناض خاصة

[اليتيم من لا أب له في الحياة وهو غير بالغ‏]

اعتبار ما ذكرنا اليتيم من لا أب له بالحياة وهو غير بالغ أي لم يبلغ الحلم بالسن أو الإنبات أو رؤية الماء قال تعالى لَمْ يَلِدْ وقال سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ فليس الحق باب لأحد من خلق الله ولا أحد من خلقه يكون له ولدا سبحانه وتعالى فمن اعتبر التكليف في عين المال قال بوجوبها ومن اعتبر التكليف في المالك قال لا يجب عليه لأنه غير مكلف‏

[إضافة الوجود إلى الله وإلى عين الممكن‏]

كذلك من اعتبر وجوده لله قال لا تجب الزكاة فإنه ما ثم من يقبلها لو وجبت فإنه ما ثم إلا الله ومن اعتبر إضافة الوجود إلى عين الممكن وقد كان لا يوصف بالوجود قال بوجوب الزكاة ولا بد إذ لا بد للاضافة من تأثير معقول‏

[انقسام الموجودات إلى قسمين: قديم وحادث‏]

ولهذا تقسم الموجودات إلى قسمين إلى قديم وإلى حادث فوجود الممكن وجود حادث أي حدث له هذا الوصف ولم يتعرض للوجود في هذا التقسيم هل هو حادث أو قديم لأنه لا يدل حدوث الشي‏ء عندنا على أنه لم يكن له وجود قبل حدوثه عندنا وعلى هذا يخرج قوله تعالى ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وهو كلام الله القديم ولكن حدث عندهم كما تقول حدث عندنا اليوم ضيف فإنه لا يدل ذلك على أنه لم يكن له وجود قبل ذلك فمن راعى أن الوجود الحادث غير حق للموصوف به وأنه حق لغير الممكن قال بوجوب الزكاة على اليتيم لأنه حق للواجب الوجود فيما اتصف به هذا الممكن كما يراعي من يرى وجوبها على اليتيم في ماله أنها حق للفقراء في عين هذا المال فيخرجها منه من يملك التصرف في ذلك المال وهو الولي‏

[إثبات التكليف في عين التوحيد]

ومن راعى أن الزكاة عبادة لم يوجب الزكاة لأن اليتيم ما بلغ حد التكليف وقد أشرنا إلى ذلك ولنا

الرب حق والعبد حق *** يا ليت شعري من المكلف‏

هذا في البالغ والصغير غير مكلف وهو اليتيم وهكذا سائر العبادات على هذا النحو فإن الشي‏ء لا يعبد نفسه وإذا تحقق عارف مثل هذا وتبين أنه ما ثم إلا الله خاف من الزلل الذي يقع فيه من لا معرفة له ممن ذمه الشارع من القائلين بإسقاط الأعمال نعوذ بالله من الخذلان فنظر العارف عند ذلك إلى الأسماء الإلهية وتوقف أحكام بعضها على بعض وتفاضلها في‏

التعلقات كما قد ذكرناه في غير ما موضع فيوجب العبادات من ذلك الباب وبذلك النظر ليظهر ذلك الفعل في ذلك المحل من ذلك الاسم الإلهي القائم به إذا خاطبه اسم إلهي ممن له حكم الحال والوقت فتعين على هذا الاسم الإلهي الآخر إن تحرك هذا المحل لما طلب منه فسمى ذلك عبادة وهو أقصى ما يمكن الوصول إليه في باب إثبات التكاليف في عين التوحيد حتى يكون الآمر المأمور والمتكلم السامع‏

[اعتبار من فرق بين ما تخرجه الأرض وما لا تخرجه‏]

وأما اعتبار من فرق بين ما تخرجه الأرض وبين ما لا تخرجه الأرض فاعتباره ما بطهره من الموصوف بالوجود الذي هو الممكن من الأشياء على يديه مما هو سبب ظهورها فإن أضاف وجود ذلك إلى ما أضاف إليه وجوده قال لا زكاة وإن لم يضف واعتبر ظهورها منه قال بالواجب‏

[من فرق بين الناض وما سواه‏]

وأما من فرق بين الناض وما سواه فالناض لما كان له صفة الكمال أو التشبه بالكمال ونزل ما سوى الناض عن درجة الكمال أو التشبه بالكمال واتصف بالنقص أوجب الزكاة في الناقص ليطهره من النقص ولم يوجبه في الكمال فإن الكمال لا يصح أن يكون في غيره إذ لا كمال إلا في الوحدة

[أهل الذمة ونصارى تغلب‏]

ومن ذلك أهل الذمة والأكثر على أنه لا زكاة على ذمي إلا طائفة روت تضعيف الزكاة على نصارى بنى تغلب وهو أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من المسلمين في كل شي‏ء وقال به جماعة ورووه من فعل عمر بهم وكأنهم رأوا أن مثل هذا توقيف وإن كانت الأصول تعارضه‏

[لا يجوز أخذ الزكاة من كافر]

والذي أذهب إليه أنه لا يجوز أخذ الزكاة من كافر وإن كانت واجبة عليه مع جميع الواجبات إلا أنه لا يقبل منه شي‏ء مما كلف به إلا بعد حصول الايمان به فإن كان من أهل الكتاب ففيه عندنا نظر فإن أخذ الجزية منهم قد يكون تقريرا من الشارع لهم دينهم الذي هم عليه فهو مشروع لهم فيجب عليهم إقامة دينهم فإن كان فيه أداء زكاة وجاءوا بها قبلت منهم والله أعلم وليس لنا طلب الزكاة من المشرك وإن جاء بها قبلناها يقول الله تعالى ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ويقول الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ والكافر هنا المشرك ليس الموحد

(وصل) [الاعتبار في زكاة أهل الذمة]

الاعتبار قال الله تعالى لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلًّا ولا ذِمَّةً الإل الله اسم من أسمائه والذمة العهد والعقد فإن كان عهدا مشروعا فالوفاء به زكاته فالزكاة على أهل الذمة فإن عليهم الوفاء بما عوهدوا عليه من أسقط عنهم الزكاة أي أن الذمي إذا عقد ساوى بين اثنين في العقد ومن ساوى بين اثنين جعلهما مثلين وقد قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فلا يقبل توحيد مشرك فإن المشرك مقر بتوحيد الله في عظمته لقوله ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فهذا توحيد بلا شك ومع هذا منع الشرع من قبوله‏

[الدليل على التوحيد نفس التوحيد]

واعلم أن الدليل يضاد المدلول والتوحيد المدلول والدليل مغاير فلا توحيد فمن جعل الدليل على التوحيد نفس التوحيد لم يكن هنالك من تجب عليه زكاة فلا زكاة على الذمي والزكاة طهارة فلا بد من الايمان فإن الايمان طهارة الباطن وليس الايمان المعتبر عندنا إلا أن يقال الشي‏ء لقول المخبر على ما أخبر به أو يفعل ما يفعل لقول المخبر لا لعين الدليل العقلي‏

[سريان التوحيد في الأشياء]

وعلم الشرك من أصعب ما ينظر فيه لسريان التوحيد في الأشياء إذ الفعل لا يصح فيه اشتراك البتة فكل من له مرتبة خاصة به لا سبيل له أن يشرك فيها وما ثم إلا من له مرتبة خاصة لكن الشرك المعتبر في الشرع موجود وبه تقع المؤاخذة

(وصل متمم)

اعلم أن الكفار مخاطبون بأصل الشريعة وهو الايمان بجميع ما جاء به الرسول من عند الله من الأخبار وأصول الأحكام وفروعها وهوقوله صلى الله عليه وسلم وتؤمنوا بي وبما جئت به‏

وهو العمل بحسب ما اقتضاه الخطاب من فعل وترك فالإيمان بصدقة التطوع أنها تطوع واجب وهو من أصول الشريعة وإخراج صدقة التطوع فرع ولا فرق بينها وبين الصدقة الواجبة في الايمان بها وفي إخراجها وإن لم يتساويا في الأجر فإن ذلك لا يقدح في الأصل فإن افترقا من وجه فقد اجتمع من الوجه الأقوى‏

[الإيمان أصل والعمل فرع‏]

فالإيمان أصل والعمل فرع لهذا الأصل بلا شك ولهذا إلا يخلص للمؤمن معصية أصلا من غير أن يخالطها طاعة فالمخلط هو المؤمن العاصي فإن المؤمن إذا عصى في أمر ما فهو مؤمن بأن ذلك معصية والايمان واجب فقد أتى واجبا فالمؤمن مأجور في عين عصيانه والايمان أقوى‏

[الزكاة لا تجزى عن أهل الذمة]

ولا زكاة على أهل الذمة بمعنى أنها لا تجزى عنهم إذا أخرجوها مع كونها واجبة عليهم كسائر جميع فروض الشريعة لعدم الشرط المصحح لها وهو الايمان بجميع ما جاءت به الشريعة لا بها ولا ببعض ما جاء به الشرع فلو آمن بالزكاة وحدها أو بشي‏ء من الفرائض أنها فرائض أو بشي‏ء من النوافل أنها نافلة ولو ترك الايمان بأمر واحد من فرض أو نفل لم يقبل منه إيمانه إلا أن يؤمن بالجميع ومع هذا فليس لنا أن نسأل ذميا زكاته فإن أتى بها

من نفسه فليس لنا ردها لأنه جاء بها إلينا من غير مسألة فيأخذها السلطان منه لبيت مال المسلمين لا يأخذها زكاة ولا يردها فإن ردها عليه فقد عصى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

[زكاة مال العبد]

وأما العبد فالناس فيه على ثلاثة مذاهب فمن قائل لا زكاة في ماله أصلا لأنه لا يملكه ملكا تاما إذ للسيد انتزاعه ولا يملكه السيد ملكا تاما أيضا لأن يد العبد هي المتصرفة فيه إذن فلا زكاة في مال العبد وذهبت طائفة إلى أن زكاة مال العبد على سيده لأن له انتزاعه منه وقالت طائفة على العبد في ماله الزكاة لأن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرفها فيه تشبيها بتصرف الحر قال شيخنا وجمهور من قال لا زكاة في مال العبد على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق وقال أبو ثور في مال المكاتب الزكاة والذي أقول به أنه لا يخلو الأمر إما أن يرى أن الزكاة حق في المال ولا يراعي المالك فيجب على السلطان أخذها من كل مال بشرطه من النصاب وحلول الحول على من هو في يده ومن رأى أن وجوب الزكاة على أرباب المال جاء ما ذكرناه من المذاهب في ذلك فالأولى كل ناظر في المال هو المخاطب بإخراج الزكاة منه‏

اعتبار ذلك‏

العبد وما يملكه لسيده فبأي شي‏ء أمره سيده وجبت عليه طاعته والزكاة حق أوجبه الله في عين المال لأصناف مذكورين وهو بأيدي المؤمنين فإنه لا يخلو مال عن مالك أي عن يد عليه لها التصرف فيه فالزكاة أمانة بيد من هو المال بيده لهؤلاء الأصناف وما هو مال للحر ولا للعبد فوجب أداؤه لأصحابه ممن هو عنده وله التصرف فيه حرا كان أو عبدا من المؤمنين والكل عبيد الله فلا زكاة على العبد لأنه مؤد أمانة والزكاة عليه بمعنى إيصال هذا الحق إلى أهله ف إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وتطهيره المال الذي فيه الزكاة بالزكاة أعني بإخراجها منه والزكاة على السيد لأنه يملكه من باب ما أوجبه الحق لخلقه على نفسه مثل قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وقوله فَسَأَكْتُبُها وقوله وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقوله أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فكل من رأى أصلا مما ذكرناه ذهب في مال العبد مذهب‏

(وصل) ومن ذلك المالكون الذين عليهم الديون‏

التي تستغرق أموالهم وتستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب الزكاة فيها

[أقوال العلماء في مال الدين‏]

فمن قائل لا زكاة في مال حبا كان أو غيره حتى يخرج منه الدين فإن بقي منه ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا وقالت طائفة الذين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها وقالت طائفة الدين يمنع زكاة الناض فقط إلا أن تكون له عروض فيها وفاء له من دينه فإنه لا يمنع وقال قوم الذين لا يمنع زكاة أصلا

الاعتبار في ذلك‏

الزكاة عبادة فهي حق الله وحق الله أحق أن يقضى بذا ورد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله قد جعل الزكاة حقا لمن ذكر من الأصناف في القرآن العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ والدين حق مترتب متقدم فالدين أحق بالقضاء من الزكاة

(وصل) ومن ذلك المال الذي هو في ذمة الغير

وليس هو بيد المالك وهو الدين فمن قائل لا زكاة فيه وإن قبض حتى يمر عليه حول وهو في يد القابض وبه أقول ومن قائل إذا قبضه زكاه لما مضى من السنين وقال بعضهم يزكيه لحول واحد وإن قام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض فإن كان على غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول‏

(اعتبار الباطن في ذلك)

لا مالك إلا الله ومن ملكه الله إذا كان ما ملكه بيده بحيث يمكنه التصرف فيه فحينئذ تجب عليه الزكاة بشرطها ولا مراعاة لما مر من الزمان فإن الإنسان ابن وقته ما هو لما مضى من زمانه ولا لما يستقبله وإن كان له أن ينوي في المستقبل ويتمنى في الماضي ولكن في زمان الحال هذا كله فهو من الوقت لا من الماضي ولا من المستقبل‏

[لا مراعاة لما مر على المال من الزمان‏]

فلا مراعاة لما مر على ذلك المال من الزمان حين كان بيد المديان فإنه على الفتوح مع الله تعالى دائما الذي بيده المال هو الله فالزكاة واجبة فيه لما مر عليه من السنين‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حجي عن أبيك وأمر صلى الله عليه وسلم ولي الميت بما على الميت من صيام رمضان‏

وما هو إلا إيصال ثمرة العمل لمن حج عنه أو صام عنه مما هو واجب عليه إلا أن فرط فله حكم آخر

[من حج عنه أو عمل عنه عمل ما]

ومع هذا فمن حج عنه أو عمل عنه عمل ما فهو صدقة من عمل هذا العمل على المعمول عنه ميتا كان المعمول عنه أو غير ميت غير أن الحي لا يسقط عنه الواجب عليه إلا إذا لم يستطع فعله فإن فعله وليه عنه كان له أجر من أدى ما وجب عليه وليس ذلك إلا في الحج بما ذكرناه والثواب ما هو له بقابض إلا إن كان المعمول عنه ميتا فإنه أخراوي فإن كان حيا فالقابض عنه الوكيل وهو الله فإذا قبضه أعطاه في الآخرة لمن‏

عمل له هنا في الدنيا

(وصل من اعتبار هذا الباب)

ومن اعتبار الشخص يتمنى أن لو كان له مال لعمل به برا فيكتب الله له أجر من عمل فإن نيته خير من عمله ويكتب له على أوفى حظ وهو في ذمة الغير ليس بيده منه شي‏ء فإذا حصل له ما تمناه من المال أو مما تمناه مما يتمكن له به الوصول إلى عمل ذلك البر وجب عليه أن يعمل ذلك البر الذي نواه فإن لم يفعل لم يكتب له أجر ما نواه فلو مات قبل اكتساب ما تمنى كتب له أجر ما نواه قال تعالى أَنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي هما اختبار لإقامة الحجة في صدق الدعوى أو كذبها

(وصل) ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الثمار

المحبسة الأصول فمن قائل فيها الزكاة ومن قائل لا زكاة فيها وفرق قوم بين أن تكون محبسة على المساكين فلا يكون فيها زكاة وبين أن تقوم على قوم بأعيانهم فتجب فيها الزكاة وبوجوب الزكاة أقول كانت على من كانت بتعيين أو بغير تعين فإن كانت بتعيين قوم وجب عليهم إخراج الزكاة وإن كانت بغير تعيين وجب على السلطان أخذ الزكاة منها بحكم الوكالة

اعتبار الباطن في ذلك‏

الثمر هو عمل الإنسان المكلف والعمل قد يكون مخلصا لله كالصلاة والصيام وأمثالهما وقد يكون فيه حق للغير كالزكاة إلا أنه مشروع مثل أن يعمل الإنسان عملا فيقول هذا لله ولوجوهكم فهو لوجوهكم أو مالي إلا الله وأنت‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم من قال هذا الله ولوجوهكم ليس لله منه شي‏ء

ثم شرع لمن هذا قوله أن يقول هذا لله ثم لفلان ولا يدخل واو التشريك فهذا العمل فيه لله وهو نظير الزكاة في المال المحبس الأصل وفيه للخلق وهو قوله ثم لفلان بحرف ثم لا بحرف الواو وهو ما يبقى بيد الموقوف عليه من هذا الثمر الزائد على الزكاة

[الزكاة حق الله وحق الفقير]

فهذا اعتبار من يرى فيه الزكاة ومن يرى أنه لا زكاة فيه أي لا حق لله فيها فاعتباره قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو لوجوهكم ليس لله منه شي‏ء أي لا حق فيه لله ومن رأى أن الزكاة حق الفقراء رأى في اعتباره أن زكاة الثمر المحبس الأصل وهو العمل من هذا العبد الذي هو محبس على سيده لا يعتق أبدا يقول إن العمل هو لله بحكم الوقفية وللحور العين وأمثالهم من ذلك العمل نصيب وهو المعبر عنه بالزكاة كما قال بعضهم في حق المجاهدين‏

أبواب عدن مفتحات *** والحور منهن مشرفات‏

فاستبقوا أيما استباق *** وبادروا أيها الغزاة

فبين أيديكمو جنان *** فيها حسان منعمات‏

يقلن والخيل سابقات *** مهورنا الصبر والثبات‏

[الصبر والثبات زكاة الجهاد]

فالصبر والثبات من عمل الجهاد بمنزلة الزكاة من الثمر وكونه محبس الأصل هو قوله تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فما خلقهم إلا لعبادته فهم موقوفون عليه ثم جعل في أعمالهم التي هي بمنزلة الثمر من الشجر نصيبا لله وهو الإخلاص في العمل وهو من العمل وحق لصاحب العمل وهو ما يحصل له من الثواب عليه وهو بمنزلة الزكاة التي يطلبها الثواب فهذا اعتبار زكاة الثمر المحبس الأصل باختلافهم والله الهادي‏

(وصل) ومن هذا الباب على من تجب زكاة

ما تخرجه الأرض المستأجرة فقال قوم من العلماء إن الزكاة على صاحب الزرع وقال قوم إن الزكاة إنما تجب على رب الأرض وليس على المستأجر شي‏ء وبالقول الأول أقول إن الزكاة على صاحب الزرع‏

(وصل) الاعتبار في ذلك‏

الإمام والمؤذن والمجاهد والعامل على الصدقة وكل من يأخذ على عمله أجرا ممن يستأجره على ذلك والأرض المستأجرة هي نفس المكلف وما تخرجه هو ما يظهر عن هذه النفس من العمل والزارع الحق تعالى يقول تعالى أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ورب الأرض هو الشارع وهو الحق سبحانه من كونه شارعا كما هو في الزرع من كونه موفقا قال تعالى مخبرا عن بعض أنبيائه وما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ‏

[الله يبذر حب الهدى في أرض النفوس‏]

فهو سبحانه يبذر حب الهدى والتوفيق في أرض النفوس فتخرج أرض النفوس بحسب ما زرع فيها وفيما يظهر من هذه الأرض ما يكون حق لله فيه ومنها ما يكون فيه حق للإنسان فما هو لله فهو المعبر عنه بالزكاة وما بقي فهو للإنسان والإجارة مشروعة فإن الله اشترى منا نفوسنا ثم أجرنا إياها بالعشر فقال من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها فالحسنة منا هي العشر الذي نعطيه سبحانه مما زرعه في أراضي نفوسنا من الخير الذي أنبت هذا العمل الصالح‏

[الله هو رب الأرض وهو الزارع والمؤجر والمستأجر]

فهو سبحانه رب الأرض وهو الزارع وهو المؤجر وهو المستأجر وهو

الذي يجب عليه الزكاة وهو الذي يأخذ الصدقات كما قال هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ولكن بوجوه ونسب مختلفة فهو المعطي والآخذ لا إله إلا هو ولا فاعل سواه فيوجب من كونه كذا ويجب عليه من كونه كذا قال تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب وفرض لم يوجب ذلك عليه موجب بل هو سبحانه الموجب على نفسه منة منه وفضلا علينا فحقائق أسمائه بها تعرف إلينا وعلى حقائق هذه الأسماء أثبتت الشرائع الإلهية كلها قُلْ كُلٌّ من عِنْدِ الله فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً

[الحسنة من الله والسيئة من نفسك‏]

وقسم فقال في نسق هذا الكلام ما أَصابَكَ من حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وهو ما يسوءك فأنت محل أثر السوء فمن حيث هو فعل لا يتصف بالسوء هو للاسم الإلهي الذي أوجده فإنه يحسن منه إيجاد مثل هذا الفعل فلا يكون سوءا إلا من يجده سوء أو من يسوءه وهو نفس الإنسان إذ لا يجد الألم إلا من يوجد فيه ففيه يظهر حكمه لا من يوجد فإنه لا حكم له في فاعله فهذا معنى قوله وما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وإن كانت الحسنة كذلك فذلك يحسن عند الإنسان فإنها أيضا تحسن من جانب الحق الموجد لها فأضيفت الحسنة إلى الله فإنه الموجد لها ابتداء وإن كانت بعد الإيجاد تحسن أيضا فيك ولكن لا تسمى حسنة إلا من كونها مشروعة ولا تكون مشروعة إلا من قبل الله فلا تضاف إلا إلى الله‏

[و السيئة من قبل الحق حسنة]

ولهذا قلنا في السيئة إنها من قبل الحق حسنة لأنه بينها لتجتنب فتسوء من قامت به إما في الدنيا وإما في العقبي فقد يكون الترك سيئة وليس بفعل وقد يكون الفعل سيئة وكذلك الحسنة قد تكون فعلا وتركا والتوفيق الإلهي هو المؤثر في الفعل والترك من حيث ما هو ترك له ومن حيث ما هو ظاهر منه إذا كان فعلا

[الحق الواجب على العبد من فعل وترك‏]

وما من حق واجب على العبد من ترك وفعل إلا ولله فيه حق يقوم به الحاكم نيابة عن الله فإن كان ما بقي من ذلك الفعل أو الترك حق لله تعالى فهو حق لله من جميع وجوهه لا حق لمخلوق فيه كالصلاة وإقامة الحدود وإن كان ما بقي من ذلك الفعل أو الترك حق لمخلوق كضرب أو شتم أو غصب مال ففيه حق لله وهو ما ذكرناه وفيه حق للمخلوق والحق الذي فيه لله هو عين الزكاة الذي في جميع أفعال الله في خلقه والحاكم نائبه فيما استخلفه فيه فإن شاء قبضه وإن شاء تركه على ما يعطيه الحال والمصلحة ولا حرج عليه في ذلك وهو المسمى تعزيرا فيما لا حد فيه فتقطع يد السارق ولا بد وإن أخذ المال من يده وعاد إلى صاحبه فالحاكم مخير إن شاء عزره بذلك القدر الذي فيه لله من الحق المشروع وإن شاء لم يعزره ويترك ذلك لله حتى يتولاه في الآخرة بلا واسطة

(وصل) ومن هذا الباب أرض الخراج إذا انتقلت إلى المسلمين‏

وهي الأرض التي كانت بيد أهل الذمة هل فيها عشر مع الخراج أم لا فمن قائل إن فيها العشر أعني الزكاة ومن قائل ليس فيها عشر فاعلم أن الزكاة إما أن تكون حق الأرض أو حق الحب فإن كانت حق الأرض لم تجب الزكاة لأنه لا يجتمع فيها حقان وهو العشر والخراج وإن كانت حق الحب كان الخراج حق الأرض والعشر حق الحب والخلاف في بيع أرض الخراج معلوم عند العلماء

(وصل) الاعتبار في ذلك‏

الأعمال البدنية بمنزلة الزرع والبدن بمنزلة الأرض والهوى حاكم على الأرض فإذا انتقلت هذه الأرض إلى حكم الشرع الذي هو العمل بما يقتضيه الإسلام فخراج الأرض هو ما لله عليه من الحقوق من حيث إن جعلها ذات إدراكات وهو علم يستقل بإدراكه العقل فلله في هذه الأرض الخراج إذ شكر المنعم محمود وهو المنعم بها سبحانه‏

[المسلمون على قسمين عارف وغير عارف‏]

فإذا حصلت هذه الأرض في يد المسلم أعني الشرع وانتقلت إليه فالمسلمون على قسمين عارف وغير عارف فالعارف إذا زرع الأعمال الصالحة في هذه الأرض رأى أن الزكاة حق العمل لا حق الأرض فأوجب الزكاة في العمل وهو أن يرد الأعمال إلى عاملها وهو الحق سبحانه وغير العارف يرى أن العمل للقوى البدنية وقد وجب عليها الخراج فلا تجب عنده الزكاة حتى لا يجتمع عليها حقان فإنه لا يرى العمل إلا لنفسه فإنه غير عارف ولم يكلف الله نفسا إلا ما آتاها وقال ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ من الْعِلْمِ‏

[لا يبعد أن يجتمع في الأرض حقان‏]

وأما قولنا في هذه المسألة فإنه يجتمع في الأرض حقان ولا يبعد ذلك لأن الأرض من كونها بيد من هي بيده يمنع غيره من التصرف فيها إلا بإذنه فعليه حق فيها يسمى الخراج ومن حيث إنه زرعها فاختلف حال الأرض بكونها قد زرعت من كونها لم تزرع فوجب فيها حق آخر من كونها ذات زرع فوجب العشر فيها من كونها مزدرعة ووجب الخراج فيها من كونها بيده وحكمه عليها وكذلك نأخذه في الاعتبار

(وصل) وأما أرض العشر إذا انتقلت إلى الذمي فزرعها

فمن‏

قائل ليس فيها شي‏ء أعني لا خراج ولا عشر وقال النعمان إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج فكأنه رأى أن العشر حق أرض المسلمين والخراج حق أرض الذميين ومن يرى هذا فينبغي إن أرض الذمي إذا انتقلت إلى المسلم أن تعود أرض عشر

(اعتبار ذلك)

للعقل حكم في النفس من حيث ذاته ونظره وللشرع حكم في النفس فإذا سلب العقل النفس من يد الشرع بشبهة اشتراها بها فهل يقبل الله منه كل عمل حمد صورته الشرع ولكن كان عمله من جهة العقل لا من جهة الشرع فمنا من قال يقبل ويجازى عليه في الدنيا إن لم يكن موحدا وكان مشركا فإن كان موحدا قبل منه وجوزي عليه جزاء غير المؤمن‏

[المؤمن له جزاءان يوم القيامة في عمله‏]

فإن المؤمن له في عمله يوم القيامة جزاءان جزاء من حيث إنه مؤمن عامل بشريعة وجزاء من حيث إن ذلك العمل من مكارم الأخلاق وأنه خير وقد قال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام حين أسلم وكان قد فعل في الجاهلية خيرا أسلمت على ما أسلفت من خير فجازاه الله بما كان منه من خير في زمان جاهليته‏

[الخير يطلب الجزاء لنفسه‏]

فإن الخير يطلب الجزاء لنفسه فإذا اقترن به الايمان تضاعف الجزاء لزيادة هذه الصفة فإن لها حقا آخر فحكم الشرع العشر وحكم العقل الخراج‏

(وصل) إذا أخرج الزكاة فضاعت‏

[أقوال العلماء في ضياع الزكاة بعد إخراجها]

فقال قوم تجزى عنه وقال قوم هو لها ضامن حتى يضعها موضعها وقوم فرقوا بين أن يخرجها بعد أن أمكنه إخراجها وبين أن يخرجها أول زمان الوجوب والإمكان فقال بعضهم إن أخرجها بعد أيام من الإمكان والوجوب ضمن وإن أخرجها في أول الوجوب ولم يقع منه تفريط لم يضمن وقال قوم إن فرط ضمن وبه أقول وإن لم يفرط زكى ما بقي وقال قوم بل يعد الذاهب من الجميع ويبقى المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال مثل الشريكين يذهب بعض المال المشترك بينهما ويبقيان شريكين على تلك النسبة في الباقي فالحاصل في المسألة خمسة أقوال قوله إنه لا يضمن بإطلاق وقول إنه يضمن بإطلاق وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي والقول الخامس يكونان شريكين في الباقي‏

[إذا ذهب بعض المال بعد وجوب الزكاة عليه‏]

وأما إذا ذهب بعض المال بعد الوجوب وقيل تمكن إخراج الزكاة فقيل يزكي ما بقي وقال قوم حال المساكين وحال رب المال حال الشريكين يضيع بعض مالهما وأما إذا وجبت الزكاة وتمكن الإخراج فلم يخرج حتى ذهب بعض المال فإنه ضامن باتفاق والله أعلم إلا في الماشية عند من يرى أن وجوبها إنما يتم بشرط خروج الساعي مع الحول وهو مذهب مالك‏

(وصل الاعتبار في ذلك)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنحوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم وإنفاق الحكمة عين زكاتها ولها أهل كما للزكاة أهل فإذا أعطيت الحكمة غير أهلها وأنت تظن أنه أهلها فقد ضاعت كما ضاع هذا المال بعد إخراجه ولم يصل إلى صاحبه فهو ضامن لمن ضاع لأنه فرط حيث لم يتثبت في معرفة من ضاعت عنده هذه الحكمة فوجب عليه أن يخرجها مرة أخرى لمن هو أهلها حتى تقع في موضعها

[حامل الحكمة إذا جعلها في غير أهلها على الظن‏]

وأما حكم الشريكين في ذلك كما تقرر فإن حامل الحكمة إذا جعلها في غير أهلها على الظن فهو أيضا مضيع لها والذي أعطيت له ليس بأهل لها فضاعت عنده فيضيع بعض حقها فيستدرك معطي الحكمة غير أهلها ما فاته بأن ينظر في حال من ضاعت عنده الحكمة فيخاطبه بالقدر الذي يليق به ليستدرجه حتى يصير أهلا لها ويضيع من حق الآخر على قدر ما نقصه من فهم الحكمة الأولى التي ضاعت عنده‏

[من سئل علما فكتمه‏]

والحال فيما بقي من وجوه الخلاف في الاعتبار على هذا الأسلوب سواء فمن قال بعموم‏

قوله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار

فسأله من ليس بأهل الحكمة فضاعت الحكمة قال لا يضمن على الإطلاق ومن أخذ

بقوله صلى الله عليه وسلم لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها

قال يضمن على الإطلاق وضمانها أنه يعطيه من الوجوه فيما سأله ما يليق به وإن لم يصح ذلك في نفس الأمر كالأينية فيمن لا يتصف بالتحيز ومن أعرض عن الجواب الأول إلى جواب في المسألة يقتضيه حال السائل والوقت قال يزكي ما بقي ويكون حكم ما مضى وضاع كحكم مال ضاع قبل الحول ومن قال يتعين عليه النظر في حال السائل فلما لم يفعل فقد فرط فإن فعل وغلط لشبهة قامت له تخيل أنه من أهل الحكمة فلم يفرط فهو بمنزلة من قال إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن والقول الخامس قد تقدم في الشريك‏

[العلم عند العالم أمانة]

ولا يخلو العالم أن يعتقد فيما عنده من العلم الذي يحتاج الخلق إليه أن يكون عنده لهم كالأمانة فحكمه في ذلك حكم الأمين أو يعتقد

فيه أنه دين عليه لهم فحكمه حكم الغريم والحكم في الأمانة والدين والضياع معلوم فيمشي عليه الاعتبار بتلك الوجوه والله أعلم‏

(وصل إذا مات بعد وجوب الزكاة عليه)

قال قوم تخرج من رأس ماله وقال قوم إن أوصى بها أخرجت من الثلث وإلا فلا شي‏ء عليه ومن هؤلاء من قال يبدأ بها إن ضاق الثلث ومنهم من قال لا يبدأ بها

(وصل) الاعتبار في ذلك‏

الرجل من أهل طريق الله يعطي العلم بالله وقد قلنا إن زكاة العلم تعليمه فجاء مريد صادق متعطش فسأله عن مسألة من علم ما هو عالم به فهذا أوان وجوب تعليمه إياه ما سأله عنه كوجوب الزكاة بكمال الحول والنصاب فلم يعلمه ما سأله فيه من العلم فإن الله يسلب العالم تلك المسألة فيبقى جاهلا بها فيطلبها في نفسه فلا يجدها فذلك موته بعد وجوب الزكاة فإن الجهل موت قال أَ ومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أو يكون العالم يجب عليه تعليم من هو أهل فعلم من ليس بأهل فذلك موته حيث جهل الأهلية ممن هو للحكمة أهل ووضعها في غير أهلها ففي الأول قد يمنح المريد الصادق تلك المسألة ولكن عن مشاهدة هذا العالم بأن سمعه يعلمها غيره أو يعلمها ممن قد علمه ذلك العالم قبل ذلك فيكون في ميزان العالم الأول وإن كان قد جهلها فهذا معنى يجزي عنه ويخرج من رأس ماله فإن اعتذر ذلك العالم للمريد واعترف بعقوبته وذنبه ففتح الله على المريد بها فاعترافه بمنزلة من أوصى بها

