Les révélations mecquoises: futuhat makkiyah

Parcourir les Titres Section I: les Connaissances (Maarif) Section II: les Interactions (Muamalat) Section IV: les Demeures (Manazil)
Présentations Section V: les Controverses (Munazalat) Section III: les États (Ahwal) Section VI : les Stations (Maqamat du Pôle)
Première Partie Deuxième Partie Troisième Partie Quatrième Partie

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة الأسماء الحسنى التى لرب العزة وما يجوز أن يطلق عليه منها لفظا وما لا يجوز

بسم الله الرحمن الرحيم‏

«الباب الثامن والخمسون وخمسمائة في معرفة الأسماء الحسنى التي لرب العزة وما يجوز أن يطلق عليه منها لفظا وما لا يجوز»

أرى سلم الأسماء يعلو ويسفل *** وتجري به ريح جنوب وشمال‏

فيا عجبا كيف السلامة والعما *** شقيق الهدى والأمر ما ليس يفصل‏

أ لم تر أن الله في النار يعدل *** وفي جنة الفردوس يسدي ويفضل‏

فإن قلت هذا كافر قلت عادل *** وإن قلت هذا مؤمن قلت مفضل‏

فهذا دليل أن ربي واحد *** يولي الذي شاء إلا له ويعزل‏

فأعياننا أسماؤه ليس غيرها *** ففي نفسه يقضي الأمور ويفصل‏

[إن أحكام الممكنات هي الصور الظاهرة في الوجود الحق‏]

قال الله تعالى ولِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ وليست سوى الحضرات الإلهية التي تطلبها وتعينها أحكام الممكنات وليست أحكام الممكنات سوى الصور الظاهرة في الوجود الحق «فالحضرة الإلهية» اسم لذات وصفات وأفعال وإن شئت قلت صفة فعل وصفة تنزيه وهذه الأفعال تكون عن الصفات والأفعال أسماء ولا بد لكن منها ما أطلقها على نفسه ومنها ما لم يطلق لكن جاء بلفظ فعل مثل ومَكَرَ الله وسَخِرَ الله وأَكِيدُ كَيْداً والله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ الذي إذا بنيت من اللفظ اسم فاعل لم يمتنع وكذلك الكنايات منها مثل سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وهو تعالى الواقي والنائب هنا السربال وشبه ذلك ومنها الضمائر من المتكلم والغائب والمخاطب والعام مثل قول الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله فقد تسمى في هذه الآية بكل ما يفتقر إليه فكل ما يفتقر إليه فهو اسم لله تعالى إذ لا فقر إلا إليه وإن لم يطلق عليه لفظ من ذلك فنحن إنما نعتبر المعاني التي تفيدنا العلوم وأما التحجير ورفع التحجير في الإطلاق عليه سبحانه فذلك إلى الله فما اقتصر عليه من الألفاظ في الإطلاق اقتصرنا عليه فإنا لا نسميه إلا بما سمي به نفسه وما منع من ذلك منعناه أدبا مع الله فإنما نحن به وله فلنذكر في هذا الباب الحضرات الإلهية التي كنى الله عنها بالأسماء الحسنى حضرة حضرة ولنقتصر منها على مائة حضرة ثم نتبع ذلك بفصول مما يرجع كل فصل منها إلى هذا الباب فمن ذلك لحضرة الإلهية وهي الاسم الله‏

الله الله الله الذي حكمت *** آياته أنه في كونه الله‏

سبحانه جل أن يحظى به أحد *** من العباد فلا إله إلا هو

اختص باسم فلم يشركه من أحد *** فيه وذلك قول القائل الله‏

وهي الحضرة الجامعة للحضرات كلها ولذلك ما عبد عابد لله إلا هي وبذا حكم تعالى في قوله وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وقوله أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله‏

فلله ما يخفى ولله ما بدا *** نعم بل هو الله الذي ليس إلا هو

[كل اسم إلهى له أثر في الكون‏]

واعلم أنه لما كان في قوة الاسم الله بالوضع الأول كل اسم إلهي بل كل اسم له أثر في الكون يكون عن مسماه ناب مناب كل اسم لله تعالى فإذا قال قائل يا الله فانظر في حالة القائل التي بعثته على هذا النداء وانظر أي اسم إلهي يختص بتلك الحال فذلك الاسم الخاص هو الذي يناديه هذا الداعي بقوله يا الله لأن الاسم الله بالوضع الأول إنما مسماه ذات الحق عينها التي بيدها مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فلهذا ناب الاسم الدال عليها على الخصوص مناب كل اسم إلهي ثم إن لهذا المسمى من حيث رجوع الأمر كله إليه اسم كل مسمى يفتقر إليه من معدن ونبات وحيوان وإنسان وفلك وملك وأمثال ذلك مما ينطلق عليه اسم مخلوق أو مبدع فهو تعالى المسمى بكل اسم لمسمى في العالم مما له أثر في الكون وما ثم إلا من له أثر في الكون وأما تضمنه لأسماء التنزيه فمأخذ ذلك قريب جدا وإن كان كل اسم إلهي بهذه المثابة من حيث دلالته‏

على ذات الحق جل جلاله وعز في سلطانه لكن لما كان ما عدا الاسم الله من الأسماء مع دلالته على ذات الحق يدل على معنى آخر من سلب أو إثبات بما فيه من الاشتقاق لم يقو في أحدية الدلالة على الذات قوة هذا الاسم كالرحمن وغيره من الأسماء الإلهية الحسنى وإن كان قد ورد قوله تعالى آمرا نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فالضمير في له يعود على المدعو به تعالى فإن المسمى الأصلي الزائد على الاشتقاق ليس إلا عينا واحدة ثم إن الله تعالى قد عصم هذا الاسم العلم أن يسمى به أحد غير ذات الحق جل جلاله ولهذا قال الله عز وجل في معرض الحجة على من نسب الألوهة إلى غير هذا المسمى قُلْ سَمُّوهُمْ فبهت الذي قيل له ذلك فإنه لو سماه سماه بغير الاسم الله وأما ما فيها من الجمعية فإن مدلولات الأسماء الزائدة على مفهوم الذات مختلفة كثيرة وما بأيدينا اسم مخلص علم للذات سوى هذا الاسم الله فالاسم الله يدل على الذات بحكم المطابقة كالاسماء الأعلام على مسمياتها وثم أسماء تدل على تنزيه وثم أسماء تدل على إثبات أعيان صفات وإن لم تقبل ذات الحق قيام الأعداد وهي الأسماء التي تعطي أعيان الصفات الثبوتية الذاتية كالعالم والقادر والمريد والسميع والبصير والحي والمجيب والشكور وأمثال ذلك وأسماء تعطي النعوت فلا يفهم منها في الإطلاق إلا النسب والإضافات كالأول والآخر والظاهر والباطن وأمثال ذلك وأسماء تعطي الأفعال كالخالق والرازق والبارئ والمصور وأمثال ذلك من الأسماء وانحصر الأمر وجميع الأسماء الإلهية بلغت ما بلغت لا بد أن ترجع إلى واحد من هذه الأقسام أو إلى أكثر من واحد مع ثبوت دلالة كل اسم منها على الذات لا بد من ذلك فهي حضرة تتضمن جميع الحضرات فمن عرف الله عرف كل شي‏ء ولا يعرف الله من لا يعرف شيئا واحدا أي مسمى كان من الممكنات وحكم الواحد منها حكم الكل في الدلالة على العلم بالله من حيث ما هو إله للعالم خاصة ثم إذا وقع لك الكشف بالعمل المشروع رأيت أنك ما علمته إلا به فكان عين الدليل هو عين المدلول عليه بذلك الدليل والدال وهذه الحضرة وإن كانت جامعة للحقائق كلها فأخص ما يختص بها من الأحوال الحيرة والعبادة والتنزيه فأما التنزيه وهو رفعته عن التشبيه بخلقه فهو يؤدي إلى الحيرة فيه وكذلك العبادة فأعطانا قوة الفكر لننظر بها فيما يعرفنا بأنفسنا وبه فاقتضى حكم هذه القوة أن لا مماثلة بيننا وبينه سبحانه وتعالى من وجه من الوجوه إلا استنادنا إليه في إيجاد أعياننا خاصة وغاية ما أعطى التنزيه إثبات النسب له بكسر النون بنا لما نطلبه من لوازم وجود أعياننا وهي المسمى بالصفات فإن قلنا إن تلك النسب أمور زائدة على ذاته وإنها وجودية ولا كمال له إلا بها وإن لم تكن كان ناقصا بالذات كاملا بالزائد الوجودي وإن قلنا ما هي هو ولا هي غيره كان خلفا من الكلام وقولا لا روح فيه يدل على نقص عقل قائله وقصوره في نظره أكثر من دلالته على تنزيهه وإن قلت ما هي هو ولا وجود لها وإنما هي نسب والنسب أمور عدمية جعلنا العدم له أثر في الوجود وتكثرت النسب لتكثر الأحكام التي أعطتها أعيان الممكنات وإن لم نقل شيئا من هذا كله عطلنا حكم هذه القوة النظرية وإن قلنا إن الأمور كلها لا حقيقة لها وإنما هي أوهام وسفسطة لا تحوي على طائل ولا ثقة لأحد بشي‏ء منها لا من طريق حسي ولا فكري عقلي فإن كان هذا القول صحيحا فقد علم فما هذا الدليل الذي أوصلنا إليه وإن لم يكن صحيحا فبأي شي‏ء علمنا أنه ليس بصحيح فإذا عجز العقل عن الوصول إلى العلم بشي‏ء من هذه الفصول رجعنا إلى الشرع ولا نقبله إلا بالعقل والشرع فرع عن أصل علمنا بالشارع وبأي صفة وصل إلينا وجود هذا الشرع وقد عجزنا عن معرفة الأصل فنحن عن الفرع وثبوته أعجز فإن تعامينا وقبلنا قوله إيمانا لأمر ضروري في نفوسنا لا نقدر على دفعه سمعناه ينسب إلى الله أمورا تقدح فيها الأدلة النظرية وبأي شي‏ء منها تمسكنا قابلة

الآخر فإن تأولنا ما جاء به لنرده إلى النظر العقلي فنكون قد عبدنا عقولنا وحملنا وجوده تعالى على وجودنا وهو لا يدرك بالقياس فأدانا تنزيهنا إلهنا إلى الحيرة فإن الطرق كلها قد تشوشت فصارت الحيرة مركز إليها ينتهي النظر العقلي والشرعي وأما العبادة فمن حيث هي ذاتية فليست سوى افتقار الممكن إلى المرجح وإنما أعني بالعبادة التكليف والتكليف لا يكون إلا لمن له الاقتدار على ما كلف به من الأفعال أو مسك النفس في المنهيات عن ارتكابها فمن وجه ننفي الأفعال عن المخلوق ونردها إلى المكلف‏

والشي‏ء لا يكلف نفسه فلا بد من محل يقبل الخطاب ليصح ومن وجه نثبت الأفعال للمخلوق بما تطلبه حكمة التكليف والنفي يقابل الإثبات فرمانا هذا النظر في الحيرة كما رمانا التنزيه والحيرة لا تعطي شيئا فالنظر العقلي يؤدي إلى الحيرة والتجلي يؤدي إلى الحيرة فما ثم إلا حائرة وما ثم حاكم إلا الحيرة وما ثم إلا الله كان بعضهم إذا تقابلت عنده هذه الأحكام في سره يقول يا حيرة يا دهشة يا حرقا لا يتقرى وما هذا الحكم لحضرة أخرى غير هذه الحضرة الإلهية

«الحضرة الربانية وهي الاسم الرب»

الرب مالكنا والرب مصلحنا *** والرب ثبتنا لأنه الثابت‏

لو لا وجودي وكون الحق أوجدني *** ما كنت أدري بأني الكائن الفائت‏

فالحق أوجدني منه وأيدني *** به لذلك ادعى الناطق الصامت‏

[لاسم الرب خمسة أحكام‏]

ولها خمسة أحكام الثبوت على التلوين والسلطان على أهل النزاع في الحق والنظر في مصالح الممكنات والعبودة التي لا تقبل العتق وارتباط الحياة بالأسباب المعتادة فأما الثبوت على التلوين فهو في قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ وقوله يُقَلِّبُ الله اللَّيْلَ والنَّهارَ فما من نفس في العالم إلا وفيه حكم التقليب أ لا ترى إلى الشمس التي هي علة الليل والنهار تجري لا مستقر لها ليلا ولا نهارا أ لا ترى إلى الكواكب كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ما قال يستقرون في ثلاثمائة وستين درجة كل درجة بل كل دقيقة بل كل ثانية بل كل جزء لا يتجزأ من الفلك إذا أنزل الله فيه أي كوكب كان من الكواكب يحدث الله عند نزوله في كل جوهر فرد من عالم الأركان ما لا يعرف ما هو إلا الله الذي أوجده ويحدث في الملإ الأوسط من الأرواح السماوية التي تحت مقعر فلك البروج من العلوم بما يستحقه الحق عز وجل من المحامد على ما وهبهم من المعارف الإلهية كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ والله عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ والذين في هذا الملإ هم أهل الجنان وفي عالم الأركان وفي بعض هذا الملإ هم أهل النار الذين هم أهلها ويحدث في الملإ الأعلى وهو ما فوق فلك البروج إلى معدن النفوس والعقول إلى العماء من العلوم التي تعطيها الأسماء الإلهية ما يؤديهم إلى الثناء على الله بما ينبغي له تعالى من حيث هم لا من حيث الأسماء فإن الأسماء الإلهية أعظم إحاطة مما هم عليه فإن تعلقها في تنفيذ الأحكام غير متناه وأما السلطان الذي لهذه الحضرة على أهل النزاع في الحق فهو إن المقالات اختلفت في الله اختلافا كثيرا من قوة واحدة وهي الفكر في أشخاص كثيرين مختلفي الأمزجة والأمشاج والقوي ليس لها من يمدها إلا مزاجها الطبيعي وحظ كل شخص من الطبيعة ما يعطيه من المزاج الذي هو عليه فإذا أفرغت قوتها فيه حصل له استعداد به يقبل نفخ الروح فيه فيظهر عن النفخ وتسوية الجسم الطبيعي صورة نورية روحانية ممتزجة بين نور وظلمة ظلمتها ظل ونورها ضوء فظلها هو الذي مده الرب فهو رباني أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ونورها ضوء لأن استنارة الجسم الطبيعي إنما كان بنور الشمس وقد ذكر الله أنه جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والْقَمَرَ نُوراً فلهذا جعلنا نورها ضوءا من أجل الوجه الخاص الذي لله في كل موجود أو من كون إفاضة الضوء على مرآة الجسم المسوي فظهر في الانعكاس ضوء الشمس كظهوره من القمر فلذا سمينا الروح الجزئي نورا لأن الله جعل القمر نورا فهو نور بالجعل كما كانت الشمس ضياء بالجعل وهي بالذات نور والقمر بالذات محو فللقمر الفناء وللشمس البقاء

فللقمر الفناء بكل وجه *** وللشمس الإضاءة والبقاء

وللوجه الجميل بكل حسن *** لنا منه البشاشة واللقاء

حمينا حسنه من كل عين *** كما يحمى من الشجر اللحاء

نزلنا بالسماء على وجود *** له العرش المحيط له العماء

له الإقبال والإدبار فينا *** له حكم السنا وله السناء

إذا يدنو فمجلسه رحيب *** وإن يعلو بنا فلنا الثناء

له حكم الإرادة في وجودي *** هو المختار يفعل ما يشاء

ثم تبعث القوي الروحانية والحسية لخلق هذا الروح الجزئي المنفوخ بطريق التوحيد لأنه قال ونَفَخْتُ وأما روح عيسى فهو منفوخ بالجمع والكثرة ففيه قوى جميع الأسماء والأرواح فإنه قال فَنَفَخْنا بنون الجمع فإن جبريل عليه السلام وهبه لها بَشَراً سَوِيًّا فتجلى في صورة إنسان كامل فنفخ وهو نفخ الحق كما قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده فلما تبعته هذه القوي كان منها القوة المفكرة أعطيت للإنسان لينظر بها في الآيات في الآفاق وفي

نفسه ليتبين له بذلك أنه الحق واختلفت الأمزجة فلا بد أن يختلف القبول فلا بد أن يكون التفاضل في التفكر فلا بد أن يعطي النظر في كل عقل خلاف ما يعطي الآخر حتى يتميز في أمر ويشترك مع غيره في أمر فهذا سبب اختلاف المقالات فيحكم الرب بين أصحاب هذه المقالات بما يجي‏ء به الشرع المنزل فتبقى العقول واقفة في أدلتها ورجع اختلاف نظرها في المواد الشرعية بعد ما كانت أولا ناظرة بالنظر العقلي وذلك ليس إلا للمؤمنين والمؤمنات خاصة قالوا قفون مع حكم الرب في ذلك بين المتنازعين هم المؤمنون ولهم عين الفهم فاختلفوا مع الاتفاق فاختلافهم في المفهوم من هذا الذي حكم به الرب في حق الحق وهذا هو الحق الذي نصبه الشرع للعباد وبما سمي به نفسه نسميه وبما وصف به ذاته نصفه لا نزيد على ما أوصل إلينا ولا نخترع له أسماء من عندنا وأما نزاع غير المؤمنين في اختلاف عقائدهم فيكون الشارع واحدا منهم في كونه نزع في الحق منزعا لم ينزعوه لكونهم غير مؤمنين فالحاكم بينهما أعني بين الشرع والعقلاء غير المؤمنين إنما هو الله بصور التجلي به يقع الفيصل بينهما ولكن في الدار الآخرة لا هنا فإن في الدار الآخرة يظهر حكم الجبر فلا يبقى منازع هناك أصلا ويكون الملك هناك لله الواحد القهار وتذهب الدعاوي من أربابها وتبقي المؤمنون هنالك سادات الموقف على كل من في الموقف وأما النظر في مصالح الممكنات الذي لهذه الحضرة

[الرب ينظر بالأولوية في وجود الممكن وعدمها]

فاعلم أن الممكنات إذا نظرتها من حيث ذاتها لم يتعين لقبولها من الأطراف طرف تكون به أولى فيكون الرب ينظر بالأولوية في وجودها وعدمها وتقدمها في الوجود وتأخرها ومكانها ومكانتها ويناسب بينها وبين أزمنتها وأمكنتها وأحوالها فيعمد إلى الأصلح في حقها فيبرز ذلك الممكن فيه لأنه لا يبرزه إلا ليسبحه ويعرفه بالمعرفة التي تليق به مما في وسعه أن يقبلها ليس غير ذلك فلهذا ترى بعض الممكنات يتقدم على بعض ويتأخر ويعلو ويسفل ويتلون في أحوال ومراتب مختلفة من ولاية وعزل وصناعة وتجارة وحركة وسكون واجتماع وافتراق وما أشبه ذلك وهو تقليب ممكنات في ممكنات في غير ذلك ما تتقلب‏

[العبودة التي لا تقبل العتق‏]

وأما العبودة التي لا تقبل العتق فهي العبودة لله فإن العبودة على ثلاثة أقسام عبودة لله وعبودة للخلق وعبودة للحال وهي العبودية فهو منسوب إلى نفسه ولا يقبل العتق من هذه الثلاثة إلا عبودة الخلق وهي على قسمين عبودة في حرية وهي عبوديتهم للأسباب فهم عبيد الأسباب وإن كانوا أحرارا وعبودية الملك وهي العبودية المعروفة في العموم التي يدخلها البيع والشراء فيدخلها العتق فيخرجه عن ملك المخلوق وبقيت الحيرة في ملك الأسباب هل يخرج من استرقاق الأسباب أم لا فمن يرى أن الأسباب حاكمة عليه ولا بد ومن المحال الخروج عنها إلا بالوهم لا في نفس الأمر قال ما يصح العتق من رق الأسباب ومن قال بالوجه الخاص وهو الذي لا اشتراك فيه قال بالعتق من رق الأسباب وعتقه معرفته بذلك الوجه الخاص فإذا عرفه خرج عن رق الأسباب وأما عبودة الله وعبودة العبودية وهي عبودة الحال فلا يصح العتق فيها جملة واحدة

[ارتباط الحياة بالأسباب المعتادة]

وأما ارتباط الحياة بالأسباب المعتادة فأظهر ما يكون فيما يقع به الغذاء لكل متغذ من الغذاء المعنوي والمحسوس فالغذاء المحسوس معلوم والغذاء المعنوي ما تتغذى به العقول وكل من حياته بالعلم كان ما كان وعلى أي طريق كان فكم من علم يحصل للعالم به من طريق الابتلاء وذلك لإقامة الحجة فيمن من شأنه الطلب وهو سار في جميع الموجودات وقد بينا ذلك في عضو البطن من مواقع النجوم ولو لا التطويل بينا في هذه الحضرة ما يتعلق من الأسرار بها فلا ننبه من كل حضرة إلا على طرف منها ولهذا الاسم الرب إضافات كثيرة تجتمع في الإضافة وتفترق بحسب ما يضاف إليه فثم إضافة للعالمين ولكاف الخطاب من مفرد فَوَ رَبِّكَ ومثنى فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى‏ ومجموع رَبَّكُمُ وإلى الآباء وإلى ضمير الغائب ربه وربهم وإلى السماء والسموات وإلى الأرض وإلى المشرق والمغرب وإلى المشارق والمغارب وإلى الناس وإلى الفلق وإلى ضمير المتكلم فلا تجده أبدا إلا مضافا فعلمك به من‏

حيث من هو مضاف إليه فافهم والكلام في هذه التفاصيل يطول والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الرحموت الاسم الرحمن الرحيم»

إلى الرحمن حلي وارتحالي *** لأحظي بالجلال وبالجمال‏

فإن الحق كان بنا رحيما *** رءوفا يوم يدعوني نزال‏

[الرحموت مبالغة في الرحمة الواجبة والامتنانية]

مبالغة في الرحمة الواجبة والامتنانية قال تعالى ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ومن أسماء الله تعالى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وهو من الأسماء المركبة كبعلبك ورام‏هرمز وإنما قبل هذا التركيب لما انقسمت رحمته بعباده إلى واجبة وامتنان فبرحمة الامتنان ظهر العالم وبها كان مال أهل الشقاء إلى النعيم في الدار التي يعمرونها وابتداء الأعمال الموجبة لتحصيل الرحمة الواجبة وهي الرحمة التي قال الله فيها لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم على طريق الامتنان فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ رحمة امتنان وبها رزق العالم كله فعمت والرحمة الواجبة لها متعلق خاص بالنعت والصفات التي ذكرها الله في كتابه وهي رحمة داخلة في قوله رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وعِلْماً فمنتهى علمه منتهى رحمته فيمن يقبل الرحمة وكل ما سوى الله قابل لها بلا شك ومن عموم رحمته ورحموته نفس الرحمن وإزالة الغضب عنه الذي لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله إن غضب بشهادة المبلغين عنه الإرسال عليهم الصلاة والسلام في الصحيح من النقل وسميت هذه الحضرة باسم المبالغة لعمومها ودخول كل شي‏ء فيها فلما كان لها من التعلق بعدد الممكنات على أفراد كل ممكن وبعدد المناسبات الموجبة التركيب وهي لا تتناهى فرحمة الله غير متناهية ومنها صدرت الممكنات ومنها صدر الغضب الإلهي ولما صدر عنها لم يرجع إليها لأنه صدر صدور فراق لتكون الرحمة خالصة محضة ولذلك تسابقا فما تسابقا إلا عن تميز وانفراد وجميع ما سوى الغضب الإلهي وجد من الرحمة في عين الرحمة فما خرج عنها

فرحمة الله لا تحد *** وكل ما عندها معد

وكل من ضل عن هداها *** فإنه نحوها يرد

فالقرب منها هو التداني *** وما لديها من بعد بعد

فلا تقل إنها تناهت *** فما لها في الوجود حد

بها تميزت عنه فانظر *** فالرب رب والعبد عبد

[إن الله خلق الخلق لكي يعرف‏]

ومن علم سبب وجود العالم ووصف الحق نفسه بأنه أحب أن يعرف فخلق الخلق وتعرف إليهم فعرفوه ولهذا سبح كل شي‏ء بحمده علم من ذلك أول متعلق تعلقت به الرحمة فالمحب مرحوم للوازم المحبة ورسومها

[إن الله حكم على حسب الصورة]

واعلم أن الحكم على الله أبدا بحسب الصورة التي يتجلى فيها فما يصح لتلك الصورة من الصفة التي تقبلها فإن الحق يوصف بها ويصف بها نفسه وهذا في العموم إذا رأى الحق أحد في المنام في صورة أي صورة كانت حمل عليه ما تستلزمه تلك الصورة التي رآه فيها من الصفات وهذا ما لا ينكره أحد في النوم فمن رجال الله من يدرك تلك الصورة في حال اليقظة ولكن هي في الحضرة التي يراها فيها النائم لا غيرها وهذه المرتبة يجتمع فيها الأنبياء عليه السلام والأولياء رضي الله عنهم وهنا يصح كون الرحمة وسعت كل شي‏ء وهذه الصورة الإلهية في هذه الحضرة من الأشياء فلا بد أن تسعها رحمة الله إن عقلت والانتقام من رحمة المنتقم بنفسه في الخلق والله عَزِيزٌ عن مثل هذا ذُو انْتِقامٍ والْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْها إِنْ كانَ من الصَّادِقِينَ وغَضِبَ الله عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً وإذا وفق الله عبده للتوبة فقد وفقه لما لله به فرح فإن الله يفرح بتوبة عبده في الصحيح فذلك من رحمة الله والأخبار النبوية في ذلك أكثر من أن تحصى كثرة

«حضرة الملك والملكوت وهو الاسم الملك»

إن المليك هو الشديد فكن به *** ملكا على الأعداء حتى تمتلك‏

فإذا ملكت النفس عن تصريفها *** فيما تريد تكن به نعم الملك‏

وأيضا

إن المليك هو الشديد فكن به *** وله مليكا في القيامة تسعد

لو لم يكن من ملكه إلا الذي *** يوم القيامة في السعادة تشهد

[عالم الغيب وعالم الشهادة]

اعلم أن الملك والملكوت لهما الاسم الظاهر والباطن وهو عالم الغيب وعالم الشهادة وعالم الخلق وعالم الأمر وهو الملك المقهور فإن لم يكن مقهورا تحت سلطان الملك فليس بملك ومن كان باختيار ملكه لا باختيار نفسه في تصرفه فيه فليس ذلك بملك ولا ملك بل منزلة من هو بهذه المثابة في ملكه منزلة المتنفل في العبادة فهو عبد اختيار لا عبد اضطرار يعزل ملكه إذا شاء ويوليه إذا شاء والملك المجبور المضطر ليس كذلك فهو تحت سلطان الملك فإذا نفذ أمره في ظاهر ملكه وفي باطنه فذلك الملكوت وإن اقتصر في النفوذ على الظاهر وليس له على الباطن سبيل فذلك الملك وقد ظهرت هاتان الصفتان بوجود المؤمن والمنافق في اتباع الرسل صلوات الله عليهم فمنهم من اتبعه في ظاهره وباطنه وهو المؤمن المسلم ومنهم من اتبعه في ظاهره لا في باطنه وذلك المنافق ومنهم من اتبعه في باطنه لا في ظاهره فذلك المؤمن العاصي وما جعل الله للإنسان عينين إلا ليدرك بهما هاتين الصفتين عين حس وعين عقل بصيرة وبصر لأنه لما خلق من كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ خلق لإدراكهما عينين ولما أضاف إلى نفسه الأعين بلفظ الجمع ليدل على الكثرة فكل عين حافظة مدركة لأمر ما بأي وجه كان فهي عين الحق الذي له الحفظ والإدراك فذلك سبب الجمع فيها

فهو الحفيظ بنفسه وبخلقه *** وهو العليم بما له من حقه‏

بل وصف نفسه تعالى بالمشيئة والاختيار أثبت بذلك عندنا شرعا لا عقلا إن له تصرفا في نفسه وهذا حكم يحيله النظر العقلي بعين البصيرة على الله ويصححه الخبر الشرعي والعين البصري في اختلاف الصور عليه التي يتجلى فيها وبه ثبت يَمْحُوا الله ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وإِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ولَوْ أَرادَ الله أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ ففي هذا كله وجه إلى أحدية متعلق الإرادة ووجه إلى التصرف في التعلق والتصرف في التعلق تصرف في الإرادة والإرادة إما ذاته على مذهب نفاة الزائد وإما صفته على مذهب مثبتي الصفات زائدة والصحيح في غير هذين القولين وهو أن الإرادة ليست بأمر زائد على الذات ولا هي عين الذات وإنما هي تعلق خاص للذات أثبته الممكن لإمكانه في القبول لأحد الأمرين على البدل لو لا معقولية هذين الأمرين ومعقولية القبول من الممكن ما ثبت للإرادة ولا للاختيار حكم ولا ظهر له في العبارات اسم فمن حضر مع الحق في حضرة الملك والملكوت ولم يعرف العالم ولا ما هو ولا عرف نسبته من الحق ولا نسبة الحق منه فما حضر في هذه الحضرة بوجه من الوجوه ولا كان له حظ في الاسم الملك‏

«حضرة التقديس وهو الاسم القدوس»

من طهر النفس التي لا تنجلي *** أعلامها فينا يكن قدوسا

ويرد ملكا طاهرا ذا عفة *** من كان في تصريفه إبليسا

إلى القدوس أعملت المطايا *** لا حظي بالزكاة وبالطهور

وبالعرش المحيط وساكنيه *** وبالأمر العلى من الأمور

فإن القدس ليس له نظير *** به أحيى له وبه نشوري‏

وإن الحق ليس به خفاء *** وصدر الحق منا في الصدور

[الأسماء النواقص هي التي لا تتم إلا بصلة]

سبوح قدوس مطهر من الأسماء النواقص والأسماء النواقص هي التي لا تتم إلا بصلة وعائد فإن من أسمائه سبحانه الذي وما في قوله الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ وفي قوله الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَياةَ وأما ما في قوله تعالى والسَّماءِ وما بَناها في بعض وجوه ما في هذا الموضع فإن ما قد تكون هنا مصدرية وقد تكون بمعنى الذي فتكون ناقصة فتكون هنا اسما لله عز وجل‏

[خلق الأسباب والمسببات‏]

فاعلم إن الله لما خلق الأسباب وجعلها الظاهرة لعباده وفعل المسببات عندها وتخيل الناظرون أنها ما خلقت إلا بها وهذا هو الذي أضل الخلق عن طريق الهدى والعلم وحجبهم عن‏

الوجه الخاص الذي لله في كل كائن فاعلم إن ذلك اللفظ المسمى اسما ناقصا وهو ما ومن والذي وأخوات هذه الأسماء إنما مسماها السبب الذي احتجب الله به عن خلقه في خلقه هذه المسببات فهو القدوس أي المطهر عن نسبة الأسماء النواقص إليه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فأنت بخير النظرين إما أن يكون كشفك إن الحق هو الظاهر في مظاهر الممكنات فيكون التقديس للممكنات بوجود الحق وظهوره في أعيانها فتقدست به عما كان ينسب إليها من الإمكان والاحتمالات والتغييرات فليس إلا أمر واحد وأعيان كثيرة كل عين في أحديتها لا تتغير عين لعين بل يظهر بعضها لبعض ويخفى بعضها عن بعض بحسب صورة الممكن وإما أن يكون الحق عين المظهر ويكون الظاهر أحكام أعيان الممكنات الثابتة أزلا التي لا يصح لها وجود فيكون التقديس للحق لأجل ما ظهر من تغير أحكام الممكنات في عين الوجود الحق أي الحق مقدس قدوس عن تغيره في نفسه بتغير هذه الأحكام كما تقول في الزجاج المتلون بألوان شتى إذا ضرب النور فيه وانبسط نور الشعاع مختلف الألوان لأحكام أعيان التلون في الزجاج ونحن نعلم أن النور ما انصبغ بشي‏ء من تلك الألوان مع شهود الحس لتلون النور بألوان مختلفة فتقدس ذلك النور في نفسه عن قبول التلون في ذاته بل نشهد له بالبراءة من ذلك ونعلم أنه لا يمكن أن ندركه إلا هكذا فكذلك وإن نزهنا الحق عن قيام تغيير ما أعطته أحكام أعيان الممكنات فيه عن أن يقوم به تغيير في ذاته بل هو القدوس السبوح ولكن لا يكون الأمر إلا هكذا في شهود العين لأن الأعيان الثابتة في أنفسها هذه صورتها وكذلك روح القدوس تارة يتجلى في صورة دحية وغيره وتجلى وقد سد الأفق وتجلى في صورة الدر وتنوعت عليه الصور أو تنوع في الصور ونعلم أنه من حيث إنه روح القدس مطهر عن التغيير في ذاته ولكن هكذا ندركه كما أنه إذا نزل بالآيات على من نزل من عباد الله والآيات متنوعة فإن القرآن متنوع ينطبع عند النازل عليه في قلبه بصورة ما نزل به عليه فتغير على المنزل عليه الحال لتغيير الآيات والكلام من حيث ما هو كلام الله واحد لا يقبل التغيير والروح من حيث ما هو لا يقبل التغيير فالكلام قدوس والروح قدوس والتغيير موجود فتنظر في مدلول الآيات فإذا كان مدلولها الممكنات فالتقديس للحق وإذا كان مدلول الآية الحق فما هو من حيث عينه لأنه قدوس وإنما هو من حيث اسم ما إلهي من الأسماء وهذه فائدة الدلالة

«حضرة السلام الاسم الإلهي السلام»

لما تسمى بالسلام لخلقه *** كان السلام له المقام الشامخ‏

والحكم فيهم بالذي قد شاءه *** والعز والمجد التليد الباذخ‏

إن السلام تحية من ربنا *** فينا ومن أسماء نرجو السلام‏

ولنا التأخر عن علو مقامه *** وله التقدم والتحكم والإمام‏

لما تسمى بالسلام لخلقه *** حارت عقول الواصلين من الأنام‏

قال الله تعالى لَهُمْ دارُ السَّلامِ وهي دار لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ فهم فيها سالمون‏

[أن السلامة التي للعارف هي تنزيهه من دعوى الربوبية على الإطلاق‏]

واعلم أن السلامة التي للعارف هي تنزيهه من دعوى الربوبية على الإطلاق إلا أن يظهر عليه نفحاتها عند ما يكون شهوده كون الحق جميع قواه فيكون دعوى فيكون سلامته عند ذلك من نفسه وبها سمي السلام سلاما لما أراد الصحابة رضي الله عنهم في التشهد أن يقولوا أو قالوا السلام على الله تحية

فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام‏

فإذا حضر العبد وهو عبد السلام مع الحق في هذه الحضرة وكان الحق مرآة له فلينظر ما يرى فيها من الصور فإن رأى فيها صورة باطنة ومعاينة مشكلة بشكل ظاهره فعلم أنه رأى نفسه وما حصلت له درجة من يكون الحق جميع قواه وإن رأى صورة غير مشكلة بشكل جسدي مع تعقله أن ثم أمرا ما هو عينه فتلك صورة حق وإن العبد في ذلك الوقت قد تحقق بأن الحق قواه ليس هو وإن كان العبد في هذا الشهود هو عين المرآة وكان الحق هو المتجلي فيها فلينظر العبد من كونه مرآة ما تجلى فيه فإن تجلى فيه ما يقيد بشكله فالحكم للمرآة لا للحق فإن الرائي قد يتقيد بحقيقة

شكل المرآة من طول وعرض واستدارة وانحناء وكبر وصغر فترد الرائي إليها ولها الحكم فيه فيعلم بالتقييد المناسب لشكل المرآة أن الذي رآه قد تحول في شكل صورته في أنواع ما تعطيه حقيقته في تلك الحال وإن رآه خارجا عن شكل ذاته فيعلم أنه الحق الذي هو بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ وبأي صورة ظهر فقد سلم من تأثير الصورة الأخرى فيه لأن حضرة السلام تعطي ذلك أ لا ترى الرجل الذي رأى الحق عند رؤية أبي يزيد فمات وقد كان يرى الحق قبل رؤية الحق في رؤية أبي يزيد فلا يتأثر فقد رأى الحق في غير صورة مرآته ومثاله رؤية الشخص نفسه في مرآة فيها صورة مرآة أخرى وما في تلك المرآة الأخرى فيرى المرآة الأخرى في صورة مرآة نفسه ويرى الصورة التي في تلك المرآة الأخرى في صورة تلك المرآة الأخرى فبين الصورة ومرآة الرائي مرآة وسطي بينها وبين الصورة التي فيها وقد بينا ونبهنا على هذا ورغبنا في هذا المقام في رؤية الحق بالرؤية المحمدية في الصورة المحمدية فإنها أتم رؤية وأصدقها وهذه الحضرة لمن لم يشرك بالله شيئا وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً والجاهل من أشرك بالله خفيا كان الشرك أو جليا وذلك لأنهم يعرفون من أين خاطبهم الجاهلون وما حضرتهم فلو أجابوهم لانتظموا معهم في سلك الجهالة فإن كل إنسان ما يكلم إنسانا بأمر ما من الأمور ابتداء أو مجيبا حتى ينصبغ بصفة ذلك الأمر الذي يكلمه به كان ذلك ما كان وكل ذلك من الحضرات الإلهية علم ذلك من علمه وجهله من جهله فلم يتمكن لهؤلاء أن يزيدوا على قولهم سلاما شيئا ولو راموا ذلك ما استطاعوا وهذه الحضرة من أعظم الحضرات منها نقول الملائكة لأهل الجنة سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ومنها شرعت التحية فينا بالسلام على التعريف والتنكير وفي الصلاة وفي غير الصلاة

[أن الجاهل هو الذي يقول أو يعتقد ما يصوره في نفسه فلا تجده إلا في نفس الذي صوره‏]

واعلم أن الجاهل هو الذي يقول أو يعتقد ما يصوره في نفسه وما لذلك المصور اسم مفعول صورة في عينه زائدة على ما صوره هذا القائل والمعتقد في نفسه فكل ما تطلبه في حضرة وجودية فلا تجده إلا في نفس الذي صوره أو تلقاه عمن صوره فذلك الجهل أعني تصويره وذلك الجاهل أعني الذي صوره ومن كان من أهل هذه الحضرة السلامية فإنه عالم بالحضرات الوجودية وما تحوي عليه من الصور فإذا لم يجد فيها صورة ما خاطبه بها هذا القائل علم أنه جاهل أو مقلد لجاهل فلا يزيده على قوله سلاما شيئا وهذا مقام عزيز ما رأيت من أهله أحدا إلى الآن أعني أهل الذوق الذين لهم فيه شهود وإن كنت رأيت من يصمت عند خطاب الجاهل فما كل من يصمت عند خطاب الجاهل يصمت من هذه الحضرة وإن علم إن القائل من الجاهلين ولكن لا يقول سلاما إلا صاحب هذه الحضرة فإن له اطلاعا على وجود تلك الصورة في نفس القائل ولا يرى لها صورة في غير محله أصلا سواء كان ذلك القائل مقلدا أو قائلا عن شبهة وكل ما لا صورة له إلا في نفس قائله فإنها تذهب من الوجود بذهاب قوله أو ذهاب تذكر ما صوره من ذلك فإنه ما ثم حضرة وجودية تضبط عليه وجوده وللحروف المنظومة الدالة عليه من المتكلم به أعني أعيانا ثابتة في حضرة الثبوت أعني في شيئية الثبوت في عين هذا القائل وفي شيئية الوجود الخطابي أيضا ولكن مدلولها العدم فلا بد من ذهاب الصورة من النفس وإن بقيت لها صورة في الخطاب كائنة من حيث ما تشكلت في الهواء ملكا مسبحا يعرف أمه وهو القائل ولا يعرف له أبا في حضرة من حضرات الوجود فيبقى غريبا ما له نسب يعرفه سوى الذي تكون فيه وهو هذا الجاهل القائل وبهذا كان الصدق له الإعجاز في الكلام لأنه حق وجودي بخلاف المزور في نفسه ما ليس هو فما له شي‏ء يستند إليه فيظهر قصوره عن غيره ولذلك نهينا أن نضرب لله الأمثال وهو يضرب الأمثال لأنه يعلم ونحن لا نعلم فهو عز وجل يضرب لنا الأمثال بما له وجود في عينه ونحن لسنا كذلك إلا بحكم المصادفة فنضرب المثل إذا ضربناه بما له وجود في عينه وبما لا وجود له إلا في تصورنا فنطلب مستندا فلا نجده فلا يبقى له عين فيزول لزواله ما ضرب له المثل لأنه لا يشبهه كما يزول نور السراج من البيت إذا ذهب السراج منه وقد رأينا جماعة من المنتمين إلى الله يتسعون في ضرب المثل من علماء الرسوم ومن أهل الأذواق كما أنهم يتكلمون في ذات الحق بما يقع به التنزيه لها من كونها لو كانت كذا لزم أن تكون كذا فاذن ليست بكذا والكلام في ذات الله عندنا محجور بقوله ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ من باب الإشارة وإن كان له مدخل في التفسير أيضا ولا يقع في مثل هذا

إلا جاهل بالأمر وفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ما يقع به الاستغناء لو فهموه وما رأينا أحدا ممن يدعي فيه أنه من فحول العلماء من أي صنف كان من أصناف النظار إلا وقد تكلم في ذات الحق غير أهل الله من تحقق منهم بالله فإنهم ما تعرضوا لشي‏ء من ذلك لأنهم رأوه عين الوجود كما أشهدهم فهم يتكلمون عن شهود فلا يسلبون ولا ينفون ولا يشبهون والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الأمان وهي للاسم المؤمن»

معطي الأمان المؤمن الرب الذي *** ما زال يدعوه الورى بالمؤمن‏

فهو العليم بحقه وبحقنا *** وبما له منا وما للممكن‏

«و لهذا الاسم أيضا»

إذا كان الأمان لكل خائف *** فقد حاز المشاهد والمواقف‏

وآتاه المنزه كل شي‏ء *** على كتب وأشباه المعارف‏

فيصبح عارفا لا يعتريه *** قصور في الهبات وفي العوارف‏

ولو لا غيرة الرحمن فينا *** لا ثبت الأمان لكل عارف‏

ولكني سترت لكون ربي *** يريد الستر في حق المكاشف‏

وهي لعبد المؤمن فإن كل حضرة لها عبد كما لها اسم إلهي فأول حضرة تكلمنا فيها هي لعبد الله ويتلوها عبد ربه لا عبد الرب فإنه ما أتى هذا الاسم في كلام الله إلا مضافا ثم عبد الرحمن ثم عبد الملك ثم عبد القدوس ثم عبد السلام ثم عبد المؤمن وله هذه الحضرة وتحققت بهذه العبودية بعد دخولي هذا الطريق بسنة أو سنتين تحققا لم ينله في علمي أحد في زماني غيري ولا ابتلي فيه أحد ما ابتليت فيه فقطعته بحيث إنه ما فاتني منه شي‏ء وصفا لي الجو ولم يحل بيني وبين خبر السماء وعصمني الله من التفكر في الله فلم أعرفه إلا من قوله وخبره وشهوده وبقي فكري معطلا في هذه الحضرة وشكرني فكري على ذلك وقال لي الفكر الحمد لله الذي عصمني بك عن التصرف والتعب فيما لا ينبغي لي أن أتصرف فيه فصرفته في الاعتبار وبايعني على أني لا أصرفه إلا في الشغل الذي خلق له متى صرفته فأجبته إلى ذلك فما قصرت في حق قواي كلها حيث ما تعديت بها ما خلقت له وحصل لها الأمان من جهتنا في ذلك فأرجو أنها تشكرني عند الله وأعني القوي الروحانية التي خلق الله فينا

[إن الخبر الإلهي من عند الله قد يسمى صحفا أو توراة أو إنجيلا أو قرآنا أو زبور]

واعلم أن هذه الحضرة ما لها في الكون سلطان إلا في الأخبار الإلهية وهي على قسمين عند من دخل إلى هذه الحضرة وتحقق بها القسم الواحد الخبر الإلهي الآتي من عند الله المسمى صحفا أو توراة أو إنجيلا أو قرآنا أو زبور أو كل خبر أخبر به عن الله ملك أو رسول بشري أو كلم الله به بشرا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ هذا الذي عليه أهل الايمان وأهل الله والقسم الآخر يقول به طائفة من أهل الله أكابر في كل خبر في الكون من كل قائل وأصحاب هذا القسم يحتاجون إلى حضور دائم وعلم بمواقع الأخبار وأعني بالعلم العلم بمواقع الأخبار وهو أنهم يعرفون الخطاب الوارد على لسان قائل ما ممن له نطق في الوجود أين موقعه من العالم أو من الحق فيبرزون له آذانا منهم واعية لا يسمعونه إلا بتلك الآذان فيتلقونه ويطلبون به متعلقة حتى ينزلوه عليه ولا يتعدوه به وهذا لا يقدر عليه إلا من حصر أعيان الموجودات أعني أعيان المراتب لا أعيان الأشخاص فيلحقون ذلك الخبر بمرتبته فهم في تعب ومشقة فإن المتكلم مستريح في كلامه وهذا متعوب في سماعه ذلك الكلام فإنه لا يأخذه إلا من الله فينظر من يراد به فيوصله إلى محله فيكون ممن أدى الأمانة إلى أهلها ولهذا كان بعضهم يسد أذنيه بالقطن حتى لا يسمع كلام العالم ولله رجال هان عليهم مثل هذا فبنفس ما يسمعون الخطاب من الله تقوم معهم مرتبة هذا الخطاب فينزلوه فيها من غير مشقة والحمد لله الذي رزقنا الراحة في هذا المقام فإنه كشف لطيف وذلك أن الخطاب الإلهي العام في السنة القائلين من جميع الموجودات مرتبة ذلك القول معه يصحبه فإنه قول إلهي في نفس الأمر وإن كان لا يعلمه إلا القليل فعند ما يسمعه الكامل من رجال الله تعالى يشهد مع‏

سماعه مرتبته فيجمع بين السماع وشهود الرتبة فيلحقه بها عن كشف من غير مشقة ولقد رأينا جماعة من أهل الله يتعبون في هذا المقام يطلب المناسبات بين الأخبار وبين المراتب حتى يعثروا عليها وحينئذ يلحقوا ذلك الخبر بأهله فتفوتهم أخبار إلهية كثيرة وأما إعطاء هذه الحضرة الأمان فليس ذلك إلا للمتحققين بالخوف فلا تزال المراتب تنظر إلى الأخبار التي ترد على ألسنة القائلين وتعلم أنها لها وتعلم أن الآخذين بها هم السامعون وإن السامعين قد يأخذونها على غير المعنى الذي قصد بها فيلحقونها بغير مراتبها فتلك المرتبة التي ألحقوها بها تنكرها ولا تقبلها ومرتبتها تعرفها وقد حيل بينها وبينها بسوء فهم السامع فإذا علموا من السامع أنه على صحة السمع والصدق فيه وأنه لا يتعدى بالخطاب مرتبته كانت المرتبة في أمان من جهة هذا السامع فيما هو لها فتعلم إن حقها يصل إليها فهي معه مستريحة آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل سامع بهذه المثابة فلهذا للسامع أجر الأمان وهو أجر عظيم في الإلهيات فيهزأ الإنسان في كلامه ويسخر ويكفر ويقصد به ما لم يوضع له وهذا السامع الكامل يأخذه من حيث عينه لا من حيث قصد المتكلم به فإنه ما كل متكلم من المخلوقين عالم بما تكلم به من حيث هو خطاب حق فيتكلم به من حيث قصده ويأخذه السامع الكامل من حيث رتبته في الوجود فقد أعطى هذا السامع الأمان للجانبين الجانب الواحد الحاقة برتبته والجانب الآخر ما حصل لمن قصد به المتكلم به من الأمان من حصوله عنده من جهة هذا السامع الكامل فإنه في الزمن الواحد يكون له سامعان مثلا الواحد هذا الذي ذكرناه والآخر على النقيض منه ما يفهم منه إلا ما قصده المتكلم المخلوق فيلحقه بهذه الرتبة في الوقت الذي يأخذه عنها السامع الكامل فهي تحت وجل من هذا السامع الناقص التابع للمتكلم وفي أمان من هذا السامع الكامل فلا والله ما يستوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ ما قلناه أُولُوا الْأَلْبابِ الغواصون على درر الكلام‏

«حضرة الشهادة وهي للاسم المهيمن»

إن المهيمن يشهد الأسرارا *** فينا وفيه ويستر الأنوارا

عنا وعنه بنا إذا ما نوره *** يعمى البصائر فيه والأبصارا

ولذاك ما اتخذ الحجاب لنفسه *** والجند والأعوان والأنصارا

جاءت به الإرسال من عرش العما *** ليحير الألباب والأفكارا

ويفوز أهل الذكر من ملكوته *** بالذكر حين يشاهدوا الأخبارا

[المهيمن هو الشاهد على الشي‏ء بما هو له وعليه‏]

صاحبها عبد المهيمن المهيمن هو الشاهد على الشي‏ء بما هو له وعليه ولله حقوق على العباد وللعباد حقوق على الله تعالى ذاتية ووضعية ومن هذه الحضرة يقول الله تعالى وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فلا بد لصاحب هذه الحضرة من العلم بما لله عليه من الحقوق وبما له عليه من الحقوق لا بد من ذلك وافترق أهل هذا المقام بعد تحصيل هذا في الحقوق التي لهم عند الله فمن قائل بها على أنها حقوق ومن قائل بها لا على أنها حقوق فيأخذونها منه على جهة الامتنان وهم القائلون بأن الله لا يجب عليه شي‏ء لكونهم حدوا الواجب بما لا يليق أن يدخل في ذلك جناب الحق ومن لم يحده بذلك الحد أدخل الحق في الوجوب كما أدخل الحق نفسه فيه فقال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وقال حرمت الظلم على نفسي وقال وأكره مساءته ولا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وقال إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وقال وما يَفْعَلُوا من خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ فأدخل نفسه بكل ما ذكرناه تحت حكم الأحكام التي شرعها لعباده من وجوب وحظر وندب وكراهة وإباحة والحق متى أقام نفسه في خطابه إيانا في صورة ما من الصور فإنا نحمل عليه أحكام تلك الصورة لأنه لذلك تجلى فيها فنشهد له على أنفسنا ونشهد عليه لأنفسنا وهذه الشهادة له وعليه لا تكون إلا في يوم الفصل والقضاء أي وقت كان فإنه ما يختص به يوم القيامة فقط بل قد يقام فيه العبد هنا في حال من الأحوال بل كل حكم يكون في الدنيا في مجلس الشرع هو من يوم الفصل والقضاء ويدخل في حكم هذه الحضرة وفي غير فصل ولا قضاء لا يكون لهذه الحضرة حكم وإنما ذلك في حضرة المراقبة وسترد إن شاء الله تعالى في هذا الباب‏

[إن القرآن منزل من منزل الحضرة المهيمن‏]

واعلم أنه من هذه الحضرة نزل هذا الكتاب المسمى قرآنا

خاصة دون سائر الكتب والصحف المنزلة وما خلق الله من أمة من أمم نبي ورسول من هذه الحضرة إلا هذه الأمة المحمدية وهي خير أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ولهذا أنزل الله في القرآن في حق هذه الأمة لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فنأتي يوم القيامة يقدمنا القرآن ونحن نقدم سائر أهل الموقف ويقدم القراء منا من ليس له من القرآن مثله فأكثرنا قرآنا أسبقنا في التقدم والرقي في المعراج المظهر للفضل بين الناس يوم القيامة فإن للقراء منابر لكل منبر درج على عدد آي القرآن يصعد الناس فيه بقدر ما حفظوا منه في صدورهم ولهم منابر أخر لها درج على عدد آي القرآن يرقى فيها العاملون بما حققوه من القرآن فمن عمل بمقتضى كل آية بقدر ما تعطيه في أي شي‏ء نزلت رقى إليها عملا وما من آية إلا ولها عمل في كل شخص لمن تدبر القرآن وفي القيامة منابر على عدد كلمات القرآن ومنابر على عدد حروفه يرقون فيها العلماء بالله العاملون بما أعطاهم الله من العلم بذلك فيظهرون على معارج حروف القرآن وكلماته بسور تلك الحروف والكلمات والآيات والسور والحروف الصغار منه وبه يتميزون على أهل الموقف في هذه الأمة لأن أناجيلهم في صدورهم فيا فرحة القرآن بهؤلاء فإنهم محل تجليه وظهوره فإذا تلا الحق على أهل السعادة من الخلق سورة طه تلاها عليها كلاما وتجلى لهم فيها عند تلاوته صورة فيشهدون ويسمعون فكل شخص حفظها من الأمة يتحلى بها هنالك كما تحلى بها في الدنيا بالحاء المهملة فإذا ظهروا بها في وقت تجلى الحق بها وتلاوته إياها تشابهت الصور فلم يعرف المتلو عليهم الحق من الخلق إلا بالتلاوة فإنهم صامتون منصتون لتلاوته ولا يكون في الصف الأول بين يدي الحق في مجلس التلاوة إلا هؤلاء الذين أشبهوه في الصورة القرآنية الطاهية ولا يتميزون عنه إلا بالإنصات خاصة فلا يمر على أهل النظر ساعة أعظم في اللذة منها فمن استظهر القرآن هنا بجميع روايانه حفظا وعلما وعملا فقد فاز بما أنزل الله له القرآن وصحت له الإمامة وكان على الصورة الإلهية الجامعة فمن استعمله القرآن هنا استعمل القرآن هناك ومن تركه هنا تركه هناك وكَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏ وورد في الخبر فيمن حفظ آية ثم نسيها عذبه الله يوم القيامة عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين‏

وما أحسن ما نبه النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم على منزلة القرآن بقوله لا يقول أحدكم نسيت آية كذا وكذا بل نسيتها

فلم يجعل لتارك القرآن أثرا في النسيان احتراما لمقام القرآن وقالت عائشة في خلق النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان خلقه القرآن‏

وليس إلا ما ذكرناه من الاتصاف به والتحلي على حد ما ذكرناه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة العزة وهي الاسم العزيز»

ألا إن العزيز هو المنيع *** له ستر الورى فهو الرفيع‏

يعز وجوده فيعز ذاتا *** ولو لا الخلق ما ظهر البديع‏

فقل للمنكرين صحيح قولي *** حمى الرحمن ذلكم المنيع‏

[عبد هواه وعبد نفسه‏]

الداخل فيها يدعى في الملإ الأعلى عبد العزيز لم أذق في كل ما دخلته من الحضرات ذوقا ألذ منه ولا أوقع في القلب لهذه الحضرة المنع فلها الحدود لا بل لها من الحدود ما يقع به التمييز فيقف كل محدود لا بل كل شي‏ء على عزته فيكون كل شي‏ء عزيزا وعبوديته فيه فهو عبد نفسه فمن هنا ظهر كل من غلبت عليه نفسه واتبع هواها ولو لا الشرع ما ذمه بالنسبة إلى طريق خاص لما ذمه أهل الله فإن الحقائق لا تعطي إلا هذا فمن اتبع الحق فما اتبعه إلا بهوى نفسه وأعني بالهوى هنا الإرادة فلو لا حكمها عليه في ذلك ما اتبع الحق وهكذا حكم من اتبع غير الحق وأعني بالحق هنا ما أمر الشارع باتباعه وغير الحق ما نهى الشرع عن اتباعه وإن كان في نفس الأمر كل حق لكن الشارع أمر ونهى كما أنا لا نشك أن الغيبة حق ولكن نهانا الشرع عنها ولنا

وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى *** ولو لا الهوى في القلب ما عبد الهوى‏

فبالهوى يجتنب الهوى وبالهوى يعبد الهوى ولكن الشارع جعل اسم الهوى خاصا بما ذم وقوعه من العبد والوقوف عند الشرع أولى ولهذا بينا قصدنا بالهوى الإرادة لا غير فالأمر يقضي أن لا حاكم على الشي‏ء إلا نفسه فيما يكون منه لا فيما

يحكم عليه به من خارج لكن ذلك الحكم من خارج لا يحكم عليه إلا بما تعطيه نفسه من إمضاء الحكم فيه فكل ما في العالم من حركة وسكون فحركات نفسية وسكون نفسي فإذا حصل العبد بالذوق في هذه الحضرة فعلامته أن لا يؤثر فيه غيره بما لا يريده ولا يشتهيه فيمنع ذاته من أثر الغير فيها بما لا يريده وإنما قلنا بما لا يريده لأنه ما في الوجود نفس إلا وتقبل تأثير نفس أخرى فيها يقول الحق تعالى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ولا أعز من نفس الحق وقد قال عن نفسه إنه أجاب الداعي عند ما دعاه ولكن هو تعالى شرع لعبده أن يدعوه فقال ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فما أجابه إلا بإرادته لذلك ولقد نادى بعض الرعايا سلطانا كبيرا بمرسية فلم يجبه السلطان فقال الداعي كلمني فإن الله تعالى كلم موسى فقال له السلطان حتى تكون أنت موسى فقال له الداعي حتى تكون أنت الله فمسك السلطان له فرسه حتى ذكر له حاجته فقضاها كان هذا السلطان صاحب شرق الأندلس يقال له محمد بن سعد بن مردنيش الذي ولدت أنا في زمانه وفي دولته بمرسية وإن كانت الحقائق تعطيه فإن حمل الأسماء على ذات الحق إنما أعطى ذلك الحمل حقائق المحدثات فلو زالت لزالت الأسماء كلها حتى الغني عن العالم إذ لو لم يتوهم العالم لم يصح الغني عنه واسم الغني لمن اتصف بالغنى عنه فما نفاه حتى أثبته فما ثم عزة مطلقة واقعة في الوجود ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ فأوقع الاشتراك فيها ولكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أن العزة للرسول وللمؤمنين وإن كان يعلم العزة ولكن تخيل أن حكمها له ولأمثاله هذا القائل فعزة الحق لذاته إذ لا إله إلا هو وعزة رسوله بالله وعزة المؤمنين بالله وبرسوله ولهذا شرع له الشهادتين ولكن أولو الألباب لما سمعوا هذا الخطاب تنبهوا لما ذكر المؤمنين فلله العزة في المؤمنين فإنه المؤمن وللرسول العزة في المؤمنين فإنه منهم فعمت عزة المؤمنين عزة الله ورسوله فدخل الحق في ضمنهم وما دخلوا في ضمنه لأحديته وجمعهم وأحدية الرسول وجمعهم فلهم الحضرة الجامعة ولكن نسبة العزة لله غير نسبتها له تعالى من حيث دخوله بالاسم المؤمن في المؤمنين فإن الحق إذا كان سمع العبد المؤمن وبصره كانت العزة لله بما كان للعبد به في هذا المقام عزيزا أ لا تراه في هذا المقام لا يمتنع عليه رؤية كل مبصر ولا مسموع ولا شي‏ء مما تطلبه قوة من قوى هذا العبد لأن قواه هوية الحق ولله العزة ويمتنع أن يدركه من ليست له هذه القوة من المخلوقين ولهذا ما ذكر الله العزة إلا للمؤمنين ثم إن عزة الرسول بالمؤمنين إذ كانوا هم الذين يذبون عن حوزته فلا عزة إلا عزة المؤمن فبالعزة يغلب وبالعزة يمتنع فهي الحصن المنيع وهي حمى الله وحرمه ولا يعرف حمى الله ويحترمه إلا المؤمن خاصة وليس المنع إلا في الباطن وهنالك يظهر حكم العزة وأما في الظاهر فليس يسرى حكمها عاما في المنع ولا في الغلبة فالمؤمن بالعزة يمتنع أن يؤثر فيه المخالف الذي يدعوه إلى الكفر بما هو به مؤمن والكافر بالعزة يمتنع أن يؤثر فيه الداعي الذي يدعوه إلى الايمان ولما كان الايمان يعم والكفر يعم تطرق إليهما الذم والحمد فإن الله قد ذكر الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله فسماهم مؤمنين فهذا من حكم العزة وبقي الحكم لله في المؤاخذة بحسب ما جاء به الخبر الحق من عند الله فالحكيم إذا عرف الحقائق وإن حكم العزة وإن عم فلا يعم من كل وجه تعرض عند ذلك الوجود الأثر فيه عن إرادة منه بتأثير تكون فيه سعادته ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ لأنها علمت أنها إن لم تجب مختارة جبرت على الإتيان فجي‏ء بها كما جي‏ء بجهنم وما وصفها الحق بالمجي‏ء من ذاتها وإنما قال وجِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يعني يوم القيامة وإنما امتنعت من الإتيان حتى جي‏ء بها لما علمت بما هي عليه وما فيها من أسباب الانتقام بالعصاة من المؤمنين وما وقعت عينها إلا على مسبح لله بحمده وفيها رحمة الله لكونها دخلت في الأشياء قال الله تعالى ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فمنعتها الرحمة القائمة بها من الإتيان وأشهدتها تسبيح الخلائق وطاعتهم‏

لله فجي‏ء بها ليعلم من لا يدخلها ما أنعم الله عليه به بعصمته منها ويعلم من يدخلها أنه بالاستحقاق يدخلها فتجذبه بالخاصية إليها جذب المغناطيس الحديد وهوقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إنه آخذ بحجز طائفة من النار وهم يتقحمون فيها تقحم الفراش‏

فاعلم ذلك والضابط لهذه الحضرة الحد المقوم لذات كل شي‏ء محدود وما ثم إلا محدود لكنه من المحدود ما يعلم حده ومنه ما لا يعلم حده فكل شي‏ء لا يكون عين الشي‏ء الآخر كان ما كان فذلك المانع أن يكون عينه هو المسمى عز أو عزة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الجبروت وهي للاسم الجبار»

الجبر أصل يعم الكون أجمعه *** فما ترى غير مجبور لمجبور

العلم يجبر من كنا نعظمه *** وهذه نفثة من صدر مصدور

لولاه ما وجدت أعياننا وبدت *** أكواننا بين مطوي ومنشور

[الإجبار في الأعزاء]

والمتخلق بهذا الاسم يسمى عبد الجبار هذه الحضرة لها الإجبار في الأعزاء ولا أثر لها إلا فيهم فحضرتها عظيمة في الفعل ولكن لا أثر لها في الأعزاء من جهة المعنى الذي وقعت للأشياء به العزة لا أثر لها في ذلك ولكن أثرها في الأعزاء لقبولهم لما لا عزة لهم فيه ومن هنالك يقبلون التأثير فاعلم ذلك‏

[حكم الجبروت في الملكوت‏]