[المريض لا يملك من ماله إلا الثلث لا غير]

وأما إخراجها من الثلث فإن المرض لا يملك من ماله سوى الثلث لا غير فكأنها وجبت فيما يملك وكذلك هذا العالم لا يملك في هذه الحالة من نفسه إلا الاعتذار والثلثان الآخران لا يملكهما وهو المنة فلا منة له في التعليم بعد هذه الواقعة ولا يجب عليه فإنه قد نسبها وبالجملة فينبغي لمن هذه حالته أن يجدد توبة مما وقع فيه ويستغفر الله فيما بينه وبين الله ف إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ‏

(وصل في خلافهم في المال يباع بعد وجوب الصدقة فيه)

فقال قوم يأخذ المصدق الزكاة من المال نفسه ويرجع المشتري بقيمته على البائع وقال قوم البيع مفسوخ وقال قوم المشتري بالخيار من إنفاذ البيع ورده والعشر مأخوذ من الثمرة أو من الحب الذي وجبت فيه الزكاة وقال مالك الزكاة على البائع وبه أقول‏

(وصل الاعتبار في ذلك)

قال تعالى قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها يعني النفس لأنه قد صيرها ما لا تجب فيه الزكاة والعبد مأمور بزكاة نفسه ثم إِنَّ الله اشْتَرى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ فباع بعض المؤمنين نفسه من الله بعد وجوب الزكاة عليه فإن العبد إذا آمن وجبت عليه زكاة نفسه فباعها من الله بعد وجوب الزكاة

[زكاة عين المال وزكاة ما في ذمة المكلف‏]

فلا تخلو الزكاة إما أن تكون في عين المال أو تكون في ذمة المكلف فإن كانت في ذمة المكلف وجبت على البائع وإن كانت في نفس المال وجب تزكيتها على من بيده المال في عين ذلك المال فيخرجها المشتري من المال ويرجع بالقيمة على البائع وإذا كان وجوبها على البائع فللبائع أن يزكي ذلك القدر مما عنده من المال‏

[الشيخ المرشد يملك نفوس تلامذته‏]

كالشيخ المرشد يملك نفوس تلامذته فيزكي منها بقدر ما وجب عليه في نفسه من الزكاة قبل بيعها من الله إذ قد كانت وجبت عليه الزكاة في نفسه فتقوم له زكاة نفوس من عنده من المريدين مقام ذلك وإن كان ممن يقول بفسخ البيع فإنه يرجع في بيعه حتى يزكيها وحينئذ يبيعها من الله وإن كان ممن يقول المشتري بالخيار من إنفاذ البيع ورده فذلك إلى الله إن شاء قبلها وزكاها وإن شاء ردها على البائع حتى يزكيها

(وصل) [زكاة المال الموهوب‏]

ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة المال الموهوب واعتباره أن الموهوب له بالخيار إن شاء قبل الهبة وقد عرف ما فيها من الحق فأوصل الحق منها إلى مستحقه ومسك ما بقي وإن شاء رد قدر ما يجب فيها من الزكاة على البائع حتى يؤديها والموهوب له هو الحق هنا والذين لهم الزكاة من هذه النفس ما تطلب منهم الجنة ومن فيها هل هو حق لهم من نفس المؤمن انتهى الجزء الحادي والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في حكم من منع الزكاة)

ولم يجحد وجوبها ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن حكمه حكم المرتد فقاتلهم وسبي ذريتهم وخالفه في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأطلق من استرق منهم وبقول عمر قال الجمهور

وذهبت طائفة إلى تكفير من منع فريضة من الفرائض وإن لم يجحد وجوبها

(وصل الاعتبار في ذلك)

اعلم أن في نفس المؤمن حظ الجنان ومن فيه منها الزكاة ولله ما بقي وهو الذي يصح فيه البيع وإلى هذا ذهبت جماعة المحققين من أهل طريق الله لتعدد أصناف من تجب لهم الزكاة من أنفسهم عليهم فالجنة فيها أصناف يطلبون من نفس المؤمن ما يستحقونه وهي الزكاة فالقصر يطلبه بالسكنى والزوجات يطلبنه بما احتجن إليه منه فالثمانية الأعضاء المكلفة من الإنسان كما يجب فيها الزكاة على الإنسان كذلك لها نسبة في أن تأخذ الزكاة من جهة أخرى فيقوم ما في الجنان مقام من يقسم عليهم ما يليق به‏

[مانع الزكاة من نفسه هو ظالم لها]

فمن منع الزكاة من نفسه عن أحد هؤلاء الأصناف وهو مقر بها أنها واجبة عليه فهو ظالم غير كافر إلا في الصلاة خاصة فإن تاركها كافر فإن الشرع سماه كافرا بمجرد الترك وما أدري ما أراد وإنما مانع الزكاة فهو ظالم حيث مسك حق الغير الذي يجب لهم وسأذكر بعد هذا إن شاء الله ما تجب فيه الزكاة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(وصل في ذكر ما تجب فيه الزكاة)

اتفق العلماء على إن الزكاة تجب في ثمانية أشياء محصورة في المولدات من معدن ونبات وحيوان فالمعدن الذهب والفضة والنبات الحنطة والشعير والتمر والحيوان الإبل والبقر والغنم هذا هو المتفق عليه وهو الصحيح عندنا وأما الزبيب ففيه خلاف‏

(الاعتبار في ذلك)

الزكاة تجب من الإنسان في ثمانية أعضاء البصر والسمع واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب ففي كل عضو وعلى كل عضو من هذه الأعضاء صدقة واجبة يطلب الله بها العبد في الدار الآخرة وأما صدقة التطوع فعلى كل عرق في الإنسان صدقة كما

قال صلى الله عليه وسلم يصبح على كل سلامي من الإنسان صدقة

والسلامي عروق ظهر الكف وقيل العروق فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكذلك التحميد والتكبير

[زكاة الأعضاء الثمانية من الإنسان وزكاة الأصناف الثمانية من المال‏]

فالزكاة التي في هذه الأعضاء هي حق الله تعالى الذي أوجبها على الإنسان من هذه الأعضاء الثمانية كما أوجبها في هذه الثمانية من الذهب والورق وسائر ما ذكرنا مما تجب فيه الزكاة بالاتفاق فتعين على المؤمن أداء حق الله تعالى في كل عضو فزكاة البصر ما يجب لله تعالى فيه من الحق كالغض عن المحرمات والنظر فيما يؤدي النظر إليه من القربة عند الله كالنظر في المصحف وفي وجه العالم وفي وجه من يسر بنظرك إليه من أهل وولد وأمثالهم وكالنظر إلى الكعبة إذا كنت لها مجاورا فإنه قد ورد أن للناظر إلى الكعبة عشرين رحمة في كل يوم وللطائف بها ستين رحمة وعلى هذا النحو تنظر في جميع الأعضاء المكلفة في الإنسان من تصرفها فيما ينبغي وكفها عما لا ينبغي‏

(بيان وإيضاح)

واعلم أن هذه الأصناف قد أحاطت بمولدات الأركان كما قلنا وهي المعدن والنبات والحيوان وما ثم رابع ففرض الله الزكاة في أنواع مخصوصة من كل جنس من المولدات لطهارة الجنس فتطهر النوع بلا شك من الدعوى التي حصلت فيه من الإنسان بالملك فإن الأصل فيه الطهارة من حيث إنه ملك لله مطلقا

[الأصل الذي ظهرت عنه الأشياء]

وذلك أن الأصل الذي ظهرت عنه الأشياء من أسمائه القدوس وهو الطاهر لذاته من دنس المحدثات فلما ظهرت الأشياء في أعيانها وحصلت فيها دعاوى الملاك بالملكية طرأ عليها من نسبة الملك إلى غير منشئها ما أزالها عن الطهارة الأصلية التي كانت لها من إضافتها إلى منشئها قبل أن يحلقها هذا الدنس العرضي بملك الغير لها وكفى بالحدث حدثا وهذه الأجناس لا تصرف لها في أنفسها فأوجب الله على مالكها فيها الزكاة وجعل ذلك طهارتها فعين الله فيها نصيبا يرجع إلى الله عن أمر الله لينسبها إلى مالكها الأصلي فتكتسب الطهارة فإن الزكاة إنما جعلها الله طهارة الأموال وكذلك في الاعتبار

[الأعضاء الثمانية من الإنسان المكلفة طاهرة بحكم الأصل‏]

فإن هذه الأعضاء المكلفة هي طاهرة بحكم الأصل فإنها على الفطرة الأولى ولا تزول عنها تلك الطهارة والعدالة ألا تراها تستشهد يوم القيامة وتقبل شهادتها لزكاتها الأصلية وعدالتها فإن الأصل في الأشياء العدالة لأنها عن أصل طاهر والجرحة طارئة قال تعالى إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وقال يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ وقال تعالى وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وقال تعالى وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولا أَبْصارُكُمْ ولا جُلُودُكُمْ فهذا كله إعلام من الله لنا أن كل جزء فينا شاهد عدل زكى مرضي وذلك بشرى خير لنا ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صورة

الخير فيها فإن الأمر إذا كان بهذه المثابة يرجى أن يكون المال إلى خير وإن دخل النار فإن الله أجل وأعظم وأعدل من أن يعذب مكرها مقهورا وقد قال إِلَّا من أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ‏

[ارتباط النفس بالحواس والجوارح‏]

وقد ثبت حكم المكره في الشرع وعلم حد المكره الذي اتفق عليه والمكره الذي اختلف وهذه الجوارح من المكرهين المتفق عليهم أنهم مكرهون فتشهد هذه الأعضاء بلا شك على النفس المدبرة لها السلطانة عليها والنفس هي المطلوبة عند الله عن حدوده والمسئولة عنها وهي مرتبطة بالحواس والقوي لا انفكاك لها عن هذه الأدوات الجسمية الطبيعية العادلة الزكية المرضية المسموع قولها ولا عذاب للنفس إلا بوساطة تعذيب هذه الجسوم وهي التي تحس بالآلام المحسوسة لسريان الروح الحيواني فيها

[عذاب النفس‏]

وعذاب النفس بالهموم والغموم وغلبة الأوهام والأفكار الرديئة وما ترى في رعيتها مما تحس به من الآلام ويطرأ عليها من التغييرات كل صنف بما يليق به من العذاب وقد أخبر بمآلها لإيمانها إلى السعادة لكون المقهور غير مؤاخذ بما جبر عليه وما عذبت الجوارح بالألم إلا لإحساسها أيضا باللذة فيما نالته من حيث حيوانيتها فافهم فصورتها صورة من أكره على الزنا وفيه خلاف والنفس غير مؤاخذة بالهم ما لم تعمل ما همت به بالجوارح والنفس الحيوانية مساعدة بذاتها مع كونها من وجه مجبورة فلا عمل للنفوس إلا بهذه الأدوات ولا حركة في عمل للادوات إلا بالأغراض النفسية فكما كان العمل بالمجموع وقع العذاب بالمجموع ثم تفضي عدالة الأدوات في آخر الأمر إلى سعادة المؤمنين فيرتفع العذاب الحسي‏

[ارتفاع العذاب في آخر الأمر عن أهل الإيمان‏]

ثم يقضي حكم الشرع الذي رفع عن النفس ما همت به فيرتفع أيضا العذاب المعنوي عن المؤمن فلا يبقى عذاب معنوي ولا حسي على أحد من أهل الايمان وبقدر قصر الزمان في الدار الدنيا بذلك العمل لوجود اللذة فيه وأيام النعيم قصار تكون مدة العذاب على النفس الناطقة والحيوانية الدراكة مع قصر الزمان المطابق لزمان العمل فإن أنفاس الهموم طوال فما أطول الليل على أصحاب الآلام وما أقصره بعينه على أصحاب اللذات والنعيم فزمان الشدة طويل على صاحبه وزمان الرخاء قصير

(إفصاح)

واعلم أن للزكاة نصابا وحولا أي مقدارا في العين والزمان كذلك الاعتبار في زكاة الأعضاء لها مقدار في العين والزمان فالنصاب بلوغ العين إلى النظرة الثانية فإنها المقصودة والإصغاء إلى السماع الثاني وكذلك الثواني في جميع الأعضاء لأجل القصد والمقدار الزماني يصحبه فلنذكر ما يليق بهذا الباب مسألة مسألة على قدر ما يلقي الله عز وجل في الخاطر من ذلك والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم‏

(وصل في زكاة الحلي)

اختلف العلماء رضي الله عنهم في زكاة الحلي فمن قائل لا زكاة فيه ومن قائل فيه الزكاة

(الاعتبار في ذلك)

الحلي ما يتخذ للزينة والزينة مأمور بها قال الله تعالى يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وقال تعالى قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وأضافها إليه ما أضافها إلى الدنيا ولا إلى الشيطان والزكاة حق له وما كان مضافا إليه لا يكون فيه حق له لأنه كله له فلا زكاة في زينة الله‏

[شرع الله للإنسان أن يستعين به في أفعاله‏]

ومن اتخذه لزينة الحياة الدنيا وسلب عنه زينة الله أوجب فيه الزكاة وهو أن يجعل الله نصيبا فيه يحيي به ما أضاف منه إلى نفسه ويزكو ويتقدس كما شرع الله للإنسان أن يستعين بالله ويطلب العون منه في أفعاله التي كلفه سبحانه أن يعملها وهو العامل سبحانه لا هم فكذلك ينبغي أن يجعل الزكاة في زينة الحياة الدنيا وإن كانت زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ فأوجبوا الزكاة في تلك الزينة كما أوجبها من أوجبها في الحلي‏

(وصل في زكاة الخيل)

اختلفوا في الخيل فالجمهور على أنه لا زكاة في الخيل وقال قوم إذا كانت سائمة وقصد بها النسل ففيها الزكاة أعني إذا كانت ذكرنا وإناثا

(وصل الاعتبار في ذلك)

هذا النوع من الحيوان وأمثاله من جملة زينة الله قال تعالى والْخَيْلَ والْبِغالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وزِينَةً وهي من زينة الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ثم إنه من الحيوان الذي له الكر والفر فهو أنفع حيوان يجاهد عليه في سبيل الله فالأغلب فيه أنه لله وما كان لله فما فيه حق لله لأنه كله لله‏

[النفس مركبها البدن‏]

النفس مركبها البدن فإذا كان البدن في مزاجه وتركيب طبائعه بحيث أن يساعد النفس المؤمنة الطاهرة على ما تريد منه من الإقبال على طاعة الله والفرار عن مخالفة الله كان لله وما كان لله فلا حق فيه لله لأنه كله لله وإذا كان البدن يساعد

وقتا ولا يساعد وقتا آخر لخلل فيه كان رد النفس بالقهر فيما لا يساعد فيه من طاعة الله زكاة فيه كمن يريد الصلاة ويجد كسلا في أعضائه وتكسرا فيتثبط عنها مع كونه يشتهيها فأداء الزكاة في ذلك الوقت أن يقيمها ولا يتركها مع كسلها وهي في ذلك الوقت سائمة من السامة اعتبار متخذة للنسل لأن فيها ذكرا وإناثا أي خواطر عقل وخواطر نفس‏

(وصل) في سائمة الإبل والبقر والغنم وغير السائمة

فإن قوما أوجبوا الزكاة فيها كلها سائمة وغير سائمة وذهب الأكثرون إلى أن لا زكاة في غير السائمة من هذه الثلاثة الأنواع‏

(اعتبار هذا الوصل)

السائمة الأفعال المباحة كلها وغير السائمة ما عدا المباح فمن قال الزكاة في السائمة قال إن المباح لما كانت الغفلة تصحبه أوجبوا أن يحضر الإنسان عند فعله المباح أنه مباح بإباحة الشارع ولو لم يبح فعله ما فعله فهذا القدر من النظر هو زكاته وأما غير السائمة فلا زكاة فيها لأنها كلها أفعال مقيدة بالوجوب أو الندب أو الحظر أو الكراهة فكلها لا تخيير على الإطلاق للعبد فيها فكلها لله تعالى وما كان لله لا زكاة فيه فإن الزكاة حق لله في هذا كله وألحق بعض أصحابنا المندوب والمكروه بالمباح فجعل فيه الزكاة كالمباح سواء وقالت طائفة أخرى ما هو مثل المباح فإن فيه ما يشبه الواجب والمحظور وفيه ما يشبه المباح فإن كان وقته تغليب أحد النظرين فيهما كان حكمه بحكم الوقت فيهما وهو أن يحضر له في وقت إلحاقهما بالمباح وفي وقت إلحاقهما بالواجب والمحظور

[السائمة مملوكة وغير السائمة مملوكة]

والصورة في الشبه أن السائمة مملوكة وغير السائمة مملوكة فالجامع بينهما الملك ولكن ملك غير السائمة أثبت لشغل المالك بها وتعاهده إياها والسائمة ليست كذلك وإن كانت ملكا وكذلك المندوب والمكروه هو مخير في الفعل والترك فأشبه المباح وهو مأجور في الفعل فيهما والترك فأشبه الواجب والمحظور وهذا أسد مذاهب القوم عندنا

[أفعال العبد منسوبة له ومنسوبة لله بوجهين مختلفين‏]

ومن قال الزكاة في الكل قال إنما أوجب ذلك في الكل سائمة وغير سائمة لأن الأفعال الواقعة من العبد منسوبة للعبد نسبة إلهية وإن اقتضى الدليل خلافها فوجبت الزكاة في جميع الأفعال لما دخلها من النسبة إلى المخلوق‏

[صورة الزكاة في أفعال الإنسان‏]

وصورة الزكاة فيها استحضارك أن جميع ما يقع منك بقضاء وقدر عن مشاهدة وحضور تام في كل فعل عند الشروع في الفعل وذلك القدر هو زمان الزكاة بمنزلة انقضاء الحول وقدر ذلك الفعل الذي يمكن الرد فيه إلى الله ذلك هو نصاب ذلك الفعل وهذا مذهب العلماء بالله إن الأفعال كلها لله بوجه وتضاف إلى العبد بوجه فلا يحجبنهم وجه عن وجه كما لا يشغله شأن عن شأن‏

(وصل في زكاة الحبوب‏

وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الثلاثة) فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأصناف الثلاثة ومنهم من قال الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات ومنهم من قال الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب‏

(الاعتبار في كونه نباتا)

فهذا النوع مختص بالقلب فإنه محل نبات الخواطر وفيه يظهر حكمها على الجوارح فكل خاطر نبت في القلب وظهر عينه على ظاهر أرض بدنه ففيه الزكاة لشهادة كل ناظر فيه إنه فعل من ظهر عليه فلا بد أن يزكيه برده إلى الله ذلك هو زكاته وما لم يظهر فلا يخلو صاحبه لما نبت في قلبه ما نبت هل كان ممن رأى الله فيه أو قبله فإن كان من هذا الصنف فلا زكاة عليه فيه فإنه لله ومن رأى الله بعده من أجله فتلك عين الزكاة قد أداها وإن لم ير الله بوجه وجبت عليه الزكاة عند العلماء بالله ولم تجب عليه الزكاة عند الفقهاء من أهل الطريق لأن الشارع لم يعتبرا لهم حتى يقع الفعل فكان نباتا سقطت فيه الزكاة كما سقطت المؤاخذة عليه‏

[القوت الذي به يقوم كل شي‏ء]

فإن كان النبات من الخواطر التي فيها قوت للنفس وجبت الزكاة لما فيها من حظ النفس فإن كان حظ النفس تبعا فلا زكاة فإن قوت هذا الذي هذه صفته فهو الله الذي به يقوم كل شي‏ء قيل لسهل بن عبد الله ما القوت قال الله قيل له سألناك عن قوت الأشباح قال الله فلما ألحوا عليه قال ما لكم ولها دع الديار إلى مالكها وبانيها إن شاء عمرها وإن شاء خربها

(وصل في النصاب بالاعتبار)

[نصاب الأعضاء المكلفة]

وأما النصاب في الأعضاء فهو أن تتجاوز في كل عضو من الأول إلى الثاني ولكن من الأول المعفو عنه لا من الأول المندوب فإن الأول المعفو عنه لا زكاة فيه فإنه لله والثاني لك ففيه الزكاة ولا بد سواء كان في النظرة الأولى أو السماع الأول أو اللفظة الأولى أو البطشة الأولى أو السعي الأول أو الخاطر الأول‏

[كل حركة لا قصد فيها فلا زكاة عليها]

والجامع كل حركة لعضو لا قصد له فيها فلا زكاة عليه فإذا

كانت الثانية التالية لها فإنها لا تكون إلا نفسية عن قصد فوجبت الزكاة أي طهارتها والزكاة فيها هي التوبة منها لا غير فتلتحق بالحركة الأولى في الطهارة من أجل التوبة والتوبة زكاتها

[حد النصاب فيما تجب فيه الزكاة على الأعضاء]

هذا حد النصاب فيما تجب فيه الزكاة من جميع ما تجب فيه الزكاة ولا حاجة لتعدادها في الحكم الظاهر المشروع في تلك الأصناف لأن المقصود الاعتبار وقد بان فاكتفينا بذلك عن تفصيله وقد تقدم اعتبار وقت الزكاة وبقي لنا اعتبار من أخرج الزكاة قبل وقتها فإن قوما منعوا من ذلك وبه أقول وأجازه بعضهم‏

(اعتباره)

تطهير المحل للخاطر قبل وقوعه بالاستعداد له مع علمه بما يخطر له من جهة الكشف الذي هو عليه فإن قطع بحضوره ولا بد لم يجزه فإنه راجع إلى الطهارة الأولى وإذا وقع فلا بد من طهارة لوقوعه بلا شك فلا يتعدى بالأمور أوقاتها فإن الحكم للوقت ومن أخرجها قبل الوقت فقد عطل حكم الوقت‏

(وصل في ذكر من تجب لهم الصدقة)

وهم الثمانية الذين ذكر الله في القرآن الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والرقاب والغارمون والمجاهدون وابن السبيل‏

اعتبارهم‏

الأعضاء المذكورة تخرج الزكاة من أفعالها وترد على أعيانها وهو المعبر عنه بثوابها ففي أفعال هذه الأعضاء الزكاة وعلى أعيانها تقسم الزكاة فمن زكى نظره بنفسه أعطى الزكاة بصره فعاد يبصر بربه بعد ما كان يبصر بنفسه وكذلك من زكى سمعه بنفسه أعطى الزكاة سمعه فصار يسمع بربه وهوقوله كنت سمعه وبصره‏

وكذلك يتكلم ويبطش ويسعى كل ذلك بربه ويتقلب في أموره كلها بربه‏

(وصل) في تعيين الأصناف الثمانية

الذين تقسم الزكاة عليهم اعتبارا فمنهم الفقراء قال الله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والْمَساكِينِ والْعامِلِينَ عَلَيْها والْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي الرِّقابِ والْغارِمِينَ وفي سَبِيلِ الله وابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً من الله يقول فرضها الله لهؤلاء المذكورين فلا يجوز أن تعطي إلى سواهم وفي إعطائها لصنف واحد خلاف‏

[توزيع الزكاة على أصناف مستحقيها لا على أشخاصهم‏]

والذي أذهب إليه أنه من وجد من هؤلاء الأصناف قسمت عليهم الصدقة بحسب ما يوجد منهم لكن على الأصناف لا على الأشخاص ولو لم يوجد من صنف منهم إلا شخص واحد دفع إليه قسم ذلك الصنف وإن وجد من الصنف أكثر من شخص واحد قسم على الموجودين منه ما تعين لذلك الصنف قل الأشخاص أو كثروا وكذلك العامل عليها قسمه في ذلك البلد بحسب ما يوجد من الأصناف فإن وجد الكل فالكل صنف ثمن الصدقة إلى سبع وسدس وخمس وربع وثلث ونصف وللكل‏

[تقديم الأصناف الذين تقسم الزكاة عليهم‏]

ثم إنا نقدم من قدم الله بالذكر في العطاء وكذلك أفعل هنا في تعيينهم في هذا الباب فإن رسول الله صلى الله عليهم وسلم لما جاء في حجة وداعه إلى السعي بين الصفا والمروة تلا قوله تعالى إِنَّ الصَّفا والْمَرْوَةَ من شَعائِرِ الله ابدأ بما بدأ الله به‏

[حكاية عن بعض أشياخ ابن عربى‏]

وحدثني بحكايته في هذا بعض أشياخنا قال أراد رجل من أهل القيروان الحج فبقي يتردد هل يمشي في البحر أو في البر وما ترجح عنده واحد منهما فقال أسأل أول رجل اجتمع به فحيث ما قال لي سلكت ذلك الطريق قال فأول من لقيه يهودي فحار في أمره هل أسأله فعزم على سؤاله فشاوره فقال له يا مسلم أ ليس الله يقول هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ في الْبَرِّ والْبَحْرِ فقدم البر فقدم ما قدم الله وهذا هو الطريق نبدأ بما بدأ الله به ونقدم ما قدم الله فإنه من التزم ذلك رأى خيرا في حركاته‏

(اعتبار الفقير)

الذي يجب إعطاء الصدقة له لا أنه يجب عليه أخذها عند أهل الطريق إلا عندنا فإنه واجب عليه أخذها إذا أعطيته ولا يسألها أصلا ولو تحقق بالعبودية أسنى مرتبة فيها وجاءته أخذها فإن الزكاة وإن كانت لهؤلاء الأصناف فإنها حق الله في هذه الأموال وللعبد أن يأكل من مال سيده فإنه حقه وإنما حرمت على أهل البيت تخصيصا لهذه الإضافة وسواء تحققوا بالعبودية أو لم يتحققوا فلو كان ذلك للتحقق بالعبودية ما حرمت إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان على قدمه الأمر وليس كذلك فأهل الله أولى من تصرف في حقوق الله‏

[الفقير هو الذي يفتقر إلى كل شي‏ء]

ثم نرجع فنقول الفقير عندنا الذي ليس وراءه مرتبة للفقر هو الذي يفتقر إلى كل شي‏ء ولا يفتقر إليه شي‏ء وإلى الآن فما رأيت أحدا تحقق بهذه الصفة يقول الله تعالى من باب الغيرة الإلهية يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله فقد كنى عن نفسه في هذه الآية بكل ما يفتقر إليه والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فما افتقر فقير إلا إلى الله عرف ذلك هذا الشخص أو لم يعرفه فإن الفقير الإلهي يرى الحق عين كل شي‏ء وهو في عبوديته منغمس مغمور حين رأى الله‏

تسمى له باسم كل شي‏ء يفتقر إليه وما في الوجود شي‏ء إلا ويفتقر إليه مفتقر ما من جميع الأشياء ولا يفتقر إليه شي‏ء لوقوف هذا الفقير عند هذه الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فتحقق بهذه الآية فأوجب الله له الطهارة والزكاة حيث تأدب مع الله وعلم ما أراد الله بهذه الآية فإنها من أعظم آية وردت في القرآن للعلماء بالله الذين فهموا عن الله فلم يظهر عليه صفة غنى بالله ولا بغير الله فيفتقر إليه من ذلك الوجه فصح له مطلق الفقر فكان الله غناه بما هو من الأغنياء بالله فإن الغني بالله من افتقر إليه الخلق وزها عليهم بغناه بربه فذلك لا يجب له أن يأخذ هذه الزكاة فما قدم الحق الفقراء بالذكر وفوقهم من هو أشد حاجة منهم لا مسكين ولا غيره فإن الفقير هو الذي انكسر فقار ظهره فلا يقدر على أن يقيم ظهره وصلبه فلا حظ له في القيومية أبدا بل لا يزال مطاطئ الرأس لانكساره فافهم هذه الإشارة

[المسكين هو من يدبره غيره‏]

والمساكين المسكين من السكون وهو ضد الحركة والموت سكون فإذا تحرك الميت فبتحريك غيره إياه لا بنفسه فالمسكين من يدبره غيره فلهذا فرض الله له أن يعطي الزكاة ولا يقال فيه إنه آخذ لها وهو لا يتصف بالحاجة ولا بعدم الحاجة ولهذا قلنا في الفقير إنه ما فوقه من هو أشد حاجة منه فإن المسكين هو عين المسلم المفوض أمره إلى الله عن غير اختيار منه بل الكشف أعطاه ذلك ولهذا ألحقناه بالميت فالمسكين كالأرض التي جعلها الله لنا ذلولا فمن ذل ذلة ذاتية تحت عز كل عزيز كان من كان فذلك المسكين لتحققه فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وأن عزته هي الظاهرة في كل عزيز وهذه معرفة نبوية

[فهم العرب ومرتبة العارفين‏]

يقول تعالى أَمَّا من اسْتَغْنى‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى فعند المحققين ضمير له لله وإن كانت الآية جاءت عتبا ولكن في حق فهم العرب ونحن مع شهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وذوقه ومرتبته فإن العارفين مناولهم هذا المقام حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تبالي بذاك العزيز فنقول إنه ممن أشقاه الله بعزه فإن هذا المسكين ما ذل إلا للصفة وهذه الصفة لا تكون إلا لله عنده حقيقة لم تدنسها الاستعارة قط فهذا المسكين لم ير بعينه إلا الله إذ كان لا يرى العزة إلا عزته تعالى لا بعينه ولا بقلبه ونظر إلى ذلة كل ما سواه تعالى بالعين التي ينبغي أن ينظر إليهم بها فتخيل المخلوق الموصوف عند نفسه بالعزة أنه ذلك هذا المسكين لعزه وإنما كان ذلك للعز خاصة والعز ليس إلا لله فوفى المقام حقه فمثل هذا هو المسكين الذي يتعين له إعطاء الصدقة

[العامل هو المرشد إلى معرفة المعاني‏]

والعاملين عليها العامل المرشد إلى معرفة هذه المعاني والمبين لحقائقها والمعلم والأستاذ والدال عليها وهو الجامع لها بعلمه من كل من تجب عليه فله منها على قدر عمالته وليس الأمر في حقه منها إلا كما قدمناه والأولى بالمرشد أن يقول ما قالت الرسل إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله فقد يكون هذا القدر الذي لهم من الزكاة الإلهية فلهم أخذ زكاة الاعتبار لا زكاة المال فإن الصدقة الظاهرة على الأنبياء حرام لأنهم عبيد والعبد لا يأخذ الصدقة من حيث ما تنسب إلى الخلق فاعلم ذلك‏

[المؤلفة قلوبهم على حب المحسن‏]

والمؤلفة قلوبهم فهم الذين تألفهم الإحسان على حب المحسن لأن القلوب تتقلب فتألفها هو أن تتقلب في جميع الأمور كما تعطي حقائقها ولكن لعين واحدة وهي عين الله فهذا تألفها عليه لا تملكها عيون متفرقة لتفرق الأمور التي تتقلب فيها

[الجداول التي ترجع إلى عين واحدة]

فإن الجداول إذا كانت ترجع إلى عين واحدة فينبغي مراعاة تلك العين والتألف بها فإنه إن أخذته الغفلة عنها ومسكت تلك العين ماءها لم تنفعه الجداول بل يبست وذهب عينها وإذا راعى العين وتألف بها تبحرت جداولها واتسعت مذانبها

[الذين يطلبون الحرية]

وفي الرقاب فهم الذين يطلبون الحرية من رق كل ما سوى الله فإن الأسباب قد استرقت رقاب العالم حتى لا يعرفوا سواها وأعلاهم في الرق الذين استرقتهم الأسماء الإلهية وليس أعلى من هذا الاستراق إلا استرقاق أحدية السبب الأول من كونه سببا لا من حيث ذاته ومع هذا فينبغي لهم أن لا تسترقهم الأسماء لغلبة نظرهم إلى أحدية الذات من كونه ذاتا لا من كونها إلها ففي مثل هذه الرقاب تخرج الزكاة

[الذين أقرضوا الله قرضا حسنا]

والغارمين هم الذين أَقْرَضُوا الله قَرْضاً حَسَناً عن أمره وهو قوله عز وجل آمرا وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً عطف على أمرين واجبين وهما قوله وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وثلث بقوله وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً فالقرض ثالث ثلاثة ولكن ما عين ما تقرضه كما لم يعين ما تزكيه كما لم يعين صلاة بعينها فعمت كل صلاة أمرنا بإقامتها وكل زكاة وكل قرض إلا أنه نعت قَرْضاً بقوله حَسَناً مع تأكيد بالمصدر وسبب ذلك أن الصلاة والزكاة العبد فيهما عبد اضطرار وفي القرض عبد اختيار فمن الناس من أقرض الله قرض اختيار وهو الذي لم يبلغه الأمر به وبلغه إِنْ تُقْرِضُوا الله أو قوله من ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً

فيأخذ الزكاة الغارم الأول الذي أعطى على الوجوب الصدقة بحكم الوجوب أي أنها تجب له ويأخذها الثاني باختيار المصدق حيث ميزه دون غيره ولا سيما في مذهب من يرى في عدد هؤلاء الأصناف أنه حصر المصرف في هؤلاء المذكورين أي لا يجوز أن تعطي لغيرهم فإذا أعطيت لصنف منهم دون صنف فقد برئت الذمة وهي مسألة خلاف فهذا المقرض بآية من ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله وإِنْ تُقْرِضُوا الله لا يأخذها بحكم الوجوب والمقرض بآية الأمر يأخذها بحكم الوجوب لأن المأمور أدى واجبا فجزاؤه واجب وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ فإن الايمان واجب فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ والَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وهذه كلها واجبات فأوجب الجزاء بالرحمة لهم بلا شك‏

[سبيل الله هي سبل الخير كلها المقربة إلى الله‏]

وفي سبيل الله فيمكن إن يريد المجاهدين والإنفاق منها في الجهاد فإن العرف في سبيل الله عند الشرع هو الجهاد وهو الأظهر في هذه الآية مع أنه يمكن أن يريد بسبيل الله سبل الخير كلها المقربة إلى الله فأما هذا الصنف بحكم ما يقتضيه الطريق فسبيل الله ما يعطيه هذا الاسم الذي هو الله دون غيره من الأسماء الحسنى الإلهية فيخرجها فيما تطلبه مكارم الأخلاق من غير اعتبار صنف من أصناف المخلوقين كرزق الله عباده بل ما تقتضيه المصلحة العامة لكل إنسان بل لكل حيوان ونبات حتى الشجرة يراها تموت عطشا فيكون عنده بما يشترى لها ما يسقيها به من مال الزكاة فيسقيها بذلك فإنه من سبيل الله ولا قائل بهذا

[الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر]

وإن أراد المجاهدين فالمجاهدون معلومون بالعرف من هم والمجاهدون أنفسهم أيضا في سبيل الله فيعاونون بذلك على جهاد أنفسهم‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

يريد جهاد النفوس ومخالفتها في أغراضها الصارفة عن طريق الله تعالى‏

[ابن السبيل هو ابن طريق الله‏]

وابن السبيل وأبناء السبيل معلومون وهم في الاعتبار أبناء طريق الله لأن الألف واللام للتعريف فهما بدل من الإضافة ونصيب هؤلاء من الزكاة التي هي الطهارة الإلهية التي ذكرناها فيما قبل‏

(وصل متمم) [زكاة حقوق الله‏]

ثم لتعلم وفقك الله أن الأمور التي يتصرف فيها الإنسان حقوق الله كلها غير أن هذه الحقوق وإن كانت كثيرة فإنها بوجه ما منحصرة في قسمين قسم منهما حق الخلق لله وهوقوله صلى الله عليه وسلم إن لنفسك عليك حقا ولعينك عليك حقا ولزورك عليك حقا

والقسم الآخر حق الله لله وهوقوله صلى الله عليه وسلم لي وقت لا يسعني فيه غير ربي‏

[أصناف الحقوق الثمانية]

وهذا الحق الذي لله هو زكاة الحقوق التي للخلق لله وهذه الحقوق بجملتها في ثمانية أصناف العلم والعمل وهما بمنزلة الذهب والفضة ومن الحيوان الروح والنفس والجسم في مقابلة الغنم والبقر والإبل ومن النبات الحنطة والشعير والتمر

[ما تنبته الأرواح والنفوس والجوارح‏]

وفي الاعتبار ما تنبته الأرواح والنفوس والجوارح من العلوم والخواطر والأعمال الغنم للروح والبقر للنفس والإبل للجسم وإنما جعلنا الغنم للأرواح لأن الله جعل الكبش قيمة روح نبي مكرم فقال وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فعظمه وجعله فداء ولد إبراهيم نبي ابن نبي فليس في الحيوان بهذا الاعتبار أرفع درجة من الغنم وهي ضحايا هذه الأمة أ لا تراها أيضا قد جعلت حق الله في الإبل وهو في كل خمس ذود شاة وجعلت مائة من الإبل فداء نفس ليس برسول ولا نبي فانظر أين مرتبة الغنم من مرتبة الإبل‏

[مرابض الغنم ومعاطن الإبل‏]

ثم‏

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصلاة في مرابض الغنم‏

والصلاة قربة إلى الله وأماكنها مساجد الله فمرابض الغنم من مساجد الله فلها درجة القربة والإبل ليست لها هذه المرتبة وإن كانت أعظم خلقا ولهذا جعلناها للأجسام أ لا ترى أنه من أسمائها البدنة والجسم يسمى البدن والبدن من عالم الطبيعة والطبيعة بينها وبين الله درجتان من العالم وهما النفس والعقل فهي في ثالث درجة من القربة فهي بعيدة عن القرب الإلهي‏

أ لا ترى النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في معاطن الإبل‏

وعلل ذلك بكونها شياطين والشيطنة البعد يقال ركية شطون إذا كانت بعيدة القعر والصلاة قرب من الله والبعد يناقض القرب فنهي عن الصلاة في معاطن الإبل لما فيها من البعد

[الجسم الطبيعي والروح‏]

وكذلك الجسم الطبيعي أين هو من درجة القربة التي للروح وهو العقل فإنه الموجود الأول وهو المنفوخ منه في قوله ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي فلهذا جعلنا الروح بمنزلة الكبش والجسم بمنزلة الإبل‏

[البقر في مقابلة النفوس‏]

وأما كون البقر في مقابلة النفوس وهي دون الغنم في الرتبة وفوق الإبل كالنفس فوق الجسم ودون العقل الذي هو الروح الإلهي وذلك أن بنى إسرائيل لما قتلوا نفسا وتدافعوا فيها أمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوا الميت ببعضها فيحيا بإذن الله فلما حيي‏

به نفس الميت عرفنا إن بينها وبين النفس نسبة فجعلناها للنفس‏

[زرع العقل والنفس والجوارح‏]

ثم إن الروح الذي هو العقل يظهر عنه مما زرع الله فيه من العلوم والحكم والأسرار ما لا يعلمه إلا الله وهذه العلوم كلها منها ما يتعلق بالكون ومنها ما يتعلق بالله وهو بمنزلة الزكاة من الحنطة لأنها أرفع الحبوب وإن النفس يظهر عنها مما زرع الله فيها من الخواطر والشهوات ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهذا نباتها وهو بمنزلة التمر وزكاة الله منها الخاطر الأول ومن الشهوات الشهوة التي تكون لأجل الله وإنما قرناها بالتمر لأن النخلة هي عمتنا فهي من العقل بمنزلة النخلة من آدم فإنها خلقت من بقية طينته وأما الجوارح فزرع الله فيها الأعمال كلها فأنبتت الأعمال وحظ الزكاة منها الأعمال المشروعة التي يرى الله فيها

[وجوب الزكاة في أعمال العقل والنفس والجوارح‏]

فهذه ثمانية أصناف تجب فيها الزكاة فأما العلم الذي هو بمنزلة الذهب فيجب فيها ما يجب في الذهب وأما العمل الذي هو بمنزلة الفضة فيجب فيه ما يجب في الورق وأما الروح فيجب فيه ما يجب في الغنم وأما النفس فيجب فيها ما يجب في البقر وأما الجوارح فيجب فيها ما يجب في الإبل وأما ما ينتجه العقل من المعارف وينبته من الأسرار فيجب فيها ما يجب في الحنطة وأما ما تنتجه النفس من الشهوات والخواطر وتنبته من الواردات فيجب فيه ما يجب في التمر وأما ما تنتجه الجوارح من الأعمال وتنبته من صور الطاعات وغيرها فيجب فيه ما يجب في الشعير

(وصل في اعتبار الأقوات بالأوقات)

اعلم أن الأوقات في طريق الله للعلماء العاملين بمنزلة الأقوات لمصالح الأجسام الطبيعية وكما أن بعض الأقوات هو زكاة ذلك الصنف كذلك الوقت الإلهي هو زكاة الأوقات الكيانية فإن في الوقت أغذية الأرواح كما إن في الأقوات أغذية الأشباح الحيوانية والنباتية وغذاء الجوارح الأعمال‏

[العلم والعمل معدنان‏]

والعلم والعمل معدنان بوجودهما تنال المقاصد الإلهية في الدنيا والآخرة كما إن بالذهب والفضة تنال جميع المقاصد من الأعراض والأغراض فلنبين ما يتعلق بهذا النوع وهذه الأنواع من حق الله الذي هو الزكاة

(وصل في مقابلة وموازنة الأصناف الذين تجب لهم الزكاة بالأعضاء المكلفة من الإنسان)

وهم الفقراء يوازنهم من الأعضاء الفرج ويوازن المساكين البطن ويوازن العاملين القلب ويوازن المؤلفة قلوبهم بالسمع ويوازن الرقاب بالبصر ويوازن الغارمين باليد ويوازن المجاهدين باللسان ويوازن ابن السبيل بالرجل فإن اعتبرت هذه الموازنة بين هؤلاء الأصناف وبين هذه الأعضاء على ما ذكرناه تجد حكمة ما أشرنا إليه فالفقر في الفرج واضح وكذلك المسكنة في البطن ظاهر والعامل بالقلب صريح والمؤلفة قلوبهم بالسمع بين والرقاب بالبصر واقع والغارم باليد إفصاح والمجاهد باللسان صحيح وابن السبيل بالرجل أوضح من الكل‏

(وصل في معرفة المقدار كيلا ووزنا وعددا)

خرج مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة

يريد من الورق‏

[ما ينبته التخلق بالأسماء الإلهية في الإنسان‏]

فجعل الوسق في الحبوب وهي النبات وهو مكيال معروف وهو ستون صاعا فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع وهو ما ينبته التخلق بالأسماء أعني الأخلاق الإلهية من الأخلاق في الإنسان لأنا

قد روينا أن لله ثلاثمائة خلق من تخلق بواحد منها دخل الجنة

وكلها أخلاق يصرفها الإنسان مع المخلوقات ومع من ينبغي أن تصرف معه على حد أمر الله والزكاة منها هو الخلق الذي يصرفه مع الله فإنه أولى من يتخلق معه فإنه من المحال أن يبلغ الإنسان بأخلاقه مرضاة العالم وإيثار جناب الله أولى وهو أن يتخلق مع كل صنف بالخلق الإلهي الذي صرفه الله معه فيكون موافقا للحق‏

[العدد العيني والعدد المعنوي‏]

وقوله ولا فيما دون خمس ذو صدقة فهذا من عدد الأعيان ولا ينعد بالعين إلا العمل لا العلم فإن مقدار العلم معنوي ومقدار العمل حسي‏

[رمزية العدد الأربعين‏]

ولا فيما دون خمس أواق صدقة والأوقية أربعون درهما والأربعون في الأوقية نظير الأربعين صباحا من أخلصها ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فإذا ظهرت من العبد في خمسة أحوال كما هي في الزكاة خمس أواق حال في ظاهره له أوقية وهو إخلاص ظاهر وحال في باطنه مثله وحال في حده مثله وحال في مطلعه مثله وحال في المجموع مثله فهذه خمسة أحوال مضروبة في أربعين يكون الخارج مائتين وهو حد النصاب فيها خمسة دراهم من كل أربعين درهما درهم وهو ما يتعلق بكل أربعين من التوحيد المناسب لذلك النوع ومقادير المعاني والأرواح أقدار من قوله وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ‏

ومقادير المحسوسات من الأعمال أوزان وبالأوزان عرفت الأقدار

(وصل في توقيت ما سقى بالنضح وما لم يسق به)

ذكر البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقى بالنضح نصف العشر وما لم يسق بالنضح العشر

(و اعتباره)

أعمال المراد وأعمال المريد فالمريد مع نفسه لربه فيجب عليه نصف العشر وهو أن يزكي من عمله ما ظهرت فيه نفسه والمراد مع ربه لا مع نفسه فيجب عليه العشر وهو نفسه كله فإنه لا نفس له لرفع التعب عنه وكذلك اعتباره في العلم الموهوب والعلم المكتسب لم يخلص لله منه إلا نصفه والموهوب كله لله والكل عبارة عن قدر الزكاة لا غير وهو ما ينسب إلى الله من ذلك العلم أو العمل وما ينسب إلى العبد من حيث حضور العبد مع نفسه في ذلك العلم أو العمل‏

(وصل في إخراج الزكاة من غير جنس المزكى)

في كل خمس ذود من الإبل شاة

(اعتباره)

ألا لله الدين الخالص فزكاة الأعمال الإخلاص والإخلاص ليس بعمل لافتقاره إلى الإخلاص وهو النية

(وصل في فصل الخليطين في الزكاة)

ذكر الدارقطني عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي والفحل‏

(وصل الاعتبار في ذلك)

قوله تعالى وتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوى‏ فالمعاونة في الشي‏ء اشتراك فيه وهذا معنى الخليطين‏

[معنى الحوض‏]

فالحوض كل عمل أو علم يؤدي إلى حياة القلوب فيستعينا عليه بحسب ما يحتاج كل واحد منهما من صاحبه فيه وهو في الإنسان القلب والجارحة خليطان فالجارحة تعين القلب بالعمل والقلب يعين الجارحة بالإخلاص فهما خليطان فيما شرعا فيه من عمل أو طلب علم‏

[معنى الراعي‏]

وأما الراعي فهو المعنى الحافظ لذلك العمل وهو الحضور والاستحضار مثل الصلاة لا يمكن أن يصرف وجهه إلى غير القبلة ولا يمكن أن يقصد بتلك العبادة غير ربه وهذا هو الحفظ لتلك العبادة والقلب والحس خليطان فيه‏

[معنى الفحل‏]

وأما الفحل فهو السبب الموجب لما ينتجه ذلك العلم أو العمل عند الله من القبول والثواب فهما شريكان في الأجر فتأخذ النفس ما يليق بها مما يعطيه العلم ويأخذ الحس الذي للجسم ما يليق به من حسن الصورة في الدار الآخرة والمعنى الذي أنتج لهما هذا هو الفحل وهما فيه خليطان‏

(وصل فيما لا صدقة فيه من العمل)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في العوامل صدقة ولا في الجبهة صدقة خرج هذا الحديث الدارقطني عن علي رضي الله عنه‏

والعوامل هي الإبل التي يعمل عليها والجبهة الخيل وقد تقدم كلام الزكاة في الخيل‏

(وصل) الاعتبار في ذلك‏

الهياكل عوامل الأرواح لأنها عليها تعمل ما كلفت من العمل وبها يقع العمل منها ولا زكاة على العامل في بدنه وإنما الزكاة على الروح العامل بها وزكاته قصده وتقواه وهو الإخلاص لله في ذلك العمل قال الله تعالى لَنْ يَنالَ الله لُحُومُها ولا دِماؤُها ولكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ‏

(وصل في فصل إخراج الزكاة من الجنس)

خرج أبو داود عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقر من البقر

(وصل الاعتبار في ذلك)

زكاة الظاهر ما قيده به الشرع من الأعمال الواجبة التي لها شبه في المندوب ففريضة الصلاة زكاة النوافل من الصلاة فإنها الواجبة أو صلاة ينذرها الإنسان على نفسه أو أي عبادة كانت وكذلك في الباطن زكاة من جنسه وهو أن يكون الباعث له على العبادة خوف أو مع والزكاة في الباعث الباطن من ذلك أن تكون ما تستحقه الربوبية من امتثال أمرها ونهيها لا رغبة ولا رهبة الأوقاص‏

(وصل في ذكر ما لا يؤخذ في الصدقة)

ذكر أبو داود في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق‏

(وصل الاعتبار في ذلك)

الهرمة مثل قوله تعالى وإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ وقال ليصل أحدكم‏

نشاطه ولا ذات عوار

وهو العمل بغير نية أو نية بغير عمل مع التمكن من العمل وارتفاع المانع وأما مشيئة المصدق في تيس الغنم فاعتباره أن لا يجحف على صاحب المال وهو الحضور في العمل من أوله إلى آخره فربما يقول لا يقبل العمل إلا هكذا ويكفي في العمل النية في أول الشروع ولا يكلف المكلف أكثر من هذا فإن استحضر المكلف النية في جميع العمل فله ذلك وهو مشكور عليه حيث أحسن في عمله وأتى بالأنفس في ذلك والجامع لهذا الباب اتقاء ما يشين العبادات مثل الالتفات في الصلاة والعبث فيها والتحدث في الصلاة في النفس بالمحرمات والمكروهات وتخيلها وأمثال هذا مما هو مثل الجعرور ولون الحبيق في زكاة التمر وأمثال ذلك من العيوب‏

(وصل في فصل زكاة الورق)

[الورق هو العمل والذهب هو العلم‏]

قد تقدم أن الورق هو العمل وأن الذهب هو العلم والزكاة في العمل الفرض منه والزكاة في العلم أيضا الفرض منه فإن نوافل الأعمال والعلوم كثيرة وهي التي زكاتها الفرائض لكون الزكاة واجبة وما كان من النوافل صدقة تطوع فهي حضور العبد في ذلك العمل من الشروع فيه إلى آخره وزكاة أخرى أعني زكاة تطوع وهو أن يقصد بعمله ذلك تكملة الفرائض‏

[إكمال الفرائض من النوافل‏]

فإنه‏

ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال الله أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه قال ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم‏

يعني الزكاة والصوم والحج وما بقي من الأعمال الواجبة عليه فأما إن يقصد بعمله تلك النافلة تكملة الفرائض أو تعظيم جناب الحق بدخوله في عبودية الاختيار لا يحمله على ذلك طمع في جنة ولا خوف من نار

(وصل في فصل زكاة الركاز)

خرج مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الركاز الخمس‏

وهو ما يوجد من المال في الأرض من دفن الجاهلية أو الكفار

(وصل الاعتبار في ذلك)

ما هو مركوز في طبيعة الإنسان هو الركاز وهو حب الرئاسة والتقدم على أبناء الجنس وجلب المنافع ودفع المضار والخمس فيه‏

[زكاة الرئاسة والتقدم على أبناء الجنس‏]

إذا وجد الرئاسة في قلبه فليقصد بها إعلاء كلمة الله على كلمة الذين كفروا كما هي في نفس الأمر فإن في نفس الأمر كلمة الله هي العليا وكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى‏ والكفر هنا هو الشرك لا غيره وكما

ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيلاء في الحرب في شأن أبي دجانة حين أخذ السيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه فمشى به مصلتا خيلاء بين الصفين فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الصورة قال هذه مشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن‏

وزكاتها ما ذكرناه من قصد إهانة الكفار والحط من قدرهم وإعلاء كلمة الله التي هي الإسلام وعدم المبالاة بالمشركين‏

[زكاة جلب المنافع ودفع المضار]

وكذلك جلب المنافع ودفع المضار فزكاة جلب المنافع أن يقصد بالمنفعة المعونة له على القيام بطاعة الله من نوم أو أكل أو شرب أو راحة أو ادخار مال وأمثال ذلك وأما دفع المضار أن لا يدفعها إلا من أجل أنها تحول بينه وبين ما يريده من إقامة طاعة الله ودينه وما يؤول إليه من السعادة في الآخرة فذلك خمس ركازها فإن قلت كيف يضر بدينه فأعني به إن لم يدفع تلك المضرة عن نفسه وإلا حالت بينه وبين أداء فرض من فرائض الله أو حالت بينه وبين أسباب الخير فدفعها خمس ركازها ما في جبلتها من دفع مضار لا تؤدي إلى تعطيل فرض تعين عليه أداؤه أو مرغب فيه وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الركاز فقال هو الذهب الذي يخلق الله في الأرض يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ‏

يعني المعادن‏

(وصل في فصل من رزقه الله مالا من غير تعمل فيه ولا كسب)

ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حصول مثل هذا المال لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول‏

وهو في يده‏

وجه اعتبار ذلك‏

ما يظهر على العبد من مكارم الأخلاق مما لا يأتيها على جهة القربة إلى الله فإنه ينتفع بذلك في الدار الآخرة ولا يلزمه أن ينوي بها القربة إلى الله ولا بد ولكن بلا خلاف إن نوى بذلك القربة فهو أولى وأفضل في حقه والحديث الوارد في ذلك‏

ما ذكره أبو داود عن ضباعة بنت الزبير قالت ذهب المقداد لحاجته فإذا جرذ يخرج من‏

جحر دينارا ثم لم يزل يخرج دينارا دينارا حتى أخرج سبعة عشر دينارا ثم أخرج دينارا ثم أخرج خرقة حمراء فيها دينار فكانت تسعة عشر دينارا فذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال له خذ صدقتها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل قربت الجحر قال لا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيها

(وصل في فصل زكاة المدبر)

قال الراوي رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع‏

(وصل في الاعتبار فيه)

إذا حدث الإنسان نفسه في نفسه بأن يعمل خيرا أو يأتي خلقا كريما من مكارم الأخلاق فلينو بما حدث به نفسه من ذلك القربة إلى الله‏

(وصل في فصل الصدقة قبل وقتها)

وقال به بعض الأئمة

لحديث أبي داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له‏

وقال مرة فاذن له تكلم في هذا الحديث ولو صح فهي رخصة في قضية عين لا يقاس عليها

(وصل في اعتبار ذلك)

نية الصلاة الواجبة على المكلف لا تجب إلا عند الشروع فيها فإن نواها الإنسان قبل ذلك من حين شروعه في الوضوء ثم استصحب النية إلى أن شرع في الصلاة جاز له ذلك وحصل على خير كثير ولكن لا تجزيه الصلاة المقيدة بالوقت قبل دخول الوقت إلا في مذهب من يرى الجمع بين الصلاتين في أول الوقت فلا يبعد أن يجوز تعجيل الصدقة والاسترواح في مثل هذا من قوله أُولئِكَ يُسارِعُونَ في الْخَيْراتِ وهُمْ لَها سابِقُونَ‏

[النظر إلى المخطوبة]

ومثاله أيضا في الاعتبار من جاز له النظر إلى المخطوبة فامتنع من ذلك حياء من الله وحذرا أن يزيد في النظر على قدر الحاجة فلم يفعل حتى عقد عليها وعندي في النظر إلى المخطوبة تقسيم وهو إن كانت المخطوبة من ذرية الأنصار ولم ينظر إليها قبل العقد فهو عاص وإن نظر إلى وجهها قبل العقد كان نظره قربة إلى الله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وأما غير الأنصارية فلا وإن نظر فهو أولى إذا خطب‏

[البسملة في كل سورة مفتاحها]

وأما ما ذكرناه من الجمع بين الصلاتين إذا ضم الثانية إلى الأولى فهو في الباطن أن يجد في البسملة روح الفاتحة أو السورة التي يريد قراءتها فإن البسملة في كل سورة مفتاحها

(وصل في فصل زكاة الفطر)

اختلف العلماء في حكم زكاة الفطر فمن قائل إنها فرض ومن قائل إنها سنة ومن قائل إنها منسوخة بالزكاة

(اعتبار الفطر)

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ أ ولم يروا أَنَّ السَّماواتِ والْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما والفطر الفتق ومنه كل مولود يولد على الفطرة

[أول فتق الأسماء والألسنة ومعى الصائمين وأهل الجنة]

وأول ما فتق الله إسماع المكونات في حال إيجادها وهي حالة تعلق القدرة بين العدم والوجود بقوله كن فتكونوا بأنفسهم عند هذا الخطاب امتثالا لأمر الله وتلك كلمة الحضرة وأول ما فتق أسماعهم به وهم في الوجود الأول قوله أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ف قالُوا بَلى‏ فهذا خصوص بالبشر والتكوين عموم وأول ما فتق به ألسنتهم بقولهم بلى وأول ما فتق معي الصائمين ما أكلوه يوم عيد الفطر قبل الخروج إلى المصلي وأول ما فتق به معي أهل الجنة أكلهم زيادة كبد النون‏

[ما ينبغي للعبد معرفته في صدقة الفطر يوم العيد]

فينبغي للعبد في صدقة الفطر يوم العيد أن الصفة الصمدانية لا تنبغي إلا لله تعالى فإن الصوم لله لا للعبد وهذه الزكاة فرض على كل إنسان حر أو عبد صغير أو كبير ذكر أو أنثى أن يعرف ما تستحقه الربوبية من صفة الصمدانية ثم إنها لا تجزى عندنا إلا من التمر والشعير غير ذلك لا يجزي فيها وعند الجمهور من العلماء تجوز من المقتات به وهي مسألة خلاف‏

[قوت الأشباح وقوت الأرواح‏]

والقوت ما تقوم به هذه النشأة الطبيعية وقوت الأرواح ما تتغذى به من علوم الكشف أو الايمان خاصة فإن بهذا القدر من العلم تقوم نشأة الأرواح الناطقة وزكاتها علم الكشف خاصة

(وصل في فصل وجوبها على الغني والفقير والحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير)

أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل اثنين صغير أو كبير

(اعتباره)

متعلم وعالم‏

[الحرية والعبودية]

وقوله حر أو عبد

اعتباره‏

من تحرر عن رق الأكوان فكان وقته شهوده كونه حرا عنها أو عبدا من كان وقته شهود العبودية من غير نظر

إلى الأكوان‏

[الذكورة والأنوثة]

وقوله ذكر أو أنثى‏

اعتباره‏

في الذكر العقل وفي الأنثى النفس ويعتبر فيهما أيضا في الذكر الناظر في العلم الإلهي وفي الأنثى الناظر في علم الطبيعة فنسب كل ناظر إلى مناسبه من جهة ما هو ناظر فيه‏

[الغنى والفقر]

وقوله غني أو فقير

اعتباره‏

غني بالله أو فقير إلى الله‏

[الأمداد الأربعة والأخلاط الأربعة والأطوار الأربعة والنسب الأربعة]

وقوله صاعا من تمر الصاع أربعة أمداد نشأته صاعه من أربعة أخلاط لكل ركن أو خلط مد لكمال نشأته روحا وعقلا وجسما ومرتبة ثم شهوده فيها الأربع النسب التي يصف بها ربه في إيجاد عينه وأصول كونه من حياة وعلم وإرادة وقدرة لكل صفة مد ليكون الجملة صاعا إذ بهذه النسب يصح كونه ربا وكونك مربوبا عبدا لله تعالى‏

(وصل في فصل إخراج زكاة الفطر عن كل من يمونه الإنسان)

ذكر الدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون‏

(وصل الاعتبار في ذلك)

الأستاذ يقصد بالتلميذ في التربية ما لا يبلغه علم التلميذ حتى يحصل له ما قصد به الشيخ من الفائدة فذلك زكاة تعليمه فإن فضل ذلك المنوي يعود على التلميذ فكان التلميذ أعطاه الأستاذ لما يعود عليه من الفضل فقد يفتح على الأستاذ بصدق التلميذ فيما ليس عنده وينجر في هذه المسألة الولي يزكي مال اليتيم الذي في حجره وتحت نظره‏

(وصل في فصل إخراجها عن اليهودي والنصراني)

ذكره أبو الحسن الدارقطني رحمه الله في كتابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني إخراج زكاة الفطر عن اليهودي والنصراني‏

(الاعتبار في ذلك)

نية الخير في العمل فيمن ليس من جنسك يعود فضله عليك وأنا مؤمن بما هو اليهودي والنصراني به مؤمن مما هو حق في دينه وفي كتابه من حيث إيماني بكتابي قال تعالى والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُسُلِهِ فمن هناك يخرجها عنه فإني ممن أمونه أيضا فإن كتابي يتضمن كتابه وديني يتضمن دينه فدينه وكتابه مندرج في كتابي وديني‏

[النفس إذا أشركت في العمل طلب حظها]

النفس إذا أشركت في العمل طلب حظها فهي بمنزلة اليهودي والنصراني اللذين يقولان إن عزيرا ابن الله والمسيح ابن الله ويجب على المؤمن إخراج الزكاة عنها وهي بهذه الصفة

فإن النبي عليه السلام قام إلى جنازة يهودية وقال أ ليست نفسا

[النصراني مشتق من النصرة واليهودي من الهدى‏]

فهذا اعتبار إخراج الزكاة عن اليهودي والنصراني هذا إذا اعتبرت المعنى فإذا اعتبرت اشتقاق اللفظ من النصرة والهدى فالزكاة عنهما القصد بها وجه الله لا غير ذلك انتهى الجزء الثاني والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فصل وقت إخراج زكاة الفطر)

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى المصلي‏

(الاعتبار في ذلك)

المسارعة في إيصال الراحات إلى المفتقرين إليها وحينئذ يخرج إلى المصلي وهو قوله فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً والمصلي يناجي ربه وهو خارج إلى المصلي فذلك خير له وأطهر

(وصل في فصل المتعدي في الصدقة)

قال الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال المتعدي في الصدقة كمانعها خرجه أبو داود

(الاعتبار في ذلك)

لنفسك عليك حق ولعينك عليك حق فإذا كلفتها فوق طاقتها أعللتها فادى ذلك إلى تعطيل خير كثير فكنت بمنزلة المانع من الخير في عين ما تريده من الخير وأنت تعلم أن النفس إنما هي بهذه الجوارح فإذا تعطلت الآلات وضعفت عن العمل بحملها الأول على الشدائد من العمل كنت كالمانع عن العمل ولنا في هذا المعنى‏

ما يفعل الصنع التحرير في شغل *** آلاته أذنت فيه بإفساد

والزيادة في الحد نقص من المحدود

(وصل في فصل زكاة العسل)

ذكر الترمذي عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العسل في كل عشرة أزقاق زق‏

(الاعتبار في ذلك)

العلم الذي يأخذه الولي من طريق الوحي مما يتعلق بالغير يجب عليه إذاعته لأهله فإنه من أجلهم أعطيه وإنما خصصناه بالوحي دون غيره من الصفات إذ صفات تحصيل العلم كثيرة لأنا شبهناه بالعسل وهو نتيجة وحي قال تعالى وأَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ فزكاته تعليمه‏

(وصل في فصل الزكاة على الأحرار لا على العبيد)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق ذكره الدارقطني من حديث جابر

(الاعتبار في ذلك)

كما لا يجوز للعبد أن يأخذ الصدقة قيل ولهذا منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة لتحققه بعبوديته فلم يخرج منه صلى الله عليه وسلم شي‏ء في حركة ولا سكون يكون به حرا بغفلة ولا غير غفلة جملة واحدة واجتبى آله عناية به في هذا الحكم فكذلك لا يجب في ماله زكاة حتى يكون حرا فإن العبد لا يملك مع سيده وعلة الزكاة على الحر دعوى الملك والعبد لا دعوى له في شي‏ء العبد عين قيمته وهو ثمنه الذي اشترى به فكما لا يتصور في ثمنه دعوى ولا إباية فيما يريده السيد من التصرف فيه كذلك العبد وكل عبد لم يكن نظره في ثمنه في معاملة سيده فلا تحقق له في عبوديته ولا معرفة له بنفسه هذا مذهب الطائفة بلا خلاف‏

[أصل الظهور الدعوى‏]

وإذا كان العبد مع سيده بهذه المثابة غاب العبد وظهر السيد فإن أصل الظهور الدعوى ويكون السيد في هذه الحال يقوم عند الغير بصفة العبد تشريفا للعبد وهوقوله تعالى جعت فلم تطعمني ومرضت فلم تعدني وهما من صفة العبيد الجوع والمرض وكذا قال الله في الجواب مرض فلان فلم تعده فلو عدته لوجدتني عنده‏

فالله عند عبد هذه صفته والعبد إذا كانت هذه صفته كان عند ربه فافهم‏

(وصل في فصل أين تؤخذ الصدقات)

خرج أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لا تؤخذ إلا في دورهم‏

(اعتباره)

دار الإنسان جسمه وأخذ الصدقات من الأرواح الإنسانية إنما هو في الدار الآخرة فلا بد من حشر الأجسام فإنه لا تؤخذ الصدقات ممن وجبت عليه إلا في داره وليس لأرواح الأناسي ديار إلا أجسامهم‏