اعلم أن العزيز إذا نظر إلى ما هو به عزيز وإنه من المحال قبوله للتأثير فيه من ذلك الوجه ولا يعلم عند شهوده ذلك أن فيه ما يقبل التأثير من غير هذا الوجه فيدعي المنع وأنه في حمى لا ينتهك فهنا يظهر حكم الجبروت في الملكوت فإذا أحس العزيز بالجبر نظر عند ذلك من أين أتى عليه فما ظهر له إلا من جهله بذاته وإنه مركب من حقائق تقبل التأثير وحقائق لا تقبل التأثير فإن كان عاقلا بادر ليحصل له الثناء في تلك المبادرة ويبقى الامتناع في باب الاحتمال عند الأجنبي عن مشاهدة هذه الحقائق وإن تعاظم حكم الجبر عليه فيتصرف فيه في اختياره وهو أعظم الحجب وأكثفها فمن شاهد الجبر في الاختيار علم إن المختار مجبور في اختياره فليس للجبروت حكم أعظم من هذا الحكم ومن دخل هذه الحضرة وكانت حاله عظم إحسانه في العالم حتى ينفعل له جميع العالم بل ينفعل له الوجود كله اختيارا من المنفعل وهو عن جبر لا يشعر به كل أحد فهو جبر الإحسان والتواضع فإنه يدعوه إلى الانقياد إليه أحد أمرين في المخلوقين بل في الموجودات وهو الطمع أو الحياء فالطامع إذا رأى الإحسان ابتداء من غير استحقاق أطمعه في الزيادة منه إذا جاء إليه بما يمكن أن يكون معه الإحسان وإنما تفعل النفس ذلك حتى يكون الإحسان جَزاءً وِفاقاً لأنها تكره المنة عليها لما خلقت وجبلت عليه النفوس من حب النفاسة وصاحب الحياء يمنعه الحياء بما غمره من الإحسان أن يعتاص على المحسن فيما يدعوه إليه فهو مجبور بالإحسان في إتيانه وقبوله لما يريده منه هذا المحسن حياء ووفاء وليجعل ذلك أيضا جزاء لإحسانه الأول حتى يزول عن حكم المنة وهذا من دسائس النفوس فلا جبر أعظم من جبر الإحسان لمن سلك سبيله وقَلِيلٌ ما هُمْ وأما الجبر بطريق القهر والمغالبة فهو وإن قبل في الظاهر ولم يقدر على الامتناع والمقاومة المجبور لضعفه فإنه لا يقبل الجبر بباطنه فلا أثر له إلا في الظاهر بخلاف جبر المحسن فإن له الأثر الحاكم في الظاهر والباطن بحكم الطمع أو الحياء أو الجزاء كما قررنا وأما الجبر الذاتي فهو عن التجلي في العظمة الحاكمة على كل نفس فتذهل عن ذاتها وعزتها وتعلم عند ذلك أنها مجبورة بالذات فلا تجهل نفسها فالعارف هنا ينظر من الحاكم عليه فلا يجد إلا قيام العظمة به فيعلم أنه ما حكم عليه إلا ما قام به وما قام به إلا محدث فيعظم عنده الجبر فيعلم عند ذلك جبروت الحق وأما جبروت العبد بمثل هذه الصفة فممقوت عند الله لأنه ليس له ذلك ولا يستحقه وإنما جبر المخلوق في المخلوق بالإحسان خاصة وذلك هو الجبر المحمود شرعا وعقلا وكل عبد أظهر القهر في العالم بغير صفة الحق وأمره فهو جاهل في غاية الجهل ولهذه الحضرة الجبروتية حكمان أو وجهان كيف شئت قل الوجه الواحد العظمة وهو قول أبي طالب المكي وغيره ممن يقول بقوله والوجه الآخر البرزخية فلهذا المقام الجمع بين الطرفين بما هو برزخ فيعلم نفسه ويعلم بطرفيه ما هو به برزخ بين شيئين فيكون جامعا من هذا الوجه عالي المقام وبين فضله على الطرفين فإن كل طرف لا يعلم منه إلا الوجه الذي يليه فهو عالم أعني الجبروت إن شاء تجلى في صورة برزخية وإن شاء تجلى في صورة إحدى طرفيها كيف شاء تجلى فيكون شبهه بالحق أتم ونسبة هذا الجبروت إلى الحق نسبة لطيفة لا يشعر بها كثير من الناس وهو أن الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغنى عن العالمين فالألوهة في الجبروت البرزخى فتقابل الخلق بذاتها وتقابل الذات بذاتها ولهذا لها التجلي في الصور الكثيرة والتحول فيها والتبدل فلها إلى الخلق وجه به يتجلى في صور الخلق ولها إلى الذات وجه به تظهر للذات فلا يعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهة ولا تحكم الذات في المخلوق بالخلق إلا بهذا البرزخ وهو الألوهة وتحققناها فما

وجدناها سوى ما ندعوه به من الأسماء الحسنى فليس للذات جبر في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية ولا يعرف العالم من الحق غير هذه الأسماء الإلهية الحسنى وهي أعيان هذه الحضرات التي في هذه الباب فهذا قد أنبأناك بالجبروت الإلهي ما هو على الاقتصار والاختصار والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة كسب الكبرياء وهو للاسم المتكبر»

إن التكبر من يقوم بنفسه *** كبر فكن عبدا به متكبرا

يزهو ويخطر في العداء بنفسه *** متجردا عن كبره متبصرا

كأبي دجانة حين أشهر سيفه *** يمشي به بين العدا متبخترا

[إن الكبرياء رداء الله‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد المتكبر وهو اسم غريب غير متعارف وإنما يعرف الناس عبد الكبير وقال الله عز وجل كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ لم يقل كبير فإن التكبر لا يكتسبه الكبير وإنما يكتسبه الأدنى في الرتبة فيكسب العبد الكبرياء بما هو الحق صفته فالكبرياء لله لا للعبد فهو محمود مشكور في كبريائه وتكبره ويكسب الحق هذا الاسم فإنه تعالى ذكر عن نفسه أنه متكبر وذلك لنزوله تعالى إلى عباده في خلقه آدم بيديه وغرسه شجرة طوبى بيده وكونه يمينه الحجر الأسود وفي يد المبايع بالإمامة من الرسل في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله ونزوله‏

في قوله جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني ومرضت فلم تعدني‏

وما وصف الحق به نفسه مما هو عندنا من صفات المحدثات فلما تحقق بهذا النزول عندنا حتى ظن أكثر المؤمنين أن هذا له صفة استحقاق وتأولها آخرون من المؤمنين فمن اعتقد أن اتصاف الحق بهذا أن المفهوم منه ما هو المفهوم من اتصاف الخلق به‏

[الكبرياء من ذات الله وله التكبر]

أعلم الحق هذه الطائفة خاصة إنه يتكبر عن هذا أي عن المفهوم الذي فهمه القاصرون من كون نسبته إليه تعالى على حد نسبته إلى المخلوق وبه يقول أهل الظاهر أهل الجمود منهم القاصرة أفهامهم عن استحقاق كل مستحق حقه فقال عن نفسه تعالى إنه الجبار المتكبر عن هذا المفهوم وإن اتصف بما اتصف به فله تعالى الكبرياء من ذاته وله التكبر عن هذا المفهوم لا عن الاتصاف لأنه لو تكبر عما وصف به نفسه مما ذكرنا لكان كذبا والكذب في خبره محال فالاتصاف بما وصف به نفسه حق يعلمه أولو الألباب ومن هذه الحضرة يكون لبعض العباد ما يجدونه في قلوبهم من كبرياء الحق مما يفقده بعضهم من ذلك من العصاة ومن له اجتراء على الله ومن الناس الذين يتوبون عن بعض المخالفات فيتميز عنهم من غلب على قلبه كبرياء الحق فإنه تكبر في نفس هذا العبد اكتسبه بعد أن لم يكن موصوفا بهذه الصفة فعبيد المتكبر قليل وأما الذين أجرأهم على المخالفة ما وصف الحق به نفسه من العفو والمغفرة ونهاهم عن القنوط من رحمة الله فما عندهم رائحة من نعت التكبر الإلهي الذي هو به متكبر في قلوب عباده إذ لو كبر عندهم ما اجترءوا على شي‏ء من ذلك ولا حكمت عليهم هذه الأسماء التي أطمعتهم فإن كبرياء الحق إذ استقر في قلب العبد وهو التكبر من المحال أن تقع منه مخالفة لأمر الحق بوجه من الوجوه فإن الحكم لصاحب المحل في وقته فدل وقوع المخالفة على عدم هذا الحاكم فالحق المتكبر إنما هو في نفس هذا الموافق الطائع عبد الله على الحقيقة وهذا أعلى الوجوه لهذه الحضرة في تكسب الكبرياء حتى إن العبد المقدر عليه وقوع المحظور إذا اتفق أن يقع منه بحكم القدر المحتوم وسلب العقل عنه وظهور سلطان الغفلة وانتزاح الايمان منه حتى يصير عليه كالظلة يأتي هذا الأمر وقلبه وجل مع هذا كله لإيمانه إنه إلى ربه راجع يعني هذا الفعل إذا نسبه من كونه فعلا إنه راجع إلى الحق والحكم فيه إنه معصية أو مخالفة إنما هو للعبد فيبقى العبد المقدر عليه في وجل إن نسبه إلى الحق فيرى الحكم بالذم الإلهي يتبعه فيدركه الوجل كيف ينسب إلى الله ما يناط به الذم وإن نسبه إلى نفسه من كونه محكوما عليه بالذم فإن كونه عملا ينسب إلى الله حقيقة وأنه في التكوين لمن قال له كن فلا حكم للعبد في وجود هذا العمل فيدركه الوجل أن نسبه مع هذا العلم في التكوين إلى نفسه فيكون ممن أشرك بالله وقد نهي أن يشرك بالله شيئا وسبب هذا كله كبرياء الحق الذي اكتسبه بالنظر العقلي في نفسه فما كبر الله من عصاه‏

ولا عرف الله من لم يعصه فإنه إذا عرف الله عرف أنه ما عصى إلا صيغة الأمر لا الأمر الإلهي فإنه جاءه على لسان واحد من أبناء الجنس ورأى خطابه إياه بما خاطبه به ينقسم إلى ما تعضده الأدلة النظرية التي قد أمره الحق بها وحكم العقل باتباعها وإلى ما ترده الأدلة النظرية وإن حكمت مع الشرع باتباع ما ترده إيمانا بذلك وتصديقا وقد حكم النظر العقلي بدليله بصدق هذا المخبر وأنه لا ينطق إلا عن الله وأن الله هو القائل على لسانه لهذا السامع ما خاطبه به فإن عصاه فمن حيث هو مثل له والمثلان متقابلان فلا بد من حكم التقابل والتضاد فلا بد من المخالفة وإن أطاع ووافق فمن حيث إن المخاطب عين الحق ما هو المثل فيعظم في نفس السامع ويقبل الخطاب وذلك هو عين كون الحق متكبرا أي في نفس هذا العبد حين عصاه من حيث نظره إلى المثل في الخطاب وأما الواقفون مع الصورة الإلهية في الخلق فإن الله إذا تسمى لهم بالمتكبر فإنه تنزيه لما هم عليه من الصورة ودواء لما يحصل لهم في نفوسهم من عظمتهم على المخلوقين وما له دواء في نفس الخطاب إلا

قوله إن الله خلق آدم على صورته‏

فيعلم أنه وإن حاز الصورة فهو مخلوق فقد تميز فلا يتمكن له أن يتكبر في نفسه ولكن بهذا يكبر الحق عنده في قلبه بعد أن لم يكن لهذا العبد هذا النعت فإذا أضافه إلى ما تقدم ظهر حكم اسم المتكبر والمجال واسع والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الخلق والأمر وهي للاسم الخالق»

إلى خالق الأرواح أعملت همتي *** لأحظي به والشاهدون حضور

فيا من يراني عاملا متخلقا *** إلا إنني ظل لديه ونور

وإن لم يكن هذا مقالي فإنني *** عبيد له بالعالمين خبير

وإن لم يكن قولي وقلت نيابة *** فإني ورب الراقصات كفور

وإن كان قولي فالوجود محقق *** وإني عليم بالمقال بصير

[الخلق خلقان‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الخالق والخلق خلقان خلق تقدير وهو الذي يتقدم الأمر الإلهي كما قدمه الحق وأخر الأمر عنه فقال تعالى أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ والخلق الآخر بمعنى الإيجاد وهو الذي يساوق الأمر الإلهي وإن تقدمه الأمر الإلهي بالرتبة فالأمر الإلهي بالتكوين بين خلقين خلق تقدير وخلق إيجاد فمتعلق الأمر خلق الإيجاد وستأتي حضرته وهي حضرة الباري ومتعلق خلق التقدير تعيين الوقت لإظهار عين الممكن فيتوقف الأمر عليه وقد ورد كل شي‏ء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس والوقت أمر عدمي لأنه نسبة والنسب لا أعيان لها في الوجود وإنما الأعيان الممكنات الثابتة في حال العدم مرتبة كما وقعت وتقع في الوجود ترتيبا زمانيا وكل عين تقبل تغييرات الأحوال والكيفيات والأعراض وأمثال ذلك عليها فإن الأمر الذي تتغير إليه إلى جانبها متلبسة به فلهذه العين القابلة لهذا الاختلاف في الثبوت أعيان متعددة لكل أمر تتغير إليه عين ثبوتية فهي تتميز في أحوالها وتتعدد بتعدد أحوالها سواء تناهي الأمر فيها أو لا يتناهى وهكذا تعلق بها علم الباري أزلا فلا يوجدها إلا بصورة ما علمه في ثبوتها في حال عدمها حالا بعد حال وحالا في أحوال في الأحوال التي لا تتقابل فإن نسبتها إلى حال ما من الأحوال المتقابلة غير نسبتها إلى الحال التي تقابلها فلا بد أن تثبت لها عين في كل حال وإذا لم تتقابل الأحوال يكون لها عين واحدة في أحوال مختلفة وكذا توجد فالأمر الإلهي يساوق الخلق الإيجادي في الوجود فعين قول كُنْ عين قبول الكائن للتكوين فَيَكُونُ فالفاء في قوله فَيَكُونُ جواب أمره كُنْ وهي فاء التعقيب وليس الجواب والتعقيب إلا في الرتبة كما يتوهم في الحق أنه لا يقول للشي‏ء كن إلا إذا أراده ورأيت الموجودات يتأخر وجود بعضها عن بعض وكل موجود منها لا بد أن يكون مرادا بالوجود ولا يتكون إلا بالقول الإلهي على جهة الأمر فيتوهم الإنسان أو ذو القوة الوهمية أو أمر كثيرة لكل شي‏ء كائن أمر إلهي لم يقله الحق إلا عند إرادته تكوين ذلك الشي‏ء فبهذا الوهم عينه يتقدم الأمر الإيجاد أي الوجود لأن الخطاب الإلهي على لسان الرسول اقتضى ذلك فلا بد من تصوره وإن كان الدليل العقلي لا يتصوره ولا يقول به ولكن الوهم يحضره ويصوره كما يصور المحال ويتوهمه صورة وجودية وإن كانت لا تقع في الوجود الحسي أبدا ولكن‏

لها وقوع في الوهم وكذا هي مفصلة في الثبوت الإمكانى فإن قوة الخيال ما عندها محال أصلا ولا تعرفه فلها إطلاق التصرف في الواجب الوجود والمحال وكل هذا عندها قابل بالذات إمكان التصور وهذه القوة وإن كان لها هذا الحكم فيمن خلقها فهي مخلوقة وهذا الحكم لها وصف ذاتي نفسي لا يكون لها وجود عين فيمن خلقت فيه إلا ولها هذا الحكم فإنه عين نفسها وما حازها إلا هذا النش‏ء الإنساني وبها يرتب الإنسان الأعيان الثبوتية في حال عدمها كأنها موجودة وكذلك هي لأن لها وجودا متخيلا في الخيال ولذلك الوجود الخيالي يقول الحق له كن في الوجود العيني فيكون السامع هذا الأمر الإلهي وجودا عينيا يدركه الحس أي يتعلق به في الوجود المحسوس الحس كما تعلق به الخيال في الوجود الخيالي وهنا حارت الألباب هل الموصوف بالوجود المدرك بهذه الإدراكات العين الثابتة انتقلت من حال العدم إلى حال الوجود أو حكمها تعلق تعلقا ظهوريا بعين الوجود الحق تعلق صورة المرئي في المرآة وهي في حال عدمها كما هي ثابتة منعوتة بتلك الصفة فتدرك أعيان الممكنات بعضها بعضا في عين مرآة وجود الحق والأعيان الثابتة على ترتيبها الواقع عندنا في الإدراك هي على ما هي عليه من العدم أو يكون الحق الوجودي ظاهرا في تلك الأعيان وهي له مظاهر فيدرك بعضها بعضا عند ظهور الحق فيها فيقال قد استفادت الوجود وليس إلا ظهور الحق وهو أقرب إلى ما هو الأمر عليه من وجه والآخر أقرب من وجه آخر وهو أن يكون الحق محل ظهور أحكام الممكنات غير أنها في الحكمين معدومة العين ثابتة في حضرة الثبوت ويكشف المكاشف هذين الوجهين وهو الكشف الكامل وبعضهم لا يكشف من ذلك إلا الوجه الواحد كان ما كان فنطق صاحب كل كشف بحسب ما كشف وليس هذا الحكم إلا لأهل هذا الطريق وأما غيرهم فإنهم على قسمين طائفة تقول لا عين لممكن في حال العدم وإنما يكون له عين إذا أوجده الحق وهم الأشاعرة ومن قال بقولهم وطائفة تقول إن لها أعيانا ثبوتية هي التي توجد بعد أن لم تكن وما لا يمكن وجوده كالمحال فلا عين له ثابتة وهم المعتزلة والمحققون من أهل الله يثبتون بثبوت الأشياء أعيانا ثابتة ولها أحكام ثبوتية أيضا بها يظهر كل واحد منها في الوجود على حد ما قلناه من أن تكون مظهرا أو يكون له الحكم في عين الوجود الحق فهذا يعطيه حضرة الخلق والأمر أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ كما له الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الحضرة البارئية وهي للاسم البارئ»

برأ الله عليه خلقه *** فلذا كان على صورته‏

فهو يمشي في وجودي دائما *** بالذي يعلم من سيرته‏

[خلق الحق نفسه‏]

يدعى صاحبها عبد البارئ فمن أصحابنا من قصرها على كل مخلوق من الأرض العنصري خاصة ما لها سوى ذلك من الخلق وما عدا هذا الخلق المنسوب إلى أرض العنصر فخلق آخر ما هو عين هذا ومن أصحابنا من عمم الأمر في كل مخلوق من أرض الطبيعة فدخل فيه كل صورة طبيعية من جوهر الهيولى إلى كل صورة تظهر فيه فلم يدخل اللوح والقلم والملائكة المهيمة في هذا الخلق وجعل أولئك خلقا آخر والكل خلق في العماء الذي هو نفس الرحمن القابل لصور كل ما سوى الله وقد ورد ذلك في خلق الحق نفسه فردته العقول كلها لعدم فهمها من ذلك وما شعرت بأن كل صاحب مقالة في الله إنه يتصور في نفسه أمرا ما يقول فيه هو الله فيعبده وهو الله لا غيره وما خلقه في ذلك المحل إلا الله فهذا معنى ذلك الخبر واختلفت المقالات باختلاف نظر النظار فيه فكل صاحب نظر ما عبد ولا اعتقد إلا ما أوجده في محله وما وجد في محله وقلبه إلا مخلوق وليس هو إلا له الحق وفي تلك الصورة أعني المقالة تتجلى له وإن كانت العين من حيث ما هي واحدة ولكن هكذا تدركه وهذا معنى قول عليم الأسود حين ضرب بيده الأسطوانة فصارت ذهبا في عين الرائي فلما بهت الرائي عند ذلك قال له عليم يا هذا إن الأعيان لا تنقلب ولكن هكذا تراها لحقيقتك بربك يشير إلى ظهور الحق في صورة كل اعتقاد لكل معتقد وهذا هو الحق المخلوق به في نفس كل ذي عقد من ملك وجان وإنسان مقلد أو صاحب نظر فجاءت الأنبياء في الحق على مقالة واحدة لا تتبدل ولا تتغير بل عين ما أثبته الأول أثبته كل رسول بعده‏

ونبي إلى آخر من يخبر عن الله وادعوا أن ذلك مما أوحى به إليهم ولو لا ذلك لاختلفوا فيه كما اختلف أهل النظر فهم أقرب إلى الحق بل ما جاءوا إلا بالحق في ذلك ليصدق الآخر الأول والأول الآخر وهذه مقالة لا يقتضيها النظر الفكري أصلا لكن الكشف يعطيها وعلى كل حال فأنجى الطوائف من اعتقد في الله ما أخبر الحق به عن نفسه على ألسنة رسله فإنا نعلم أن الحق صادق القول فلو لا إن هذا الحكم عليه صحيح بوجه ما ما وجه به إرساله إلى الكافة من عباده ولو لا إن له وجها في كل معتقد ما وصف نفسه على ألسنة رسله بالتحول في صور الاعتقادات فقد برأ في نفس كل معتقد صورة حق يقول من يجدها هذا هو الحق الذي نستند إليه في وجودنا فلم ير المخلوق إلا مخلوقا فإنه لا يرى إلا معتقده والحق وراء ذلك كله من حيث عينه القابلة في عين الرائي والعاقل لهذه الصور لا في نفسها فإن الله غني عن العالمين بالعالمين كما تقول في صاحب المال إنه غني بالمال عن المال فهو الموجب له صفة الغناء عنده وهي مسألة دقيقة لطيفة الكشف فإن الشي‏ء لا يفتقر إلى نفسه فهو غني بنفسه عن نفسه لكونه عند نفسه يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ عنكم الْحَمِيدُ الذي يرجع إليه عواقب الثناء وما يثنى عليه إلا بنا من حيث وجودنا وأما تنزيهه عما يجوز علينا فما وقع الثناء عليه إلا بنا فهو غني عنا بنا لأن كونه غنيا إنما هو غناه عنا فلا بد منا لثبوت هذا الغناء له نعتا ومن أراد أن يقرب عليه تصور هذا الأمر فلينظر إلى ما سمي به نفسه من كل اسم يطلبنا فلا بد منا فلذا لم يكن الغناء عنا إلا بنا إذ حكم الألوهية بالمألوه والربوبية بالمربوب والقادر بالمقدور فللربوبية سر لو ظهر لبطلت الربوبية كما إن للربوبية أيضا سرا لو ظهر لبطلت النبوة وهو ما يقتضيه النظر العقلي بأدلته في الإله إذا تجلى الحق فيه بطلت النبوة فيما أخبرت به عن الله مما لا تقبله العقول من حيث أدلتها وقد دلت على صدق المخبر فلها الرد والقبول فتقبل الخبر الوارد وترد الفهم فيه الذي يقع به المشاركة بين الله وبين خلقه وإذا رددت المفهوم الأول فقد بطلت النبوة في حقها التي ثبتت عند السوداء وأمثالها والنبوة لا تتبعض فإذا رد شي‏ء منها ردت كلها كما قال الله تعالى في حق من قال نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا فرجح جانب الكفر في الحكم على جانب الايمان وإنما رجح حكم الكفر لأحدية المخبر وصدقه عنده فيما أخبر به مطلقا من غير تقييد لاستحالة الكذب عليه فلا بد له من وجه صحيح فيما جاء به مما يرده العقل ولذلك المؤمن يتأول إذا كان صاحب نظر وإذا عجز علم إن له تأويلا يعجز عنه لا يعلمه إلا الله فيسلمه لله ولكن عن تأويل مجهول ما هو على مفهوم لفظه الظاهر وعند أهل الله كل الوجوه الداخلة تحت حيطة تلك الكلمة صحيحة صادقة ف هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وقد أعد الله للمؤمنين مَغْفِرَةً وأَجْراً عَظِيماً

«حضرة التصوير وهي للاسم المصور»

إذا كان من تدري مصور ذاتنا *** عليه فما في العين إلا مماثل‏

وإن كان هذا مثل ما قلته لكم *** وصح به حكمي فصح التماثل‏

فما عنده إلا الذي هو عندنا *** فإن صح هذا القول أين التفاضل‏

بلى إنه عيني وما أنا عينه *** ولو إنني كفؤ لبان التقابل‏

[المصور من الناس من يذهب يخلق خلقا]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد المصور والمصور من الناس من يذهب يخلق خلقا كخلق الله وليس بخالق وهو خالق لأنه قال تَخْلُقُ من الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فسماه خالقا وما له سوى هيأة الطائر والهيئة صورته وكل صورة لها قبول ظهور الحياة الحسية فإن الله قد ذم وتوعد المصور لها لأنه لم يكمل نشأتها إذ من كمال نشأتها ظهور الحياة فيها للحس ولا قدرة له على ذلك بخلاف تصويره لما ليس له ظهور حياة حسية من نبات ومعدن وصورة فلك وأشكال مختلفة وليست الصورة سوى عين الشكل وليس التصوير سوى عين التشكل في الذهن‏

[ما معنى إن الله خلق آدم على صورته‏]

واعلم أن الله لما خلق آدم على صورته علمنا أن الصورة هنا في الضمير العائد على الله إنها صورة الاعتقاد في الله الذي يخلقه الإنسان في نفسه من نظره أو توهمه وتخيله فيقول هذا ربي فيعبده إذ جعل الله له قوة التصوير ولذلك خلقه جامعا حقائق العالم كله ففي أي صورة اعتقد ربه فعبده فما

خرج عن صورته التي هو عليها من حيث هو جامع حقائق العالم فلا بد أن يتصور فيه أعني في الحق إنسانيته على الكمال أو من إنسانيته ولو نزه ما عسى إن ينزه فإن غاية المنزه التحديد ومن حد خالقه فقد أقامه كنفسه في الحد ولذلك أطلق الله له على لسان‏

رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم اعبد الله كأنك تراه‏

فأدخل على الرؤية كاف التشبيه والتمثيل وقال له إن الله في قبلة المصلي وقال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ووجه الشي‏ء ذاته وحقيقته ففي أي صورة أقام الله عبده فهي موضع توليه ففيها وجه الله إن عقلت فقد أثبت الحق لك ما ينفيه عقلك بدليله والحق أحق أن يتبع فالإنسان ينشئ في نفسه صورة يعبدها فهو المصور وهو مخلوق منشا أنشأه الله عبدا يعبد ما ينشئه‏

فليس ينشئ عبد غير خالقه *** وليس ينشئه إلا الذي خلقه‏

فهو الذي أنشأ الأكوان أجمعها *** في مضغة كان ذاك النش‏ء أو علقة

فزاد في خلقه بكون خالقه *** له الغناء ولهذا فقره طبقه‏

مع الغناء فله النعتان قد جمعا *** بمثل هذا الذي قلناه قد سبقه‏

فللعبد المؤمن إقامة نش‏ء صور الأعمال التي كلفه الحق أن يقيم نشأتها على أتم الوجوه وأعطاه القوة على نفخ الروح في كل صورة ينشيها من عمله وهو الحضور والإخلاص فيها وما ذم الله عبدا يصور صورة لها روح منه ينفخه فيها بإذن ربه فتقوم عنه حية ناطقة مسبحة بحمد ربه وإنما ذم الله من يخلق صورة لها استعداد الحياة فلا يحييها إذ كان خالقها ولكن بما هي عليه من الاستعداد يحييها الحق دون هذا الذي أنشأها فبمثل هذا المصور تعلق الذم الإلهي ثم إن الحق رد كل صورة في العالم تظهر عن الأسباب المنشئة لها إلى نفسه في الخلق تعالى فقال في كل عامل والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ فهو خالقك وخالق ما أضاف عمله إليك فأنت العامل لا العامل كما قال وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فنفى عين ما أثبت لك وأثبته لنفسه فقال ولكِنَّ الله رَمى‏ وما رمى إلا العبد فأعطاه اسمه وسماه به وبقي الكلام في أنه هل حلاه به كما سماه به أم لا فإنا لا نشك أن العبد رمى ولا نشك أن الله تعالى قال ولكِنَّ الله رَمى‏ وقد نفى الرمي عنه أولا فنفى عنه اسم العبودة وسماه باسمه إذ لا بد من مسمى وليس إلا وجود عين العبد لا من حيث هو عبد لكن من حيث هو عين فإن العبد لا يقبل اسم السيادة والعين كما تقبل العبودية تقبل السيادة فانتقل عنها الاسم الذي خلقت له وخلع عليها الاسم الذي يكون عنه التكوين وهو قوله تعالى ولكِنَّ الله رَمى‏ والحق لا يباهت خلقه فما يقول إلا ما هو الأمر عليه في نفسه فنفى ما يستحق النفي لعينه وأثبت ما يستحق الثبوت أيضا لنفسه فظهرت الحقائق في أماكنها على منازلها ما اختل شي‏ء منها في نفس الأمر وإن ظهر الاختلال بالنظر إلى قوم فذلك الاختلال لو لم يكن لكان في الوجود نقص لعدم حكم ذلك الاختلال فلا بد من كونه لأنه لا بد من كمال الوجود وهو قولنا في النقص إنه من كمال الوجود أن يكون فيه نقص وإن كان عينا سلبية ولكن حكمها واضح لمن عقل الأمور على ما هي عليه فحضرة التصوير هي آخر حضرة الخلق وليس وراءها حضرة للخلق جملة واحدة فهي المنتهى والعلم أولها والهوية هي المنعوتة بهذا كله أعني الهوية فابتدأ بقوله هو لأن الهوية لا بد منها ثم ختم بها في السلب والثبوت وهو قوله هو الله الذي لا إله إلا هو وابتدأ من الصفات بالعلم بالغيب والشهادة وختم بالمصور ولم يعين بعد ذلك اسما بعينه بل قال لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ثم ذكر أن له يسبح ما في السَّماواتِ والْأَرْضِ ولم يقل وما في الأرض لأن كثيرا من الناس في الأرض لا يسبحون الله وممن يسبح الله منهم ما يسبحه في كل حال والأرض تسبحه في كل حال والسموات وما فيها وهم الملائكة والأرواح المفارقة وهي تسبحه كما قال يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ فراعى هنا من يدوم تسبيحه وهو الأرض كما راعى في موطن آخر من القرآن تسبيح من في الأرض وإن كان البعض من العالم فقال عز من قائل تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ (السَّبْعُ) والْأَرْضُ ومن فِيهِنَّ بجمع من يعقل ثم أكد ذلك بقوله وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وزاد في التأكيد بقوله ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فأتى بلفظة من ولم يأت بما وأتى في الحشر بما ولم يأت بمن فإن سيبويه يقول إن اسم ما يقع على كل شي‏ء

إلا أنه لم يعم الموجودات فوجلت قلوب من بقي منها ولم يقع له ذكر في التسبيح فجبر الله كسرها وأزال وجلها بقوله عقيب‏

هذا القول وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وزاد في الثناء عليهم بجهل الناس تسبيحهم بقوله ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فكان هذا الجبر في مقابلة ذلك الانكسار الذي نالهم فتضاعف الطرب عندهم بذلك والفرح وما هو تضاعف على الحقيقة وإنما هو تعمير الموضع الذي ظهر الكسر فإنه أخبر أن كل شي‏ء يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ كما هو الأمر عليه في نفسه وسد خلل الانكسار بقوله لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ بحرف الاستدراك وهو قوله ولكن طمعا في أن ينفردوا دون من سواهم بهذا التسبيح الخاص فإن الناس إذا عرفوه سبحوا الله أيضا به فالمسبحون أبدا في إنشاء صور فهم المصورون الذين ينفخون في صورهم أرواحا وإنشاء الصور لا يتناهى دنيا ولا آخرة فالإنشاء متصل دائم وإن تناهت الدنيا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة إسبال الستور وهي للاسم الغفار والغافر الغفور»

إذا كان درعي من وجودي لباسه *** فإن وجود الحق للرأس مغفر

فحقق مقالي إنه فيه بين *** فإن شئت أبدية وإن شئت استر

[الأمور كلها ستور]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الغفار وهي حضرة الغيرة والوقاية والحفظ والعصمة والصون فاعلم أيدنا الله وإياك بِرُوحٍ مِنْهُ أن الأمور كلها ستور بعضها على بعض وأعلاها ستر الاسم الظاهر الإلهي فإنه ستر على الاسم الباطن الإلهي وما ثم وراء الله مرمى فهو ستر عليه فإذا كنت مع الاسم الباطن الإلهي في حال شهود ورؤية كان هذا الاسم الإلهي الباطن الذي أنت به في الوقت متحدا وله مشاهد سترا على الاسم الإلهي الظاهر ولا تقل انتقل حكم الظهور للاسم الإلهي الباطن وصار البطون للاسم الظاهر بل الظاهر على ما هو عليه من الحكم يعطي الصور في العالم كله والباطن وإن كان مشهودا فهو على حاله باطن يعطي المعاني التي تسترها الصور الظاهرة فهذا أعلى الستور وأخفاها وأعلى مستور وأخفاه ودون هذا الستر كون القلب وسع الحق فهو ستر عليه فإن القلب محل الصور الإلهية التي أنشأتها الاعتقادات بنظرها وأدلتها فهي ستور عليها لذلك تبصر الشخص ولا تبصر ما اعتقده إلا أن يرفع لك الستر بستر آخر وهو العبارة عن معتقده في ربه فالعبارة وإن دلتك عليه فهي ستر بالنظر إلى عين ما تدل عليه فإن الذي تدل عليه ما ظهر لعينك وإنما حصل في قلبك مثل ما يعتقده صاحب تلك العبارة فأخبر عن مستور وهو عندك مستور أيضا فما كشفته ولكن نقلت مثاله إليك لا عينه فكل حرف جاء لمعنى فهو ستر عليه وإن جاء ليدل عليه فهذا الستر من أعظم الستور وإن كان دون الستر الأول الذي هو ستر الأسماء الإلهية وإن دلت على ذات المسمى فهي أعيان الستور عليها فإن الناظر يحار فيها لاختلاف أحكامها في هذه الذات المسماة فكل اسم له حكم فيها فهي وإن عزت وعظمت ولها الحكم الذاتي في الوجود بالإيجاد محكوم عليها بأحكام هذه الأسماء الحسنى بل أسماء الموجودات كلها أسماؤها لمن فهم عن الله ثم المرتبة الثالثة في النزول في علم الستور ستور أعيان الأسماء اللفظية الكائنة في ألسنة الناطقين والأسماء الرقمية في أقلام الكاتبين فإنها ستور على الأسماء الإلهية من حيث إن الحق متكلم لنفسه بأسمائه فتكون هذه الأسماء اللفظية والمرقومة التي عندنا أسماء تلك الأسماء وستورا عليها فإنا لا ندرك لتلك الأسماء كيفية ولو أدركنا كيفيتها شهودا لارتفعت الستور وهي لا ترتفع وما لنا في أنفسنا أمثلة لها جملة واحدة بل أعظم ما عندنا تخيلها في نفوسنا والتخيل أمر تحدثه في النفوس المحسوسات فتصورها بالقوة المصورة في خيال الشخص وليس بعد هذه الستور إلا ستور الخلق بعضه على بعض فالستور وإن كانت دلائل فهي دلائل إجمالية فالعالم بل الوجود كله ستر ومستور وساتر فنحن في غيبه مستورون وهو ستر علينا فهو مشهود لنا إذ الستر لا بد أن يكون مشهودا لمستوره فإن الستر برزخ أبدا بين المستور والمستور عنه فهو مشهود لهما ولما جاءت الأحكام المشروعة إلى المكلفين وتعلقت بأفعالهم وفرق الحكم في أفعال المكلفين إلى طاعة ومعصية ولا طاعة ولا معصية وإلى مرغب فيه وإلى حكم غير مرغب فيه فالطاعة والمعصية حظر ووجوب فعلا أو تركا والمرغب فيه وغير المرغب فيه ندب وكراهة فعلا أو تركا ولا طاعة ولا معصية ولا مرغب فيه ولا غير مرغب فيه إباحة وهو حكم مرتبة النفس بما هي لذاتها وعينها وباقي الأحكام ليست لعينها وإنما تقبله بالداعي من خارج من لمة ملك ولمة شيطان فهي لمن حكمت عليه لمته‏

منهما لا لذاتها فالسعيد من النفوس المكلفة على نوعين في السعادة النوع الواحد مستور عن قيام المعصية به وغير المرغب فيه ولا لا طاعة ولا لا معصية ولا مرغبا ولا غير مرغب فيه فهو أسعد السعداء والنوع الآخر هو المستور بعد حكم المعصية فيه عن العقوبة على ذلك وهو المغفور له وهذه الأحكام تتعلق من المكلف في ظاهره وباطنه فالسعيد التام الكامل المعصوم ودونه المحفوظ ظاهرا غير المحفوظ باطنا فأقل مستور من اسمه عبد الغافر وأكثر مستور من اسمه عبد الغفور والمتوسط بينهما عبد الغفار فالناس أعني المكلفين على ثلاثة أحوال غافر وغفار وغفور ثم إن للمكلفين بعضهم مع بعض حكم هذه الأسماء فيمن جنى عليهم أو من حموه عن وقوع الجناية منهم ولهم أحكام أسماء الله فمتى تجاوز عمن جنى عليه تجاوز الله عنه ومن أنظر معسرا جنى ثمرة ذلك في الآخرة من عند الله فما يرى المكلف في الآخرة إلا أعماله تم إن الله يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ

[أن من الستور ما هو معلول بالبشرية]

واعلم أن من الستور وإرخائها ما هو معلول بالبشرية وهو قوله وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ وهو الستر أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا وهو ستر أيضا وليس الستر هنا سوى عين الصورة التي يتجلى فيها للعبد عند إسماعه كلام الحق في أي صوره تجلى فإن الله يقول لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله والمتكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقوله تعالى كنت سمعه وبصره‏

الحديث فهذه كلها صور حجابية أعطتها البشرية وما ثم إلا بشر وروح هذه المسألة ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فنفى الوسائط عن خلق آدم ومن هنا إلى ما دون ذلك حكم اسم البشر فحيث ارتفعت الوسائط ظهر حكم البشرية لمن عقل إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فهذا حصر الستور وإرخاؤها على البدور والمكسوفات ستور فمنها ظلالية ومنها أعيان ذوات مثل كسوف القمر والشمس وسائر الكواكب الخمسة وأعظمها ستر الشمس فإنها تطمس أنوار الكواكب كلها فلا يبقى نور إلا نورها في عين الرائي وإن كانت أنوار الكواكب مندرجة فيها ولكن لا ظهور لها كما قال النابغة الجعدي في ممدحه‏

أ لم تر أن الله أعطاك صورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب‏

بأنك شمس والملوك كواكب *** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب‏

ونعلم بالقطع أن الكواكب بادية وطالعة في أعيانها ومجاريها غير إن إدراك الرائي يقصر عنها لقوة نور الشمس نور على نور البصر فيبهره‏

قيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أ رأيت ربك فقال نوراني أراه‏

فكيف أن يرى به فهو حجاب عليه ولم يكن ذلك إلا لضعف الإدراك فإنه تعالى قد يتجلى فيما دون النور فيرى كما ورد أينما شاء وهو القائل لَنْ تَرانِي فرؤيته لا رؤيته فهو المستور المرئي من غير ظهور ولا إحاطة فالستر لا بد منه وهذا القدر كاف من الإيماء فإن ميدان الغفران واسع لأنه الغيب والشهادة والله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ فأسبل الستر بالوراء على أعين السامعين فوقفوا مع ما سمعوا

فأسبل الستر بالوراء *** إسباله الستر بالمراء

بلا نزاع ولا خصام *** ولا جدال ولا مراء

فكل مجلى له حجاب *** يحجبه عند كل راء

من عن يمين وعن شمال *** وعن أمام وعن وراء

يعرفه كل من رآه *** من مخلص كان أو مراء

«حضرة القهر»

إذا كان قهري عين أمري فإنني *** إذا ما أمرت الأمر كان لي القهر

عليه فيبدو للوجود بصورتي *** فما نهينا نهي ولا أمرنا أمر

[محل تجلى ظهور القهر والقهارية]

يدعى صاحبها عبد القهار وعبد القاهر فأكبر العلماء من لا يكون له هذا الاسم أعني عبد القهار ولا عبد القاهر وهو العارف المكمل المعتنى به بل هو المعصوم وما تجلى لي الحق بحمد الله من نفسي في هذا الاسم وإنما رأيته من‏

مرآة غيري لأن الله عصمني منه في حال الاختيار والاضطرار فلم أنازع قط وكل مخالفة تبدو مني لمنازع فهي تعليم لا نزاع فإني ما ذقت في نفسي القهر الإلهي قط ولا كان له من هذه الحضرة في حكم قال تعالى وهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ أي قهر عباده لما صدر منهم من النزاع ويُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً وهو التوكيل أعني هذا الإرسال في حق قوم وحفظا وعصمة في حق آخرين وهو قوله لَهُ مُعَقِّباتٌ من بَيْنِ يَدَيْهِ ومن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ من أَمْرِ الله أي من حيث إن الله أمرهم بحفظه فهم المعصومون المحفوظون وقد يحفظونه من أمر النازل به فيدفعونه كما فعل بالزاني في حين زناه أخرج عنه الايمان حتى صار عليه كالظلة يحفظه من أمر الله النازل به حيث تعرض بالمخالفة لنزول البلاء عليه فيحفظه الايمان من هذا الأمر النازل بأن يتلقاه فيرده عنه لعله يستغفر أو يتوب فإذا كان غير المعصوم يحفظ مثل هذا الحفظ فما ظنك بالمعتنى به فإنه محفوظ في الأصل وأدق ما يكون من الخلاف النزاع الإلهي بإنابة العبد فإذا زال العبد عن إنابته لم يجد القهار من يقف له فيقهره والسهم لا يمشي إلا إلى مرماه واعلم أن الدعاء لا يقتضي المنازعة كما ذهب إليه سهل والفضيل بن عياض حيث أرادا ما أراد الله كما جاء عنهما فإن الدعاء ذلة وافتقار والنزاع رياسة وسلطنة ولو لا النزاع القائم بنفوس الرعية الذين لو مكنوا من إرساله لوقع منهم ما أضيف إلى الرعية إنهم مقهورون تحت سلطان مليكهم ومن لم يخطر له شي‏ء من ذلك ولم ينازع فما هو مقهور ولا الملك له بقاهر بل هو به رءوف رحيم فمن قهر تخلقا من عباد الله فإنما قهر بالله من نازع أمر الله لا بنفسه وما ثم إلا نزاع الشيطان بلمته فيما يلقيه إلى هذا العبد في قلبه منازعة لأمر الله ونهيه هذا قصده بالإلقاء وإن لم يخطر للعبد ذلك فإنه لا يخطر له مثل هذا الكون الايمان يرده ولكن يستدرجه بالمخالفة شيئا بعد شي‏ء إلى أن يكفر فإن المعاصي يريد الكفر ولا تأتي إذا كثرت وترادفت إلا بالكفر فلهذا يسارع بها وينوعها الشيطان فلا يزال المؤمن يقهره بلمة الملك مساعدة للملك على نفسه لينجو فإن المؤمن من يقول لا حول ولا قوة إلا بالله ومن النزاع الخفي الصبر على البلاء إذا لم يرفع إزالته إلى الله كما فعل أيوب عليه السلام وقد أثنى الله عليه بالصبر فقال مع ثبوت شكواه إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ فذكره بكثرة الرجوع إليه في كل أمر ينزل به فمن حبس نفسه عند الضر النازل به عن الشكوى إلى الله في رفع ما نزل به وصبر مثل هذا الصبر فقد قاوم القهر الإلهي فإن الله قاهر هذا العبد وإن كان محمودا في الطريق ولكن الشكوى إلى الله أعلى منه وأتم ولهذا قلنا إن الدعاء لا يقدح ولا يقتضي المنازعة بل هو أعلى وأثبت في العبودة من تركه وأما الرضاء والتسليم فهما نزاع خفي لا يشعر به إلا أهل الله فإن كان متعلق الرضاء المقضي به فيحتاج إلى ميزان شرعي وإن كان متعلق الرضاء القضاء فإن كان القضاء يطلب القهر ويجد الراضي ذلك من نفسه فيعلم إن فيه نزاعا خفيا فيبحث عنه حتى يزيله وإن لم ير أن ذلك القضاء يطلب القهر فيعلم أنه الرضاء الخالص الجبلي لأن الرضاء من راض يروض ومنه الرياضة ورضت الدابة وهو الإذلال ولا يوصف به إلا الجموع والجموح نزاع إنما يراض المهر الصغير لجموحه وجهله بما خلق له فإنه خلق للتسخير والركوب والحمل عليه والمهر يأبى ذلك فإنه ما يعلمه فيراض حتى ينقاد في أعنة الحكم الإلهي وكذلك رياضة النفوس لو لا ما فيها من الجموح لما راضها صاحبها فإذا خلقت مرتاضة بالأصالة فكان ينبغي أن لا يطلق عليها اسم راضية بل هي مرضية وإنما النفوس الإنسانية لما خلقها الله على الصورة الإلهية شمخت على جميع العالم ممن ليست له هذه الحقيقة وانحجبت عن الحقائق الإلهية التي تستند إليها حقائق العالم حقيقة حقيقة فاكتسبت الرياضة لأجل هذا الشموخ فذلت تحت سلطانه وحمدت على ذلك وكذلك التسليم لم يصح إلا مع التمكن من الجموح وكذلك التوكيل لم يصح إلا بعد الملك فهو نزاع خفي والقهر الإلهي يخفى بخفاء

النزاع ويظهر بظهور النزاع والعارف لا يغفل عن نفسه طرفة عين فإنه إذا غفل عن نفسه غفل عن ربه ومن غفل عن ربه نازع بباطنه ما يجده من الأثر فيه مما يخالف غرضه فيجي‏ء القهر الإلهي فيقهره فيكون إذ أكثر منه مثل هذا يسمى عبد القهار وإذا قل منه يسمى عبد القاهر والضابط لهذه الحضرة أن ينظر الإنسان في خفايا موافقاته ومخالفاته فيعلم من ذلك هل لهذه‏

الحضرة حكم فيه أم لا فهذا أمر كلي قد ووكلناك فيه إلى نفسك وأنت أعلم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الوهب وهي للاسم الوهاب»

جميع العطايا منه وهب إلهي *** وإن كان لا يدري الوجود الكياني‏

فذلك لا يخفى على كل عاقل *** عن الله إن كان العيان الإلهي‏

فإن لم يكن فالجهل نعت لخلقه *** به وبذا جاء الوجود العياني‏

[الوهب العطاء من الواهب على جهة الإنعام‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الوهاب والوهب العطاء من الواهب على جهة الإنعام لا يخطر له خاطر الجزاء عليه من شكر ولا غيره فإن اقترن به طلب شكر جزاء فليس بوهب وإنما هو عطاء تجارة يطلب به الربح والخسران فإن العطاء الإلهي على أنواع متعددة سيأتي ذكرها في هذا الباب إن شاء الله فمن هذه الحضرة يتجرد العبد عن جميع أغراضه كلها في إحسانه بهباته البدنية والمالية ومعنى البدنية أن يصرف بدنه بسفر أو أي نوع كان من أنواع الحركات البدنية في حق من كان من عباد الله من إنسان أو حيوان لا يبتغي بذلك أجرا ولا يطلب عليه شكرا إلا لمجرد الإنعام على هذا الذي يتحرك من أجله مما له فيه منفعة أو دفع مضرة وكون الله عز وجل يأجره على ذلك ذلك إلى الله تعالى لا إليه بل يفعل ذلك لمجرد قيام هذه الصفة به وحكم هذا الاسم الإلهي عليه فإذا تحرك في العبادات التي لا حظ للخلق فيها كالصلاة والصيام والحج وأمثال ذلك بل كل عبادة مشروعة وهو مستمد من هذه الحضرة فينوي في عبادته تلك ما كان منها لا حظ للمخلوق فيها أن ينشئها ويظهر عينها بحركاته أو مسكه عنها إذا كانت العبادة من التروك لا من الأفعال فينشئها صورة حسنة على غاية التمام في خلقها والكمال لتقوم صورة لها روح بما فيها من الحضور مع الله بالنية الصالحة المشروعة في تلك العبادة يفعلها فرضا كانت أو نفلا من حيث ما هي مشروعة له على الحد المشروع لا يتجاوزه لتسبح الله تلك الصورة التي أنشأها المسماة عبادة وتذكر الله بحسب ما يقتضيه أمره فيها تعالى ويزيد هذا العبد الإنعام على تلك الصورة العملية المشروعة بالظهور لتتصف بالوجود فتكون من المسبحين بحمد الله إنعاما عليها وعلى حضرة التسبيح فيخلق في عباداته السنة مسبحة لله بحمده لم يكن لها عين في الوجود جاءت امرأة إلى مجلس شيخنا عبد الرزاق فقالت له يا سيدي رأيت البارحة في النوم رجلا من أصحابه قد صلى صلاة فانتشأت تلك الصلاة صورة فصعدت وأنا أنظر إليها حتى انتهت إلى العرش فكانت من الحافين به فقال الشيخ صلاة بروح متعجبا من ذلك ثم قال ما تكون هذه الصلاة لأحد من أصحابي إلا لعبد الرزاق يقول ذلك في نفسه فقال لها وعرفت ذلك الشخص من أصحابي قالت نعم هو هذا وأشارت إلى عبد الرزاق الذي خطر للشيخ فيه فقال لها الشيخ صدقت وأخذها مبشرة من الله أخبرني بهذه الحكاية عبد الله ابن الأستاذ الموروري بمورور من بلاد الأندلس وكان ثقة صدوقا كما خلق عيسى عليه السلام كهيئة الطير من الطين فنفخ فيه فكان طائرا بإذن الله ولم يكن لهذه الصورة وجود إلا على يديه ثم نفخ فيها فكانت طائرا بإذن الله أي إن الله أمره بذلك وأذن له فيه كما أمر الله أيضا المؤمن في الشرع وأذن له في إنشاء صور عباداته التي كلفه الله عز وجل بها فإن كان عيسى عليه السلام قد نوى في خلقه ذلك الطائر الإنعام على تلك الصورة لتلحق بالموجودات وينعم على حضرة التسبيح بزيادة المسبحين فيها كان من أهل هذه الحضرة والتحق بهم وإن كان نوى غير ذلك فهو لما نوى وما بين صاحب هذا المقام وغيره إلا مجرد النية ومشاهدة صدور الأعمال منه صورا فإن الأمر في نفسه من إنشاء صور العبادات من المكلفين لا بد منه في كل مكلف قبيحة كانت أو حسنة ويفترقون في النيات والمقاصد وما ثم إلا مكلف فأعظمها منزلة من يقصد بعبادته ما ذكرناه فإن عمل هذا العبد هذه العبادة لكونها أعظم صفة ومنزلة في العبادات فما هو ذلك الذي ذكرناه من هذه الحضرة فإن الأمر لا يقبل الاشتراك فمثل هذا ما أقامه في نشأ صور هذه العبادات إلا كونها من أعظم الصفات وأجلها فتميز بذلك عمن لم يقمه الله في مثل هذا طلبا للأجر والمثوبة وإنما يقصد صاحب هذه الحضرة مجرد الإنعام على ظهور تلك العبادة وزيادة المسبحين لله لا يبتغي بذلك حمدا

ولا ثناء ولا جزاء إلا عين ما قصده الحق في إيجاد العالم فكما قصد الله بالخلق أن يعبدوه في مثل ما نص عليه من ذلك في قوله وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وقوله وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فنوى هذا العبد في إنشاء صور العبادات أن تعبد الله كما أراده الحق وهذا لا يبطل نية الإنعام من هذا العبد على هذه الصور بالإنشاء والإيجاد فإن كان مشهد هذا العبد إن الله هو المنشئ هذه الصور بالعبد لا هو فليس من هذه الحضرة الوهبية الكيانية بل ذلك من الوهب الإلهي على هذه الصورة المنشأة وليس غرضي فيما ذكرناه ما هو الأعلى والأعظم في المنزلة وإنما غرضي تمييز المقامات بعضها من بعض حتى لا يلتبس على القائمين بها فإنها تتداخل الأحكام فيها ولا يشعر لحد الفصل بين الأحوال والمقامات إلا الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ الإلهي فإذا جازاهم الله على ما إنشاؤه إنعاما من الله تعالى عليهم كان جزاء من أشهد أن إنشاء تلك الصور لله لا للعبد المكلف وأن الإنعام لله في ذلك عليها لا إلى المكلف فإنه أعظم جزاء إلهيا من الذي لم يشهده الله ذلك عند إنشائها فقد تميز الشخصان بما وقع لهما به الشهود عند العمل المشروع وهذا عمل لم ينسج على منواله انفردنا بالتنبيه عليه على غاية الكمال من العبد وحررناه تحريرا تاما فإن أحدا من العلماء بالله وبالأشياء ما يجهلون العطاء على جهة الإنعام ولكن مثل ما ذكرناه لا يتصوره ولا يخطر ببال كل عامل إلا من تحقق بهذه الحضرة الواهبة خاصة وهو المسمى عبد الوهاب والوهاب أوجده لا غيره من الأسماء مثل قوله في عيسى عليه السلام لمريم لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا والصور التي أوجدها الاسم الوهاب قليلة جدا تعلم ذلك إذا علمت مراتب العلماء بالأسماء الإلهية بالعلم بالأسماء الإلهية فاعلم ذلك وهذا القدر من الإيماء إلى علم هذه الحضرة كاف إن شاء الله تعالى والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وهو الهادي إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ‏

«حضرة الأرزاق وهي للاسم الرزاق»

الرزق رزقان محسوس ومعقول *** يدري بذلك معقول ومنقول‏

فمنه يقبل ما يعطيه من منح *** وذلك الرزق في التحقيق مقبول‏

جل الإله فما تحصى عوارفه *** وفي معارفها هدى وتضليل‏

مثل النكاح الذي يحوي على عجب *** من التلذذ تلسين وتقبيل‏

قال الله تعالى في قصة مريم كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ من عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وقال ومن يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ويَرْزُقْهُ من حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الرزاق قال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ من رِزْقٍ وما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ هذا في حق من أطعم من أجله حين سمعه‏

يقول سبحانه في الخبر الصحيح جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني فيقول العبد كيف تطعم وتشرب وأنت رب العالمين فيقول الحق إن عبدي فلانا جاع وفلانا ظمى‏ء فلو أطعمته حين استطعمك أو سقيته حين استسقاك‏

فذلك معنى قوله تعالى جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني فأنزل نفسه تعالى منزلة الجائع والعاطش الظمآن من عباده فربما أدى العامل على هذا الحديث الإلهي أن يجهد في تحصيل ما يطعم به مثل هذا حتى يكون ممن أطعم الله تعالى فقال له الله وما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ انتقال من مقام إلى مقام لأنه يعلم عباده العلم بالمقامات والأحوال والمنازل في دار التكليف حتى يتنقلون فيها ثم قال إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ والمتانة في المعاني كالكثافة في الأجسام فجاء بالاسم المناسب للرزق لأن الرزق المحسوس به تتغذى الأجسام وتعبل وكلما عبلت زادت أجزاؤها وكثفت وأين السمن من الهزال فما أحسن تعليم الله وتأديبه وتبيانه لمن عقل عن الله‏

[الرزق رزقان‏]

واعلم أن الرزق معنوي وحسي أي محسوس ومعقول وهو كل ما بقي به وجود عين المرزوق فهو غذاؤه ورزقه وقوله وفي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وقال في الأرض وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وهي الأرزاق وتقديرها بوجهين الوجه الواحد كمياتها والثاني أوقاتها فالرزق الذي في الأرض ما تقوم به الأجسام والذي في السماء ما تقوم به الأرواح وكل ذلك رزق ليصح الافتقار من كل مخلوق وينفرد الحق بالغنى وأرفع المنازل في الأرزاق وشهودها رزق ما يظهر به عين الوجود الحق من صور أحكام‏

الممكنات ومن صور التجلي فينظر صاحب هذه المشاهدة إلى الصورة في التجلي أو لصور أحكام الممكنات في عين الوجود الحق فينظر ما تستحقه تلك الصورة من مسمى الرزق وما تطلبه لبقائها فيكون هذا العبد يرزقها ذلك إذا كان مشهده هذه الحضرة أعني حضرة الأرزاق ثم ينزل الأمر في الكائنات الخلقية والأمرية بحسب حقائقها فيطلب عين الكون رزقه منه وأكثفه ما تطلبه المولدات من الأركان كالمعادن والنبات والحيوان وقد جعل الله من الماء كل شي‏ء حي وكل شي‏ء حي فإن كل شي‏ء مسبح لله بحمده ولا يكون التسبيح إلا من حي فكل شي‏ء من الماء عينه ومن الهواء حتى حيوان البحر الذي يموت إذا فارق الماء ما حياته إلا بالهواء الذي في الماء لأنه مركب فيقبل الهواء بنسبة خاصة وهو أن يمتزج بالماء امتزاجا لا يسمى به هواء كما أن الهواء المركب فيه الماء وبه يكون مركبا لكن امتزج الماء به امتزاجا خاصا لا يسمى به ماء فإذا كانت حياة الحيوان بهواء الماء مات عند فقده ذلك الهواء الخاص وكذلك حيوان البر إذا غرق في الماء مات لأن حياته بالهواء الذي مازجه الماء لا بالماء الذي مازجه الهواء وثم حيوان بري بحري وهو حيوان شامل برزخي له نسبة إلى قبول الهواءين فيحيي بالهواء كما يحيي البري ويحيي في الماء كما يحيي البحري وبالهواء تكون حياته في الموضعين والماء أصله في كونه حيا فالرزق في عالم الأركان الهواء فيما في كل مطعوم ومشروب من ركن الهواء به تكون الحياة لمن يتغذى به من كل شي‏ء حي من نبات ومعدن وحيوان وإنسان وجان وأما الملائكة المخلوقة من أنفاس العالم عند تنفسهم فلهم غذاء أيضا من الأركان لا بد من ذلك ويخرج الملك من المتنفس بحسب ما يكون في قلب ذلك المتنفس من الخواطر فإن تلفظ المتنفس خرج النفس بحسب ما تلفظ به مفصلا في الصورة تفصيله حروفا في الكلمة وبهذا القدر تكون كيفية الانفعال عن خواص الحروف لمن شهد ذلك وإن لم يتلفظ وخرج النفس من غير لفظ فإنه يخرج هيولائيا لا صورة له معينة فيتولى الله تصويره بحسب ما كان عليه العبد في باطنه عند التنفس فيركبه الله في تلك الصورة فإن تعرى المحل المتنفس عن كل شي‏ء كتنفس النائم الذي لا رؤيا له في منام ولا هو في الحس فإن الله يصور ذلك النفس بصورة ما نام عليه عند فراقه الإحساس كان الذكر ما كان أو الخاطر في القلب ما كان فإذا أقيم العبد في هذه الحضرة التي نحن بصددها ونظر إلى ما تكون عنه أمده من الرزق ما به بقاؤه فإنه خالقه والرزق تابع للخلق فخالق الشي‏ء هو رازقه ولا تكون في مقام خلق الأشياء إلا إذا أشهدك الحق ما ينفعل عنك فعند ذلك تشاهد طلبة ما تكون عنك بما يحتاج إليه من الرزق فترزقها كما تسعى هنا في اقتناء الرزق الذي تطلبه منك عائلتك سواء وهذا لا يقدح في إن الله هو الرزاق وإنما كلامنا في تقرير الأسباب وإثباتها كما قررها الحق عز وجل وأثبتها

[إذا تجلى الحق للإنسان في أي حالة]

وقد بينا لك في غير موضع أن الإنسان إذا تجلى له الحق في منام أو غيره في أي صورة تجلى فلينظر فيما يلزم تلك الصورة المتجلي فيها من الأحكام فيحكم على الحق بها في ذلك الموطن فإن مراد الله فيها ذلك الحكم ولا بد ولهذا تجلى فيها على الخصوص دون غيرها ويتحول الحكم بتحول الصور فاعلم ذلك فكذلك أيضا رزق الصور يتنوع بتنوع الصور فما به غذاء صورة قد لا يكون به غذاء صورة أخرى وليس غذاء الصور سوى رزقها فإذا تصورت المعاني كالعلم في صورة اللبن والثبات في الدين في صورة القيد فرزق تلك الصورة ما أريدت له فإن كانت رؤيا فأصاب عابرها ما أراد الله بها بتلك الصورة فذلك رزقها فدامت حياتها وبقاؤها وصورة ذلك ما يناله الرائي والمكاشف من ذلك كما

رأى النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يشرب اللبن حتى خرج الري من أظافره مما تضلع منه فقيل له ما أولته يا رسول الله فقال العلم‏

يعني أن العلم ظهر في صورة اللبن ولما كان العلم لبنا وصف نفسه بالشرب منه والتضلع إلى أن خرج الري من أظافره فنال كما قال علم الأولين والآخرين وما خرج منه من الري هو ما خرج إلى الناس من العلم الذي أعطاه الله لا غير ثم أعطى ما فضل في الإناء عمر فكان ذلك الفضل القدر الذي وافق عمر الحق فيه من الحكم كحكمه في أسارى بدر وفي الحجاب وغير ذلك ففاز به دون غيره من عند الله وهكذا كل من حصل له مثل هذا من عند الله كالمتقي إذا اتقى الله جعل له فرقانا وهو علم يفرق به بين الحق والباطل في غوامض الأمور ومهماتها عند تفصيل المجمل وإلحاق المتشابه بالمحكم في حقه فإن الله أنزله متشابها ومجملا ثم أعطى‏

التفصيل من شاء من عباده وهو ما فضل من اللبن في القدح وحصل لعمر لأنه من شرب من ذلك الفضل فقد عمر به محل شربه فلذلك كان عمر دون غيره من الأسماء هذا تعبير رؤياه على التمام صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولعمر بن الخطاب في ذلك خصوص وصف لاختصاصه بالاسم والصورة في النوم دون غيره من العمريين ومن الصحابة ممن ليس له هذا الاسم فكل رازق مرزوق أما الرزق المعنوي أو الحسي على انقسام الأرزاق المعنوية والمحسوسة ومن هذه الحضرة قوله تعالى ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ فحتى نعلم رزق الابتلاء أي كونه الله من الابتلاء فهو علم إقامة الحجة لتكون الحجة البالغة لله كما أخبر عن نفسه فقال فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التي لا دخل عليها ولا تأويل فيها وإذا وصف الحق نفسه ب حَتَّى نَعْلَمَ فعم حكم الرزق جميع الصور فكل الصيد في جوف الفرا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.