(وصل في فصل أخذ الإمام شطر مال من لا يؤدي زكاة ماله بعد أخذ الزكاة منه)

ذكر أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أخذ الزكاة ومن منعها فأنا آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا

الحديث‏

(اعتباره)

ما يملكه الإنسان من أعماله ينقسم قسمين قسم يختص بنفسه وقسم يختص بجوارحه والزكاة التي تجب عليه في عمله هو ما فرض الله عليه من أعماله مندوبها ومباحها فإذا لم يؤد زكاة ماله نظر الله في أعماله التي عملها في الوقت الذي وجب عليه فيه أداء فرض الله فإن كان من مكارم الأخلاق لم يجازه عليها بما يستحقه من الثواب ومسك ذلك الثواب عنه عن زكاة عمل وقته وإن كان من سفسافها ضاعف عليه الوزر فإنه صاحب عمل مذموم في حال تركه لأداء ما وجب عليه فجمع بين أمرين مذمومين عمل وترك وإن كان في فعل مباح أخذ بترك الواجب خاصة

[أخذ شطر المال من مانع الزكاة]

وأما أخذ شطر عمله فهو الشطر الذي يتصور فيه الدعوى وهو العمل فإن التكليف ينقسم إلى عمل وترك فالترك لا دعوى فيه فيبقى العمل فيأخذه الحق منه بالحجة بأن الله هو الفاعل لذلك العمل فإذا كوشف بهذا لم يبق له على ما يطلب جزاء إذا الجزاء من كونه عاملا وقد تبين له أن العامل هو الله فيبقى في الحيرة إلى أن يمتن الله عليه إما بعد العقوبة أو قبل العقوبة فيغفر له فهذا شطر ماله الذي يؤخذ منه في الدار الآخرة حيث يتصور الحساب‏

(وصل في فصل رضي العامل على الصدقة)

ذكر الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن أنس قال أتى رجل من بنى سليم فقال يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها على من بدلها

وذكر أبو داود من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلا نفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن‏

تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم‏

وفي حديثه أيضا عن بشير بن الخصاصية قال فقلنا يا رسول الله إن أصحاب الصدقة يعتدون علينا أ فنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا قال لا

(وصل الاعتبار في ذلك)

المصدق هو الوقت ورضاه أن يوفي له بما يقتضيه حاله مما جاء به وإن جاء بشدة وقهر مثل ما يجد الإنسان من خاطر في عمل من الأعمال أي من أعمال الخير إلا أنه شاق ربما أدى إلى تلف فكان أبو مدين رضي الله عنه يقول فيه الدية على القاتل قال تعالى في المهاجر ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وصورة التعدي فيه إن الله قد جعل لنفسك عليك حقا ولعينك عليك حقا فاعتديت عليك في ذلك وهو قوله في المصطفين فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فالمتعدي هو الوقت وهو الخاطر الذي يخطر بما خطر وهو المتعدي وهو العادل‏

(وصل في فصل المسارعة بالصدقة)

فإن مسلم بن الحجاج ذكر في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال تصدقوا فيوشك الرجل يمشي بصدقته فيقول الذي أعطيها لو جئتنا بها بالأمس قبلتها وأما الآن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها

(وصل الاعتبار في ذلك)

المسارعة بالتوبة وهي من الفرائض فإن أخرها إلى الاحتضار لم تقبل وهنا مسألة دقيقة القليل من أصحابنا من يعثر عليها

[أصعب الأحوال على قلب المراد المجذوب‏]

وهي أن المراد قد يكون غير تائب فيكون له كشف من الله عناية به فيكون أول ما يكشف له أن الله هو خالق كل شي‏ء فلا يرى لنفسه حركة ظاهرة وباطنة ولا عملا ولا نية ولا شيئا إلا الله ليس بيده من الأمر شي‏ء فهل تتصور منه توبة في هذه الحال أم لا وهو يرى أنه مسلوب الأفعال وإن تاب فهل تقبل توبته مع هذا الكشف أو يكون بمنزلة من تاب بعد طلوع الشمس من مغربها فإن شمس الحقيقة قد طلعت له هنا من مغرب قلبه بصحة علمه وهذا من أصعب الأحوال على قلب المراد المجذوب فإن قبول التوبة وقبول العمل إنما هو مع الحجاب حجاب إضافة العمل إليك وهنا ما خرج شي‏ء عنه حتى يقبله بل هو في يديه والقبول لا يكون إلا من الغير

[نسبة الناظر ونسبة العامل‏]

فاعلم إن نسبة الناظر ما هي نسبة العامل فالناظر يقبل من العامل والعامل هو المتصرف في هذه الذات التي هي محل ظهور العمل أي عمل كان فتتصور التوبة من صاحب هذا الكشف ويكون الله هو التواب هنا وهذا أقصى مشهده فليسارع إلى الطاعات على أي حال كان ولا يتوقف فإن الأنفاس ليست له ولا تكليف إلا هنا ويوم القيامة إذ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ سجود تمييز لا سجود ابتلاء فيتميز في دعاء الآخرة إلى السجود من سجد لله ممن سجد اتقاء ورياء وفي الدنيا لم يتميز لاختلاط الصور

(وصل في فصل ما تتضمنه الصدقة من الأثر في النسب الإلهية وغيرها)

فمن ذلك قوله تعالى وما أَنْفَقْتُمْ من شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا

[الهوية عين الذات وتخلف المتصدق به‏]

فانظر يا أخي كيف جعل هويته خلفا من نفقتك وإنك أحييت من تصدقت عليه فأحياك الله به حياة أبدية لأنه إن لم يكن الحق حياتك فلا حياة فإن قلت لو كان ذلك النصب الياء ورفع اللام قلنا الهوية عين الذات والهوية تخلف الشي‏ء المتصدق به باسم إلهي تكون به حياة ذلك المنفق وأسماؤه ليست غيره ولكن هكذا تقع العبارة عنها لما يعقل في ذلك من اختلاف النسب وكلامنا في هذه المعاني إنما هو مع أصحابنا الذين قد علموا ما نقول ونشير به إليهم على ما تقرر عندنا في الاصطلاح في ذلك فالأجنبي لا يقبل اعتراضه‏

[لسان الملائكة لسان خير]

أ لا ترى الملك يقول اللهم أعط منفقا خلفا مع أنه وعد بالخلف ووعده صدق والإنفاق هنا من الهلاك والإتلاف أي أتلف ما كان عنده عنه ولا خلاء فاجعل مكانه ما يناسب أثره فيمن أتلف من أجله فله أجر من أحيا أ لا ترى الآخر يقول اللهم أعط ممسكا تلفا لأن الملائكة لسان خير فيقول هذا الملك اللهم أعط ممسكا ما أعطيت المنفق حتى يتلف ماله مثل صاحبه فكأنه يقول اللهم ارزق الممسك الإنفاق حتى ينفق فإن كنت لم تقدر في سابق علمك إن ينفقه باختياره فأتلف ماله حتى تأجره فيه أجر المصاب فنصيب خيرا وأنت قد قلت ولِلَّهِ يَسْجُدُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً فهذا قد تلف ماله كرها فأعد عليه ثوابا ممن وجد به راحة وإن لم يقصدها هذا الذي رزئ في ماله بالتلف فهذا دعاء له بالخير لا ما يظنه من لا معرفة له بمراتب‏

الملائكة فإن الملك لا يدعو بشر ولا سيما في حق المؤمن بوجوده فكيف بتوحيده فكيف بما جاء من عنده‏

[دعاء الملك مجاب‏]

ولا شك أن دعاء الملك مجاب لوجهين الواحد لطهارته والثاني إنه دعاء في حق الغير فهو دعاء لصاحب المال بلسان لم يعصه به وهو لسان الملك إذ هذا موجود في لسان بنى آدم مع كونهم عصاة الألسنة ولكن‏

قال الله تعالى لموسى عليه السلام ادعني بلسان لم تعصني به فقال وما هو قال دعاء أخيك لك ودعاؤك له فإن كل واحد منكما ما عصاني بلسان غيره الذي دعاني به في حقه فما دعاني له إلا بلسان طاهر

وأضاف الدعاء إليه لأن الداعي نائب عن المدعو له ولسان الداعي ما عصى الله به المدعو له‏

[إنفاقك جعل الحق ينفق عليك‏]

ومن ذلك أيضا ما

خرجه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قال لي أنفق أنفق عليك‏

فقد أخبر الله تعالى أن إنفاقك جعل الحق ينفق عليك فهذا من أثر الصدقة في النسبة الإلهية

[الصدقة تطفئ غضب الرب‏]

ومن ذلك ما

ذكره الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع عن ميتة السوء

وهو حديث حسن غريب فهذا من أثر الصدقة الدفع وإطفاء نار الغضب فإن الله يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله على الوجه الذي يليق بجلاله فإن الغضب الذي خاطبنا به معلوم بلا شك ولكن نسبته إلى الله مجهولة لا إن الغضب مجهول أو يحمل على ما ينتجه في الغاضب أو يحمل على معنى آخر لا نعلمه نحن إذ لو كان ذلك لخوطبنا بما لا نفهم فلا يكون له أثر فينا ولا يكون موعظة فإن المقصود الإفهام بما نعلم ولكن إنما جهلنا النسبة خاصة لجهلنا بالمنسوب إليه لا بالمنسوب فاعلم ذلك‏

[ما جرى لبعض شيوخ ابن عربى بالمغرب الأقصى‏]

ولقد جرى لبعض شيوخنا من أهل الموازنة بالمغرب الأقصى أن السلطان رفع إليه في حقه أمور يجب قتله بها فأمر بإحضاره مقيدا وينادي في الناس أن يحضروا بأجمعهم حتى يسألهم عنه وكان الناس فيه على كلمة واحدة في قتله والقول بما يوجب ذلك وزندقته فمر الشيخ في طريقه برجل يبيع خبزا فقال له أقرضني نصف قرصة فأقرضه فتصدق بها على شخص عابر ثم حمل وأجلس في ذلك الجمع الأعظم والحاكم قد عزم عليه إن شهد فيه الناس بما ذكر عنه أنه يقتله شر قتلة وكان الحاكم من أبغض الناس فيه فقال يا أهل مراكش هذا فلان ما تقولون فيه فنطق لكل بلسان واحد إنه عدل رضي فتعجب الحاكم فقال له الشيخ لا تعجب فما هي هذه المسألة بعيدة أي غضب أعظم غضبك أو غضب الله وغضب النار قال غضب الله وغضب النار قال وأي وقاية أعظم وزنا وقدرا نصف قرصة أو نصف تمرة قال نصف قرصة قال دفعت غضبك وغضب هذا الجمع بنصف رغيف لما

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول اتقوا النار ولو بشق تمرة

وقال إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء

وقد فعل الله ذلك دفع عني شركم وميتة السوء بنصف رغيف مع حقارتكم وعظم صدقتي فإن صدقتي أعظم من شق تمرة وغضبكم أقل من غضب النار وغضب الرب فتعجب الحاضرون من قوة إيمانه‏

[أسوأ الموتات‏]

وأسوأ الموتات أن يموت الإنسان على حالة تؤديه إلى الشقاء ولا يغضب الله إلا على شقي فانظر إلى أثر الصدقة كيف أثرت في الغضب الرباني وفي أسوأ الموتات وفي سلطان جهنم فالمتصدق على نفسه عند الغضب ليس إلا بأن يملكها عند ذلك فإن ملكه إياها عند الغضب صدقة عليها من حيث لا يشعر

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب‏

فإن الغضب نار محرقة فهذا من صدقة الإنسان على نفسه‏

[اتقاء النار بالصدقة وبالكلمة الطيبة]

ثم إن الله قد ذكر أنه لا يغفر لمشرك ومع هذا فإن الله يهون عليه بقدر ما أنفق وقد ذكر أبو داود عن عائشة قالت يا رسول الله أين عبد الله بن جدعان قال في النار قال فاشتد عليها فقال يا عائشة ما الذي اشتد عليك قالت كان يطعم الطعام ويصل الرحم قال أما أنه يهون عليه بما تقولين فيه إنه يخفف عنه بمجرد ما يذكر به من مكارم الأخلاق‏

وقال البخاري في صحيحه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة

وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الكلمة الطيبة صدقة وكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة

وغير ذلك من الأذكار والأفعال التي تقتضيها مكارم الأخلاق ولقد ذكر مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دينار أنفقته في سبيل الله دينار أنفقته في رقبة دينار تصدقت به على مسكين دينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك‏

(وصل في فصل من أنفق مما يحبه)

قال الله عز وجل لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وكان عبد الله بن عمر يشتري السكر ويتصدق به ويقول إني أحبه عملا بهذه الآية وأحب ما للإنسان نفسه فإن أنفقتها في سبيل الله نال بذلك ما في موازنتها فإنه من استهلك شيئا فعليه قيمته والحق قد استهلك نفس هذا العبد فإنه أمرك بإنفاق ما تحب وما لها قيمة عنده إلا الجنة ولهذا إذا لم نجد شيئا وجدت الله فإنه لا يوجد إلا عند عدم الأشياء التي يركن إليها ونفس الإنسان هي عين الأشياء كلها وقد هلكت فقيمتها ما ذكرناه فانظر إلى فضل الصدقة ما أعلاه‏

(وصل في فصل الإعلان بالصدقة)

من الاسم الظاهر والاستفتاح بها من الاسم الأول والتأسي بها من قوله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ومسألة الإمام الناس لذوي الفاقة إذا وردوا عليه وليس عنده في بيت المال ما يعطيهم هو القلب الخالي من العلم الذي تتعدى منفعته للغير من جوارحه ومن يحسن الظن به فيسأل الأسماء الإلهية لتعطيه من الأحوال والعلوم ما تستعين بها قواه الظاهرة والباطنة على ما كلفها الله من الأعمال‏

[القلب مسئول عن رعيته‏]

فإن الله أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يصبح على كل سلامي كل يوم صدقة وجعل كل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة

إلى غير ذلك وهذه أحوال تحتاج إلى نية وإخلاص ولا تكون النية إلا بعد معرفة من يخلص له وهو الله تعالى فلا بد للإمام أن يسأل ما يتصدق به على كل سلامي وعن كل سلامي والقلب مسئول عن رعيته وهي جميع قواه الظاهرة والباطنة والحديث الجامع النبوي لما قررناه واعتبرناه ما خرجه مسلم عن جرير بن عبد الله‏

قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار متقلدين السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فاذن وأقام فصلى بهم ثم خطب فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً واتَّقُوا الله الَّذِي تَسائَلُونَ به والْأَرْحامَ إِنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال فجاء رجل بصرة من الأنصار تكاد كفه تعجز عنها بل عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أوزارهم شيئا

(وصل في فصل شكوى الجوارح إلى الله النفس والشيطان مما يلقيان إليهن من السوء)

أهل الكشف يرون ويسمعون شكوى الجوارح إلى الله تعالى من النفس الخبيثة التي تدبر البدن وتصرف الجوارح في السوء مما يلقي إليها الشيطان والنفس من حيث هيكلها النوري تشكو النفس لنفس الحيوانية القابلة ما يلقي إليها الشيطان من السوء الذي تصرفه في القوي الظاهرة والباطنة فإذا صدقوا في شكواهم آمنهم الله مما يخافون ورزقهم قبول ما يلقي إليهم الملك واستعملهم التوفيق بذلك الإلقاء في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله حتى تورثه تلك الأعمال مشاهدة الحق تعالى ومناجاته على الكشف والشهود بلا واسطة يخاطبهم خطاب تقرير على نعم وآلاء

[العامة العمي من أهل الحروف لا يسمعون شكوى الجوارح‏]

والعامة العمي من أهل الحروف والرسوم لا يشعرون صم بكم عمي فهم لا يعقلون ولا يسمعون هذه الشكوى لقوة صممهم وطمس عيونهم فلو عملوا بما كلفوا لعلمهم الله مثل هذا العلم ويرونه مشاهدة عين كما يراه ويناله أهل الله تعالى ويقول الله تعالى في حق واحد منهم وعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً واتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله وإِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ويَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ به‏

[فتح كنوز كسرى‏]

وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ما ذكرناه في حديث يعم ما وقع في الدنيا والإشارة به إلى ما ذكرنا وهو ما

خرجه البخاري عن أخي جدنا عدي بن حاتم قال بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتى إليه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتى إليه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة قلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال فإن طالت بك حياة لترين‏

الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله قلت فيما بيني وبين نفسي فأين ذعار طي الذين قد سعروا البلاد ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسرى بن هرمز قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج مل‏ء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول له أ لم أبعث إليك رسولا فيبلغك فيقول بلى فيقول أ لم أعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم قال عدي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة

الحديث‏

[الأمان من الخوف الأعظم‏]

أما قوله لا تخاف أحدا إلا الله فهو الخوف الأعظم فإنه هو المسلط وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فأين الأمان فهذا تنبيه إدبارنا فإن الشخص الذي يكون في مثل هذه الحال هو في أمان في دنياه وفي ماله وعلى نفسه ممن يؤذيه وهذا مقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله هو الذي رزقه الأمان في تلك الحال فيخاف من الله مما في غيبه مما لا يعلمه ولا يعلم أوانه ولو كان هذا الخائف يخاف الله مطلقا لتعلق خوفه على دينه فإن سبيل الشيطان إلى قلبه ليست آمنة كما أمنت السبيل الظاهرة التي تمر فيها السفار من الناس وإذا خاف الله شغله خوفه عن ماله ونفسه ولو لم تكن السبيل آمنة لكان هذا الخائف في أمان فإنه لا يخطر له خاطر إلا في دينه الذي يخاف عليه أن يسلبه حتى أنه لو أصيب في طريقه بتلف مال أو نفس لوقوع لصوص عليه ربما فرح بذلك واستبشر لما له فيه من الأجر الجزيل المدخر والكفارات وكان حكمه حكم تاجر باع بنسيئة بربح كثير فما أحسن تشبيه النبوة بقوله لا تخاف أحدا إلا الله فأين الأمان وهو صلى الله عليه وسلم ما ذكر ذلك لعدي إلا في إن الأمان المعتاد حاصل في ذلك الوقت لما شكا الرجل من قطع السبيل ولكن أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمان الخوف من الله لأولي الألباب والنهي ليعم الخطاب العامة بالأمان والخاصة بالخوف فهو تبين أحوال خاصة الله أي كونوا على مثل هذه الحالة في أمنكم خائفين من الله تعالى وهذا من جوامع الكلم لمن نظر واستبصر

(وصل في فصل الصدقة على الأقرب فالأقرب ومراعاة الجوار في ذلك)

[أقرب أهل الشخص إليه نفسه‏]

أقرب أهل الشخص إليه نفسه فإن الله يقول في قربه من عبده إنه أقرب إليه من حَبْلِ الْوَرِيدِ فكأنه يقول إنه أقرب إليه من نفسه فهي أولى بما يتصدق به من غيرها كما إن الله أولى بالقرض لأنه أقرب إليه من نفسه ولكل متصدق عليه صدقة تليق به من المخلوقين ثم جوارحه ثم الأقرب إليه بعد ذلك وهو الأهل ثم الولد ثم الخادم ثم الرحم والجار كما يتصدق على تلميذه وطالب الفائدة منه وإذا تحقق العارف بربه حتى كان كله نورا وكان الحق سمعه وبصره وجميع قواه كان حقا كله فمن كان أهل الله فإنه أهل هذا الشخص الذي هذه صفته بلا شك كما هم أهل القرآن أهل الله وخاصته كذلك من هم أهل الله وخاصته هم أهل هذا الذي ذكرناه فإنه حق كله كما

قال صلى الله عليه وسلم في دعائه واجعلني نورا

لما رأى الحق سمي نفسه نورا فإنه نائب الله في عباده فالمتصدق على أهل الله هو المتصدق على أهله إذا كان المتصدق بهذه المثابة

[الأقربون إلى الله أولى بالمعروف‏]

كنت يوما عند شيخنا أبي العباس العربي بإشبيلية جالسا وأردنا أو أراد أحدا عطاء معروف فقال شخص من الجماعة للذي يريد أن يتصدق الأقربون أولى بالمعروف فقال الشيخ من فوره متصلا بكلام القائل إلى الله فيا بردها على الكبد وو الله ما سمعتها في تلك الحالة إلا من الله حتى خيل لي أنها كذا نزلت في القرآن مما تحققت بها وأشربها قلبي وكذا جميع من حضر فلا ينبغي أن يأكل نعم الله إلا أهل الله ولهم خلقت ويأكلها غيرهم بحكم التبعية فهم المقصودون بالنعم ومن عداهم كما قلنا إنما يأكلها تبعا بالمجموع ومن حيث التفصيل فما منه جوهر فرد ولا فيه عرض إلا وهو يسبح الله فهو من أهل الله فما من العالم من هو خارج عن هذه الأهلية العامة وما فاز الخاصة إلا بالاطلاع على هذا كشفا

[طاعة أحدية الجمع وطاعة مفردات المجموع‏]

وهذه المسألة في طريق الله من أغمض المسائل إذ لبس المجموع سوى هذه الأجزاء فالأبعاض عين الكل فكل جزء وبعض طائع وليس الكل ولا المجموع بهذه الصفة لكنه طائع بطاعة أحدية الجمع وهي طاعة متميزة عن طاعة مفردات هذا المجموع‏

[أعظم الأجر الإنفاق على الأهل‏]

وقد ورد في خبر في النفقة على الأهل المعلوم في الظاهر المقرر وفضلها ما يكون هذا اعتباره وهو ما

خرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله‏

عليه وسلم دينار أنفقته في سبيل الله دينار أنفقته في رقبة دينار تصدقت به على مسكين دينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك‏

(وصل في فصل صلة أولي الأرحام وأن الرحم شجنة من الرحمن)

[الصدقة على ذوى الرحم صدقة وصلة]

افهم رزقك الله الفهم عن الله لما كانت الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله يعني بمن هي شجنة منه ومن قطعها قطعه الله كانت الصدقة على أولي الأرحام صدقة وصلة بالرحمن وعلى غير الرحم صدقة تقع بيد الرحمن ما فيها صلة بالرحمن‏

[الصورة الآدمية خليفة]

هذه الصورة الآدمية خليفة فمنزلة يعطي أن يكون الخليفة ظاهرا بصورة من استخلفه فمن تصدق على نفسه بما فيه حياتها كانت له صدقة وصلة بالله الذي الرحمن من نعوته فإن الله خلق آدم على صورته على خلافهم في الضمير قال الله تعالى بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فوصف الله بالرحمن‏

[كلما بعدت النسبة عظمت المنزلة]

وخرج الترمذي عن سلمة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة

كلما قويت النسبة عظمت المنزلة هذا عند أصحابنا والأمر عندنا ليس كذلك فإنه كلما بعدت النسبة عظمت المنزلة ولنا في ذلك‏

رأيت ربي بعين ربي *** فقلت ربي فقال أنت‏

فيتخيل فيه بعض العارفين أن هذا البيت على النمط الأول وليس كذلك فضمير المتكلم من هذا البيت عين العبد بربه لا بنفسه فتدبر هذا النظم فإنه من أعجب المعارف الإلهية يحتوي على أسرار عظيمة وعلم كبير

(وصل في فصل تصدق الآخذ على المعطي يأخذ منه)

[النفس تتصدق على العقل بقبولها منه‏]

النفس تتصدق على العقل بقبولها منه ما يلقى إليها إذ بعض النفوس لا تقبل والنفس تتصور نفوس مريديها وهم أيتام لا أم لهم لأن نفوسهم ماتت عنهم فليس لهم مدبر إلا هذه النفس التي لشيخهم فتتصدق عليهم بما يلقي الله إليها من الروح الإلهي إذا كانت في مقام الحال المؤثر بالفعل فتجد نفس المريد أمورا لا يعطيها مقامه ولا حاله خارجة عن كسبه فيتخيل إن الله قد فتح عليه بلا واسطة وذلك الفتح إذا كان من حال نفس هذا الشخص الذي هو الشيخ فإن المريد يتيم في حجر الشيخ وله على ذلك أجر عظيم عند الله فإنه ما من نبي إلا قال في إفادته وتبليغه لما قيل له قل ما أسالكم عليه من أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله فهو تعليم يقتضي الأجر

[الأجر الذي لا يخرجك عن عبوديتك‏]

وهذا هو الأجر الذي لا يخرجك عن عبوديتك فأنت العبد في صورة الأجير ما هو أجر الأجير فإن الأجير من استوجر فهو أجنبي والسيد لا يستأجر عبده لكن العمل يقتضي الأجرة ولا يأخذها وإنما يأخذها العامل والعامل العبد فهو قابض الأجرة من الله فأشبه الأجير في قبض الأجرة وفارقه بالاستيجار يؤيد ما ذكرناه ما

خرجه مسلم في صحيحه عن بلال عن النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن صدقة المرأة على زوجها وعلى أيتام في حجرها فقال أجران أجر القرابة وأجر الصدقة

(وصل في فصل معرفة من هما أبوا نفس الإنسان)

[الجسم الطبيعي والروح الإلهي‏]

المدبرة لجسمه وقواه النفس الجزئية التي هي نفس الإنسان هي ولد جسمه الطبيعي فهو أمها والروح الإلهي أبوها ولهذا تقول في مناجاتها ربنا ورب آبائنا العلويات وأمهاتنا السفليات فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي مريم أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ من رُوحِنا فكان عيسى عليه السلام ولدها وهي أمه‏

[الولد اليتيم الذي لا أب له‏]

الجسم المسوي نفخ فيه من الروح نفسا فالجسم أم والمنفوخ منه أب غير أن هذا الولد كاليتيم الذي لا أب له لأن عقله لم يستحكم بالنظر إليه فكأنه لا عقل له فهو بمنزلة الصغير الذي لا أب له يعلمه ويؤدبه فتسوسه نفسه النباتية التي هي جسمه بما خلقها الله عليه من صلاح المزاج فتكون القوي الباطنة والظاهرة في غاية الصفاء والاعتدال فتفيد النفس من العلوم التي هي بمنزلة صدقة المرأة على ولدها اليتيم فيحصل لهذا الشخص من جهة جسمه من العلم الإلهي جزاء لما تصدق به على نفسه ما لا يقدر قدره إلا الله‏

قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هل لي أجر في بنى أبي سلمة أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني قال نعم لك فيهم أجر ما أنفقت عليهم خرجه مسلم في صحيحه‏

(وصل في فصل المتصدق بالحكمة على من هو أهل لها)

وهي الصدقة على المحتاجين‏

[الحكمة لا ينبغي أن يتعدى بها أهلها]

قال تعالى أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى‏ ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏ وقال وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ يعني السائل عن العلم الإنسان يتصدق بالعلم على أهل الله الذين هم أهله الحكمة لا ينبغي أن يتعدى بها أهلها ويحتسب تلك الصدقة عند الله أي لا يرى له فضلا على من علمه ولا تقدما يستدعي بذلك خدمة منه في أدب وتعظيم وتسخير في مقابلة ما أفضل عليه إن فعل ذلك لم يحتسب ذلك عند الله وقد لقينا أشياخا على ذلك وهو طريقنا وقد نبه الشرع عليه في علم الرسوم وعالمه‏

فقال إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة يعني تقع بيد الرحمن خرج هذا الحديث مسلم عن أبي مسعود البدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

(وصل في فصل العلم اللدني والمكتسب)

[العلم الموهوب لا ميزان له‏]

العلم علمان موهوب ومكتسب فالعلم الموهوب لا ميزان له والعلم المكتسب هو ما حصل عن التقوى والعمل الصالح وتدخله الموازنة والتعيين فإن كل تقوى وعمل مخصوص له علم خاص لا يكون إلا له فثم من يتقي الله لله ومن يتقي الله للنار ومن يتقي الله للشيطان ومن يتقي الله لمن لا يتقي الله وكل تقوى لها عمل خاص وعلم خاص يحصل لمن له هذه التقوى‏

[انفاق الرجل على نفسه الذي له به صدقة]

فانفاق الرجل على نفسه الذي له به صدقة هو ما يغذيها به من هذه العلوم المكتسبة التي بها حياته الأبدية في الدنيا والآخرة وذلك أن كل معروف صدقة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ولا معروف إلا الله فلا أهل إلا أهل الله‏

[الناصح نفسه من وقى عرضه‏]

فالناصح نفسه من وقى عرضه فإنه من صدقاته على نفسه ووقاية العرض أن لا يجري عليه من جانب الحق لسان ذم لا غير فيكون محمودا بلسان الشرع وبكل لسان إلهي من ملك وحيوان ونبات ومعدن وفلك وكل ما عدا الثقلين وبعض الثقلين وهل يتصور أن يقي عرضه من جميع الثقلين هذا لا يتصور لأن الأصل الذي هو الله لم يبق عرضه من ألسنة خلقه إلا أنه يمكن أن يرتفع عن العرض وإذا أمكن فقد وقى نفسه الذي هو عرضه أن يكون له أثر في نفسه لا أنه وقى عرضه أن يقال فيه وهو معنى قوله وما أَنْفَقْتُمْ من شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ‏

[يد الله المنفقة ويده الآخذة]

فإن أنفق ليتني مجدا في ألسنة الخلق فهو لما أنفق فإن أبتغي إعادة الثناء على الله من حيث إنه آل الله فإن أنفق في هذا الشأن ولا يرى أنه المنفق وأنفق في معصية إبليس ولا يرى العصمة والإنفاق إلا من يد الله فمثل هذا يستثنى في كل إنفاق إذا كان هذا حاله وذوقه فلا يجد الثواب على من يعود إلا على معطيه فيد الله منفقة ويد الرحمن آخذة منها

فيد الله منفقة *** ويد الرحمن آخذة

فالتي للجود خالية *** والتي للعبد عاطلة

فصلت آياته عجبا *** وهي للاعيان واصلة

لو تراها في تقلبها *** وهي في الأكوان جائلة

قلت أغراضي تصرفها *** وهي بالبرهان ساكنة

[كل معروف صدقة]

ويؤيد ما ذكرناه ما يشير إليه‏

قوله صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به رجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية ذكر هذا الحديث أبو أحمد من حديث جابر

قال عبد الحميد وهو الذي روى عنه أبو أحمد قلت لابن المنكدر ما وقى به الرجل عرضه يعني ما معناه قال يعطي الشاعر وذا اللسان‏

(وصل في الفصل بين العبودية والحرية)

[مقام العبودية أشرف من مقام الحرية في حق الإنسان‏]

إضافة الإنسان بالعبودية إلى ربه أو إلى العبودية أفضل من إضافته بالحرية إلى الغير بأن يقال حر عن رق الأغيار فإن الحرية عن الله ما تصح فإذا كان الإنسان في مقام الحرية لم يكن مشهوده إلا أعيان الأغيار لأن بشهودهم تثبت الحرية عنهم وهو في هذه الحال غائب عن عبوديته وعبودته معا فمقام العبودية أشرف من مقام الحرية في حق الإنسان والعبودة أشرف من العبودية وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا في حديث ميمونة بنت الحارث لما أعتقت وليدة لها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو أعطيتها أخوالك‏

لكان أعظم لأجرك‏

فمقام العبودية رجح على ثواب الحرية

[المفاضلة بين الغنى الشاكر والفقير الصابر]

كما رجح الفقر إلى الله على الغني بالله بعض أشياخنا حدثني عبد الله القلفاط بجزيرة طريف سنة تسعين وخمسمائة وقد جرى بيننا الكلام على المفاضلة بين الغني والفقير أعني الغني الشاكر والفقير الصابر وهي مسألة طبولية وانجر في ذلك حال الفقر والغنى فقال لي حضرت عند بعض المشايخ وحكاها لي عن أبي الربيع الكفيف المالقي تلميذ أبي العباس بن العريف الصنهاجى قال لو أن رجلين كان عند كل واحد منهما عشرة دنانير فتصدق أحدهما من العشرة بدينار واحد وتصدق الآخر بتسعة دنانير من العشرة التي عنده أيهما أفضل فقال الحاضرون الذي تصدق بالتسعة فقال بما ذا فضلتموه فقالوا له لأنه تصدق بأكثر مما تصدق به صاحبه فقال حسن ولكن نقصكم روح المسألة وغاب عنكم قيل له وما هو قال فرضناهما على التساوي في المال فالذي تصدق بالأكثر كان دخوله إلى الفقر أكثر من صاحبه ففضل بسبقه إلى جانب الفقر

[الصوفية لا يقفون مع الأجور ولكن مع الحقائق‏]