«حضرة الفتح وهي للاسم الفتاح»

حضرة الفتاح للفتح وما *** يعلم الشخص بما يفتح له‏

أن رب الخلق في الخير وفي *** كل شر واقع قد أجمله‏

ربما يعرفه الشخص وما *** يعرف الأمر الذي قد أنزله‏

ثم قد يعلمه الشخص وما *** يعلم الشي‏ء الذي كون له‏

[لهذه الحضرة عبد الفتاح صورة ومعنى وبرزخ‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الفتاح ولها صورة ومعنى وبرزخ وما حازها على الكمال إلا آدم عليه السلام بعلم الأسماء ومحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بجوامع الكلم وما عدا هذين الشخصين فما ذكر لنا ومن هذه الحضرة نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ الله والْفَتْحُ وإِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ولقد كنت بمدينة فاس سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وعساكر الموحدين قد عبرت إلى الأندلس لقتال العدو حين استفحل أمره على الإسلام فلقيت رجلا من رجال الله ولا أزكي على الله أحدا وكان من أخص أودائى فسألني ما نقول في هذا الجيش هل يفتح له وينصر في هذه السنة أم لا فقلت له ما عندك في ذلك فقال إن الله قد ذكر ووعد نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بهذا الفتح في هذه السنة وبشر نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بذلك في كتابه الذي أنزله عليه وهو قوله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فموضع البشرى فتحا مبينا من غير تكرار الألف فإنها لإطلاق الوقوف في تمام الآية فانظر أعدادها بحساب الجمل فنظرت فوجدت الفتح يكون في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ثم جزت إلى الأندلس إلا أن نصر الله جيش المسلمين وفتح الله به قلعة رباح والأركو وكركوى وما انضاف إلى هذه القلاع من الولايات هذا عاينته من الفتح ممن هذه صفته فأخذنا للفاء ثمانين وللتاء أربعمائة وللحاء المهملة ثمانية وللالف واحدا وللميم أربعين وللباء اثنين وللياء عشرة وللنون خمسين والألف قد أخذنا عددها فكان المجموع إحدى وتسعين وخمسمائة كلها سنون من الهجرة إلى هذه السنة فهذا من الفتوح الإلهي لهذا الشخص وكذلك ما ذكرناه من فتح البيت المقدس فيما اجتمع بالضرب في الم غُلِبَتِ الرُّومُ مع البضع من السنين المذكور فيه بالحسابين الجمل الصغير والكبير فظهر من ذلك فتح البيت المقدس وقد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب في باب الحروف منه وهو أن البضع جعلناه ثمانية لكون فتح مكة كان سنة ثمان ثم أخذنا بالجمل الصغير الم ثمانية فأسقطنا الواحد لكون الأس يطلب طرحه لصحة العدد في أصل الضرب في الحساب الرومي والفتح إنما كان في الروم الذين كانوا بالبيت المقدس فأضفنا ثمانية البضع إلى ما اجتمع من حروف الم بعد طرح الواحد للاس فكان خمسة عشر ثم رجعنا إلى الجمل الكبير فضربنا واحدا وسبعين في ثمانية والكل سنون لأنه قال في بِضْعِ سِنِينَ فكان المجموع ثمانية وستين وخمسمائة فجمعناها إلى الخمسة عشر التي في الجمل الصغير فكان المجموع ثلاثا وثمانين وخمسمائة وفيها كان فتح البيت المقدس وهذا العلم من هذه الحضرة ولكن عبد السلام أبو الحكم بن برجان ما أخذه من هذا فوقع له غلط وما شعر به الناس وقد بيناه لبعض أصحابنا حين جاءنا بكتابه فتبين له أنه غلط في ذلك ولكن قارب الأمر وسبب ذلك إنه أدخل عليه علما آخر فأفسده وهذا كله من صورة الفتح لا من معناه ولا من وسطه الذي هو الجامع للطرفين فكان لآدم إحصاء جميع اللغة الواقعة من أصحابها المتكلمين بها إلى يوم القيامة وكان لمحمد ص‏

الرسالة لي الناس كافة باللسان العربي فعم جميع كل لسان فنقل شرعه بالترجمة فعم اللغات وأما الفتح الوسط فهو فتح الأذواق وهو العلم الذي يحصل للعالم به بالتعمل في تحصيله كعلم الفرقان للمتقي فإنه حصله بتقوى الله مع ما انضاف إليه من تكفير السيئات وغفر الذنوب وهذا علم مخصوص بأهل الطريق وهم أهل الله وخاصته وهو علم الأحوال وإن كانت مواهب فإنها لا توهب إلا لمن هو على صفة خاصة وإن كانت تلك الصفة لا تنتجها في الدنيا لكل أحد ولكن لا بد أن تنتج في الآخرة فلما لم يكن من شرطها الإنتاج في الدنيا قيل في علم الأحوال أنها مواهب وهو حصولها عن الذوق ومعنى عن الذوق أول التجلي فإن التوكل مثلا الذي هو الاعتماد على الله فيما يجريه أو وعد به فالذوق فيه الزائد على العلم بذلك عدم الاضطراب عند الفقد لما تركن النفس إليه فيكون ركونها في ذلك إلى الله لا إلى السبب المعين فيجد في نفسه من الثقة بالله في ذلك أعظم مما يجده من عنده السبب الموصل إلى ذلك كالجائع ليس له سبب يصل به إلى نيل ما يزيل جوعه من الغذاء وجائع آخر عنده ما يصل به إلى نيل ما يزيل ما عنده فيكون صاحب السبب قويا لوجود المزيل عنده وهذا الآخر الذي ما عنده إلا الله يساويه في السكون وعدم الاضطراب لعلمه بأن رزقه إن كان بقي له رزق فلا بد من وصوله إليه فسمى عدم هذا الاضطراب ممن هذه صفته من فقد الأسباب ذوقا وكل عاقد يجد الفرق بين هذين الشخصين فإن العالم الذي ليس له هذا الذوق يضطرب عند فقد المزيل مع علمه بأن رزقه إن كان بقي له رزق لا بد أن يصل إليه ومع هذا العلم لا يجد سكونا نفسيا مع الله وصاحب الذوق هو الذي يجد السكون كما يجده صاحب السبب المزيل لا فرق بل ربما هو أوثق وهو قول بعض العلماء إن الإنسان لا ينال هذه الدرجة حتى يكون بربه أوثق منه بما في يده لأن الوعد الإلهي صادق لا تتطرق إليه الآفات والذي بيده من الأسباب يمكن أن يتطرق إليه الآفات فيحال بينه وبين من هو عنده بأي وجه كان فلذلك قلنا إن المتوكل ذوقا أتم في السكون من صاحب السبب الحاصل المزيل لهذا الألم فاعلم ذلك فهذا هو الوسط من علم الفتح وصاحبه يلتذ في باطنه غاية الالتذاذ وأما المعنى من هذه الحضرة فهو ما يطالع به العبد من العلم بالله إذا كان الحق أعني هوية الحق صفات هذا العبد فما يحصل له من العلم إذا كان بهذه الصفة هو المعنى الحاصل من هذه الحضرة وما كل أحد ينال هذا المقام من هذه الحضرة وإن كان فيها فإن الناس يتفاضلون في ذلك ومن هذه الحضرة

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حين ضرب بين كتفيه علمت علم الأولين والآخرين بذلك الوضع‏

وتلك الضربة أعطاه الله فيها ما ذكره من العلم ويعني بذلك العلم بالله فإن العلم بغير الله تضييع الوقت فإن الله ما خلق العالم إلا له ولا سيما هذا المسمى بالإنس والجن فإنه نص عليه إنه خلقه لعبادته وذكر عن كل شي‏ء أنه يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فمن علم الله بمثل هذا العلم علم إن كل نطق في العالم كان ذلك النطق ما كان مما يحمد أو يذم أنه تسبيح بوجه لله بحمده أي فيه ثناء على الله لا شك في ذلك ومثل هذا العلم بحمد الله حصل لنا من هذه الحضرة ولكن ما يعرف صورة تنزيله علما بحمد الله والثناء عليه إلا من اختصه الله بوهب هذه الحضرة على الكمال فيسب إنسان إنسانا وهو عند هذا السامع صاحب هذا المقام تسبيح بحمد الله فيؤجر السامع ويأثم القائل والقول عينه وهذا من العلم اللطيف الذي يخفى على أكثر الناس وهو في العلوم بمنزلة أسماء الأشياء كلها إنها أسماء الله في قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله خبرا صدقا مع علمنا بما نفتقر إليه من الأشياء فهذا وذلك سواء لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ فسمع بالله وهُوَ شَهِيدٌ فأبصر بالله وهذا القدر من الإيماء كاف في هذه الحضرة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة العلم وهي للاسم العليم والعالم والعلام»

إن العلوم هي المطلوب بالنظر *** فانظر وفكر فإن الفكر معتبر

لو لا العلوم التي في الكون ما ظهرت *** أفكار من هو في الأشياء معتبر

هو الإمام الذي يدريه خالقه *** والنجم يعرفه والشمس والقمر

كيوسف حين خروا سجدا ومضت *** أحكامه فيهم بالله فاعتبروا

فلو ترى الشمس والأفلاك دائرة *** في نارها ونجوم الليل تنتثر

من بعد ما طمست أنوارها ومضت *** أحكامها وبدت في العين تنكدر

ماتوا وراح الذي قد كان يجمعهم *** في دار دنياهم فالكل قد قبروا

[العلماء في الحضرة العليم على ثلاث مراتب‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد العليم والعلماء في هذه الحضرة على ثلاث مراتب عالم علمه ذاته وعالم علمه موهوب وعالم علمه مكتسب وله حكم في الإلهيات وله حكم في الكون ففي الله علمه بكل شي‏ء لذاته وعموم تعلقها بكل معلوم وقد بينا من أين تعلق علمه بالعالم والمكتسب في الله قوله حَتَّى نَعْلَمَ والموهوب في الله ما أعطاه العبد من تصرفه في المباح فإنه لا يتعين تقييده تعين الواجب والمحظور والمندوب والمكروه فحصول العلم بالتصريف في المباح علم وهب يعلمه الحق من العبد بطريق إلهية لأنه لا يجب عليه الإتيان به كما يجب عليه اعتقاده فيه إنه مباح والايمان به واجب وأما مراتب هذه العلوم في الكون فهينة الخطب فإن الكون قابل للعلم بالذات فالعلم الذاتي له هو ما يدركه من العلم بعين وجوده خاصة لا يفتقر في تحصيله إلى أمر آخر إلا بمجرد كونه فإذا ورد عليه ما لا يقبله إلا بكونه موجودا على مزاج خاص هو علمه الذاتي له والمكتسب ما له في تحصيله تعمل من أي نوع كان من العلوم المكتسبة والموهوب هو ما لم يخطر بالبال ولا له فيه اكتساب كعلم الأفراد وهو علم الخضر فعلمه من لدنه علما رحمة من عند الله به حتى كان مثل موسى عليه السلام الذي كلمه ربه يستفيد منه ما لم يكن عنده ولا أحاط به خبرا يقول لم نذق له طعما فيما علمه الله من العلم بالله‏

[ما من موجود في العالم إلا وله وجه خاص إلى موجدة]

واعلم أنه ما من موجود في العالم إلا وله وجه خاص إلى موجدة إذا كان من عالم الخلق وإن كان من عالم الأمر فما له سوى ذلك الوجه الخاص وإن الله يتجلى لكل موجود من ذلك الوجه الخاص فيعطيه من العلم به ما لا يعلمه منه إلا ذلك الموجود وسواء علم ذلك الموجود أو لم يعلمه أعني أن له وجها خاصا وأن له من الله علما من حيث ذلك الوجه وما فضل أهل الله إلا بعلمهم بذلك الوجه ثم يتفاضل أهل الله في ذلك فمنهم من يعلم أن لله تجليا لذلك الموجود من هذا الوجه الخاص ومنهم من لا يعلم ذلك والذين يعلمون ذلك منهم من يعلم العلم الذي يحصل له من ذلك التجلي ومنهم من لا يعلمه أعني على التعيين وما أعني بالعلم إلا متعلق العلم هل هو كون أو هو الله من حيث أمر ما والعلم المتعلق بالله إما علم بالذات وهو سلب وتنزيه أو إثبات وتشبيه وإما علم باسم ما من الأسماء الإلهية من حيث ما سمي الحق به نفسه من كونه منعوتا بالقول والكلام وإما علم باسم ما من أسماء الأسماء من حيث ما تقتضيها عبارات المحدثات وإما علم نسب إلهية وإما علم صفات معنوية وإما علم نعوت ثبوتية إضافية تطلب أحكاما متقابلة وإما علم ما ينبغي أن يطلق منه عليه وما ينبغي أن لا يطلق ولكل علم أهل وأما ما يتعلق بالكون من العلم الإلهي الذي يعطيه الله من شاء من عباده من هذا الحضرة فهو إما علم يكون متعلقة نسبة العالم إلى الله وإما علم يكون متعلقه نسبة الله إلى العالم وإما علم بارتفاع النسبة بين العالم والذات وإثباتها بين العالم والأسماء وإما علم بإثبات النسبة بين العالم والذات وهو علم القائلين بالعلة والمعلول وإما علم إثبات النسبة شرط لا علة وإما علم يتعلق بالصورة التي خلق الله العالم عليها كله وإما علم بالصورة التي خلق الإنسان عليها وإما علم بالبسائط وإما علم بالمركبات وإما علم بالتركيب وإما علم بالتحليل وإما علم بالأعيان الحاملة مركبة كانت أو بسائط وإما بالأعيان المحمولة وإما علم بإلهيات وإما علم بالأوضاع وإما علم بالمقادير وإما علم بالأوقات وإما علم بالاستقرارات وإما علم بالانفعالات وإما علم بالعين المؤثرة اسم فاعل المؤثرة فيها اسم مفعول وأنواع الآثار بالتوجهات والقصد أو بالمباشرة هذا كله مما يكون للعالم به أو ببعضه من هذه الحضرة العلمية فمن دخل هذه الحضرة ذوقا فقد حاز كل علم ومن دخلها بالفكر فإنه ينال منها على قدر ما هو فيه ومن هذه الحضرة يحيط بعض الخلق بعلم ما لا يتناهى من أعيان أشخاص نوع نوع من الممكنات على حد ما يعلم في العامة تضاعف العدد إلى ما لا يتناهى ولا يقدر أحد على إنكاره من نفسه إنه يعلم ذلك ولا يخطئ فيه ثم لتعلم إن مسمى العلم ليس سوى تعلق خاص من عين تسمى عالما لهذا التعلق وهو نسبة تحدث لهذه الذات من المعلوم فالعلم متأخر عن المعلوم لأنه تابع له هذا تحقيقه فحضرة العلم على التحقيق هي المعلومات وهو بين العالم والمعلوم وليس للعلم عند المحقق أثر في المعلوم أصلا لأنه متأخر

عنه فإنك تعلم المحال محالا ولا أثر لك فيه من حيث علمك به ولا لعلمك فيه أثر والمحال لنفسه أعطاك العلم به أنه محال فمن هنا تعلم أن العلم لا أثر له في المعلوم بخلاف ما يتوهمه علماء أصحاب النظر فإيجاد أعيان الممكنات عن القول الإلهي شرعا وكشفا وعن القدرة الإلهية عقلا وشرعا لا عن العلم فيظهر الممكن في عينه فيتعلق به علم الذات العالمة بأنه ظاهر كما تعلق به أنه غير ظاهر بذلك العلم فظهور المعلوم وعدم ظهوره أعني وجوده أعطى العلم فهو حضرة المعلوم ينوع العلم من العالم بما هو عليه في ذاته أعني المعلوم هذا في كل موصوف بالعلم فالصفات المعنوية كلها على الحقيقة نسب غير أنه ثم نسبة تتقدم كالقول بالإيجاد على الموجود ونسبة تتأخر كالعلم والمعلوم فإذا فهمت ما ذكرته لك في هذه الحضرة علمت الأمر العلمي على ما هو عليه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة القبض وهي للاسم القابض»

لا شك أن القبض معلوم *** في ذاته فالأمر مفهوم‏

وليس معلوما لنا سره *** لكنه لله معلوم‏

يعلمه الخائف من خوفه *** لذاك يمسي وهو مغموم‏

بستانه تبكيه أطياره *** يعمره الغربان والبوم‏

منقبض عنه وعن مثله *** فسره في الكون مكتوم‏

[قبض الحق من الممكن علمه به وقبض الممكن من الحق وجوده‏]

لها أثر في المحدث والقديم يدعى صاحبها عبد القابض بما يعطيه الممكن من أفعاله فيقبضها الحق منه كما

ورد أن الله يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ من عباده فيربيها لهم‏

وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فيقبضه بحيث إنه لا يبقى لغير الله فيه تصرف بعد القبض الإلهي إلا أن يعطيه الحق ذلك فيقبضه العبد من ربه وأول قبض قبضه الممكن من ربه وجوده فقبض الحق من الممكن علمه به وقبض الممكن من الحق وجوده وجميع ما يتصرف فيه ويضاف إليه من الأفعال فإذا وقعت يقبضها الحق من العامل فحضرة القبض بين القابض والمقبوض والمقبوض منه وقد يكون لهذه الحضرة في القابض قبض مجهول وهو خطر جدا كما يكون لها قبض معلوم فإذا وجد العبد من هذه الحضرة قبضا في نفسه لا يعرف سببه ولا يعرف منه سوى علمه بأنه قابض لأمر مجهول فهو مقبوض الباطن للحق بذلك الأمر الذي لا يعلمه فإذا وقع له مثل هذا القبض من هذه الحضرة فليسكن على ما هو عليه وليتحرك على الميزان المشروع والميزان العقلي ولا يتزلزل فإنه لا بد أن ينقدح له سبب وجود ذلك القبض إما بما يسوءه أو بما يسره ولله عباد يسرهم كل شي‏ء يقامون فيه من بسط وقبض مجهول ومعلوم‏

[أن الأدب مصاحب لحضرة القبض‏]

واعلم أن الأدب مصاحب لهذه الحضرة ولحضرة البسط فإذا قبض من الحق ما يعطيه الله فيقبضه من يده في أمور معينة ومن يد الغير في أمور معينة يعين ذلك مسمى الخير والشر فالخير كله بيد الله فيقبضه منه ولكن بأدب يليق بذلك الخير المعين وابذل جهدك في إن لا تقبض الشر جملة واحدة فإن أعماك الحق وأصمك واستعملك في قبض الشر فمن الأدب أن لا تقبضه من يد الله واقبضه من يد المسمى شيطانا فإن على يده يأتيك الشر فلو زال هذا البريد لم يقع في الوجود حكم شر وما أظهر عين الشر من هذا الشيطان إلا التكليف فإذا ارتفع ارتفع هذا الحكم ولم يبق إلا الغرض والملاءمة فنيل الغرض والملائم خير وفقد ما تعلق به الغرض وما لا يلائم شر

فخذ الخير كله *** من يد الحق تسعد

ودع الشر كله *** في يد الغير ترشد

سواء نسبتهما إلى الشرع أو إلى الغرض أو الملاءمة فمن القبض ما يكون عن وهب ومنه ما يكون عن جود وكرم وعن سخاء وعن إيثار وليس إلا قبض الشر يكون وهو عن إيثار لجناب الحق حيث أضفته إلى نفسك ولم تضفه إلى الله أدبا مع الله حيث لم ينسبه إلى نفسه‏

فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم المترجم عن الله تعالى يقول والشر ليس إليك‏

وقال وما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فكل ما يسوءك فهو شر في حقك فلو لم يطلق عليه اسم شر لم تضفه إليك ولا أضافه الحق إليك أ لا تراه إذا نظرته فعلا من غير حكم عليه كيف يقول كُلٌّ من عِنْدِ الله ظهر فقف مع الحكم الإلهي في الأشياء وعلى الأشياء تكن أديبا معصوما فإنه لا يحفظ الله هذا المقام إلا على من عصم الله واعتنى به ومن هذه الحضرة

تقرض الله ما طلب منك من القرض وتعلم أنه ما طلبه منك إلا ليعود به وبأضعافه عليك من جهة من تعطيه إياه من المخلوقين فمن أقرض أحدا من خلق الله فإنما أقرض الله وليس الحسن في القرض إلا أن ترى يد الله هي القابضة لذلك القرض لا غير فتعلم عند ذلك في يد من جعلت ذلك وهو الحفيظ الكريم وأما قبضه ما يقبضه للدلالة عليه كقبض الظل إليه ليعرفك بك وبنفسه لأنه ما خرج الظل إلا منك ولو لا أنت لم يكن ظل ولو لا الشمس أو النور لم يكن ظل وكلما كثف الشخص تحققت أعيان الظلال فالأمر بينك وبينه كما قررنا في الوجود بين الاقتدار الإلهي وبين القبول من الممكن مهما ارتفع واحد منهما ارتفع الوجود الحادث كذلك إذا ارتفع العين المشرق والجسم الكثيف الحائل عن نفوذ هذا الإشراق فيه حدث الظل فالظل من أثر نور وظلمة ولهذا لا يثبت الظل عند مشاهدة النور كما لا تثبت الظلمة لأنه ابنها فإن للظلمة ولادة على الظل بنكاح النور فما قابل النور من الجسم الكثيف أشرق فذلك الإشراق هو نكاح النور له وبنفس ما يقع النكاح تكون ولادته للظل فنفس النكاح نفس الحمل نفس الولادة في زمان واحد كما قلنا في زمان وجود البرق انصباغ الهواء وظهور المحسوسات وإدراك الأبصار لها والزمان واحد والتقدم والتأخر معقول وهكذا الظل فافهم ومن هذه الحضرة سماع ما يقبضك ورؤية ما يقبضك فلو لم يقبض المسموع الذي قبضك ما كنت مقبوضا وكذلك الرؤية فأنت القابض المقبوض فما أتى عليك إلا منك فلو أزلت الغرض عند السماع أو الرؤية لكنت قابضا ولم تكن مقبوضا غير إن هذه الحقيقة لا ترتفع من العالم لأن الاستناد قوى بقوله اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ الله وليس إلا القبض فإذا أخبر الحق بوجود الأثر في ذلك الجناب فأين يخرج العبد من حكمه لذلك قال في نعيم الجنان ولَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وليس إلا نيل الأغراض فتحقق حكم هذه الحضرة وما تعطيه في الإنسان والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة البسط وهي للاسم الباسط»

لا يفرح العاقل في بسطة *** إلا إذا بشره الله‏

على لسان صادق منجد *** ومتهم يعلمه الله‏

فإنه الصادق في قوله *** له إذا يحشره الجاه‏

لا تمتري في صدق إرساله *** لكونها أعلمها الله‏

فلا تقولوا مثل ما قال من *** يقول إذ قيل له ما هو

ماهية ما ثم مجهولة *** فافرح فإن الواحد الله‏

يدعى صاحبها عبد الباسط لها حكم وأثر قديما وحديثا فمن أرضى الله فقد منع غضبه وبسط رحمته والله يَقْبِضُ ويَبْصُطُ

فله الحكم كله *** ولي الحكم جله‏

فهو الحق أصلنا *** وأنا العبد ظله‏

فإذا دام عيشه *** فإنا منه ظله‏

ما لي أمر يخصني *** بل لي الأمر كله‏

إن أسأنا فعدله *** إن يشأ ذاك فصله‏

كل جنس يعمنا *** وأنا منه فضله‏

أي فصل مقوم *** أنا منه فشكله‏

شكل ذاتي وفيضه *** عين فيضي أو مثله‏

[في اختلاف البسط]

فله الحكم في عباده من هاتين الحضرتين غير أن المحال تختلف فيختلف البسط لاختلافها والأحوال تختلف فيختلف البسط لاختلافها فأما في محل الدنيا ف لَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الْأَرْضِ فأنزل بِقَدَرٍ ما يَشاءُ وأطلق له في الجنة البسط لكونها ليست بمحل تعن ولا تعد فإن الله قد نزع الغل من صدورهم فالعبد باتباع الرسول وأعني به الشرع الإلهي والوقوف عند حدوده ومراسمه بالأدب الذي ينبغي له أن يستعمله في ذلك الاتباع يؤثر في الجناب الأقدس المحبة في هذا المتبع فيحبه الله وإذا أحبه انبسط له فحال العبد في الدنيا عند انبساط الحق إليه أن يقف مع الأدب في الانبساط وهو قبض يسير أثره بسط الحق فالعبد ينقبض لقبض الحق ولبسطه وإن اختلف حكم القبض فيه أعني في الدنيا لأجل التكليف فمن المحال كمال البسط في الدنيا للأدب ومحال كمال القبض في الدنيا للقنوط غير إن حكم‏

القبض أعم في الدنيا من البسط فمن الناس من وفقهم الله لوجود أفراح العباد على أيديهم أول درجة من ذلك من يضحك الناس بما يرضى الله أو بما لا رضاء فيه ولا سخط وهو المباح فإن ذلك نعت إلهي لا يشعر به بل الجاهل يهزأ به ولا يقوم عنده هذا الذي يضحك الناس وزن وهو المسمى في العرف مسخرة وأين هو هذا الجاهل بقدر هذا الشخص من قوله تعالى وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكى‏ ولا سيما وقد قيدناه بما يرضى الله أو بما لا رضاء فيه ولا سخط فعبد الله المراقب أحواله وآثار الحق في الوجود يعظم في عينه هذا المسمى مسخرة وكان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نعيمان يضحكه ليشاهد هذا الوصف الإلهي في مادة فكان أعلم بما يرى ولم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ممن يسخر به ولا يعتقد فيه السخرية وحاشاه من ذلك صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بل كان يشهده مجلى إلهيا يعلم ذلك منه العلماء بالله ومن هذه الحضرة

كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يمازح العجوز والصغير يباسطهم بذلك ويفرحهم‏

أ لا ترى إلى أكابر الملوك كيف يضاحكون أولادهم بما ينزلون إليهم في حركاتهم حتى يضحك الصغير ولم أر من الملوك من تحقق بهذا المقام في دسته بحضور أمرائه والرسل عنده مثل الملك العادل أبي بكر بن أيوب مع صغار أولاده وأنا حاضر عنده بميافارقين بحضور هذه الجماعة فلقد رأيت ملوكا كثير ولم أر منهم مثل ما رأيته من الملك العادل في هذا الباب وكنت أرى ذلك من جملة فضائله ويعظم به في عيني وشكرته على ذلك ورأيت من رفقه بالحريم وتفقد أحوالهن وسؤاله إياهن ما لم أر لغيره من الملوك وأرجو أن الله ينفعه بذلك‏

[الفرق بين الحضرة القبض والبسط]

واعلم أن الفرق بين الحضرتين أن القبض لا يكون أبدا إلا عن بسط والبسط قد يكون عن قبض وقد يكون ابتداء فالابتداء سبق الرحمة الإلهية الغضب الإلهي والرحمة بسط والغضب قبض والبسط الذي يكون بعد قبض كالرحمة التي يرحم الله بها عباده بعد وقوع العذاب بهم فهذا بسط بعد قبض وهذا البسط الثاني محال أن يكون بعده ما يوجب قبضا يؤلم العبد فالبسط عام المنفعة وقد يكون فيه في الدنيا مكر خفي وهو إرداف النعم على المخالف فيطيل لهم ليزدادوا إثما وهو قوله ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ والإملاء بسط في العمر والدنيا فيتصرفون فيهما بما يكون فيه شقاؤهم ومن البسط ما يكون أيضا مجهولا ومعلوما أعني مجهول السبب فيجد الإنسان في نفسه بسطا وفرحا ولا يعرف سببه فالعاقل من لا يتصرف في بسطة المجهول بما يحكم عليه البسط فإنه لا يعرف بما يسفر له في عاقبته هل بما يقبضه ويندم فيه أو بما يزيده فرحا وبسطا فالمكر الخفي فيه إنما هو لكونه مجهول السبب وقوة سلطانه فيمن قام به والدار الدنيا تحكم على العاقل بالوقوف عند الجهل بالأسباب الموجبة لبعض الأحوال فيتوقف عندها حتى ينقدح له أمرها فإذا علم تصرف في ذلك على علم فإما له وإما عليه بحسب ما يوفقه الله وينصره أو يخذله فمن الله نسأل العصمة من الزلل في القول والعمل ومن هذه الحضرة يدعو إلى الله من يدعو على بصيرة فيدعو من باب البسط من يعلم أن البسط يعين على الإجابة من المدعو ويدعو من باب القبض من يعلم أن القبض بعين على إجابة المدعو فهذا الداعي وإن كان في مقام مباسطة الحق فإنه يدعو بالقبض والبسط فإنه يراعي المصلحة ويدفع بالتي هي أحسن في حق المدفوع عنه وفي حق نفسه والأدب أعظم ما ينبغي أن يستعمل في هذه الحضرة فإن البسط مطلب النفوس فليحذر غوائلها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الخفض»

إن التواضع حكم ليس يعرفه *** إلا العلي الذي لله يخفضه‏

تنزل الحق إكراما إلى درج *** به يحزئه به يبعضه‏

يقسم الخلق في تعيين رتبته *** قسم يحببه وقسم يبغضه‏

إن الذي خفض الأكوان أجمعها *** عن المقام الذي بما يخفضه‏

رفعت همته نحو العلى عسى *** يوما على غلظ يكون تنهضه‏

أبرمت أمرا وفي الإبرام حاجته *** فجاء في الحال للحرمان ينقضه‏

إني جعلت له في قلب ذي أدب *** حبا وجاء سفير الحال يبغضه‏

صفر اليدين أتاك اليوم يسألكم *** قرضا يضاعفه من أنت تقرضه‏

وقلت يا منتهى الآمال أجمعها *** عساك يوما على خير تحرضه‏

عرفته بالذي يأتيه من كتب *** عساه يوما يراه الحق يرفضه‏

فيدعي صاحبها في الملإ الأعلى عبد الخافض‏

[إن الوجود قد انقسم في ذاته إلى ما له أول وإلى ما لا أول له‏]

فاعلم إن الوجود قد انقسم في ذاته إلى ما له أول وهو الحادث وإلى ما لا أول له وهو القديم فالقديم منه هو الذي له التقدم ومن له التقدم له الرفعة والحدوث له التأخر ومن تأخر فله الانخفاض عن الرفعة التي يستحقها القديم لتقدمه فإن المتقدم له التصرف في الحضرات كلها لأنه لا منازع له يقابله ولا يزاحمه ويرى المراتب فيأخذ الرفيع منها والحادث ليس له ذلك التصرف في المراتب فإنه يرى القديم قد تقدمه في الوجود وتصرف وحاز مقام الرفعة وما نزل عنه فهو خفض فلم يكن له تصرف إلا في حضرة الخفض فإذا أراد الحق أن يتصرف فيها تصرف المحدث ينزل إليها فإذا نزل إليها حكم عليه بأحكامها فإذا ارتفع عنها بعد هذا النزول هو المسمى بهذا الارتفاع الخاص متكبرا فقوله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ بالرفعة الأولى المتكبر بالرفعة بعد النزول فحضرة الخفض سلطانها في المحدث كان المحدث ما كان وإنما قلنا كان المحدث ما كان من أجل صور التجلي فإنها محدثة ومن أجل إتيان الذكر الذي هو القرآن كلام الله فإنه محدث الإتيان قال تعالى ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وليس إلا القرآن وقد حدث عندهم بإتيانه فلذلك قلنا كان الحادث ما كان فمن هذه الحضرة يكون حكم الخافض والمخفوض أ لا ترى إلى حروف الخفض هي الخافضة والحرف في أدنى الدرجات ومع ذلك فلها أثر الخفض في الأسماء مع علو درجة الأسماء فتقول أعوذ بالله فالباء خافضة ومعمولها الهاء من كلمة الله فهي التي خفضت الهاء من الكلمة فأثرت في الكلمة بحقيقتها وإن كانت الأسماء أعلى في الرتبة منها فالعالم وإن كان في مقام الخفض ورتبته رتبة الخفض فإنه بعضه لبعضه كأداة الخفض في اللسان لا يخفض المتكلم الكلمة إلا بها كذلك ما لا يفعله الحق من الأشياء إلا بوساطة الأشياء ولا يمكن غير ذلك فلا بد من حقيقته هذا أن ينزل إلى رتبة الخفض ليتصرف في أدوات الخفض بحسب ما هي عليه تلك الأدوات من الأحكام وهي كثيرة كأداة الباء على اختلاف مراتبها وهي في كل ذلك لا تعطي إلا الخفض فلها رتبة القسم ورتبة الاستعانة ورتبة التبعيض والتأكيد والنيابة مناب الغير وكذلك من وإلى وفي وجميع أدوات الخفض لها صور في التجلي فتظهر بحكم واحد وعين واحدة في مراتب كثيرة فمن على كل حال حكمها الخفض وذاتها معلومة فهي لا تتغير في الحكم ولا في العين وهي لابتداء الغاية خرجت من الدار وتكون للتبعيض أكلت من الرغيف وتكون للتبيين شربت من الماء فما تغير لها عين ولا حكم في الخفض ثم إنه إذا دخل بعضها على بعض صير المدخول عليه فيها اسما وزال عنه حكم الحرفية فيرجع خفضه بالإضافة كسائر الأسماء المضافة وأبقى عليه بناءه حتى لا يتغير عن صورته قال لشاعر

من عن يمين الحبيا نظرة قبل‏

أراد جهة اليمين فدخلت من على عن فصيرتها بمعنى الجهة وأخرجتها عن الحرفية فمعقول من عين عن واليمين كما قلنا مضافة إلى عن ولم يظهر في عن عمل الخفض في الظاهر لأنها بالأصالة خافضة والخافض لا يكون مخفوضا فهي هنا مخفوضة المعنى غير مخفوضة الصورة لما هي عليه من البناء مثل لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ وكذلك قول الشاعر وهو كثير في اللسان وهذا العمل في هذا الطريق إذا أثر المحدث في المحدث لم يزله أثره فيه عن أن يكون محدثا والحدوث له بمنزلة البناء للحرف والأثر فيه للمؤثر ولا مؤثر إلا الله فهذا خلق ظهر بصورة حق فانفعل المنفعل لصورة الحق لا للخلق فقد تلبس في الفعل الخلق بالحق في الإيجاد وتلبس الحق بالخلق في الصورة التي ظهر عنها الأثر في الشاهد كما ظهر عقلا عن الحق هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ والإشارة إلى الأسماء الإلهية هنا وإن كان المراد الزوجات تفسيرا

فإن قلت هذا الحق أظهرت غائبا *** وإن قلت هذا الخلق أخفيته فيه‏

فلو لا وجود الحق ما بان كائن *** ولو لا وجود الخلق ما كنت تخفيه‏

فمن حضرة الخفض ظهر الحق في صورة الخلق‏

فقال كنت سمعه وبصره‏

الحديث وقال تعالى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله وقال من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله كما قال فيه وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ فلو لا حكم النسب وتحقيق النسب ما كان للأسباب عين ولا ظهر عندها أثر وأنت تعلم أن استناد أكثر العالم إلى الأسباب فلو لا إن الله عندها ما استند مخلوق إليها فإنا لم نشاهد أثرا إلا منها ولا عقلناه إلا عندها فمن الناس من قال بها ولا بد ومن الناس من قال عندها ولا بد ونحن ومن شاهد ما شاهدنا نقول بالأمرين معا عندها عقلا وبها شهودا وحسا كما قدمنا في الاقتدار والقبول فذلك هو الأصل الذي يرجع إليه الأمر كله فاعبده وتوكل عليه فهل طلب منك ما ليس لك فيه تعمل وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فلا بد من حقيقة هنا تعطي الإضافة في العمل إليك مع كونه خلقا لله تعالى كما قال والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ أي وخلق ما تعملون وأهل الإشارة جعلوا هنا ما نافية فالعمل لك والخلق لله فما أضاف إليه تعالى عين ما أضافه إليك إلا لتعلم إن الأمر الواحد له وجوه فمن حيث ما هو عمل أضافه إليك ويجازيك عليه ومن حيث ما هو خلق هو لله تعالى وبين الخلق والعمل فرقان في المعنى واللفظ فلا تحجب عن معرفة هذا فإنه لطيف خفي والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الرفعة»

يرفع المؤمن المهيمن قوما *** آمنوا فوق غيرهم درجات‏

فتراهم بهم نفوسا سكارى *** داخلات في حكمه خارجات‏

ورأينا لديه فتيان صدق *** عاملوه بالصدق في فتيات‏

طاهرات من الخنا معلنات *** بشهادات حقه مؤمنات‏

[الرفعة لله تعالى بالذات وللعبد بالعرض‏]

يدعى صاحبها عبد الرفيع قال الله تعالى رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ فالرفعة له سبحانه بالذات وهي للعبد بالعرض وإنها على النقيض من حضرة الخفض في الحكم فإن الخفض للعبد بالأصالة والرفعة للحق واعلم أيدنا الله وإياك بِرُوحٍ مِنْهُ أن هذه الحضرة من حضرات السواء التي لها موقف السواء في المواقف التي بين كل مقامين يوقف في كل موقف منها العبد ليعرف بآداب المقام الذي ينتقل إليه ويشكر على ما كان منه من الآداب في المقام الذي انتقل عنه وإنما سمي موقف السواء أو حضرة السواء لقوله تعالى عن نفسه إنه رَفِيعُ الدَّرَجاتِ فجعل له درجات ظهر فيها لعباده وقال في عباده العلماء به يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ يظهر فيها العلماء بالله ليراهم المؤمنون ثم إنه من حكم هذه الحضرة السوائية في رفع الدرجات التسخير بحسب الدرجة التي يكون فيها العبد أو الكائن فيها كان من كان فيقتضي له أي للكائن فيها إن يسخر له من هو في غيرها ويسخره أيضا من هو في درجة أخرى وقد تكون درجة المسخر اسم مفعول أعلى من درجة المسخر اسم فاعل ولكن في حال تسخير الأرفع بما سخره فيه شفاعة المحسن في المسي‏ء إذا سأل المسي‏ء الشفاعة فيه وفي حديث النزول في الثلث الباقي من الليل غنية وكفاية وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ لمن عقل ولما كانت الدرجة حاكمة

اقتضى أن يكون الأرفع مسخرا اسم مفعول وتكون أبدا تلك الدرجة أنزل من درجة المسخر اسم فاعل والحكم للأحوال كدرجة الملك في ذبه عن رعيته وقتاله عنهم وقيامه بمصالحهم والدرجة تقتضي له ذلك والتسخير يعطيه النزول في الدرجة عن درجة المسخر له اسم مفعول قال الله عز وجل ورَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فافهم ثم إنه أمر عباده ونهاهم كما أمر عباده أيضا أن يامروه وينهوه فقال لهم قولوا اغفر لنا وارحمنا في مثل الأمر ويسمى دعاء ورغبة وفي مثل النهي لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا به وأمر الله أن نقول أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذا عاهَدْتُمْ والنهي لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وأمثال ذلك فنظرنا في السبب الذي أوجب هذا من الله أن يكون مأمورا منهيا على عزته‏

وجبروته ومن العبد على ذله وافتقاره فوجدناه حكم الدرجات بما تقتضيه والدرجة أيضا هي التي جعلت هذا الأمر والنهي في حق الله يسمى أمر أو نهيا وفي حق العبد يسمى دعاء ورغبة فأقام الحق نفسه بصورة ما أقام فيه عباده بعضهم مع بعض وقوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ إنما ذلك على خلقه ثم أنزل نفسه معهم في القيام بمصالحهم وبما كسبوا قال تعالى أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كما قال تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ لأنهن عائلته وقد ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن الخلق عيال الله‏

فيقوم بهم لأن الخلق إلى الله يميلون ولهذا كانوا عائلة له فلما أنزل نفسه في هذه المنزلة فضلا منه وحقيقة فإنه لا يكون الأمر إلا هكذا نبه أنه منا وفينا كنحن منا وفينا

إنه منا وفينا *** مثلنا منا وفينا

وبنا عرفت ربي *** هكذا جاء يقينا

قال الله تعالى ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ وعلل بقوله لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ومن سألته فقد اتخذته موضعا لسؤالك فيما سألته فيه وقد أخبر عن نفسه بالإجابة فيما سأله لمن سأله على الشرط الذي قرره كما نجيبه نحن فيما سألنا أيضا على الشرط الذي تقضي به مراتبنا ثم إنه عز وجل لما كان عين أسمائه في مرتبة كون الاسم هو عين المسمى ومن يقول في صفات الحق إنها لا هي هو ولا هي غيره وقد علمنا رفعة الدرجات في الأسماء بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ كانت ما كانت ليتخذ بعضهم بعضا بحسب مرتبته فنعلم إن درجة الحي أعظم الدرجات في الأسماء لأنه الشرط المصحح لوجود الأسماء وإن العلم من العالم أعم تعلقا وأعظم إحاطة من القادر والمريد لأن لمثل هؤلاء خصوص تعلق من متعلقات العالم فهم للعالم كالسدنة ولما كان العلم يتبع المعلوم علمنا إن العالم تحت تسخير المعلوم يتقلب بتقليبه ولا يظهر له عين في التعلق به إلا ما يعطيه المعلوم فرتبة المعلوم إذا حققتها علمت علو درجتها على سائر الدرجات أعني المعلومات ومن المعلومات للحق نفس الحق وعينه وما يجب له ويستحيل عليه وما يجب لكل معلوم سوى الحق وما يستحيل على ذلك المعلوم وما يجوز عليه فلا يقوم فيه الحق إلا بما يعطيه المعلوم من ذاته وكذلك درجة السميع والبصير والشكور وسائر الأسماء في التعلق الخاص والرءوف والرحيم وسائر الأسماء كلها تنزل عن الاسم العليم في الدرجة إلا المحيط فإنه ينزل عن العليم بدرجة واحدة فإنه لا يحيط إلا بمسمى الشي‏ء والمحال معلوم وليس بشي‏ء إلا في وجود الخيال فهنالك له شيئية اقتضتها تلك الحضرة فهو محيط بالمحال إذا تخيله الوهم شيئا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ولكن في المرتبة الخارجة عن الخيال لا إحاطة له بالمحال مع كون المحال معلوما للعالم غير موصوف بالإحاطة وكذلك الحي لما كانت له درجة الشرطية كان له السببية في ظهور أعيان الأسماء الإلهية وآثارها وكذلك كل علة لا بد أن يكون لها حكم الحياة وحينئذ يكون عنها الأثر الوجودي ولا يشعر بذلك كل أحد من نظار العلماء من أولي الباب إلا أرباب الكشف الذين يعاينون سريان الحياة في جميع الموجودات كلها جوهرها وعرضها ويرون قيام المعنى بالمعنى حتى يقال فيه سواد مشرق وسواد كدر ومن لا علم له يجعل الإشراق للمحل لا للسواد وما عنده خبر فكذلك قيام الحياة بجميع الأعراض قيامها بأعيان الجواهر فما من شي‏ء من عرض وجوهر وحامل ومحمول إلا وهو يسبح بحمد الله ولا يسبح الله إلا حي عالم بمن يسبح وبما يسبح فيفصل بعلمه بين من ينبغي له التسبيح وبين من ينبغي له التشبيه في العين الواحدة من وجوه مختلفة وهو سبحانه يثني على نفسه ويسبح نفسه بنفسه كما قال فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وقال وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً وكل ذلك في معرض الثناء على نفسه لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ ومن لم يعرف الله تعالى والعالم بمثل هذه المعرفة فما عنده علم بالله ولا بالعالم ولو لا ما هو الأمر كما قررناه ما

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من عرف نفسه عرف ربه‏

وأتى بالعامل الذي يتعدى إلى مفعول واحد ولم يقل علم وذلك ليرفع الإشكال في الأحدية فقد بان لك يا وليي بما فصلناه وأومأنا إليه ما تقتضيه هذه الحضرة حضرة الرفع والتي قبلها حضرة الميزان الذي به يخفض الله ويرفع ولما كانت للحق الدرجة العليا قال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فإن الكلمة إذا خرجت تجسدت في صورة ما هي عليه من طيب وخبيث فالخبيث يبقى فيما تجسد فيه ما له‏

من صعود والطيب من الكلم إذا ظهرت صورته وتشكلت فإن كانت الكلمة الطيبة تقتضي عملا وعمل صاحبها ذلك العمل أنشأ الله من عمله براقا أي مركوبا لهذه الكلمة فيصعد به هذا العمل إلى الله صعود رفعة يتميز بها عن الكلم الخبيث كل ذلك يشهده أهل الله عيانا أو إيمانا فالخلق في كل نفس في تكوين فهم كل يوم في شأن لأنهم في نفس وهو هيولى صور التكوين فالحق في وجود الأنفاس شئونه والتصوير لما هو العبد عليه من الحال في وقت تنفسه فيعطيه الحق النفس الداخل هيولائي الذات فإذا استقر في القلب وأعطى أمانته من التبريد الذي جاء له تشكل وانفتحت في ذات ذلك النفس صورة ما في القلب من الخواطر فيزعجه السحر بعد فتح الصورة فيه على مدرجته خروج انزعاج لدخول غيره لأن السحر وهو الرئة له حفظ هذه النشأة فهو كالروبان بل هو كالحاجب الذي بيده الباب فإذا خرج فلا يخلو إما أن يتلفظ صاحب ذلك النفس بكلام أو لا يتلفظ فإن تلفظ تشكل ذلك الهواء بصورة ما تلفظ به من الحروف فيزيد في صورة ما اكتسبه من القلب وإن لم يتلفظ خرج بالصورة التي قبلها في القلب من الخاطر هكذا الأمر دائما دنيا وآخرة ففي الدنيا يتصور في خبيث وطيب وفي الآخرة لا يتصور إلا طيبا لأن حضرة الآخرة تقتضي له الطيب فلا يزال يوجد طيبا بعد طيب حتى يكثر الطيبون فيغلبون على الخبيثين الذين أوردوا صاحبهم الشقاء فإذا كثروا عليهم غلبوهم فازالوا حكمهم فيه فهو المعبر عنه بما لهم إلى الرحمة في جهنم وإن كانوا من أهلها فمن حيث إنهم عمار لا غير فإن رحمة الله سبقت غضبه والحكم لله وما سوى الله فمجعول وآله العقائد مجعول فما عبد الله قط من حيث ما هو عليه وإنما عبد من حيث ما هو مجعول في نفس العابد فتفطن لهذا السر فإنه لطيف جدا به أقام الله عذر عباده في حق من قال فيهم وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ فاشترك الكل المنزه وغير المنزه في الجعل فكل صاحب عقد في الله فهو صاحب جعل فمن هنا تعرف من عبد ومن عبد والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الإعزاز»

إن المعز الذي أعز جانبه *** كما أعز الذي في الله صاحبه‏

إذا أتى مستجير نحو حضرته *** في الحين أكرمه في الوقت عاتبه‏

[في الحضرة الإعزاز تجعل العبد منيع الحمى‏]

يدعى صاحبها عبد المعز وهذه الحضرة تجعل العبد منيع الحمى وتعطيه الغلبة والقهر على من ناواه في مقامه بالدعوى الكاذبة التي لا صورة لها في الحق وهو الذي يعتز بإعزاز المخلوق فهو كالقياس في الأحكام المشروعة يضعف الحكم فيه عن حكم المنصوص عليه ولهذا أثبتته طائفة ونفته أخرى أعني القياس في الأحكام المشروعة وإنما جعله من جعله أصلا في الحكم لما قال الله تعالى ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ فما تفطنوا لذكر الله العزة لهؤلاء الموصوفين بالرسالة المضافة إليه تعالى والايمان فما قال الناس فهؤلاء المذكورون لهم الإعزاز الإلهي وقد قلنا به والذين أثبتوا القياس نظروا إلى أن الله ما أعز دينه إلا بهؤلاء فما عزوا إلا بالدين ولا أعز الله الدين إلا بهم فقد حصل للدين إعزاز بإعزاز مخلوق وهو الرسول والمؤمنون الذين لهم العزة بإعزاز الله فثبت للفرع ما ثبت للأصل فثبت القياس في الحكم فمن هذه الحضرة كان القياس أصلا رابعا ولما كان مثبوتا بالكتاب والسنة فبقيت الأصول في الأصل ثلاثة فصح التربيع في الأصول بوجه والتثليث بوجه كالمقدمتين اللتين ركبت كل مقدمة منهما من مفردين وهذه المفردات ثلاثة في التحقيق فصح التربيع والتثليث على الوجه الخاص وشرطه فكان الإنتاج وليس إلا طهور الحكم وثبوته في العين فهذا أعطاه الاجتهاد ولو كان خطأ فإن الله قد أقر حكمه على لسان رسوله وما كلف الله نفسه إلا ما آتاها وما آتاها إلا إثبات القياس أعني في بعض النفوس والإعزاز من السلطان لحاشيته مقيس على إعزاز الله من أعزه من عباده وأما صورة الاعتزاز بالله فهو إن يظهر العبد بصورة الحق بأي وجه كان مما يعطي سعادة أو شقاوة لأن العزة إنما هي لله ففي أي صورة ظهرت كان لها المنع فظهورها في الشقي مثل قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي المنيع الحمى في وقتك‏

الكريم على أهلك وفي قومك فما هي سخرية به فإنه كذلك كان وهي سخرية به لأنه خاطبه بذلك في حالة ذله وإباحة حماه وانتهاك حرمته فما ظهر معتز في العالم إلا بصورة الحق أي بصفته إلا إن الله ذمها في موطن وحمدها في موطن وذلك الموطن المحمود أن يكون هو الذي يعطي ذلك على علم من العبد فهو صاحب اعتزاز في ذلك ومن ليس له هذا المقام فهو ذو اعتزاز في غير ذل وإن أحس بالذل في نفسه لأنه مجبول على الذلة والافتقار والحاجة بالأصالة لا يقدر أن ينكر هذا من نفسه ولذلك قال الله بأنه يطبع عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فلا يدخله الكبرياء والجبروت وإن ظهر بهما فإنه يعرف في قلبه أنه لا فرق بالأصالة بينه وبين من تكبر عليهم ونجبر وأعظم الاعتزاز من حمى نفسه من أن يقوم به وصف رباني وليس إلا العبد المحض فإن ظهر بأمر الله فأمر الله أظهره فإعزاز الله عبده أن لا يقوم به من نعوت الحق في العموم نعت أصلا فهو منبع الحي من صفات ربه وإنما قلنا في العموم لأن صفات الحق في العموم ليست إلا ما يقتضي التنزيه خاصة المعبر عنها بالأسماء الحسنى والتي في الخصوص إن جميع الصفات كلها لله التي يقال إنها في العبد بحكم الأصالة وإن اتصف الحق بها والأسماء الحسنى في الحق بحكم الأصالة وإن اتصف العبد بها وعند الخصوص كلها لله وإن اتصف العبد بها ومتى لم يعتز العبد في حماه عن قيام الصفات الربانية به في العموم فما اعتز قط لأنه ما امتنع عنها وذلك إذا حكمت فيه عن غير أمر الله كفرعون وكل جبار ومن له هذه الصفة الحجابية وإن أخذها عن أمر الله ولكنه لما قام بها في الخلق وظهر بها اعتز في نفسه على أمثاله فلحق بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا وهم ملوك الإسلام وسلاطينهم وأمراؤهم فيفتخرون بالرياسة على المرءوسين جهلا منهم ولذلك لا يكون أحد أذل منهم في نفوسهم وعند الناس إذا عزلوا عن هذه المرتبة ومن كان في ولايته حاله مع الخلق حاله دون هذه الولاية ثم عزل لم يجد في نفسه أمر أ لم يكن عليه فبقي مشكورا عند الله وعند نفسه وعند المرءوسين الذين كانوا تحت حكم رياسته وهذا هو المعتز بالله بل العزيز الذي منع حماه أن يتصف بما ليس له إلا بحكم الجعل‏

[إن الله قد جعل في الوجود موطنا يكون فيه العبد المحقق القائم به صفة الحق في الخلافة معزا ربه‏]

ثم إن الله قد جعل في الوجود موطنا يكون فيه العبد المحقق القائم به صفة الحق في الخلافة معزا ربه إذا رأى اهتضام جانب الحق من القوم الذين قال الله فيهم وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ فيعزه العبد بحسن التعليم والتنزل باللفظ المحرر الرافع للشبه في قلوبهم حتى يعز الحق عندهم فيكون هذا العبد معزا للحق الذي في قلوب هؤلاء الذين ما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ قبل ذلك فانتزحوا عن ذلك وعبدوا إلها له العزة والكبرياء والتنزيه عما كانوا يصفونه به قبل هذا فهذا نصيبه وحظه من الاسم المعز فإنه حمى قلوب هؤلاء عن أن يتحكم فيهم ما لا يليق بالحق من سوء الاعتقاد والقول وقد ورد في القرآن من ذلك لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ وقولهم يَدُ الله مَغْلُولَةٌ وأمثال هذه الصفات‏

هو المعز ولكن ليس يدريه *** إلا الذي جل عن كيف وتشبيه‏

إن المعز الذي دلت دلائله *** على تنزهه عن كل تنزيه‏

من العباد فإن الحق يكذبه *** بما يقول به في كل تنبيه‏

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الإذلال»

إن المذل هو المعز بعينه *** عند الدخول به وعند خروجه‏

فإذا أذل حبيبه أدناه من *** أكوانه عينا بعيد عروجه‏

[من الحضرة الإذلال خلق الله الخلق‏]

يدعى صاحبها عبد المذل وهو الذليل ومن هذه الحضرة خلق الله الخلق إلا أنه تعالى لما خلق الإنسان من جملة خلقه خلقه إماما وأعطاه الأسماء وأسجد له الملائكة وجعل له تعليم الملائكة ما جهلوه ولم يزل في شهود خالقه فلم تقم به عزة بل بقي على أصله من الذلة والافتقار ولما حمل الأمانة عرضا وجرى ما جرى قال هو وزوجه إذ كانت جزءا منه رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بما حملاه من الأمانة ثم إن بنيه اعتزوا لمكانة أبيهم من الله لما اجْتَباهُ رَبُّهُ ... وهَدى‏ به من هدى ورجع عليه بالصفة التي كان يعامله بها ابتداء من التقريب والاعتناء الذي جعله خليفة عنه في خلقه وكمل به وفيه وجود العالم وحصل الصورتين ففاز بالسورتين أعني المنزلتين منزلة العزة بالسجود له ومنزلة الذلة بعلمه بنفسه وجهل من جهل من بنيه‏

ما كان عليه أبوه من تحصيل المنزلتين والظهور بالصفتين فراضهم الاسم المذل من حضرة الإذلال فأخرجهم عن الإدلال بالدال اليابسة وذلك لمن اعتنى الله به من بنيه فأشهدهم عبوديتهم فتقربوا إليه بها ولا يصح أن يتقرب إلى الله إلا بها فإنها لهم ليس لله منها شي‏ء كأبي يزيد وغيره إذ قال له ربه تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار وقال في طرح العزة عنه وقد قال له يا رب كيف أتقرب إليك أو منك فقال له ربه يا أبا يزيد أترك نفسك وتعالى والنفس هنا ما هو عليه من العزة التي حصلت له من رتبة أبيه من خلقه على الصورة ولو علم من يجهل هذا أنه ما من شي‏ء في العالم إلا وله حظ من الصورة الإلهية والعالم كله على الصورة الإلهية وما فاز الإنسان الكامل إلا بالمجموع لا بكونه جزءا من العالم ومنفعلا عن السموات والأرض من حيث نشأته ومع هذا فهو على الصورة الإلهية كما

أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن الله خلق آدم على صورته‏

واختلف في ضميرها من صورته على من يعود وفي رواية وإن ضعفت على صورة الرحمن وما كملت الصورة من العالم إلا بوجود الإنسان فامتاز الإنسان الكامل عن العالم مع كونه من كمال الصورة للعالم الكبير بكونه على الصورة بانفراده من غير حاجة إلى العالم فلما امتاز سرى العز في أبنائه أي في بعض بنيه فراضهم الله بما شرع لهم فقال لهم إن كنتم اعتززتم بسجود الملائكة لأبيكم فقد أمرتكم بالسجود للكعبة فالكعبة أعز منكم إن كان عزكم للسجود فإنكم في أنفسكم أشرف من الملائكة التي سجدت لكم أي لأبيكم وأنتم مع دعواكم في هذا الشرف تسجدون للكعبة الجمادية ومن عصى منكم عن السجود لها التحق بإبليس الذي عصى بترك سجوده لأبيكم فلم يثبت لكم العز بالسجود مع سجودكم للكعبة وتقبيلكم الحجر الأسود على أنه يمين الله محل البيعة الإلهية كما أخبرتكم وإن كنتم اعتززتم بالعلم لكون أبيكم علم الملائكة الأسماء كلها فإن جبريل عليه السلام من الملائكة وهو معلم أكابركم وهم الرسل صلوات الله عليهم وسلامه والنبي محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول حين تدلى إليه ليلة إسرائه رفرف الدر والياقوت فسجد جبريل عليه السلام عند ذلك ولم يسجد النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وقال فعلمت فضل جبريل علي في العلم عند ذلك‏

ثم إنكم عن لمة الملك تتصرفون في مرضاة الله فهم الذين يدلونكم على طرق سعادتكم والتقرب فبأي شي‏ء تعتزون على الملائكة فكونوا مثل أبيكم تسعدوا وما ثم فضل إلا بالسجود والعلم وقد خرج من أيديكم والذين لهم العزة من النبيين ليس إلا الرسل والمؤمنون فمن ارتاض برياضة الله فقد أفلح وسعد

[ما من حكم في العالم إلا وله مستند إلهي ونعت رباني‏]

واعلم أنا قد ذكرنا في غير موضع من هذا الكتاب أنه ما من حكم في العالم إلا وله مستند إلهي ونعت رباني فمنه ما يطلق ويقال ومنه ما لا يجوز أن يقال ولا يطلق وإن تحقق وقد خلق الافتقار والذلة في خلقه فمن أي حقيقة إلهية صدر وقد قال لأبي يزيد إنه ليس له الذلة والافتقار وقد نبهتك على المستند الإلهي في ذلك بكون العلم تابعا للمعلوم والعلم صفة كمال ولا يحصل إلا من المعلوم فلو لم يكن إلا هذا القدر كما أنه ما ثم إلا هذا القدر لكفى ثم إني أزيدك بيانا مما تعطيه حقائق الأسماء الإلهية التي بها تعددت وكانت الكثرة فلو رفعت العالم من الذهن لا ارتفعت أسماء الإضافة التي تقتضي التنزيه وغيره بارتفاع العالم فما ثبت لها حكم إلا بالعالم فهي متوقفة عليه ومن توقف عليه ظهور حكم من أحكامه فلا بد له أن يطلبه ولا يطلب إلا ما ليس بحاصل ثم إن التنزيه إذا غلب على العارف في هذه المسألة رأى إنه ما من جزء من العالم إلا وهو مرتبط باسم إلهي مع تقدم بعضه على بعض فما توقف اسم ما من الأسماء الإلهية في حكمه إلا على اسم ما إلهي من الأسماء يظهر في ذلك حكمه بالإيجاد أو بالزوال فما توقفت الأسماء الإلهية إلا على الأسماء الإلهية وليست الأسماء إلا عين المسمى فمنه إليه كان الأمر هذا عقد المنزه وأما العالم فالذي ذكرناه من ارتفاع حكم الأسماء بارتفاع العالم ذهنا أو وجودا فقد علمت مستند الذلة والافتقار والإذلال فإنه لا يوجد الموجد إلا ما هو عليه أ لا ترى إلى الحكماء قد قالوا لا يوجد عن الواحد إلا واحد والعالم كثير فلا يوجد إلا عن كثير وليست الكثرة إلا الأسماء الإلهية فهو واحد أحدية الكثرة الأحدية التي يطلبها العالم بذاته ثم إن الحكماء مع قولهم في الواحد الصادر عن الواحد لما رأوا منه صدور الكثرة عنه وقد قالوا فيه إنه واحد في صدوره اضطرهم إلى أن يعتبروا في هذا الواحد وجوها متعددة عنه بهذه الوجوه صدرت الكثرة فنسبة الوجوه لهذا الواحد الصادر نسبة الأسماء الإلهية إلى الله فليصدر عنه تعالى الكثرة كما صدر في‏

نفس الأمر فكما أنه للكثرة أحدية تسمى أحدية الكثرة كذلك للواحد كثرة تسمى كثرة الواحد وهي ما ذكرناه فهو الواحد الكثير والكثير الواحد وهذا أوضح ما يذكر في هذه المسألة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة السمع»

أسمع الحق يا أخي نداكا *** إنه سامع عليم بذاكا

لو جفوت الجناب يوما بأمر *** لم تجده يوما له قد جفاك‏

[حضرة النفس وهو العماء]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد السميع لأنه مسموع فيتضمن الكلام لأنه مسموع وكذا الأصوات فهذه الحضرة تتعلق بحضرة النفس وهو العماء وقد تقدم له باب يخصه كبير مبسوط إلا أني أومي إلى نبذ من هذه الحضرة مما لم نذكره في باب النفس يطلب السمع في حضرته وليس إلا تلاوة الكتب الإلهية تلاها من تلاها على جهة التوصيل فلا بد لحكم هذه الحضرة فيها وليس إلا السمع لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ وقال إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وقال كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا

يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً ونِداءً وقال ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ من هذه الحضرة سمع كل سامع غير إن الموصوفين بأنهم يسمعون مختلفون في القبول فمنهم سامع يكون على استعداد يكون معه الفهم عند سماعه بما أريد له ذلك المسموع ولا يكون ذلك إلا لمن كان الحق سمعه خاصة وهو الذي أوتي جميع الأسماء وجوامع الكلم وكل من ادعى هذا المقام من العطاء أعني الأسماء وجوامع الكلم وسمع ولم يكن عين سمعه عين فهمه فدعواه لا تصح وهو الذي له نصيب في قوله تعالى ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ والسماع المطلق الذي لكل سامع إنما هو للذي لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً ونِداءً وقد لا يعلم من نودي فذلك هو الأصم لأن لكل صورة روحا وروح السماع الفهم الذي جاء له المسموع قال تعالى صُمٌّ وإن كانوا يسمعون بُكْمٌ وإن كانوا يتكلمون عُمْيٌ وإن كانوا يبصرون فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ لما سمعوا ولا يرجعون في الاعتبار إلى ما أبصروا ولا في الكلام إلى الميزان الذي به خوطبوا مثل قوله تعالى أَنْ تَقُولُوا عَلَى الله ما لا تَعْلَمُونَ وأَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ وتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وأصحاب هذه الصفات أيضا كما لا يرجعون فإن الحق قد أخبر عنهم في منزلة واحدة إنهم لا يعقلون من العقال أي لا يتقيدون بما أريد له ذلك المسموع ولا المبصر ولا المتكلم به من الذي تكلم فإن الله عند لسان كل قائل يعني سميعا يقيده بما سمع منه فلا يتخيل قائل إن الله أهمله وإن أمهله ما يَلْفِظُ من قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ يحصي عليه ألفاظه التي يرمي بها لا يترك منها شيئا حتى يوقفه عليها إما في الدنيا إن كان من أهل طريقنا وإما في الآخرة في الموقف العام الذي لا بد منه وكل صوت وكلام من كل متكلم وصامت إذا أسمعه الحق تعالى من أسمعه فإنما أسمعه ليفهمه فيكون بحيث ما قيل له ونودي به وأقله النداء وأقل ما يتعلق بالنداء الإجابة وهو أن يقول لبيك فيهيئ محله لفهم ما يقال له أو يدعى إليه بعد النداء كان ما كان فإذا كان الحق السميع نداء العبد نادى العبد من نادى أما الحق وأما كونا من الأكوان فإن الله يسمع ذلك كله لأنه ما يَكُونُ من نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى‏ من ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يسمع ما يتناجون به ولذلك قال لهم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ والْعُدْوانِ وتَناجَوْا بِالْبِرِّ والتَّقْوى‏ واتَّقُوا الله فإنه مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فيما تتناجون به فإنكم إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وإن كان معهم فكنى بالحشر إذا فتح الله بإزالة الغطاء عن أعينهم فيرون عند ذلك من هو معهم فيما يتناجون به فيما بينهم فعبر عنه بالحشر للسؤال عما كانوا فيه وأما ذكره تعالى بأنه يشفع فرديتهم ويثني أحديتهم في قوله ولا أَدْنى‏ من ذلِكَ ولا أَكْثَرَ فهل يريد به أيضا أفراد شفعيتهم كما شفع وتريتهم أو لا يكون أبدا إلا مشفعا فرديتهم خاصة كما نص عليه‏

[أن الله ما خلق شيئا إلا في مقام أحديته التي بها يتميز عن غيره‏]

فاعلم وفقك الله أن الله ما خلق شيئا إلا في مقام أحديته التي بها يتميز عن غيره فبالشفعية التي في كل شي‏ء يقع الاشتراك بين الأشياء وبأحدية كل شي‏ء يتميز كل شي‏ء عن شيئية غيره وليس المعتبر في كل شي‏ء إلا ما يتميز به وحينئذ يسمى شيئا فلو أراد الشفعية لما كان شيئا وإنما يكون شيئين وهو إنما قال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ ولم يقل لشيئين فإذا كان الأمر على ما قررناه ثم جاء الحق لكل شي‏ء بصورته التي خلقه الله عليها فقد شفع ذلك الشي‏ء كما يشفع الرئي صورته برؤيته‏

في المرآة نفسه فيحكم بالصورتين صورته وصورة ما شفعها فلذلك ما أتى الحق في الإخبار عن كينونته معنا إلا مشفعا لفرديتنا فجعل نفسه رابعا وسادسا وأدنى من ذلك وهو أن يكون ثانيا وأكثر وهو ما فوق الستة من العدد الزوج أعلاما منه تعالى أنه على صورة العالم أو العالم على صورته وما ذكر في هذه الكينونة إلا كونه سميعا من كون من هو معهم يتناجون لا من كونهم غير متناجين فإذا سمعت الحق يقول أمرا ما فما يريد الأعيان وإنما يريد ما هم فيه من الأحوال إما قولا وإما غير قول من بقية الأعمال إذ لا فائدة في قصد الأعيان لعينهم وإنما الفائدة إحصاء ما يكون من هذه الأعيان من الأحوال فعنها يسألون وبها يطلبون فيقال له ما أردت بهذه الكلمة ولذلك ورد في الخبر الصحيح أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما لا يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب بها في عليين وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما لا يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب بها في سجين فاعلم عباده أن للمتكلم مراتب يعلمها السامع إذا رمى بها العبد من فمه لم تقع إلا في مرتبتها وإن المتلفظ بها يتبعها في عاقبة الأمر ليقرأ كتابه حيث كان ذلك الكتاب فعبد السميع هو الذي يتحفظ في نطقه لعلمه بمن يسمعه وعلمه بمراتب القول فإن من القول ما هو هجر ومنه ما هو حسن وإذا كان هو السامع فينظر في خطاب الحق إياه أما في الخطاب العام وهو كل كلام يدركه سمعه من كل متكلم في العالم فيجعل نفسه المخاطب بذلك الكلام ويبرز له سمعا من ذاته يسمعه به فيعمل بمقتضاه وهذا من صفات الكمل من الرجال ودون هذه المرتبة من لا يسمع كلام الحق إلا من خبر إلهي على لسان الرسول أو من كتاب منزل وصحيفة أو من رؤيا يرى الحق فيها يخاطبه فأي الرجلين كان فلا بد أن يهيئ ذاته للعمل بمقتضى ما سمع من الحق كما فعل الحق معه فيما يتكلم به العبد في نجواه نفسه أو غيره فإن الإنسان قد يحدث نفسه كما قال أو ما حدثت به أنفسها وهو تنبيه إن المتكلم إذا لم يكن ثم من يسمعه لا يلزم من ذلك أنه لا يتكلم فأخبر إن نفسه تسمع وهو متكلم فيحدث نفسه فيما هو متكلم يقول وبما هو ذو سمع يسمع ما يقول فعلمنا إن الحق ولا عالم يكلم نفسه وكل من كلم غيره فقد كلم نفسه وليس في كلام الشي‏ء نفسه صمم أصلا فإنه لا يكلم نفسه إلا بما يفهمه منها بخلاف كلام الغير إياه فلا يقال فيمن يكلم نفسه أنه ما يفهم كلامه كيف لا يفهمه وهو مقصود له دون قول آخر فما عينه حتى علمه وما له تعيين كلام غيره وكذلك قد يكون ذا صمم عنه إذا لم يفهمه لأنه لا فرق بين الصمم الذي لا يسمع كلام المخاطب وبين من يسمع ولا يفهم أو لا يجيب إذا اقتضى الإجابة ولهذا قال الله فيهم إنهم صُمٌّ ف لا يَعْقِلُونَ ومن عقل فالمطلوب منه فيما أسمعه أن يرجع فلا يرجع فمن تحقق بهذه الحضرة وعلم إن كلامه من عمله وإن الله عند لسانه في قوله قل كلامه حتى في نفسه به والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة البصر»

إن البصير الذي يراكا *** علما وعينا إذا تراه‏

فكن به لا تكن بكون *** ولا تشاهد فيه سواه‏

فإنه قوله مجيبا *** بنا يرانا به نراه‏

[من الحضرة البصر الرؤية والمشاهدة]

يدعى صاحبها عبد البصير ومن هذه الحضرة الرؤية والمشاهدة فلا بد من مبصر ومشهود ومرئي قال الله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وقال أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ وقال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس بالظهيرة ليس دونها سحاب‏

يريد بذلك ارتفاع الشك في أنه هو المرئي تعالى لا غيره فيلزم عبد البصير الحياء من الله في جميع حركاته وإنما لزمه الحياء لوجود التكليف فعبد البصير لا يبرح ميزان الشرع من يده يزن به الحركات قبل وقوعها فإن كانت مرضية عند الله ودخلت في ميزان الرضي اتصف بها هذا الشخص وإن لم تدخل له في ميزان الرضي وحكم عليها الميزان بأنها حركة بعد عن محل السعادة وإنها سوء أدب مع الله حمى نفسه عبد البصير أن يظهر منه هذه الحركة فعبد البصير يخفض الميزان ويرفعه صفة حق فإن الله ما وضع الميزان إلا ليوزن به وهو مما بين السماء والأرض فما خلقه باطلا

ولا عبثا ولا يستعمله إلا عبد السميع وعبد البصير بل له دخول في كل اسم إلهي لكل عبد مضاف إلى ذلك الاسم مثل عبد الرءوف فإنه يرأف بعباد الله وجاء الميزان في إقامة الحدود فأزال حكم الرأفة من المؤمن فإن رأف في إقامة الحد فليس بمؤمن ولا استعمل الميزان وكان من الذين يخسرون الميزان فيتوجه عليه بهذه الرأفة اللؤم حيث عدل بها عن ميزانها فإن الله يقول ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ الله وهو الرءوف تعالى ومع علمنا بأنه الرءوف شرع الحدود وأمر بإقامتها وعذب قوما بأنواع العذاب الأدنى والأكبر فعلمنا إن للرأفة موطنا لا نتعداه وأن الله يحكم بها حيث يكون وزنها فإن الله ينزل كل شي‏ء منزلته ولا يتعدى به حقيقته كما هو في نفسه فإن الذي يتعدى حدود الله هو المتعدي لا الحدود فإن الحدود لا تتعدى محدودها فيتجاوزها هذا المخذول ويقف عندها العبد المعتنى به المنصور على عدوه فعبد البصير إما أن يعبد الله كأنه يراه وهذه عبادة المشبهة وإما أن يعبد الله لعلمه بأن الله يراه فهذه عبادة المنزهة وإما أن يعبد الله بالله فهذه عبادة العلماء بالله فيقولون بالتنزيه ويشهدون التشبيه لا يؤمنون به فإنه ليس عندهم ذلك خبرا وإنما هو عيان والايمان بابه الخبر فالمحجوب يؤمن بقول المخبر وصاحب الشهود يرى صدق المحبر فكثير ما بين يرى ويؤمن فإن صاحب الرؤية لا يرجع بالنسخ إلا رجوع الناسخ وصاحب الايمان يرجع بالنسخ ويعتقد في المرجوع عنه أنه كفر بعد الرجوع عنه وإن كان مؤمنا به ولكن يؤمن به إنه كان لا يؤمن به إنه كائن لأنه منسوخ فإذا علم الله من العبد أنه يعلم أنه يراه يمهله فيما يجب بفعله المؤاخذة لأنه علم أنه يعلم أنه يراه فيتربص به ليرجع لأنه تحت سلطان علمه وإن انحجب عن استعماله في الوقت لجريان القدر عليه بالمقدور الذي لا كينونة له إلا فيه وإن الله يستحيي من عبده فيما لا يستحيي العبد فيه وذلك إذا علم من العبد أنه يعلم ممن الله أن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فيقول الحق ما أعلمته بذلك ورزقته الايمان به إن كان من المؤمنين أو أشهدته ذلك إن كان من أهل الشهود إلا ليكون له ذلك مستندا يستند إليه في إقامة الحجة فكون العبد قد أشهد ذلك أو آمن به ولم يحتج به فما منعه من ذلك إلا الحياء فيما لم يستحيي فيه فإن الله يستحيي منه أن يؤاخذه بعلمه الذي ما استحيى منه فيه‏

[إن للعبد عينان‏]

واعلم أن هذه الحضرة أعطت أن يكون للعبد عينان وللحق أعين فقيل في المخلوق أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وقال تعالى عن نفسه تَجْرِي بِأَعْيُنِنا فمن عينيه كان ذا بصر وبصيرة ومن أعينه كانت أعين الخلق عينه فهم لا يبصرون إلا به وإن لم يعلموا ذلك والعالمون الذين يعلمون ذلك يعطيهم الأدب أن يغضوا أبصارهم فيتصفوا بالنقص فإن الغض نقص من الإدراك وقوله أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ إرسال مطلق في الرؤية لا غض فيه فإن لم يغضوا مع علمهم فيعلم عند ذلك أنهم مع شهود المقدور الذي لا بد من كونه فهم يرونه كما يراه الله من حيث وقوعه لا من حيث الحكم عليه بأنه كذا هكذا يراه العلماء بالله فيأتون به على بصيرة وبينة في وقته وعلى صورته ويرتفع عنهم الحكم فيه فإنه من الشهود الأخروي الذي فوق الميزان ولذلك لا يقدح فيهم لأنه خارج عن الوزن في هذا الموطن وهو قوله في حق رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ولِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ فهو سؤال عن العلة لا سؤال توبيخ لأن العفو تقدمه وقوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ إنما هو استفهام مثل قوله أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ كأنه يقول أ فعلت ذلك حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فهو عند ذلك إما أن يقول نعم أو لا فإن العفو ولا سيما إذا تقدم والتوبيخ لا يجتمعان لأنه من وبخ فما عفا مطلقا فإن التوبيخ مؤاخذة وهو قد عفا ولما كان هذا اللفظ قد يفهم منه في اللسان التوبيخ لهذا جاء بالعفو ابتداء ليتنبه العالم بالله أنه ما أراد التوبيخ الذي يظنه من لا علم له بالحقائق وقال في هذه المرتبة في حق المؤمن العالم‏

اعمل ما شئت فقد غفرت لك‏

أي أزلت عنك خطاب التحجير يا محمد فاسترسل مطلقا فإن الله لا يبيح الفحشاء وهي محكوم عليها فحشاء تلك الأعمال فزال الحكم وبقي عين العمل فما هو ذنب يستر عن عقوبته وإنما الستر الواقع إنما هو بين هذا العمل وبين الحكم عليه بأنه محجور خاصة هذا معنى قد غفرت لك لا ما يفهمه من لا علم له فيمشي هذا الشخص في الدنيا ولا خطيئة عليه بل قد عجل الله له جنته في الدنيا فهو في حياته الدنيا كالمقتول في سبيل الله‏

نسمته تعلق من ثمر الجنة كذلك هذا الشخص وإن أقيمت عليه الحدود فلجهل الحاكم هذا المقام الذي هو فيه فإقامة الحدود على من هذا مقامه ما هي حدود وإنما هي من جملة الابتلاءات التي يبتلي الله بها عبده في هذه الدار الدنيا كالأمراض وما لا يشتهي أن تصيبه في عرضه وماله وبدنه فيصيبه وهو مأجور في ذلك لأنه ما ثم ذنب فيكفر وإنما هو تضعيف أجور فما هي حدود في نفس الأمر وإن كانت عند الحاكم حدود أو تظهر رائحة من هذا في علماء الرسوم المجتهدين فإن الحاكم إذا كان شافعيا وجي‏ء إليه بحنفي قد شرب النبيذ الذي يقول بأنه حلال فإن الحاكم من حيث ما هو حاكم وحكم بالتحريم في النبيذ يقيم عليه الحد ومن حيث إن ذلك الشارب حنفي وقد شرب ما هو حلال له شربه في علمه لا تسقط عدالته فلم يؤثر في عدالته وأما أنا لو كنت حاكما ما حددت حنفيا على شرب النبيذ ما لم يسكر فإن سكر حددته لكونه سكران من النبيذ فالحنفي مأجور ما عليه إثم في شربه النبيذ وفي ضرب الحاكم له وما هو في حقه إقامة حد عليه وإنما هو أمر ابتلاه الله به على يد هذا الحاكم الذي هو الشافعي كالذي غصب ماله غير إن الحاكم هنا أيضا غير مأثوم لأنه فعل ما أوجبه عليه دليله أن يفعله فكلاهما غير مأثوم عند الله وهذا عين ما ذكرناه في إقامة الحدود على الذين أبيح لهم فعل ما أقيم عليه فيه الحد وهو حد في نفس الأمر بالنظر إلى من أقامه فاعلم ذلك وهذه الحضرة واسعة الميدان يتسع فيها المجال فاكتفينا بهذا القدر من التنبيه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وهو حسبي عز وجل ونِعْمَ الْوَكِيلُ‏

«حضرة الحكم»

إذا تنازعكم نفس لتقهركم *** فاجعل إلهك فيما بينكم حكما

احذر من العدل منه أن يعادله *** فإنه لكما بما به حكما

[القاضي هو الحاكم‏]

يدعى صاحبها عبد الحكم قال تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً من أَهْلِهِ وحَكَماً من أَهْلِها وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في عيسى عليه السلام إنه ينزل فينا حكما مقسطا

الحديث كما ورد فالحكم هو القاضي في الأمور إما بحسب أوضاعها وإما بحسب أعيانها فيحكم على الأشياء بحدودها فهي الحكم على نفسها لأنه ما حكم عليها إلا بها ولو حكم بغير ما هي عليه لكان حكم جور وكان قاسطا لا مقسطا والحكم هو القضاء المحكوم به على المحكوم عليه بما هو المحكوم فيه وأعجب ما في هذه الحضرة نصب الحكمين في النازلة الواحدة وهما من وجه كالكتاب والسنة فقد يتفقان في الحكم وقد يختلفان فإن علم التأريخ كان نسخا وإن جهل التأريخ ما أن يسقطا معا وأما أن يعمل بهما على التخيير فأي شي‏ء عمل من ذلك كان كالمسح في الوضوء للرجلين وكالغسل فأي الأمرين وقع فقد أدى المكلف واجبا على إن في المسألة الخلاف المشهور ولكن عدلنا إلى مذهبنا فيه خاصة فذكرناه ومرتبة الحكم أن يحكم للشي‏ء وعلى الشي‏ء وهذه حضرة القضاء من وقف على حقيقتها شهودا علم سر القدر وهو أنه ما حكم على الأشياء إلا بالأشياء فما جاءها شي‏ء من خارج وقد ورد أعمالكم ترد عليكم‏

وفي الحدود الذاتية برهان ما نبهنا عليه في هذه الحضرة الحكمية

[ان الحضرة الحكم مماثلة لحضرة العلم‏]

اعلم أن حقيقة هذه الحضرة من أعجب ما يكون من المعلومات فإنها مماثلة لحضرة العلم وذلك أنها عين المحكوم به الذي هو ما هو المحكوم عليه أو له فالحكم ما أعطى أمرا من عنده لمن حكم له أو عليه إذا كان عدلا مقسطا وأما إذا كان جائرا قاسطا وإن كان حكما فما هو من هذه الحضرة وهو منها بالاشتراك اللفظي وإمضاء ما حكم به وأما قول الله مخبرا وآمرا قالَ وقل كلاهما رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ هو الحكم الذي لا يكون حقا إلا بك ومتى لم يكن الحكم بالمحكوم له أو عليه فليس حقا فالمخلوق أو المحكوم عليه جعل الحاكم حكما كما إن المعلوم جعل العالم عالما أو ذا علم لأنه تبع له وليس القادر كذلك ولا المريد فإن الأثر للقادر في المقدور ولا أثر للعلم في المعلوم ولا للحكم في المحكوم عليه والحكم أخو العليم فإنه حاكم على كل معلوم بما هو ذلك المعلوم عليه في ذاته وقوله في جزاء الصيد يَحْكُمُ به ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فيه رائحة إن الجائر في الحكم يسمى حكما شرعا إلا إن الحاكم لما شرع له أن يحكم بغلبة ظنه وليس علما فقد يصادف الحق في الحكم وقد لا يصادف وليس بمذموم شرعا ويسمى حكما وإن لم يصادف الحق ويمضي حكمه عند الله وفي المحكوم عليه وله فهنا ينفصل من العليم ويتميز لأنه ليس هنا تابع‏

للمحكوم عليه مع كونه حكما ولا هو جائر فإنه حكم بما شرع له من إقامة الشهود أو الإقرار الذي ليس بحق فكان اللفظ من الشاهد واللفظ بالإقرار من المقر أوجب له الحكم وإن كان قول زور أو شهادة زور وإنما قلنا فيه إنه أخو العليم لكونه في نفس الأمر ما يكون حكما حقيقة إلا يجعل المحكوم له أو عليه هذا هو التحقيق والأخوة هنا قد تكون أخوة الشقائق وقد تكون أخوة الصفة كأخوة الايمان وغير الايمان وقد تكون أخوة من الأب الواحد دون الآخر وقد تكون من الرضاعة فلذلك قلنا إنه أخو العليم وما بينا مراتب الأخوة فأحقها أخوة الايمان فإن بها يقع التوارث وهي أخوة الصفة كذلك الحكم ما حكم الحاكم على المحكوم عليه إلا لصفة لا لعينه ومن شرط الحكم أن يكون عالما بالحكم لا بالمحكوم عليه وله وإنما شرطه العلم بصفة ما يظهر من حال المحكوم عليه وله بما ذكرناه من شهود صدقوا أو كذبوا أو من إقرار صدق أو كذب فهو تابع أبدا فيكون عالما بالحكم لا بد من ذلك الذي يوجبه ويعينه ما قررناه والحق فيه مصادفة وهو موضع الإجماع مع كونه بهذه المثابة والخلاف في حكم الحاكم بعلمه دون إقرار ولا شهادة هل يجوز أو لا يجوز وقد بينا مذهبنا في هذه المسألة في هذا الكتاب في حكم الحاكم بعلمه أين ينبغي أن يحكم وأين ينبغي أن لا يحكم بعلمه فإنها من أشكل المسائل وعلى كل حال فهي حضرة مبهمة حكم حكمها الأشاعرة في الصفات الإلهية بقولهم لا هي هو ولا هي غيره مع قولهم بأنها زائدة بالعين على الذات وجودية لا نسبية وغير الأشعري لا يقول بهذا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة العدل»

العدل لا يصلح إلا لمن *** يفصل في الخلق إذا يعدل‏

فإن أبي أكوانه عدله *** فإنه بحقه يفضل‏

ينعم بالفضل على خلقه *** ويستر الستر إذا يسبل‏

[العدل هو ميل إلى أحد الجانبين الذي يطلبه الحكم الصحيح التابع للمحكوم عليه‏]

يدعى صاحبها عبد العدل وهو ميل إلى أحد الجانبين الذي يطلبه الحكم الصحيح التابع للمحكوم عليه وله أو للإقرار أو الشهود وغير ذلك لا يكون عدلا في الحكم ومن هذه الحضرة العجيبة خلق الله العالم على صورته ومن هنا كان عدلا لأنه تعالى عدل من حضرة الوجوب الذاتي إلى الوجوب بالغير أو إلى حضرة الإمكان كيف شئت فقل وعدل أيضا بالممكنات من حضرة ثبوتها إلى وجودها فأوجدهم بعد أن لم يكونوا بكونه جعلهم مظاهر وبكونه كان مجلى لظهور أحكامهم ومن هذه الحضرة عدوله من شأن يجوزه العقل في حق الممكن إلى شأن آخر يجوزه أيضا العقل والعدول لا بد منه فلا يعقل في الوجود إلا العدل فإنه ما ظهر الوجود إلا بالميل وهو العدل فما في الكون إلا عدل حيث فرضته وبالعدل ظهرت الأمثال وسمي المثل عدلا قال الله تعالى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً والَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وهنا له وجوه في العدل منها عدولهم إلى القول بأن له أمثالا ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ومنها إنهم بربهم عدلوا لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ومنها أن الباء هنا بمعنى اللام فلربهم عدلوا لكون من عدلوا إليه إنما عدلوا إليه لكونه عندهم إلها فما عدلوا إلا لله كقوله ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي للحق كذلك بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ولما قال الله عز وجل في هذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ جعلوا له أمثالا فخاطب المانية الذين يقولون إن الإله الذي خلق الظلمة ما هو الإله الذي خلق النور فعدلوا بالواحد آخر وكذلك الذين يقولون بخلق السموات والأرض إنها معلولة لعلة ليست علته الإله أي ليست العلة الأولى لأن تلك العلة عندهم إنما صدر عنها أمر واحد لحقيقة أحديتها وليس إلا العقل الأول فهؤلاء أيضا ممن قيل فيهم إنهم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وسماهم كفارا لأنهم إما ستروا أو منهم من ستر عقله عن التصرف فيما ينبغي له بالنظر الصحيح في إثبات الحق والأمر في نفسه على ما هو عليه فاقتصر على ما بدا له ولم يوف الأمر حقه في النظر وأما إن علم وجحد فستر عن الغير ما هو الأمر عليه في نفسه لمنفعة تحصل له من رياسة أو مال فلهذا قيل فيهم إنهم كفروا أي ستروا فإن الله حكيم يضع الخطاب موضعه والعدل هو الرب تعالى والرب عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ والعدل الميل فالميل عين الاستقامة

فيما لا تكون استقامته إلا عين الميل فإن الحكم العدل لا يحكم إلا بين اثنين فلا بد أن يميل بالحكم مع صاحب الحق وإذا مال إلى واحد مال عن الآخر ضرورة فليست الاستقامة ما يتوهمه الناس فأغصان الأشجار وإن تداخل بعضها على بعض فهي كلها مستقيمة في عين ذلك العدول والميل لأنها مشت بحكم المادة على مجراها الطبيعي وكذلك الأسماء الإلهية يدخل بعضها على بعض بالمنع والعطاء والإعزاز والإذلال والإضلال والهداية فهو المانع المعطي المعز المذل المضل الهادي فمن يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وكلها نسب حقيقية ما ترى فِيها عِوَجاً ولا أَمْتاً

إن الإله بجوده *** يعطي العبيد إذا افتقر

ما شاءه مما له *** ما ثم إلا ما ذكر

لما وقفت تحققا *** منه على سر القدر

وشهدته فرأيته *** سمع الحبيب مع البصر

فيه بدت أحكامه *** وله نهي وله أمر

ويقال هذا مؤمن *** ويقال هذا قد كفر

فلنا الحقائق كلها *** ولنا التحكم والأثر

ما الأمر إلا هكذا *** ما الأمر ما يعطي النظر

الحكم ليس لغيرنا *** في كل ما تعطي الصور

والأمر فيه فيصل *** في الكون من خير وشر

لم تستفد منه سوى *** أكواننا وكذا ظهر

وانظر بربك لا *** بعقلك في شئونك واعتبر

هذا هو الحق الصراح *** لمن تحقق وادكر

الحكم حكم ذواتنا *** لا حكمه فاعدل وسر

عنه إليه بما لنا *** تعثر على الأمر الخطر

لا تأتلي لا تأتني *** فإليك منك المستقر

إن الغني صفة له *** عنا فنستر ما ستر

لو لا افتقار المحدثات *** إليه ما جاء الخبر

هذا هو الميت الذي *** يوم القيامة قد نشر

أن هذا هو السر الذي أخفاه الله عمن شاء من عباده قد ظهر في حكم افتقارنا في غناه فأظهره الله لمن شاء أيضا فتأمل هذا الغني وهذا الفقر وانظر بنور بصيرتك في هذا الوجود والفقد وقل لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ

فحضرة العدل ما تنفك في نصب *** وحضرة الجور في بلوى وفي تعب‏

لو كان ثم مريح كان يحكم لي *** بالاستراحة في لهوي وفي لعبي‏

أنا جنيت على نفسي فبي حكمت *** على أسمائه الحسنى مع النسب‏

فإن لي نسبا فيه الهلاك كما *** لربنا نسب ينجي من العطب‏

هو التقى فاتق الرحمن أن له *** مكرا خفيا بأهل الوعد والنسب‏

واحذر غوائله في كل مكرمة *** واضمم إليك جناحيك من الرهب‏

يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول الله تبارك وتعالى اليوم يعني يوم القيامة أضع نسبكم وأرفع نسبي أين المتقون‏

قال الله تعالى مخبرا عباده إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ويقول الله تعالى فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءَلُونَ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة اللطف»

إنما اللطف خفاء *** ليس في اللطف ظهور

وبه أبرز كوني *** وبه تجري الأمور

كن عبيدا للطيف *** هو بالأمر خبير

إن دين الله يسر *** وهو بالهوى عسير

لا تخالف لا توافق *** إنه الخير الكثير

والذي يفهم قولي *** هو بالأمر بصير

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد اللطيف وما لطفه وأخفاه عن الإدراك إلا شدة ظهوره فلما لم تقع عين إلا عليه ولا نظرت إلا به فإنه البصر لكل عين تبصر فما الفائدة إلا لمن يشهد ذلك ويعرفه ذوقا ومشاهدة فإن التقليد في ذلك ما يقع موقع الشهود فإنه ما ثم إلا هو لم يتميز عن غير لأنه لم يكن غير فيمتاز عنه فعمن خفي وما ثم غير

فليس للطف حكم *** إلا إذا كنت ثمة

ولست ثم فقل لي *** من ذا يعين حكمه‏

وإن في القلب منه *** إذا تفكرت غمه‏

تجي‏ء منه سحاب *** على القلوب وظلمه‏

جاءت الحيرة تجري *** يا عبيدي ضاع قدري‏

أين أسمائي وحكمي *** أين نهيي أين أمري‏

ارقبوني تجدوني *** في خفايا الكون أسرى‏

إنه لا بد مني *** فلذا أمرك أمري‏

من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله‏

[سريان اللطف الإلهي‏]

فانظر إلى سريان هذا اللطف الإلهي ما أعجبه وحكمه الظاهر في هذه الكثافة كيف أبان أن طاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم طاعته إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله والحجر الأسود يمين الله للبيعة وجعله في الحجر حتى لا يقع في ذلك دعوى فهي بيعة خالصة مخلصة فمن بايعه بايع الله فانظر إلى ما يشهده البصر وانظر إلى ما يشهده الايمان فمن نظر بعين الايمان رأى قوة نفوذه في الكثيف حتى سرى إلى اللطيف الخبير فيحصل له المعرفة بالأمر على ما هو عليه فاذن عين اللطيف الذي سار إليه عين الكثيف الذي سار منه يبين ذلك في الحدود مثاله الجوهر قائم بنفسه ظاهر شخصه من أعيان غير ظاهرة هي مجموعة وليست سوى عينه وما لها وجودا لا عينه فمن الجوهر ومن الصفات النفيسة له فالأمر هكذا في هذه الحضرة فهو حق وعين ما هو حق إذا ظهر كان خلقا ولا يصح حكم لحضرة اللطف إلا بوجود الخلق البخار يصعد لا يدركه البصر للطفه ورقته فينضم بعضه إلى بعضه ويتراكم فيظهر غماما أنشأه الحق فظهر وهو من شي‏ء لا يظهر فأعطاه هذا المزاج الخاص حكما لم يكن له قبل ذلك وأعطاه اسما وظهر عنه أثر في الجو لم يكن له شي‏ء من هذا كله قبل ذلك فأمطر وأحيى وأضحك الأرض بالنبات وأروى وهو ما عمل شيئا إلا بذلك السر اللطيف الذي نشأت منه صورته وفي قبض الظل ومده من اللطف ما إذا فكر فيه الإنسان رأى عظيم أمر ولهذا نصبه الله دليلا على معرفته فقال أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ فلا يدرك البصر عين امتداده حالا بعد حال فإنه لا يشهد له حركة مع شهود انتقاله فهو عنده متحرك لا متحرك وكذلك في فيئه وهو قوله ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً فمنه خرج فإنه لا ينقبض إلا إلى ما منه خرج كذلك تشهده العين وقد قال تعالى وهو الصادق إنه قبضه إليه فعلمنا إن عين ما خرج منه هو الحق ظهر بصورة خلق فيه ظل يبرزه إذا شاء ويقبضه إذا شاء لكن جعل الشمس عليه دليلا ولم يتعرض لتمام الدلالة وهو كثافة الجسم الخارج الممتد عنه الظل فبالمجموع كان امتداد الظل فهذا شمس وهذا جدار وهذا ظل وهذا حكم امتداد وقبض بفي‏ء ورجوع إلى ما منه بدأ فإليه عاد والعين واحدة فهل يكون شي‏ء ألطف من هذا فالأبصار وإن لم تدركه فما أدركت إلا هو فإنه ما أحالنا إلا على مشهود بقوله أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وما مده إلا بشمس وذات كثيفة تحجب وصول نور الشمس إلى ما امتد عليه ظل هذه الذات وجهة خاصة ثم قبضه كذلك فهذه كيفية ما خاطبنا بها أن ننظر إليها وما قال فيها فكنا نصرف النظر تألقا إلى الفكر ولكن بأداة إلى أراد شهود البصر وإن كانت الأدوات يدخل بعضها في مكان بعض ولكن لا يعرف ذلك إلا بقرائن الأحوال وهي‏

إذا استحال أن يكون حكم هذه الأداة بالوضع في هذا الموضع علمنا أنها بدل وعوض من أداة ما يستحقه ذلك الوضع وهذا معلوم في اللسان وبهذا اللسان أنزل القرآن كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين‏

وقال تعالى وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فلا بد أن يجري به على ما تواطئوا عليه في لحنهم فاعلم ذلك فتأمل فيما أوردناه في نظمنا هذا الذي أذكره‏

فلا يدري اللطيف سوى لطيف *** وعين اللطف في عين الكثافة

فهذا عين هذا يا خليلي *** فقف بين الكثافة واللطافة

تحز قصب السباق بكل وجه *** كما قد حازه أهل العيافة

وكن عبد عبد اللطيف بكل وجه *** تنل ما ناله أهل القيافة

من إدخال السرور على رسول *** نقي الثوب من أهل النظافة

وهذه حضرة نلت منها في خلقي الحظ الوافر بحيث إني لم أجد أحدا فيمن رأيت وضع قدمه فيها حيث وضعت لا إن كان وما رأيته لكني أقول أو أكاد أقول إنه إن كان ثم فغايته أن يكون معي في درجتي فيها وأما أن يكون أتم فما أظن ولا أقطع على الله تعالى فإسراره لا تحد وعطاياه لا تعد وقد بينا في الأحوال من هذا الكتاب في باب اللطيفة ما يقتضيه هذا الاسم الإلهي في أهل الله وما يطلبه بالوضع في اللسان والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الخبرة والاختبار وهي حضرة الابتلاء بالنعم والنقم»

إن الخبير هو المبلى إذا نظرت *** عيناك نعمة من يبلي بها البشرا

وإن يكن نقمة منه حباك بها *** إن السعيد الذي ما زال مفتقرا

[الخبير وهو كل علم حصل بعد الابتلاء]

يدعى صاحبها عبد الخبير قال تعالى فاسأل به خبيرا وهو كل علم حصل بعد الابتلاء قال تعالى ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وقال ونَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ وقال لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بخلقه الموت والحياة وهذا لإقامة الحجة فإنه يعلم ما يكون قبل كونه لأنه علمه في ثبوته أزلا وأنه لا يقع في الكون إلا كما ثبت في العين وما كل أحد في العلم الإلهي له هذا الذوق فتعلق علم الخبرة تعلق خاص وأصل الابتلاء الدعوى كانت ممن كانت فمن لا دعوى له لا يبتلى وما ثم إلا من له دعوى والتكليف ابتلاء فأصله عن دعوى وقد عم من يدعي ومن لا يدعي أي من لا دعوى له عامة فلا يبالي من لا دعوى له فإنه يحشر مع من لا دعوى له أصلا وما هو ثم أعني في الوجود ولا تكليف عليه كالمغصوب على نفسه يجازى بنيته لا بما ظهر منه‏

كالجيش الذي يخسف به بين مكة والمدينة وفيه من غصب على نفسه في المجي‏ء فقالت عائشة في ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال يحشرون على نياتهم وإن عمهم الخسف‏

كما قال واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تعم المحق والظالم وتختلف أحوالهم في القيامة فيحشر المحق سعيد أو الظالم شقيا فحيث كانت الدعوى كان الاختبار ومن وصف نفسه بأمر توجه عليه الاختبار وقد قال الله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والايمان يقطع بصدق هذا القول ولكن لا يظهر حكمه مشاهدة عين إلا في المسرفين وهم المذنبون فكأنه قال لهم اعصوا حتى تعرفوا ذوقا صدق قولي في مغفرتي إذا كان أمير المؤمنين المأمون يقول لو علم الناس حبي في العفو لتقربوا إلي بالجرائم وهو مخلوق فما ظنك بالكريم المطلق الكرم فلا يختبر إلا بإتيان الذنوب وقد قال لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ويتوبون فيغفر الله لهم وهذا القول من النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الحقيقة فيه تقديم وتأخير

إلا أنه ستره ليبين فضل العالم بأصول الأمور على غير العالم فهو بقول‏

لو لم تذنبوا إلجاء الله بقوم مذنبون فيغفر لهم‏

كما جاء في نص القرآن ثم يقول بعد قوله فيغفر لهم فيتوبون أي يرجعون إلى الله في قوله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لأنه لا غافر إلا هو وأما إذا تاب قبل المغفرة فالحكم للتوبة لا للكرم الإلهي وإنما يكون الكرم عند ذلك كونه أعطاه التوبة والتوبة محاءة والقرآن ما ذكر توبة والرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا يخالف القرآن ولكن ثم قوم يغفر لهم من غير توبة وثم قوم يعطيهم الله التوبة فالتوبة قد جعلها الله تتضمن المغفرة فكأنها للتائب‏

بشرى معجلة في هذه الدار فأدخل الحق نفسه في الدعوى ليمشي حكمها في الخلق ثم طلب بالابتلاء صدق الدعوى ليبين للعباد صدق دعواه فإذا ادعيت فليكن دعواك بحق وانتظر البلاء وإن لم تدع فهو أولى بك ولكن كن محلا لجريان الأقدار عليك وكن على علم أنه لا يجري عليك إلا ما كنت عليه حتى تعلم أن الحجة البالغة لله فإنه يقول كذا علمتك وما علمتك إلا منك ولو كان كما يتخيله بعض الناس ومن لا علم له بسر القدر يقول لو مكنني الله من الاحتجاج لقلت أنت فعلت كما قال أبو يزيد ولكن قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْئَلُونَ فسد الباب هذا القول ما يقع إلا من جاهل بالأمر بل فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ في قوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فإنه ما فعل من نفسه ابتداء وإنما فعل بك في وجودك ما كنت عليه في ثبوتك ولهذا قال وهُمْ يُسْئَلُونَ وقد أطلعهم الله عند ذلك على ما كانوا عليه وإن علمه ما تعلق بهم إلا بحسب ما هم عليه فيعرفون إذا سألوا أنه تعالى ما حكم فيهم إلا بما كانوا عليه وإذا سألوا وهم يشهدون اعترفوا فيصدق قوله فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيأخذها الناس إيمانا ونحن وأمثالنا نأخذها عيانا فنعلم موقعها ومن أين جاء بها الحق لا إله إلا هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الحلم»

ليس الحليم الذي تجني فيهملكم *** إن الحليم الذي تجني فيمهلكم‏

فضلا عليكم وإحسانا لعلكم *** في شأن حال يرى منكم تململكم‏

فإن رآه على قول فإن له *** شكرا على حال أعطاه تفضلكم‏

عليكم لا عليه حين يشكركم *** لديه في حقه منكم يبدلكم‏

[إن الإمهال من القادر عبارة عن تأخير الأخذ العبد]

يدعى صاحبها عبد الحليم وهي حضرة الإمهال من القادر على الأخذ فيؤخر الأمر ويمهل العبد ولا يهمله وإنما يؤخره لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ولا يمحوه لأنه يبدله بالحسنى فيكسوه حلة الحسن وهو هو بعينه ليظهر فضل الله وكرمه على عبيده ولهذا وصف الذنوب بالمغفرة وهي الستر وما وصفها بذهاب العين وإنما يسترها بثوب الحسن الذي يكسوها به لأنه تعالى لا يرد ما أوجده إلى عدم بل هو يوجد على الدوام ولا يعدم فالقدرة فعالة دائما ولهذا يكسو الأعراض التي لا تقوم بنفسها صور القائمين بأنفسهم ويجعل ذلك خلعا عليها وقد جاء وزن الأعمال وشبهها بمثاقيل الذر ويؤتى بالموت وهو نسبة والنسب أخفى من الأعراض في صورة كبش أملح فقد خلع على هذه النسبة صورة كبش أبيض فما أعدم النسبة بعد تحققها بنعت من نعوت الوجود بما لها من الحكم في الموجودات فلم يردها إلى حكم العدم فأحرى ما هو موصوف بالوجود العيني فلهذا وصف نفسه بالغفار والحليم وهو الإمهال فما أهمل حين أمهل ولا أعدم حين حكم فإنه ما شأنه إلا الإيجاد ولهذا قال إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ والذهاب انتقالكم من الحال التي أنتم فيها إلى حال تكونون فيها ويكسو الخلق الجديد عين هذه الأحوال التي كانت لكم لو شاء لكنه ما شاء فليس الأمر إلا كما هو فإنه لا يشاء إلا ما هي الأمور عليه لأن الإرادة لا تخالف العلم والعلم لا يخالف المعلوم والمعلوم ما ظهر ووقع ف لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله فإنها على ما هو عليه ومن شأن هذه الحضرة إثبات الاقتدار فإن صاحب العجز عن إنفاذ اقتداره لا يكون حليما ولا يكون ذلك حلما فلا حليم إلا أن يكون ذا اقتدار ولما كانت المخالفة تقتضي المؤاخذة فأفسد الحلم حكمها في بعض المذاهب ولذلك يقال حلم الأديم إذا فسد وتشقق وكذلك حلم النوم أفسد المعنى عن صورته لأنه ألحقه بالحس وليس بمحسوس حتى يراه من لا علم له بأصله فيحكم عليه بما رآه من الصورة التي رآه عليها ويجي‏ء العارف بذلك فيعبر تلك الصورة إلى المعنى الذي جاءت له وظهر بها فيردها إلى أصلها كما أفسد الحلم العلم فأظهره في صورة اللبن وليس بلبن فرده رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بتأويل رؤياه إلى أصله وهو العلم فجرد عنه تلك الصورة وفي تلك الصورة يكون حكم الحلم فلذلك نقول إنه أفسد صورة العلم فرده رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم والعابر المصيب كان من كان إلى أصله وأزال عنه ما أفسده الحلم ومن هنا تعرف ما للحق من رتبة الأحلام جاء رجل إلى ابن سيرين وكان إماما في التعبير للرؤيا فقال له إني رأيت أرد الزيت في الزيتون فقال أمك تحتك فبحث الرجل عن ذلك فإذا به قد تزوج أمه وما عنده ولا عندها خبر بذلك وأين صورة نكاح الرجل أمه‏

من صب الزيت في الزيتون وإذا رأى صاحب الرؤيا الأمر كما هو عليه في نفسه فليس بحلم وإنما ذلك كشف لا حلم سواء كان في نوم أو يقظة كما إن الحلم قد يكون في اليقظة كما هو في النوم كصورة دحية التي ظهر بها جبريل عليه السلام في اليقظة فدخلها التأويل ولا يدخل التأويل النصوص وأما قول إبراهيم لابنه وقد رأى أنه يذبح ابنه فأخذ بالظاهر على إن الأمر كما رآه وما كان إلا الكبش وهو الذبح العظيم ظهر في صورة ابنه فرأى أنه يذبح ابنه فذبح الكبش فهو تأويل رؤياه على غير علم منه وفَدَيْناهُ يعني تلك الصورة وهي ابنه التي رآها إبراهيم عليه السلام بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وهو الكبش فما ذبح لا كبشا في صورة ولده فأفسد الحلم صورة الكبش في المنام فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ وكيف ترى وأين ترى وكن على علم في أحوالك كلها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة العظمة»

إن العظيم الذي تعظمه *** أفعاله ليس من يقول أنا

ومن يقل إنما تعظمه *** أحسابه لا أرى له ثمنا

فلا تعظمه أنه رجل *** يحشر يوم الحساب في الجبنا

يدعى صاحبها عبد العظيم وحال هذا العبد الاحتقار التام مع كونه محلا للعظمة فيفنيه عند نفسه وما رأيت أحدا يحكم هذا المقام إلا شخصا واحدا من حديثه الموصل وأخبرني شيخي أبو العباس العريبي من أهل العليا من غرب الأندلس أنه رأى واحدا أيضا من أهل هذه الحضرة وقد تلبس كالحلاج فيعظم جسمه في أعين الناظرين بالأبصار وأما حكمها في النفوس فكثير الوقوع فإنه تقع أمور كثيرة يعظم في النفوس قدرها بحيث لا تتسع النفس لغيرها ولا سيما في الأمور الهائلة التي تؤثر الخوف في النفوس ومن يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فَإِنَّها من تَقْوَى الْقُلُوبِ ومن يُعَظِّمْ حُرُماتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ولكن في نفس الموحد يشاهد عظمته في نفس المشرك لا في نفسه فيشاهده ظلمة عظيمة إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ فيها لَمْ يَكَدْ يَراها و

[أن العظمة حال المعظم اسم فاعل لا حال المعظم اسم مفعول‏]

اعلم أن العظمة حال المعظم اسم فاعل لا حال المعظم اسم مفعول إلا أن يكون الشي‏ء يعظم عنده ذاته فعند ذلك تكون العظمة حال المعظم لأن المعظم اسم فاعل ما عظمت عنده إلا نفسه فهو من كونه معظما نفسه كانت الحال صفته وما عظم سوى نفسه فالعظمة حال نفسه وهذه الحالة توجب إلهية والإجلال والخوف فيمن قامت بنفسه قال بعضهم‏

كأنما الطير منهم فوق أرؤسهم *** لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال‏

لما في قلوبهم من هيبته وعظمته وقال الآخر

أشتاقه فإذا بدا *** أطرقت من إجلاله‏

لا خيفة بل هيبة *** وصيانة لجماله‏

وهذه الأسباب كلها موجبات لحصول العظمة في نفس هذا المعظم إلا أن عظمة الحق في القلوب لا توجبها إلا المعرفة في قلوب المؤمنين وهي من آثار الأسماء الإلهية فإن الأمر يعظم بقدر ما ينسب إلى هذه الذات المعظمة من نفوذ الاقتدار وكونها نفعل ما تريد وراد لحكمها ولا يقف شي‏ء لأمرها فبالضرورة تعظم في قلب العارف بهذه الأمور وهي العظمة الأولى الحاصلة لمن حصلت عنده من الايمان والمرتبة الثانية من العظمة هي ما يعطيه التجلي في قلوب أهل الشهود والوجود من غير إن يخطر لهم شي‏ء من تأثير الأسماء ولا من الأحكام الإلهية بل بمجرد التجلي تحصل العظمة في نفس من يشاهده وهذه العظمة الذاتية ولا تحصل إلا لمن شاهده به لا بنفسه وهو الذي يكون الحق بصره ولا أعظم من الحق عند نفسه فلا أعظم من الحق عند من يشهده في تجليه ببصر الحق لا ببصره فإن بصر كل إنسان وكل مشاهد بحسب عقده وما أعطاه دليله في الله وهذا الصنف من أهل العظمة خارج عما ارتبطت عليه أفئدة العارفين من العقائد فيرونه من غير تقييد فذلك هو الحق المشهود فلا يلحق عظمتهم عظمة معظم أصلا وما أحسن ما جاء هذا الاسم حيث جاء في كلام الله ببنية فعيل فقال عظيم وهي بنية لها وجه إلى الفاعل ووجه إلى المفعول ولما كان الحق عظيما عند نفسه كان هو المعظم والمعظم فأتى بلفظ يجمع الوجهين كالعليم سواء وقد يرد هذا البناء ويراد به الوجه الواحد من الوجهين‏

كالاسم الحليم هذا لسان الظاهر وعلم الرسم وأما علم الحقيقة المعتمد عليه عند العارفين فكل فعيل في أسماء الحق وصفاته ونعوته كالحليم والعليم والكريم فلا فرق بين هذه الأسماء وبين العظيم في دلالتها على الوجهين وذلك لكونه هو الظاهر في مظاهر أعيان الممكنات فما حلم إلا عنه ولا تكرم إلا عليه أ لا ترى حكم إيجاد المرجح لا يكون إيجاده عند المتكلمين إلا بالقدرة أو القادرية عند بعضهم أو بكونه قادرا عند طائفة فهو القادر ولا يترجح الممكن إلا بالإرادة كما قلنا في القدرة على ذلك الترتيب والمساق فهو المريد فالمريد إذا أراد ترجيح الوجود على العدم في المخلوق إن لم يكن هو القادر على ذلك وإلا فعدم الإرادة أو وجودها على السواء فيحتاج المريد إلى القادر بلا شك والعين واحدة ما ثم عين زائدة مع اختلاف الحكم فلهذا قلنا في هذا البناء في حق الحق بطلب الوجهين ولا يقدر أحد من الطوائف من العلماء بالله على مثل هذا العلم الإلهي إلا العلماء الراسخون من أهل الله الذين هوية الحق علمهم كما هي سمعهم وبصرهم فاعلم ذلك والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الشكر»

شكور من أتى الكرم المسمى *** كما قد جاء في نص الكتاب‏

ليطعم من قدور راسيات *** جياعا في جفان كالجوابي‏

ولا يبغي على ما كان منه *** من إطعام إلى يوم الحساب‏

ثناء لا ولا حمدا وذكرا *** ولا نوعا من أنواع الثواب‏

[إن الشكر عند من رأى النعمة من الله تعالى‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الشكور وعبد الشاكر وهي لصفة الكلام المنسوب إلى الحق قال تعالى اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ يعني المبالغة في الشكر وهو أن يشكر الله حق الشكر وذلك بأن يرى النعمة منه‏

ذكر ابن ماجة في سننه حديثا وهو أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى اشكرني حق الشكر فقال موسى عليه السلام ومن يقدر على ذلك يا رب فقال له إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني‏

فمن لا يرى النعمة إلا منه فقد شكره حق الشكر لا تراها من الأسباب التي سد لها بينك وبينه عند إرداف النعم فإن النعم أشياء لا تتكون إلا عنه من الوجه الخاص الذي لكل كائن وقال من هذه الحضرة لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ووصف نفسه بشكره عباده طلبا للزيادة منهم مما شكرهم عليه مقابلة نسخة بنسخة لأنه على صورته وهو يريد أن يوقفك على صحة هذه النسخة فإنه ما كل نسخة تكون صحيحة ولا بد قد تختل منها أمور فلذلك شرعت المعارضة بين النسختين فما أخرج الناسخ منها أثبت بالمعارضة لتصح النسخة ومن الأمر الواقع في المنتسخ منه أنه شاكر وشكور عبادة ثم طالبهم بالشكر ليظهروا بصفته من كونهم على صورته ثم عرفهم إن الشكر يقتضي لذاته الزيادة من المشكور مما شكر من أجله وهو المعروف الذي سد له وأسداه إلى عباده فإذا علم ذلك علم إن الحق تعالى يطلب الزيادة من عباده في دار التكليف مما كلفهم فيها من الأعمال وجعل استيفاء حقه أن يرى العبد النعمة منه عز وجل فكان تنبيها من الله لعبده في تفسير حق الشكر إن الحق يرى النعمة من العبد حيث أعطاه العلم به كما قلنا إن العلم يتبع المعلوم فهو يجعل التعلق به في نفس العالم فيتصف العالم بالعلم فيشكره الحق على ذلك فيزيده العبد بتنوع أحواله تعلقات لم يكن عليها تسمى علوما وهذا الذي أشرنا إليه من أصعب العلوم علينا لشدة غوصها وهي سريعة التفلت ومن علم هذا علم قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ فما قال حتى نعلم حتى كلف وابتلي ليعلم ما يكون منه فيما أتاه به وقد علم منه ما يكون في حال ثبوته إلا أن الممكن إذا تغيرت عليه الأحوال يعلم أنه كان في عينه في حال ثبوته بهذه الصفة ولا علم له بنفسه فإن الإنسان قد يغفل عن أشياء كان علمها من نفسه ثم يذكرها وهو قوله وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ وقوله ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ولب الشي‏ء سره وقلبه وما حجبه إلا صورته الظاهرة فإنها له كالقشر على اللب صورة حجابية عليه لعينه الظاهرة فهو ناس لما هو به عالم وأخفى منه في التشبيه الزهرة مع الثمرة هي الدليل عليها والحجاب والحال الإلهي كالحال الكوني لأنه عينه ليس غيره فما شكر إلا نفسه لأنه ما أنعم إلا هو ولا قبل الإنعام ولا أخذه إلا هو فالله المعطي والآخذ كما قال إن الصدقة تقع بيد الرحمن فإنه يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ويد السائل صورة

حجابية على يد الرحمن فتقع الصدقة في يد الرحمن قبل وقوعها في يد السائل وإن شئت قلت إن يد السائل هي يد المعطي فيشكر الحق عبده على ذلك الإنعام ليزيده منه‏

يقول الله عز وجل جعت فلم تطعمني فطالبه الحال بالتفسير فقال له وكيف تطعم وأنت رب العالمين قال تعالى أما إن فلانا جاع فاستطعمك فلم تطعمه أ ما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي وكذا جاء في المرض والسقي أي أنا كنت أقبله لا هو والحديث في صحيح مسلم‏

وعند هذا القول كان الحق صورة حجابية على العبد وعند الأخذ والعطاء كان العبد صورة حجابية على الحق فإذا شهدت فاعلم كيف تشهد ولمن تشهد وبمن تشهد وعلى من تشهد فلتشكر على حد شهودك ولتقبل الزيادة ولتعط أيضا الزيادة على شهود وتحقيق وجود وموجب الشكر الإنعام والنعم وأعظم نعمة تكون النكاح لما فيه من إيجاد أعيان الأمثال فإن في ذلك إيجاد النعم الموجدة للشكر ولذلك حبب الله إليه النساء وقواه على النكاح أعني لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وأثنى على التبعل وذم التبتل فحبب النساء إليه لأنهن محل الانفعال لتكوين أتم الصور وهي الصورة الإنسانية التي لا صورة أكمل منها فما كل محل انفعال له هذا الكمال الخاص فلذلك كان حب النساء مما امتن الله به على رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حيث حبهن إليه مع قلة أولاده صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلم يكن المراد إلا عين النكاح مثل نكاح أهل الجنة لمجرد اللذة لا للإنتاج فإن ذلك راجع إلى إبراز ما حوى عليه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من ذلك وهذا أمر خارج عن مقتضى حب المحل المنفعل فيه التكوين أ لا ترى الحق إن فهمت معاني القرآن كيف جعل الأرض فراشا وكيف خلق آدم منها وجعله محل الانفعال ونطق‏

رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بقوله الولد للفراش‏

يريد المرأة أي لصاحب الفراش كما كان آدم عليه السلام حيث جعله خليفة فيمن خلق فيها ليكون أيضا صاحب فراش لأنه على صورة من أوجده فأعطاه قوة الفعل كما أعطاه قوة الانفعال فكان وطاء وغطاء فالحق هو الشاكر المشكور

وفي الشكر أسرار يراها ذوو الحجى *** يفوز بها عبد الشكور إذا شكر

ومن أجل ذا سمي الإله لعبده *** على لغة الأعراب الفرج بالشكر

لما فيه من الزيادة على الالتذاذ بالنكاح وهي ما يتولد فيه عن النكاح من الولد الروحاني والجسماني دنيا جسما وآخرة روحا وقد ذكرنا ذلك في توالد الأرواح من هذا الكتاب وبينا ذلك أيضا في القصيدة الطويلة الرائية التي أولها

اعترضت عقبة *** وسط الطريق في السفر

وهذا القدر من الإيماء كاف في معرفة هذه الحضرة الإلهية والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة العلو»

تواضع فالإله هو العلي *** له التنزيه منا والعلو

فقل إن شئت فرد لا يداني *** وقل ما شئته فالأمر تو

فليس سوى الذي قد قام عندي *** إله ما له إلا السمو

وليس سوى الذي قد قام عندي *** عبيد ما له إلا الدنو

فلا تغلو فديتك يا خليلي *** فإن الدين يفسده الغلو

[العرش والعلو]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد العلي قال الله عز وجل الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ وكان شيخنا العريبي يقف في هذه الآية على العرش ويبتدئ استوى لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ وما بَيْنَهُما وما تَحْتَ الثَّرى‏ أي ثبت له وكل ما سوى الله عرش له علو قدر ومكانه في قلوب العارفين به من علماء النظر وغيرهم من العلماء فعلوه تعالى بهذا التفسير مطلق وبقي علو المكان الذي أثبته الايمان بالخبر الصدق ودل عليه عند العلماء بالله من طريق الشهود صور التجلي فهو بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ لاستوائه ولما كان أعلى الموجودات وأعظمها من وجب له الوجود لنفسه استقلالا وكان له الغني صفة ذاتية لم يفتقر إلى غيره كان بالاسم العلي أولى وأحق وكان من كان وجوده بغيره مستوي لهذا العلي وليس إلا الله فمن هذه الحضرة ظهر العلو فيمن علا في الأرض كفرعون الذي قال الله تعالى فيه إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وجعل العلو

في الإرادة في بعض الناس وذمهم بذلك فقال تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ ونعني بالدار الآخرة هنا الجنة خاصة دون النار نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وسواء حصل لهم ذلك المراد أو لم يحصل فقد أرادوه وحصل في نفوسهم وما بقي إلا أن يحصل في نفوس الغير الذي كني عنها بالأرض والعلماء بالله لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ لأنه علو مكتسب ولا يريدون ما يقع عليه اسم الكسب وإنما يريدون ما تقتضيه ذواتهم من حيث ما يشهدون من افتقروا إليه في وجودهم خاصة فما لهم نظر إلا إليه لا فيه لأنه ممنوع لنفسه أعني النظر فيه الذي هو الفكر في ذاته فالذي يعطي العلو هذه الحضرة إنما هو السعادة لا التكبر فالعلو الذي تعطي هذه الحضرة لأجل السعادة إنما هو علمهم بذواتهم ليعلموا أن الحادث في مقام الانحطاط عما يجب لله من العلو ويكفيهم من العناية الإلهية إن حصلوا مع الحق في باب الإضافة

أي بهم كان عليا *** وبه كانوا سفالا

لم أجد لله فينا *** غير ما قلنا مثالا

فهو التاج علينا *** عند ما كنا نعالا

وهو البدر المسمى *** عند ما كان هلالا

صير الإله ذاتي *** لرحى الكون ثقالا

فله التعظيم منا *** جل قدرا وتعالى‏

جعل الإله فينا *** لشيوخنا محالا

فإذا لم يستفلوا *** كان جعلهم محالا

وإذا هم استفلوا *** لم أجد عنهم زوالا

فبذاتي وبربي *** كنت حرما وحلالا

وبربي لا بكوني *** صير الضعف محالا

وسقاني كأس حظي *** طيبا عذبا زلالا

فلصحوي عند شربي *** لم أجد منه خبالا

ولسكري منه أيضا *** كنت في نفسي خيالا

لم يكن فيه سوائي *** للذي شاء انتقالا

لم أجد عند انتقالي *** عنه في نفسي كلالا

فنعم لم أر فيه *** عند ما قلت ولا لا

ثم لم يكن سكوت *** عند قولي واستحالا

فلذا قد حرت فيه *** ولذا ذقت وبالا

جبت غربا ثم شرقا *** وجنوبا وشمالا

ثم أنشأنا سحابا *** من عطاياه ثقالا

ثم نودينا وجدتم *** في وجودكم منالا

وما حصل التشريف للممكنات إلا بإضافتها إلى الله وهذا التشريف في حقنا هو أعظم تشريف إمكاني فعلو الإنسان عبودته لأن فيها عينه وعين سيده والمتلبس بصفة سيده لابس ثوب زور ليس عليه منه شي‏ء ولا تقبله ذاته وهو يعلم ذلك من نفسه وإن جهله غيره واعترف له بالعلو عليه فمن وجه ما لا من جميع الوجوه فإنه يعلمه أنه هو فهوية ما سوى الحق معلومة لا تجهل ولو لا معقولية المكانة ما اعترف مخلوق بعلو مخلوق فلهذا لا يعظم أحد في عين أحد لذاته إلا المحبوب خاصة فإنه يعظم في عين محبه لذاته فكل شي‏ء يكون منه يتلقاه المحب الصادق الحب بالقبول والرضي وما كل محب محب لأن طلب الغرض من المحب لا يصح في الحب الصادق الذي استفرغ قواه وإنما ذلك لمن بقيت فيه فضلة يعقل بها أنه محب وإن محبوبه غير له ولما وصف الحق نفسه بالنزول كان هذا النزول عين الدليل على نسبة العلو لأنه لو وقف مع قوله عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ واكتفى ولم يذكر النزول وكل جزء من الكون عرشا له لأنه ملكه فما تحقق له العلو إلا باتصافه بالنزول إلى السماء الدنيا فأثبت له علو المكان وأثبت الاستواء على العرش المكانة والقدر فبالاستواء هو في السَّماءِ إِلهٌ وفي الْأَرْضِ إِلهٌ وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وبالنزول ظهر الحد والمقدار فعلمنا بالنزول في أي صورة تجلى ولمن نزل وتدلى لَهُ الْحَمْدُ أي عاقبة الثناء ترجع إليه في الْأُولى‏ وهو الاستواء والْآخِرَةِ وهو النزول فعم علوه وتحقق دنوه فطوبى للتائبين والداعين والمستغفرين فيا ليت شعري هل يسمعون قوله تعالى ذلك نعم العارفون يسمعونه وأهل الحضور مع إيمانهم بهذا الخبر يسمعونه وما عدا هذين الصنفين فلا يسمعه وما عرفنا الله تعالى بأنه كلم مُوسى‏ تَكْلِيماً إلا لنتعرض إلى هذه النفحة الإلهية والجود لعل نسيما يهب علينا منها فيأخذ الناس هذا التعريف بأن الله كلم موسى ثناء على موسى عليه السلام خاصة نعم هو ثناء

ولكن ما أثنى الله بشي‏ء على أحد من المخلوقين إلا وفيه تنبيه لمن لم يحصل له ذلك الأمر أن يتعرض لتحصيله جهد الاستطاعة فإن الباب مفتوح والجود ما فيه بخل وما بقي العجز إلا من جهة الطالب ولهذا يقول من يدعني فاستجيب له ومن نكرة فما وقع العجز إلا منا وهنا الحيرة لأنا ما ندعوه لا بتوفيقه وتوفيقه إيانا لذلك من عطائه وجوده واستعداد كنا عليه به قبلناه فتأهلنا لدعائه وإجابته إيانا فيما دعوناه به على ما يرى الإجابة فيه فهو أعلم بالمصالح منا فإنه تعالى لا ينظر لجهل الجاهل فيعامله بجهله وإنما الشخص يدعو والحق يجيب فإنه اقتضت المصلحة البطء أبطأ عنه الجواب فإن المؤمن لا يتهم جانب الحق وإن اقتضت المصلحة السرعة أسرع في الجواب وإن اقتضت المصلحة الإجابة فيما عينه في دعائه أعطاه ذلك سواء أسرع به أو أبطأ وإن اقتضت المصلحة أن يعدل مما عينه الداعي إلى أمر آخر أعطاه أمر آخر لا ما عينه فما جاز الله لمؤمن في شي‏ء إلا كان له فيه خير فإياك إن تتهم جانب الحق فتكون من الجاهلين وأنت من الجاهلين ولو أعطيت علم اللوح المحفوظ والقلم الأعلى والملائكة العلى وأما العالون من عباد الله الذين قال الله في توبيخه لإبليس حين أبي عن السجود لآدم أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ فهم الأرواح المهيمة في جلال الله فأعلاهم الحق أن يكون شي‏ء من الخلق لهم مشهودا ولا نفوسهم وهم عبيد اختصهم لذاته فالتجلي لهم دائم وهم فيه هائمون لا يعلمون ما هم فيه فعلوهم بين الاسم العلي وبيننا فهم لا يشهدون علو الحق لأنه لا يشهد علو الحق إلا من شهد نفسه وهم في أنفسهم غائبون فهم عن علو الحق ومكانته أشد غيبة والعلو نسبة فالأعلى من سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى إنما هو نعت أحدية من ادعى العلو أو أراد العلو فإذا زال كان عليا لأعلى والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الكبرياء الإلهي»

كبير القدر ليس له نظير *** كبير في النفوس وفي العقول‏

له في أنفس عندي قبول *** وليس لذاته بي من قبول‏

[الكبرياء رداء الله‏]

يدعى صاحبها عبد الكبير وهو عين العبد لأن الكبرياء رداء الحق وليس سواك فإن الحق تردى بك إذ كنت صورته فإن الرداء بصورة المرتدي ولهذا ما يتجلى لك إلا بك وقال من عرف نفسه عرف ربه‏

فمن عرف الرداء عرف المرتدي ما يتوقف معرفة الرداء على معرفة المرتدي وفي هذا غلط عظيم عند العلماء وما تفطنوا لمراد الحق في التعريف بنفسه فما وصف نفسه إلا بما نعرفه ونتحققه على حد ما نعرفه ونتحققه فإنه بلساني خاطبني لنعقل عنه فلو أحالنا عليه ابتداء لما عرفناه فلما أنزل كبرياءه منزلة الرداء المعروف عندنا علمنا ما الكبرياء ثم زاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في تجليه يوم القيامة في الزور الأعظم على كثيب المشاهدة في جنة عدن وذلك اليوم الكبير إنه تعالى يتجلى لعباده ورداء الكبرياء على وجهه ووجه الشي‏ء ذاته فحال الحجاب بينك وبينه فلم تصل إليه الرؤية فصدق لَنْ تَرانِي وصدقت المعتزلة فما وصلت الأعين إلا إلى الرداء وهو الكبرياء وما تجلى لك إلا بنا فما وصلت الرؤية إلا إلينا ولا تعلقت إلا بنا فنحن عين الكبرياء على ذاته‏

قال وسعني قلب عبدي‏

فإذا قلبت الإنسان الكامل رأيت الحق والإنسان لا ينقلب فلا يرجع الرداء مرتديا لمن هو له رداء فهذا معنى الكبير فإنه كبير لذاته والكبرياء نحن فمن نازعه منا فينا قصمه الحق لأنه جهل فإنه له ما رأيناه قط ولا نراه من حيث هو ونحن لنا فما نرى قط سوانا فلا يزال الكبرياء على وجهه في الدنيا والآخرة لأنا ما نزال وهذا عين افتقارنا واحتقارنا ووقارنا

لله يوم كبير لا يمتري فيه مؤمن *** له التحكم فينا بالاسم منه المهيمن‏

قال الله تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولكل رسول أن يقول لنا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ولا خوف علينا إلا منا فإن أعمالنا ترد علينا فنحن اليوم الكبير إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يعني مرجع اليوم ونعته بالكبرياء والشي‏ء لا ينازع في نفسه ولا فيما هو له فمن نازع الحق في كبريائه فما نازع إلا نفسه فعذابه عين جهله به ومن هنا تعرف أن الإحاطة لنا وليس سوى ما حزناه من صورته فإن الرداء يحيط بالمرتدي‏

فظاهر الحق خلق *** وباطن الخلق حق‏

ومن ذلك‏

إذا حزنا مقام الكبرياء *** فنحن له بمنزلة الوعاء

فلم ير غيرنا لما شهدنا *** فكنا منه عين الكبرياء

ولما كنا عين كبرياء الحق على وجهه والحجاب يشهد المحجوب فأثبت إنا نراه كما وسعناه فصدق الأشعري وصدق‏

قوله ترون ربكم‏

كما صدق لَنْ تَرانِي وللرداء ظاهر وباطن فيراه الرداء بباطنه فيصدق‏

ترون ربكم‏

ويصدق مثبت الرؤية ولا يراه ظاهر الرداء فيصدق المعتزلي ويصدق لَنْ تَرانِي والرداء عين واحدة وكان الفضل لهذه النشأة الإنسانية على جميع العالم فإن العالم كله دون الإنسان منحاز عن الإنسان متميز عنه فلا يشهد العالم سوى الإنسان الذي هو الرداء والرداء من حيث ظاهره يشهد من يشهده وهو العالم فيرى الحق ظاهر الرداء بما هو الحق العالم وهي رؤية دون رؤية باطن الرداء فالعالم له الإحاطة لأنه لا يتقيد بجهة خاصة فالحق وجه كله والرداء وجه كله فهو الظاهر تعالى للعبد من حيث العالم وهو الباطن لنفسه عن العالم من حيث ما له صورة في العالم ومن حيث إن الرداء بينه وبين العالم فإن الصورة التي للحق في عين العالم الحق لها باطن من حيث إن الرداء حائل بينه وبين الحق الذي العالم به فهو باطن لنفسه وللعالم ولا يصح أن يكون باطنا لباطن الرداء لكن لظاهره فالإنسان الكامل يشهده تعالى في الظاهر بما هو في العالم وفي الباطن بما هو مرتد فتختلف الرؤية على الإنسان الكامل والعين واحدة ولهذا ينكره بعض الناس في القيامة إذا تجلى والكامل لا ينكره فإنه ما كل إنسان له الكمال فما ينكره إلا الإنسان الحيوان لأنه جزء من العالم فإذا تجلى له في العلامة وتحول فيها عرفه لأنه ما يعرفه إلا مقيدا فالإمام تابع للمأموم في الأحوال والمأموم يتبع الإمام في الأفعال وفي بعض الأقوال فلو لا الكبرياء ما عرف الكبير