وهذا لا ينكره من يعرف المقامات والأحوال فإن القوم ما وقفوا مع الأجور وإنما وقفوا مع الحقائق والأحوال وما يعطيه الكشف وبهذا فضلوا على علماء الرسوم ولو تصدق بالكل وبقي على أصله لا شي‏ء له كان أعلى فنقصه من الدرجة والذوق على قدر ما تمسك به أ لا ترى ما قاله شيخنا أبو العباس السبتي رحمه الله في المحتضر يوصي بالثلث فإن المحتضر ما يملك من المال إلا الثلث فخرج عما يملك وما أبقى شيئا وأجاز له الشارع أن يتصدق بالثلث كله الذي يملكه وهو محمود في ذلك شرعا فلقي الله فقيرا على حكم الأصل كما خرج من عنده رجع إليه صفر اليدين قال بعضهم في هذا المعنى‏

إذا ولد المولود يقبض كفه *** دليل على الحرص المركب في الحي‏

ويبسطها عند الممات مواعظا *** ألا فانظروني قد خرجت بلا شي‏ء

فكان أفضل ممن لم يتصدق بذلك الثلث الذي يملكه أو تصدق بأقل من الثلث وينوي بما يبقيه أنه صدقة على ورثته وفيه إشارة عجيبة

(وصل في فصل فضل من ترك صدقة بعد موته جارية في الناس من مال أو علم)

[ما هو من سعى الإنسان هو له عند الله‏]

العارف بالله يحتضر وفي نفسه لو أطاق الكلام أفاد الناس علما بربهم وقد عقل لسانه فنقل عند تلميذ مسألة في العلم النافع من توحيد وغيره أفادها السامعين الحاضرين فإن ذلك العارف المحتضر يجني ثمرتها والتلميذ يجني ثمرة نقله عند الله ويجازي الله بها الميت جزاء وجوب فإنها من سعيه يقول الله وأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وأفضل ما أكله الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه والتلميذ ولد ديني بلا شك فما هو من سعى الإنسان فهو له عند الله بطريق الإيجاب الإلهي الذي أوجبه على نفسه‏

[عمل الغير بحكم النيابة]

وأما ما عمل عنه غيره بحكم النيابة مما لم يؤذن فيه الميت ولا أوصى به ولا له فيه تعمل فإن الله يعطيه ذلك المقام إذا وهبه إياه غيره فيأخذه الميت لا من طريق الوجوب الإلهي لكن يجب عليه أخذه ولا بد فإنه أتاه من غير مسألة وفي الحديث الصحيح ما أتاك من غير مسألة فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك وقد وردت من ذلك رائحة في علم الرسوم فيما

خرجه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أ فلها أجران تصدقت عنها قال نعم‏

(وصل في فصل ما تعطيه النشأة الآخرة)

[بدء الخلق على غير مثال وعوده كذلك‏]

قال الله تعالى كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ وبدأنا على غير مثال وعلمنا ذلك كذلك يعيدنا على غير مثال‏

[كون الشخص في أماكن مختلفة في زمان واحد]

اعلم أن من ثواب الدار الآخرة ونسبة الإنسان إليه علم النشأة الآخرة ولم يبعد عليه أن يكون الشخص في أماكن مختلفة في الزمن الواحد وهذا أمر تحيله العقول ويشهد بصحته الكشف فهو محال عقلا وليس بمحال نسبة إلهية كل مصل يناجي ربه والإنسان مخلوق من حيث حقيقته التي نشأ عليها في الدار الآخرة على الصورة

[كون العارف مع الأسماء الإلهية مع أحدية عينه وعينها]

العارف يكون مع كثير من الأسماء الإلهية في أحوال مختلفة مع أحدية العين من العارف ومن المسمى ويراه كل إنسان بحسب عينه الذي يحب هذا الرجل أن يظهر إليه به فيكون زيد المصلي في حال صلاته يراه عمر ونائما ويراه خالد كاتبا ويراه محمد خائطا ويراه قاسم آكلا والعين واحدة وكل ذلك بالفعل مشهود لكل راء وكل راء في بلد غير بلد صاحبه كما يدخل‏

في أي صورة شاء من صور سوق الجنة وما سمعت عن أحد نبه على هذا المقام إلا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في دخوله في حين واحد من جميع أبواب الجنة الثمانية وعن ذي النون المصري في مسائله المشهورة مثل الميت يراه وليه ميتا لا حراك به ويراه الآخر بعينه حيا يسأل في الآن الواحد

[الدخول في الحين الواحد من جميع أبواب الجنة]

أما حديث أبي بكر رضي الله عنه‏

فذكره البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول من أنفق زوجين من شي‏ء من الأشياء في سبيل الله دعي من أي أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام باب الريان فقال أبو بكر ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة وقال هل يدعي منها كلها أحد يا رسول الله قال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر

ودعاء الله الناس إلى الدخول يوم القيامة دعاء واحد لدخول الجنان فيدخل الواحد من الباب الواحد وآخر من بابين وثلاثة وأعمهم دخولا من دخل من الأبواب الثمانية لأن أعضاء التكليف ثمانية لكل عضو باب فلا تنكره في الثواب في الآن الواحد وأنت تشهده في العمل من فعل وترك كغاض بصره في حال استماع موعظة في حال تلاوة في حال صيام في حال تصدق في حال ورع في حال تحصين فرج كل ذلك بنية قربة إلى الله تعالى وفي كل باب منازل‏

كالإيمان بالله بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق‏

ولا أذى أعظم من أذى الشرك ولا طريق أعظم من طريق الايمان فختم بمثل ما به بدأ فلا إله إلا الله نفي ما سوى الله ممن يدعى أو يدعى فيه الألوهة وإماطة الأذى نفي الأذى عن الطريق فاجتمع آخر الدائرة بأولها وانعطف عليها وما بين هذين بقية شعب الايمان ولكل شعبة منزل في جنة الايمان فمن علم ما قلناه يدخل من أبواب الجنة كلها في زمان واحد والنشأة الآخرة تعطي هذه الأمور كما أعطت النشأة الدنيا جمع شعب الايمان في الإنسان في زمان واحد ولا يستحيل ذلك‏

(وصل في فصل إعطاء الطيب من الصدقات عن طيب نفس)

[أطيب الصدقات ما خرجت على حد العلم‏]

واعلم أن الطيب من الصدقات هو أن تتصدق بما تملكه ولا تملك إلا ما يحل لك أن تملكه عن طيب نفس وأعلى ذلك أن تكون فيه مؤديا أمانة سماها الشارع صدقة بلسان الرسم فتكون يدك يد الله عند الإعطاء ولهذا قلنا أمانة فإن أمثال هذا لا ينتفع بها خالقها وإنما يستحقها من خلقت من أجله وهو المخلوق فهي عند الله من الله أمانة لهذا العبد يؤديها إليه إما منه إليه وإما على يد عبد آخر هذا أطيب الصدقات لأنها على حد العلم الصحيح خرجت‏

[يد الله المنفقة ويد الرحمن الآخذة]

فإذا حصلت في يد المتصدق عليه أخذها الرحمن بيمينه فإن كان المعطي في نفس هذا العبد حين يعطيها هو الله المعطي فلتكن يده تعلو يد المتصدق عليه وهو السائل ولا بد فإن اليد العليا هي يد الله وهي المنفقة وإن شاهد هذا المعطي يد الرحمن آخذة منه حين يتناولها السائل فتبقى يده من حيث إن المعطي هو الله تعلو على يد الرحمن كما هي فإن الرحمن صفة الله ونعت من نعوته ولكن ما يأخذ منها عينها وإنما يناله منها تقوى المعطي في إعطائه وأكمل وجوهه ما ذكرناه فشهد المعطي أن الله هو المعطي وأن الرحمن هو الآخذ وأن الرحمة هي المعطي وهي الصدقة فإذا أخذها الرحمن في يده بيمينه جعل محلها هذا العبد فأعطاه الرحمن إياها فلا يتمكن إلا ذلك فإن الصدقة رحمة فلا يعطيها إلا الرحمن بحقيقته وتناولها الله من حيث ما هو موصوف بالرحمن الرحيم لا من حيث مطلق الاسم والصدقة تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل هكذا جاء الخبر

[صدقتك على زيد هي عين صدقتك على نفسك‏]

فمثل هذه الصدقة إذا أكلها السائل أثمرت له طاعة وهداية ونورا وعلما وهذا كله هو تربية الرحمن لها فإن جميع ما أعطته قوة هذه الصدقة في نفس السائل مما ذكرناه من طاعة وهداية ونور وعلم يراه في الآخرة في ميزانه وفي ميزان من أعطاه وهو المتصدق نائب الله فيقال له هذه ثمرة صدقتك قد عادت بركتها عليك وعلى من تصدقت عليه فإن صدقتك على زيد هي عين صدقتك على نفسك فإن خيرها عليك يعود

[أفضل الصدقات‏]

وأفضل الصدقات ما يتصدق به الإنسان على نفسه فيحضر هذا أيضا المتصدق على أكمل الوجوه في نفسه فمثل هذه الصدقة لا يقال لمعطيها يوم القيامة من أين تصدقت ولا لمن أعطيت فإنه بهذه المثابة فإن كان الآخذ مثله في هذه المرتبة تساويا في السعادة وفضل المتصدق بدرجة واحدة لا غير وإن لم يكن بهذه المثابة فتكون بحيث الصفة التي يقيمه الله فيها فإن كانت الصدقة صدقة تطوع فهي منة إلهية

كونية فإن كانت زكاة فرض فهي منة إلهية فإن كانت نذرا فهي إلهية كونية قهرية فإن النذر يستخرج به من البخيل وإن كانت هذه الأعطية هدية فما هو من هذا الباب فإن هذا الباب مخصوص بإعطاء ما هو صدقة لا غير

[الصدقة تكبر في يد الرحمن حسا ومعنى‏]

فتكبر هذه الصدقة في يد الرحمن حسا ومعنى فالحس منها من حيث ما هي محسوسة فتجدها في الجنة حسية المشهد مرئية بالبصر والمعنى فيها من حيث ما قام به من الكسب الحلال والتقوى فيه والمسارعة بها وطيب النفس بها عند خروجها ومشاهدته ما ذكرناه من الشئون الإلهية فيها فيجدها في الكثيب عند المشاهدة العامة ويجدها في كل زمان تمر عليه الموازين لزمان إخراجها وهو في الجنة فيختص من الله بمشهد في عين جنته لا يشهده إلا من هو بهذه المثابة

خرج مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله‏

وكل من نزل في صدقته عن هذه الدرجة التي وصفناها كانت منزلته عند الله بمنتهى علمه وقصده‏

[الصدقة من الاسم الغنى الشديد]

فالصدقة لا تكون إلا من الاسم الغني الشديد ذي القوة المتين بطريق الامتنان غير طالب الشكر عليها فإن اقترن معها طلب الشكر فليست من الاسم الغني بل من الاسم المريد الحكيم العالم‏

[الصدقة ونية القرض الحسن‏]

فإن خطر للمتصدق أن يقرض الله قَرْضاً حَسَناً بصدقته تلك مجيبا لأمر الله فهذا الباب أيضا يلحق بالصدقة لكونه مأمورا بالقرض وقد يكون القرض نفس الزكاة الواجبة فإن طلب عوضا زائدا ينتفع به على ما أقرض خرج عن حده قرضا وكان صدقة غير موصوفة بالقرضية فإنه لم يعط القرض المشروع‏

فإن الله لا ينهى عن الربا ويأخذه منا كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

فإنه كل قرض جر نفعا فهو ربا وهو أن يخطر له هذا عند الإعطاء فلا يعطيه إلا لهذا وللمعطي الذي هو المقترض أن يحسن في الوفاء ويزيد فوق ذلك ما شاء من غير أن يكون شرطا في نفس القرض فإن الله قد وعد بتضاعف الأجر في القرض ولكن لا يقرضه العبد لأجل التضاعف بل لأجل الأمر والإحسان في الجزاء يوم القيامة لله تعالى على ذلك‏

[معاملة الله لنا بما شرع لنا]

وهذا معنى قوله حسنا في وصف القرض فإن الله يعاملنا بما شرع لنا لا بغير ذلك أ لا تراه قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله يوم القيامة أن يحكم بالحق الذي بعثه به بين عباده وبينه فقال له قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ والألف واللام في الحق للحق المعهود الذي بعث به وعلى هذا تجري أحوال الخلق يوم القيامة فمن أراد أن يرى حكم الله يوم القيامة فلينظر إلى حكم الشرائع الإلهية في الدنيا حذوك النعل بالنعل من غير زيادة ولا نقصان فكن على بصيرة من شرعك فإنه عين الحق الذي إليه مآلك ولا نغتر وكن على حذر وحسن الظن بربك واعرف مواقع خطابه في عباده من كتابه العزيز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم‏

(وصل في فصل إخفاء الصدقة)

اعلم أن إخفاء الصدقة شرط في نيل المقام العالي الذي خص الله به الأبدال السبعة وصورة إخفائها على وجوه منها أن لا يعلم بك من تصدقت عليه وتتلطف في إيصال ذلك إليه بأي وجه كان فإن الوجوه كثيرة

[أخذ الصدقة من الله لا منك‏]

ومنها أن تعلمه كيف يأخذ وأنه يأخذ من الله لا منك حتى لا يرى لك فضلا عليه بما أعطيته فلا يظهر عليه بين يديك أثر ذلة أو مسكنة ويحصل له علم جليل بمن أعطاه فتغيب أنت عن عينه حين تعطيه فإنه قد قررت عنده أنه ما يأخذ سوى ما هو له فهذا من إخفاء الصدقة

[أخفى الأخفاء أن لا تعلم شمالك ما أنفقته يمينك‏]

ومنها أن تخفي كونها صدقة فلا يعلم المتصدق عليه بين يدي المتصدق فإذا أخذها العامل الذي نصبه السلطان أخذها بعزة وقهر منك فإذا حصلت بيد السلطان الذي هو الوكيل من قبل الله عليها أعطاها لسلطان أربابها لثمانية وأخذها أربابها بعزة نفس لا بذلة فإنه حق لهم بيد هذا الوكيل فلا يعلم الآخذ في أعطيته من هو رب ذلك المال على التعيين فلم يكن للغني رب المال على هذا الفقير منة ولا عزة ولا يعرف هل وصل إليه على التعيين عين ماله على التعيين فكان هذا أيضا من إخفاء الصدقة لأنه لم يعلم المتصدق عين من تصدق عليه ولا علم المتصدق عليه عين المتصدق وليس في الإخفاء أخفى من هذا فلم تعلم شماله ما أنفقته يمينه هذا هو عين ذلك‏

[خصائص الحق المستظلون بظل العرش‏]

وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلناه من إخفاء الصدقة في الإبانة عن المنازل السبعة التي هي لخصائص الحق المستظلين يوم القيامة بظل عرش الرحمن لأنهم من أهل الرحمن‏

خرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام‏

عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه متعلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه‏

(وصل في فصل من عين له صاحب هذا المال الذي بيده قبل أن يتصدق به عليه)

[تكون الصدقة حيث يكون الملك‏]

إن من عباد الله من يكشف له فيما بيده من الرزق وهو ملك له إنه لفلان ولفلان ويرى أسماء أصحابه عليه ولكن على يده فإذا أعطى من هذه صفته صدقة هل تكتب له صدقة قلنا نعم تكتب له صدقة من حيث ما نسب الله الملك له وإن كوشف فلا يقدح فيه ذلك الكشف أ لا ترى إلى المحتضر قد زال عنه اسم الملك وحجر عليه التصرف فيه وما أبيح له منه إلا الثلث وما فوق ذلك فلا يسمع له فيه كلام لأنه تكلم فيما لا يملك‏

[النفس قد جبلت على الشح‏]

واعلم أن النفس قد جبلت على الشح قال تعالى وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وقال ومن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وسبب ذلك أنه ممكن وكل ممكن فقير بالأصالة إلى مرجح يرجح له وجوده على عدمه فالحاجة له ذاتية والإنسان ما دامت حياته مرتبطة بجسده فإن حاجته بين عينيه وفقره مشهود له وبه يأتيه اللعين في وعده فقال الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ فلا يغلب نفسه ولا الشيطان إلا الشديد بالتوفيق الإلهي فإنه يقاتل نفسه والشيطان المساعد لها عليه ولهذا سماها الشارع صدقة لأنها تخرج عن شدة وقوة يقال رمح صدق أي قوي شديد فلو لم يأمل البقاء وتيقن بالفراق هان عليه إعطاء المال لأنه مأخوذ عنه بالقهر شاء أم أبي فمن طمع النفس أن تجود في تلك الحالة لعل تحصل بذلك في موضع آخر قدر ما فارقته كل ذلك من حرصها فلم تجد مثل هذه النفس عن كرم ولا وقاها الله شحها

ذكر مسلم في ذلك عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا قال أما وأبيك لتنبأنه أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم‏

قلت لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان فينبغي لمن لم يقه الله شح نفسه وقد وصل إلى هذا الحد وارتفع عنه في تعيينه لفلان طائفة من ماله أن يكون ذلك صدقة فليجعل في نفسه عند تعيينه أنه مؤد أمانة وأن ذلك وقتها فيحشر مع الأمناء المؤدين أمانتهم لا مع المتصدقين ولا يخطر له خاطر الصدقة ببال إن أراد أن ينصح نفسه‏

(وصل في فضل ضروب الملك والتمليك عند أهل الله)

[ملك استحقاق وملك الأمانة وملك الوجودي‏]

العارف يقول الله له هذا ملكك فيقبله منه بالأدب والعلم في ذلك أنه ملك استحقاق لمن يستحقه ومن هو حق له وملك أمانة لمن هو له بيده أمانة وملك وجود لمن هو موجود عنه فالأشياء كلها ملك لله وجودي وهي للعبد بحسب الحال فما لا بد له في نفس الأمر من المنفعة به على النفس فهو ملك استحقاق له وهو من الطعام والشراب ما يتغذى به في حين التغذي به مما يتغذى لا مما يفضل عنه ويخرج من سبيله وغير ذينك ومن الثياب ما يقيه من حر الهواء وبرده وأما ما عدا هذا القدر فهو بيده ملك أمانة لمن يدفع به أيضا ما دفع هو به عن نفسه مما ذكرناه‏

[أحوال العارفين إزاء ضروب الملك والتمليك‏]

فلا يخلو العارف إما أن يكون ممن كشف أسماء أصحاب الأشياء مكتوبة عليها فيمسكها لهم حتى بدفعها إليهم في الوقت الذي قدره الحكيم وعينه فيفرق ما بين ما هو له فيسميه ملك استحقاق لأن اسمه عليه وهو يستحقه وبين ما هو لغيره فيسميه ملك أمانة لأن اسم صاحبه عليه والكل بلسان الشرع ملك له في الحكم الظاهر أو يكون هذا العارف ممن لم يكشف له ذلك فلا يعرف على التعيين ما هو رزقه من الذي هو عنده فإذا كوشف فيعمل بحسب كشفه فإن الحكم للعلم في ذلك وإن لم يكاشف فالأولى به أن يخرج عن ماله كله صدقة لله ورزقه لا بد أن يأتيه ثقة بما عند الله إن كان قد بقي له عند الله ما يستحقه وإن لم يبق له عند الله شي‏ء فلا ينفعه إمساك ما هو ملك له شرعا فإنه لا يستحقه كشفا في نفس الأمر وهو تارك له وهو غير محمود هذه أحوال العارفين‏

[خروج المكاشف عن ماله‏]

وقد يخرج صاحب الكشف عن ماله كله عن كشفه لأنه يرى عليه اسم الغير فلا يستحق منه شيئا فيشبه بالصورة من خرج عن ماله كله من غير كشف فإن لم يكن عنده ثقة بالله فيذمه الشرع إن خرج عن كل ماله ثم بعد ذلك يسأل الناس الصدقة فمثل هذا لا تقبل صدقته كما

قد ورد في ذلك في حديث النسائي في الرجل الذي تصدق عليه بثوبين ثم جاء رجل آخر يطلب أن يتصدق عليه أيضا وألقى هذا المتصدق عليه الأول أحد

ثوبيه صدقة عليه فانتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال خذ ثوبك ولم يقبل صدقته‏

فإذا علم من نفسه أنه لا يسأل ولا يتعرض فحينئذ له أن يخرج عن ماله كله ولكن بميزان الأفضلية إن كان عالما إذا لم يكن له كشف فإن كان صاحب كشف عمل بحسب كشفه ولقد خرج أبو داود ما يناسب ما ذكرناه من‏

حديث عمر بن الخطاب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي وقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله قال وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله ورسوله قلت لا أسابقك إلى شي‏ء أبدا

[معاملة النفس على حسب الشرع الحاكم عليها]

فينبغي للعالم بنفسه أن يعامل نفسه بما يعامله به الشرع الحاكم عليه ولا ينظر المريد لما يخطر له في الوقت فيكون تحت حكم خاطره فيكون خطأه أكثر من إصابته وهنا يتميز العاقل العالم من الجاهل ولكن هذا كله لمن لا كشف له من أهل الله وقد سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر لما أتاه بماله كله لمعرفته بحاله ومقامه وما قال له هلا أمسكت لا هلك شيئا من مالك وأثنى على عمر بذلك بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه وقال لكعب بن مالك في هذا الحديث أمسك بعض مالك وكان كعب بن مالك قد انخلع من ماله كله صدقة لخاطر خطر له فلم يعامله رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاطره وعامله بما يقتضيه حاله فقال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏

(وصل في فصل ما ينظره العارف في فضل الله وعدله ومكر الله تعالى)

[العارفون ينظرون أبدا في أحوال نفوسهم‏]

إن من مكر الله وعدله وفضله أن يبين للناس ما فيه مصلحتهم هذا من فضله وأما عدله ومكره هو أن يعاملهم بصفاتهم فالعارفون في مثل هذا المقام ينظرون في أحوال أنفسهم وفيما يؤتيهم الله في بواطنهم وظواهرهم ويزنون ذلك بالميزان الذي وضعه الرحمن ليقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان فإن اعتدلت الكفتان فذلك العلم الصحيح وإن ترجحت كفة العطاء على كفة الحال فلينظر في الحال فإن كان مما يحمده الشرع فذلك إما جزاء معجل وإما زيادة فضل وإن كان الحال مما يذمه لسان الشرع فذلك مكر من الله وإن كان الحال مما لا يذم ولا يحمد فذلك عدل من الله يؤول إما إلى فضل إن شكر الله وعمل بطاعته في المستأنف بتلك الأعطية أو يؤول إلى مكر خفي إن عمل فيه بمعصية الله فإن ألهم الاستغفار والتوبة أو أن ذلك مكر إلهي فلا يخلو إما أن يتدارك الأمر أو يبقى على حاله فإن بقي على حاله فهو مكر في مكر وإن تدارك الأمر فذلك من فضل الله وزال عنه حكم المكر في هذه الحال‏

[اليد العليا خير من اليد السفلى من المكر والفضل‏]

فمن مكر الله وفضله اليد العليا خير من اليد السفلي فإن الصدقة تقع بيد الرحمن ففيه مكر وفضل فإنه‏

قد ورد أنها تقع بيد الرحمن قبل وقوعها بيد السائل‏

وقد ذكر البخاري عن حكيم بن حزام فيما نبهنا عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اليد العليا خير من اليد السفلي وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله‏

فهذا الحديث يتضمن تفصيل ما ذكرناه من الأحوال‏

[أعلى الغني الغني بالله‏]

وأعلى الغني الغني بالله والاستعفاف هنا القناعة بالقليل فإن العفو يرد في اللسان ويراد به القليل وهو من الأضداد والصدقة عن ظهر غنى هي الصدقة والدعاء عن ظهر فقر هو الدعاء المجاب بلا شك وأين الداعي عن ظهر فقر والمعطي عن ظهر غنى‏

(وصل في فصل حاجة النفس إلى العلم)

[العلم الشرعي والإلهي والأخروى‏]

اعلم أن حاجة النفس إلى العلم أعظم من حاجة المزاج إلى القوت الذي يصلحه والعلم علمان علم يحتاج منه مثل ما يحتاج من القوت فينبغي الاقتصاد فيه والاقتصار على قدر الحاجة وهو علم الأحكام الشرعية لا ينظر منها إلا قدر ما تمس الحاجة إليه في الوقت فإن تعلق حكمها إنما هو بالأفعال الواقعة في الدنيا فلا تأخذ منه إلا قدر عملك والعلم الآخر هو ما لا حد له يوقف عنده وهو العلم المتعلق بالله ومواطن القيامة فإن العلم بمواطن القيامة يؤدي العالم بها إلى الاستعداد لكل موطن بما يليق به لأن الحق بنفسه هو المطالب في ذلك اليوم بارتفاع الحجب وهو يوم الفصل فينبغي للإنسان العاقل أن يكون على بصيرة من أمره معدا للجواب عن نفسه وعن غيره في المواطن التي يعلم أنه يطلب منه الجواب فيها ولهذا ألحقناه بالعلم بالله‏

[ينبغي لطالب العلم أن لا يسأل في المسئول إلا الله‏]

وينبغي لطالب العلم أن لا يسأل في المسئول إلا الله لا عين المسئول هكذا ينبغي‏

أن يكون عليه السائل من الحضور مع الله فليستكثر هذا السائل من السؤال فإن الله هو المسئول فإن لم يحضر له ذلك ولم يشاهد سوى الأستاذ ولا يرى العلم إلا منه ولا يرده ذلك العالم إلى الله بقوله الله أَعْلَمُ ولا يقول له من العلم ما يرده إلى الله فيه فذلك الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما

ذكره مسلم من حديث أبي هريرة من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقلل أو ليستكثر

وإنما أراد الله تعالى من عباده أن يرجعوا إليه في المسائل لا إلى أمثالهم إلا بقدر ما يتعلمون منهم كيف يسألون الله وهو حد التقوى المشروع فقال واتَّقُوا الله بما علمكم من أعلمته بطريق التقوى ويُعَلِّمُكُمُ الله فكان هو سبحانه المعلم وسواء كانت المسألة في العلم أو في غير العلم من أعراض الدنيا كما

قال لموسى عليه السلام ربه عز وجل فيما أوحى إليه به أو كلمه به سلني حتى الملح تلقيه في عجينك‏

وقال في باب الإشارة لا التفسير الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ في أي قلب يكون ويستقر وعلى أي قلب ينزل خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فأضاف التعليم إليه لا إلى غيره هذا كله من الغيرة الإلهية أن يسأل المخلوق غير خالقه ليريح عباده من سؤال من ليس بأيديهم من الأمر شي‏ء وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا وما خص صلى الله عليه وسلم مسألة من مسألة

فقال صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها

وأراد من الناس أن يعملوا بما علمهم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ويسألون الله في أعمالهم أن يزيدهم علما إلى علمهم منه فيتولى بنفسه تعليم عباده فإن الله غيور فلا يحب أن يسأل غيره وإن سأل غيره بلسان الظاهر فيكون القلب حاضرا مع الله عند سؤاله إن الله هو المسئول الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ بالمعنى فإن الاسم الظاهر من الله هو هذا الشخص فإنه من جملة الحروف المرقومة في رق الوجود المنشور فيأخذ هذا السائل جوابه من الله إما بقضاء الحاجة وإما بالدعاء

[سؤال السلطان أولى من سؤال غير السلطان‏]

ولهذا كان سؤال الرجل السلطان أولى من سؤال غير السلطان لأن وجود الحق أظهر فيه من غيره من السوقة والعامة ولهذا رفعت الكدية عن الذين يسألون الملوك فإنهم نواب الله وهم موضع حاجة الخلق وهم المأمورون أن لا ينهروا السائل يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو النائب الأكبر وأما السائل فلا تنهر ولهذا يسأل الله تعالى يوم القيامة النواب وهم الرعاة عن من استرعاهم عليه ويسأل الرعايا ما فعلوا فيهم ثم نرجع إلى مسائل الصدقة التي نحن في بابها فنقول‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل كدوح يكدح بها الرجل في وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل ذا سلطان في أمر لا يجد منه بدا وهذا نص ما ذكرناه وهو حديث خرجه أبو داود عن سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

[سؤال الصالحين العارفين أولى من سؤال السلاطين‏]

وكذلك سؤال الصالحين العارفين أهل المراقبة أولى من سؤال السلاطين إلا أن تكون هذه الصفات في السلطان فإن أصحاب هذه الصفات أقرب نسبة إلى الله تعالى وقد رأينا بحمد الله من السلاطين من هو بهذه المثابة من الدين والورع والقيام للحق بالحق رحمهم الله وقد ورد في الخبر أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسأل يا رسول الله قال لا وإن كنت سائلا ولا بد فسل الصالحين‏

فالعارفون إذا سألوا في أمر تعين لهم من مصالح دنياهم إنما يسألون الله بالله في العالم‏

[أفضل صدقة تصدق الله بها على المقربين من عباده‏]

والعلماء بالله الذين استفرغهم شهود الله شغلهم ذكر الله عن المسألة من الله فهؤلاء أصحاب أحوال فأعطاهم العلم به وهو أفضل ما أعطى السائلون فإذا علموه علم ذوق لم يذكروه إلا له بهم وبه فأعطاهم بهذا الذكر أمرا جعلهم أن يتركوا الذكر له وبه فأعطاهم الرؤية إذ كانت الرؤية أرفع من المشاهدة وهي أفضل صدقة تصدق الله بها على المقربين من عباده‏

(وصل في فصل أخذ العلماء بالله من الله العلم الموهوب)

[العلم الموهوب هو العلم اللدني‏]

اعلم أن العلماء بالله لا يأخذون من العلوم إلا العلم الموهوب وهو العلم اللدني علم الحضر وأمثاله وهو العلم الذي لا تعمل لهم فيه بخاطر أصلا حتى لا يشوبه شي‏ء من كدورات الكسب فإن التجلي الإلهي المجرد عن المواد الإمكانية من روح وجسم وعقل أتم من التجلي الإلهي في المواد الإمكانية وبعض التجليات في المواد الإمكانية أتم من بعض فإذا وقع للعالم بالله من تجل إلهي أشراف على تجل آخر لم يحصل له ثم حصل له بعد ذلك فأعطاه من العلم به ما لم يكن عنده لم يقبله في العلم الموهوب وألحقه بالعلم المكتسب‏

[العلم المكتسب‏]

وكل علم حصل له عن دعاء فيه أو بدعاء مطلق فهو مكتسب وذلك لا يصلح إلا للرسل‏

صلوات الله عليهم فإنهم في باب تشريع الاكتساب فإذا وقفوا مع نبوتهم لا مع رسالتهم كان حالهم مع الله حال ما ذكرناه من ترك طلب ما سواه والأشراف فهم مع الله واقفون وإليه ناظرون وبه ناطقون في كل منطوق به ومنظور إليه وموقوف عنده‏

[التكليف ما هو سوى أمر ونهى‏]

وكما أنهم به ناطقون هم به سامعون يذكرون عباده تعبدا ويطيعون عباده تعبدا ويجتهدون ولا يفترون عبادة لا تعرضا ولا طلبا إلا وفاء لما يقتضيه مقام من كلفهم من حيث ما هو مكلف لا من وجه آخر ومقام من كلف فهو يهبهم من لدنه علما لم يكن مطلوبا لهم فيكون مكتسبا ومن أسمائه سبحانه المؤمن وهو من نعوت العبد لا من أسماء العبد فإنه إذا كان اسما لم يعلل وإذا كان صفة ونعتا علل فهو لله اسم وللعبد صفة هذا هو الأدب مع الله وقد ورد في معنى ما أشرنا إليه حديث‏

ذكره أبو عمر ابن عبد البر النمري عن خالد بن عدي الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من جاءه من أخيه معروف من غير أشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه‏

فجمع هذا الحديث بين الأمر بالقبول والنهي عن الرد فحصل فيه التكليف كله فإن التكليف ما هو سوى أمر ونهي‏

[الأكابر لا يسألون أحدا شيئا ولا يردون شيئا]

ومما يؤيد صحة هذا الحديث ما

خرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء فيقول أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك‏

فالأكابر لا يسألون أحدا شيئا إلا إذا كان الله مشهودهم في الأشياء ولا يردون شيئا أعطوه فإن الأدب مع الله أن لا ترد على الله ما أعطاك‏

[فتنة العلم أعظم من فتنة المال‏]