فقد بان عين الحق في عين نفسه *** وبان لذي عينين من كبرياؤه‏

وهذا وجود الجود ما ثم غيره *** وهذا صباح قد تلاه مساؤه‏

فإن كان وسمي فذاك ابتداؤه *** وما ولي الوسمي فهو انتهاؤه‏

فتبدو ثغور الروض ضاحكة به *** بما جاد من جود عليه عطاؤه‏

فما كان من روض فذاك وطاؤه *** وما كان من غيم فذاك غطاؤه‏

وما كان من مزن فعين نكاحه *** وما كان من شرب فذاك وعاؤه‏

فلاح لنا في قابل عند صيب *** بحيث يرى أبناؤه وابتناؤه‏

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وحَسْبُنَا الله في كل موطن ونِعْمَ الْوَكِيلُ‏

«حضرة الحفظ»

إن الحفيظ عليم بالذي حفظه *** وما سواه فإن العقل قد لفظه‏

فمن يقول به يليقه في خلدي *** مع الذي عين الكتاب والحفظة

إذا تلفظ شخص باسمه تره *** في نفسه طالبا بما به لفظه‏

[الحفظ الإلهي يمنع بين العبد وهواه‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الحفيظ قال تعالى ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وقال تعالى إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرى‏ يخاطب موسى وهارون عليه السلام وقال في سفينة نوح عليه السلام تَجْرِي بِأَعْيُنِنا يشير إلى أنه يحفظها لأن المحفوظ لا يختفي عنه ومن الناس من يحفظه الحفظ لأنه يريد أن يخلو بهواه والحفظ الإلهي يمنع من ذلك ويحول بينه وبين هواه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ فمن عصى الله واتبع هواه فما عصى إلا مجاهرة ولكن بعد عمى القلب حتى لا يجتمع النظرتان إذ لو اجتمعتا لاحترق الكون فإن بصر الحق إذا اجتمع به بصر العبد احترق العبد من فوره ومعلوم أن الله يدركه ببصره الآن في حق العبد فإن الحق ليس في الآن لكن ما اجتمع بصر العبد معه فيعلم بالمقدمتين ما ينتج بينهما فإن باجتماع البصرين وقع الحرق فما انحفظ العالم لا بكون البصرين ما اجتمعا على رؤية الكون ولذلك وصف نفسه إذا تجلى أن يكون رداء

الكبرياء على وجهه فلا يرتفع أبدا فإذا رأينا الحق متى رأيناه بأبصارنا نراه من حيث لا يرانا كما يرانا من حيث لا نراه فإنه يرانا عبيدا ونراه إلها ونراه به ويرانا بنا ومهما رآنا به فلا نراه به بل وهي الرؤية العامة ورؤية الخواص أن يروه به ويراه بهم فهو الذي يحفظ عليهم جودهم ليفيدهم ويستفيد من يستفيد منهم حتى نعلم إلى من هو دونه فهو الحفيظ المحفظ ولما سرى الحفظ في العالم فقال إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ وقال والْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحافِظاتِ وعم فقال والْحافِظُونَ لِحُدُودِ الله فحدودهم كان كل عين في العالم من حيث ما هي حافظة أمرا ما عين الحق ولهذا وصف نفسه بالأعين فقال تَجْرِي بِأَعْيُنِنا فإن مدبر السفينة يحفظها والمقدم يحفظها وصاحب الرجل يحفظها وكل من له تدبير في السفينة يحفظها بل يحفظ ما يخصه من التدبير فقال تعالى فيها إنها تجري بأعين الحق وما ثم إلا هؤلاء وهم الذين وكلهم الله بحفظها فالحق مجموع الخلق في الحفظ وفي كل ما يطلب الجمع ولهذا المقام في صنعة العربية بدل الاشتمال نقول أعجبني الجارية حسنها للاشتمال الذي هنا وأعجبني زيد علمه فالعلم بدل من زيد والحسن بدل من الجارية ولكن بدل اشتمال كما يكون في موضع آخر بدل الشي‏ء من الشي‏ء وهما لعين واحدة كقولهم رأيت أخاك زيدا فزيد أخوك وأخوك زيد فهكذا قوله كنت سمعه وبصره وقوله وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ إذ رميت فهذا بدل الشي‏ء من الشي‏ء وإن كان في هذا البدل رائحة من بدل البعض من الكل فقال أكلت الرغيف ثلثيه وليس في أنواع البدل بدل أحق بالحضرة الإلهية من بدل الغلط وهو الذي فيه الناس كلهم يظنون أنهم هم وما هم هم ويظنون أن ما هم هم وهم هم ولهذا لا يوجد بدل الغلط في كلام فصيح مثاله رأيت رجلا أسدا أردت أن تقول رأيت أسدا فغلطت فقلت رأيت رجلا ثم تذكرت إنك غلطت فقلت أسدا فأبدلت الأسد منه فالعارف يلزمه الأدب أن يضيف إلى الله كل محمود عرفا وشرعا ولا يضيف إليه ما هو مذموم عرفا وشرعا إلا إن جمع مثل قوله قُلْ كُلٌّ من عِنْدِ الله وكل يقتضي العموم والإحاطة وقوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها فالكشف والدليل يضيف إليه كل محمود مذموم فإن الذم لا يتعلق إلا بالفعل ولا فعل إلا لله لا لغيره فالعارف في بدل الغلط فإن عقله يخالف قوله فقوله في المذموم ما هو له ويقول في عقده وقلبه هو له عند قوله بلسانه ما هو له ومن لا يعلم أنه غلط يصمم على ما قاله أو على ما اعتقده فالله الحفيظ وهو بدل من الحفظة والحافظين وأعيننا فالحفظ يطلب الرؤية ولا بد والرؤية لا تطلب الحفظ ولا بد ولكن قد تجي‏ء للحفظ

لكل حفيظ في الوجود حفيظ *** وفي كل باب رحمة وكظيظ

فكن عبد لين في دعائك عبده *** إلى الله لافظ عليه غليظ

فكم بين محفوظ عليه وجوده *** وبين حفيظ ما عليه حفيظ

فكما إن ربك عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ فهو بكل شي‏ء محفوظ لأنه بالأشياء معلوم فالأشياء تحفظ العلم به عند العلماء به والعلم صفته والعلم المعلوم والمعلوم أعطاه العلم بنفسه فالمعلوم يحفظ عليه العلم ويزيل عنه العلم فهو يتقلب لتقلبه فحفظ الله علمه من حيث ما هو معلوم له‏

فحفظ الحق موسوم *** وحفظ الخلق معلوم‏

وما أربى على هذا *** فمدخول وموهوم‏

لأن المعلومات تحفظ على العالم بها علمه بها ولا عالم إلا الله على الحقيقة والحق يحفظ على العالم نسبة الوجود إليه فهو يحفظ عليه وجوده وإنما قلنا المعلومات لأن الحق معلوم لنفسه والخلق معلومون لله والحق ليس بمعلوم للخلق فقد علمنا ما يحفظ الحق وما يحفظ الخلق فإن زدت وقلت إن العالم يحفظ المعلوم فمدخول هذا القول وهو وهم من قائله لأن التابع بأمر المتبوع والعلم يتبع المعلوم فتفطن لهذا الأمر فإنه حسن يجعلك تنزل الأشياء منازلها وتحفظ عليها حدودها فتكون حفيظا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وإنما ألحقنا الحفظية بالحفظ لما وصف الحق بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله فلما كان لها حكم في الوجود الحق وسعى الانتقام‏

والعفو في إزالتها خفنا أن يعتقد إزالة عينها وما زالت إلا إضافتها فجعل محلها جهنم فهي غضب الله الدائم فهي تنتقم دائما في زعمها ولا تشعر بما يجد الساكن فيها وكذلك حياتها وعقاربها في لدغها ونهشها تلدغ انتقاما وتنهش غصبا لله وما عندها علم بما يجده الملدوغ إذا عمته‏

الرحمة من الالتذاذ إذ بذلك اللدغ فإنه بمنزلة الجرب بالحك أنت تدميه وهو يجد اللذة بذلك الإدماء وكلما قوى الحق عليه تضاعفت اللذة حتى أنه يبادر إلى حك نفسه بيده لما يجد في ذلك من الالتذاذ به مع سيلان دمه في ذلك الحك فجهنم دار الغضب الإلهي وحاملته والمتصفة به وكذلك من فيها من وزعة الغضب والمغضوب عليه بما يجده لا بما في نفوس هؤلاء ولكن لا يحصل لهم هذا إلا بعد استيفاء الحدود والإحساس بالآلام عند نضج الجلود فتبدل لذوق العذاب كما تبدلت الأحوال عليهم في الدنيا بأنواع المخالفات فلكل نوع عذاب ولهم جلد خاص يحس بالألم كما كان هنا دائما في تجديد خلق والناس في هذا التجديد في لبس فإذا انتهى زمان المخالفة المعينة انتهى نضج الجلد فإن شرع عند انتهاء المخالفة في مخالفة أخرى أعقب النضج تبديلا بجلد آخر ليذوق العذاب كما ذاق اللذة بالمخالفة وإن تصرف بين المخالفتين بمكارم خلق استراح بين النضج والتبديل بقدر ذلك فهم على طبقات في العذاب في جهنم ومن أوصل المخالفات ومذام الأخلاق بعضها ببعض فهم الذين لا يفتر عنهم العذاب فلما انتهى بهم العمر إلى الأجل المسمى انتهت المخالفة فتنتهي العقوبة فيهم إلى ذلك الحد وتكتنفهم الرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ولا تشعر بذلك جهنم ولا وزعتها أعني ما فيها من الحيوانات المضرة لا ملائكة العذاب فتبقى أحوال جهنم على ما هي عليه والرحمة قد أوجدت لهم نعيما لهم في تلك الصورة بحكمها فإن الرحمة هي السلطانة الماضية الحكم على الدوام فافهم ما أومأنا إليه فإنه من لباب الحفظ الإلهي حفظ المراتب ورَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة المقيت»

إن الذي قدر الأقوات أجمعها *** هو المقيت الذي لعبده شرعه‏

وهو الذي قدر الأوقات جملتها *** رزقا وخلقا ومصنوعا كما صنعه‏

[إن الرزق قوت المرزوق‏]

عبد المقيت هو أخ شقيق لعبد الرزاق فإن الرزق قوت المرزوق وهو على مقدار خاص لا يزيد ولا ينقص في كل شهوة في الجنان وفي كل دفع ألم وشهوة في الدنيا لأنها دار امتزاج ونشأة أمشاج فمن هذه الحضرة يكون القوت لكل من لا يقوم له بقاء صورة في الوجود إلا به ومن هذه الحضرة يكون تعيين أوقات الأقوات وموازينها كما قال تعالى في خلق الأرض وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي أعطى مقادير أوقات الأقوات وموازينها وهذه الأقوات عين الوحي الذي في السماء فالقوت في الأرض كالأمر في السماء وتقدير القوت في الأرض كالوحي في السماء وهو عينه لا غيره فأوحى في السماء أمرها وهو تقدير أقواتها وقدر في الأرض أقواتها

بروج السماء لها قوة *** بها يبعث الله أمواتها

وحكمتها في الثرى سيرها *** ليجمع بالسير أشتاتها

فإن الإله بناها لنا *** وعين بالسير أوقاتها

فكان غذاء لها وقتها *** وقدر في الأرض أقواتها

وهو وحي أمرها واختلفت الأسماء لاختلاف المحال والصور وعم بالسماء والأرض ما علا من العالم وما سفل وما في الوجود إلا عال وسافل ومن أسمائه العلى ورفيع الدرجات فأمر الأسماء وأقواتها أعيان آثارها في الممكنات فبالآثار تعقل أعيانها فلها البقاء بآثارها فقوت الاسم أثره وتقديره مدة حكمه في الممكن أي ممكن كان ومن هذه الحضرة وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ والخزائن عند الله تعلو وتسفل فأعلاها كرسيه وهو علمه وعلمه ذاته وأدنى الخزائن ما خزنته الأفكار في البشر وما بين هذين خزائن محسوسة ومعقولة وكلها عند الله فإنه عين الوجود فهي حضرة جامعة للاعيان والنسب والحدوث والقدم فالخلق والخالق والمقدور والقادر والملك والمالك كل واحد لصاحبه أمر وقوت فأمره في سمائه وهو علوه وقوته في أرضه وهو دنوه فإنا من أهل الأرض ونحن المخاطبون بهذا الخطاب ليس غيرنا ولهذا كان القرآن منزلا والنزول لا يكون إلا من علو كما العروج لا يكون إلا إلى علو

فمن سفل إلى علو عروج *** ومن علو إلى سفل نزول‏

وكل جاء في التنزيل فينا *** فمهما قلت فانظر ما تقول‏

ولما لم يكن في الكون إلا علة ومعلول علمنا إن الأقوات العلوية والسفلية أدوية لإزالة أمراض ولا مرض إلا الافتقار

فكل من في السماوات ومن في الأرض آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً والسماء والأرض أتيا إلى الرحمن طائعين وكل عبد فقير لسيده وخادم القوم سيدهم لقيامه بمصالحهم والعبد هو من يقوم في خدمة سيده لبقاء حقيقة العبودة عليه والسيد يقوم بمصالح عبيده لبقاء اسم السيادة عليه فلو فنى الملك فنى اسم المالك من حيث ما هو مالك وإن بقيت العين فتبقى مسلوبة الحكم لأنه لا فائدة للأشياء لا بأحكامها لا بأعيانها ولا تكون أحكامها إلا بأعيانها فأعيانها مفتقرة إلى أحكامها وأحكامها مفتقرة إلى أعيانها وأعيان من تحكم فيهم فما ثم إلا حكم وعين فما ثم إلا مفتقر ومفتقر إليه فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فأتى بكل وهي حرف شمول فشملت كل نفس فما تركت شيئا في هذا الوضع وسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ الذي ستر عنه هذا العلم في الحياة الدنيا لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ في الدار الآخرة حيث ينكشف الغطاء عن الأعين فيعلم من كان يجهل ويفضل عليه من علمه هنا في الحياة الدنيا وهم أهل البشرى وكل من تحقق أمرا كان بحسب ما تحققه‏

من قدر القوت فقد قدرا *** والقوت ما اختص بحال الورى‏

بل حكمه سار فقد عمنا *** ونفسه فانظر ترى ما ترى‏

كل تغذى فيه قام في *** وجوده حقا بغير افترا

فقوت القوت الذي يتقوت به هو استعماله فالمستعمل قوت له لأنه ما يصح أن يكون قوتا إلا إذا تقوت به فاعلم من قوتك ومن أنت قوته روينا عن عالم هذا الشأن وهو سهل بن عبد الله التستري أنه رضي الله عنه سئل عن القوت فقال الله فقيل له عن الغذاء نسألك فقال الله لغلبة الحال عليه فإن الأحوال هي ألسنة الطائفة وهي الأذواق فنبهه السائل على ما قدر ما أعطاه حاله في ذلك الوقت فقال يا سهل إنما أسألك عن قوت الأجسام أو الأشباح فعلم سهل أن السائل جهل ما أراده سهل فنزل إليه في الجواب بنفس آخر غير النفس الأول وعلم أنه رضي الله عنه جهل حال السائل كما جهل السائل جوابه فقال له سهل ما لك ولها يعني الأشباح دع الديار إلى بانيها إن شاء خربها وإن شاء عمرها فما زال سهل عن جوابه الأول لكن في صورة أخرى وعمارة الدار بساكنها فالقوت لله كما قال أول مرة إلا أن السائل قنع بالجواب الثاني لنزوله من النص إلى الظاهر وهكذا أكثر أجوبة العارفين إذا كانوا في الحال أجابوا بالنصوص وإذا كانوا في المقام أجابوا بالظواهر فهم بحسب أوقاتهم وهذا القدر من التنبيه على شرف هذه الحضرة كاف إن شاء الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(حضرة الاكتفاء)

إن الحسيب هو العليم بما لنا *** وبما له فالكل في الحسبان‏

لو تعلمون بما أقول وصدقنا *** فيه وفي الأكوان والإنسان‏

إني نطقت به وعنه وليس لي *** عين تنطقني سوى المحسان‏

[إن الحسيب يدخل في الصفات السبعة]

يدعى صاحبها عبد الحسيب وأدخلها القائلون بحصر الأسماء في الصفات السبعة في صفة العلم وقد جاء في مدلول هذه الحضرة الأمران الواحد مثاله وتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وأمثاله والثاني ومن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ أي به تقع له الكفاية فلا يفتقر إلى أحد سواه وعند الكشف يعلم المحجوب إن أحدا ما افتقر إلا إلى الله لكن لم يعرفه لتحليه في صور الأسباب التي حجبت الخلائق عن الله تعالى مع كونهم ما شاهدوا إلا الله ولهذا نبههم لو تنبهوا بقوله تعالى وهو الصادق يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله لعلمه بفقرهم إليه فلم يتنبه لهذا القول إلا من فتح الله عين فهمه في القرآن وعلم أنه الصدق والحق الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ فكلام الحق لا يعلمه إلا من سمعه بالحق فإنه‏

كلام لا يكفيه سماع *** كلام ما له فينا انطباع‏

فنسمعه ونتلوه حروفا *** بنظم لا يداخله انصداع‏

فقول الله هذا القول الساري القديم الطارئ من سمعه تكلم به ومن لم يسمعه ما سمع إلا هو ولم يتكلم به وما تكلم إلا به فصاحب الحجاب لا يعلم ذلك إلا بالخبر مثل قول الله فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ومثل المصلي إذا قال سمع الله لمن حمده وكل‏

مصل إذا كان فذا أو اماما يقول سمع الله لمن حمده هذا محل الإجماع وما كل قائل هذا يعلم أن الله هو القائل إلا إذا سمع هذا الخبر فهذا هو المحجوب وأما أهل الكشف والوجود فما يحتاجون إلى خبر بل يعلمون من هو السامع والقائل فهم غرقى في بحره لا يرجون موتا ولا حياة ولا نشورا

إني أكابد اللجج *** حتى أفوز بالثبج‏

وإنما العلم به *** في موج هذه اللجج‏

والسيف لا أرى له *** عينا فدع عنك الحجج‏

يا حضرة قد تلفت *** فيها النفوس والمهج‏

إن الفتى كل الفتى *** الأبيض في عين السبج‏

وما عليه في الذي *** يلقاه فيه من حرج‏

من كل ما يكرهه *** من قد نجا وما خرج‏

وما نجا منه سوى *** من مات فيه فدرج‏

وكل ما تحذره *** من ذات دل ودعج‏

فلا تخف فإنها *** نفسك في ثاني درج‏

وقد كثر الله في خطابه من قوله ولا تَحْسَبَنَّ ولا يَحْسَبَنَّ وعدد أمورا كثيرة هي مذكورة في القرآن يطول إيرادها وما منها آية فيها ولا تَحْسَبَنَّ أو يَحْسَبُ إلا وفيها قوة الاكتفاء لمن فهم وما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ من هذه الحضرة يحسب على المتنفس أنفاسه لأنها أنفاس معدودة محصاة عليه إلى أجل مسمى فلا بد أن يكون كما قلنا ولكن لا بما هي أنفاس وإنما بما تجري فيه إلى أمد معين وتلك حضرة بين العلم والجهل فهي حضرة التخمين والحدس والظن الذي لم يبلغ مبلغ العلم ولهذا جاء وحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وكانت الفتنة فما كان ما حسبوا وقال في طائفة وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً وما أحسنوا صنعا فهي شبهات في صور أدلة تظهر وليست أدلة في نفس الأمر فالكيس من يقف عندها ولا يحكم فيها بشي‏ء فإن لها شبها بالطرفين ومن هذه الحضرة نزلت الآيات المتشابهات التي نهينا عن الخوض فيها ونسبنا إلى الزيغ في اتباعها فإن الزيغ ميل إلى أحد الشبهين وإذا أولت إلى أحد الشبهين فقد صيرتها محكمة وهي متشابهات فعدلت بها عن حقيقتها وكل من عدل بشي‏ء عن حقيقته فما أعطاه حقه كما أعطاه الله خلقه والإنسان مأمور بأن يوفي كل ذي حق حقه ومن هذه الحضرة ظهرت الأعداد في أعيان المعدودات فلما تركب العدد في المعدود تخيل منه ما ليس له حكم في وجود عيني فهذه الحضرة أعطت كثرة الأسماء لله وهي كلها أسماء حسني تتضمن المجد والشرف بل هي نص في المجد والشرف فلهذا قيل فيه إنه تعالى حسيب والحسيب ذو الحسب الكريم والنسب الشريف ولا نسب أتم ولا أكمل في الشرف من شرف الشي‏ء بذاته لذاته ولهذا

لما قيل لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم انسب لنا ربك ما نسب الحق نفسه فيما أوحى إليه به إلا لنفسه وتبرأ أن يكون له نسب من غيره فأنزل عليه سورة الإخلاص قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ

فعدد ومجد فكانت له عواقب الثناء بما له من التحميد ثم أبان أن له الأسماء الحسنى وعين لنا منها ما شاء وأمرنا أن ندعوه بها مع أن له أسماء كل شي‏ء في العالم فكل اسم في العالم فهو حسن بهذه النسبة ومن هنا قالوا أفعال الله كلها حسنة ولا فاعل إلا الله هكذا حكم الأسماء التي تسمى بها العالم كله ولا سيما إن قلنا بقول من يقول إن الاسم هو المسمى وقد بينا أنه ما ثم وجود إلا الله وكذلك لو قلنا إن الاسم ليس المسمى لكان مدلول الاسم وجود الحق أيضا فعلى كل وجه ليس إلا الحق فما ثم وضيع فالكل ذو حسب صميم ومجد وشرف عميم وإنما الحسبان الذي رمى الله به روضة أحد الرجلين من السماء فأصبحت صَعِيداً زَلَقاً وأصبح ماؤها غورا فكونها أصبحت صعيدا زلقا أورثها الشرف وبما نعتها به من الزلق أورثها التنزيه والرفعة في الدرجة بما جعلها صعيد أو أزال عنها أنواع المخالفة بما أزال عنها من الشجر فإن الحسبان كان من السماء فأعطى مرتبة السمو لمن كان موصوفا بالأرض وهي الساترة من فيها ولهذا سميت جنة فما أبرز ما برز منها إلا جود السماء وهو المطر وجودها بحرارة الشمس فمن السماء ظهرت زينتها فالسماء كستها بحسبانها والسماء جردتها من زينتها بحسبانها فمن زينتها كثرت أسماؤها بما فيها من صنوف الثمر والأشجار والأزاهر ومن تجريدها وتنزيهها توحد اسمها وذهبت أسماؤها لذهاب زينها إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها وليس الأرض في الاعتبار سوى المسمى خلقا وليس زينتها سوى المسمى حقا فبالحق تزينت وبالحق تنزهت وتجردت عن ملابس العدد وظهرت بصفة الأحد وهذا كله من هذه الحضرة حضرة الاكتفاء وهو الاسم الإلهي الحسيب‏

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وهو قوله ويَهْدِي من يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏

«حضرة الجلال»

إن الجليل له الجلال الأعظم *** والجود والكرم العميم الأفخم‏

فإذا تخلق عبده بجلاله *** تعنو الوجوه له ومنه يعظم‏

وهو الذي سبق الجمال نفاسة *** فله التقدم والمقام الأقدم‏

وله التنزه في المعارج كلها *** وله التكرم والصراط الأقوم‏

يبدو فيظهره جمال وجوده *** يعلو فيحجبه الجلال المعلم‏

بحقيقة حوت الحقائق كلها *** ما قد علمت به وما لا يعلم‏

فانهض بها إن كنت تعرف قدرها *** ذوقا ولا تك في القيامة تندم‏

لا تفز عن لها فأنت من أهلها *** وأرحل إلى طلب المعالي تعصم‏

إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنهم *** ليبايعون الحق حقا فاعلموا

وأفشوا الذي جئنا به في حقه *** لا تكتموه فإنه لا يكتم‏

وانظر إليه من وراء حجابه *** تحظى به إن كنت ممن يفهم‏

إن كنت من أصحابه في غيبه *** فأنعم به إن كنت ممن ينعم‏

مهما بنيت الصرح أنت خليفة *** فاحذر إذا قام البناء يتهدم‏

إن البناء إذا تقوم بأمره *** لا يعتريه تقوض وتهدم‏

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الجليل قال تعالى وجل وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِلهٌ وفي الْأَرْضِ إِلهٌ وفي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وما تُوعَدُونَ‏

جعل الرزق والبناء جميعا *** في سماء وما لها من فروج‏

ثم لا بد للعبيد إليها *** حين يدعون نحوها من عروج‏

إنما الخلق إن نظرتم إليهم *** تجدوهم في كل أمر مريج‏

دون علم فهم حيارى سكارى *** في خروج إن كان أو في ولوج‏

[من حضرة الجلال ظهرت الألوهة]

فمن نسبة الجلال إليه له الاسم ومن حضرة الجلال ظهرت الألوهة وعجز الخلق عن المعرفة بها ومن هذا الاسم يعلم سركم في الأرض لما فيكم من نسبة الباطن وجهركم لما فيكم من نسبة الظاهر لارتفاعكم عن تأثير الأركان فكل عظيم فهو جليل وكل حقير فهو جليل فهو من الأضداد وقيل لأبي سعيد الخراز بم عرفت الله فقال بجمعه بين الضدين ثم تلا هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ يعني من عين واحدة وفي عين واحدة ثم نرجع ونقول ولا أحقر ممن يسأل أن يطعم لإقامة نشأته وإبقاء الحياة الحيوانية عليه وعلى قدر الاحتقار يكون الافتقار وأي افتقار أعظم ممن لا يكون له ما يريد إلا بغيره لا بنفسه ولو لا القوابل ما ظهر مجد القادر لو لا جوع العبد ما ادعى فيه السيد ولو لا عين العبد ما كان للجوع حكم ولما أراد السيد أن يظهر بحكم لا يقوم إلا بعبده فلا بد أن يتعين وجود العبد وهو الذليل فالمفتقر إليه أشد في الحكم وأولى بالاسم فما كمل الوجود إلا بهذا الاسم فما من شي‏ء إلا وله وعليه حكم فثبت الافتقار للحكم سواء حكمت له أو عليه وما حكم على شي‏ء ولا لشي‏ء إلا عينه فما جاءه شي‏ء من خارج فما ثم إلا هو فهو الحاكم والحكم والمحكوم عليه أو له فتوحدت العين واختلفت النسب كبدل الشي‏ء من الشي‏ء وهما لعين واحدة وأما عظمة الجليل فمن تأثيره كما إن حقارته من كونه مؤثرا فيه اسم مفعول وما من شي‏ء إلا مؤثر ومؤثر فيه لا بد من ذلك فاسم الجليل له حقيقة فيقول العظيم الذي له التأثير للمؤثر فيه الحقير يا جليل ويقول الحقير الذي تأثر وظهر الأثر فيه للذي له الأثر والتأثير يا جليل بالوجهين من كل قائل ومسم وواصف‏

وناعت فما رأينا أشبه شي‏ء منه بالصدى فإنه ما يرد عليك إلا ما تكلمت به فوضعه الحق لهذا المقام وأمثاله مثالا مضروبا فإن الله ما خلق الخلق لعين الخلق وإنما خلقه ضرب مثال له سبحانه وتعالى علوا كبيرا ولهذا أوجده على صورته فهو عظيم بهذا القصد وحقير بكونه موضوعا ولا بد من عارف ومعروف فلا بد من خلق وحق وليس كمال الوجود إلا بهما فظهر كمال الوجود في الدنيا ثم ينتقل الأمر إلى الأخرى على أتم الوجوه وأكملها عموما في الظاهر كما عمت في الدنيا في الباطن فهي في الآخرة في الظاهر والباطن فلا بد أن تكون الآخرة تطلب حشر الأجساد وظهورها ولا بد من إمضاء حكم التكوين فيهما فهي في الدنيا في العموم تقول للشي‏ء كُنْ فَيَكُونُ في تصورها وتخيلها لأن موطن الدنيا ينقص في بعض الأمزجة عن إمضاء عين التكوين في العين في الظاهر وفي الآخرة تقول ذلك بعينه لما يريد أن يكون كُنْ فَيَكُونُ في عينه من خارج كوجود الأكوان هنا عن كن الإلهية عند أسبابها فكانت الآخرة أعظم كمالا من هذا الوجه لتعميم الكلمة الحضرتين الخيال والحس‏

فللأولى هو السر *** وللآخر الجهر

فمن آمن بالكل *** فقد بان له الأمر

وما ثم حضرة في الحضرات الإلهية من يكون عنها النقيضان في العين الواحدة إلا هذه الحضرة فهي العامة الجامعة التي تضمنت الأسماء كلها حسنها وسيئها والجلال من صفات الوجه فله البقاء دائما وهو من أدل دليل على إن كل ما في الدنيا في الآخرة بلا شك ومما في الدنيا ما لا خفاء به وهي الأجسام الطبيعية التي من شأنها أن تأكل وتشرب وتستحيل مأكلها ومشروبها بحسب أمزجتها ففي الجنة يستحيل ما يأكله أهلها عرقا يخرج من أعراضها أطيب من ريح المسك قال تعالى ويَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ فقال قائل بأي نسبة يكون له هذا البقاء فقال ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ فرفع بنعت الوجه فلو خفض نعت الرب وكان النعت بالجلال وله النقيضان فيبقى الوجه الذي له النقيضان ولا يفنى وإنما يفنى ما كان على هذه الأرض فناء انتقال في الجوهر وفناء عدم في الصورة فيظهر مثل الصورة لا عينها في الجوهر الباقي الذي هو عجب الذنب الذي تقوم عليه نشأة الآخرة فيبقى حكم الوجه المنعوت بالجلال ويتبعه اسمه حيث كان فللاسم البقاء كما كان البقاء للمسمى به والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة الكرم»

إن الكريم الذي يعطي إذا سألا *** ولو تراه فقيرا للذي ألا

وليس يبرح من إذلال نشأته *** بما يعز ولو محبوبه وصلا

ولا أحاشي من الأعيان من أحد *** إلا الغني الذي يعطي إذا سألا

وذاك للأدب المعتاد أنسبه *** فإنه مانع ولا تقل بخلا

سبحانه وتعالى أن يحيط به *** علم الخلائق عينا حل أو رحلا

فإن يحل ففي قلبي منازله *** وإن أقام أراه فيه مرتحلا

وليس ينقصه مما يحيط به *** إلا إذا قيل شهر الله قد كملا

إن القرآن لفي آياته عجب *** آباره تقتضي الأزمان والأزلا

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الكريم وهو يتبع الجليل ويلازمه قال تعالى ويَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ وقال تعالى تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ والْإِكْرامِ وإنما تبعه من حيث ما يعطيه وضع الجلال ولما كان يعطي النقيضين جاء بالإكرام على الوجهين فإن السامع إذا أخذ الجلال على العظمة أدركه القنوط لعدم الوصول إلى من له العظمة لما يرى نفسه عليه من الاحتقار والبعد عن التفات ما يعطيه مقام العظمة إليه فأزال الله عن وهمه ذلك الذي تخيله بقوله والْإِكْرامِ أي وإن كانت له العظمة فإنه يكرم خلقه وينظر إليهم بجوده وكرمه نزولا منه من هذه العظمة فلما سمع القانط ذلك عظم في نفسه أكثر مما كان عنده أو لا من عظمته وذلك لأن عظمته الأولى التي كان يعظم بها الحق‏

كانت لعين الحق عن انكسار من العبد وذلة فلما وصف الحق نفسه بأنه يكرم عباده بنزوله إليهم حصل في نفس المخلوق إن الله ما اعتنى به هذه العناية إلا وللمخلوق في نفس هذا العظيم ذي الجلال تعظيم فرأى نفسه معظما فلذلك زاد في تعظيم الحق في نفسه إيثارا لجنابه لاعتناء الحق به على عظمته فزاد الحق بالكرم تعظيما في نفس هذا العبد أعظم من العظمة الأولى هذا إذا أخذ الجلال وحمله على العظمة فإن أخذه السامع وحمله على نقيض العظمة فإنه يحصل أيضا في نفسه القنوط لأنه حقير وقد استند إلى مثله فمن أين يأتيه من تكون له منه رفعة والذي استند إليه جليل فيقول له لسان الصفة ومع هذا فإنه ذو إكرام والدليل على أنه ذو إكرام امتنانه عليك بوجودك ولم تكن شيئا موجودا ولا مذكورا فلو لا كرمه لبقيت في العدم فكرامته بك في إعطائه الوجود إياك أعز من كرامته بك بعد وجودك بما يمنحك به من نيل أغراضك فيتنبه هذا الناظر في هذا الاسم وحمله على نقيض العظمة ويقول صحيح ما قال من أكرمني بالوجود الخير وحال بيني وبين الشر المحض وهو العدم لا بد أن يكون قادرا على إيجاد ما يسرني ودعه يكون في نفسه ما كان إنما الغرض أن يكون له الاقتدار على تكوين ما أريده منه وما جعل عنده هذا إلا قوله والْإِكْرامِ وانظر إلى‏

قول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وما أعجبه في نهيه أن يقال عن العنب الكرم‏

وغيرته صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم على هذا الاسم‏

[إن الكرم قلب المؤمن‏]

ثم قال فإن الكرم قلب المؤمن فإن قلبت المؤمن وجدت الحق في قلبك إياه‏

فإن الله يقول وسعني قلب عبدي المؤمن‏

والحق باطن المؤمن وهو قلب الظاهر والحق هنا هو الكريم لأن القلب هو الكرم فهو محل الكرم وجاء بالاسم الكريم على هذه البنية لكونها تقتضي الفاعل والمفعول فهو تعالى كريم بما وهب وأعطى وجاد وامتن به من جزيل الهبات والمنح وهو مكرم ومتكرم عليه بما طلب من القرض فأقرض العبد ربه عن أمره وبما عبده خلقه لأنه ما خلقهم إلا ليعبدوه وجعل لهم الاختيار فلما جعل لهم الاختيار ربما أداهم ذلك إلى البعد عما خلقوا له من العبادة ولما علم الحق ذلك ظهر في صورة كل شي‏ء وأخبر عباده بذلك فقال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ولا بد لكل مخلوق من التولي إلى أمر ما وقال الحق تعالى في ذلك الذي توليت إليه وجهي وما أعلمهم بذلك إلا ليتصفوا بصفة الكرم على الله بتوليهم لأنهم لو لم يعلموا ذلك بإعلامه مع وجود الاختيار الذي يعطي التفرق في الأشياء لتخيلوا أنهم قد خرجوا عن حكم ما خلقوا له من التكرم على ربهم بعبادتهم إياه فربما كانوا يجدون في نفوسهم من ذلك حرجا حيث خالفوا ما خلقوا له مع كرمه بهم بإيجادهم فأزال الله عنهم ذلك الحرج كرما منه واعتناء بهم بقوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله فانطلقوا في اختيارهم إذا علموا أنهم حيث تولوا ما ثم إلا وجه الله فوقفوا على علم ما خلقوا له وقد كان قبل هذا يتخيلون أنهم يتبعون أهواءهم والآن قد علموا إن أهواءهم فيها وجه الحق ولهذا جاء بالاسم الله لأنه الجامع لكل اسم فقال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله وذلك الأين يعين بحقيقته اسما خاصا من أسماء الله فلله الإحاطة بالأينيات بأحكام مختلفة لأسماء إلهية مختلفة تجمعها عين واحدة فمن كرمه قبول كرم عباده فقبل عطاياهم قرضا وصدقة فوصف نفسه بالجوع والظماء والمرض ليتكرم عليه في صورة ذلك الكون الذي الحق وجهه بالعيادة والإطعام والسقي والكرم على الحاجة أعظم وقوعا في نفس المتكرم عليه من الكرم على غير حاجة لأنه مع الحاجة ينظره إحسانا مجردا يثمر له الشكر ولا بد والشكر يثمر الزيادة من العطاء والكرم على غير الحاجة من المتكرم عليه يظهر له الحال الذي هو عليه وجوها من التأويل قد يخرجه من نظره إنه أحسن إليه فربما يتخيل فيه أمرا يرد به فلهذا أنزل الحق إلى عباده في طلب الكرم منهم إلى الظهور بصفة الحاجة ليعلمهم أنه ما ينظر في أعطياتهم إلا الإحسان مجردا فهي بشرى من الله جاءت منه إلى عباده من قوله لَهُمُ الْبُشْرى‏ في الْحَياةِ الدُّنْيا وهذه منها فهذا اسم الكريم من حضرة الكرم فبكرمه تكرمت عليه كما قررنا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة المراقبة»

إن الرقيب لزيم حيثما كان *** لذاك يحفظ أعيانا وأكوانا

وقتا يكون على ذات مصرفة *** عن أمره كان ذاك الأمر ما كانا

وليس يخفى عليه من مراقبة *** شي‏ء وإن جل ذاك الأمر أوهانا

[الرقبى والعمرى‏]

يدعى صاحبها عبد الرقيب وليس في الحضرات من يعطي التنبيه على إن الحق معنا بذاته في قوله وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ إلا هذا الاسم الرقيب وهذه الحضرة لأنه على الحقيقة من الرقبى والرقبى إن تملك رقبة الشي‏ء بخلاف العمري فإذا ملكت رقبة الشي‏ء تبعته صفاته كلها وما ينسب إليه بخلاف الصفة لأنك إذا ملكت صفة ما لا يلزم أن تملك جميع الصفات وإذا ملكت الموصوف فبالضرورة تملك جميع الصفات لأنها لا تقوم بأنفسها وإنما تطلب الموصوف ولا تجده إلا عندك فتملكها عند ذلك فهي كالحبالة للصائد فأما ملكه إياك فمعلوم بما تعطيه حقيقتك وأما ملكك إياه فبقوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ووجه الشي‏ء ذاته وحقيقته والرقيب اسم فاعل على كل شي‏ء وهو المرقب عليه فإنه المشهود لكل شي‏ء فيرقب العبد في جميع حركاته وسكناته ويرقبه العبد في جميع آثاره في قلبه وخواطره وحركاته وحركات ما خرج عنه من العالم فلا يزال صاحب هذه الحضرة في مزيد علم إلهي أبدا علم ذات ينجر معه علم صفات ونعوت وأسماء ونسب وأحكام ولا بد لهذا الاسم من حكم الإحاطة حتى يصح شمول المراقبة ولما كانت المراقبة تقتضي الاستفادة والحفظ حذرا من الوقائع فالعلم قوله حتى نعلم فإذا ابتلاه راقبه حتى يرى ما يفعل فيما ابتلاه به لأنه ما ابتلاه ابتداء وإنما ابتلاه لدعواه لأنه قال لهم أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ فقالوا بَلى‏ فادعوا فابتلاهم ليرى صدق دعواهم ولقد رحم الله عباده حين أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ بما قبضهم وقررهم عليه من كونه ربهم وما أشهد هم على توحيده ويصدق المقر بالملك لمن له فيه شقص فجعل لهم الانفساح من أجل ما علم من يشرك من عباده الشرك المحمود والمذموم فغير المذموم شرك الأسباب فإن القائلين بها أكثر العباد مع كونهم لا يعتقدون فيها إلا أنها موضوعة من عند الله والمذموم من الشرك أن يجعل المشرك مَعَ الله إِلهاً آخَرَ من واحد فما زاد ولذلك قال من قال من المشركين أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ فقوله إن هذا لشي‏ء عجاب عندنا هو قول الله وقوله أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً حكاية الله لنا عن المشرك أنه قال هكذا إما لفظا وإما معنى فقال الله عند قولهم ذلك إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ حيث جعلوا الإله الواحد آلهة وخصوص وصفة إنه إله وبه يتميز فلا يتكثر بما به يتميز ويشهد لهذا النظر قولهم فيما حكى الله عنهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فعصم الله هذا الاسم الله أن يقع فيه اشتراك فهم يعلمون أنهم نصبوهم آلهة ولهذا وقع الذم عليهم بقوله أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ والإله من لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ وأما لطفه بهم في هذا الإشهاد فهو القبض والقبض يقتضي القهر فما أقروا به إلا مع القهر فالمشرك منهم أقر على كره فلما تخيلوا أنهم قد خرجوا من القبضة لجهلهم بما هو الأمر عليه قالوا بالشركة فإذا قيل لهم في ذلك احتجوا بما كانوا عليه من القبض فيعذرون في دعواهم أنهم ما أدعو ذلك إلا جبرا لا اختيارا والحكم في الأشياء للأحوال فمن راقب أحواله علم من أين صدر فلا يخلو هذا المراقب إما أن يكون ميزان الشريعة بيده فإنه يرى بعين إيمانه إن كان من أهل الايمان أو بعين شهوده إن كان من أهل الشهود ومن لم يكن له إحدى هذين العينين فهو أعمى فيرى الحق والميزان بيده يخفض ويرفع فيقتدي بربه ويتأسى وما عنده إلا ميزان ما شرع له لا يلتفت مع الايمان إلى ميزان عقله فيزن ما يرد عليه من الأحوال من جانب ربه فيخفض ويرفع ويزيد في الناقص وينقص من الزائد فيأخذ من عباده بالعدل ويعطي بالفضل فلا يزال ما دام هذا الميزان بيده معصوما في مراقبته ويصح عنده إنه عند الاسم الرقيب لأنه قد تحقق بنعته بسيده فأسعد العبيد من يراقب سيده مراقبة سيده إياه فيراقب الحق مراقبة عبده لمن يراقب فيكون معه بحيث يرى منه ومن ملك المراقبة كان له التصريف كيف شاء في المراقب فإن الله مع عبده حيث كان‏

هكذا الأمر فاعتبر *** واحفظ السر وازدجر

إنما الأمر مثل ما *** قلته فيه فافتكر.

فالعبد وإن كان مقيدا بالشرع فإن الشرع قد جعله مسرح العين في تصرفه ويحمده الميزان ويذمه والمراقب معه أينما كان من محمود ومذموم فإذا كان العبد هو المراقب ولا يرى الحق مجردا عن الخلق تجريد تنزيه وتقديس أبدا لأنه لا تصح هناك مراقبة فلا بد أن يراه في الخلق في حضرة الأفعال فيكون المراقب وهو العبد حيث كان الحق من‏

خلقه لأنه في الخلق يشهده فينظر ما يقتضيه ذلك الأثر في ذلك الخلق المعين فيزنه بالميزان الموضوع ويكون معه بحسب ما يعطيه ميزان الحق فينظر أي اسم إلهي يكون له الحكم في ذلك الأمر الموزون فيتوجه إليه باسم إلهي يكون عليه هذا المراقب الذي هو العبد كان ما كان من الأسماء الإلهية فإن كان يقتضي ما لا يوافق غرضه ولا يلائم مزاجه ولا يحمده شرعه سأل رفع ذلك الحكم منه إن كان نظره شرعا بالتوبة والمغفرة وإن كان ذا غرض سأل الموافقة وإن كان ممن يقول بالملاءمة سأل الأصلح والأولى طبعا فهو بحسب ما يكون عليه في حاله‏

فمن ملك الرقبى فقد ملك الكلاء *** ومن ملك الكل يصح له الجزء

فلا تعم عن إدراك كل مراقب *** فقد بانت الأسرار إذ أخرج الخب‏ء

فإن الرقيب الحق في كل حالة *** لديه قبول الحال إن شاء والدرء

فمن راقب الحق الرقيب بعينه *** فذاك الرقيب الحق والمثل والكف‏ء

فللخلق أحكام إذا هي حققت *** يكون له منها الإعادة والبدء

ويظهر في الحق الذي قلت مثل ما *** يضاف إلى المخلوق في كونه النش‏ء

دليلي حدوث الصور في كل ناظر *** إليه وما في كل ما قلته هزء

«حضرة الإجابة»

كن مجيبا إذا الإله دعاكا *** وسميعا لما دعاك مطيعا

واحفظ السر لا تكن يا وليي *** للذي حصكم بذاك مذيعا

فإذا ما دعاك في حق شخص *** كن مجيبا لما دعاك سميعا

لا تكن كالذي أتاه حريصا *** فإذا ما استفاد كان مضيعا

كل من ضاعت الأمور لديه *** إنه قد أتى حديثا شنيعا

[إن صاحب حضرة الإجابة أبدا لا يزال منفعلا]

يدعى صاحبها عبد المجيب وتسمى حضرة الانفعال فإن صاحب هذه الحضرة أبدا لا يزال منفعلا وهو قولهم في المقولات أن ينفعل وهذا حكم ما يثبت عقلا وإنما يثبت شرعا فلا يقبل إلا بصفة الايمان وبنوره يظهر وبعينه يدرك قال تعالى وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يعني منكم ولا أقرب من نسبة الانفعال فإن الخلق منفعل بالذات والحق منفعل هنا عن منفعل فإنه مجيب عن سؤال ودعاء أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وهو الموجب للاجابة إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي إذا دعوتهم وما دعاهم إليه إلا بلسان الشرع فما دعاهم إلا بهم فإنه تلبس بالرسول فقال من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله فقرر أنه ما جاء منه إلا به فما فارقه ولا شاهد الخلق المبعوث إليهم إلا الرسول فظاهره خلق وباطنه حق كما قال في البيعة إِنَّما يُبايِعُونَ الله وما في الكون إلا فاعل ومنفعل فالفاعل حق وهو قوله والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ والفاعل خلق وهو قوله فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ واعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والمنفعل خلق وهو معلوم وخلق في حق وهو الإجابة وحق في خلق وهو ما انطوت عليه العقائد في الله من أنه كذا وكذا وخلق في خلق وهو ما تفعله الهمم في المخلوقات من حركات وسكون واجتماع وافتراق‏

[أن الإجابة على نوعين‏]

ثم اعلم أن الإجابة على نوعين إجابة امتثال وهي إجابة الخلق لما دعاه إليه الحق وإجابة امتنان وهي إجابة الحق لما دعاه إليه الخلق فإجابة الخلق معقولة وإجابة الحق منقولة لكونه تعالى أخبر بها عن نفسه وأما اتصافه بالقرب في الإجابة فهو اتصافه بأنه أقرب إلى الإنسان من حَبْلِ الْوَرِيدِ فشبه قربه من عبده قرب الإنسان من نفسه إذا دعا نفسه لأمر ما تفعله فتفعله فما بين الدعاء والإجابة الذي هو السماع زمان بل زمان الدعاء زمان الإجابة فقرب الحق من إجابة عبده قرب العبد من إجابة نفسه إذا دعاها ثم ما يدعوها إليه يشبه في الحال ما يدعو العبد ربه إليه في حاجة مخصوصة فقد يفعل له ذلك وقد لا يفعل كذلك دعاء العبد نفسه إلى أمر ما قد تفعل ذلك الأمر الذي دعاها إليه وقد لا تفعل لأمر عارض يعرض له وإنما وقع هذا الشبه لكونه مخلوقا على الصورة وهو أنه وصف نفسه في أشياء بالتردد وهذا معنى التوقف في الإجابة فيما دعا الحق نفسه إليه فيما يفعله في هذا العبد وقد ثبت هذا في قبضه نسمة

المؤمن فإن المؤمن يكره الموت والله يكره مساءة المؤمن‏

فقال عن نفسه سبحانه ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله ترددي‏

فأثبت لنفسه التردد في أشياء ثم جعل المفاضلة في التردد الإلهي فقال تعالى ترددي في قبض نسمة المؤمن الحديث فهذا مثل من يدعو نفسه لأمر ما ثم يتردد فيه حتى يكون منه أحد ما يتردد فيه والدعاء على نوعين دعاء بلسان نطق وقول ودعاء بلسان حال فدعاء القول يكون من الحق ومن الخلق ودعاء الحال يكون من الخلق ولا يكون من الحق إلا بوجه بعيد

[الإجابة للدعاء على نوعين‏]

والإجابة للدعاء بلسان الحال على نوعين إجابة امتنان على الداعي وإجابة امتنان على المدعو فأما امتنانه على الداعي فقضاء حاجته التي دعاه فيها وامتنانه على المدعو فإنه بها يظهر سلطانه بقضاء حاجته فيما دعاه إليه وللمخلوق في قبوله ما يظهر فيه الاقتدار الإلهي رائحة امتنان ولهذه القوة الموجودة من من من على رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بالإسلام فقال تعالى تأنيسا له يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ثم أمره أن يقول لهم فقال يا محمد قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فتلك المنة الواقعة منهم إنما هي على الله لا على رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فإنهم ما انقادوا إلا إلى الله لأن الرسول ما دعاهم إلى نفسه وإنما دعاهم إلى الله فقوله لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني في إيمانكم بما جئت به فإنه مما جئت به إن الهداية بيد الله يَهْدِي به من يَشاءُ من عِبادِهِ لا بيد المخلوق ثم إن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أبان عما ذكرناه من أن لهم رائحة في الامتنان أما والله لو شئتم أن تقولوا لقلتم وذكر نصرة الأنصار وكونهم أووه حين طرده قومه وأطاعوه حين عصوه قومه فأشبهوا فيما كان منهم بما قرره رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من ذلك قوله تعالى لنبيه أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى‏ ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏ ووَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى‏ ولما كانت النعم محبوبة لذاتها وكان الغالب حب المنعم حتى قالت طائفة إن شكر المنعم واجب عقلا جعل الله التحدث بالنعم شكرا فإذا سمع المحتاج ذكر المنعم مال إليه بالطبع وأحبه فأمره أن يتحدث بنعم الله عليه فقال وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ حتى يبلغ القاصي والداني وقال في الإنسان فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وأَمَّا السَّائِلَ يعني في العلم فَلا تَنْهَرْ ومن هذا الأمر ذكر أهل الله ما أنعم الله به عليهم من المعارف والعلم به والكرامات فإن النعم ظاهرة وباطنة وقد أسبغها على عباده كما قال وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً فهذا بعض ما يعطيه هذه الحضرة من الانفعال والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«حضرة السعة»

إنما الواسع الذي *** وسع الكل خلقه‏

فإذا ما خلا بنا *** نازع الحق خلقه‏

وزها بالذي بدا *** من سنا الشمس أفقه‏

فهي فينا بنورها *** وأنا فيه حقه‏

[تقدم الرحمة على العلم‏]

يدعى صاحبها عبد الواسع قالت الملائكة رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وعِلْماً فقدمت الرحمة على العلم لأنه أحب أن يعرف والمحب يطلب الرحمة به فكان مقام المحب الإلهي أول مرحوم فخلق الخلق وهو نفس الرحمن وقال ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فعم بكل كل مرحوم وما ثم إلا مرحوم ومن كان علمه بالشي‏ء ذوقا وكان حاله فإنه يعلم ما فيه وما يقتضيه من الحكم وقد قال الترجمان صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن المؤمن لا يكمل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه‏

وقد علمنا إن له الكمال وأنه المؤمن وأن العالم على صورته فقد ثبتت الأخوة بالصورة والايمان لأنه ما ثم إلا قائل به مؤمن مصدق بوجوده فإنه ما من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وما من شي‏ء إلا وسعته رحمته كما وسعه تسبيحه وحمده فهو الواسع لكل شي‏ء ولهذا الاتساع هو لا يكرر شيئا في الوجود فإن الممكنات لا نهاية لها فأمثال توجد دنيا وآخرة على الدوام وأحوال تظهر وقد وَسِعَ كُرْسِيُّهُ وهو علمه السَّماواتِ والْأَرْضَ ووسعت رحمته علمه والسموات والأرض وما ثم الا سماء وأرض فإنه ما ثم إلا أعلى وأسفل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فلا أعلى بعده ولو دليتم بحبل لهبط على الله فلا أنزل منه وما بينهما فينزل إلى العلو الأدنى وهو السماء الأولى من جهتنا فإنها السماء الدنيا أي القريبة إلينا وما نزل ليعذب ويشقى بل‏

يقول هل من داع فاستجيب له هل من سائل فأعطيه‏

وما يخلو شي‏ء من سؤال بخير في حق نفسه‏

هل من تائب فأتوب عليه‏

وما من شي‏ء إلا ويرجع في ضرورته إذا انقطعت به الأسباب إليه‏

هل من مستغفر فاغفر له‏

وما من شي‏ء إلا وهو مستغفر في أكثر أوقاته لمن هو إله ولم يقل إنه ينزل ليعذب عباده الذين نزل في حقهم ومن كان هذا نعته وعذب فعذابه رحمة بالمعذب وتطهير كعذاب الدواء للعليل‏

فيعذبه الطبيب رحمة به لا للتشفي ثم اتساع العطاء فإنه أعطى الوجود أولا وهو الخير الخالص ثم لم يزل يعطي ما يستحقه الموجود مما به قوامه وصلاحه كان ما كان فهو صلاح في حقه ولهذا أضاف العارف به المترجم عنه كلمة الحضرة ولسان المقام الإلهي‏

رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الخير إليه فقال والخير كله في يديك ونفي الشر أن يضاف إليه فقال والشر ليس إليك‏

وقد بينا أنه ما ثم معط إلا الله فما ثم إلا الخير سواء سر أم ساء فالسرور هو المطلوب وقد لا يجي‏ء إلا بعد إساءة لما يقتضيه مزاج التركيب وقبول المحل لعوارض تعرض في الوجود وكل عارض زائل ولهذا يسمى بالمعطي والمانع والضار والنافع فعطاؤه كله نفع غير إن المحل في وقت يجد الألم لبعض الأعطيات فلا يدرك لذة العطاء فيتضرر بذلك العطاء ولا يعلم ما فيه من النفع الإلهي فيسميه ضارا من أجل ذلك لعطاء وما علم إن ذلك من مزاج القابل لا من العطاء أ لا ترى الأشياء النافعة لأمزجة ما كيف تضر بأمزجة غيرها قال الله في العسل إنه شِفاءٌ لِلنَّاس‏

فجاء رجل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال له إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلا فسقاه عسلا فزاد استطلاقه فرجع فأخبره فقال اسقه عسلا فزاد استطلاقه وما علم هذا الرجل ما علمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من ذلك فإنه كان في المحل فضلات مضرة لا يمكن إخراجها إلا بشرب العسل فإذا زالت عنه أعقبته العافية والشفاء فلما رجع إليه قال له يا رسول الله سقيته عسلا فزاد استطلاقه فقال صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا في الثالثة فسقاه فبرئ فإنه استوفى خروج الفضلات المضرة

وكالذي يغلب على العضو الحامل للطعم المرة الصفراء فيجد العسل مرا فيقول العسل مر فكذب المحل في إضافة المرارة إلى العسل لأنه جهل إن المرة الصفراء هي المباشرة لعضو الطعم فأدرك المرارة فهو صادق في الذوق والوجدان كاذب في الإضافة فألقوا بل أبدا هي التي لها الحكم فما من الله إلا الخير المحض كله فمن اتساع رحمته إنها وسعت الضرر فلا بد من حكمه في المضرور فالضرر في الرحمة ما هو ضرر وإنما هو أمر خير بدليل أنه بعينه إذا قام بالمزاج الموافق له التذ به وتنعم وهو هو ليس غيره فالأشياء إلى الله إنما تضاف إليه من حيث إنها أعيان موجودة عنه ثم حكم الالتذاذ بها أو غير الالتذاذ إنما هو راجع إلى القابل ولو علم الناس نسبة الغضب إلى الله لعلموا أن الرحمة تسع الكل فإن القادر على إزالة الألم عن نفسه لا يتركه فقامت الأحوال من الخلق والمواطن للحق مقام المزاج للحيوان فيقال في الحق إنه يغضب إذا أغضبه العبد ويرضى إذا أرضاه العبد فحال العبد والموطن يرضى الحق ويغضبه كالمزاج للحيوان يلتذ بالأمر الذي كان بالمزاج الآخر يتألم به فهو بحسب المزاج كما هو الحق بحسب الحال والمواطن أ لا ترى في نزوله إلى السماء الدنيا ما يقول فإنه نزول رحمة يقتضيها الموطن وإذا جاء يوم القيامة يقتضي المواطن أنه يجي‏ء للفصل والقضاء بين العباد لأنه موطن يجمع الظالم والمظلوم وموطن الحكم والخصومات فالحكم للمواطن والأحوال في الحق والحكم في التألم والالتذاذ والتلذذ للمزاج إن ربك واسع المغفرة أي واسع الستر فما من شي‏ء إلا وهو مستور بوجوده وهو الستر العام فإنه لو لم يكن ستر لم يقل عن الله هو ولا قال أنت فإنه ما ثم إلا عين واحدة فأين المخاطب أو الغائب فلهذا قلنا في الوجود إنه الستر العام ثم الستر الآخر بالملائم وعدم الملائم فهو واسِعُ الْمَغْفِرَةِ وهي حضرة إسبال الستور وقد تقدم الكلام عليها في هذا الباب‏

[الغفران هو الستر]

ثم قال هو أعلم بمن اتقى والستر وقاية والغفران هو الستر فالعبد يتقي بالستر ألم البرد والحر إذا علم من مزاجه قبول ألم الحر والبرد فإن الحر والبرد ما جاء إلا لمصالح العالم ليغذي النبات الذي هو رزق العالم فيبرزه لينتفع به فيكون جسم الحيوان على استعداد يتضرر به فيقول إني تأذيت بالحر والبرد وإذا رجع مع نفسه لما قصد بهما بحسب ما يعطيه الفصول علم أنه ما جاء إلا لنفعه فتضرر بما به ينتفع والغفلة أو الجهل سبب هذا كله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الحكيم حضرة الحكمة»

إن الحكيم الذي ميزانه أبدا *** بالرفع والخفض منعوت وموصوف‏

يرتب الأمر ترتيبا يريك به *** علما وفيه إذا فكرت تعريف‏

بأنه الله فرد لا شريك له *** في ملكه وله في الخلق تصريف‏

ميزانه الحق لا خسران يلحقه *** ولا يقوم به في الوزن تطفيف‏

[إن الخطاب للإفهام‏]

يدعى صاحبها عبد الحكيم قال الله تعالى ومن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وما كثره الله لا تدخله قلة كما إن ما عظم الله ما يدخله احتقار وامتن على داود بأن آتاه الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ وهو من الحكمة فإنه لفصل الخطاب موطن يعطي الحكمة لصاحبها أن لا يظهر منه في ذلك الموطن إلا فصل الخطاب وهو الإيجاز في البيان في موطنه لسامع خاص لذي حال خاص والإسهاب في البيان في موطنه لسامع خاص ذي حال خاص ومراعاة الأدنى أولى من مراعاة الأعلى فإن ذلك من الحكمة فإن الخطاب للافهام فإذا كرر المتكلم الكلام ثلاث مرات حتى يفهم عنه كما كان كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيما يبلغه عن الله للناس يراعي الأدنى ما يراعي من فهم من أول مرة فيزيد صاحب الفهم في التكرار أمورا لم تكن عنده أفادها إياه التكرار والأدنى الذي لم يفهم فهم الأول فهم بالتكرار ما فهمه الأول بالقول الأول أ لا ترى العالم الفهم المراقب أحواله يتلو المحفوظ عنده من القرآن فيجد في كل تلاوة معنى لم يجده في التلاوة الأولى والحروف المتلوة هي بعينها ما زاد فيها شي‏ء ولا نقص وإنما الموطن والحال تجدد ولا بد من تجدده فإن زمان التلاوة الأولى ما هو زمان التلاوة الثانية فافهم فتعطي هذه الحضرة علم الترتيب وإعطاء كل شي‏ء حقه وإنزاله منزلته فيعلم العبد المراقب أن الله هو واضع الأشياء وهو الحكيم فما وضع شيئا إلا في موضعه ولا أنزله إلا منزلته فلا تعترض على الله فيما رتبه من الكائنات في العالم في كل وقت ولا يرجح نظره وفكره على حكمة ربه فيقول لو كان كذا في هذا الوقت لكان أحسن في النظم من الترتيب فما أخطأ إلا في قوله في هذا الوقت لا في قوله لو كان كذا لكان أحسن فلما غابت عنه حكمة الوقت تخيل أن ذلك الذي هو أحسن إن هذا الوقت يقتضيه وهذا نظر عقلي فإن الأزمنة لكل ممكن على نسبة واحدة فليس زمان لشي‏ء بأولى من زمان آخر ولكن أين فائدة المرجح إلا علمه بالزمان وما يقتضيه لأنه خالق الزمان وما هذا الناظر خالق الزمان فهو يعلم ما خلق فما رتب فيه إلا ما استحقه بخلقه فإنه أعطى كل شي‏ء خلقه فالحكيم من حكمته الحكمة فصرفته لا من حكم الحكمة فإنه من حكم الحكمة له المشيئة فيها ومن حكمته الحكمة فهي المصرفة له وإذا قامت الصفة بالموصوف أعطته حكمها عطاء واجبا قال تعالى ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فالحكم للقول وذلك ليس إلا لله أو لرجل متحقق بالله قد طالع القول الإلهي ومن هنا تعلم ما هو النسخ فإن مفهوم النسخ في القائلين به رفع الحكم بحكم آخر كان ما كان من أحكام الشرع فإن السكوت من الشارع في أمر ما حكم على ذلك المسكوت عنه فما ثم إلا حكم فهو تبديل وقد قال تعالى ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فما ثم نسخ على هذا القول ولو كان ثم نسخ لكان من الحكمة وصورته إن الزمان إذا اختلف اختلف الحكم بلا شك فالنسخ ثابت أبدا لأن الاختلاف واقع أبدا فالحكمة تثبت النسخ والحكمة ترفع النسخ ولكن في مواطن معينة تطلبها لذاتها فيوفيها الحكيم ما تستحقه من ذلك فالحكيم من قامت به الحكمة فكان الحكم لها به كما كان الحكم له بها فهو عينها وهي عينه فالحكمة عين الحاكم عين المحكوم به عين المحكوم عليه فالحكمة علم خاص وإن عمت والفرق بينها وبين العلم أن الحكمة لها الجعل والعلم ليس كذلك لأن العلم يتبع المعلوم والحكمة تحكم في الأمر أن يكون هكذا فيثبت الترتيب في أعيان الممكنات في حال ثبوتها بحكمة الحكيم لأنه ما من ممكن يضاف إلى ممكن إلا ويمكن إضافته إلى ممكن آخر لنفسه لكن الحكمة اقتضت بحكمها أن ترتبه كما هو بزمانه وحاله في حال ثبوته وهذا هو العلم الذي انفرد به الحق تعالى وجهل منه وظهر به الحكم في ترتيب أعيان الممكنات في حال ثبوتها قبل وجودها فتعلق بها العلم الإلهي بحسب ما رتبها الحكيم عليه فالحكمة أفادت الممكن ما هو عليه من الترتيب الذي يجوز خلافه والترتيب أعطى العالم العلم بأن الأمر كذا هو فلا يوجد إلا بحسب ما هو عليه في الثبوت الذي هو ترتيب الحكيم عن حكم الحكمة فقد بان لك الفرقان بين العلم والحكمة فما يبدل القول لديه فإنه ما يقول‏