وفتنة العلم أعظم من فتنة المال فإن شرف المال شرف عارض لا يتعدى أفواه الناس ليس للنفس منه صفة وشرف العلم حلية تتحلى بها النفس ففتنته أعظم ولا زوال له عن صاحبه في حال فقره وغناه ونوائبه والمال يزول عن صاحبه بلص يأخذه أو حرق أو غرق أو هدم أو زلزلة أو جائحة سماوية أو فتنة أو سلطان والعلم منك في حصن حصين لا يوصل إليه أبدا يلزم الإنسان حيا وميتا دنيا وآخرة وهو لك على كل حال وإن كان عليك في وقت ما فهو لك في آخر الأمر وإن أصابتك الآفات من جهته فلا تكثرت فليس إلا لشرفه حيث لم تعمل به فما أصبت إلا من تركك العمل به لا منه فإذا نجوت أخذ بيدك إلى منزلته ومنزلته معلومه ومعلومه الحق فينزلك بالحق على قدر ذلك العلم فلا تكن من الجاهلين‏

(وصل في فصل إيجاب الله الزكاة في المولدات)

[المولدات تولدت عن حركة الفلك والأركان‏]

اعلم أن الله أوجب الزكاة في المولدات وهي ثلاثة معدن ونبات وحيوان فالمعدن ذهب وفضة والنبات حنطة وشعير وتمر والحيوان إبل وبقر وغنم فعم جميع المولدات وأطلق عليها اسم المولدات لأنها تولدت عن أم وأب عن فلك وحركته الذي هو بمنزلة الجماع وهو الأب والأركان الأم‏

[الزكاة كما هي طهارة هي رزء في المال‏]

فكان المال محبوبا للإنسان حب الولد أ لا ترى الله قرنه بالولد في الفتنة فقال إِنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ فقدم المال على الولد في الذكر والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ إذا رزأكم في شي‏ء منهما فالزكاة وإن كانت طهارة الأموال وطهرت أربابها من صفة البخل فهي رزء في المال بلا شك فلصاحبها أجر المصاب وهو من أعظم الأجور

[الولد شجنة من الوالد كالرحم شجنة من الرحمن‏]

والولد شجنة من الوالد كالرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله قال بعض الشعراء في الأولاد وهو من شعر الحماسة

وإنما أولادنا بيننا *** أكبادنا تمشي على الأرض‏

فجعل الولد قطعة من الكبد

[قلب كل إنسان حيث يكون ماله‏]

وقال عيسى عليه السلام لأصحابه قلب كل إنسان حيث ما له فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء

فحث على الصدقة لما علم إن الصدقة تقع بيد الرحمن وهو يقول أَ أَمِنْتُمْ من في السَّماءِ والصدقة تطفئ غضب الرب‏

فانظر ما أعجب كلام النبوة وما أدقه وأحلاه فمن ألحق الولد بالوالد ووصله به فله أجر من وصل الرحم فينبغي للإنسان أن يلحق ماله من حيث ما هو مولد مولود بأبيه الذي تولد عنه لأنه قطعة منه فللإنسان المتصدق في صدقة زكاته أجر المصيبة وأجر صلة الرحم إذا زكى ماله‏

[الصبر على فقد المحبوب لا يقدر عليه إلا مؤمن أو عارف‏]

والصبر علي فقد المحبوب من أعظم الصبر ولا يصبر على ذلك إلا مؤمن أو عارف فإن الزاهد لا زكاة عليه لأنه ما ترك له شيئا تجب فيه الزكاة لأن الزهد يقتضي ذلك والعارف ليس كذلك لأن العارف يعلم أن فيه من حيث ما هو مجموع العالم من يطلب المال فيوفيه حقه فتجب عليه الزكاة من ذلك‏

الوجه وهو زاهد من وجه ولهذا رجحنا قول من يقول إن الزكاة واجبة في المال لا على المكلف وإنما هو مكلف في إخراجها من المال إذ المال لا يخرج بنفسه‏

[الزاهد والعارف‏]

فجمع العارف بين الأجرين بخلاف الزاهد والعارفون هم الكمل من الرجال فلهم الزهد والادخار والتوكل والاكتساب ولهم المحبة في جميع العالم كله وإن تفاضلت وجوه المحبة فيحبون جميع ما يقع في العالم بحب الله في إيجاد ذلك الواقع لا من جهة عين الواقع فاعلم ذلك فإن فيه دقيق مكر إلهي لا يشعر به إلا الأدباء العارفون فإن العارف يعلم أن فيه جزاء يطلب مناسبة من العالم فيوفي كل ذي حق حقه كما أَعْطى‏ الله كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لنفسك عليك حقا ولعينك عليك حقا

وهكذا كل جزء فيك ولهذا يشهد عليك يوم القيامة إذا استشهده الحق عليك وانظر في حكمة السامري حيث علم ما قال عيسى عليه السلام من أن حب المال ملصق بالقلوب صاغ لهم العجل بمرأى منهم من حلبهم لعلمه أن قلوبهم تابعة لأموالهم فسارعوا إلى عبادته حين دعاهم إلى ذلك‏

[العامي والعارف‏]

فالعارف من حيث سره الرباني مستخلف فيما بيده من المال فهو كالوصي على مال المحجور عليه يخرج عنه الزكاة وليس له فيه شي‏ء فلذلك قلنا إنه حق في المال فإن الصغير لا يجب عليه شي‏ء وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة

والعامي وإن كان مثل العارف في كونه جامعا فإن العامي لا يعلم ذلك فأضيف المال إليه فقيل له أموالكم فيخرج منها الزكاة فالعارف يخرجها إخراج الوصي والعامي يخرجها بحكم الملك وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ وكلا الفريقين صادق في حاله وصاحب دليل إلهي فيما نسب إليه‏

[حب العارف من أي نسبة هو]

فلو لا المحبة ما فرضت الزكاة ليثابوا ثواب من رزئ في محبوبه ولو لا المناسبة بين المحب والمحبوب لما كانت محبة ولا تصور وجودها ومن هنا تعلم حب العارف للمال من أي نسبة هو وحبه لله من أي نسبة هو ولا يقدح حبه في المال والدنيا في حبه لله وللآخرة فإن ما يحبه منه لأمر ما إلا ما يناسب ذلك الأمر في الإلهيات وفي العالم حبوا الله لما يغذوكم به من نعمه فصحت المناسبة

[المعرفة مال العارف وزكاتها التعليم‏]

ومن نعمه المعرفة به والعارف يطلبها منه فهي نسبة فقير إلى غني يطلب منه ما بيده له ليحصله فما طلب منه إلا أمرا حادثا إذ معرفة المحدث بالقديم معرفة حادثة فالمناسبة بينه وبين المعرفة الحدوث وهي بيد المعروف فيتعلق الحب بالمعروف لهذه المناسبة والمعرفة به لا تنقضي ولا تتناهى فالحب لا ينقضي وحصول مثل هذه المعرفة عن التجلي فالتجلي لا ينقضي فالمعرفة مال العارف وزكاة هذا المال التعليم وهي درجة إلهية قال تعالى واتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله فهو المعلم فلهذا قلنا إن التعليم درجة إلهية

[أصناف الزكاة الثمانية وحملة العرش الثمانية]

وجعل أصناف الزكاة ثمانية لما فيها من صلاح العالم فهي فيما تقوم به الأبدان من الغذاء وقضاء الحاجات مطلقا وفي هذين الأمرين صلاح العالم فهم حملة العرش الثمانية والعرش الذي هو الملك محمول لهم فمن تلك الحقيقة كانت في ثمانية أصناف مجمع عليها وما عداها مما اختلف فيه فهو راجع إليها ولما كان العرش الملك وكان حملة هذا العرش الذي هو عبارة عنا كان هؤلاء الأصناف الثمانية حملته وكان هذا القدر من المال المعبر عنه بالزكاة كالأجرة لحملهم‏

(وصل) [لم سمى المال مالا]

إنما سمي المال مالا لأنه يميل بالنفوس إليه وإنما مالت النفوس إليه لما جعل الله عنده من قضاء الحاجات به وجبل الإنسان على الحاجة لأنه فقير بالذات فمال إليه بالطبع الذي لا ينفك عنه ولو كان الزهد في المال حقيقة لم يكن مالا ولكان الزهد في الآخرة أتم مقاما من الزهد في الدنيا وليس الأمر كذلك وقد وعد الله بتضعيف الجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فلو كان القليل حجابا لكان الكثير منه أعظم حجابا

[الباب الذي نجد الله عنده‏]

أ لا ترى إلى موطن التجلي والكشف وهو الدار الآخرة وهي محل الرؤية والمشاهدة مع تناول الشهوات النفسية مطلقا من غير تحجير وكلمة كن من كل إنسان فيها حاكمة فلو كان مثل هذا حجابا لكان حجاب الآخرة أكثف وأعظم بما لا يتقارب فسبحان من جعل له في كل شي‏ء بابا إذا فتح ذلك الباب وجد الله عنده وعين في كل شي‏ء وجها إلهيا إذا تجلى عرف ذلك الوجه من ذلك الشي‏ء قال الصديق ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فإنه لا يراه إلا بعينه إذ كان الحق بصره في هذا للوطن فيرى نفسه قبل رؤية ذلك الشي‏ء والإنسان هو المحل لذلك البصر فلهذا قال ما رأيت شيئا لا رأيت الله قبله وسماها الله زكاة لما فيها من الربو والزيادة ولهذا تعطي قليلا وتجدها كثيرا فلو أعطيته لرفع الحجاب لكونه حجابا لكان الثواب حجبا كثيرة أعظم من هذا الحجاب فلم يكن بحمد الله ما أعطيته حجابا ولا ما وصلت إليه من ذلك حجابا

فاعلم ذلك‏

[تصرف العارف وزهد الزاهد]

وانظر في تصرف العارف في الدنيا كيف هو ولا يحمل تصرفه على تصرفك وجهلك وسوء تأويلك فترى الزهد عند ذلك أفضل منه هيهات هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ بل هي للعارف صفة كمالية سليمانية هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فما أليق هذا الاسم بهذا السؤال أ تراه عليه السلام سأل ما يحجبه عن الله أو سأل ما يبعده من الله‏

[الصفة الكمالية السليمانية والحالة المحمدية]

ثم انظر إلى أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمكنه الله من العفريت الذي فتك عليه فأراد أن يقبضه ويربطه بسارية من سواري المسجد حتى ينظر الناس إليه فتذكر دعوة أخيه سليمان فرده الله خاسئا فهذه حالة سليمانية حصلت لمحمد صلى الله عليه وسلم وما رده عنها الزهد فيها وإنما رده عن ذلك الأدب مع سليمان عليه السلام حيث طلب من ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وعلمنا من هذه القصة أن قوله لا ينبغي أنه يريد لا ينبغي ظهوره في الشاهد للناس لأحد وإن حصل بالقوة لبعض الناس كمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العفريت فعلمنا أنه أراد الظهور في ذلك لأعين الناس ثم إن الله أجاب سليمان عليه السلام إلى ما طلب منه بأنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة أخيه سليمان حتى لا يمضي ما قام بخاطره من إظهار ذلك ثم إن الله تمم هذه النعمة لسليمان عليه السلام بدار التكليف فقال له هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ فرفع عنه الحرج في التصريف بالاسم المانع والمعطي فاختص بجنة معجلة في الحياة الدنيا وما حجبه هذا الملك عن ربه عز وجل‏

[جمع العارف بين العينين وتحقق بالحقيقتين‏]

فانظر إلى درجة العارف كيف جمع بين العينين وتحقق بالحقيقتين فأخرج الزكاة من المال الذي بيده إخراج الوصي من مال المحجور عليه بقوله وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فجعله مالكا للإنفاق من حقيقة إلهية فيه في مال هو ملك لحقيقة أخرى فيه هو وليها من حيث الحقيقة الإلهية جعلنا الله من العارفين العلماء وبما أودع فيه من قرة أعين‏

(وصل في فصل قول المال أنواع العطاء)

[أنواع العطاء التي يتصف بها الحق والعبد]

اعلم أن المال يقبل أنواع العطاء وهو ثمانية أنواع لها ثمانية أسماء فنوع يسمى الإنعام ونوع يسمى الهبة ونوع يسمى الصدقة ونوع يسمى الكرم ونوع يسمى الهدية ونوع يسمى لجود ونوع يسمى السخاء ونوع يسمى الإيثار وهذه الأنواع كلها يعطى بها الإنسان ويعطى بسبعة منها الحق تعالى وهي ما عدا الإيثار

[من أي حقيقة ظهر الإيثار في الكون‏]

فإن قال أجنبي فمن أي حقيقة إلهية ظهر الإيثار في الكون وهو لا يعطي على جهة الإيثار لأنه غني عن الحاجة والإيثار إعطاء ما أنت محتاج إليه إما في الحال وإما بالمال وهو أن تعطي مع حصول التوهم في النفس أنك محتاج إليه فتعطيه مع هذا التوهم فيكون عطاؤك إيثارا وهذا في حق الحق محال فقد ظهر في الوجود أمر لا ترتبط به حقيقة إلهية

[الذات والمرتبة والصورة التي هي الخلافة]

فنقول قد قدمنا أن الغني المطلق إنما هو للحق من حيث ذاته معرى عن نسبة العالم إليه فإذا نسبت العالم إليه لم تعتبر الذات فلم تعتبر الغني وإنما اعتبرت كونها إلها فاعتبرت المرتبة فالذي ينبغي للمرتبة هو ما تسمت به من الأسماء وهي الصورة الإلهية لا الذات من حيث عينها بل من كونها إلها ثم إنه أعطاك الصورة التي هي الخلافة وسماك بالأسماء كلها على طريق المحمدة فقد أعطاك ما هي المرتبة موقوفة نسبتها إليه وهي الأسماء الحسنى‏

[الإيثار إعطاء ما أنت محتاج إليه‏]

فإن قلت فإن المعطي لا يبقى عنده ما أعطاه قلنا هذا يرجع إلى حقيقة المعطي ما هو فإن كان محسوسا فإن المعطي يفقده بالإعطاء وإن كان معنى فإنه لا يفقده بالإعطاء ولهذا حددنا الإيثار بإعطاء ما أنت محتاج إليه ولم نتعرض لفقد المعطي ولا لبقائه فإن ذلك راجع إلى حقيقة الأمر الذي أعطيت ما هو فاعلم ذلك فمن هذه الحقيقة صدر الإيثار في العالم وما بعد هذا البيان بيان‏

[تفسير أنواع العطاء الثمانية]

فالإنعام إعطاء ما هو نعمة في حق المعطي إياه مما يلائم مزاجه ويوافق غرضه والهبة الإعطاء لينعم خاصة والهدية الإعطاء لاستجلاب المحبة فإنها عن محبة ولهذا قال الشارع تهادوا تحابوا والصدقة إعطاء من شدة وقهر وإباية فأما في الإنسان لكونه جبل على الشح ف من يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً فإذا أعطى بهذه المثابة لا يكون عطاؤه لا عن قهر منه لما جبلت النفس عليه‏

[معرفة الرب عن طريق الشرع‏]

وفي حق الحق هذه النسبة حقيقة ما ورد من التردد الإلهي في قبضه نسمة المؤمن ولا بد له من اللقاء يريد قبض روحه مع التردد لما سبق في العلم من ذلك فهو في حق الحق كأنه وفي حق العبد هو لا كأنه أدبا إلهيا ودليل العقل يرمي مثل هذا

لقصوره وعدم معرفته بما يستحقه الإله المعبود والحق عرف بهذه الحقيقة التي هي عليها عبادة فقبلتها العقول السليمة من حكم أفكارها عليها بصفة القبول التي هي عليه حين ردتها العقول التي هي بحكم أفكارها وهذه هي المعرفة التي طلب منا الشارع أن نعرف بها ربنا ونصفه بها لا المعرفة التي أثبتناه بها فإن تلك مما يستقل العقل بإدراكها وهي بالنسبة إلى هذه المعرفة نازلة فإنها ثبتت بحكم العقل وهذه ثبتت بالأخبار الإلهي وهو بكل وجه أعلم بنفسه منا به‏

[الكرم والجود]

والكرم العطاء بعد السؤال حقا وخلقا والجود العطاء قبل السؤال حقا لا خلقا فإذا نسب إلى الخلق فمن حيث إنه ما طلب منه الحق هذا الأمر الذي عينه الخلق على التعيين وإنما طلب الحق منه أن يتطوع بصدقة وما عين فإذا عين العبد ثوبا أو درهما أو دينارا أو ما كان من غير أن يسأل في ذلك فهو الجود خلقا وإنما قلنا لا خلقا في ذلك لأنه لا يعطي على جهة القربة إلا بتعريف إلهي ولهذا قلنا حقا لا خلقا وإذا لم يعتبر الشرع في ذلك فالعطاء قبل السؤال لا على جهة القربة موجود في العالم بلا شك ولكن غرض الصوفي أن لا يتصرف إلا في أمر يكون قربة ولا بد فلا مندوحة له عن مراعاة حكم الشرع في ذلك‏

[السخاء والإيثار]

والسخاء العطاء على قدر الحاجة من غير مزيد لمصلحة يراها المعطي إذ لو زاد على ذلك ربما كان فيها هلاك المعطي إياه قال تعالى ولَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الْأَرْضِ ولكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ والإيثار إعطاء ما أنت محتاج إليه في الوقت أو توهم الحاجة إليه قال تعالى ويُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ

[الوهب أصل إلهى والصدقة أصل كونى‏]

وكل ما ذكرناه من العطاء فإنه الصدقة في حق العبد لكونه مجبولا على الشح والبخل كما إن آلام في الأعطيات الإلهية من هذه الأقسام الثمانية إنما هو الوهب وهو الإعطاء لينعم لا لأمر آخر فهو الوهاب على الحقيقة في جميع أنواع عطائه كما هو العبد متصدق في جميع أعطياته لأنه غير مجرد على الغرض وطلب العوض لفقره الذاتي فما ينسب إلى الله بحكم العرض ينسب إلى المخلوق بالذات وما ينسب إلى الحق بالذات كالغنى ينسب إلى المخلوق بالعرض النسبي الإضافي خاصة قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم خُذْ من أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أي ما يشتد عليهم في نفوسهم إعطاؤها ولهذا قال ثعلبة بن حاطب هذه أخية الجزية لما اشتد عليه ذلك بعد ما كان عاهد الله كما أخبرنا الله في قوله ومِنْهُمْ من عاهَدَ الله الآية فلما رزقه الله مالا وفرض الله الصدقة عليه قال ما أخبر الله به عنه وقوله بَخِلُوا به هي صفة النفس التي جبلت عليه وهي إذا حكمت على العبد استبدله الله بغيره نسأل الله العافية وهكذا ورد وإن تتلوا عما سألتموه من الإنفاق وبخلتم يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ أي على صفتكم بل يعطون ما يسألون كما قال فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ فإن الملك أوسع من أن يضيق عن وجود شي‏ء فالصدقة أصل كوني والوهب أصل إلهي‏

[حكم الطبع في أعلى المراتب‏]

ومما يؤيد ما ذكرناه أن الملائكة قالت من جبلتها حيث لم ترد الخير إلا لنفسها وغلب عليها الطبع في ذلك عن موافقة الحق فيما أراد أن يظهره في الكون من جعل آدم خليفة في الأرض فعرفهم بذلك فلم يوافقوه لحكم الطبع في الطمع في أعلى المراتب ثم تستر حكم الطبع لئلا تنسب إلى النقص من عدم موافقة الحق فأقام لهم صورة الغيرة على جناب الحق والإيثار لعظمته وذهلوا عن تعظيمه إذ لو وقفوا مع وما ينبغي له من العظمة لوافقوه ما وافقوه وإن كانوا فصدوا الخير فقالوا أَ تَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ أي فنحن أولى من هذا فرجحوا نظرهم على علم الله في خلقه لذلك قال لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فوصفهم بنفي العلم الذي علم الحق من هذا الخليفة مما لم يعلموا وأثنوا على أنفسهم فمسألتهم جمعت ذلك حيث أثنوا على أنفسهم وعدلوها وجرحوا غيرهم وما ردوا العلم في ذلك إلى الله فهذا من بخل الطبع بالمرتبة

[الملائكة تحت حكم الطبيعة]

وهذا يؤيد أن الملائكة كما ذهبنا إليه تحت حكم الطبيعة وأن لها أثرا فيهم قال تعالى ما كانَ لِي من عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى‏ إِذْ يَخْتَصِمُونَ والخصام من حكمها وقد ورد اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في الشخص الذي مات بين القريتين فوصفهم بالخصام ولو لا أن مرتبتها دون النفس وفوق الهباء لسرى حكمها ومن أراد أن يقف على أصل هذا الشأن فلينظر إلى تضاد الأسماء الإلهية فمن هناك ظهرت هذه الحقيقة في الجميع فهم مشاركون لنا في حكم الطبيعة ومن حكمها البخل والشح فيمن تركب منها وهو من الاسم المانع في الأسماء وسببه فينا إن الفقر والحاجة ذاتي لنا ولكل ممكن ولهذا افتقرت الممكنات إلى المرجح لإمكانها فالمكون عن الطبيعة شحيح بخيل بالذات كريم بالعرض‏

فما فرض الله الزكاة وأوجبها وطهر بها النفوس من البخل والشح إلا لهذا الأمر المحقق فالفرض منها أشد على النفس من صدقة التطوع للجبر الذي في الفرض والاختيار الذي في التطوع فإنه في الفرض عبد بحكم سيد وفي الاختيار لنفسه إن شاء وإن شاء

(وصل في فصل الادخار من شح النفس وبخلها)

[إعطاء العبودية وإعطاء الربوبية]

اعلم أنه من شح النفس الادخار والشبهة لها إلى وقت الحاجة فإذا تعين المحتاج كان العطاء وعلى هذا أكثر بعض نفوس الصالحين وأما العامة فلا كلام لنا معهم وإنما نتكلم مع أهل الله على طبقاتهم والقليل من أهل الله من يطلب على أهل الحاجة حتى يوصل إليهم ما بيده فرضا كان أو تطوعا فالفرض من ذلك قد عين الله أصنافه ورتبه على نصاب وزمان معين والتطوع من ذلك لا يقف عند شي‏ء فإن التطوع إعطاء ربوبية فلا يتقيد والفرض إعطاء عبودية فهو بحسب ما يرسم له سيده وإعطاء العبودية أفضل فإن الفرض أفضل من النفل وأين عبودية الاضطرار من عبودية الاختيار وهذا الصنف قليل في الصالحين وشبهتهم أنا لم نكلف الطلب عليهم والمحتاج هو الطالب فإذا تعين لي بالحال أو بالسؤال أعطيته‏

[الذين يعطون ما بأيديهم كرما إلهيا وتخلقا]

والذين هم فوق هذه الطبقة التي تعطي على حد الاستحقاق فهم أيضا أعلى من هؤلاء وهم الذين يعطون ما بأيديهم كرما إلهيا وتخلقا فيعطون المستحق وغير المستحق وهو عندنا من جهة الحقيقة الآخذ مستحق لأنه ما أخذ إلا بصفة لفقر والحاجة لا بغيرها سواء كانت الأعطية ما كانت من هدية أو وهب أو غير ذلك من أصناف العطايا كالتاجر الغني صاحب الآلاف يجوف القفار ويركب البحار ويقاسي الأخطار ويتغرب عن الأهل والولد ويعرض بنفسه وبماله للتلف في أسفاره وذلك لطلب درهم زائد على ما عنده فحكمت عليه صفة الفقر وأعمته عن مطالعة هذه الأهوال وهونت عليه الشدائد لأن سلطان هذه الصفة في العبد قوية فمن نظر هذا النظر الذي هو الحق فإنه يرى أن كل من أعطاه شيئا وأخذه منه ذلك الآخر فإنه مستحق لمعرفته بالصفة التي بها أخذها منه إلا أن يأخذها قضاء حاجة له لكونه يتضرر بالرد عليه أو ليستر مقامه بالأخذ فذلك يده يد حق كما

ورد أن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل وقوعها بيد السائل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله‏

فهذا أخذ من غير خاطر حاجة في الوقت وغاب عن أصله الذي حركه للاخذ وهو أن ذلك تقتضيه حقيقة الممكن فهذا شخص قد استترت عنه حقيقته في الأخذ بهذا الأمر الغرضي فنحن نعرفه حين يجهل نفسه فما أعطى إلا غني عما أعطاه سواء كان لغرض أو عوض أو ما كان فإنه غني عما أعطى وما أخذ إلا مستحق أو محتاج لما أخذ لغرض أو عوض أو ما كان لأن الحاجة إلى تربية ما أخذ حاجة إذ لا يكون مربيا إلا بعد الأخذ فافهم فإنه دقيق غامض بسبب النسبة الإلهية في التربية للصدقة مع الغني المطلق الذي يستحقه‏

[النسب الإلهية لا ينكرها إلا من ليس بمؤمن خالص‏]

والنسب الإلهية لا ينكرها إلا من ليس بمؤمن خالص فإن الله يقول وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً ويقول جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني‏

وبين ذلك كله فلم يمتنع جل وتعالى عن نسبة هذه الأشياء إليه تنبيها منه لنا إنه هو الظاهر في المظاهر بحسب استعداداتها واليد العليا هي المنفقة فهي خير بكل وجه من اليد السفلي التي هي الآخذة فالمعطي بحق والآخذ بحق ليسا على السواء في المرتبة ولا في الاسم ولا في الحال فما من شي‏ء إلا وله وجه ونسبة إلى الحق ووجه ونسبة إلى الخلق ولهذا جعله إنفاقا فقال وأَنْفِقُوا من ما رَزَقْناكُمْ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فراعى عز وجل في هذا الخطاب أكابر العلماء لأنهم الذين لهم العطاء من حيث ما هو إنفاق لعلمهم بالنسبتين لأنه من النفق وهو جحر اليربوع ويسمى النافقاء له بابان إذا طلب من باب ليصاد خرج من الباب الآخر كالكلام المحتمل إذا قيدت صاحبه بوجه أمكن أن يقول لك إنما أردت الوجه الآخر من محتملات اللفظ

[العطاء له نسبة إلى الحق ونسبة إلى الخلق‏]

ولما كان العطاء له نسبة إلى الحق والغني ونسبة إلى الخلق والحاجة سماه الله إنفاقا فعلماء الخلق ينفقون بالوجهين فيرون الحق فيما يعطونه معطيا وآخذا ويشاهدون أيديهم هي التي يظهر فيها العطاء والأخذ ولا يحجبهم هذا عن هذا فهؤلاء لا يرون إلا مستحقا فكل آخذ إنما أخذ بحكم الاستحقاق ولو لم يستحقه لاستحال القبول منه لما أعطيه كما يستحيل عليه الغني المطلق ولا يستحيل عليه الفقر المطلق‏

[الذين ينتظرون مواقيت الحاجة ويدخرون‏]

ثم إن الذين ينتظرون مواقيت الحاجة ويدخرون كما ذكرنا للشبهة التي وقعت لهم فمنهم من يدخر على بصيرة ومنهم من يدخر لا عن بصيرة فلا نسلم لهم‏

ادخارهم في ذلك لأنه لا عن بصيرة وليس من أهل الله فإن أهل الله هم أصحاب البصائر والذي عن بصيرة فلا يخلو إما أن يكون عن أمر إلهي يقف عند ويحكم عليه أو لا عن أمر إلهي فإن كان عن أمر إلهي فهو عبد محض لا كلام لنا معه فإنه مأمور كما نظنه في عبد القادر الجيلي فإنه كان هذا مقامه والله أعلم لما كان عليه من التصرف في العالم وإن لم يكن عن أمر إلهي فأما أن يكون عن اطلاع أن هذا القدر المدخر لفلان لا يصل إليه إلا على يد هذا فيمسكه لهذا الكشف وهذا أيضا من وجوه عند القادر وأمثاله وإما أن يعرف أنه لفلان ولا بد ولكن لم يطالع على أنه على يده أو على يد غيره فإمساك مثل هذا الشح في الطبيعة وفرح بالوجود ويحتجب عن ذلك بكشفه من هو صاحبه وبهذا احتججنا على عبد العزيز بن أبي بكر المهدوي في ادخاره فوقف ولم يجد جوابا فإنه ادخر لا عن بصيرة إن ذلك على يده ولا عن بصيرة إن ذلك المعين عنده صاحبه فافتضح بين أيدينا في الحال ومثل هذا ينبغي أن لا يدخر ولقد أنصف سيد الطائفة عاقل زمانه المنصف بحاله أبو السعود بن الشبل حيث قال نحن تركنا الحق يتصرف لنا فلم يزاحم الحضرة الإلهية فلو أمر وقف عند الأمر أو عين له وقف مع التعيين وفيه خلاف بين أهل الله فإنه من الرجال من عين لهم إن ذلك المدخر لا يصل إلى صاحبه إلا على يده في الزمان الفلاني المعين فمنهم من يمسكه لي ذلك الوقت ومنهم من يقول ما أنا حارس أنا أخرجه عن يدي إذ الحق تعالى ما أمرني بإمساكه فإذا وصل الوقت فار الحق يرده إلى يدي حتى أوصله إلى صاحبه وأكون ما بين الزمانين غير موصوف بالادخار لأني خزانة الحق ما أنا خازنه إذ قد تفرغت إليه وفرغت نفسي له‏

لقوله وسعني قلب عبدي‏

فلا أحب أن يزاحمه في تلك السعة أمر ليس هو فاعلم لك فقد نبهتك على أمر عظيم في هذه المسألة فلا تصح الزكاة من عارف إلا إذا ادخر عن أمر إلهي أو كشف محقق معين إنه ما يسبق في العلم أن يكون لهذا الشي‏ء خازن غيره فحينئذ يسلم له ذلك وما عدا هذا فإنما يزكي من حيث نزكي العامة انتهى الجزء الثالث والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فضل تقسيم الناس في الصدقات المعطي منهم والآخذ)

[الناس أربعة فيما يأخذون وفيما يعطون‏]

اعلم أن الناس على أربعة أقسام فيما يعطونه وفيما يأخذونه قسم يستعظم ما يعطي ويستحقر ما يأخذ وقسم يستحقر ما يعطي ويستعظم ما يأخذ وقسم يستحقر ما يعطي وما يأخذ وقسم يستعظم ما يعطي وما يأخذ ولهذا منهم من ينتقي وهم الذين لا يرون وجه الحق في الأشياء ومنهم من لا ينتقي وهم الذين يرون وجه الحق في الأشياء وقد ينتقون لحاجة الوقت وقد لا ينتقون لاطلاعهم على فقرهم المطلق فمنهم ومنهم فإن مشاربهم مختلفة وكذلك مشاهدهم وأذواقهم بحسب أحوالهم فإن الحال للنفس الناطقة كالمزاج للنفس الحيوانية فإن المزاج حاكم على الجسم والحال حاكم على النفس‏

[استعظام الصدقة مشروع‏]

ثم اعلم أن استعظام الصدقة مشروع قال تعالى فَكُلُوا مِنْها وأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ وقال وأَطْعِمُوا الْقانِعَ والْمُعْتَرَّ يعني من البدن التي جعلها سبحانه من شعائر الله قال ومن يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فَإِنَّها من تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يعني البدن وفي هذه القصة قال ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وقد ذكرنا في شرح المنفق لذي الإنفاق منه كونه له وجهان فكذلك هنا فنالنا منها لحومها ونال الحق منها التقوى منا فيها ومن تقوانا تعظيمها فقد يكون استعظام الصدقة من هذا الباب عند بعض العارفين فلهذا يستعظم ما يعطي إن كان معطيا أو ما يأخذ إن كان آخذا وقد يكون مشهده ذوقا آخر

[أول مشهد ذاقه ابن عربى في الطريق الصوفي‏]

وهو أول مشهد ذقناه من هذا الباب في هذا الطريق وهو إني حملت يوما في يدي شيئا محقرا مستقذر في العادة عند لعامة لم يكن أمثالنا يحمل مثل ذلك من أجل في النفوس من رعونة الطبع ومحبة التميز على من لا يلحظ بعين التعظيم فرأيت الشيخ ومعه أصحابه مقبلا فقال له أصحابه يا سيدنا هذا فلان قد أقبل وما قصر في الطريق لقد جاهد نفسه يراه يحمل في وسط السوق حيث يراه الناس كذا وذكروا له ما كان بيدي فقال الشيخ فلعله ما حمله مجاهدة لنفسه قالوا له فما ثم إلا هذا قال فاسألوه إذا اجتمع بنا فلما وصلت إليها سلمت على الشيخ فقال لي بعد رد السلام بأي خاطر حملت هذا في يدك وهو أمر محقر مستقذر وأهل منصبك من‏

أرباب الدنيا لا يحملون مثل هذا في يديهم لحقارته واستقذاره فقلت له يا سيدنا حاشاك من هذا النظر ما هو نظر مثلك إن الله تعالى ما استقذره ولا حقره لما علق القدرة بإيجاده كما علقها بإيجاد العرش وما تعظمونه من المخلوقات فكيف بي وأنا عبد حقير ضعيف استحقر وأستقذر ما هو بهذه المثابة فقبلني ودعا لي وقال لأصحابه أين هذا لخاطر من حمل المجاهد نفسه‏