إلا ما رتبته الحكمة كما أنه ما علم إلا ما رتبته الحكمة فيقول للشي‏ء كُنْ فَيَكُونُ بالحال الذي هو عليه كان ما كان فمن هذه القوة يقول الناظر في الأمر لو كان كذا لجوازه عنده فإذا علم حكمة الله يقول بأنه يجهل حكمة الله في هذا الوضع الذي يقتضي في نظري لو كان خلافه لكان أحسن لكن لله فيه علم لا أعرفه وصدق ومن الناس من يفتح له في سر ذلك الترتيب ومن الناس من لا يعلم ذلك إلا بعد ما يقع حكمه في الوجود

فيعلم عند ذلك حكمة ذلك الأمر ويعلم جهله بالمصالح وهذا كثير اتفاقه في العالم يكون الشخص يتسخط بالأمر الذي لا يوافق غرضه ولا نظره وينسب مثلا الحاكم به إلى الجور فإذا ظهرت منفعة ذلك الحكم الذي تسخطت به عاد المتسخط يحمد الله ويشكر ذلك الحكم والحاكم على ما فعل حيث دفع الله به ذلك الشر العظيم الذي لو لم يكن هذا الحكم لوقع بالمحكوم عليه ذلك الشر وهذا يجري كثيرا فغاية العارفين إنهم يعلمون بالجملة أن الظاهر في الوجود والواقع إنما هو في قبضه الحكمة الإلهية فيزول عنه التسخط والضجر ويقوم به التسليم والتفويض إلى الله في جميع الأمور كما جاء وأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبادِ هذا هو حكم الحكمة لمن عقل عن الله ومثل هذا الشخص قد استعجل النعيم فإنه يتفرح وإذا كان هذا حاله فإن الله في أغلب الأحوال يطلعه في سره على حكمه الواقع في الحال الذي لا يرضى به العباد فإنه كل ما وقع به الرضي فقد علمت حكمته فإنه يراها الراضي موافقة لغرضه وإنما يقع النزاع والجهل فيما لا يوافق الغرض ولا الترتيب الوهمي فإن العقل لا يعطي صاحبه في الواقع إلا الوقوف فإنه يدري ممن صدر وإنما الوهم الذي هو على صورة العقل له ذلك النظر المرجح وحاشا العقل أن يرجح على الله ما لم يرجحه الله وما رجح الله إلا الواقع فأوقع ما أوقع حكمة منه وأمسك ما أمسك حكمة منه وهو الحكيم العليم فالعارف عنده الحكيم بتقدم العليم والعامي يقدم العليم ثم الحكيم وقد ورد الأمران معا فالحكيم خصوص والعليم عموم ولذلك ما كل عليم حكيم وكل حكيم عليم فالحكمة الخير الكثير

فهي الخير الكثير *** وهي البدر المنير

تختفي وقتا وتبدو *** هكذا قال الخبير

فبها خفت علينا *** وبها كان الظهور

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ انتهى السفر الثاني والثلاثون بانتهاء حضرة الحكمة لعبد الحكيم والحمد لله وحده‏

«الوداد حضرة الود»

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم‏

إلا إن الوداد هو الثبات *** على حال يزعزعه الشتات‏

ويجمعنا وإياه مقام *** إذا تبدو على الوجه السمات‏

بواد لا أنيس به وأرض *** تزينها الأزاهر والنبات‏

أزاهره البنون إذا تراهم *** على كرسيه وكذا البنات‏

إذا خافوا يؤمنهم صباح *** وليس يخيفهم إلا البيات‏

[الهوى والود والحب والعشق‏]

يدعى صاحبها عبد الودود قال الله تعالى في أصحاب هذه الحضرة يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ وقال فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله‏

وفي الحديث الصحيح إذا أحب الله عبده كان سمعه وبصره ويده ورجله وقواه ثابتة له لا تزول وإن كان أعمى أخرس‏

فالصفة موجودة خلف حجاب العمي والخرس والطرش فهو ثابت المحبة من كونها ودا فإن هذه الصفة لها أربعة أحوال لكل حال اسم تعرف به وهي الهوى والود والحب والعشق فأول سقوطه في القلب وحصوله يسمى هوى من هوى النجم إذا سقط ثم الود وهو ثباته ثم الحب وهو صفاؤه وخلاصه من إرادته فهو مع إرادة محبوبه ثم العشق وهو التفافه بالقلب مأخوذ من العشقة اللبلابة المشوكة التي تلتف على شجرة العنبة وأمثالها فهو يلتف بقلب المحب حتى يعميه عن النظر إلى غير محبوبه تنبيه وكيف لا يحب الصانع صنعته ونحن مصنوعاته بلا شك فإنه خالقنا وخالق أرزاقنا ومصالحنا

أوحى الله إلى بعض أنبيائه يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقك من أجلي فلا تهتك ما خلقت من أجلي فيما خلقت من أجلك يا ابن آدم أنى وحقي لك محب فبحقي عليك كن لي محبا

والصنعة مظهرة علم الصانع لها بالذات واقتداره وجماله وعظمته وكبرياءه فإن لم يكن فعلى من وفيمن وبمن فلا بد منا ولا بد من حبه فينا فهو بنا ونحن به كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في ثنائه على ربه فإنما نحن به وله‏

وهذه حضرة العطف والديمومة

فلو لا الحب ما عرف الوداد *** ولو لا الفقر ما عبد الجواد

فنحن به ونحن له جميعا *** فمن ودي عليه الاعتماد

إذا شاء الإله وجود عين *** بها قد شاءها فمضى العناد

فكنا عند كن من غير بطء *** ونعت الكون ذاك المستفاد

فعين الحب عين الكون منه *** وعينه وأظهره الوداد

فلم يزل يحب فلم يزل ودودا فهو يوجد دائما في حقنا فهو كل يوم في الشأن ولا معنى للوداد إلا هذا فنحن بلسان الحال والمقال لا نزال نقول له افعل كذا افعل كذا ولا يزال هو تعالى يفعل ومن فعله فينا نقول له افعل أ ترى هذا فعل مكره ولا مكره له تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل هذا حكم الاسم الودود منه فإنه الغفور الودود منه فإنه الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ الذي استوى عليه بالاسم الرحمن فإنه ما رحم إلا صبابة المحب وهي رقة الشوق إلى لقاء المحبوب ولا يلقاه إلا بصفته وصفته الوجود فأعطاه الوجود ولو كان عنده أكمل من ذلك ما بخل به عليه كما قال الإمام أبو حامد في هذا المقام ولو كان وادخره لكان بخلا ينافي الجود وعجزا يناقض القدرة فأخبر تعالى أنه الْغَفُورُ الْوَدُودُ أي الثابت المحبة في غيبه فإنه عز وجل يرانا فيرى محبوبه فله الابتهاج به والعالم كله إنسان واحد هو المحبوب وأشخاص العالم أعضاء ذلك الإنسان وما وصف المحبوب بمحبة محبه وإنما جعله محبوبا لا غير ثم إن من رزقه أن يحبه كحبه إياه أعطاه الشهود ونعمه بشهوده في صور الأشياء فالمحبون له من العالم بمنزلة إنسان العين من العين فالإنسان وإن كان ذا أعضاء كثيرة فما يشهد ويرى منه إلا العينان خاصة فالعين بمنزلة المحبين من العالم فأعطى الشهود لمحبيه لما علم حبهم فيه وهو عنده علم ذوق ففعل مع محبيه فعله مع نفسه وليس إلا الشهود في حال الوجود الذي هو محبوب للمحبوب فما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه فما خلقهم من بين الخلق إلا لمحبته فإنه ما يعبده ويتذلل إليه إلا محب وما عدا الإنسان فهو مسبح بحمده لأنه ما شهده فيحبه فما تجلى لأحد من خلقه في اسمه الجميل إلا للإنسان وفي الإنسان في علمي فلذا ما فنى وهام في حبه بكليته إلا في ربه أو فيمن كان مجلى ربه فأعين العالم المحبون منه كان المحبوب ما كان فإن جميع المخلوقين منصات تجلى الحق فودادهم ثابت فهم الأوداء وهو الودود والأمر مستور بين الحق والخلق بالخلق والحق ولهذا أتى مع الودود الاسم الغفور لأجل الستر فقيل قيس أحب ليلى فليلي عن المجلى وكذلك بشر أحب هندا وكثير أحب عزة وابن الذريح أحب لبني وتوبة أحب الإخيلية وجميل أحب بثينة وهؤلاء كلهم منصات تجلى الحق لهم عليها وإن جهلوا من أحبوه بالأسماء فإن الإنسان قد يرى شخصا فيحبه ولا يعرف من هو ولا يعرف اسمه ولا إلى من ينتسب ولا منزله ويعطيه الحب بذاته أن يبحث عن اسمه ومنزله حتى يلازمه ويعرفه في حال غيبته باسمه ونسبه فيسأل عنه إذا فقد مشاهدته وهكذا حبنا الله تعالى نحبه في مجاليه وفي هذا الاسم الخاص الذي هو ليلى ولبني أو من كان ولا نعرف أنه عين الحق فهنا نحب الاسم ولا نعرف أنه عين الحق فهنا نحب الاسم ولا نعرف العين وفي المخلوق تعرف العين وتحب وقد لا يعرف الاسم أ يأبى الحب إلا التعريف به أي بالمحبوب فمنا من يعرفه في الدنيا ومنا من لا يعرفه حتى يموت محبا في أمر ما فينقدح له عند كشف الغطاء أنه ما أحب إلا الله وحجبه اسم المخلوق كما عبد المخلوق هنا من عبده وما عبد إلا الله من حيث لا يدري ويسمى معبوده بمناة والعزى واللات فإذا مات وانكشف الغطاء علم أنه ما عبد إلا الله فالله يقول وقَضى‏ رَبُّكَ أي حكم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وكذلك كان عابد الوثن لو لا ما اعتقد فيه الولهة بوجه ما عبده إلا أنه بالستر المسدل في قوله تعالى الْغَفُورُ الْوَدُودُ لم يعرفه وليس إلا الأسماء ولذلك قال المعبود الحقيقي في نفس الأمر لما أضافوا عبادتهم إلى المجالي والمنصات قُلْ سَمُّوهُمْ فإذا سموهم عرفوهم وإذا عرفوهم عرفوا الفرق بين‏

الله وبين من سموه كما تعرف المنصة من المتجلي فيها فتقول هذه مجلى هذا فيفرق‏

فهكذا الأمر إن عقلنا *** فإن تكن فيه كنت أنتا

منصة الحق أنت حقا *** فأنت ما أنت حين أنتا

فقد ملكت الذي أردنا *** وقد علمت الذي عبدنا

فليس ليلى وليس لبني *** سوى الذي أنت قد علمتا

إن كنت في حبه بصيرا *** تشهده منك أنت أنتا

فما أحب المحب غيرا *** سواه فالكل أنت أنتا

فما أعجب القرآن في مناسبة الأسماء بالأحوال ف هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فهو المحب وهو فعال لما يريد فهو المحبوب لأن المحبوب فعال لما يريد بمحبوبه والمحب سامع مطيع مهيأ لما يريد به محبوبه لأنه المحب الودود أي الثابت على لوازم المحبة وشروطها والعين واحدة فإن الودود هنا هو الفعال لما يريد فانظر في هذا التنبيه الإلهي ما أعجبه وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المجد حضرة المجد»

يدعى صاحبها عبد المجيد والقرآن المجيد وهو كلامه تعالى فهو عينه‏

حضرة المجد والشرف *** حضرة الزهو والصلف‏

فذوو مجدنا فمن *** بحرها الكل يغترف‏

فإذا ما تمجدت *** عينه قام ينصرف‏

لقصور له بها *** خادم العز قد وقف‏

فتحلى بحلية *** وهبته حكم النصف‏

وهبته نصيفها *** وبه قام فالتحف‏

نحن للجوهر المكون *** في عيننا صدف‏

إذا قال المصلي ملك يوم الدين يقول الحق مجدني عبدي‏

أي جعل لي الشرف عليه كما هو الأمر في نفسه فانظر إلى هذا الاعتراف وهو الحق الذي له المجد بالأصالة والكلام كلامه بلا خلاف فإنه القرآن وقال عن نفسه إنه يقول عند مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مجدني عبدي‏

وهو تنبيه إلهي من الله على إن الأمر إضافي فإنه إذا لم يكن هناك من يشرف عليه كونا ثابتا أو عينا كائنة فعلى من يشرف ويتمجد فما أعطاه المجد إلا وجود العبد فما قال الحق في قوله مجدني عبدي إلا حقا

فلو زلنا لزال المجد عنه *** فتمجيدي له المجد التليد

تولد عن وجود القول مني *** كذا قال الإله لي المجيد

وقلناه بعلم واعتقاد *** فجاء لشكرنا منه المزيد

فكان هو المراد بعين قولي *** كما قد كان في الأصل المريد

له حكم التحكم في وجودي *** هو الفعال فينا ما يريد

وليس يريد إلا كل ما لا *** وجود له فحقق ما أريد

فليس يريد عيني حال كوني *** فكون الكائنات هو الوجود

فقد شهدت إرادته عليه *** بأن مراده أبدا فقيد

[إن يوم الدين يوم الجزاء]

فلما قال مجدني عبدي عند قول المصلي ملك يوم الدين علمنا أنه قال أعطاني عبدي المجد والشرف على العالم في الدنيا والآخرة لأني جازيت العالم على أعمالهم في الدنيا والآخرة فيوم الدين هو يوم الجزاء فإن الحدود ما شرعت في الشرائع الأجزاء وما أصابت المصائب من أصابته الأجزاء بما كسبت يده مع كونه يعفو عن كثير قال تعالى وما أَصابَكُمْ من مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وكذلك ما ظهر من الفتن والخراب والحروب والطاعون فهو كله جزاء بأعمال عملوها استحقوا بذلك ما ظهر من الفساد في البر من خسف وغير ذلك وقحط ووباء وقتل وأسر وكذلك في البحر مثل هذا مع غرق وتجرع غصص لزعزع ريح متلفة قال تعالى ظَهَرَ الْفَسادُ وهو ما ذكرناه ومن جنس ما قررناه في الْبَرِّ والْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بما عملوا لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا

وهذا عين الجزاء وهو في الدنيا هو فيوم الدنيا يوم الجزاء ويوم الآخرة هو يوم الجزاء غير أنه في الآخرة أشد وأعظم لأنه لا ينتج أجرا لمن أصيب وقد ينتج في الدنيا أجرا لمن أصيب وقد لا ينتج فهذا هو الفرقان بين يوم الدنيا ويوم الآخرة وقد تعقب المصيبة لمن قامت به توبة مقبولة وقد يكون في الدنيا حكم يوم الآخرة في عدم قبول التوبة وهو قوله في طلوع الشمس من مغربها إنه لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ من قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمانِها خَيْراً فلا ينفع عمل العامل مع كونه في الدنيا فأشبه الآخرة وكذلك أيضا المصاب في الدنيا تكفر عنه مصيبته من الخطايا ما يعلم الله ومصيبة الآخرة لا تكفر

وقد يكون هذا الحكم في يوم الدنيا فأشبه الآخرة أيضا وهو قوله في حق المحاربين الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله ورَسُولَهُ من قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم من مواطنهم وذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا ولَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ على تلك المحاربة والفساد جزاء لهم فما كفر عنهم ما أصابهم في الدنيا من البلاء فانظر ما أحكم القرآن وما فيه من العلوم لمن رزق الفهم فيه فكل ما هم فيه العلماء بالله ما هو إلا فهمهم في القرآن خاصة فإنه الوحي المعصوم المقطوع بصدقه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه فتصدقه الكتب المنزلة قبله ولا من خلفه ولا ينزل بعده ما يكذبه ويبطله فهو حق ثابت وكل تنزل سواه في هذه الأمة وقبلها في الأمم فيمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه فيعثر صاحبه على آية أو خبر صحيح يبطل له ما كان يعتمد عليه من تنزيله وهو قول الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة أن يشهدا له بذلك بأنه حق من عند الله ويأتيه من خلفه أي لا يعلم في الوقت بطلانه لكن قد يعلمه فيما بعد فهو نظير قوله في القرآن لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ فأي مجد أعظم من هذا المجد الذي اعترف به العبد لربه بأن شهد له بأنه الملك في يوم الدين والخلق ملكه الذي تظهر فيه أحكامه ثم إنه قد علمنا بالخبر الصدق أن أعمال العباد ترجع عليهم فلا بد أن يرجع عليهم هذا المجد الذي مجدوا الحق به فيكون لهم في الآخرة المجد الطريف والتليد فرجوع أعمالهم عليهم اقتضته حقيقة قوله وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ بعد ما كانت الدعاوي الكيانية قد أخذته وأضافته إلى الخلق فمن رجوع الأمر كله إليه رجعت أعمال العباد عليهم فالعبد بحسب ما عمل فهو المقدس إن كان عمله تقديس الحق وهو المنزه بتنزيهه والمعظم بتعظيمه ولما لحظ من لحظ من أهل الكشف هذه الرجعة عليه قال سبحاني فأعاد التنزيه عليه لفظا كما عاد عليه حكما وكما قال الآخر في مثل هذا أنا الله فإنه ما عبد إلا ما اعتقده وما اعتقد إلا ما أوجده في نفسه فما عبد إلا مجعولا مثله فقال عند ما رأى هذه الحقيقة من الاشتراك في الخلق قال أنا لله فأعذره الحق ولم يؤاخذه فإنه ما قال إلا علي كما قال من أخذه الله تعالى نَكالَ الْآخِرَةِ والْأُولى‏ وأما من قالها بحق أي من قال ذلك والحق لسانه وسمعه وبصره فذلك دون صاحب هذا المقام فمقام الذي قال أنا الله من حيث اعتقاده أتم ممن قالها بحق فإنه ما قالها إلا بعد استشرافه على ذلك فعلم من عبد والفضل في العلم يكون والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏

«الحياء حضرة الحياء»

إن الحياء لباب الله مفتاح *** وإن سرى لذاك الفتح فتاح‏

فإن فتحت ترى نورا يضي‏ء به *** وجه جميل علاه النور وضاح‏

كأنه في ظلام الليل إن نظرت *** عيناك صورته صبح ومصباح‏

[إن للحياء موطن الخاص‏]

يدعى صاحبها عبد الحي أو عبد المستحيي ورد في الخبر أن الله حيي لكن للحياء موطن خاص فإن الله قد قال في الموطن الذي لا حكم للحياء فيه إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً أي لا يترك ضرب المثل بالأدنى والأحقر عند الجاهل فإنه ما هو حقير عند الله وكيف يكون حقيرا من هو عين الدلالة على الله فيعظم الدليل بعظمة مدلوله ثم‏

إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نطق من هذه الحضرة بقوله الحياء من الايمان والايمان نصف صبر ونصف شكر والله هو الصبور الشكور

ومن هذه الحضرة من اسمه المؤمن شكر عباده على ما أنعموا به على الأسماء الإلهية بقبولهم لآثارها فيهم وصبر على أذى من جهله من عباده فنسب إليه ما لا يليق به ونسبوا إليه عدوا بغير

علم كما أخبرنا عنهم فصبر على ذلك ولا شخص أصبر على أذى من الله لاقتداره على الأخذ فهو المؤمن الكامل في إيمانه بكمال صبره وشكره ومن أعجب شكره أنه شكر عباده على ما هو منه ثم إنه تعالى من حيائه إنه يؤتى بشيخ يوم القيامة فيسأله ويقرره على هناته وزلاته فينكرها كلها فيصدقه ويأمر به إلى الجنة فإذا قيل له سبحانه في ذلك يقول إني استحييت أن أكذب شيبته فأما تصديقه من كون الحياء من الايمان وهو المؤمن فإنه صدق من قبوله لما خلق الله فيه من المعاصي والذنوب وكل ما خلق الله فيه لو لا قبوله ما نفذ الاقتدار فيه وأما

قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وهو الحياء لا يأتي إلا بخير والله حيي فأتاه من حيائه بخير

وأي خير أعظم من أن يستر عليه ولم يفضحه وغفر له وتجاوز عنه وإن العبد إذا قامت به هذه الصفات الإلهية فمن هذه الحضرة تأتيه ومنها يقبلها فإنه لكونه على الصورة الإلهية يقبل من كل حضرة إلهية ما تعطيه لأن لها وجها إلى الحق ووجها إلى العبد وكذلك كل حضرة تضاف إلى العبد مما يقول العلماء فيها تضاف إلى العبد بطريق الاستحقاق والأصالة وإن كنا لا نقول بذلك فإن لكل حضرة منها أيضا وجهين وجها إلى الحق ووجها إلى العبد فانتظم الأمر بين الله وبين خلقه واشتبه فظهر في ذلك الحق بصفة الخلق وظهر الخلق بصفة الحق ووافق شن طبقة فضمه واعتنقه والله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فظهر في ذلك التعانق والتوافق لام الألف فكان ذلك العقد والرباط وأخذ العهود والعقود بين الله وبين عباده فقال تعالى وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«السخي حضرة السخاء»

إن السخي هو الذي يعطي على *** قدر الذي يحتاجه المخلوق‏

لا زائد فيه ولا نقص لذا *** قد عينت فيه عليه حقوق‏

ليس السخي الذي يعطي مجازفة *** إن السخي الذي يعطي على قدر

وليس نعت الذي كان الوجود به *** لكنه من نعوت الخلق والبشر

وإنما سقته لله حين أتت *** به النصوص التي جاءتك في الخبر

فكن به عالما فمن حقيقته *** أن لا يقوم به شي‏ء من الغير

فإن صورته في طي صورتنا *** وإن سورته تربى على السور

[السخاء العطاء بقدر ما يحتاج إليه المعطي إياه‏]

يدعى صاحبها عبد السخي وهي من حضرات العطاء والسخاء العطاء بقدر ما يحتاج إليه المعطي إياه فلا يكون إلا عن سؤال إما بلسان حال أو بلسان مقال وإذا كان بلسان المقال فلا بد من لسان الحال وإلا فليس بمحتاج وحضرات العطاء كثيرة منها الوهب والجود والكرم والسخاء والإيثار وهو عطاء الفتوة وقد بيناه في هذا الكتاب في باب الفتوة وفي كتاب مواقع النجوم في عضو اليد الذي ألفناه بالمرية من بلاد الأندلس سنة خمس وتسعين وخمسمائة عن أمر إلهي وهو كتاب شريف يعني عن الشيخ في تربية المريد ثم ترجع فنقول الوهب في العطاء هو لمجرد الإنعام وهو الذي لا يقترن به طلب معارضة إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ولا شُكُوراً فهو موصل أمانة كانت بيده والكرم عطاء بعد سؤال والجود عطاء قبل السؤال والسخاء عطاء بقدر الحاجة والإيثار عطاؤك ما أنت محتاج إليه في الحال وهو الأفضل وفي الاستقبال وهو دون المعطي في الحال ولكل عطاء اسم إلهي إلا الإيثار فالله تعالى وهاب كريم جواد سخي ولا يقال فيه عز وجل مؤثر وقد قررنا أنه عالم بكل شي‏ء فكيف يكون السخاء عطاء عن سؤال بلسان الحال وهو القائل عز وجل أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فما ترك لمخلوق ما يحتاج إليه من حيث ما هو مخلوق تام‏

[كل إنسان محتاج إلى كمال‏]

فاعلم إن ثم تماما وكمالا فالتمام إعطاء كل شي‏ء خلقه وهذا لا سؤال فيه ولا يلزم إعطاء الكمال ويتصور السؤال والطلب في حصول الكمال فإنها مرتبة والمرتبة إذا أوجدها الحق في العبد أعطاها خلقها وما هي من تمام المعطي إياه ولكنها من كماله وكل إنسان وطالب محتاج إلى كمال أي إلى مرتبة ولكن لا يتعين فإنه مؤهل بالذات لمراتب مختلفة ولا بد أن يكون على مرتبة ما من المراتب فيقوم في نفسه أن يسأل الله في أن يعطيه غير المرتبة لما هو عليه من الأهلية لها فيتصور السؤال‏

في الكمال وهو مما يحتاج إليه السائل في نيل غرضه فإنه من تمام خلق الغرض أن يوجد له متعلقة الذي يكون به كماله فإن تمامه تعلقه بمتعلق ما وقد وجد فإن أعطاه الله ما سأله بالغرض فقد أعطاه ما يحتاج إليه الغرض وذلك هو السخاء فإن السخاء عطاء على قدر الحاجة وقد يعطيه الله ابتداء من غير سؤال نطق لكن وجود الأهلية في المعطي إياه سؤال بالحال كما تقول إن كل إنسان مستعد لقبول استعداد ما يكون به نبيا ورسولا وخليفة ووليا ومؤمنا لكنه سوقة وعدو وكافر وهذه كلها مراتب يكون فيها كمال العبد ونقصه‏

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون‏

وكل شخص ما عدا هؤلاء مستعد بإنسانيته لقبول ما يكون له به هذا الكمال فبالأهلية هو محتاج إليه وللحرمان وجد السؤال بالحال فحضرة السخاء فيها روائح من حضرة الحكمة فإن الله عز وجل ما منع إلا لحكمة ولا أعطى إلا لحكمة وهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ في المنع والعطاء والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الطيب حضرة الطيب»

طابت بطيب الطيب الأشياء *** ولذا له الأوصاف والأسماء

أسماؤه الحسنى التي قد عينت *** ما عندها سوء ولا أسواء

ما طيب الطيب إلا كون خالقنا *** سميته طيبا وفيه إجمال‏

من ذاقه ذاق طعم الشهد فيه كما *** من لم يذق ما له علم ولا حال‏

إن قال ما هو هذا العلم قلت له *** إن الشيوخ بهذا القول قد قالوا

ولا ترد الذي قالوه إن له *** وجها صحيحا إليه القوم قد مالوا

ما طيب الذكر إلا طيب نشأتنا *** في صورة الحق والأعمال أموال‏

[الطيب من يميز الخبيث من الطيب‏]

يدعى صاحبها عبد الطيب فالطيب من يميز الخبيث من الطيب فيجعل الطيبين للطيبات والطيبات للطيبين من كونه طيبا ويجعل الخبيثين للخبيثات والخبيثات للخبيثين من كونه حكيما فإنه هو الجاعل للأشياء والمميز بين الأشياء والأحكام ف يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ فلا تزال أمه هاوية دائما وعليون للطيبين فلا يزال يعلو دائما وكل عال وكل هاو إنما يطلب ربه فالهاوي عارف بربه في جهة خاصة تلقا من الرسول لما سمعه‏

يقول لو دليتم بحبل لهبط على الله‏

وهنا سر لو بحثت عليه ظفرت به فاقتضى مزاج الخبيث واستعداده أنه لا يطلب ربه إلا من هذه الجهة وهو الخبيث وجهنم البعيدة القعر فهو يهوى فيها يطلب ما ذكرناه والطيب الصاعد عارف بربه في جهة خاصة تلقاها من الرسول لما سمعه يقول عن الله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فاقتضى مزاج الطيب واستعداده أنه لا يطلب ربه إلا من هذه الجهة وهو الطيب والعلو لا نهاية له إلا الله كما الهوى لا نهاية له إلا الله والذي لا يتقيد بصفة كأبي يزيد يطلبه في الإحاطة بجميع الجهات الست لأنه بكل شي‏ء محيط فيطلبه في العلو والهوى واليمين والشمال والخلف والأمام وكل هذا الجهات فهي عين الإنسان ما ظهرت إلا به وفيه فهو الذي حد ربه بالإحاطة فأكمل الأناسي من لم يحكم عليه جهة دون جهة ودونه من حكمت عليه جهة خاصة فالكامل له الظهور في كل صورة وغير الكامل هو بما تقيد به بها فقوله لا صفة له يعني لا تقييد له بأمر خاص بل له العموم بالظهور فإنه ما يمكن أن يخلو معلوم عن حد في نفسه وأعلى الحدود الإطلاق وهو تقييد فإنه قد تميز بإطلاقه عن المقيد كما تميز مقيد عن مقيد فالخلق وإن كان له السريان في الحق فهو محدود بالسريان والحق وإن كان له السريان في الخلق فهو محدود بالسريان وهذا كان مذهب أبي مدين رحمه الله وكان ينبه على هذا المقام بقوله الأمي العامي سر الحياة سرى في الموجودات كلها فتجمدت به الجمادات ونبتت به النباتات وحييت به الحيوانات فكل نطق في تسبيحه بحمده لسر سريان الحياة فيه فهو وإن كان رحمه الله ناقص العبارة لكونه لم يعط فتوح العبارة فإنه قارب الأمر ففهم عنه مقصوده وإن كان ما وفاه ما يستحقه المقام من الترجمة عنه فهذا معنى الطيب وإنه من أسماء التقييد والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المحسان حضرة الإحسان»

حضرة المحسان إحسان *** وهو في التحقيق إنسان‏

ولذا من الشهور له *** ما يقال فيه نيسان‏

إذا رأيت الذي بالفعل تعبده *** فأنت صاحب إحسان وإيمان‏

وإن جهلت ولم تعلم برؤيتكم *** إياه فاعمل على إحسانه الثاني‏

وإنما جمع الرحمن بينهما *** لكي يقابل إحسانا بإحسان‏

والكل من عنده إن كنت تعرفه *** ولست أعرفه إلا إن أغناني‏

طال انتظاري لما يأتيه من قبلي *** قولا وفعلا وهذا الأمر أعياني‏

[الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه‏]

يدعى صاحبها عبد المحسن وإن شئت عبد المحسان‏

قال جبريل عليه السلام لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما الإحسان فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك‏

وفي رواية فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏

فأمره أن يخيله ويحضره في خياله على قدر علمه به فيكون محصورا له وقال تعالى هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فمن علم‏

قوله إن الله خلق آدم على صورته‏

وعلم‏

قوله عليه السلام من عرف نفسه عرف ربه‏

وعلم قوله تعالى وفي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ وقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ علم بالضرورة أنه إذا رأى نفسه هذه الرؤية فقد رأى ربه بجزاء الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه إلا الإحسان وهو أنك تراه حقيقة كما أريته نفسك فالصورة الأولى الإلهية في العبادة مجعولة للعبد من جعله فهو الذي أقامها نشأة يعبدها عن أمره عز وجل له بذلك الإنشاء فجزاؤه أن يراه حقيقة جزاء وفاقا في الصورة التي يقتضيها موطن ذلك الشهود كما اقتضى تجليه في الصورة الإلهية المجعولة من العبد في موطن العبادة والتكليف فإن الصور تتنوع بتنوع المواطن والأحوال والاعتقادات من المواطن فلكل عبد حال ولكل حال موطن فبحاله يقول في ربه ما يجده في عقده وبموطن ذلك الحال يتجلى له الحق في صورة اعتقاده والحق كل ذلك والحق وراء ذلك فينكر ويعرف وينزه ويوصف وعن كل ما ينسب إليه يتوقف فحضرة الإحسان رؤية وشهود والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الدهر حضرة الدهر»

الدهر عين الزمان *** وما لديه امان‏

فإن يكن عين قلبي *** فليس إلا العيان‏

إذا كان دهري عين ربي فإنه *** قديم وما دهري يحد بأزمان‏

وما سبه إلا جهول بقدره *** ذليل فقير ذو جفاء ونقصان‏

ولو كان علا ما به وبفعله *** لجوزي بما جوزي به بخل عدنان‏

وكان لذاك العلم صاحب مشهد *** يراه عيانا ذا بيان وتبيان‏

فسبحان من أحياه بعد مماته *** ونعمه منه لهيب ببركان‏

[الدهر هوية الله‏]

يدعى صاحبها عبد الدهر وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر

فجعل الدهر هوية الله فصدق القائلون في قولهم وما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فإنه ما يهلكهم إلا الله فإنهم جهلوا في قولهم ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا أي نحيي فيها ثم نموت وصدقوا في قولهم بعد ذلك وما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فصدقوا فإن الدهر هو الله وجهلوا في اعتقادهم فإنهم ما أرادوا إلا الزمان بقولهم الدهر فأصابوا في إطلاق الاسم وأخطئوا في المعنى وهم ما أرادوا إلا المهلك فأصابوا في المعنى ووافقوا الاسم المشروع توفيقا من الله ولم يقولوا الزمان أو ربما لو قالوا الزمان لسمى الله نفسه بالزمان كما سمي نفسه بالدهر والدهر عبارة عما لا يتناهى وجوده عند مطلقي هذا الاسم أطلقوه على ما أطلقوه فالدهر حقيقة معقولة لكل داهر وهو المعبر عنه بحضرة الدهر وهو قولهم لا أفعل ذلك دهر الداهرين وهو عين أبد الآبدين فللدهر الأزل والأبد أي له هذان الحكمان لكن معقولية حكمه عند الأكثر في الأبد فإنهم اتبعوه الأبد فلذلك يقول القائل منهم دهر الداهرين وقد يقول بدله أبد الآبدين فلا يعرفونه إلا بطرف الأبد لا بطرف الأزل ومن جعله‏

الله فله حكم الأزل والأبد فاعلم ذلك‏

[حكم الأزل والأبد]

ومن هذه الحضرة ثبت حكم الأزل والأبد لمن وصف به وإن عين العالم لم يزل في الأزل الذي هو الدهر الأول بالنسبة إلى ما نذكره ثابت العين ولما أفاده الحق الوجود ما طرأ عليه الإحالة الوجود لا أمر آخر فظهر في الوجود بالحقيقة التي كان عليها في حال العدم فتعين بحال وجود العالم الطرف الأول المعبر عنه بالأزل وليس إلا الدهر وتعين حال وجود العالم بنفسه وهو زمان الحال وهو الدهر عينه ثم استمر له الوجود إلى غير نهاية فتعين الطرف الآخر وهو الأبد وليس إلا الدهر فمن راعى هذه النسب جعله دهور أو هو دهر واحد وليس إلا عين الوجود الحق بأحكام أعيان الممكنات أو ظهور الحق في صور الممكنات فتعين إن الدهر هو الله تعالى كما أخبر عن نفسه على ما أوصله إلينا رسوله ص‏

فقال لنا لما سمع من يسب الدهر لكونه لم يعطه أغراضه فقال لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر

لأنه المانع وجود ما لكم في وجوده غرض ولهذا سمي بالمانع وله حضرة في هذا الباب في هذا الكتاب مذكورة فتوليد العالم إنما هو للزمان وهو الدهر يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ فيتناكحان فيلد النهار جميع ما يظهر فيه من الأعيان القائمة بأنفسها وغير القائمة بأنفسها من الأجسام والجسمانيات والأرواح والروحانيات والأحوال فيظهر كل روحاني وجسماني من كل اسم رباني ويظهر كل جسم وروح من الاسم الرب لا من الاسم الرباني ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ فيتناكحان فيلد الليل مثل ما ولد النهار سواء على حد ما مضى وهذا المعبر عنه بالليل والنهار سدنة الدهر والإيلاج والتكوير والغشيان وهو قوله يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ويُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ من كور العمامة ويُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فهذه مقاليد الدهر الذي لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وهو الناكح والأرض وهو المنكوح فمن علا من هذين الزوجين فله الذكورية وهو السماء ومن سفل من هذين الزوجين فله الأنوثة وهو الأرض ونكاحهما المقلاد والإقليد الذي به يكون الفتح فيظهر ما في خزائن الجود وهو الدهر فهكذا وجد العالم عن نكاح دهري زماني ليلي ونهاري فإن علا ماء الناكح ماء المنكوح أذكر فظهرت الأرواح الفاعلة وإن علا ماء المنكوح ماء الناكح أنثى فظهرت الجثث الطبيعية القابلة للانفعال المنفعلة

فهكذا كانت الأمور *** وأظهرت حكمها الدهور

فكل أمر يخصه اسم *** كان له الكون والصدور

ثم إلى الله بعد هذا *** تصير في سيرها الأمور

فكل جسم له ظلام *** وكل روح لديه نور

إذا انطوى ظله ويخفى *** في ذاته ذلك النفور

لم يعدم الله عين شي‏ء *** أبداه لكنه يبور

فخلقه لم يزل جديدا *** في كل أوقاته يثور

لو لا وجود النكاح فيه *** ما كان للعالم الظهور

ولا لأسمائه احتكام *** ولا لأعيانها نشور

فأنجم منه طالعات *** وأنجم عنده تغور

كأنها طالبات ثار *** وطالب الثأر ما يجور

فالكون في ليل أو نهار *** على الذي قلته دور

«الصاحب حضرة الصحبة»

الصاحب الحق ليس الصاحب الداعي *** ولو تحكم في بري‏ء وأوجاعي‏

وإن صاحبها يبغي مصاحبتي *** ويدعي أنه مني ي كأسماعي‏

صحبة الرحمن فيها أدب *** فأصحب الرحمن لا تصحب سواه‏

يتمناه الذي يصحبه *** إن يراه فيرى فيه مناه‏

عجبا فيه وفي رؤيته *** ما لعبد فيه إلا ما نواه‏

بذل المجهود كي يبصره *** وأبي ذلك في الحق عماه‏

لو دري الإنسان من غيرته *** إنه حقا على هذا بناه‏

يدعى صاحبها عبد الصاحب‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه ربه أنت الصاحب في السفر

وقال تعالى مصدقا له فيما سماه به من الصاحب وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فهو الصاحب على كل حال مع العبد في أينيته‏

فهو الله في السماء *** وفي الأرض يحكم‏

وإذا كان هكذا *** فاحذروا منه واعلموا

أنه عالم بكم *** عادل ليس يظلم‏

[أن الله تعالى حد حدود العبادة معللة وغير معللة]

وذلك أن الله تعالى حد حدود العبادة عقلية وشرعية معللة وغير معللة فما عقلت علته منها سميناها عقلية وما لم تعقل علته سميناها تعبد أو عبادة شرعية فهو مع عباده المكلفين يحفظ عليهم أنفاسهم في حدوده وهو مع من ليس بمكلف ينظر ما يفعل معه المكلفون بأن لا يتعدوا حدوده فهو مع كل شي‏ء بهذه المثابة في الدنيا وأما في الآخرة فما هو معهم إلا لحفظ أنفاسهم ولما يوجده فيهم فإنهم محل الانفعال لما يريد إيجاده فلا يزال يوجد له تعالى ولهم فله من حيث ما يسبحه الموجود بحمده في شيئية وجوده فإنها النعمة الكبرى فتسبيحه الحمد لله المنعم المفضل وأما كونه يوجد لهم فلما يحصل لهم من المنفعة بسبب ذلك الموجود وما يليق به فيعود نفعه عليهم ويعود تسبيحه عليه تعالى هكذا دائما ثم إن العالم لا يزال مسافرا أبدا فالله صاحبه أبدا فهو بعينه يسافر من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام والحق معه صاحبه وللحق الشئون كما قال تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ فالحق أيضا له من شأن إلى شأن فشئون الحق هي أحوال المسافرين يجدد خلقها لهم في كل يوم زمان فرد فلا يتمكن للعالم استقرار على حال واحدة وشأن واحد لأنها أعراض والأعراض لا تبقي زمانين مطلقا فلا وجود لها إلا زمان وجودها خاصة ثم يعقبها في الزمان الذي يلي زمان وجودها الأمثال أو الأضداد فأعيان الجواهر على هذا لا تخلو عن أحوال ولا خالق لها إلا الله فالحق في شئون أبدا فإنه لكل عين حال فللحق شئون ولنا أحوال فالصحبة دائمة غير منقطعة وشئون حاكمة إلى غير نهاية ولا بلوغ غاية وذلك من المرتبة التي صح لنا فيها أولية الظهور ثم استمر السير وتمادى السفر والانتقال من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ومن مكانة إلى مكانة لكل موجود من العالم فلنعين من ذلك ما يختص بهذا النوع الإنساني فأوجده بكله ظاهر صورته وباطنها أجزاء العالم فظهر بعينه في كونه بعد أن كان يدور في أطوار العالم من عالم الأفلاك والأركان ولكن مختلف الأحوال مفترق الأجزاء غير معين بهذا الشي‏ء الخاص فالتأمت أجزاؤه والحق صاحبه في كل حال من أحوال تنقلاته وكيف لا يصحبه وهو خالق تلك الأحوال التي ينقله فيها والأطوار فأظهر عينه مجموعا لم يبق منه شيئا في غير ذاته ثم جعل ما جعل فيه يستحيل من صورة إلى صورة وهو أيضا سفر ويمده بمثل ما زال عنه وسافر أو بضده لتبقى عين جمعيته فصار الإنسان منزلا من منازل الوجود يسافر منه ويسافر إليه وليس لكل مسافر إليه إذا وصل ونزل به سوى جائزته ليلة واحدة وهي الزمن الفرد ويرحل ولا يرد عليه حال من الأحوال إلا والحق صاحب لذلك الوارد فيتعين على هذا المحل الذي هو الإنسان في كل نفس عند ورود كل حال كرامتان كرامة وضيافة لذلك الوارد بحسب مكانته من ربه وما تعطيه حقيقته والإنسان قادر على إجازته والقيام بحرمته وكرامته وضيافته ولسرعة ارتحاله تكون المسارعة إلى أداء جائزته والكرامة الأخرى المتعينة عليه كرامة صاحبه الواصل معه وهو الله الصاحب في السفر فينظر بأي اسم إلهي وصل فذلك الاسم الإلهي هو صاحبه فينظر ما يستحقه ذلك الاسم الإلهي من الجلال والتعظيم والتمجيد والتحميد فيكرمه ويضيفه بها فتلك كرامته ويبادر إلى ذلك في الزمان الواحد لأن الإنسان مجموع والرحلة سريعة فيعين لكل واحد أعني للحال الوارد وللصاحب معه وهو الاسم الإلهي الذي يحفظه من نفسه ما يستحق أن يقوم بما يتعين للحق عليه من الكرامة ويعين من نفسه أيضا حقيقة أخرى مناسبة للوارد تقوم بخدمته إلى أن يرحل عنه فالإنسان منزل ومناخ للمسافرين من الأحوال وهو في نفسه مسافر أيضا فله مع الله صحبة دائمة لسفره وله تلقى كل وارد

عليه من الله مع صاحبه من الأسماء الإلهية فيتعين عليه في كل نفس خمسة حقوق يطالب بالقيام بها حق الوارد عليه وحق صاحبه وحق المسافر عنه في تسفيره وحق صاحبه والحق الخامس حق الله تعالى وهو صاحبه الملازم له في سفره فإنه الصاحب في السفر كما هو الخليفة في الأهل فما خلق الله أتعب خاطر ولا قلب من أهل الكشف والحضور العارفين بالله من أهل الله أهل الشهود لهذه الأمور فيتخيل من لا معرفة له بالأمور أن العارف في راحة لا والله بل هو أشد عذابا من كل أحد فإنه لا يزال في كل نفس يطلب نفسه مطلوبا من أجل ما أشهده الله ما أشهده بأداء هذه الخمسة الحقوق ولو لا أن الله يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ برحمته التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وإن من رحمة الله أعطى الله هذا العبد من الاتساع وكثرة الوزعة والخدام ما يستعين بهم على أداء هذه الحقوق ما قدر الإنسان على أداء شي‏ء منها ولا يطالب بهذه الحقوق كلها إلا من أشهده الله عين ما ذكرناه كما قال إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ كما يعين في الإنسان الواحد في إنزال القرآن أنه بلاغ من وجه وانذار من وجه وإعلام بتوحيد من وجه وتذكرة لما نسيه من وجه والمخاطب بهذا كله واحد العين وهو الإنسان قال تعالى هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ فهو بلاغ له من كونه من الناس ولِيُنْذَرُوا به من كونه على قدم غرور وخطر فيحذروا ولِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي يفعل ما يريد ما ثم آخر يرده عن إرادته فيك ويصده ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ بما أشهدهم به على نفسه أنه ربه ليقوم بما يجب على المملوك من حق سيده الذي أقر له بالملك ولهذا العبد إذا اشتراه الإنسان من غيره فمن شرطه أن يقر العبد لبايعه بالملك ولا يسمع مجرد دعواه في أنه مالك له ولا يقوم على العبد حجة بقول سيده ما لم يعترف هو بالملك له ويغفل عن هذا القدر كثير من الناس فإن الأصل الحرية واستصحاب الأصل مرعي وبعد الاعتراف بالملك صار الاسترقاق في هذه الرقبة أصلا يستصحب حتى يثبت الحرية إن ادعاها هكذا هو الأمر قال تعالى وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ فثبت الاسترقاق لله عليهم فطولبوا بالوفاء بحق العبودية لهذا الإقرار فهو قوله ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ فإن التذكر لا يكون إلا عن علم متقدم منسي فيذكره من يعلم ذلك فالله مع الخلق هو الصاحب المجهول لغيبتهم عن شهود هذه الصحبة فلا يطالبون بحق ما يختص به والذي يشهده إيمانا أو عيانا يطالب بذلك فالعالم المحجوب للغيبة يخاف من المعاصي والعارف للشهود يخاف من الكفر وهو الستر يقول سدل الحجاب بعد الكشف نسأل الله عصمة واقية وهي الشهود الدائم فإنه مباح له جميع ما يتصرف فيه من هذا حاله فإنه إذا كان العبد المذنب في عقب ذنبه يعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب علم إيمان وقد أبيح له ورفع الحجر عنه في تصرفه فما ظنك بصاحب الشهود الذي يرى من يفعل به وفيه وما ينفعل وصدور الأعيان من حضرة من تصدر فافهم وتأمل ترشد وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فإني ما ترجمت لك إلا عن شرع مستقر ودين كالصباح الأبلج لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الخليفة حضرة الخلافة»

إن الخلافة سر الله في البشر *** لذا تحملت ما فيها من الضرر

أنا الخليفة ما عندي سوى نفسي *** فلا أخاف ولا أخشى من الغير

خليفة الحق في الأكوان من ظهرا *** بصورة الحق ملكا كان أو بشرا

فكان من قد أتى نص الكتاب به *** ابنا وجدا وهذا كله ذكرا

وكان يجهل في الأعيان رتبته *** وكان حقا ولم يلحق به غيرا

فلو تراه وقد خرت ملائكة *** لذاته سجدا لقلت ذا سحرا

ومن أبي نزلت في الحال رتبته *** ولم يزل خاسئا مثل الذي كفرا

[الخليفة أي الذي يخلف المسافر في أهلة]

يدعى صاحبها عبد الخليفة

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه ربه في سفره أنت الصاحب في السفر

وقد مضى فيه القول والخليفة في الأهل فسماه خليفة لما استخلفه أي بين أنه الخليفة أي الذي يخلف المسافر في أهلة فهو خليفة

بالنظر إلى المفارق أهله بسفره وهو صاحب للمقيمين أهل هذا المسافر فنحن نتكلم فيه من حيث إنه خليفة فهو القائم عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ فإن الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فسافروا عن أهليهم فاستخلفوا الحق فيهم ليقوم عليهم بما كان يقوم به عليهم صاحبهم وأوفى فمن هذه الحضرة أيضا جعل الله الخلفاء في الأرض واحدا بعد واحد لا يصح ولاية اثنين في زمان واحد

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما

ولا نشك أن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أخبرنا أن الله هو خليفة المسافر في أهله بجعله لا بجعل المسافر بخلاف الوكالة وسترد حضرة الوكالة إن شاء الله فما جعل الحق نفسه خليفة في أهل المسافر إلا وله حكم ما هو عين الحكم الذي له فيهم من كونه إلها لهم وخالقا وربا ورازقا وكونهم مألوهين له ومخلوقين ومرزوقين ومربوبين فما عين الله للرجل أو القائم في أصله من الحقوق التي لهم عليه فإن الله يتكفل لهم بذلك ما دام مسافرا غائبا عن أهله وما يفعله معهم من الإنعام وغير ذلك مما لا يجب على الرجل لأهله عليه فهو من حضرة أخرى لا من حضرة الخلافة بل من حضرة الوهب أو الكرم أو الجود أو غير ذلك ومما يجب للأهل على القائم بهم مما هو خارج عن مئونتهم حفظ الأهل وصيانته والغيرة عليه فمن خلف غائبا بسوء في أهله فقد أتى بابا من أبواب الكبائر فإنه انتهك حرمة الخليفة في الأهل وغره حلمه وإمهاله وما علم سر الله في ذلك من خير يعود على الغائب فإنه مؤمن وما يقضي الله لمؤمن بقضاء إلا وله فيه خير وكذلك هذا المنتهك من حيث إنه انتهك حرمة الغائب فله فيه خير التبديل لكونه مؤمنا ومن حيث إنه منتهك حرمة الخليفة فأمره إلى الله لا أحكم عليه بشي‏ء إلا أنه في محل الرجاء والخوف من غير ترجيح أ لا ترى إلى موسى عليه السلام كيف قال بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي من بَعْدِي وهذا خطاب خارج عمن استخلفه في قومه وهو هارون فسماهم خلفاء وما استخلفهم لكنه لما تركهم خلفه وسار إلى ربه سماهم بهذا الاسم فاجعل بالك لما تقتضيه هذه الحضرة بما نبهتك عليه والله الموفق لا رب غيره‏

«الجميل حضرة الجمال»

إن الجميل الذي الإحسان شيمته *** هو الذي تعرف الأكوان قيمته‏

إذا يراه الذي فينا يحببه *** يرى الوجود فيبدي فيه حكمته‏

[إن الله أمرنا أن تزين له‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الجميل‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم للرجل الذي قال له يا رسول الله إني أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنا فقال له صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله جميل يحب الجمال خرجه مسلم في صحيحه في كتاب الايمان‏

وفي حديث عنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الله أولى من تجمل له‏

ومن هذه الحضرة أضاف الله الزينة إلى الله وأمرنا أن تتزين له فقال خُذُوا زِينَتَكُمْ وهي زينة الله عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يريد وقت مناجاته وهي قرة عين محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وكل مؤمن لما فيها من الشهود فإن الله في قبلة المصلي وقد قال اعبد الله كأنك تراه‏

ولا شك أن الجمال محبوب لذاته فإذا انضاف إليه جمال الزينة فهو جمال على جمال كنور على نور فتكون محبة على محبة فمن أحب الله لجماله وليس جماله إلا ما يشهده من جمال العالم فإنه أوجده على صورته فمن أحب العالم لجماله فإنما أحب الله وليس للحق منزه ولا مجلى إلا العالم وهنا سر نبوي إلهي خصصت به من حضرة النبوة مع كوني لست بنبي وإني لوارث‏

إني خصصت بسر ليس يعلمه *** إلا أنا والذي في الشرع نتبعه‏

ذاك النبي رسول الله خير فتى *** لله نتبعه فيما يشرعه‏

فأوجد الله العالم في غاية الجمال والكمال خلقا وإبداعا فإنه تعالى يحب الجمال وما ثم جميل إلا هو فأحب نفسه ثم أحب أن يرى نفسه في غيره فخلق العالم على صورة جماله ونظر إليه فأحبه حب من قيده النظر ثم جعل عز وجل في الجمال المطلق الساري في العالم جمالا عرضيا مقيدا يفضل آحاد العالم فيه بعضه على بعض بين جميل وأجمل وراعى الحق ذلك على ما أخبر نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال المؤمن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الحديث الذي ذكرناه في هذا الباب الذي خرجه مسلم في صحيحه‏

إن الله جميل‏

فهو أولى أن تحبه إذ وقد أخبرت عن نفسك إنك تحب الجمال وأن الله يحب الجمال فإذا تجملت لربك أحبك وما تتجمل له إلا باتباعي فاتباعي زينتك هذا قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله‏

أي تزينوا بزينتي يحببكم الله فإن الله يحب الجمال فأعذر الله المحبين بهذا الخبر لأن المحب لا يرى محبوبه إلا أجمل العالم في عينه فما أحب إلا ما هو جمال عنده لا بد من حكم ذلك أ لا ترى إلى قوله أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فما رأى سوء العمل حسنا وإنما رأى الزينة التي زين له بها فإذا كان يوم القيامة ورأى قبح العمل فر منه فيقال له هذا الذي كنت تحبه وتتعشق به وتهواه فيقول المؤمن لم يكن حين أحببته بهذه الصورة ولا بهذه الحلية أين الزينة التي كانت عليه وحببته إلي ترد عليه فإني ما تعلقت إلا بالزينة لا به لكن لما كان محلها كان حبي له بحكم التبع فيقول الله لهم صدق عبدي لو لا الزينة ما استحسنه فردوا عليه زينته فيبدل الله سوءه حسنا فيرجع حبه فيه إليه ويتعلق به فما قال الحق هذا القول أعني زين له سوء عمله إلا ليلقن عبده الحجة إذا كان فطنا فلا ينبغي للمؤمن الكيس أن يهمل شيئا من كلام الله ولا كلام المبلغ عن الله فإن الله تعالى يقول فيه وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ وقد ذم قوما اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً ولَعِباً وهم في هذا الزمان أصحاب السماع أهل الدف والمزمار نعوذ بالله من الخذلان‏

ما الدين بالدف والمزمار واللعب *** لكنما الدين بالقرآن والأدب‏

لما سمعت كتاب الله حركني *** ذاك السماع وأدناني من الحجب‏

حتى شهدت الذي لا عين تبصره *** إلا الذي شاهد الأنوار في الكتب‏

هو الذي أنزل القرآن في خلدي *** يوم الخميس بلا كد ولا نصب‏

إلا عناية ربي حين أرسلها *** إلى فؤادي فنادتني على كثب‏

أنت الإمام الذي ترجى شفاعته *** في المذنبين وأنت السر في النصب‏

لولاك ما عبدوا نجما ولا شجرا *** ولا أتوا ما أتوا به من القرب‏

فإن كلام المبلغ عن الله ما جاء به إلا رحمة بالسامع وهو إن كان فطنا كان له وإن كان حمارا كان عليه ولما كان الجمال يهاب لذاته والحق لا يهاب شيئا وقد وصفه العالم صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بأنه جميل والهيبة تجعل صاحبها أن يترك أمورا كان في نفسه في وقت حديث النفس أن يفعلها مع محبوبه عند الاجتماع به واللقاء فتمنعه هيبة الجمال مما حدثته به نفسه وقد وصف الله نفسه بالحياء من عبده إذا لقيه فقام الحياء لله مقام الهيبة في المخلوق فما اقتضى من حال العبد أن يؤاخذه به الله ولما لقيه استحيى منه فترك مؤاخذته ولذلك قال فيمن أخذ منهم إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فأرسل الحجاب بينهم وبينه فلم يروه فلو كانت الرؤية لكان الحياء القائم بالحق مقام الجمال في الخلق فالحكم واحد والعلة تختلف فحقق هذه الحضرة وتزين وتجمل تارة بنعتك من ذلة وافتقار وخشوع وخضوع وسجود وركوع وتارة بنعته عز وجل من كرم ولطف ورأفة وتجاوز وعفو وصفح ومغفرة وغير ذلك مما هو لله ومن زينة الله التي ما حرمها الله على عباده فإذا كنت بهذه المثابة أحبك الله لما جملك به من هذه النعوت وهو الحب الذي ما فيه منة لأن الجمال استدعاه كالمغفرة للتائب والمغفرة لغير التائب فالمغفرة للتائب ما فيها منة فإن التوبة من العبد استدعت المغفرة من الله والمغفرة لغير التائب منة محضة قال تعالى في مغفرته الواجبة فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وغير المتقي والتائب يطلب رحمة الله ومغفرته من عين المنة فتجمل إن أردت أن ترتفع عنك منة الله من هذا الوجه الخاص ويكفيك حكم الامتنان بما وفقت إليه من التجمل بزينة الله فإن ذلك إنما كان برحمة الله كما قال فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المسعر حضرة التسعير»

إن المسعر رتب الأقواتا *** ليبين الأحوال والأوقاتا

فيميت أحياء يشاهد فعله *** فينا ويحيي جوده أمواتا

ويردنا بعد اجتماع نفوسنا *** عند الصدور لما نرى أشتاتا

والله أنبتنا بأرض وجوده *** من جوده في كوننا إنباتا

[الأحكام والأسعار تختلف باختلاف الأوقات‏]

يدعى صاحبها عبد المسعر وهي تحكم على حضرة الأرزاق التي تتملك ويدخلها البيع والشراء فتعين هذه الحضرة مقادير أثمانها التي هي عوض منها ولا يعلم قدر ذلك إلا الله فإنها من باب حضرة ضرب الأمثال لله وقد نهينا عن ذلك فقال فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ وهو يضرب الأمثال إِنَّ الله يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏

قيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم سعر لنا فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله هو المسعر وأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم على طلبة

فإن الوزن بين الشيئين بالقيمة مجهول لا يتحقق فما بقي إلا المراضاة بين البائع والمشتري ما لم يجهل أمر السوق بالوقت والزمان وأحوال الناس في ذلك فإن الأحكام والأسعار تختلف باختلاف الأوقات لما يختلف من الأحوال بسلطان الأوقات‏

فكل وقت له حال يعينه *** وكل حال له حكم وترتيب‏

وليس يعرفه إلا موقته *** وليس ينفع في التسعير تهذيب‏

ولما

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله هو المسعر

علمنا أنه‏

يغلي ويرخص سوقه متبذل *** فهو المسعر حكمه ما يقرر

وهو الكبير فكونه متكبرا *** من مثل هذا فالمقام يحير

لو لم يكن هذا لكان بحكمنا *** وبحكمنا هذا ألا تتبصروا

ما حكمة تعنو الوجوه لعينها *** هذا الذي جئنا به فتفكروا

فأخبر أنه السنة العالم في أثمان الأشياء التي تدخل في حكم البيع والشراء فمن سام فليعرف من يسم ولا تسم على سوم أخيك ولا تبع على بيعه كما نهيت أن تخطب على خطبته لأن الخطبة من باب الشراء والبيع لأنها شرا استمتاع بعضو وبيعه فلهذا لا بد من الصداق وهو القيمة والثمن والعوض فالبيع والشراء معاوضة

فله البيع والشراء جميعا *** وبه ينطقان لو عقلوه‏

حكم الكشف والدليل بهذا *** وإلينا عن رسله عقلوه‏

إِنَّ الله اشْتَرى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ فوقع البيع بين الله وبين المؤمن من كونه ذا نفس حيوانية وهي البائعة فباعت النفس الناطقة من الله وما كان لها مما لها به نعيم من ما لها بعوض وهو الجنة والسوق المعترك فاستشهدت فأخذها المشتري إلى منزله وأبقى عليها حياتها حتى يقبض ثمنها الذي هو الجنة فلهذا قال في الشهداء إنهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ ببيعهم لما رأوا فيه من الربح حيث انتقلوا إلى الآخرة من غير موت وقبض الحق النفس الناطقة إليه وشغلها بشهوده وما يصرفها فيه من أحكام وجوده فالإنسان المؤمن يتنعم من حيث نفسه الحيوانية بما تعطي الجنة من النعيم ويتنعم بما يرى مما صارت إليه من النعيم نفسه الناطقة التي باعها بمشاهدة سيدها فحصل للمؤمن النعيمان فإن الذي باع كان محبوبا له وما باعه إلا ليصل إلى هذا الخبر الذي الذي وصل إليه وكانت له الحظوة عند الله حيث باعه هذا النفس الناطقة العاقلة وسبب شرائه إياها إنها كانت له بحكم الأصل بقوله ونفخت فيه من روحي فطرأت الفتن والبلايا وادعى المؤمن فيها فتكرم الحق وتقدس ولم يجعل نفسه خصما لهذا المؤمن فإن المؤمنين إخوة فتلطف له في إن يبيعها منه وأراه العوض ولا علم له بلذة المشاهدة لأنها ليست له فأجاب إلى البيع فاشتراها الله تعالى منه فلما حصلت بيد المشتري وحصل الثمن تصدق الحق بها عليه امتنانا لكونه حصل في منزل لا يقتضي له الدعوى فيما لا يملك وهو الآخرة للكشف الذي يصحبها

وقد مثل هذا الذي قلناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حين اشترى من جابر بن عبد الله بعيره في السفر بثمن معلوم واشترط عليه البائع جابر بن عبد الله ظهره إلى المدينة فقبل الشرط المشتري فلما وصل إلى المدينة وزن له الثمن فلما قبضه وحصل عنده وأراد الانصراف أعطاه بعيره والثمن جميعا

فهذا بيع وشرط وهكذا فعل الله سواء اشترى من المؤمن نفسه بثمن معلوم وهو الجنة واشترط عليه ظهره إلى المدينة وهو خروجه إلى الجهاد فلما حصل هناك واستشهد قبضه الثمن ورد عليه نفسه ليكون المؤمن بجميعه متنعما بما تقبله النفس الناطقة

من نعيم العلوم والمعارف وبما تعمله الحيوانية من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب وكل نعيم محسوس ففرحت بالمكانة والمكان والمنزلة والمنزل فهذا هو المال الرابح والتجارة المنجية التي لا تبور جعلنا الله وإياكم ممن حصل له رتبة الشهداء في عافية وسلامة ومات موت السعداء ففاز بالأجر والنور والالتذاذ بالنعيمين في دار المقامة والسرور فإنها تجارة لَنْ تَبُورَ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«القريب الأقرب حضرة القربة والقرب والقرب»

أقرب الخلق إليه *** عبده إن كنت تدري‏

أنه يعلم سرى *** مثل ما يعلم جهري‏

لا تقل إنك أني *** ولتقم في الله عذري‏

إنني عبد قريب *** من وجودي مثل سحري‏

إنه نفس عني *** كربة من ضيق صدري‏

حضرة الأقرب أعلى الحضرات *** وهي بالذات لأهل الفترات‏

فهي قرب فيه بعد للذي *** قيل فيه إنه ذو عثرات‏

[إن الله قريب منا]

يدعى صاحبها عبد الأقرب وعبد القريب فإنه عز وجل أقرب إلينا من حَبْلِ الْوَرِيدِ وقال تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وقال إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏

فهو القريب بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا كما أخبر ص‏

وهو أقرب فإنه معنا أينما كنا فهو المسمى بالقريب الأقرب فهو أقرب إلينا منا لأن حبل الوريد منا والحبل الوصل فهو أوصل فإنه ما كان الوصل إلا به فبه نسمع ونبصر ونقوم ونقعد ونشاء ونحكم وهذه الأحكام ليست لحبل الوريد فهو أقرب إلينا من حَبْلِ الْوَرِيدِ فإن غاية حبل الوريد منا الذي جاء له ما للعروق من الحكم في أنها مجرى الحياة وسكك الدماء ثم إنه تعالى شرع القرب فينا لكوننا مخلوقين على صورته فأنزلنا منزلة الأمثال والمثلان ضدان والضد في غاية البعد ممن يضاده مع كونه في غاية القرب للاشتراك في الصفات الذاتية النفسية فلما تحقق العبد بالتعريف الإلهي هذا البعد عن الله شرع له تعالى طرق القربة إليه إلى أن كان مع هذا البعد سمعه وبصره وجميع قواه بفعله ما شرع له أن يفعل فهو لذله وافتقاره ضد وهو بالصورة لكونه مثلا ضد فصح بالذلة والافتقار إضافة الفعل إليه فيما شرع له فتقرب إليه بما نسب إليه من الفعل فقرب القرب الذي أخبر الحق أنه جميع قواه وأعضائه بهويته وأقرب من هذا فلا يكون فإنه أثبت عين العبد بإعادة الضمير عليه من قوله سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وأثبت أنه ما هو هو فإنه ليس هو هو إلا بقواه فإنها من حده الذاتي كما قال وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فالصورة والمعنى معا له تعالى فملك الكل إذ كان عين الكل فما في الكون إلا هو سبحانه وتعالى عنه في منازل أسمائه الحسنى لأنه ما ثم عمن تسبحه وتنزهه إلا عنه‏