[الوجوه المختلفة لاستعظام الأشياء عند أهل الله‏]

فقد يكون استعظام الصدقة من هذا الباب في حق المعطي وفي حق الآخذ فلاستعظام الأشياء وجوه مختلفة يعتبرها أهل الله‏

أوحى الله إلى موسى عليه السلام إذا جاءتك من أحد باقلاية مسوسة فأقبلها فإني الذي جئت بها إليك‏

فيستعظمها المعطي من حيث إنه نائب عن الحق تعالى في إيصالها ويستعظمها الآخذ من حيث إن الله جاء بها إليه فيد المعطي هنا يد الحق عن شهود أو إيمان قوي‏

فإن الله يقول إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فأضاف القول إليه والعبد هو الناطق بذلك وقال تعالى في الخبر كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا

وقد يكون استعظامها عند أهل الكشف لما يرى ويشاهد ويسمع من تسبيح تلك الصدقة أو الهدية أو الهبة أو ما كانت لله تعالى وتعظيمها لخالقها باللسان الذي يليق بها وقوله تعالى وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فتعظم عنده لما عندها من تعظيم الحق وعدم الغفلة والفتور دائما كما تعظم الملوك الصالحين وإن كانوا فقراء مهانين عبيدا كانوا أو إماء وأهل بلاء كانوا أو معافين ويتبركون بهم لانتسابهم إلى طاعة الله على ما يقال فكيف صاحب هذا المشهد الذي يعاين فمن كان هذا مشهده أيضا من معط وآخذ يستعظم خلق الله إذ هو كله بهذه المثابة وقد يقع التعظيم له أيضا من باب كونه فقيرا إلى ذلك الشي‏ء محتاجا إليه من كون الحق تعالى جعله سببا لا يصل إلى حاجته إلا به سواء كان معطيا وآخذا إذا كان هذا مشهده‏

[الله مسمى بكل ما يفتقر إليه مقصود في كل عبادة]

وقد يستعظم ذلك أيضا من حيث قول الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله فتسمى الله في هذه الآية بكل شي‏ء يفتقر إليه وهذا منها وأسماء الحق معظمة وهذا من أسمائه وهو دقيقة لا يتفطن إليها كل أحد إلا من يشاهد هذا المشهد وهو من باب الغيرة الإلهية والنزول الإلهي العام مثل قوله تعالى وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ مع ما عبد في الأرض من الحجارة والنبات والحيوان وفي السماء من الكواكب والملائكة وذلك لاعتقادهم في كل معبود أنه إله لا لكونه حجرا ولا شجرة ولا غير ذلك وإن أخطئوا في النسبة في أخطئوا في المعبود فلهذا قال وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فكان من قضائه أنهم اعتقدوا الإله وحينئذ عبدوا ما عبدوا فهذا من الغيرة الإلهية حتى لا يعبد إلا من له هذه لصفة وليس إلا الله سبحانه في نفس الأمر فقد تستعظم الصدقة من هذا الكشف‏

[الوجوه المختلفة لاستحقار الأشياء عند أهل الله‏]

وأما استحقارها عند بعضهم فلمشهد آخر ليس هذا فإن مشاهد القوم وأحوالهم وأذواقهم ومشاربهم تحكم عليهم بقوتها وسلطانها وهل كل ما ذكرناه في الاستعظام إلا من باب حكم الأحوال والأذواق والمشاهد على أصحابها

[الإمكان للممكن صفة افتقارية]

فمنها إن يشاهد إمكان ما تعطيه من صدقة إن كان معطيا أو ما يأخذ إن كان آخذا والإمكان للممكن صفة افتقارية وذلة وحاجة وحقارة فيستحقر صاحب هذا المشهد كل شي‏ء سواء كان ذلك من أنفس الأشياء في العادة أو غير نفيس‏

[ابن عربى شاهد على عصره‏]

وقد يكون مشوبا أيضا في الاستحقار من يعطي من أجل الله ويأخذ بيد الله رأيت بعض أهل الله فيما أحسب فإني لا أزكي على الله أحدا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله وقد نهانا الله عن ذلك وقد سأل فقير شخصا أن يعطيه صدقة لله فأخرج الرجل المسئول صرة فيها قطع فضة بين كبير وصغير فأخذ يفتش فيها بيده وذلك الرجل الصالح بنظر إليه ثم رد وجهه إلي وقال لي تعلم على من يبحث هذا المتصدق قلت لا قال على قدر منزلته عند الله فإنه يعطي من أحل الله فإذا رأى قطعة كبيرة يعدل عنها يقول ما تساوي عند الله هذا القدر إلى أن عمد إلى أصغر قطعة وجدها فأعطاها السائل فقال ذلك الصالح هذه قيمتك عند الله‏

[كل شي‏ء محتقر في جنب الله‏]

ألا كل شي‏ء محتقر في جنب الله لكن هنا كرم إلهي يستند إلى غيرة إلهية وذلك‏

أن الناس يوم القيامة ينادي مناد فيهم من قبل الله أين ما أعطى لغير الله فيؤتى بالأموال الجسام والعقار والأملاك ثم يقال أين ما أعطى لوجهي فيؤتى بالكسر اليابسة والفلوس وقطع الفضة المحفرة والخليع من الثياب فغار الحق لذلك إن يعطي لوجهه من نعمته مثل ذلك فأخذ الصدقة بيده ورباها حتى صارت مثل جبل أحد أكبر ما يكون فيظهرها له على رءوس الأشهاد ويحقر ما أعطى لغير الله فيجعله هَباءً مَنْثُوراً

فلا بد من الاستحضار لمن هذا مشهده وأمثال هذا مما

يطول ذكره وقد نبهنا على ما فيه كفاية من ذلك مما تدخل فيه الأربعة الأقسام التي قسمنا العالم إليها في أول هذا الفصل‏

(وصل في فصل أحوال الناس في الجهر بالصدقة والكتمان)

[اعتبار الأسرار في الصدقة]

من الناس من يراعي صدقة السر لأجل ثناء الحق على ذلك‏

في الحديث الحسن الذي يتضمن قوله ما تدري شماله ما تنفق يمينه‏

وما جاء في صدقة لسر واعتناء الله بذلك فيسر بها لعلم الله بما أنفق لا لغير ذلك من إخلاص وشبهه لأن القوم قد حفظهم الله عن الشرك الجلي والخفي فممن يخلصون‏

وما ثم إلا الله لا رب غيره‏

وذلك لمشاهدتهم الحق في الأعمال عاملا فيعلمون إن الحق تعالى ما ذكر باب السر في مثل هذا وفضله على الإعلان في حق من يرى هذا النظر إلا لعلم له في ذلك وإن لم يطلع عليه لا لأجل الإخلاص والجهر إذا الجهر والسر قد تساويا في حق هؤلاء في المعطي والآخذ ومن هذا الباب‏

قوله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم‏

الحديث‏

[اعتبار الإعلان في الصدقة]

وأما صاحب الإعلان بالصدقة فليس هذا مشهده ولا أمثاله وإنما الغالب على قلبه وبصره مشاهدة الحق في كل شي‏ء فكل حال عنده أعمال بلا شك ما يشهد غير هذا فيعلن بالصدقة كما يذكره في الملإ فإن من ذكره في الملإ فقد ذكره في نفسه فإن ذكر النفس متقدم بلا شك وما كل من ذكره في نفسه ذكره في ملأ فهذه حالة زائدة على الذكر النفسي لا مرتبة تفوت صاحب ذكر لنفس فإن ذكر النفس لا يطلع عليه في الحالتين فهو سر بكل وجه فصدقة الإعلان تؤذن بالاقتدار الإلهي فعمن يخفيها أو يسرها وهو الظاهر في المظاهر الإمكانية وهذه كانت طريقة شيخنا أبي مدين وكان يقول قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ أَ غَيْرَ الله تَدْعُونَ وقد يعلن بها للتأسي وراثة نبوية

[الرياء والإخلاص عند العامة والخاصة من أهل الله‏]

وأما ما يذكر عامة أهل هذا الطريق كأبي حامد والمحاسبي وأمثالهما من العامة من الرياء وطلب الإخلاص فإنما ذلك خطاب الحق بلسان العموم ليعم بذلك ما هو لسان من لا يرى لا لله ونحن إنما نتكلم مع أهل الله في ذلك ولقد كان شيخنا يقول لأصحابه أعلنوا بالطاعة لله حتى تكون كلمة الله هي العليا كما يعلن هؤلاء بالمعاصي والمخالفات وإظهار المنكرات ولا يستحيون من الله قال بعض السادة لأصحاب شيخ معتبر بما ذا كان يأمركم شيخكم قال كان يأمرنا بالاجتهاد في الأعمال ورؤية التقصير فيها فقال أمركم والله بالمجوسية المحضة هلا أمركم بالأعمال وبرؤية مجريها ومنشئها فهذا من هذا الباب‏

[الكامل من يعطى بالحالتين ليجمع بين الحقيقتين‏]

فقد نبهتك على دقائق صدقة السر والإعلان في نفوس القوم مع الخلاف الذي بين علماء الرسوم في الصدقة المكتوبة وصدقة التطوع وهو مشهور لا يحتاج إلى ذكره لشهرته من أجل طلب الاختصار والاقتصاد وفي صدقة الإعلان ورد من سن سنة حسنة الحديث وأما الكامل من أهل الله فهو الذي يعطي بالحالتين ليجمع بين المقامين ويحصل النتيجتين وينظر بالعينين ويسلك النجدين ويعطي باليدين فيعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه الإعلان ويسر بها في وقت الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه الأسرار وهذا هو الأولى بالكمل من أهل الله في طريق الله تعالى‏

(وصل في فصل صدقة التطوع)

[صدقة التطوع والإيجاب على النفس‏]

صدقة التطوع عبودية اختيار مشوبة بسيادة وإن لم تكن هكذا فما هي صدقة تطوع فإنه أوجبها على نفسه إيجاب الحق الرحمة على نفسه لمن تاب وأصلح من العاملين السوء بجهالة فهذه مثلها ربوبية مشوبة يحكم عليه بها فإن الله تعالى لا يجب عليه شي‏ء بإيجاب غيره فهو الموجب على نفسه الذي أوجبه من حيث ما هو موجب فمن أعطى من هذا الوجوب من هذه المنزلة ثم نفرض أن هذه المرتبة الإلهية إذا فعلت مثل هذا ونفرض لها ثوابا مناسبا على هذا الفعل فنعطيه بعينه لمن أعطى بهذا الوجوب من هذه المنزلة وهم أفراد من العارفين بصدقة التطوع فإن الحق من ذلك المقام يثيبه إذا كان هذا مشربه وهذه مسألة ذوقية مشهودة للقوم ولكن ما رأيت أحدا نبه عليها قبلي إلا إن كان وما وصل إلي فإنه لا بد لأهل الله المتحققين بهذا المقام من إدراك هذا ولكن قد لا يجريه الله على ألسنتهم أو تتعذر على بعضهم العبارة عن ذلك وقد ذكرناها في كتابنا هذا في غير هذا الموضع بأبسط من هذا القول وأوضح من هذه العبارة

[صدقة التطوع أعلى من صدقة الفرض‏]

وبهذا الاعتبار تعلو صدقة التطوع على صدقة الفرض ابتداء فإن هذا التطوع أيضا قد يكون واجبا بإيجاب الله إذ أوجبه العبد على نفسه كالنذر فإن الله أوجبه بإيجاب العبد وغير النذر قد يلحق بهذا الباب‏

قال الأعرابي في صحيح الحديث‏

يا رسول الله في الزكاة هل على غيرها قال لا إلا أن تطوع‏

فيحتمل إن الله يوجب عليه ذلك إذا تطوع به فيلحقه بدرجة القرض فيكون في الثواب على السواء مع زيادة أجر التطوع في ذلك فيعلو على الفرض الأصلي بهذا القدر والله يقول لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فنهي والنهي يعم العمل به بخلاف الأمر فالشروع في الشرع ملزم وهو الأظهر فسوى في النهي بين المفروض وغير المفروض وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم النافلة في الصلاة والصيام‏

ولا يجوز عندنا ذلك في الفرائض وهي مسألة خلاف في قضاء الفرض الموقت‏

[العبد مجبور في اختياره تشبيها بالأصل الذي أوجده‏]

وليس معنى التطوع في ذلك كله إلا أن العبد عبد بالأصالة ومحل لما يوجبه عليه سيده فهو بالذات قابل للوجوب والإيجاب عليه فالتطوع إنما هو الراجع إلى أصله والخروج عن الأصل إنما هو بحكم العرض فمن لزم الأصل دائما فلا يرى إلا الوجوب دائما لأنه مصرف مجبور في اختياره تشبيها بالأصل الذي أوجده فإنه قال ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فما يكون منه إلا ما سبق به العلم فانتفى الإمكان بالنسبة إلى الله فما ثم إلا أن يكون أو لا يكون غير هذا ما في الجناب الإلهي ومنه قال في حديث التردد ولا بد له من لقائي أي لا بد له من الموت وقوله أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ وقوله حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَ‏

[الحكم للوجوب والإمكان لا عين له‏]

فليس في الأصل إلا أمر واحد عند الله فليس في الكون واقع إلا أمر واحد علمه من علمه وجهله من جهله هذا تعطي الحقائق فالحكم للوجوب والإمكان لا عين له بكل وجه الواحد إذا لم يكن فيه إلا حقيقة الوحدة من جميع الوجوه فليس للكثرة وجه فيه تخرج عنه بذلك الوجه فلا يخرج عنه إلا واحد فإن كان في الواحد وجوه معان أو نسب مختلفة فالكثرة الظاهرة عنه لا تستحيل لأجل هذه الوجوه الكثيرة

[سبحان الواحد الموحد بالواحد وأحدية الكثرة]

فاجعل بالك من هذه المسألة فإنك من هنا تعرف من أين جئت ومن أنت وهل أنت واحد أو كثير ومن أي وجه يقبل الواحد الكثرة ويقبل الكثير الوحدة ولما ذا كانت الحكمة في الكثرة أوسع منها في الواحد والواحد هو الأصل فبما ذا خرج الفرع عن حكم الأصل وما ثم من يعضده وهل النسب التي أعطت الكثرة في الأصل هل ترجع إلى الأصل أو تعطيها أحكام الفرع وليست في الأصل أعيان وجودية هذا كله يتعلق بهذه المسألة فسبحان الواحد الموحد بالواحد وأحدية الكثرة فإن للكثرة أحدية تخصها لا بد من ذلك بها سميت تلك الكثرة المعينة وتميزت عن غيرها فما وقع التميز بين الأشياء آحادا أو كثيرين إلا بالوحدة ولو اشترك فيها اثنان ما وقع التميز والتميز حاصل فالوحدة لا بد منها في الواحد والمجموع فما ثم إلا واحد أصلا وفرعا فانظر يا أخي فيما نبهتك عليه فإنه من لباب المعرفة الإلهية وانظر ما تعطيه صدقة التطوع وما أشرف هذه الإضافة

(وصل في استدراك تطهير الزكاة)

(وصل في الزكاة من غير الجنس في المال المزكى)

فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خمس من الإبل شاة وصنف الشاة غير صنف الإبل‏

فالأصل في هذه المسألة هل يطهر الشي‏ء بنفسه أو يطهر بغيره فالأصل الصحيح أن الشي‏ء لا يطهر إلا بنفسه هذا هو الحق الذي يرجع إليه وإن وقع الخلاف في الصورة فالمراعاة إنما هي في الأصل‏

[الماء والتراب مختلفان في الصورة لا في الأصل‏]

لما فرض الله الطهارة للعبادة بالماء والتراب وهما مخالفان في الصورة غير مخالفين في الأصل فالأصل إنه من الماء خلق كل شي‏ء حي وقال في آدم خَلَقَهُ من تُرابٍ فما أوقع الطهارة في الظاهر إلا بنفس ما خلق منه كالحيوانية الجامعة للشاء والإبل والمالية للشاء والإبل وغير ذلك فلو لا هذا الأمر الجامع ما صحت الطهارة فلهذا صحت الزكاة في بعض الأموال بغير الصنف الذي تجب فيه الزكاة

[تقديس العبد هو معرفته بنفسه‏]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطهير الإنسان من الجهل من عرف نفسه عرف ربه‏

فبمعرفته صحت طهارته لمعرفته بربه فالحق هو القدوس المطلق وتقديس العبد معرفته بنفسه فما طهر إلا بنفسه فتحقق هذا

(وصل في فصل النصاب)

النصاب المقدار وهو الذي يصح أن يقال فيه كم ويكون كيلا ووزنا وقد بين الشارع نصاب المكيل ونصاب الموزون‏

(الاعتبار في هذا)

المكيل المعقول لما

ورد في الخبر النبوي من تقسيم العقل في الناس بالقفيز والقفيزين والأكثر والأقل‏

فألحقه الشارع بالمكيل وإن كان معنى فهو صاحب الكشف لأتم الأعم الأجلى وقد عرفناك قبل إن الحضرات ثلاث عقلية وحسية وخيالية والخيالية هي التي تنزل المعاني إلى الصور المحسوسة أعني تجليها فيها إذ لا نعقلها

إلا هكذا ومن هذه الحضرة قسم الشارع العقل كيلا تكون العقل أظهره له الحق في صورة المكيل أعني العقول لما أراد الله من ذلك‏

[الموزون هي الأعمال في حضرة المثال‏]

وأما الموزون فالأعمال وهي أيضا معان عرضية تعرض للعامل فألحقها الله بالموزون فقال ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ وقال فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فأدخل العمل في الميزان فكان موزونا ولكن في هذه الحضرة المثالية التي لا تدرك المعاني إلا في صورة المحسوس حتى التحلي الإلهي في النوم فلا ترى الحق إلا صورة وقد ورد في ذلك من الأخبار ما يغني عن الاستقصاء في تحقيق ذلك وهو شي‏ء يعلمه كل إنسان إذ كل إنسان له تحيل في اليقظة والمنام ولهذا يعبر ما يدركه الخيال كما عبر الشارع عليه السلام من صورة اللبن إلى العلم ومن صورة القيد إلى الثبات في الدين‏

[كميات الموزون وكميات العدد]

فهذا معرفة النصاب بما هو نصاب لا بما هو نصاب في كذا فإن ذلك يرد في نصاب ما تخرج منه الزكاة ويندرج في هذا الباب معرفة ما له كمية واحدة وكميات كثيرة فإن لنا في ذلك مذهبا من أجل أن قطعة الفضة أو الذهب قد تكون غير مسكوكة فتكون جسما واحدا فإذا وزنت أعطى وزنها النصاب أو أزيد من ذلك فمن كونها جسما واحدا هل لذلك الجسم كمية واحدة أو كميات كثيرة أعني أزيد من واحد فاعلم إن الأعداد تعطي في الشي‏ء كثرة الكميات وقلتها والعدد كمية فإن كان العدد بسيطا غير مركب فليس له غير كمية واحدة وهو من الواحد إلى العشرة إلى عقد العشرات عقدا عقدا كالعشرين والثلاثين إلى المائة إلى المائتين إلى الألف إلى الألفين وانتهى الأمر فإذا كان الموزون أو المكيل ينطلق عليه وهو جسم واحد أحد هذه الألقاب العددية فإنه ذو حكم واحد فإن انطلق عليه غير هذه الألقاب من الأعداد مثل أحد عشر أو مثل مائة وعشرين أو مثل ثلاثمائة ومثل ثلاثة آلاف أو ما تركب من العدد فكمياته من العدد بحسب ما تركب أو يكون الموزون ليس جسما واحدا كالدراهم والدنانير فله أيضا كميات كثيرة فإن كان العدد مركبا والموزون مجموعا من آحاد كان العدد والموزون ذو كميات فإن كان أحدهما مركبا أو مجموعا والآخر ليس بمجموع أو ليس بمركب كان ما ليس بمركب ولا مجموع ذو كمية واحدة وكان المركب والمجموع ذا كميات فاعلم ذلك وتحدث الكميات في الأجسام بحدوث الانقسام إذ الأجسام تقبل القسمة بلا شك ولكن هل يرد الانفصال بالقسمة على الاتصال أم لا فإن ورد على الاتصال كما يراه بعضهم فالجسم الواحد ذو كميات وإن لم يرد على الاتصال كما يراه بعضهم فليس له سوى كمية واحدة وهذا التفصيل الذي ذكرناه نحن من كميات الموزون وكميات العدد على هذا ما رأينا أحدا تعرض إليه وهو مما يحتاج إليه ولا بد ومن عرف هذه المسألة عرف هل يصح إثبات الجوهر الفرد الذي هو الجزء الذي لا يقبل القسمة ما لا يصح‏

[أصناف العدد في نصاب الزكاة]

ثم لتعلم إن من حكمة الشرع جمعه أصناف العدد فيما تجب فيه الزكاة وهي الفردية فجعلها في الحيوان فكان في ثلاثة أصناف والثلاثة لأول الأفراد وهي الإبل والبقر والغنم وجعل الشفعية في صنفين في المعدن وهو الذهب والفضة وفي الحبوب وهو الحنطة والشعير وجعل الأحدية في صنف واحد من الثمر وهو الثمر خاصة هذا بالاتفاق بلا خلاف وما عدا هذا مما يزكى فبخلاف غير مجمع عليه فمنه خلاف شاذ ومنه غير شاذ

(وصل في فصل زكاة الورق)

اتفقوا على أنه خمس أواق للخبر الصحيح والأوقية أربعون درهما هذا هو النصاب في الورق وزكاته خمسة دراهم وذلك ربع لعشر

(وصل الاعتبار في ذلك)

لكل صنف كمال ينتهي إليه فالكمال في الصنف المعدني حازه الذهب وسيأتي ذكره في زكاة الذهب والورق على النصف من درجة الكمال والمدة الزمانية لحصول الكمال المعدني ستة وثلاثون ألف سنة والورق ثمان عشرة ألف سنة وهو نصف زمان الكمال وجميع المعادن تطلب درجة الكمال لتحصلها فتطرأ في الطريق علل تحول بينهم وبين البلوغ إلى الغاية فالواصل منها إلى الغاية هو المسمى ذهبا وما نزل عن هذه الدرجة لمرض غلب عليه حدث له اسم آخر من فضة ونحاس وأسرب وقزدير وحديد وزئبق‏

[تكوين الذهب ومعانات السلوك في طريق الكمال‏]

فيكون الذهب عن اتحاد أبويه بالنكاح والتسوية في لتناسب واستيلاء حرارة المعدن في الكل على السواء ولم يعرض للأبوين من البرودة واليبوسة ما يؤثر في هذا الطالب درجة الكمال قبل تحكم سلطان حرارة المعدن فإذا كان السالك بهذه المثابة بلغ الغاية فوجد عين لذهب فإن دخل عليه في سلوكه من البرودة فوق ما يحتاج إليه‏

أمرضه وحال بينه وبين مطلوبه حدث له اسم الفضة فما نزلت عن الذهب إلا بدرجة واحد والكمال في الأربعة وقد نقص هذا عن الكمال بدرجة واحدة من أربعة والأربعة أول عدد كامل ولهذا يتضمن العشرة فكان في الفضة ربع العشر لنقصان درجة واحدة عن الذهب بغلبة البرودة والبرودة أصل فأعلى والحرارة أصل فأعلى والرطوبة واليبوسة فرعان منفعلان فتبعت الرطوبة البرودة لكونها منفعلة عنها فلهذا تكونت الفضة على النصف من زمان تكوين الذهب‏

[الإعجاز العلمي في القرآن‏]

ولما كان المنفعل يدل على الفاعل ويطلبه بذاته لهذا استغنى بذكر المنفعل عن ذكر ما انفعل عنه لتضمنه إياه فقال تعالى ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ ولم يذكر ولا حار ولا بارد وهذا من فصاحة القرآن وإعجازه حيث علم أن الذي أتى به وهو محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن اشتغل بالعلوم الطبيعية فيعرف هذا القدر فعلم قطعا إن ذلك ليس من جهته وأنه تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ وأن القائل بهذا عالم وهو الله تعالى فعلم النبي صلى الله عليه وسلم كل شي‏ء بتعليم الله إياه وإعلامه لا بفكره ونظره وبحثه فلا يعرف مقدار النبوة إلا من أطلعه الله على مثل هذه الأمور فانظر ما أحكم علم الشرع في فرض الزكاة في هذه الأصناف على هذا الحد المعلوم في كل صنف صنف لمن نظر واستبصر

(وصل في فصل نصاب الذهب)

المتفق عليه في نصاب الذهب ما نذكره إن شاء الله فقالت طائفة تجب الزكاة في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم ومن قائل ليس في الذهب شي‏ء حتى يبلغ أربعين دينارا ففيه دينار واحد وهو ربع العشر أعني عشرها لأن عشر الأربعين أربعة وربع الأربعة واحد ومن قائل ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفه مائتي درهم أو قيمتها فإذا بلغ ففيه ربع عشرة سواء بلغ عشرين دينارا أو أقل أو أكثر هذا فيما كان من ذلك دون الأربعين حينئذ يكون الاعتبار في الذهب ما ذكرناه فإذا بلغ الأربعين كان الاعتبار بها نفسها لا بالدراهم لا صرفا ولا قيمة

(الاعتبار في ذلك)

في كل أربعين دينارا دينار وهو ربع العشر من ذلك قد ذكرنا أن الفضة لما حكم عليها وهي تطلب الكمال الذي ناله الذهب طبع واحد وهو البرودة من الأربع الطبائع فأخذت من الذهب طبعا واحدا أخرجته عن محل الاعتدال فلهذا أخذ من الأربعين التي هي نصاب الذهب دينار واحد وهو ربع العشر لأنك إذا ضربت أربعة في عشرة كان الخارج أربعين فالأربعة عشر الأربعين والواحد ربع الأربعة فهو ربع عشرها وهو الواحد الذي أخذته الفضة وصارت به فضة في طلبها درجة الكمال فنقص من الذهب هذا القدر فكانت زكاته دينارا

[اعتبار القائل نصاب الذهب 2و< دينارا]

وهذا الدينار قد اجتمع مع الخمسة الدراهم في كونه ربع عشر ما أخذ منه فإن العشرين عشر المائتين وربع العشرين خمسة فكان في المائتين خمسة دراهم وهي ربع عشرها فمن حمل الذهب على الفضة وقال إن في عشرين دينارا كما في مائتي درهم أو من قال بالصرف والقيمة بمائتي درهم فأوجب الزكاة فيما هذا قيمته وصرفه من الذهب وهذا فيما دون الأربعين فإنه ما ورد نهي فيما دون الأربعين من الذهب كما ورد في الورق فإنه قال ليس فيما دون خمس أواق صدقة ولم يقل ليس فيما دون الأربعين فلهذا ساغ الخلاف في الذهب ولم يسغ في الورق واجتمعا في ربع العشر بكل وجه واعتبر العشر والربع منه لتضمن الأربعة العشرة فضربت فيها ولم تضرب في غيرها لأن الأربعة تتضمن عينها وما تحتها من العدد فيكون من المجموع عشرة ولهذا قيل في الأربعة أنه أول عدد كامل فإن الأربعة عينها وفيها الثلاثة فتكون سبعة وفيها الاثنان فتكون تسعة وفيها الواحد فتكون عشرة فمن ضرب الأربعة في العشرة كان كمن ضرب الأربعة في نفسها بما تحوي عليه فوجبت الزكاة لنظرها لنفسها في ذلك ولم تنظر إلى بارئها وموجدها فأخذا الحق منها نظرها إلى نفسها وسماه زكاة لها أي طهارة من الدعوى فبقيت لربها بربها فلم يتعين له فيها حق يتميز لأنها كلها له لا لذاتها

(وصل في فصل الأوقاص وهي ما زاد على النصاب مما يزكى)

أجمع العلماء على زكاة الأوقاص في الماشية وعلى أنه لا أوقاص في الحبوب واختلفوا في أوقاص الذهب والورق وبترك الزكاة في أوقاص الذهب والورق أقول فإن إلحاقهما بالحبوب أولى من إلحاقهما بالماشية فإن الحيوان مجاور للنبات والنبات مجاور للمعدن فإلحاقه في الحكم بالمجاور أحق فإن الجار أحق بصقبه‏

(وصل في اعتبار هذا)

الكمال لا يقبل‏

النقص والزكاة نقص من المال ولهذا لما كمل الحيوان بالإنسانية لم يكن فيه زكاة فإن الأشياء ما خلقت إلا لطلب الكمال فلا كامل إلا الإنسان وأكمل المعادن الذهب ولهذا لا يقبل النقص بالنار مثل ما يقبله سائر المعادن فإن قلت فالفضة قد نزلت عن درجة الكمال فهي ناقصة فوجبت الزكاة في أوقاصها قلنا قد أشركها الحق في الزكاة إذا بلغت النصاب في الذهب ولم يفعل ذلك في سائر المعادن فلو لا إن بينهما مناسبة قوية لما وقع الاشتراك في الحكم فليكن في الأوقاص كذلك‏

[التبدل والتحول في الصور واختلاف النسب على الجناب الإلهي‏]

فإن قلت إن الزكاة نقص من المال ومن بلغ الكمال لا ينقص والذهب قد بلغ الكمال والزكاة فيه إذا بلغ النصاب وهو ذهب في النصاب وذهب في الأوقاص ما زال عنه حكم الكمال قلنا كذلك أقول هكذا كان ينبغي لو جرينا على هذا الأصل لكن عارضنا أصل آخر إلهي وهو التبدل والتحول في الصور عند التجلي الإلهي واختلاف النسب والاعتبارات على الجناب الإلهي والعين واحدة والنسب مختلفة فهي العالمة من كذا والقادرة والخالقة من كذا فالحق سبحانه ما فرض الزكاة في أعيان المزكى من كونها أعيانا بل من كونها على الخصوص أموالا في هذه الأعيان خاصة لا في كل ما ينطلق عليه اسم مال فاعتبرنا لما جاء الحكم بالزكاة فيهما إذا بلغا النصاب المالية وما اعتبرنا أعيانهما واعتبرنا في الأوقاص أعيانهما لا المالية فرفعنا الزكاة فيهما كما اعتبرنا في تحول التجليات الاعتقادات والمرتبة وما اعتبرنا الذات واعتبرنا في التنزيه الذات وما اعتبرنا المرتبة ولا الاعتقادات فلما كان أصل الوجود وهو الحق تعالى يقبل الاعتبارات سرت تلك الحقيقة في بعض الموجودات بل في الموجودات مطلقا فاعتبرنا فيها وجودها مختلفة تارة لأمور عقلية وتارة لأمور شرعية

[الرقيق إنسان وله الكمال‏]

أ لا ترى الرقيق وهو إنسان وله الكمال إذا اعتبرنا فيه المالية أو اعتبارنا أيضا في المشتري له التجارة قومناه عليه بالقيمة وأنزلناه منزلة ما يزكى من المال فأخرجنا من قيمته الزكاة

[تجلى الحق في حضرة التمثل‏]

أ لا ترى كمالية الحق لا تقبل وصفا من نعوت المحدثات فلما تجلت في حضرة التمثل للابصار المقيدة بالحس المشترك تبعت الأحكام هذا التجلي الخاص‏

فقال تعالى جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني ومرضت فلم تعدني‏

ولما وقع النظر فيه من حيث رفع النسب قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وقال فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فمن كان غنيا عن الدلالة عليه كان هو الدليل على نفسه لشدة وضوحه فإنه لا شي‏ء أشد في الدلالة من الشي‏ء على نفسه‏

[الأحكام تتبع الاعتبارات‏]

وقد نبهتك على إن الأحكام تتبع الاعتبارات والنسب وبعد أن وقع الحكم من الشارع في أمر ما بما حكم به عليها فلا بد لنا أن ننظر ما اعتبر فيه حتى حكم عليه بذلك الحكم وبهذا يفضل العالم على الجاهل فإذا تقرر هذا فاعلم إن البلوغ بالسن أو الإنبات أو الحلم للعقل هو كالنصاب في المال فكما إن النصاب إذا وجد في المال وجبت الزكاة فيه كذلك يجب التكليف على العاقل إذا بلغ ثم بعد أوان البلوغ يستحكم عقله لمرور الأزمان عليه كما يزيد المال بالتجارة فتظهر الأوقاص فمن لم يجد في استحكام عقله إن الله هو الفاعل مطلقا وأن العبد لا أثر له في الفعل وجبت عليه الزكاة في الأوقاص والزكاة حق الله في المال فنضيف إلى الله من أعماله ما ينبغي أن يضيف‏