فله القربة والقرب *** وله الجثة والقلب‏

وله ما نحن فيه *** فله الظاهر والقلب‏

يقلب الأمر إليه *** حالة الراحة والكرب‏

غضب الحق كروبي *** وبها السرور فأعجب‏

فاجتهد إن كنت تبغي *** سورة العبد المقرب‏

فإذا فرغت فانصب *** وإلى ربك فارغب‏

هذه آية من في *** حكمه بي يتقلب‏

فإذا زلنا فأمر *** واحد ما فيه مذهب‏

فبه يحيي وجودي *** وبه نلهو ونلعب‏

وبه نأكل خبزي *** وبه والله نشرب‏

فرحا بكون عيني *** عينه فمن تقرب‏

وإلى من كان قربى *** وهو عين كل مطلب‏

فإذا ما جئت منه *** فإليه لا تشغب‏

فهو الطالب حقا *** وأنا فلست أكذب‏

إنني أطمع فاعلم *** في الذي عندي من أشعب‏

ولما شرع الله القرب ما شرعها إلا من هذه الحضرة وسبب وجود الشرع الدعوى فعمت الشريعة المدعي وغير المدعي‏

[كل واحد يحشر يوم القيامة على نيته‏]

وكل واحد يحشر يوم القيامة على نيته ويختص بنحلته وملته والقرب كلها عند العاقل العالم تعب لا راحة فيها تعم إلا من رزقه الله شهود العامل ولا بد من تعب القابل الحامل فهو وإن كانت الأمور ترجع إلى الله تعالى فإن العبد ولا بد محل ظهورها وهو الذي ترجع إليه آلامها فهو المحس لها

حضرة القرب والقرب *** حضرة كلها نصب‏

فأمور الورى بها *** إن تأملتها نشب‏

كلما قلت قد كفى *** قال لا تفعل انتصب‏

أنت أخطأت في الذي *** قلته فيه لم تصب‏

هكذا الأمر دائما *** يقتضيه حكم النسب‏

فاهجر إن شئت أو فصله *** فلا بد من سبب‏

فعن الكد لا تني *** إذ عن الشوق لم تغب‏

هكذا جاء في الذي‏

قد قرأنا من الكتب‏

«المعطي حضرة العطاء والإعطاء»

عين العطاء كشف الغطاء *** وفي الغطاء عين الهبات‏

فإنها تعالت وجلت *** عن أن تجي‏ء بالمحدثات‏

فما حديثي غير حدوثي *** وما صفاتي غير سماتي‏

فإن تكن تريد انتقالي *** عني فداك عين سباتي‏

وفي مقامي عين قصوري *** وفي مسيري عين التفاتي‏

فالحمد لله الذي *** لم يزل يمدني بثباتي‏

حتى يكون فردا وحيدا *** في ذاته وفي الكلمات‏

فإنه إليه رجوعي *** من بعد فرقتي وشتاتي‏

فمن يرد كوني إليه *** فذاك من أجل ثقاتي‏

ومن يرد كوني إلينا *** فذاك من أجل عداتي‏

وإن تشأ عكست مقالي *** فالعيش كله في مماتي‏

وإنه مرادي وقولي *** وفيه رغبتي وحياتي‏

فمن يكون من أصدقائي *** فإنما يريد وفاتي‏

فإن فيه جمعي بربي *** وبالذي له من عدات‏

وهو المحب سرا وجهرا *** وهو الصديق لي والموات‏

[إن آخذ الصدقة هو الله‏]

يدعى صاحبها عبد المعطي والعبد آخذ والعبد معطي الصدقة وهي تقع بيد الرحمن في حال العطاء فالله آخذ فهو الآخذ كما هو المعطي وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها لأنها أعطته بحقيقتها وقبولها التمكن من الأخذ بناصيتها إذلالا لأنه عبد وكل من أخذ بناصيته فإنه ذليل والكل عبيد الله تعالى فالكل أذلاء بالذات وهو العزيز الحكيم‏

فله الجود والكرم *** والسخاء الذي يعم‏

وله الوهب منعما *** للذي تطلب الهمم‏

ليس يدري ما حكم لا *** إنما حكمه نعم‏

والوجود الذي له *** عندنا كله نعم‏

إن بلعام عبرة *** في الذي قاله فتم‏

فانظروا في الذي بدا *** وانظروا في الذي حكم‏

هو قولي في حكم لا *** ليس يدري لمن فهم‏

فخذوه مبينا *** وأنا لو رأيت ثم‏

لا تقل عند ما ترى *** أنه جار أو ظلم‏

جل عن مثل ذا وذا *** فاكتم الأمر ينكتم‏

[العطاء إما واجب وإما امتنان‏]

والعطاء منه واجب ومنه امتنان فإعطاء الحق العالم الوجود امتنان وإعطاء كل موجود من العالم خلقه واجب وهو قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ يعني في نفس الأمر ثُمَّ هَدى‏ بين بالتعريف أنه أعطى كل شي‏ء خلقه والجود والإنعام والكرم الذاتي أوجب هذا العطاء عليه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فأوجبها للعالم على نفسه ولكن لا كل العالم بل لعالم مخصوص وهو المنعوت في قوله تعالى أَنَّهُ من عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ من بَعْدِهِ وأَصْلَحَ وفي قوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ والَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ وما عدا هؤلاء المنعوتين فإن الله يرحمهم برحمة الامتنان من غير وجود نعت وهي الرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وفيها يطمع إبليس مع كونه يعلم أنه من أهل النار الذين هم أهلها فلا يخرج منها بل الله يرحمها ويرحم من فيها بوجه دقيق لا يشعر به إلا جهنم ومن فيها بإنعام يليق بذلك الموطن ومزاج يكون أهله عليه بحيث إنهم لو عرضت عليهم الجنة تألموا بالنظر إليها تألم أهل الجنة لو عرض عليهم دخول النار وتحققوا ذلك أعوذ بالله من النار ومما يقرب إليها

فكل مكان فيه أهل يخصه *** لهم رحمة فيها نعيم ولذات‏

وإن كان مكروها يعود محبا *** لمزج لهم فيه سرور وجنات‏

فجنة أهل النار بالنار عينها *** وبالقر إعطاء قد أعطتهم الذات‏

فإن اسمه الرحمن في عرشه استوى *** فرحمته عمت وبالخلق تقتات‏

فمن هذه الحضرة أوجد العالم وأنزل الشرائع لما نتضمنه من المصالح فهي الخير

المحض بما فيها من الأمور المؤلمة المنازعة لما تتعلق به الأغراض النفسية التي خلقها الله بالرحمة خلق الأدوية الكريهة للعلل البغيضة للمزاج الخاص فالرحمة التي بالقوة في زمان استعمال الدواء وبالفعل في زمان وجود العافية مما كان يألم منه فاقدها وهذا كله عطاء إلهي كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ أصحاب الجنة وهَؤُلاءِ أصحاب النار من عَطاءِ رَبِّكَ فعم الجميع مع اختلاف الذوق وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا فعم العطاء الكل فعلمنا إن عطاءه عين الرحمة التي سبقت فوسعت كل شي‏ء من مكروه وغيره وغضب وغيره فما في العالم عين قائمة ولا حال إلا ورحمة الله تشمله وتحيط به وهي محل له ولا ظهور له إلا فيها فبالرحمن استوى على عرشه وما انقسمت الكلمة إلا من دون العرش من الكرسي فما تحته فإنه موضع القدمين وليس سوى انقسام الكلمة فظهر الأمر والخلق والنهي والأمر والطاعة والمعصية والجنة والنار كل ذلك عن أصل واحد وهي الرحمة التي هي صفة الرحمن‏

فما استوى علينا إلا برحمته *** وما لنا نعيم إلا بنعمته‏

ميداننا عريض في حصر قبضته *** نجول فيه حتى نحظى بحظوته‏

ولما كانت اليد لها العطاء ولها القبض فباليد قبض علينا فنحن في قبضته واليد محل العطاء والجود فنحن في محل العطاء لأنا في قبضته‏

فلو لا الحصر ما وجد النعيم *** ولا كان الجنان ولا الجحيم‏

وفي الدارين إنعام لرحمي *** بأهلهما يقوم بهم مقيم‏

وقول الله أصدق كل قيل *** يعرف أنه البر الرحيم‏

فالتكوين دائم فالعطاء دائم فهي حضرة لا يحصرها عدد ولا أمد يقطعها تجري إلى غير أجل من حيث ذاتها وإن كان فيها آجال معينة فما تخرج منها فآجالها فيها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الشافي حضرة الشفاء»

إن الشفاء إزالة الآلام *** تعنو له الأرواح والأجسام‏

هذا هو الحق الذي قلنا به *** دلت عليه السادة الأعلام‏

والشرع يعضده لذا جئنا به *** وكذلك الألباب والأحلام‏

إني عليل ولا شخص يخبرني *** عنه تعالى بنا بأنه الشافي‏

إني سعيت وعين الحق تحفظني *** ولست أدري بها في عين إتلافي‏

إني وفيت له بعهده زمنا *** وما يعرفني بأنه الوافي‏

الحق يثبتني في كل طائفة *** حبا ويظهر لي في صورة النافي‏

لكل شخص من القرآن سورته *** وسورتي عند ما أتلو لإيلاف‏

[إن الشافي أزال المرض‏]

يدعى صاحبها عبد الشافي يقول الله عن خليله إبراهيم عليه السلام إنه قال وإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فالشافي مزيل الأمراض ومعطي الأغراض فإن الأمراض إنما تظهر أعيانها لعدم ما تطلبه الأغراض فلو زال الغرض لزال الطلب فكان يزول المرض فحضرة الشفاء هي التي تنيل أصحاب الأغراض أغراضهم ولا بد من الغرض فإن حيل بين من قام به الغرض وما تعلق به كان المرض فإن نال ما تعلق به فهو الشفاء له من ذلك المرض والمنيل هو الشافي وكثيرا رأينا ممن يطلب آلاما أي أمورا مؤلمة ليزيل بها آلاما هي عنده أكبر منها وأشد فتهون عليه ما هو دونها وتلك الآلام المطلوبة له هي في حقه شفاء وعافية لإزالة هذه الآلام الشديدة فما طلب هذه الآلام لكونها آلاما فإن الألم غير مطلوب لنفسه وإنما طلبه لإزالة ما هو أشد منه في توهمه ومهما وجد الألم المؤلم ولو كان قرصة برغوث لكان الحكم له في وقت وجوده ويريد المبتلى به إزالته بلا شك فما طلبه إذا طلبه إلا بالتوهم المتعلق بإزالة هذا الأشد فإذا حصل وذهب الأشد كان ذلك الألم المطلوب شديدا في حقه يطلب زواله بعافية أو مزيل لا ألم فيه وورد في الخبر أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك وما ثم شفاء إلا شفاؤه فإن الكل خلقه ولهذا قال الخليل فَهُوَ يَشْفِينِ فأمرنا الله أن نصلي على محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كما نصلي على إبراهيم لأنه جاء بأمر محتمل أزال هذا الاحتمال إبراهيم عليه السلام وقد أمر أن يبين للناس ما نزل إليهم لأن الله ما أنزل ما أنزله إلا هدى أي بيانا ورحمة بما يحصل لهم من العلم من ذلك البيان فقال الخليل فَهُوَ يَشْفِينِ فنص على الشافي وما ذكر شفاء لغيره وقال النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه لا شفاء إلا شفاؤك‏

فدخل الاحتمال لما جعل الله في الأدوية من الشفاء وإزالة الأمراض فيحتمل أن يريد محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن كل مزيل لمرض إنما هو شفاء الله الذي أودعه في ذلك المزيل فأثبت الأسباب وردها كلها إلى الله وهذا كان غرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم مع تقرير الأسباب لأن العالم ما يعرفون شفاء الله من غير سبب مع اعتقادهم أن الشافي هو الله ويحتمل لفظ النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إثبات أشفية لكن لا تقوم في الفعل قيام شفاء الله فقال لا شفاء إلا شفاؤك والأول في التأويل أولى بمنصب رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلما دخل الاحتمال كان البيان من هذا الوجه في خبر إبراهيم الخليل ع‏

فقيل لنا قولوا في الصلاة على محمد كما صليت على إبراهيم‏

والصلاة من الله الرحمة والشفاء من الرحمة وقد اقتضى مقام النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يبين أن الأشفية التي تكون عند استعمال أسبابها أنها شفاء الله إذ لا يتمكن رفع الأسباب من العالم عادة وقد ورد أن الله ما خلق داء إلا وخلق له دواء

فأراد الله أن يعطي محمدا صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما أعطاه إبراهيم خليله مع ما عنده مما ليس عند غيره هذا أبو بكر رضي الله عنه وهو حسنة من حسنات رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول الطبيب أمرضني والخليل يقول وإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فانظر ما بين القولين تجد قول أبي بكر أحق وأنظر ما بين الأدبين تجد الخليل عليه السلام أكثر أدبا فإن آداب النبوة لا يبلغها أدب كما قال معلم موسى عليه السلام فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما فهذا لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏

وكل وقت له حال ينطقه *** وكل حال له معنى يحققه‏

فقول إبراهيم الخليل وإِذا مَرِضْتُ نهاية وقوله يَشْفِينِ بداية وقول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا شفاء إلا شفاؤك‏

نهاية النهاية فهي أتم والإتيان بالأمرين أولى وأعم فجمع الله الأمرين لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الصلاة عليه كما صليت على إبراهيم الذي أمرنا الله أن نتبع ملته لتقدمه فيها لا لأنه أحق بها من محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فللزمان حكم في التقدم لا في المرتبة كالخلافة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الذي كان من حكمة الله تعالى أنه أعطاها أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا بحسب أعمارهم وكل لها أهل في وقت أهلية الذي قبله ولا بد من ولاية كل واحد منهم وخلع المتأخر لو تقدم لا بد منه حتى يلي من لا بد له عند الله في سابق علمه من الولاية فرتب الله الخلافة ترتيب الزمان للأعمار حتى لا يقع خلع مع الاستحقاق في كل واحد من متقدم ومتأخر وما علم الصحابة ذلك إلا بالموت ومع هذا البيان الإلهي فبقي أهل الأهواء في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ مع إبانة الصبح لذي عينين بلسان وشفتين نسأل الله العصمة من الأهواء وهذه كلها أشفية إلهية تزيل من المستعمل لها أمراض التعصب وحمية الجاهلية والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفرد الوتر الأحد حضرة الإفراد»

تفردت بالفرد في نشأتي *** وإني بتثليثها مفرد

وما لي سبيل إلى غايتي *** وإني إلى غايتي أوحد

ورثت من أشياخنا كل ما *** يورثني المجد والسؤدد

وإني إذا كنته لم أكن *** وإني أنا ذلك الأوحد

وهذا الذي قلته إنه *** عن الله سبحانه أسند

[إن الوتر في اللسان هو الدخل وهو طلب الثأر]

يدعى صاحبها عبد الفرد وعبد الوتر وعبد الأحد وأمثال ذلك‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله وتر يحب الوتر

وأوتر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بواحدة وبثلاث وبالخمس وبالسبع وبالتسع وبإحدى عشرة

وكل فرد وتر بالغا ما بلغ وكل مشفع وترا أحد وكل موتر شفعا وتر وفرد وأحد ويسمى وترا لأنه طالب ثار من الأحد الذي شفع فرديته فإن الحكم للأحد في شفع الفرد ليس للفرد ولا للوتر فلما انفرد به الأحد طلب الفرد ثاره من الأحد بالوتر فإن الوتر في اللسان بلحنهم هو الدخل وهو طلب الثأر وهوقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الذي تفوته صلاة العصر في الجماعة كأنما وتر أهله وماله‏

كان صلاة الجماعة في العصر طلبت ثارها من المصلي فذا مع تمكنه من الجماعة وإذا أوتر بواحدة سميت البتيراء لأن من شأن الوتر على حكم الأصل أن يتقدمه الشفع فإذا أوتر بواحدة لم يتقدمها شفع فكانت بتيرا على التصغير والأبتر هو الذي لا عقب له وهذه البتيراء ما هي بتيرا لكونها لا عقب لها وإنما هي بتيرا لكونها ليست منتجة ولا نتجت فلها منزلة لم يلد ولم يولد فإذا تقدمها الشفع لم تكن بتيرا لأنها ما ظهرت إلا عن شفع ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا يسلم من شفعه إلا في وتر ذلك الشفع فيصله بالشفع ليعلم أنه منه هذا كله ليتميز من الأحد فإن الأحد لا يدخله اشتراك ولا يكون نتيجة عن شفع أصلا وإن كان عن شفع فليس بواحد وإنما هو ثلاثة أو خمسة فما فوق ذلك وتقول في سادس الخمسة إنه واحد لأنه ليس بسادس ستة فقد تميز عن الشفع بما هو منفصل وليس إلا الأحد بخلاف الفرد والوتر وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة فإن الله وتر يحب الوتر

فأوتر التسعين بالتسعة واستثنى الواحد من المائة ولم يقل مائة إلا وترا أو فردا لأن الاشتراك في الفردية والوترية وليس في الأحدية اشتراك ولو قالها هنا لعلم بذكر المائة وذكر التسعة والتسعين أنه أراد الواحد فلو لا قرائن الأحوال ما كان يعرف أنه أراد الواحد للاشتراك الذي في الأفراد والأوتار فأبان بالواحد بعين اسمه فقوة الأحد ليست لسواه واحدية الكثرة أبدا إنما هي فرد أو وتر لا يصح أن تكون واحدا وسواء كانت الكثرة شفعا أو وترا وإنما أحب الله الوتر لأنه طلب الثأر والله يقول إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ والحق سبحانه قد نوزع في أحديته بالألوهية فلما نوزع في ألوهيته جاء بالوتر أي بطالب الثأر ليفنى المنازع وينفرد الحق بالأحدية أحدية الذات لا أحدية الكثرة التي هي أحدية الأسماء فإن أحدية الأسماء شفع الواحد لأن الله كان من حيث ذاته ولا شي‏ء معه فما شفع أحديته إلا أحدية الخلق فظهر الشفع‏

فما في الكون إلا الشفع فانظر *** فإن الرب بالمربون كانا

فمن فهم الذي قد قلت فيه *** أهان شريكه والشرك هانا

لهذا الحق بعد الأخذ فيه *** يورثه برحمته جنانا

بدار النار لم يخرجه منها *** وأعطاه بها النعمى امتنانا

فكن فردا وكن وترا تكنه *** ولا تك واحدا فيه عيانا

تحز بالوتر إن فكرت فيه *** وبالفرد المكانة والمكانا

ولا تنظر إلى الأحد المعلى *** فما في الكون من عين سوانا

إذا قال الإله لكل شي‏ء *** يريد وجوده إن كن فكانا

وما كان الذي قد كان منه *** سواه فمن رآه فقد رآنا

«الرفيق حضرة الرفق والمرافقة»

إن الرفيق هو الذي يسترفق *** وهو الإمام العالم المتحقق‏

فإذا نطقت عن الإله مترجما *** ألقى على الأسماء ما يتحقق‏

إذا كان الرفيق هو الرفيق *** فلا تجنح إلى غير الرفيق‏

تفز بالسبق والتحقيق فيه *** يبينه له معنى الطريق‏

لقد دقت إشارات المعاني *** إلى قلبي بمعناها الدقيق‏

وجلت أن تنال بكل فكر *** لأن مجيئها لمع البروق‏

وقلت لصاحبي مهلا فإني *** سأشهد حالها عند الشروق‏

[إن الإنسان خلق في محل الحاجة]

يدعى صاحبها عبد الرفيق وهو أخو الصاحب في الدلالة ولما خبر صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عند الموت ما قال ولا سمع منه إلا الرفيق الأعلى فإنه تعالى كان مرافقه في الدنيا وعلم منه تعالى أنه يريد بطلوع الفجر الرجوع إلى عرشه من السماء الدنيا التي نزل إليها في ليل نشأته الطبيعية فلم يرد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم مفارقة رفيقه فانتقل لانتقاله ورحل لرحلته ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الرفيق ولم يقل غير ذلك لأن الإنسان خلق في محل الحاجة والعجز فهو يطلب من يرتفق به فلما وجد الحق نعم الرفيق وعلم إن الارتفاق به على الحقيقة هو الارتفاق الموجود في العالم وإن أضيف إلى غيره فلجهل الذي أضافه فطلب الرفيق الذي بيده جميع الإرفاق فلم يطلب أثرا بعد عين وهكذا حال كل من أحب لقاء الله إذا لم تكن له درجة مشاهدة الرفيق وهو في قوله تعالى وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فهو رفيقنا تعالى في كل وجهة نكون فيها غير إنا حجبنا فسمي انفصالنا عن هذا الوجود الحسي بالموت لقاء الله وما هو لقاء وإنما هو شهود الرفيق الذي أخذ الله بأبصارنا عنه فقال من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه‏

فنلقاه بالكرامة *** والبشر وبالرضى‏

وبأهل ومرحب ضاق *** عن وسعه الفضاء

فلم يعرفه المحجوب رفيقا حتى لقيه فإذا لقيه عرفه وهو قوله وبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فاستحيوا منه المؤمنون لما عاملوه به من المخالفة لأوامره تعالى وخاف منه المجرمون فلقوه على كره فكره الله لقائهم ومع هذه الكراهة فلا بد من اللقاء للجزاء كان الجزاء ما كان ولما كان الأنس والرحمة وأخواتهما في الرفيق والمرافقة لذلك اختصت البنوية باسم الرفيق فتقول فلان رفيق فلان لأنه يغضب لرفيقه وينصره ولا يخذله وينصر الحق ولا يخذله فإنه من شرط البنوة أنه لا يكذب فيعتضد بالنبوي الحق في إظهار الصدق وليس ذلك لغير هذه الطائفة وإذا لم يكن على مكارم هذه الأخلاق خلع عنه قميص البنوة وهو قميص نقي سابغ فمن دنسه أو قلصه عاد ذلك عليه وخلع عنه قميصها فلا يلبسه إلا أهلها

«الباعث حضرة البعث»

حضرة البعث حضرة الإرسال *** فلها الصدق وهو من أحوالي‏

كلما قلت قد أتاني رسول *** منه يبغي دون الأنام سؤالي‏

تهت عجبا به وقلت أنيسي *** أنت والله إن خطرت ببالي‏

إني بعثت إلى المحبوب في السحر *** بما أتيت به من صادق الخبر

وقلت إن كنت تدري ما أفوه به *** من شاهد الحب فلتنهض على أثري‏

لما شهدتك يا من لا شبيه له *** لا فرق عندي بين الستر والنظر

فالكشف ينبئ عن أسرار موجدة *** بما يشاهده في الشمس والقمر

إن البصائر أغنتني حقائقها *** عما يشاهد رب الكشف بالبصر

[بعث الرسل وأنزل الكتب وحشر الناس‏]

يدعى صاحبها عبد الباعث قال تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ وقال وأَنَّ الله يَبْعَثُ من في الْقُبُورِ وقال وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وقال يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فمن هذه الحضرة بعث الرسل وأنزل الكتب وحشر الناس بعد أن أنشرهم ثم بعث بهم من هذه الحضرة إلى منازلهم يعمرونها من جنة ونار كل بشاكلة عمله فيبعثهم ويبعث إليهم فالبعث لا ينقطع في الدنيا والآخرة والبرزخ غير أن الرسل عرفاء لا تمشي إلا بين الملوك لا بين الرعايا وإنما تخاطب الرؤساء والعرفاء فالإرسال من الله إنما أرسلهم من كونه ملكا إلى النفوس الناطقة من عباده لكونهم مدبرين مدائن هياكلهم ورعاياهم جوارحهم الظاهرة وقواهم الباطنة فما تجي‏ء رسالة من الملك إلا بلسان من أرسل إليهم قال تعالى وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فيبعث الله رسله إلى هذه النفوس الناطقة وهي التي تنفذ في الجوارح ما تنفذ من طاعة ومخالفته ولها قبول الرسالة والإقبال على الرسول والتحفي به أو الإهانة وقد يكون الرد بحسب ما أعطاها الله من الاستعداد من توفيق أو خذلان فجعل النفوس ملوكا على أبدانها وأتاها ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً من الْعالَمِينَ وهو طاعة رعاياها لها فالجوارح والقوي لا تعصى لها أمرا بوجه من الوجوه وسائر الملوك الذين رعاياهم غير متصلين بهم قد يعصون أوامر ملوكهم كما إن من هؤلاء الملوك قد يعصى ما أمره به الملك الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله إليهم وقد يطيع فتوجيه الرسل وبعث الله إليهم أثبت لهم كونهم ملوكا فلما أنزلهم منزلته في الملك علمنا أنه لو لا ما ثم مناسبة تقتضيه ما كان هذا فإذ المناسبة في أصل الخلقة وهي قوله تعالى ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي فهو ولاة وملكه وجعله خليفة عنه فمنهم من خرج عليه كفرعون وأمثاله ومنهم من لم يخرج عليه فما كانت الرسل إلا إلى ولاته ثم إن هؤلاء الملوك النواب وجهوا أيضا منهم إليه تعالى إرسالهم يطلبون منه ما يؤيدهم به في تدبير ما ولاهم عليه فصار الملك ملك الملك لهذا السبب فمنه إليهم ومنهم إليه فما وجه ولا بعث إرساله إلا إليه وما قبل الإرسال إلا منه فإنهم من روحه وجدوا ومن عين كونه كانوا وهنا أمور وأسرار أعني في خروجهم عليه كما يخرج الولد على والده والعبد على سيده إذا ملكه يسعى في هلاكه مع إحسانه إليه وبايع على قتله لينفرد هو بالملك وهذا واقع في رد الأفعال إليهم وليست إلا إلى الله تعالى وغاية الموفق منهم الاشتراك في الأمر وهو الشرك الخفي فشرع لهم سبحانه قول لا حول ولا قوة إلا بالله رحمة بهم وقوله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وقنع منه بذلك من كونه حكيما ولما علم إن مثل هذا الشرك يقع منهم والدعوى أمرهم بالاستعانة بالله تقريرا لدعواهم حتى يكون ذلك عن أمره فأمثالنا يقول مثل هذا كله تعبدا ويثابر عليه بخلاف من لا يعلم وما قرر الحق لعباده هذا إلا غيرة فيتخذون ذلك عبادة ويقولون إذا رجعوا إليه وكان الملك لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ في موطن الجمع وسألوا عن مثل هذا الشرك الخفي يقولون أنت أمرتنا بالاستعانة بك فأنت قررت لنا أن لنا قوة تنفرد بها وإن كان أصلها منك ولكن ما لها النفوذ لا بمعونتك فطلبنا القوة منك فإنك ذو القوة المتين فيصدقهم الله في كونهم جعلوا القوة منه التي فيهم وإنهم رأوا فيها القصور لخاصية المحل فما لها نفوذ الاقتدار الإلهي إلا بمساعدة الاقتدار الإلهي فإن العجز والجبن والبخل في الخلق ذاتي لازم في جبلته وأصل خلقه إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً فإذا تكر وتشجع فنصرته من المكانة والاكتساب والتخلق بأخلاق الله حيث كان في ذاته روحا منه فأثرت البقعة كما تؤثر البقعة في الماء بما يوجد من الملوحة والمرارة

وغير ذلك من المطاعم والماء من حيث هويته على صفة واحدة من الطيب والطعم فانظر إلى ما أثرت فيه البقعة كذلك هي الأرواح المنفوخة في الأجسام من أصل مقدس نقي فإن كان المحل طيب المزاج زاد الروح طيبا وإن كان غير طيب خبثه وصيره بحكم مزاجه فرسل الله الذين هم خلفاؤه أطهر الناس محلا فهم المعصومون فما زادوا الطيب إلا طيبا وما عداهم من الخلفاء منهم من يلحق بهم وهم الورثة في الحال والفعل والقول ومنهم من يختل بعض اختلال وهم العصاة ومنهم من يكثر منه ذلك الاختلال وهم المنافقون ومنهم المنازع والمحارب وهم الكفار والمشركون فيبعث الله إليهم الرسل ليعذروا من نفوسهم إذا عاقبهم بخروجهم عليه واستنادهم إلى غيره الذي أقاموه إلها فيهم من أنفسهم وكذبوا عليهم في جعلهم إياهم آلهة والإله لا يكون بالجعل ولكن ما حملهم على ذلك إلا أصل صحيح وهو أنهم رأوا اختلاف المقالات في الله مع الاجتماع على أحديته وأنه واحد لا إله إلا هو ثم اختلفوا فيما هو هذا الإله فقال كل صاحب نظر بما أداه إليه نظره فتقرر عنده أن الإله هو الذي له هذا الحكم وما علم أن ذلك عين جعله فما عبد إلا إلها خلقه في نفسه واعتقده سماه اعتقادا واختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا والشي‏ء الواحد لا يختلف في نفسه فلا بد أن يكون هو في نفسه على إحدى هذه المقالات أو خارجا عنها كلها ولما كان الأمر بهذه المثابة أثر وهان عليهم اتخاذ الأحجار والأشجار والكواكب والحيوانات وأمثال ذلك من المخلوقات آلهة كل طائفة بما غلب عليها كما فعل أهل المقالات في الله سواء فمن هذا الأصل كان المدد لهم وهم لا يشعرون فما ترى أحدا يعبد إلها غير مجعول فيخلق الإنسان في نفسه ما يعبده وما يحكم عليه والله هو الحاكم لا ينضبط للعقل ولا يتحكم له بل له الأمر في خلقه من قبل ومن بعد لا إله إلا هو إله كل شي‏ء ومليكه وهذا كله من الاسم الباعث فهو الذي بعث إلى بواطنهم رسل الأفكار بما نطقوا به واعتقدوه في الله كما أنه بعث إلى ظاهرهم الرسل المعروفين بالأنبياء والنبوة والرسالة فالعاقل من ترك ما عنده في الله تعالى لما جاءوا به من عبد الله في الله فإن وافقوا ما جاءت به رسل الأفكار إلى بواطنهم كان وشكروا الله على الموافقة وإن ظهر الخلاف فعليك باتباع رسول الظاهر وإياك وغائلة رسل الباطن تسعد إن شاء الله وهذا نصيحة مني إلى كل قابل ذي عقل سليم وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الحق حضرة الاسم الحق»

الحق بالحق أفنيه وأثبته *** فالحق ما بين إعدام وإثبات‏

لو لا الوجود ولو لا سر حكمته *** ما كان يعبد في العزى وفي اللات‏

إن الأمور التي بها يقيدني *** بها يسر حتى في الحال والآتي‏

إن الذي قد مضى إلى مرجعه *** لما لديه من أمراض وآفات‏

والله لو علمت نفسي بمن كلفت *** ما كنت أفرح بالفاني إذا يأتي‏

[إن الحق عين الوجود]

يدعى صاحبها عبد الحق قال تعالى فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ وليس إلا الخلق والضلال الحيرة وبالخلق ظهر حكم الضلال‏

فعين وجود الحق نور محقق *** وعين وجود الخلق ظل له تبع‏

فالحق عين الوجود والخلق قيده بالإطلاق فالخلق قيد مقيد فلا حكم الإله وبه والحق الحاكم ولا يحكم إلا بالحق فحق الحق عين الخلق فإني تصرفون والأمر كما قلناه وما سمي خلقا إلا بما يخلق منه فالخلق جديد وفيه حقيقة الاختلاق لأنك تنظر إليه من وجه فتقول هو حق وتنظر إليه من وجه فتقول هو خلق وهو في نفسه لا حق ولا غير حق فإطلاق الحق عليه والخلق كأنه اختلاق فغلب عليه هذا الحكم فسمي خلقا وانفرد الحق باسم الحق إذ كان له وجوب الوجود بنفسه وكان للخلق وجوب الوجود به لا أقول بغيره فإن الغير ما له عين وإن كان له حكم كالنسب لا عين لها ولها الحكم فبالحق خلق السماء والأرض وبالحق أنزل القرآن وبِالْحَقِّ نَزَلَ وللحق نزل ففي الخلق أتاه الخلق لأنه ليل سلخ منه النهار فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ حيارى تايهون ما لهم نور يهتدون به كما جعل الله النجوم لمن يهتدي بها في ظُلُماتِ الْبَرِّ والْبَحْرِ وهو نظر العامة والخواص في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ تارة يقولون‏

نحن نحن وهو هووتارة يقولون‏

هو نحن ونحن هووتارة يقولون لا نحن نحن مخلصون ولا هو هو مخلص ثم صدق الله هؤلاء الخواص في حيرتهم بقوله لأخص خلقه علما ومعرفة وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فنفى عين ما أثبت فما أثبت وما نفى فأين العامة من هذا الخطاب فالعلم بالله حيرة والعلم بالخلق حيرة وقد حجر النظر في ذاته وأطلقه في خلقه فالهداة في النظر في الخلق لأنه الهادي وقد هدى والعمي في النظر في الحق فإنه قد حجر وجعله سبيل الردي وهذا خطاب خاطب به العقلاء ما خاطب به أهل الجمع والوجود فما نظر قط أهل الخصوص في اكتساب علم به ولا بمعلوم وإنما جعل لهم أن يهيئوا محالهم ويطهروا قلوبهم حتى يأتي الله بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ من عِنْدِهِ بالفتح فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا في أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ لأنهم عاينوا ما وصلوا إليه بالفتح الإلهي والأمر عين ما انفصلوا عنه ف ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً بالحيرة وتَسْلِيماً لحكمها ومن هذه الحضرة أثبت أن الباطل شي‏ء قذف بالحق عليه فدمغه فإذا الباطل زاهق ولا يزهق إلا ما له عين أو ما تخيل أن له عينا فلا بد له من رتبة وجودية خيالا كانت أو غير خيال قد اعتنى بها على كل حال ثم إنه من أعظم الحيرة في الحق إن الحق له الوجود الصرف فله الثبوت وصور التجلي حق بلا شك‏

وما لها ثبوت وما لها بقاء *** لكن لها اللقاء فما لها شقاء

ما من صورة ينجلي فيها إلا إذا ذهبت ما لها رجوع ولا تكرار وليس الزهوق سوى عين الذاهب فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ فهل في الحق باطل أو ما هو الباطل وما اذهب الصورة إلا قذف الصورة الأخرى وهي تذهب ذهاب أختها فهي من حيث ورودها حق ومن حيث زهوقها باطل فهي الدامغة المدموغة فصدق من نفي رؤية الحق فإن الحق لا يذهب فإنه إن كانت الصور صورنا فما رأينا إلا أنفسنا ونحن ليس بباطل وقد زهقنا بنا فنحن الحق لأن الله بنا قذف علينا فما أتى علينا إلا منا فالله بالحق قاذف والعبد للحكم الإلهي واقف‏

فالعين مني ومنه *** لها البقاء والثبوت‏

من ذا الذي منه يحيى *** أو من هو منه يميت‏

ومنه مني يحيي *** أو منه مني يموت‏

قد حرت فيه وفينا *** فنحن خرس صموت‏

لا تدعى فيه دعوى *** فإنه ما يفوت‏

أصبحت لله قوتا *** وإنه لي قوت‏

فالأمر دور وهذا *** علمي به ما بقيت‏

فلا تعتمد على من له الزهوق فإنه ما يحصل بيدك منه شي‏ء ولا تعتمد إلا عليك فإن مرجعك إليك وإلى الله ترجعون كما تُرْجَعُ الْأُمُورُ فمن هنا قال من قال من رجال الله أنا الله فأعذروه فإن الإنسان بحكم ما تجلى له ما هو بحكم عينه وما تجلى له غير عينه فسلم واستسلم فالأمر كما شرحته وعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ ... ولَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ‏

«الوكيل حضرة الوكالة»

وكيلي من يقول أنا الوكيل *** ويدري إنني عنه أقول‏

ولو أني أشاهده بقلبي *** لما كان الطلوع ولا الأفول‏

ولكني أشاهده بعيني *** لذا وقع التحير والذهول‏

[الحليم الذي لا يعجل‏]

يدعى صاحبها عبد الوكيل بهذا الاسم الإلهي ثبت الملك والملك للخلق فإنا ما وكلناه إلا في التصرف في أمورنا فيما هو لنا لعلمنا بكمال علمه فينا فإنه يعلم منا ما لا نعلمه من نفوسنا وما أعطاه العلم بنا سوانا في حال سوانا في حال ثبوتنا فنحن العلماء الجاهلون وهو العليم الذي لا يجهل ولهذا هو الحليم الذي لا يعجل فيمهل ولا يهمل ونحن نعجل وهو يعلم منا أنا نعجل وما نعجل وإنما هو انتهاء مدة الأجل فالأجل منه قصير المدة ومنه طويلها فكل يجري إلى أجل مسمى إلى ما لا يتناهى جريانا دائما لا ينقضي فالحق كل يوم في شأن ونحن في خلق جديد بين وجود وانقضاء فأحوال تتجدد على عين لا نبعد بأحكام لا تنفد وهي كلمات الله وخلقه ولا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله ولا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله وإنما التبديل لله فنحن كلماته وخلقه فهذا الوكيل الحق قد أعلمنا بتصرفه فينا أنه ما زاد شيئا على ما أعطيناه منا لأن الوكيل بحكم موكله فلا يتصرف إلا فيما أذن له فللوكيل الحجة البالغة فإنه لا يزيد على الحد المفوض إليه وما ثم ما يقبل الزيادة فإن قلت للوكيل لم فعلت كذا كشف لك‏

عنك فرأيت أنك جعلته أن يفعل ما أنكرت عليه فعله وكشف لك عن إنكارك فلا بد لك من الإنكار عليه فعذرك وعذرته‏

فلا تلم وكيلا *** ولم موكله‏

فإنما وجودي *** به ونحن له‏

ولا تلمه أيضا *** فالعين مجملة

وكلما بدا لي *** فالكون فصله‏

يعلم ذا إلهي *** على فضله‏

من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله لأن الله وكله على عباده فأمر ونهى وتصرف بما أراه الله الذي وكله ونحن وكلناه تعالى عن أمره وتحضيضه فأمره قوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وتحضيضه أَلَّا تَتَّخِذُوا من دُونِي وَكِيلًا فالرسول وكيل الوكيل وهو من جملة من وكل الحق عن أمره تعالى فهو منا وهو الوكيل من الوكيل علينا فوجب على الموكل طاعة الوكيل لأنه ما أطاع إلا نفسه فإنه ما تصرف فيه إلا به كما قررناه فرتبة الوكالة رتبة إلهية سرت في الكون سريان الحياة فكما أنه ما في الكون إلا حي فما في الكون إلا وكيل موكل فمن لم يوكل الحق بلفظه وكله الحال منه وتقوم الحجة عليه وإن وكله بلفظه فالحجة أيضا عليه لأن الوكيل ما تصرف في غير ما فوض إلى موكله وجعل له أن يوكل من شاء فوكل الرسل في التبليغ عنه إلى الموكلين إنه من المصالح التي رأينا لكم أن تفعلوا كذا وتنتهوا عن كذا فإن ذلكم لكم فيه السعادة والفوز من العطب فمن تصرف من الموكلين عن أمر وكيل الوكيل فقد سعد ونجا وحاز الخير بكلتا يديه وملأهما خيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ فلا تتهموا وكيلا ولا تتخذوا إلى تجريحه سبيلا وقفوا عند حده وأوفوا له بعهده وهذه حضرة التسليم والتفويض وأنت الجناح المهيض فإنه خلقك على صورته ثم كسرك بما شرع لك فصرت مأمورا منهيا ثم جبرك من هذا الكسر بما سلب عنك بقوله والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ ثم كسرك بالجزاء لأنه ما عمل معك إلا ما علم وما علم إلا منك وليس المهيض سوى هذا فإنه المكسور بعد جبر والجبر لا يرد إلا على كسر فالأصل عدم الكسر وهو الصحة وليست إلا الصورة فاعلم ما نبهتك عليه فَسْئَلْ به خَبِيراً فلا علم إلا عن ذوق‏

لا يعرف الشوق إلا من يكابده *** ولا الصبابة إلا من يعانيها

وهذا القدر من هذه الحضرة كاف لمن استعمله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«القوي حضرة القوة»

إذا كان القوي يشد ركني *** فلست أبالي من ضعف يكون‏

إذا عسرت على أمور كوني *** فمن تيسيره أبدا تهون‏

أنا العبد المطاع بكل وجه *** إذا ما شئته وأنا المكين‏

وإني واحد فرد تريه *** وإني عنده الروح الأمين‏

أبانت لي مشيئته تعالى *** مشائي والتي لي ما تبين‏

هذه الحضرة ممتزجة يدعى صاحبها عبد القوي وصف نفسه تعالى بأنه ذو القوة وهذا فيه إجمال فإنه اسم حميري أي صاحب القوة أي قوة القوة التي فينا ونجدها من نفوسنا كما نجد الضعف وهي قوة مجعولة لأنه قال خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ وما خلقنا إلا عليه كما سخر لنا ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فما أنشأ العالم إلا منه وعليه إن فهمت ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً لما نقلنا من حال الطفولة إلى حال الشباب ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً رجوعا إلى الأصل فسمي هرما والشيب للشيخوخة فهل هو الضعف الأول الذي خلقنا منه وأين القوة هناك فالمدبر الأول هو المدبر الآخر وهُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والوسط محل الدعوى الواقعة منه في الظاهر والباطن إلا من وفقه الله للنظر في أول نشأته ورجوعه إليها وما وجدنا للقوة ذكرا في الأول ولا في الآخر فرأينا أن ننظر في معنى هذا الضعف الذي خلقنا منه فوجدنا عدم الاستقلال بالإيجاد إن لم تكن منا الإعانة بالقبول لأجل الإمكان فإن المحال غير قابل للتكوين ولما كانت الإعانة بالقبول والاستعداد علمنا

[إن الاقتدار غير مستبد]

إن الاقتدار غير مستبد وليس الضعف هنا سوى عدم هذا الاستبداد فشرع لنا ما هو شرع له أن نستعين به في الاقتدار كما استعان ينافي القبول منا لنعلم أن الضعف ليس إلا هذا

ثم جعل لنا قوة غير مستقلة فالقوة على الحقيقة ما يظهر لها عين إلا بالمجموع فهو ذو القوة لأنه الواجب الوجود لنفسه ونحن الواجبون به لا بأنفسنا فهو وإن خلقنا من ضعف فإنه جعل فينا قوة لولاها ما كلفنا بالعمل والترك لأن الترك منع النفس من التصرف في هواها وبهذا عمت القوة العمل والترك‏

فنحن فيها على السواء *** بلا افتراء ولا مراء

لكنه الأصل في وجودي *** وما له فيه من بقاء

لأنه بالشئون يفنى *** فهو على منهج الفناء

ولما جعل الله الشيب نورا بالقوة هنا وبالفعل في الآخرة وقرن الشيبة بالضعف الذي رجعنا إليه ليرينا بذلك النور الشيبي إن ذلك الضعف ما هو ضعف ثان من أجل ما نكره كما قال فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ثم إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً يعني يسرا آخر فرجعنا إلى الضعف‏

الأول على عين الطريق الذي منه خرجنا أ لا تراه سبحانه يقول أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وقال ومِنْكُمْ من يُرَدُّ فوصفنا بأنا نرد وهو الرجوع إلى الضعف الأول إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وأرذل العمر ما لا يحصل لنا فيه علم فقال لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً فأما أن يكون منع الزيادة وإما أن يكون اتصف بعدم العلم في حال الهرم لشغله بما هو عليه من الضعف المفرط فإن الدنيا بالإنسان حامل والهرم شهر ولادتها فتقذفه من بطنها إلى البرزخ وهو المنزل الأول من منازل الآخرة فيتربى فيه كما يتربى المولود إلى يوم البعث وهو حد الأربعين حد الزمان الذي تبعث فيه الرسل الذين هم أكمل العالم علما بالأمور الإلهية فيحوزون القوة في دار الكرامة التي لا ضعف يعقبها فيتكون عنهم حساما يتكون هنا في خيالهم معنى وقد يكون في متعلق خاص حسا قدرة عليه كمن يريد أن يقوم فيقوم ويريد أن يكتب فيكتب وأما ما لا قدرة له ولا قوة له عليه إن يكون منه في الحس عليه فإنه يقوى على إيجاده خيالا في نفسه فذلك عينه يكون له في الآخرة حسا محسوسا وإن كان في قضية العقل محالا فما استحال وجوده في الخيال كذلك لا يستحيل وقوعه حسا لأن الخيال على الحقيقة إنما هو حضرة من حضرات الحس ولهذا يلحق المعاني بالمحسوسات في الصورة فيتخيل المحال محسوسا فيكون في الآخرة أو حيث أراد الله محسوسا ولهذا كان في الآخرة لا في الأولى فإن الخيال في الدرجة الاخيرة من الحس فإنه عن الحس يأخذ ما يكسوه من الصور للمحال وغيره فلهذا حيث كان لا يكون إلا في الآخرة فتنبه وأي قوى أعظم قوة ممن يلحق المحال الوجود بالوجود المحسوس حتى تراه الأبصار كوجود الجسم في مكانين فكما نتخيله هنا كذلك يقع في الآخرة حسا سواء وما عندنا في العلم أهون من إلحاق المحال بالممكن في الوجود ولا أصعب من إلحاق الممكن بالمحال وهو عدم وقوع خلاف المعلوم مع إمكانه في نفسه فهذا إلحاق الممكن بالمحال فنقول في الذي كنا نقول فيه ممكن عقلا محال عقلا فتداخلت الرتب فلحق المحال بالممكن أي برتبته ولحق الممكن برتبة المحال وسبب ذلك تداخل الخلق في الحق والحق في الخلق بالتجلي والأسماء الإلهية والكونية فالأمر حق بوجه خلق بوجه كل كون كون منه فالحضرة الإلهية جامعة لحكم الحق في الخلق والخلق في الحق ولو لا ذلك ما اتصف الحق بأن العبد يغضبه ويسخطه فيغضب الحق ويسخط ويرضيه فيرضى وأما كون الحق يسخط العبد ويغضبه ويرضيه فالعامة تعرف هذا وهذا من علم التوالج والتداخل فلو لا وجود حكم القوة ما كان هذا فإن الضعف مانع قوى فانظر حكم القوة كيف سرى في الضعف حتى تقول في الضعيف إذا قوى عليه الضعف بحيث لا يستطيع الحركة فتنسب القوة للضعف فوصفته بضده فمن هنا تعرف قول أبي سعيد الخراز لما قيل له بما ذا عرفت الله قال بجمعه بين الضدين ثم تلا هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ فبالقوة تقوى الضعف وبالأقوى ضعفت القوة وهذا الفرق بين الأقوى والقوي كالأقرب والقريب فكل أقرب قريب وما كل قريب أقرب وكل أقوى قوى وما كل قوى أقوى وقد ذكرنا في هذه الحضرة ما فيه غنية وكفاية والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المتين حضرة المتانة»

إن قلت قولا صحيحا *** أنا القوي المتين‏

أو كان غير صحيح *** أنا الضعيف المهين‏

وأيضا

إن المتانة حال ليس يدريها *** إلا الذي هام وجدا في معانيها

وقوة الله أبدتها لناظرنا *** وحكمها أبدا فيمن يعانيها

إذا أشد بها ركني تكون لنا *** أولى وإن كان عيني فهو ثانيها

إن المطالع قد لاحت أهلتها *** للناظرين إليها في مبانيها

[المتين هو الذي لا يتزلزل عما يجب له الثبوت فيه‏]

يدعى صاحبها عبد المتين قال تعالى إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فرفع على الصفة لقوله ذو وهو والمتين هو الذي لا يتزلزل عما يجب له الثبوت فيه لتمكنه وثقله فنبه على العين أنها بهذه الصفة من المتانة لئلا يتخيل متخيل أو يقول قائل إن الصور لما تبدلت في التجلي واختلفت والأسماء الإلهية لما كثرت وتنوعت ودل كل اسم على معنى لا يكون لغيره وأعطت كل صورة أمرا لم تعطه الصورة الأخرى إن العين والمسمى تبدل لهذا التبدل فأخبر أنه من المتانة بحيث أن الأمر على ما قرر وشوهد من التحول والتبدل والعين ثابتة في مكانتها لا نقبل التغيير وأعظم ما يظهر حكم هذا في العقائد في الله لأن الإله الذي اعتقد بالدليل النظري إذا جاءت الشبهة لصاحب هذا الاعتقاد النظري إزالته فلو كانت المتانة من صفات الإله الذي جعله المعتقد في نفسه ما أثرت فيه الشبهة الواردة فأخلت المحل عنه وعاد يبحث على إله آخر يجعله فيه فليست المتانة إلا للاله القوي الحق الذي يجد في نفسه هذا الطالب الاستناد إليه ولا يدري ما هو ولمتانته لا يقوى الناظر أن ينقله إلى محل اعتقاده فمتانته حجابه فلا يعرف والحق الذي وسعه قلب العبد هو الذي يقبل آثار الشبه فيه فقد علمت لما ذا تسمى بالمتين وهو علم غريب فبالمتانة كان الاستناد فاستند إليه كل ممكن يطلب الترجيح والعلم بهذا المستند عين نفي العلم به على علم بأنه لا يعلم لا بد من ذلك كما قال الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك وهذا أعلى ما يوصل إليه في العلم بالله المتين فإن للمتانة درجات فقصدنا أتمها وأعلاها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«النصير حضرة النصر»

حضرة النصر حضرة *** للذي قد بغي عليه‏

فهو لله وحده *** ما له غير ما لديه‏

وأيضا

إن الولي الذي إذا تولاه *** عبد تولاه رب حين ولاة

إن الولي اسم مفعول يكون له *** من لفظه فاعل إذا تولاه‏

لولاه ما ثبتت فينا قواعده *** ولا رست رغبة لولاه لولاه‏

أملي على الذي يتلوه من سور *** على مسامع كوني حين أملاه‏

بالقلب سطره ربي لنحفظه *** به بلاني إلهي حين أبلاه‏

[إن الأهواء مختلفة]

يدعى صاحبها عبد الولي والولي الناصر وإن شئت قلت عبد الناصر قال تعالى الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ من الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وهو نور العيان وهو عين اليقين وأقام تعالى عذرا لما نبه بقوله في تمام الآية والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ وما أفرد الطاغوت لأن الأهواء مختلفة وأفرد نفسه لأنه واحد يخرجونهم من النور إلى الظلمات فنصر هؤلاء الأولياء لهم حيث لا يتركونهم يدخلون الجنة لما لهم فيها من الضرر لأنهم على مزاج يتضرر بالاعتدال كما تضر رياح الورد بالجعل فهم ينصرون أصحابهم وليس إلا أهل النار الذين هم أهلها أخبر صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ لأن فيه الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وهو من المؤمنين وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ولهذا القطع كان الصلاح مطلوبا لكل نبي مكمل وشهد الله به لمن شاء من عباده على التعيين تشريفا له بذلك كعيسى يحيى عليه السلام وأما قوله تعالى وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وليس المؤمن إلا من لم يدخل إيمانه بأمر ما خلل يقدح في إيمانه والمؤمنون في كلام الله نوعان وهم الكافرون فنوع آمن بالله وكفر بالطاغوت وهو الباطل فهم أهل الجنة المعبر عنهم بالسعداء والنوع الآخر آمن بالباطل وكفر بالله وهو الحق فهم أهل النار المعبر عنهم بالأشقياء فقال عز وجل في حق السعداء فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ وهؤلاء هم الذين حق على الله نصرهم‏

والألف واللام للعهد والتعريف وقال تعالى في حق الأشقياء والَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ... فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ فإذا جعلت الألف واللام في نصر المؤمنين للجنس فمن اتصف بالإيمان فهو منصور ومن هنا يظهر المؤمنون بالباطل في أوقات على الكافرين بالطاغوت فيجعلون ذلك الظهور نصرا لأن النصر عبارة عمن ظهر على خصمه فمن جعل الألف واللام للجنس جعل إيمان أهل الباطل بالباطل أقوى من إيمان أهل الحق بالحق فالمؤمن من لا يولي الدبر ويتقدم ويثبت حتى يظفر أو يقتل ولهذا ما انهزم نبي قط لقوة إيمانه بالحق وقد توعد الله المؤمن إذا ولى دبره في القتال لغير قتال أو انحياز إلى فئة تعضده فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ومن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ من الله فخاطب أهل الايمان وبقرائن الأحوال علمنا أنه تعالى أراد المؤمنين بالحق وأرسل الآية في اللفظ دون تقييد بمن وقع الايمان به لكن قرائن الأحوال تخصص وتعطي العلم بالمقصود من ذلك غير أن الحق ما أرسلها مطلقة لا ليقيم الحجة على الذين آمنوا بالباطل إذا هزمهم الكافرون بالطاغوت لما دخلهم من الخلل في إيمانهم بالباطل فهو عندنا ليس بنصر ذلك الظهور الذي للمؤمنين بالباطل على الكافرين بالطاغوت وإنما المؤمنون بالحق لما تراءى الجمعان كان في إيمانهم خلل فأثر فيه الجبن الطبيعي فزلزل أقدامهم فانهزموا في حال حجاب عن إيمانهم بالحق ولا شك أن الخصم إذا رأى خصمه انهزم أمامه وفر وأخلي له مكانه لا بد أن يظهر عليه ويتبعه فإن شئت سميت ذلك نصرا من الله لهم فما انتصروا على المؤمنين بالحق وإنما انتصروا على وجه الخلل الذي دخل في إيمانهم واستتر عنهم بالخوف الطبيعي فكانوا كفارا من ذلك الوجه فكان نصرهم نصر الكفار بعضهم على بعض وهم المؤمنون بالباطل لأن هؤلاء المؤمنين بالحق آمنوا بما خوفهم به الطبع من القتل وهو باطل فآمنوا بالباطل لخوفهم من الموت والشهيد ليس بميت فإنه حي يرزق فلما آمنوا به أنه موت آمنوا بالباطل فهزم أهل الباطل أهل الباطل وهذا يسمى ظهورا لا نصرا إلا إذا جعلت الألف واللام للجنس فتشمل كل مؤمن بأمر ما من غير تعيين فهذه حكمة تسمية الله أهل الباطل مؤمنين وأهل الحق كافرين فلا تغفل يا ولي عن هذه الدقيقة فإنها حقيقة وهي المؤثرة في أهل النار الذين هم أهلها في المال إلى الرحمة لأن المشرك آمن بوجود الحق لا بتوحيده ووجود الحق حق فهو بوجه ممن آمن بالحق فما تخلص له الايمان بالباطل إذ آمن بالشريك فتقسم إيمانه فلم يقو قوة إيمان المؤمن بالحق من حيث أحديته في ألوهته قال تعالى وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ ولم يقل بتوحيد الله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ لكنه جلي وخفي فالمؤمن بتوحيد الله مؤمن بوجود الله وما كل مؤمن بوجود الله يكون مؤمنا بتوحيد الله فينقص عن درجته في قوة الايمان فإن استناد الايمان من المؤمن بالباطل إلى عدم ولهذا يرجع عنه عند الكشف والمؤمن بتوحيد الحق يرجع إلى أمر وجودي يستند إليه فيعضده فلا يرجع عنه فالمؤمن بالباطل أعان على نفسه المؤمن بالحق من حيث الأحدية وهو قوله تعالى كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً وقوله لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا فقد تبرءوا في موطن ما فيه تكليف بالبراءة أنها نافعة صاحبها والكافر لا مولى له ولهذا انهزم أمام خصمه فإنه استترت عنه حياة الشهيد في سبيل الله فآمن بالموت وهو الباطل وكفر بالحياة وهي الحق وفي هذا تذكرة لأولي الألباب والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «انتهى النصف الأول من الجزء الرابع من الفتوحات المكية ويليه النصف الثاني أوله «الحميد حضرة الحمد»

الفتوحات المكية التي فتح الله بها على الشيخ الإمام العامل الراسخ الكامل خاتم الأولياء الوارثين برزخ البرازخ محيي الحق والدين أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي قدس الله روحه ونور ضريحه آمين بقية الجزء الرابع‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏

«الحميد حضرة الحمد»

أنت الحميد اسم مفعول لحامدنا *** وفاعل ولهذا أنت محمود

وحامد فإذا جئنا لنحمده *** هو الشهيد لنا والقلب مشهود

من غير كيف ولا كم ولا شبه *** وليس يأخذه حصر وتحديد

إني لأعبده بي لا به فإنا *** بالله أعبده والله معبود

إني لأعرفه إذا أشبهه *** شرعا وعقلا فإطلاق وتقييد

[لواء الحمد]

يدعى صاحبها عبد الحميد وهو فعيل فعم اسم الفاعل بالدلالة الوضعية واسم المفعول فهو الحامد والمحمود وإليه ترجع عواقب الثناء كلها ومحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بيده لواء الحمد فلآدم عليه السلام علم الأسماء ولمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم علم الثناء بها والتلفظ بالمقام المحمود فأعطى في القيامة لأجل المقام المحمود العمل بالعلم ولم يعظ لغيره في ذلك الموطن فصحت له السيادة فقال آدم فمن دونه تحت لوائي وما له لواء إلا الحمد وهو رجوع عواقب الثناء إلى الله وهو قوله الحمد لله لا لغيره وما في العالم لفظ لا يدل على ثناء البتة أعني ثناء جميلا وإن مرجعه إلى الله فإنه لا يخلو أن يثني المثنى على الله أو على غير الله فإذا حمد الله فحمد من هو أهل الحمد وإذا حمد غير الله فما يحمده إلا بما يكون فيه من نعوت المحامد وتلك النعوت مما منحه الله إياها وأوجده عليها إما في جبلته وإما في تخلقه فتكون مكتسبة له وعلى كل وجه فهي من الله فكان الحق معدن كل خير وجميل فرجع عاقبة الثناء على المخلوق بتلك المحامد على من أوجدها وهو الله فلا محمود إلا الله وما من لفظ يكون له وجه إلى مذموم إلا وفيه وجه إلى محمود فهو من حيث إنه محمود يرجع إلى الله ومن حيث ما هو مذموم لا حكم له لأن مستند الذم عدم فلا يجد متعلقا فيذهب ويبقى الحمد لمن هو له فلا يبقى لهذا اللفظ المعين إلا وجه الحمد عند الكشف ويذهب عنه وجه الذم أي ينكشف له أن لا وجه للذم ولقد أخبرني في هذا اليوم الذي قيدت فيه هذه الحضرة في هذا الكتاب صاحبنا سيف الدين ابن الأمير عزيز رحمه الله أنه رأى والي البلد يضرب إنسانا ضربا مبرحا فوقف في جملة الناس وهو يمقت الوالي في نفسه لضربه ذلك الشخص فأخذ عن نفسه فشاهد الوالي مثله واحدا من الجماعة ينظر إلى المضروب مثل ما تنظر إليه الجماعة والآمر بالضرب ليس الوالي فعذره وسرى عنه وانصرف وكان سبب هذه الحكاية أن الوالي جار عليه في حكومة فقلت له ارفعه إلى السلطان فقال لي ما بيد الوالي شي‏ء ثم ذكر لي ما رأى وهكذا الأمر في نفسه فهذا شخص قد كان مع الحجاب ينسب الجور إلى الوالي فلما كشف الله عن بصره الغطاء زال كون ذلك جورا عنده وقام عذر الجائر عنده فصار حمد أو ثناء خير وبرئت ساحة من أضيف الذم إليه فعادت عواقب الثناء إلى الله عز وجل أ لا تراه يقول يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وقد افتقر إلى مذموم ومحمود ودخل تحت مسمى الله ثم قال والله هُوَ الْغَنِيُّ يقول الذي لا يفتقر الحميد أي الذي ترجع إليه عواقب الثناء من الحامد والمحمود وإن كان مذموما بنسبة

ما فهو محمود بنسبة أقوى لها الحكم فيه فالحمد لله تملأ الميزان لأنه كل ما في الميزان فهو ثناء على الله وحمد لله فما ملأ الميزان إلا الحمد فالتسبيح حمد وكذلك التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم والتوقير والتعزيز وأمثال ذلك كله حمد فالحمد لله هو العالم الذي لا أعم منه وكل ذكر فهو جزء منه كالأعضاء للإنسان والحمد كالإنسان بجملته‏

فقد بان لك الحمد *** فلا يحجبنك الذم‏

وقد لاح لك السر *** فما غيبه الكتم‏

وحكم هذه الحضرة على ثلاثة أنحاء في التمام والكمال وأتمها واحد منها وذلك حمد الحامد نفسه يتطرق إليه الاحتمال فلا يكون له ذلك الكمال فيحتاج إلى قرينة حال وعلم يصدق الحامد فيما حمد به نفسه فإنه قد يصف واصف نفسه بما ليس هو عليه وكذلك حكمه إذا حمده غيره يتطرق أيضا إليه الاحتمال حتى يستكشف عن ذلك فينقص عن درجة الإبانة والتحقيق والحمد الثالث حمد الحمد وما في المحامد أصدق منه فإنه عين قيام الصفة به فلا محمود إلا من حمده الحمد لا من حمد نفسه ولا من حمده غيره فإذا كان عين الصفة عين الموصوف عين الواصف كان الحمد عين الحامد والمحمود وليس إلا الله فهو عين حمده سواء أضيف ذلك الحمد إليه أو إلى غيره‏

فما ثم إلا الله فاحمد نقل حقا *** ولا تعتبر في الحمد كونا ولا خلقا

وراقب ثناء الحق في كل لفظة *** فإن له في كل محمدة مرقى‏

فمن نال هذا العلم نال مكانة *** تنزله من ربه المنزل الصدقا

وسابق إلى هذا المقام بعزمة *** مع السابقات الغر في حمده سبقا

ولا بد من تقسيم ربك خلقه *** فلا بد من أتقى ولا بد من أشقى‏

وقد جاء في نص الكتاب مسطرا *** بليل وأعلى فاعتبر ذلك النطقا

فإن كتاب الله ينطق بالذي *** قد أودعه الرحمن في خلقه حقا

وقد وضح العلم الجلي لذي حجى *** فإن شئت أن تردى وإن شئت أن ترقى‏

والحمد لله المنعم المفضل والحمد لله على كل حال فعم وخص والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المحصي حضرة الإحصاء»

إذا أحصيت أمرك في كتاب *** تكن أنت الذي تحصى وتحصى‏

وقلت لأمنا مهلا علينا *** وقلت لاختنا بالله قصي‏

إذا ما جئت يا نفسي إليه *** فقولي ما تشاء له وقصي‏

مضى عني ولم أشهد سواه *** فقلت لهمتي بالله قصي‏

وخصي من تعبده هواه *** ولا تكتمه ما تدريه خصي‏

[الديوان الإلهي الوجودي رأسه العقل الأول وهو القلم‏]

يدعى صاحبها عبد المحصي وهي حضرة الإحاطة أو أختها لا بل هي أختها لا عينها قال تعالى وأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وأَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً وقال في الكتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وهذا مقام كاتب صاحب الديوان كاتب الحضرة الإلهية وهذا الكاتب هو الإمام المبين قال تعالى وكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ في إِمامٍ مُبِينٍ فالديوان الإلهي الوجودي رأسه العقل الأول وهو القلم وأما الإمام فهو الكتاب وهو اللوح المحفوظ ثم تنزل الكتبة مراتبها في الديوان بأقلامها لكل كاتب قلم وهوقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لما ذكر حديث الإسراء فقال حتى ظهرت لمستوي أسمع فيه صريف الأقلام‏

فالقلم الأعلى الذي بيد رأس الديوان لا محو فيه كل أمر فيه ثابت وهو الذي يرفع إلى الحق والذي بأيدي الكتبة فيه ما يمحو الله وفيه ما يثبت على قدر ما تأتي به إليهم رسل الله من عند الله من رأس الديوان من إثبات ما شاء ومحو ما شاء ثم ينقل إلى الدفتر الأعلى فيقابل باللوح المحفوظ فلا يغادر حرفا فيعلمون عند ذلك أَنَّ الله قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً إلا أن الفرق بين الإحصاء والإحاطة إن الإحاطة عامة الحكم في الموجود والمعدوم وفي كل معلوم والإحصاء لا يكون إلا في الموجود فما هو شيئية أحاط بكل شي‏ء علما شيئية أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً فشيئية الإحصاء تدخل في شيئية الإحاطة