[نسبة الفعل إلى الله أو إلى الإنسان‏]

وهنا رجلان منهم من يضيف إلى الله ما يضيفه على جهة الحقيقة ويضيف إلى نفسه من أعماله ما يضيف على جهة الأدب كقوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وكقوله فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وكقول الخليل وإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وكقوله ما أَصابَكَ من حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ومنهم من يضيف ذلك العمل كله إلى الإنسان عقلا وشرعا كالمعتزلي ويضيف إلى الله من ذلك خلق القدرة له في هذا العامل لا غير وأما من لا يرى الأفعال في استحكام عقله إلا من الله ولا أثر للعبد فيها لم ير الزكاة في الأوقاص لأنه ما ثم ما يرد إلى الله فإنه علم إن الكل لله كما قال شيبان الراعي لما سئل عن الزكاة فقال لابن حنبل وللشافعي وهما كانا السائلين على مذهبنا أو على مذهبكم إن كان على مذهبنا فالكل لله لا نملك شيئا وإن كان على مذهبكم ففي كل أربعين شاة من الغنم شاة فاعتبر شيبان أمرا ما فأوجب الزكاة واعتبر أمرا آخر فلم يوجب الزكاة والمال هو المال بعينه‏

(وصل في فصل ضم الورق إلى الذهب)

فمن قائل نضم الدراهم إلى الدنانير فإذا كان من مجموعهما النصاب وجبت الزكاة ومن قائل لا يضم فضة إلى ذهب ولا ذهب إلى فضة وبه أقول‏

(الاعتبار في ذلك)

قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لعينك عليك حقا ولنفسك عليك حقا

فكل ونم‏

وإن كان الإنسان هو الجامع لعينه ونفسه الحيوانية ولكن جعل الله لكل واحد منهما حقا يخصه فحق العين هنا النوم وحق النفس النباتية التغذي وهو الأكل فلا يضم شي‏ء إلى شي‏ء فإن النوم ما يقوم مقام الأكل ولا الأكل يقوم مقام النوم فلا يضم شي‏ء إلى شي‏ء

[اعتبار من يرى الضم‏]

والذي يرى ضم الشي‏ء إلى الشي‏ء يرى ضم النوم إلى الأكل فإن الأكل سبب في حصول النوم لما يتولد منه من الأبخرة المرطبة التي يكون بها النوم فتنال العين حقها والنفس حقها فلا بأس بضم الذهب إلى الفضة لحصول الحق من ذلك المجموع‏

(وصل في فصل الشريكين)

فمن قائل إن الشريكين لا زكاة عليهما في مالهما حتى يكون لكل واحد منهما نصاب وبه أقول ومن قائل إن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد

(الاعتبار في ذلك)

العمل من الإنسان إذا وقع فيه الاشتراك فليس فيه حق لله فلا زكاة فيه‏

لأن الله تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بري‏ء

وهو الذي أشرك وقال صلى الله عليه وسلم من قال هذا لله ولوجوهكم فهو لوجوهكم ليس لله منه شي‏ء

[النصاب بالاشتراك غير معتبر]

والنصاب بالاشتراك غير معتبر فإن الشريكين في حكم الانفصال وإن كانا متصلين فإن الاتصال هو الدليل على وجود الانفصال إذ لو لا الفصل لم يكن الاتصال وإذا كان الحكم للانفصال ولم يبلغ أحدهما ما عنده النصاب في ماله لم تجب عليه الزكاة فإن الزكاة وإن كانت تطلب المال فما تطلبه إلا من المكلف بإخراجه‏

[المال في بيت المال لا زكاة فيه‏]

أ لا ترى المال الذي في بيت المال ما فيه زكاة لاشتراك الخلق فيه مع وجود النصاب فيه وحلول الحول إذا مسكه الإمام ولم يفرقه لمصلحة رآها في ذلك فلما اعتبر الخلق المشتركين فيه لم تبلغ حصة واحد منهم النصاب ولم يتعين أيضا رب المال فإذا عينه الإمام ودفع إليه ما يبلغ النصاب فقد خرج من بيت المال وتعين مالكه فزال ذلك الحكم فإذا مضى عليه الحول أدى زكاته انتهى الجزء الرابع والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فصل زكاة الإبل)

الزكاة فيها بالاتفاق وقدرها ونصابها مذكور في أحكام الشريعة

(الاعتبار) [الزكاة مطهرة رب المال من البخل‏]

حكم الشارع على الإبل إنها شياطين فأوجب فيها الزكاة لتطهر بذلك من هذه النسبة إذ الزكاة مطهرة رب المال من صفة البخل الشيطنة البعد يقال بئر شطون إذا كانت بعيدة القعر وسمي الشيطان لبعده من رحمة الله لما أَبى‏ واسْتَكْبَرَ وكانَ من الْكافِرِينَ‏

[الأفعال إذا لم تنسب إلى الله فقد أبعدت عن الله‏]

والأفعال والأعمال إذا لم تنسب إلى الله فقد أبعدت عن الله فوجبت الزكاة فيها وهو ما لله فيها من الحق يردها إليه سبحانه فإذا ردت إليه اكتسبت حلة الحسن فقيل أفعال الله كلها حسنة والزكاة واجبة على المعتزلي من حيث اعتقاده خلق أعمال العباد لهم والأشعري تجب عليه الزكاة لإضافة كسبه في العمل إلى نفسه‏

[في كل خمس ذود شاة]

وكان في كل خمس ذود شاة والخمس هو عين الزكاة من الورق وهو ربع العشر فصار حكم العدد الذي كان زكاة يزكى أيضا كمن يرى الزكاة في الأوقاص فيخرج من كل أربعة دنانير درهما ومن أربعين درهما درهما وكما أخرجت من الذهب درهما في الأوقاص وليس الورق من صنف الذهب كذلك الشاة تخرج في زكاة خمس من الإبل وليست من صنفها

[يؤخذ حق الله من الجارحة]

كذلك يؤخذ حق الله من الجارحة بالحرق بالنار والقطع في السرقة والنفس المكلفة هي السارقة وليست من جنس الجارحة وتطهرت من حكم السرقة بقطع اليد كما تطهر الخمس من الإبل بإخراج الشاة وليست من صنف المزكى وقد تقدم حكم الأوقاص فلا يحتاج إلى ذكره هنا

(وصل في صغار الإبل)

فمن قائل تجب فيها الزكاة ومن قائل لا تجب‏

(الاعتبار)

الصغير لا يجب عليه التكليف حتى يبلغ فلا زكاة في صغار الإبل والصغير يعلم الصلاة ويضرب عليها وهو ابن عشر سنين ولا يضرب إلا على واجب والبلوغ ما حصل فتجب الزكاة في صغار الإبل العقل إذا وجد من الصبي وإن لم يبلغ فمن اعتبر البلوغ أسقط التكليف ومن اعتبر استحكام العقل أوجب‏

التكليف فيما نص الشرع عليه لأن الحكم في ذلك له قال تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ (ذُرِّيَّتَهُمْ) ذرياتهم وقال وآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وقال في المهد آتانِيَ الْكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا وجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ في المهد وغيره وأَوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وبَرًّا بِوالِدَتِي ومن بره بها كونه برأها مما نسب إليها بشهادته وأتى في كل ما ادعاه ببنية الماضي ليعرف السامع بحصول ذلك كله عنده وهو صبي في المهد وقد ذكر أن الله تعالى أوصاه بالصلاة والزكاة ما دام في الحياة وأنه آتاه الكتاب والحكمة ولكن غاب عن أبصار الناس إدراك الكتاب الذي آتاه حتى ظهر في زمان آخر وأما الحكمة فظهر عينها في نفس نطقه بمثل هذه الكلمات وهو في المهد

[الإنسان كلما كبر جسمه قصر عمره‏]

والإنسان صغير من حيث جسمه لعدم مرور الأزمان الكثيرة عليه في هذه الصورة وأصغر مدته زمان تكوينه ثم لا تزال مدته تكبر إلى حين موته فكلما كبر جسمه صغير عمره فلا ينفك من إضافة الكبر والصغر إليه فزيادته نقصه ونقصه زيادته فانظر ما أعجب هذا التدبير الإلهي‏

(وصل في فصل زكاة الغنم)

الاتفاق على الزكاة فيها بلا خلاف وبالله التوفيق‏

(الاعتبار في هذا الوصل)

قال تعالى في نفس الإنسان قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها وقد تقدم الكلام عليها وأن الله أقام الرأس من الغنم مقام الإنسان الكامل فهو قيمته فانظر ما أكمل مرتبة الغنم حيث كان الواحد منها فداء نبي مكرم فقال وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فعظمه الله وناب مناب هذا النبي المكرم وقام مقامه فوجبت الزكاة في الغنم كما أفلح من زكى نفسه شعر

[ذبح القربان وفداء بنى الإنسان‏]

فداء نبي ذبح ذبح لقربان *** وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان‏

وعظمه الله العظيم عناية *** بنا أو به لم أدر من أي ميزان‏

ولا شك أن البدن أعظم قيمة *** وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان‏

فيا ليت شعري كيف ناب بذاته *** شخيص كبيش عن خليفة رحمان‏

(وصل في فصل زكاة البقر)

والاتفاق أيضا من علماء الشريعة على الزكاة فيها

(الاعتبار في ذلك)

يقول الله سبحانه في نفس الإنسان قَدْ أَفْلَحَ من زَكَّاها يعني النفس ولما كانت المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان لذلك حي بها الميت لما ضرب ببعض البقر فجاء بالضرب إشارة إلى الصفة القهرية لما شمخت نفس الإنسان أن تكون سبب حياته بقرة ولا سيما وقد ذبحت وزالت حياتها فحيي بحياتها هذا الإنسان المضروب ببعضها وكان قد أبى لما عرضت عليه فضرب ببعضها فحيي بصفة قهرية للأنفة التي جبل الله الإنسان عليها

[الاشتراك بين الإنسان والحيوان‏]

وفعل الله ذلك ليعرفه أن الاشتراك بينه وبين الحيوان في الحيوانية محقق بالحد والحقيقة ولهذا هو كل حيوان جسم متغذ حساس فالإنسان وغيره من الحيوان وانفصل كل نوع من الحيوان عن غيره بفصله المقوم لذاته الذي به سمي هذا إنسانا وهذا بقرا وهذا غنما وغير ذلك من الأنواع وما أبى الإنسان إلا من حيث فصله المقوم وتخيل أن حيوانيته مثل فصله المقوم فأعلمه الله بما وقع أن الحيوانية في الحيوان كله حقيقة واحدة فأفاده ما لم يكن عنده وكذلك ذلك الميت ما حيي إلا بحياة حيوانية لا بحياة إنسانية من حيث إنه ناطق وكان كلام ذلك الميت مثل كلام البقرة في بنى إسرائيل حيث قالت ما خلقت لهذا إنما خلقت للحرث ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر الذي جرى في بنى إسرائيل قال الصحابة تعجبا لبقرة تكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بهذا

وما رأوا أن الله قد قال ما هو أعجب من هذا أن الجلود قالت أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وهنا علم غامض لمن كشف الله عن بصيرته‏

[البرزخية في الإنسان وفي البقر]

فوجبت الزكاة في البقر كما ظهرت في النفس ثم مناسبة البرزخ بين البقر والإنسان فإن البقر بين الإبل والغنم في الحيوان المزكى والإنسان بين الملك والحيوان ثم البقرة التي ظهر الأحياء بموتها والضرب بها برزخية أيضا في سنها ولونها فهي لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فهذا مقام برزخي فهي لا بيضاء ولا سوداء بل صفراء والصفرة لون برزخي بين البياض والسواد فتحقق ما أومأنا إليه في هذا الاعتبار فإنه يحتوي على معان جليلة وأسرار لا يعرفها إلا أهل النظر والإستبصار

(وصل في فضل الحبوب والتمر)

فقد عرفت أيضا ما تجب الزكاة فيه من ذلك بالاتفاق‏

(الاعتبار في ذلك)

النفس النباتية وهي التي تنمي بالغذاء فزكاتها في الإنسان بالصوم ولكن له شرط في طريق الله وهو أن الصائم إنما يمسك عن الأكل بالنهار فليأخذ ما كان يستحق أن يأكل بالنهار ويتصدق به ليخرج بذلك من البخل فإذا لم يفعل ذلك عندنا واستوفى في عشائه ما فاته بالنهار فما أمسك وبهذا ينفصل صوم خواص أهل الله عن صوم العامة وما تسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة بالعامة حتى يجدوا ما يتأسوا به فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان مواصلا فليواصل حتى السحر مع أنه رغب في تعجيل الفطر وتأخير السحور قال تعالى وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وهذا الاعتبار فيما يزكى من الحبوب وبالله التوفيق‏

(وصل) [زكاة التمر]

وأما التمر فهو أيضا كما قلنا الزكاة فيه بالاتفاق وقد تقدم ذلك‏

(و أما اعتبار التمر في الزكاة)

فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل النخلة عمة لنا وشبهها بالمؤمن حين سأل الناس عنها ووقع الناس في شجر البوادي‏

ووقع عند عبد الله بن عمر أنها النخلة أصاب ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا الحديث يحتج على إباحة الحزورات التي تستعملها الناس‏

[زكاة المؤمن من نسبة الإيمان‏]

فكما إن التمر تجب فيه الزكاة شرعا كذلك المؤمن لما شارك الحق في هذا الاسم تعين للحق فيه حق كما تعين في جميع الأسماء الحسنى يسمى ذلك الحق زكاة فيزكي المؤمن هذه النسبة إليه بالصدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله وإعطاء الأمان منه لكل خائف من جهته فإذا صدق في ذلك كله صدقه الله تعالى لأنه لا يصدق سبحانه إلا الصادق ولا يصدقه تعالى إلا من اسمه المؤمن لا غير فصدق العبد رد لاسم الله المؤمن عليه كرد صورة الناظر في المرآة على الناظر ليصدقه سبحانه فيما صدق فيه هذا العبد فهذا زكاته من نسبة الايمان إليه فأعطى حق الله من إيمانه بما صدق فيه من أقواله وأفعاله وأحواله‏

[ما يزكى من الأموال المتفق عليها والمختلف فيها]

وتمت أصناف ما يزكى من الأموال المتفق عليها ويلحق بها ما اختلف فيه فإنه لا يخلو أن يكون ما اختلف فيه نباتا أو حيوانا أو معدنا وقد بينا ذلك في المتفق عليه فليحكم في المختلف فيه بذلك الحكم وليعتبر فيه ما يليق بذلك الصنف حتى لا يطول الكلام ومذهبنا في هذا الكتاب الاقتصار والاختصار جهد الطاقة فإن الكتاب كبير يحتوي على ما لا بد منه في طريق الله من الأمهات والأصول فإن الأبناء والفروع تكاد لا تنحصر بل لا تنحصر والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(وصل في فصل الخرص)

الاتفاق على إجازة الخرص فيما يخرص من النخيل وغير ذلك وهو تقدير النصاب في ذلك حتى يقوم مقام الكيل‏

(الاعتبار في ذلك)

هو موضع خطر يحتاج إلى معرفة وتحقيق في المقادير وبصيرة حادة قال تعالى قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ وهذه إشارة تلحق بالتفسير وإن لم نرد بها التفسير ولكن لتقارب المعنى والمكيل والموزون بمنزلة العلم والخرص بمنزلة غلبة الظن والأصل العلم‏

[إذا تعذر العلم حكمنا بغلبة الظن‏]

ثم إنه إذا تعذر العلم حكمنا بغلبة الظن وذلك لا يكون إلا في الأحكام الشرعية أعني في فروع الأحكام فإن الحاكم لا يحكم إلا بشهادة الشاهد وهو ليس قاطعا فيما شهد به من ذلك والأصل في الحكم المشروع غلبة الظن حتى في السعادة عند الله‏

فإن الله يقول أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا

فحسن الظن بالله إذا غلب على العبد أنتج له السعادة كما إن سوء الظن بالله يرديه وذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ‏

[الحكم بالعلم والحكم بغلبة الظن‏]

فما اختلف العلماء في حكم الحاكم بين الخصمين بغلبة الظن واختلفوا في حكمه بعلمه فكانت غلبة الظن في هذا النوع أصلا متفقا عليه يرجع إليه وكان العلم في ذلك مختلف فيه والحق تعالى وإن لم يكن عنده إلا العلم فإنه يحكم بالشهود ولهذا جاء قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي بما شرعت لي وأرسلتني به‏

[معرفة الله بطريق العقل وبطريق الشرع‏]

وفي هذا الطريق معرفة الله بالعقل بطريق الخرص ولهذا تقبل الشبهة القادحة في الأدلة ومعرفة الله من طريق الشرع المتواتر مقطوع بها لا تقدح فيها شبهة عند المؤمن أصلا وإن جهلت النسبة فالعلم بالله من جهة الشرع وهو تعريف الحق عباده بما هو عليه فإنه أعلم بنفسه من عباده به‏

[العلم بالله من الله‏]

فإن العلم به منه أن يعلم أنه جامع بين التنزيه والتشبيه وهذا في الأدلة النظرية غير سائغ أعني الجمع بين الضدين في المحكوم عليه ليس ذلك إلا هنا خاصة فلا يحكم عليه خلقه والعقل ونظره وفكره من خلقه فكلامه في موجدة بأنه ليس كذا أو هو كذا خرص بلا شك‏

والخارص قد يصيب وقد يخطئ والعلم بالله من حيث القطع أولى من العلم به من حيث الخرص وإن كان الخرص لا بد منه في العلم بالله ابتداء

(وصل في فصل ما أكل صاحب التمر والزرع من تمره وزرعه قبل الحصاد والجداد)

فمن قائل يحسب ذلك عليه في النصاب ومن قائل لا يحسب عليه ويترك الخارص لرب المال ما أكل هو وأهله ويأكل‏

(الاعتبار)

ثمر الإنسان وزرعه أعماله وأعماله واجبة ومندوب إليها ومباحة خاصة وأما المكروه والمحظور فلا دخول لهما هنا ولا سيما المحظور خاصة في الزكاة وقد يدخل في الزكاة بوجه خاص في فعل المحظور وذلك أن المؤمن لا تخلص له معصية أصلا من غير أن تكون مشوبة بطاعة وهم الذين خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً فالطاعة التي تشوب كل معصية هي الايمان بها أنها معصية وكما هي طاعة في عين معصية فهي قرب في عين بعد فذلك الايمان هو زكاتها فيطهر المحظور بالإيمان فهو قوله تعالى يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فإذا أعطى هذا القدر في عمل المعصية وقع الترجي للعبد من الله في القبول وهو قوله تعالى وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً وهؤلاء منهم عسى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي يرجع عليهم بالرحمة والقبول والغفران وتبديل السيئات فهذه عناية الزكاة أثرت في الحظر

[الزكاة حق الله وحق الإنسان‏]

وأما في أعمال الطاعات فنصابها الذي تجب فيه الزكاة زكاتها المباح من عامله خاصة وهو الذي يخص النفس فإن الزكاة وإن كانت حق الله فما هي حق الله إلا من حيث إنه شرعها فهي راجعة إلينا فإن الله عين مصارفها بذكر الأصناف الذين يأخذونها فتصدق الله على الإنسان بالمباح في الثمانية الأعضاء من جميع أعماله فتلك الزكاة التي أعطاها الله من جميع أعماله وذلك لفقره ومسكنته وعمله وتألفه على طاعة ربه واجتماعه من حيث إيمانه عليها وفكاك رقبته من رق الواجبات في أوقات المباحات وإن اندرجت فيها أعني الواجبات لأنه يجب عليه اعتقاد المباح أنه مباح إلى غير ذلك‏

[شرعية المباح وسقوط التكليف فيه‏]

فمن حسبه عليه في النصاب فلكونه من جملة ما شرع له لأن المباح مشروع كالواجب فلهذا يتصرف فيه تصرف من أبيح له لا تصرف الطبع ومن قال لا يحسب عليه فلكونه وإن كان مباحا إنما راعى سقوط التكليف في المباح لأن المكلف لا يكون مخيرا فإن التكليف مشقة والتخيير لا مشقة فيه وإن تضمن الحيرة والتردد

(وصل في فصل وقت الزكاة)

فجمهور العلماء في الصدر الأول مجمعون على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية باشتراط الحول وما خالف في ذلك أحد من الصدر الأول فيما نقل إلينا إلا ابن عباس ومعاوية لأنه لم يثبت عندهما في ذلك حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

[كمال الزمان في الحول وكمال الإنسان في العقل‏]

فاعلم إن الحول فيه كمال الزمان فأشبه كمال النصاب فكما وجبت بكمال النصاب وجبت بكمال الزمان ومعنى كمال الزمان تعميمه للفصول الأربعة فيه ولهذا ينتظر بالعنين الحول الكامل حتى تمر عليه الفصول الأربعة فلا تغير في حاله شيئا أي لا حكم لها في عنته لعدم استعداده لتاثيرها وكمال الإنسان إنما هو في عقله فإذا كمل في عقله فقد كمل حوله فوجب عليه إخراج الزكاة وهي أن يعلم ما لله عليه من الحقوق فيجتهد في أداء ذلك‏

[وقت زكاة الحبوب والتمر]

ووقت الحبوب والتمر يوم حصاده وجده من غير اشتراط الحول إذ قد مر الحول على الأصل وهو ما للخريف والشتاء والربيع والصيف فيه من الأثر فكأنه ما خرج عن حكم الحول بهذا الاعتبار فمن العبادات ما هي مرتبطة بالحول كالحج والصيام وما ذكرناه من صنف ما من أصناف المال المزكى ومن العبادة الواجبة ما لا يرتبط بالحول كالصلاة والعمرة ونوافل الخيرات ما عدا الحج فإن واجبة ونافلته سواء في الحول‏

(وصل في فصل زكاة المعدن)

فمن العلماء من راعى فيه الحول مع النصاب تشبيها بالذهب والفضة ومنهم من راعى فيه النصاب دون الحول تشبيها بما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة

(وصل الاعتبار في هذا)

المعدن الطبيعة التي تتكون عنها الأجسام ونفوس الأجسام الجزئية والطبيعية أربع حقائق بتأليفها ظهر عالم الأجسام وفي العلم الإلهي أن العالم ظهر عن الله تعالى من كونه‏

حيا عالما مريدا قادرا لا غير وكل اسم له حكم في العالم فداخل تحت حيطة هذه الأربعة الأسماء الأمهات‏

[اعتبار من راعى النصاب دون الحول في زكاة المعدن‏]

فمن راعى النصاب دون الحول اعتبر هذا فإنه فوق الزمان فإذا تكون عن الإنسان ما يتكون عن الطبيعة فقد بلغ النصاب فوجبت الزكاة وهي إلحاق ذلك بالأربع الصفات الثابتة في العلم الإلهي الذي لا يصح التكوين إلا بها والطبيعة آلة لا إله‏

[اعتبار من راعى الحول مع النصاب في زكاة المعدن‏]

ومن اعتبر الحول مع النصاب فإنه إذا تكون عن الإنسان ما يتكون عن العناصر لا عن الطبيعة والعناصر لا يتكون عنها شي‏ء إلا بمرور الأزمان عليها وهي حركات الأفلاك التي فوقها فزكاتها مقيدة بالزمان وهي إعطاء حق الله تعالى من ذلك التكوين بإضافته إلى الوجه الخاص الإلهي الذي له في كل ممكن من غير نظر إلى سببه وهذا هو عالم الخلق والأمر والأول هو عالم الأمر خاصة فاعلم ذلك‏

(وصل في فصل حول ربح المال)

فطائفة رأت أن حوله يعتبر فيه من يوم استفيد سواء كان الأصل نصابا أو لم يكن وبه أقول وطائفة قالت حول الربح هو حول الأصل أي إذا كمل الأصل حولا زكى الربح معه سواء كان الأصل نصابا أو أقل من نصاب إذا بلغ الأصل مع ربحه نصابا وانفرد بهذا مالك وأصحابه وفرقت طائفة بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصابا أو لا يكون فقالوا إن كان نصابا زكى ربحه مع رأس المال وإن لم يكن نصابا لم يزك‏

(وصل الاعتبار في هذا)

الأعمال هي المال وربحها ما يكون عنها من الصور كالمصلي أو الذاكر يخلق له من ذكره وصلاته ملك يستغفر له إلى يوم القيامة فالصور التي تلبس الأعمال هي أرباحها كمانع الزكاة يأتيه ماله الذي هو قدر الزكاة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوق به ويقال له هذا كنزك‏

[عمل القلوب وعمل الأجسام‏]

والأعمال على قسمين عمل روحاني وهو عمل القلوب وعمل طبيعي وهو عمل الأجسام وهي الأعمال المحسوسة فما كان من عمل محسوس اعتبر فيه الحول وما كان من عمل معنوي لم يعتبر فيه الحول لأنه خارج عن حكم الزمان ولا بد من اعتبار النصاب في المعنى والحس وقد تقدم اعتبار النصاب وهو المقدار قبل هذا من هذا الباب وصورة الزكاة في ذلك الربح هو ما يعود منه على العامل من الخير من كونه موصوفا بصفات الدين لإعطائهم الزكاة من فقير ومسكين وغير ذلك وهوقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخلق من الأعمال من صور الأملاك أنه يستغفر له ذلك الملك إلى يوم القيامة

[رؤيا ابن عربى للنبي وهو بمكة]

ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بمكة في المنام وهو يقول ويشير إلى الكعبة يا ساكني هذا البيت لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت في أي وقت كان من ليل أو نهار أن يصلي في أي وقت شاء من ليل أو نهار فإن الله يخلق له من صلاته ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة ومصداق بعض هذا الخبر

ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى في أي وقت شاء من ليل أو نهار خرجه النسائي في سننه‏

والله أعلم‏

(وصل في فصل حول الفوائد)

وهو ما يستفاد من المال من غير ربحه فقال بعض العلماء إن العلماء أجمعوا على إن المال إذا كان أقل من نصاب واستفيد إليه مال آخر من غير ربحه فكمل من مجموعهما نصاب إنه يستقبل به الحول من يوم كمل واختلفوا إذا استفاد مالا وعنده نصاب مال آخر قد حال عليه الحول فقال بعضهم يزكى المستفاد إن كان نصابا لحوله ولا يضم إلى المال الذي وجبت فيه الزكاة وبه أقول وقال بعضهم الفوائد كلها تزكي لحول الأصل إذا كان الأصل نصابا وكذلك الربح عندهم‏

(وصل اعتبار هذا الفصل)

من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها فقد استفاد من عمل غيره ما لم يكن من عمله فيكون ربحه وإنما هو عمل والحكم في ذلك في الاعتبار على ما هو في الحكم الظاهر كما فصلناه في المذاهب على اختلافها فيما اختلفوا فيه وإجماعها فيما أجمعوا عليه كما تقدم في الفصول قبله من الاعتبار في ذلك سواء

(وصل في فصل اعتبار حول نسل الغنم)

من العلماء من قال حول النسل هو حول الأمهات كانت الأمهات نصابا أو لم تكن ومن قائل لا يكون حول النسل حول الأمهات إلا أن تكون الأمهات نصابا

(وصل الاعتبار في ذلك)

أَلْحَقْنا بِهِمْ (ذُرِّيَّتَهُمْ) ذرياتهم وما أَلَتْناهُمْ من عَمَلِهِمْ من شَيْ‏ءٍ وهذا في الذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان فهذه الذرية بمنزلة نوافل الخيرات والأمهات مثل فرائض‏

الخيرات وكما يتقرب بالفرائض كذلك يتقرب بالنوافل وقد وردت الأخبار بما تنتجه نوافل الخيرات من القرب الإلهي فجعل لها حكما في نفسها فهذا اعتبار من أفرد نسل الغنم بالحكم‏

[اعتبار من ألحق نسل الغنم بالأمهات في الحكم‏]

ومن ألحقها بالأمهات كما ذكرنا في المذهبين واعتباره أن نوافل الخيرات فرائض وكان حكمها حكم الفرائض فلهذا ضمن إليها فإن صلاة التطوع وهي النافلة التي لا تجب على الإنسان ولا يعصي بتركها إذا شرع فيها في صلاة نافلة أو صيام أو حج فإنه يلزمه ما فيها من الفرائض فالركوع والسجود والقيام في صلاة النافلة فريضة واجبة عليه لا تصح أن تكون صلاة إلا بهذه الأركان ولهذا

قال الله أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه‏

فيكمل فرض المفروض من فرض التطوع كان العمل ما كان فحق الله في نوافل الخيرات ما تحوي عليه من الفرائض وهو زكاتها وما في ذلك من الفضل يعود على عاملها ولهذا يكون الحق سمعه وبصره في التقرب بالنوافل‏

(وصل في فصل فوائد الماشية)

قد تقدم اعتبار مثله في فوائد الناض فأغنى عن ذكره في هذا الفصل وإنما جئنا به لننبه عليه‏

(وصل في فصل اعتبار حول الديون)

فيمن يرى الزكاة فيه فإن قوما قالوا يستقبل به الحول من اليوم الذي قبضه يعني الدين من غريمه والذين يقولون في الدين الزكاة اختلفوا فمن قائل يعتبر فيه من أول ما كان دينا وإن مضى عليه حول زكى زكاة حول وإن مرت عليه أحوال زكى لكل حول مر عليه زكاة فأنزله صاحب هذا المذهب منزلة المال الحاضر ومن قائل يزكيه لعام واحد خاصة وإن أقام أحوالا عند الذي عنده الدين فلا زكاة فيه إلا هذا القدر ولا أعرف له حجة في ذلك‏

(الاعتبار في هذا)

الحج عن الميت ومن لا يستطيع كما ورد في النص وصيام ولي الميت عن الميت إذا مات وعليه صيام فرض رمضان فصار حقا لله فيه على الولي الذي يحج أو يصوم فذلك الحق هو قدر الزكاة الذي في الدين وتبرأ ذمة الذي عنده الدين كما إن الذي عنده الدين لا زكاة عليه فيما عنده لأنه ليس بمالك له‏

[اعتبار من لا يرى الزكاة على الدين ما دام عند المديون‏]

ومن يرى أنه لا زكاة عليه فيه ما دام عند المديون بري أنه ليس للإنسان إلا ما سعى وليس بيده مال يسعى فيه بخير بل خيره منه كونه وسع على المديون بما أعطاه من المال فعين هذا الفعل قام فيه مقام الزكاة فأغنى عن أن يزكيه وأي خير أعظم ممن وسع على عباد الله وقد قرر العلماء أن المقصود بالزكاة إنما هو سد الخلة والذي يأخذ الدين لو لا حاجته ما أخذه والذي يعطيه ذلك قد سد منه تلك الخلة فأشبه الزكاة من هذا الوجه فهذا اعتبار من لا يرى زكاة فيه حتى يقبضه ويستقبل به الحول من يوم قبضه‏

[آية الديون في القرآن هي غاية وصلة الله بعباده‏]

وآية الديون على ما قلناه قوله تعالى وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً ومن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ولما كان في القرض سد الخلة لذلك قالت اليهود إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ أي من أجل فقره طلب القرض منا وغابوا عن الذي أراده الحق تعالى من ذلك من غاية وصلته بخلقه كما جاء في الصحيح جعت فلم تطعمني وشبه ذلك والباب واحد وقد تقدم الكلام في القرض في أول الباب‏

(وصل في فصل حول العروض عند من أوجب الزكاة فيها)

وقد تقدم اعتبار الحول والذي أذهب إليه أنه لا زكاة فيها لعدم النص في ذلك وكأنه شرع زائد وهو القياس المرسل لا شرع مستنبط من شرع ثابت والله أعلم فمن العلماء من اشترط مع العروض وجود الناض ومنهم من اعتبر فيه النصاب ومنهم من لم يعتبر ذلك وقال أكثر العلماء المدير وغير المدير حكمه واحد وأنه من اشترى عرضا وحال عليه الحول قومه وزكاه وقال قوم بل يزكي ثمنه وبه أقول لا قيمته‏

(وصل الاعتبار في هذا)

العروض هو ما يعرض على الإنسان من أعمال البر مما لا نية له في ذلك أو يكون من الأعمال التي لا نشترط فيها النية وله الثواب عليها كما قال صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما أسلفت من خير أي لك ثوابه وإن لم يكن فعلك فيه عن شرع ثابت لكنه مكارم خلق فصادف الحق فجوزي عليه فلو لم يكن في ذلك العمل الذي عرض حق لله لنسبة تعطيه ما صح أن يثني عليه فذلك زكاته من حيث لا يشعر



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de l'arabe de manière semi-automatique!