فكل موجود محصي وهو موجود فهو محصي أن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة لأنها داخلة في الوجود لدلالتها على موجود وهي أمهات كالدرج للفلك ثم إنه لكل عين من أعيان الممكنات اسم إلهي خاص ينظر إليه هو يعطيه وجهه الخاص الذي يمتاز به عن غيره والممكنات غير متناهية فالأسماء غير متناهية لأنها تحدث النسب بحدوث الممكن فهي هذه الأسماء من الأسماء المحصاة كالذي يحوي عليه درج الفلك من الدقائق والثواني والثوالث إلى ما لا يتناهى فلا يدخل ذلك الإحصاء وتحكم عليه الإحاطة بأنه لا يدخله الإحصاء فكل محصي محاط به وما كل محاط به محصي وكل ما يدخله الأجل يدخله الإحصاء مثل قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فالشغل الإلهي لا ينتهي فإنه عند فراغه بانتهاء حكم الدنيا شرع في الشغل ينافي الآخرة وحكم الآخرة لا نهاية له لأنها إلى غير أجل فشغله بنا لا يقبل الفراغ وإن كان شأنه في الدنيا الذي يفرغ منه إنما هو بنا لكونه خلق الأشياء من أجلنا وهو ما لا بد لنا منه ومن أجله لأن كل شي‏ء يسبح بحمده لا بل من أجله لا بل من أجلنا لما نحن عليه من الجمعية والصورة فالتسبيحة منا تسبيح العالم كله فما أوجد الأشياء إلا من أجلنا فبنا وقع الاكتفاء والواحد منا يكفي في ذلك وإنما كثرت أشخاص هذا النوع الإنساني وإن كانت محصاة فإنها متناهية لكون الأسماء الإلهية كثيرة فكانت الكثرة فينا لكثرتها

فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول في دعائه اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك‏

الحديث فكانت الكثرة فينا لكثرتها وهو قوله مما يزيد على ما ذكر في سؤاله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فكثرت لكثرة الأسماء أشخاص هذا النوع المقصود فإن الأشياء المخلوقة من أجله إن لم يستعملها فيما خلقت له وإلا تبقي مهملة وما في قوة واحد من هذا النوع استعمال الكل فكثر أشخاصه ليعم الاستعمال للأشياء التي خلقها له ولا بد من خلقها فالممكن لا ينتفع إلا بالممكن والحق واسطة بين الممكنين‏

فما لنا شغل إلا به *** وما له شأن إلا بنا

فكلما قلناه فهو له *** وكل ما يقضى فهو لنا

وقد نبهنا على ما لا بد منه مما يختص بهذه الحضرة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

المبدئ «حضرة البدء»

لما بدأت بأمر لست أبدية *** علمت أني عين البدء من فيه‏

فكنت أشهده في كل نازلة *** وكان يشهدني إذ كنت أخفيه‏

سألت من هو عيني أن يمن على *** قلبي به وعسى الرحمن يشفيه‏

مما به فله نفس تنازعني *** فيه وقلت لعل الله يكفيه‏

همي وإن له دينا وأسأله *** يقضيه عني فإني لا أو فيه‏

يدعى صاحبها عبد المبدئ وما للأبد أولية تعقل إلا بالرتبة والوجود فإن له الرتبة الثانية ما له في الأولى قدم فإنها رتبة الواجب الوجود لنفسه والرتبة الثانية رتبة الواجب الوجود بغيره وهو الممكن فالمتقدم من المخلوقين والمتأخر سواء في الرتبة فإنهم في الرتبة الثانية فإذا نسبت الثانية إلى الأولى عقلت الابتداء والحضرة الأولى هي التي أظهرتها فهو المبدئ لها بلا شك ولا يزال حكم البدء في كل عين عين من أعين الممكنات فلا يزال المبدئ مبدئا دائما لأنه يحفظ الوجود علينا بما يوجده فينا لبقاء وجودنا مما لا يصح لنا بقاء إلا به فهو تعالى في حق كل ما يوجده دائما مبدئ له وذلك الموجود ندعوه بالمبدئ فكل اسم إلهي يسمى بالمبدئ لما له من الحكم فيما أوجده المبدئ الأول وسيأتي حكم الحضرة الأولية في اسمه الأول إن شاء الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المعيد حضرة الإعادة»

إن الإعادة مثل البدء في الصور *** وليس يلحقها شي‏ء من الغير

بذا تزيد على الأولى فإن لها *** وقاية تتقي المذكور بالضرر

لو لا الإعادة ما كنا على طلب *** عند القيام من الأجداث والحفر

لأن أسماءه الحسنى تطالبنا *** بما أتينا به في صادق الخبر

وما أنا ملك تعنو الوجوه لنا *** عند الظهور من الأملاك والبشر

[إن البدء والإعادة حكمان‏]

يدعى صاحبها عبد المعيد فإنه تعالى يُبْدِئُ ويُعِيدُ فالبدء والإعادة حكمان له فإنه ما أعاد شيئا بعد ذهابه إلا أنه في إيجاده الأمثال عاد إلى الإيجاد هو تعالى هو معيد لا أنه يعيد عين ما ذهب فإنه لا يكون لأنه أوسع من ذلك فهو المعيد للحال الذي كان يوصف به فما من موجود يوجده الحق إلا وقد فرغ من إيجاده ثم ينظر ذلك الموجود إلى الله تعالى قد عاد إلى إيجاد عين أخرى هكذا دائما أبدا فهو المبدئ المعيد المبدئ لكل شي‏ء والمعيد لشأنه كالوالي الحكم في أمر ما إذا انتهى عين ذلك الحكم في المحكوم عليه فقد فرغ منه بالنظر إليه وعاد هو إلى الحكم في أمر آخر فحكم الإعادة فيه فافهم بخلاف حكم المبدئ فهو يبدى‏ء كل شي‏ء خلقا ثم يعيده أي يرجع الحكم إليه بأنه يخلق وهو قوله وهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يعيد الخلق أي يفعل في العين التي يريد إيجادها ما فعل فيمن أوجدها وليس إلا الإيجاد فإن الخلق يريد به المخلوق في موضع مثل قوله هذا خَلْقُ الله ويريد به الفعل في موضع مثل قوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وهنا يريد به الفعل بلا شك لأنه ليس لمخلوق فعل أصلا فما فيه حقيقة من ذاته يشهد بها فعل الله لأن المخلوق لا فعل له ولا يشهد من الله إلا ما هو عليه في نفسه وقد يرد الخلق ويراد به المخلوق كما قررنا لا الفعل فلهذا جعلنا قوله وهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أنه يريد به هنا الفعل لا المخلوق فإن عين المخلوق ما زالت من الوجود وأعني به الذات القائمة بنفسها وإنما انتقلت من الدنيا إلى البرزخ كما تنتقل من البرزخ إلى الحشر إلى الجنة أو إلى النار وهي هي من حيث جوهرها لا إنها عدمت ثم وجدت فتكون الإعادة في حقها فهو انتقال من وجود إلى وجود من مقام إلى مقام من دار إلى دار لأن النشأة التي تخلق عليها في الآخرة ما تشبه نشأة الدنيا إلا في اسم النش‏ء فنشأة الآخرة ابتداء فلو عادت هذه النشأة لعاد حكمها معها لأن حكم كل نشأة لعينها وحكمها لا يعود فلا تعود والجوهر عينه لا غيره موجود من حين خلقه الله لم ينعدم فإن الله يحفظ عليه وجوده بما يخلق فيه مما به بقاؤه فالإعادة إنما هي في كون الحق يعود إلى الإيجاد بالنظر إلى حكم ما فرغ من إيجاده من هذا المخلوق ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فما ذكر الله أعاده إلا أنه لو شاء لفعل كما قال ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ لكنه لم يشأ فكلما فرغ ابتداء فعاد إلى حكم الابتداء هذا حكم إلهي لا يزول فحكم الإعادة ما خرج حكمها عن الحق فحكمها فيه لا في الخلق الذي هو المخلوق فالعالم بعد وجوده ينتقل في أحوال جديدة يخلقها الله له فلا يزال الحق يخلق ويعود إلى الخلق فيخلق لا إله إلا هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ بالإيجاد

«المحيي حضرة الأحياء»

إنما المحيي الذي يحيي *** مثل نشر الثوب من طي‏

فإذا ما قيل لي تحيي *** قلت ربي الذي يحيي‏

وهو مولاي ومستندي *** ومزيل الرشد بالغي‏

وإذا ما جئت أسئلة *** زادني ليالي‏

لست في خير وفي دعة *** كلما دعيت بالشي‏ء

[أن الحياة للأشياء فيض من حياة الحق عليها]

يدعى صاحبها عبد المحيي وهو الذي يعطي الحياة لكل شي‏ء فما ثم إلا حي لأنه ما ثم إلا من يسبح الله بحمده ولا يسبحه إلا حي سواء كان ميتا أو غير ميت فإنه حي لأن الحياة للأشياء فيض من حياة الحق عليها فهي حية في حال ثبوتها ولو لا حياتها ما سمعت قوله كن بالكلام الذي يليق بجلاله فكانت وإنما كان محييا لكون حياة الأشياء من فيض اسم الحي كنور الشمس من الشمس المنبسط على الأماكن ولم تغب الأشياء عنه لا في حال ثبوتها ولا في حال وجودها فالحياة لها في الحالتين مستصحبة ولذلك قال إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فإن الإله لا يكون من الآفلين والحي من أسمائه تعالى وليس الموت من أسمائه فهي يحيي ويميت وليس الموت بإزالة الحياة منه في نفس الأمر وعند أهل الكشف ولكن الموت عزل الوالي وتولية وال لأنه لا يمكن أن يبقى العالم بلا وال يحفظ عليه مصالحه لئلا يفسد فاستناد

الموت إذا كان عبارة عن الانتقال والعزل يستند إلى حقيقة إلهية وليس إلا فراغ الحق من شي‏ء إلى شي‏ء آخر فما له فيما فرغ منه من حكم في ذلك الوجه المفروغ منه وليس إلا إيجاد عينه خاصة وما بقي الشغل وعدم الفراغ إلا في إيجاد ما به بقاؤه في الوجود فإلى هذه الحقيقة الإلهية مستند الموت في العالم إلا ترى إلى الميت يسأل ويجيب إيمانا وكشفا وأنت يا محجوب تحكم عليه في هذه الحال عينا إنه ميت وكذا جاء إن الميت يسأل في قبره وما أزال عنه اسم الموت السؤال فإن الانتقال موجود فلو لا أنه حي في حال موته ما سئل فليس الموت بضد للحياة إن عقلت‏

«الميت حضرة الموت»

يميت بالجهل أقواما وإنهم *** بالمال والجاه عند الخلق أحياء

أصبحت ذا علة كبرى أموت بها *** كيف الشفاء وقد استحكم الداء

لو كان لي غرض في غير سيدنا *** ما كان لي مرض تبغيه أدواء

الله ربي لا أبغي به بدلا *** ولا ينهنهني جود وإلقاء

يدعى صاحبها عبد المميت قال تعالى حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و

[الموت عبارة عن الانتقال من منزل الدنيا إلى منزل الآخرة]

قال تعالى ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال وأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وأَحْيا وقال قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الطائفة التي تدخل النار من أمته فيميتهم الله فيها إماتة

والموت عبارة عن الانتقال من منزل الدنيا إلى منزل الآخرة ما هو عبارة عن إزالة الحياة منه في نفس الأمر وإنما الله أخذ بأبصارنا فلا ندرك حياته وقد ورد النص في الشهداء في سبيل الله أنهم أحياء يرزقون‏

ونهينا أن نقول فيهم أموات فالميت عندنا ينتقل وحياته باقية عليه لا تزول وإنما يزول الوالي وهو الروح عن هذا الملك الذي وكله الله بتدبيره أيام ولايته عليه والميت عندنا يعلم من نفسه أنه حي وإنما تحكم عليه بأنه ليس بحي جهلا منك ووقوفك مع بصرك ومع حكمك في حاله قبل اتصافه بالموت من حركة ونطق وتصرف وقد أصبح متصرفا فيه لا متصرفا وهو تنبيه من الله لنا أن الأمر كذا هو التصرف فيه للحق لا لك في حال دعواك التصرف ثم إنه على الحقيقة متصرف هذا الميت بالحال لا بالقول فلو لا تصرفه فيك ما غسلته ولا كفنته وإن كان الشارع هو الذي أمرك وشرع لك فهذا أعظم من تصرفه فيك وهو تصرفه فيمن شرع لك هذا فهذا قد تصرف في الأحياء وهم لا يشعرون وتصرف فيك وأنت لا تشعر وتخيلت أنه ما بقي له فيك حكم وحكمه بموته أعظم من حكمه فيك بحياته أعني بعدم موته فالموت انتقال خاص على وجه مخصوص فمن كونه انتقالا يستند إلى حقيقة إلهية خاصة ولا تشك أن له حكما في الآخرة في جهنم فإن الله تعالى يميت قوما في جهنم أصابتهم النار بذنوبهم إماتة ثم يحييهم الله وهذا قبل ذبح الموت فإن الموت لا بد أن يؤتى به إذا بقي أهل النار في النار الذين هم أهلها وأهل الجنة في الجنة وتغلق الأبواب يؤتى بالموت في صورة كبش أملح وهذا مما يقوي الدلالة على إن المال إلى الرحمة في العباد وذلك الوقت هو انتهاء مدة الآلام فيضجع بين الجنة والنار ويراه أهل الجنة وأهل النار فيعرفونه أما أهل الجنة فينعمون برؤيته حيث كان السبب في بقاء سعادتهم التي لا زوال لها عنهم وأما أهل النار فينعمون برؤيته رجاء تخليصهم بوجوده مما هم فيه ويخرجهم كما أخرجهم من الدنيا ولا علم بأن مدة الشقاء قد قرب انقضاؤها ثم يأتي يحيى عليه السلام وبيده الشفرة فيذبحه بمرأى من الفريقين فأهل الجنات يحيون وأهل النار لا يموتون فيها ولا يحيون كما يقال في النائم ما هو بميت ولا حي فنعيمهم نعيم النائم في النار والله قد جعل النَّوْمَ سُباتاً والراحة من الرحمة ما هي من الغضب فهو أشقى ما دام يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى‏ فجاء بثم بعد حكم كونه يصلي النار كالشاة المصلية فبين كونه يصلي وبين كونه لا يموت ولا يحيى قدر ما نعطيه حقيقة ثم في اللسان التي للعطف فينتقل الحكم عليه بذبح الموت فراحته راحة النائم فلا يموت ولا يحيى أي لا تزول هذه الراحة له مستصحبة فاعلم ذلك‏

[إن الموت في الدنيا تحفة المؤمن وحسرة الكافر]

فالموت في الدنيا تحفة المؤمن وحسرة الكافر وذبحه في الآخرة تحفة الفريقين يقول بعض الأعراب من بنى ضبة

نحن بنى ضبة إذ جد الوهل *** الموت أحلى عندنا من العسل‏

نحن بنو الموت إذ الموت نزل *** لا عار بالموت إذا حم الأجل‏

يقول يلتذ بالموت تلذذ آكل العسل وهذه الإشارة فيها غنية لمن نظر واستبصر والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الحي حضرة الحياة»

إن الحياة حياة القلب لا الجسد *** كذاق أنزله الرحمن في خلدي‏

والناس ليس لهم سوى جسومهم *** فإنها عندهم عليه السند

فيهلكون ولا عقل يصدهم *** عنها ولو أنهم في الواضح الحدد

وليس فيهم رشيد في تصرفه *** وما هم من يبيع الغي بالرشد

إن الغواية أصل عندهم ولذا *** تراهم عن وجود الحق في حيد

[إن القيومية من لوازم الحي‏]

يدعى صاحبها عبد الحي وهو نعت إلهي يقول الله تعالى الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وقال عز وجل وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ولما كانت القيومية من لوازم الحي استصحبها في الذكر مع الحي فكل معلوم حي فإن المعلوم هو الذي أعطى العلم به للعالم به ولو كان العدم فإنه لا يعطي إلا من الحياة صفته ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا يبصرون فالحياة للحي كنور الشمس للشمس‏

فكل من يشهده تنوره *** تنويرها إياه ما تصوره‏

فيه وحكم الأمر ما تقرره *** تعطي الذي تعطي وما تكرره‏

وإنها من لطفها ما تشعره *** بأنها هي التي تبصره‏

كذلك الحي بذاته يحيي به كل من يراه وما يغيب عنه شي‏ء فكل شي‏ء به حي‏

«القيوم حضرة القيومية»

إلى القيوم لا أبغي سواه *** قطعت مفاوزا فيه وآلا

عسى أحظى بجود ما أراه *** يزول بنا فينتقل انتقالا

إذا ما أمت الأفكار ذاتي *** يورثها تفكرها خيالا

ويعقبها إذا تمشي إليه *** بلا فكر وصالا واتصالا

[القيومية من نعوت الحي‏]

يدعى صاحبها عبد القيوم ولما كانت القيومية من نعوت الحي استصحبته فما تذكر إلا وهي معه فهي القيوم عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فكل معلوم حي فكل معلوم قيوم أي له قيومية وكذلك هو فإنه لو لا أنه قيوم ما أعطى العالم علمه وبعلمه أعطى العالم خلقه لأنه لا يعطيه إلا علمه فيه وعلمه فيه إنما كان منه فلا بد أن يظهر في وجوده بخلقه من غير زيادة ولا نقصان ولا يكون إلا كذا ولذا قال موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فأخبر بإحاطة علمه ولم يكن ذلك لفرعون مع دعواه الربوبية فعلم فرعون ما قالاه وسكت وتبين له أنه الحق لكن حب الرئاسة منعه من الاعتراف‏

الذي قام بنا في كوننا *** يا خليلي إنما قام بنا

فإذا حققت ما فهت به *** فاحكم إن شئت علينا أو لنا

ما ثنى الجود علينا جوده *** بسوانا فقل الجود أنا

ما نعمنا بسوانا فانظروا *** في كلامي تجدوه بينا

فسرت القيومية بذاتها في كل شي‏ء ولهذا قال لنا وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فلو لا سريان القيومية فينا ما أمرنا وكذلك فعلنا قمنا له وبه فمنا شاهدت ذلك عيانا كما شهدته إيمانا وإنما تعجبت ممن يقول بأن القيومية لا يتخلق بها وإنها من خصائص الحق والقيومية بالكون أحق لأنها سارية فيه وبها ظهرت الأسماء الإلهية فبها أقام الكون الحق أن يقيمه ولو لا ذلك ما ظهر للخلق عين ولا حكم الألف قيوم الحروف وليس بحرف فهو مظهرها وهو لا يشبهها فامتداده لذاته لا يتناهى وامتداد حكمه بإيجاد الحرف غير متناه لأن في طريقه منازل الحروف بالقوة والاستعداد فإذا انتهى إلى منزل ما من منازلها وقف عنده ليرى أي حرف هو فبرز الحرف فسمى ذلك المكان مخرج ذلك الحرف فيعلمه وهو

الذي أحدثه فهو مثل قوله تعالى ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ فلو لا القيومية السارية في النفس ما ظهرت الحروف ولو لا القيومية الظاهرة في الحروف بحكمها ما ظهرت الكلمات بتأليفها وإنما جئنا بهذا ضرب مثال محقق واقع لوجود الكائنات عن نفس الحق فاعلم ذلك وقد تقدم ذكره في باب النفس من هذا الكتاب واعلم أنه في ليلة تقييدي هذا الوجه أريت في النوم ورقة زنجارية اللون جاءت إلي من الحق مكتوبة ظهرا وبطنا بخط خفي لا يظهر لكل أحد فقرأته في النوم لضوء القمر فكان فيه نظما ونثرا واستيقظت قبل أن أتم قراءته فما رأيت أعجب منه ولا أغمض من معاينة لا يكاد يفهم فكان مما عقلت من نظمه ما أذكره وكان في حق غيري كذا قرر لي في النوم وذكر لي الشخص الذي كان في حقه فعرفته وكأني في أرض الحجاز في برية ينبوع بين مكة والمدينة

إذا دل أمر الله في كل حالة *** على العزة العظمى فما ينفع الجحد

وجاء كتاب الله يخبر انه *** من الله تحقيقا فذلكم القصد

ولله عين الأمر من قبل إذ أتى *** إلي بما يجريه فيه ومن بعد

فسبحان من حيي الفؤاد بذكره *** فكان له الشكر المنزه والحمد

إذا كان عبدي هكذا كنت عينه *** وإن لم يكن فالعبد عبدك يا عبد

وأما النثر فأنسيته لما استيقظت إلا إني أعرف أنه كان توقيع من الحق لي بأمور انتفع بها هذا جل الأمر وهي في خاطري مصورة من أسباب الدنيا يتسع فيها رزق الله ويشكر الله تعالى من كان ذلك على يده ويثبته والله عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ‏

«حضرة الوجدان وهي حضرة كن»

إن الوجود بجود الحق مرتبط *** وكلنا فيه مسرور ومغتبط

إن الذي توجد الأعيان همته *** هو الوجود الذي بالجود يرتبط

لو أن ما عنده عندي لقلت به *** لكنني مفلس لذاك نشترط

كشرط موسى عليه حين أرسله *** إلى جبابرة من ربهم قنطوا

فجاء من عندهم صفر اليدين وما *** خابت مقاصده لكنهم قسطوا

[الواجد وهو الذي لا يعتاص عليه شي‏ء]

يدعى صاحبها عبد الواجد بالجيم وهو الذي لا يعتاص عليه شي‏ء وهو الغني بالأشياء فإذا طلب أمرا ما ولم يكن ذلك المطلوب أي لم يحصل فيكون تعويقه من قبله فإنه لا يعتاص عليه شي‏ء مثاله طلب من أبي جهل أن يؤمن بأحدية الله وبرسوله وبما جاء من عنده فلم يجبه إلى ما طلبه منه فالظاهر من إبايته أنه ليس بواجد لما طلب منه والمنع إنما كان منه إذ لم يعطه التوفيق ولو شاء لهديكم أجمعين فهو الواجد بكن إذا تعلقت الإرادة بكونه فما يعتاص عليه شي‏ء يقول له كن فلو قال للإيمان كن في محل أبي جهل وغيره ممن لم يؤمن وخاطبه بالإيمان لكان الايمان في محل المخاطب أبي جهل وغيره فكونه واجدا إنما هو بكن وما عدا كن فما هو من حضرة الوجدان وكذلك عرضه عز وجل الأمانة على السماوات والأرض والجبال أن يحملنها فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها من أجل الذم الذي كان من الله لمن حملها وهو أن الله وصف حاملها بالظلم والجهل ببنية المبالغة فإن حاملها ظلوم لنفسه جهول بقدر الأمانة وإذا تحقق العبد بهذه الحضرة لم يعتص عليه شي‏ء من الممكنات وتحققه أن يكون الحق لسانه ليس غير ذلك فلا يريد شيئا إلا كان فهو واجد لكل شي‏ء وكل من هذه حالته ووقع له توقف فيما يريد تكوينه ووجوده فقد اعتاص عليه فحاله فيه الحال الذي قال الله فيمن سبق في علمه أنه لا يؤمن بالله أن يؤمن بالله فهو وإن نطق بالله فهو مثل نطق الحق بالعبد

كقوله إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

وقوله إن الله عند لسان كل قائل‏

في بعض محتملاته فإذا قال الله على لسان من شاء من عباده وأمر فقد يقع المأمور به من المأمور وقد لا يقع وإذا قال للمأمور به كن فإنه يقع ولا بد

إذا قلت قال الله فالقول صادق *** وإن قلت قال الناس فالقول للناس‏

فلا تدعى في القول إنك قائل *** وكن حاضرا بالله في صورة الناس‏

فإنك لا تدري بمن أنت قائل *** وليس على من قال بالله من بأس‏

فظهر القصور بالنيابة وهي الشركة كذلك القائل بالحق إلا آمر به قد يقع المأمور به وقد لا يقع والحضرة واحدة فإذا قال العبد المطاع بغير الحق فذلك يقع ولا بد لأنه مخلص للتوحيد وإنه لا يقول إذا قال أو يأمر إذا أمر من غير أن يقول بحق أو يأمر بحق إلا من حقيقته الذي هو عليها من كونه كان أصلا في كون العالم به عالما فإذا أثر بذاته في العالم العلم ويكون العالم به يتنوع في التعلق به لتنوعه لنفسه فإنه لا يعتاص عليه شي‏ء فلو كان من أحواله وقوع ذلك المأمور به لوقع كما وقع النطق به فإنه لا ينطق من حيث ذاته إلا بما هو عليه وصورة هذه المسألة وتحقيقها كقول الحق على لسان العبد افعل فيقع أو لا يقع وذلك أن العبد من المحال أن ينطق من حيث نفسه نطق لسان ظاهر أو باطن وإنما ينطق بالله كل ناطق فإن الله هو المنطق كما قالت الجلود أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ناطق فيعطي الممكن بما هو عليه العلم لله والتكوين في غير الله لا يكون إلا لله لا لغيره والنطق من العبد والهم تكوين من الله فيه فلم ينطق ولم يهم إلا بالله فلا يتوحد به الممكن وإذا أمر الله بتكوين على لسان عبده فقد يقع وقد لا يقع فلا ينطق العبد إلا بالاشتراك فلهذا قد يقع وقد لا يقع ما يأمر به أو يريده وكونه لو نطق به العبد بغير اشتراك لوقع إنما هو كقوله لو شاء الله وما شاء الله فجاء بحرف لو وكذلك لو نطق العبد بنفسه وهو لا ينطق بنفسه وإنما ينطق بربه فالنطق للرب وإذا كان النطق للرب على لسان العبد فقد يكون الأثر والتكوين عن ذلك القول وقد لا يكون فتدبر هذا الكلام فإنه يتداخل ويتفلت من الذهن إن لم تتصور الأصل تصورا محكما لا يزال بين عينيك واختصاره إن العبد لا ينطق أبدا إلا بالله‏

[إن الله ينطق باللسان العبد]

وإن الله إذا نطق على لسان العبد بالأمر فإنه لا يلزم وقوع ذلك المطلوب ولا بد وإذا انفرد الحق دون العبد بالتكوين فإنه يقع ولا بد والعبد لا ينفرد أبدا إلا بالتقدير وهو أن يقول فيه لو كما يقول في مشيئته الحق لو شاء وما شاء

[أن كل طالب إنما يطلب ما ليس عنده‏]

واعلم أن كل طالب إنما يطلب ما ليس عنده فإن الحاصل لا يبتغى والحق لا يطلب من الممكن إلا تكوينه وتكوينه ليس عنده فإن الممكن في حال عدمه ليس بمكون فالتكوين ليس بكائن في العين الثابتة الذي هو الشي‏ء فإذا أراده الحق قال له كن فيكون فأراد الحق حصول التكوين في ذلك الشي‏ء لأنه ليس الكون عند ذلك الشي‏ء فما أراد الكون لنفسه وإنما أراده للشي‏ء الذي ليس عنده فإنه تعالى موجود لنفسه فهو يريد الأشياء للأشياء لا لنفسه فإنها عنده فإنه ما من شي‏ء إلا عنده خزائنه ولا تكون خزائن إلا بما يختزن فيها فالأشياء عنده مختزنة في حال ثبوتها فإذا أراد تكوينها لها أنزلها من تلك الخزائن وأمرها أن تكون فتكتسي حلة الوجود فيظهر عينها لعينها ولم تزل ظاهرة لله في علمه أو لعلمه بها فمن هنا يتحقق إن الله يطلب ما ليس عند الطالب وهو تكوين ما ليس بكائن في الحال فهذا تحقيق الواجد بالجيم قال الراجز

أنشد والباغي بحب الوجدان‏

والوجود المطلوب بالذكر عند الطائفة الذي يكون عن الوجد من هذا الباب وهو ما يجده أهل الوجد في نفوسهم في حال وجدهم من العلم بالله‏

«الواحد الأحد حضرة التوحيد»

وحد إلهك فالأفعال لله *** ولا تكن فيه بالساهي ولا اللاهي‏

واحذر من الشرك أن الشرك منقصة *** يرديك سلطانها فإنها ما هي‏

سواك والغير شي‏ء لا وجود له *** واثبت فبيتك لا ملغى ولا واه‏

لكن له لذة كبرى تعن لها *** أعضاؤنا كلها كلذة الباه‏

الله يعلم أني في الذي ذكرت *** أبياتنا صادق والله والله‏

[الوحدانية هي قيام الأحدية به‏]

يدعى صاحبها عبد الواحد بالحاء المهملة إذا أراد الاسم وإذا أراد الصفة يقال له عبد الأحد وأما الوحدانية فهي قيام الأحدية به أعني بالواحد فما هي الأحدية ولا الواحد كالجسماني ما هو الجسم وإنما هو ما لا تظهر له عين إلا بقيامه بالجسم أو الجوهر وهو ما يقوم به من الصفات التي محلها الأجسام وكذلك الروح والروحاني فالوحدانية نسبة محققة بين الأحدية والواحد وكون الشي‏ء يسمى واحد قد يكون لعين ذاته فلا يكون مركبا وهو الشي‏ء فإن تركب فليس بشي‏ء

وإنما هو شيئان أو ما بلغ به التركيب حتى يكون أشياء ومع هذا يقال فيه شي‏ء من حيث أحدية المجموع والتركيب لا من حيث أحدية كل شي‏ء في هذا المجموع وقد يكون واحد العين مرتبته فإن الله واحد في ألوهيته فهو واحد المرتبة ولهذا أمرنا أن نعلم أنه لا إله إلا هو وما تعرض للذات جملة واحدة فإن أحدية الذات تعقل ولكن هل في الوجود من هو واحد من جميع الوجوه أم لا في ذلك وقفة فإن الأحدية لكل شي‏ء قديما وحديثا معقولة بلا شك لا يمتري فيها من له مسكة عقل ونظر صحيح ثم إذا نظرت في هذا الواحد لا بد وإن تحكم عليه بنسبة ما أدناها الرتبة فإنه لا يخلو عن رتبة يكون عليها في الوجود فأما أن يكون مؤثرا اسم فاعل أو مؤثرا فيه اسم مفعول أو المجموع أو لا واحدا منهما فالمؤثر هو الفاعل والمؤثر فيه هو محل الانفعال فما في الوجود إلا المجموع وما وقع من التقسيم العقلي إلا المجموع فما ثم مستقل بالتأثير فإن القابل للأثر له أثر بالقبول في نفسه كما للقادر على التأثير فيه ومن حيث إن المنفعل يطلب أن يفعل فيه ما هو طالب له ففعل المطلوب منه ما طلبه هذا الممكن فهو تأثير الممكن في الواجب الفاعل فإنه جعله أن يفعل ففعل كما قال أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فالسؤال والدعاء أثر الإجابة في المجيب وإن لم يحدث في نفسه شي‏ء لأنه ليس محلا للحوادث وإنما هذا الذي نثبته إنما هو أعيان النسب وهذا الذي عبر عنه الشرع بالأسماء فما من اسم إلا وله معنى ليس للآخر وذلك المعنى منسوب إلى ذات الحق وهو المسمى صفة عند أهل الكلام من النظار وهو المسمى نسبة عند المحققين فما في الوجود واحد من جميع الوجوه وما في الوجود إلا واحد واحد لا بد من ذلك ثم تكون النسب بين الواحد والأحد بحسب معقولية تلك النسبة فإن النسب متميزة بعضها عن بعض أين الإرادة من القدرة من الكلام من الحياة من العلم فاسم العليم يعطي ما لا يعطي القدير والحكيم يعطي ما لا يعطي غيره من الأسماء فاجعل ذلك كله نسبا أو اسما أو صفات والأولى أن تكون اسما ولا بد لأن الشرع الإلهي ما ورد في حق الحق بالصفات ولا بالنسب وإنما ورد بالأسماء فقال ولِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ وليست سوى هذه النسب وهل لها أعيان وجودية أم لا ففيه خلاف بين أهل النظر وأما عندنا فما فيها خلاف إنها نسب واسما على حقائق معقولة غير وجودية فالذات غير متكثرة بها لأن الشي‏ء لا يتكثر إلا بالأعيان الوجودية لا بالأحكام والإضافات والنسب فما من شي‏ء معلوم إلا وله أحدية بها يقال فيه إنه واحد وأما قول أبي العتاهية

وفي كل شي‏ء له آية *** تدل على أنه واحد

فموجه مع التعري عن القرائن إلى أمور منها أن يكون الضمير في له وفي أنه يعودان إن على الشي‏ء المذكور فكأنه يقول وفي كل شي‏ء آية لذلك الشي‏ء إنه يدل على إن ذلك الشي‏ء واحد في نفسه وليس كذلك إلا عينه خاصة وقد يكون الضمير يعود على الله في له وفي أنه أي فيه دلالة على إن الذي أوجده واحد لا شريك له في إيجاد هذا الشي‏ء وهو مقصود الشاعر بلا شك وما هي تلك العلامة والدلالة ومن هو العالم الذي تعطيه هذه الدلالة توحيد الموجد فاعلم إن الدلالة هي أحدية كل عين سواء كانت أحدية الواحد أو أحدية الكثرة فأحدية كل عين ممكنة تدل على أحدية عين الحق مع كثرة أسمائه ودلالة كل اسم على معنى يغاير مدلول الآخر فيحصل من هذا أحدية الحق في عينه واحدية الكثرة من أسمائه فكل شي‏ء في الوجود قد دل على إن الحق واحد في أسمائه وفي ذاته فاعلم ذلك‏

فما ثم توحيد ولا ثم كثرة *** على غير ما قلناه فانظر تر الحقا

وقل بعد هذا ما تشاء وترتضي *** وثبت له الجمع المحقق والفرقا

فما الأمر إلا بين خلق وخالق *** فقل إن تشأ حقا وقل إن تشأ خلقا

«الصمد حضرة الصمدية»

ألجأت ظهري إلى ركني ومستندي *** إلى المهيمن رب الناس والصمد

وقلت يا منتهى الآمال أجمعها *** لك التحكم في الأدنى وفي البعد

إني تلوت كتابا فيه عرفني *** بأنني إن أمت فيه فليس يدي‏

لو أن ما قبضت كفي عليه لها *** ملك لما نظرت عيني إلى أحد

وكنت وارث علم لا تزايلني *** أحكامه من علوم الكشف والرصد

[إن حضرة الالتجاء والاستناد التي لجأ إليها]

يدعى صاحبها عبد الصمد هذه الحضرة استوفينا أكثر تفاصيلها في كتاب مواقع النجوم لنا في عضو القلب منه في التجلي الصمداني فلنذكر في هذا الكتاب ما يليق به إن شاء الله فنقول إن هذه الحضرة هي حضرة الالتجاء والاستناد التي لجأ إليها واستند كل فقير إلى أمر ما لعلمه أن ذلك الأمر الذي افتقر إليه في هذه الحضرة فغناها إنما هو بهذه الأمور الذي افتقر إليها بسببها وهل لها الغني النفسي الذي لقوله فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أم لا فذلك لا يحتاج إليه في هذا الموضع والذي تمس الحاجة إليه في هذه الحضرة معرفة كون هذه الأمور التي يفتقر الفقراء إليها بسببها هل لها وجود في خزائن عندها كما جاء وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ فهي عين هذه الحضرة لا غير إذا حققت الأمر فالحق من حيث إنه ما من شي‏ء إلا عنده خزائنه هو الصمد ولكن ليست الخزائن إلا المعلومات الثابتة فإنها عنده ثابتة يعلمها ويراها ويرى ما فيها فيخرج منها ما شاء ويبقى ما شاء وهي مع كونها في خزائن فيتخيل فيها الحصر والتناهي وإنما هي غير متناهية فأفقر الفقراء تلك الأشياء المختزنة فإنها تطلب الخروج من تلك الخزائن إلى الوجود حتى تراه ذوقا بعينها فإن الذي وجد منها ألقى فيه افتقار ما لم يوجد منها فافتقر نيابة عن الذي لم يوجد إلى الله أن يوجده لعين افتقاره إليه فهو كالمعين لذلك المختزن في افتقاره إلى الوجود وهو ما يجده الإنسان في نفسه من الطلب لأمر ليس عنده ليكون عنده مما هو في تلك الخزائن‏

[أن الخزائن التي عند الحق على نوعين‏]

واعلم أن الخزائن التي عند الحق على نوعين نوع منها خزائن وجودية لمختزنات موجودة كشي‏ء يكون عند زيد من جارية أو غلام أو فرس أو ثوب أو دار أو أي شي‏ء كان فزيد خزانته وذلك الشي‏ء هو المختزن وهما عند الله فإن الأشياء كلها بيد الله فيفتقر عمرو إلى الله تعالى في ذلك الذي عند زيد أن يكون عنده كان ما كان فيلقي الله في قلب زيد أن يهب ذلك الشي‏ء أو يبيعه أو يزهد فيه ويكرهه فيعطيه عمرا فمثل هذا من خزائن الحق التي عنده والعالم على هذا كله خزائن بعضه لبعضه وهو عين المختزن والعالم خزانة مخزون وانتقال مختزن من خزانة إلى خزانة فما أنزل منه شي‏ء إلى غير خزانة فكله مخزون عنده فهو خزانته على الحقيقة التي لا يخرج شي‏ء عنها وما عدا الحق فإن المختزن يخرج عنها إلى خزانة أخرى فالافتقار للخزائن من الخزائن إلى الخزائن والكل بيد الله وعنده فهو الصمد الذي يلجأ إليه في الأمور ويعول عليه وبهذه الحضرة يتعلق المتوكلون في حال توكلهم على ما توكلوا عليه فمنهم المتوكل على الله ومنهم المتوكل على الأسباب غير أن الأسباب قد تخون من اعتمد عليها ولجأ إليها في أوقات والحق تعالى لا يسلم من توكل عليه وفوض أمره إليه‏

فكل كون صمد *** وكل عين أحد

منكر معرف *** فكله مستند

والحق في قلوبنا *** مختزن متحد

يحكم بالتأييد في *** اختزانه الأبد

وما له من مدة *** يجمع فيها المدد

ومن وجودي كان لي *** إذا عقلت المدد

وإذا علمت إن الخزائن عنده وأنت الخزائن فأنت عنده وقد وسعه قلبك فهو عندك وأنت عنده فأنت عندك فلك من الصمدية قسط لأنه لا تكون المعرفة بالله الحادثة إلا بك فيصمد إليك فيها إذ لا تظهر إلا بك فأنت الصمد فيما لا يظهر إلا بك ومن هذه الحضرة حصلت لك ولمن حصلت هذه المرتبة ولكن قف عند نهي ربك وتدبره لما قال لك على لسان رسوله في الشي‏ء الذي تستتر به عند الصلاة في قبلتك أن تميل به نحو اليمين أو الشمال قليلا ولا تصمد إليه صمدا فهذا من الغيرة الإلهية إن يصمد إلى غيره صمدا وفيه إثبات للصمدية في الكون بوجه ما فذلك القدر الذي أشار إليه الشارع يكون حظ المؤمن من الصمدية والجاهل يصمد إلى الأسباب صمدا ويجعل حكم الميل إلى اليمين والشمال لصمدية الحق عكس القضية وإنما شرع النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في السترة الميل إلى اليمين أو الشمال ينبه على السبب القوي باليمين وعلى السبب الضعيف بالشمال الخارج فالخارج عن الله بالكلية هو صاحب اليمين والذي لاح له بارقة من الحق ضعف اعتماده على السبب فجعله من الجانب الأضعف إذ لا بد من إثبات السبب ولا يصمد إلا إلى الله صمدا فاعلم ذلك فقد نبهتك ونصحتك والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«القادر القدير المقتدر حضرة الاقتدار»

لو أن من عرفني مقداري *** يبدو لنا ما كنت بالمكثار

إن اقتداري في كيان الباري *** أعظم عندي من دخول النار

ولو أتى بالعسكر الجرار *** أتيته به وبالأبرار

في عصبة وسادة أخيار *** معصومة محفوظة الآثار

يميزني عند دخول الدار *** عن العبيد الصم والأحرار

[إعطاء الوجود لكل عين يريد الحق وجودها من الممكنات‏]

يدعى صاحبها عبد القادر وعبد القدير وعبد المقتدر قال عز وجل وهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ وقال قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ وقال إِنَّا لَقادِرُونَ وقال عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ هذه الحضرة ما لها أثر سوى إعطاء الوجود لكل عين يريد الحق وجودها من الممكنات فيقول لها كُنْ وأخفى الاقتدار بقوله كُنْ وجعله سترا على الاقتدار فكان الممكن عن الاقتدار الإلهي من حيث لا يعلم الممكن وسارع إلى التكون فكان فظهر منه عند نفسه السمع والطاعة لمن قال له كن فاكتسب الثناء من الله بالامتثال فأول أمر كان من الممكن السمع والطاعة لله في تكوينه فكل معصية تظهر منه فإنما هي عرض يعرض له وأصله السمع والطاعة كالغضب الذي يعرض والسبق للرحمة فإن لها السبق وللطاعة من الممكن السبق والنهاية والخاتمة أبدا لها حكم السابقة والسبق للرحمة فلا بد من المال إلى الرحمة في كل ممكن عرض له الشقاء لأنه بالأصل طائع وكذلك كل مولود إنما يولد على الفطرة والفطرة الإقرار لله تعالى بالعبودة فهي طاعة على طاعة ولما لم يكن للممكن اقتدار أصلا وإنما له القبول لم يكن فيه حقيقة يطلع بها على اقتدار الله عليه في تعلقه بإخراجه من حالة العدم إلى حالة الوجود لأنه لا فاعل إلا الله والأشياء لا تشهد الله إلا من نفوسها ومما هي عليه وما هي على شي‏ء من الاقتدار عند بعض النظار فلا يمكن أن تشهد صدورها إلى الوجود كما قال تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ يريد حالة الإيجاد فليس للممكن اقتدار بوجه من الوجوه عند بعضهم كما قدمنا فلهذا قلنا أخفى عز وجل اقتداره وجاء بالقول بصيغة الأمر ليتصف الممكن بالسمع والطاعة فلا تزال عين الحق تنظر إليه بالرحمة وتراعي منه هذا الأصل مع أن القول لا حكم له في المعدوم ولا سيما في من ليس له اقتدار بالأصالة فكيف يكون فأشبه صورة التكليف والفعل لله ولما كان الممكن بحكم الأصل سامعا مطيعا للأمر بقي فيه سر امتثال الأمر فإذا جاء الإنسان أمر الشيطان في لمته بالمخالفة وما يقول له في أمره خالف وإنما يأمره أن يفعل ما تقدمه من الله النهى عنه أو ينهاه عن وقوع ما تقدم له من الله الأمر بفعله فيغفل عما تقدمه من الله في ذلك فيبادر لما أمره الشيطان به لأن حقيقته كما قلنا فطرت في أصل التكوين على الامتثال كما أيضا يقبل أمر الملك في الطاعة أو في مكارم الأخلاق وأما حالته في التردد في الفعل أو الترك بين اللمتين فهو في ذلك الوقت تحت حكم التردد الإلهي الذي نسبه إلى نفسه وأنه مجلى الحق في حين تردد كل متردد في العالم فذلك عينه تردد الحق حتى ينفذ ما شاء الله أن ينفذ من ذلك فيظهر حكمه في ذلك الفعل إما بالطاعة أو بالمعصية كما يريد العبد ويطلب من الله أمرا ما فلا يعطيه ويخالفه فيه فهذه بتلك لتصح النسخة فإن من تمامها مقابلة الخلاف والوفاق فلو أجاب الحق كل ما يطلبه العبد منه لأجابه العبد في كل ما طلبه الحق منه ولو أجاب العبد ربه في كل ما أمره به ونهاه لأجاب الحق عبده في كل خاطر يخطر له في تكون أمر فلما لم يكن الأمر إلا هكذا وهو على الصورة فلا بد أن تقع المخالفة والموافقة من الجانبين فما ظهر العبد في خلافه أمر الحق إلا بخلاف الحق ما دعاه فيه العبد فصحت المقابلة بين النسختين فصح الكتاب بالأم حيث ظهر بصورتها ولو لم يكن كذلك لكان خطأ والصواب أولى فوجود الخلاف من الممكن أصح في النسخة ولا يثبت في الأم إلا ما هو حق فالخلاف حق حيث كان فانظر إلى هذا السر ما أعجبه وما أخفاه والله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ فالمقتدر حكمه حكم آخر ما هو حكم القادر فالاقتدار حكم القادر في ظهور الأشياء بأيدي الأسباب والأسباب هي المتصفة بكسب‏

القدرة فهي مقتدرة أي متعملة في الاقتدار وليس إلا الحق تعالى فهو المقتدر على كل ما يوجده عند سبب أو بسبب كيف شئت قل وهو قوله أَلا لَهُ الْخَلْقُ وما لا يوجده بسبب هو قوله والأمر أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ الْعالَمِينَ ولهذا اصطلح أهل الله على ما قالوه من عالم الخلق والأمر يريدون بعالم الخلق ما أوجده الله على أيدي الأسباب وهو قوله مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا وليست سوى أيدي الأسباب فهذه إضافة تشريف لا بل تحقيق وعالم الأمر ما لم يوجد عند سبب فالله القادر من حيث الأمر ومقتدر من حيث الخلق فهذا تفصيله يقال ضرب الأمير اللص وقطع الأمير يد السارق وإنما وقع القطع من يد بعض الوزعة والأمر بالقطع من الأمير فنسب القطع إلى الأمير فهذا هو المقتدر فإذا باشره بالضرب فهو القادر إذا لم تكن ثم آلة تقطع يده بها من حديدة أو غيرها فالله يخلق بالآلة فهو مقتدر ويخلق بغير الآلة فهو قادر فالقدرة أخفى من الاقتدار على إن الاقتدار حالة القادر مثل التسمية حالة المسمى اسم فاعل فافهم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المقدم حضرة التقديم»

أنا المقدم عن علم ومعرفة *** بمن أقدمه والله يغفر لي‏

لو أن ما ملكت كفي يكون لها *** ملكا لما انبسطت يداي في الدول‏

عبد المقدم ادعوه ويعرفني *** إذا دعوت به وليس يظهر لي‏

ولست أفقده إذا يسارقني *** بطرفه وهو لي من أعظم الحيل‏

الله سخره فيما أصرفه *** ولست أصرفه عن رؤية الجبل‏

[أن الممكنات بالنسبة إلى الإيجاد أو نسبة الإيجاد إليها على السواء]

يدعى صاحبها عبد المقدم من هذه الحضرة يثبت بالدليل ثبوت المرجح وهو الله وذلك أن الممكنات بالنسبة إلى الإيجاد أو نسبة الإيجاد إليها على السواء على كل واحد واحد منها فإذا تقدم أحد الممكنات على غيره بالوجود مع التسوية في النسبة دل أنه مرجح لأمر ما ليس لنفسه فعلمنا أنه لا بد من مرجح وهو المقدم له على غيره من الممكنات وهذا أشد في الدلالة من دلالة الأشعري بالزمان على هذا المطلوب فإنه يقول ما من ممكن يوجد في زمان إلا ويجوز إيجاده قبل ذلك الزمان أو بعده فما تكلم إلا فيما يدخل تحت حكم الزمان والزمان عنده أيضا موجود ولا يوجد في زمان فيخرج الزمان عن حكم هذه الدلالة والذي ذهبنا إليه يدخل في حكمه كل ممكن من زمان وغير زمان مما له وجود فهو أتم في الدلالة ثم إن الله تعالى بعد إبراز ما أبرزه من العالم عين للعالم مراتب وتلك المراتب نسبة كل من يقتضي حقيقته البروز بها والإنزال فيها نسبة واحدة فإذا نالها شخص واحد من الأشخاص أشخاص هذا النوع وتقدم إليها وبها فإن الذي قدمه هو المقدم كالخلافة في النوع الإنساني ما من إنسان إلا وهو قابل لها فيقدم الحق من شاء فيها دون غيره فيتأخر الغير عنها في ذلك الزمان بلا شك وكذلك في النبوة والرسالة والإمارة وجميع المراتب على هذا الحد تجري والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«المؤخر حضرة التأخر»

أنت المؤخر من تشاء لحكمة *** مجهولة عندي لذاك تؤخره‏

لو كان أهلا للتقدم لم تكن *** تبديه وقتا ثم وقتا تستره‏

الله يعلم أنني من غيرة *** قامت بنا لا أستطيع فاذكره‏

لو كان للكون الغريب مزية *** عندي لقمت بشكره لا أكفره‏

لكنه أخفاه عن أبصارنا *** نور له من قام فيه يبهره‏

يدعى صاحبها عبد المؤخر فإذا راعى الحق تأخر عبد ما عن بعض المراتب فمن هذه الحضرة فيتقدم غيره فيها ولا يتقدم فيها هذا المؤخر عنها البتة ثم إن هذا المقصود بالتأخر إذا تعين أنه لا حكم له في التقدم فيها بقي من بقي فيقدم الحق فيها من شاء من الباقين فيكون بتقديمه إياه فيها مقدما ويتأخر من تأخر من الباقين بالتضمين لا بحكم القصد فلا يكون‏

مؤخرا إلا بالقصد ولا مقدما إلا بالقصد وكل من ما جاء من ذلك بحكم التضمين فما هو من هذه الحضرة من هذا الوجه وهو منها من هذا الوجه الآخر الذي له التأخر لا بالحكم فاجتمع المقصود مع غير المقصود في نفس التأخر والتقدم فلهذا جاء المقدم والمؤخر في الأسماء الحسنى مزدوجا

«الأول حضرة الأولية»

سبحان من جمع العباد لذكره *** يوم العروبة فاصطفاه الأول‏

ختم الإله به وجود عباده *** شرعا وعقلا سادتي فتأولوا

ما قلته فلقد أتيت بحكمة *** غرا جلاها المقام الأنزل‏

لما تواضع عن علو مكانه *** في ذاته أخفاه عنا الأسفل‏

فهو المهيمن لا أشك وإنه *** لهو الجواد على العباد المفضل‏

[أبا الوقت‏]

يدعى صاحبها عبد الأول ويكنى غالبا أبو الوقت لما حصل في النفوس من تقدم الزمان المسمى دهر الذي تفصله الأوقات فكانت كنية عبد الأول أبا الوقت كما كانت كنية آدم أبو البشر فالأول للأوقات أب لها كآدم لسائر الناس فالحضرة الأولية بها ظهر كل أول من أشخاص كل نوع كآدم في نوع الإنسان وكجنة عدن من الجنات وكالعقل الأول من الأرواح وكالعرش من الأجسام وكالماء من الأركان وكالشكل المستدير من الأشكال ثم ينزل الأمر إلى جزئيات العالم فيقال أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني وأول من رمى بسهم في سبيل الله سعد ابن أبي وقاص وأول شعر قيل في العالم الإنساني‏

تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبر قبيح‏

ويعزى هذا الشعر لآدم عليه السلام لما قتل قابيل أخاه هابيل فقال عليه السلام ما من قتيل يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من الوزر لأنه أول من سن القتل ظلما ولنا جزء في الأوليات وهو جزء بديع عملته بملطية من بلاد يونان أو بمكة والله أعلم وأول بيت وضع للناس معبدا الكعبة وأول اسم إلهي في الرتبة الاسم الحي والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الآخر حضرة الآخر»

والله ما الأول والآخر *** إلا لحفظ العالم الدائر

فإنه يعجز عن حفظه *** لوصفه المخلوق بالقاصر

فكان بالآخر حفظا له *** ليلتقي الواحد بالآخر

فأمرنا دائرة كله *** فالتحق الأول بالآخر

وإنه جلى لنا ذاته *** في صورة الباطن والظاهر

[التقدم والتأخر]

يدعى صاحبها عبد الآخر وحده من الثاني الذي يلي الأول إلى ما تحته فهو المسمى بالآخر لأن له حكم التأخر عن الأولية بلا شك وإن استحق الأولية هذا المتأخر فما تأخر عن الأول إلا لأمر أيسره وأبينه الزمان لأن وجود الأهلية فيه من جميع الوجوه فيعلم إن الحكم في تأخيره وتقدم غيره للزمان كخلافة أبي بكر وعمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عن جميعهم فما منهم واحد إلا وهو مترشح للتقدم والخلافة مؤهل لها فلم يبق حكم لتقدم بعضهم على بعض فيها عند الله لفضل يعلم تطلبه الخلافة فما كان إلا الزمان فلما كان في علم الله أن أبا بكر يموت قبل عمر وعمر يموت قبل عثمان وعثمان يموت قبل علي رضي الله عن جميعهم والكل له حرمة عند الله فجعل خلافة الجماعة كما وقع فقدم من علم إن أجله يسبق أجل غيره من هؤلاء الأربعة فما قدم من قدم منهم لكونه أكثر أهلية من المتأخر منهم في نظري والله أعلم فالظاهر أنه من كون الآجال فإنه لو بويع خليفتان قتل الآخر منهما للنص الوارد فلو بايع الناس أحد الثلاثة دون أبي بكر ولا بد في علم الله أن يكون أبو بكر خليفة وخليفتان فلا يكون فإن خلع أحد الثلاثة وولي أبو بكر كان عدم احترام في حق المخلوع ونسب الساعي في خلعه إلى أنه خلع من يستحقها ونسب إلى الهوى والظلم والتعدي‏

في حقه ولو لم يخلع لمات أبو بكر في أيامه دون أن يكون خليفة ولا بد له من الخلافة أن يليها في علم الله فلا بد من تقدمه لتقدم أجله قبل صاحبه وكذلك تقدم عمر بن الخطاب وعثمان وعلي والحسن فما تقدم من تقدم لكونه أحق بها من هؤلاء الباقين ولا تأخر من تأخر منهم عنها لعدم الأهلية وما علم الناس ذلك إلا بعد أن بين الله ذلك بآجالهم وموتهم واحدا بعد آخر في خلافته إن التقدم إنما وقع بالآجال عندنا وفي نظرنا الظاهر أو بأمر آخر في علم الله لم نقف عليه وحفظ الله المرتبة عليهم رضي الله عن جميعهم فهذا من حكم التأخر والتقدم ولله الأولية لأنه موجد كل شي‏ء ولله الآخرية فإنه قال وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وقال وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقال أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الْأُمُورُ فهو الآخر كما هو الأول وما بين الأول والآخر تظهر مراتب الأسماء الإلهية كلها فلا حكم للآخر إلا بالرجوع إليه في كل أمر فإذا كان الله الأول فالإنسان الكامل هو الآخر لأنه في الرتبة الثانية وهو الخليفة وهو أيضا الآخر بخلقه الطبيعي فإنه آخر المولدات لأن الله لما أراد به الخلافة والإمامة بدأ بإيجاد العالم وهياه وسواه وعدله ورتبه مملكة قائمة فلما استعد لقبول أن يكون مأموما أنشأ الله جسم الإنسان الطبيعي ونفخ فيه من الروح الإلهي فخلقه على صورته لأجل الاستخلاف فظهر بجسمه فكان المسمى آدم فجعله في الأرض لخليفة وكان من أمره وحاله مع الملائكة ما ذكر الله في كتابه لنا وجعل الإمامة في بنيه إلى يوم القيامة فهو الآخر بالنسبة إلى الصورة الإلهية والآخر أيضا بالنسبة إلى الصورة الكونية الطبيعية فهو آخر نفسا وجسما وهو الآخر برجوع أمر العالم إليه فهو المقصود به عمرت الدنيا وقامت وإذا رحل عنها زالت الدنيا ومارت السماء وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال وعطلت العشار وسجرت البحار وذهبت الدار الدنيا بأسرها وانتقلت العمارة إلى الدار الآخرة بانتقال الإنسان فعمرت الجنة والنار وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة والنار فالاسم الأول للأولى وهي الدار الدنيا والاسم الآخر للأخرى وهي الآخرة وإنما قال الله تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ من الْأُولى‏ لأن الآخر ما ورآه مرمى فهو الغاية فمن حصل في درجته فإنه لا ينتقل فله الثبوت والبقاء والدوام والأول ليس كذلك فإنه ينتقل في المراتب حتى ينتهي إلى الآخر وهو الغاية فيقف عنده فلهذا قال له ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ من الْأُولى‏ ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏ فأعطاه صفة البقاء والدوام والنعيم الدائم الذي لا انتقال عنه ولا زوال فهذا ما أعطاه حكم هذه الحضرة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الظاهر حضرة الظهور)

إن الظهور له شرط يؤيده *** وليس يظهره إلا الذي غلبا

إن الفتاة التي في طرفها حور *** تفني الدموع وتذكى قلبنا لهبا

فإن أتوك وقالوا إنها نصف *** فإن أفضل نصفيها الذي ذهبا

أنقدتها ورقا حتى أفوز بها *** فمانعت فلهذا صغته ذهبا

لو أنها ظهرت لكل ذي بصر *** أعمى سناها لهذا عينها احتجبا

[إن الله هو الظاهر لنفسه لا لخلقه فلا يدركه سواه‏]

يدعى صاحبها عبد الظاهر ويلقب بالظاهر بأمر الله هذه الحضرة له تعالى لأنه الظاهر لنفسه لا لخلقه فلا يدركه سواه أصلا والذي تعطينا هذه الحضرة ظهور أحكام أسمائه الحسنى وظهور أحكام أعياننا في وجود الحق وهو من وراء ما ظهر فلا أعياننا تدرك رؤية ولا عين الحق تدرك رؤية ولا أعيان أسمائه تدرك رؤية ونحن لا نشك إنا قد أدركنا أمرا ما رؤية وهو الذي تشهده الأبصار منا فما ذلك إلا الأحكام التي لأعياننا ظهرت لنا في وجود الحق فكان مظهر إلها فظهرت أعياننا ظهور الصور في المرائي ما هي عين الرائي لما فيها من حكم المجلى ولا هي عين المجلى لما فيها مما يخالف حكم المجلى وما ثم أمر ثالث من خارج يقع عليه الإدراك وقد وقع فما هو هذا المدرك ومن هو هذا المدرك فمن العالم ومن الحق ومن الظاهر ومن المظهر ومن المظيهر فإن كانت النسب فالنسب أمور عدمية إلا أن علة الرؤية استعداد المرئي لقبول الإدراك فيرى المعدوم سلمنا إن المعدوم يرى فمن الرائي فإن كان نسبة أيضا فكما هو مستعد أن يرى يكون مستعدا أن يرى وإن لم يكن نسبة وكان أمرا وجوديا فكما هو الرائي هو المرئي لأن الذي نراه يرانا فإذا قلنا إنه نسبة من حيث إنه مرئي لنا

فنقول إنه أمر وجودي من حيث إنه يرانا كما قلنا فينا من حيث إنا ندركه فالأمر واحد فقد حرنا فينا وفيه فمن نحن ومن هو وقد قال له بعضنا أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وقال عن نفسه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ وخبره صدق‏

[أن الله يرى‏]

وقد أعلم أن بعض العالم يعلم أن الله يرى ثم قال بآلة الاستدراك فعطف ولكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ثم تجلى للجبل فاندك الجبل ولا أدري عن رؤية أو عن مقدمة رؤية لا بل عن مقدمة رؤية وصعق موسى عن تلك المقدمة فَلَمَّا أَفاقَ قالَ (سُبْحانَكَ) تُبْتُ أي رجعت إلى الحالة التي لم أكن سألتك فيها الرؤية وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين بقولك لَنْ تَرانِي فإنه ما نزل هذا القول ابتداء إلا علي فإنا أول المؤمنين به ثم يتبعني في الايمان به من سمعه إلى يوم القيامة فما ظهر لطالب الرؤية ولا للجبل لأنه لو رآه الجبل أو موسى لثبت ولم يندك ولا صعق فإنه تعالى الوجود فلا يعطي إلا الوجود لأن الخير كله بيديه والوجود هو الخير كله فلما لم يكن مرئيا أثر الصعق والاندكاك وهي أحوال فناء والفناء شبيه بالعدم والحق لا يعدم عدم العين ولكن يكون عنه العدم الإضافي وهو الذهاب والانتقال فينقلك أو يذهبك من حال إلى حال مع وجود عينك في الحالين من مكان إلى مكان مع وجود عينك في كل واحد منهما وبينهما وهو قوله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ... ويَأْتِ بِآخَرِينَ فالإتيان بصفة القدرة والذهاب بالإرادة من حيث ما هو ذهاب خاصة وهذه التفاصيل في غير مفصل لا يكون وليس من شأن المفصل الوجود فإنا نفصل المعدوم إلى محال وإلى ممكن مع كونه معدوما وبقي الكلام فيمن يفصله والكلام عليه مثل الكلام في الرائي والمرئي وقد تقدم فما ذا نقول أو ما نعول عليه فرأينا أن نترك الأمر على حاله كان ما كان إذ الأغراض حاصلة والإدراكات واقعة واللذات حاكمة والشهود دائم والنعيم به قائم ودع يكون ما يكون من عدم أو وجود أو حق أو خلق بعد أنه لا ينقصنا شي‏ء مما نحتاج إليه لا نبالي ولو وقع الإخبار الإلهي لكان الكلام فيه والنظر على ما هو عليه الآن لا يزيد الأمر ولا ينقص فإنه إذا ورد فلا بد من سمع يتعلق به ذلك الخطاب وفهم ومدلول ومتكلم وسامع وهذا عين ما كنا فيه فترك ذلك أولى ونقول ما يقول كل قائل فإن الأمر كله عين واحدة في الحيرة في ذلك فكله صدق ما هو باطل فإنه واقع في الذهن وفي العين وفي جميع الإدراكات فالجنوح إلى السلم أولى بالإنسان ف إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ يعني في الاعتبار والإشارات هذه الخواطر التي أدتك إلى النظر فيما أنت مستغن عنه فأنزلهم الحق هنا منزلة الأعداء لأهل الإشارات ف إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ وهو الصلح بأن يترك الأمر على ما هو عليه ولا يخاض فيه فاتك إنما تخوض فيه لكونه آية من الله عليه وقد قال وإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وليس إلا الاشتعال بما نأكل ونشرب وننكح وتتصرف فيه من الأعمال المسروعة التي تؤدي إلى السعادة الأخروية وما هذه الأمور قلنا لا ندري إنما نعمل كما أمرنا لنصل إلى ما قيل لنا فإنا ما كذبنا بل رأينا ما مضى كله حق لم يختل شي‏ء منه كذلك ما بقي وقد جنحوا للسلم فأمرنا الله فقال لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فَاجْنَحْ لَها وتَوَكَّلْ عَلَى الله فالعاقل يقول بالسمع والطاعة لأمر الله وهذه حالة معجلة وراحة

فليس الظهور سوى ما ظهر *** وليس البطون سوى ما استسر

فأين الذهاب وأين الإياب *** وأين القرار وأين المقر

فمنا إليه ومنه إلينا *** وكل بحكم القضاء والقدر

فلا تبكين على فائت *** فما فات شي‏ء وما ساء سر

فما ثم إلا مضاف وما *** يضاف إليه فجز واعتبر

وقل ما تشاء على من تشاء *** فإن الوجود بهذا ظهر

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الباطن حضرة البطون)

السر ما بطنت فيه حقيقته *** والجهر يظهره لكل ذي بصر

لو لا البطون ولو لا سر حكمته *** ما فضل الله مخلوقا على البشر

وما يفضله إلا سلامته *** من النقائص والأوهام والغير

لو ناله أحد من حيث نشأته *** لنا له أهل جود الله بالفكر

لو لا مباشرة الخلاق صورته *** لم يدر خلق من الأملاك ما خبري‏

عنت لنا أوجه الأملاك ساجدة *** لما حوينا من الأرواح والصور

لذا تقلبنا أحواله أبدا *** في نفع إن كان ذاك الأمر أو ضرر

[إن الله باطن عن إدراكنا]

يدعى صاحبها عبد الباطن قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ فالبطون يختص بنا كما يختص به الظهور وإن كان له البطون فليس هو باطن لنفسه ولا عن نفسه كما أنه ليس ظاهرا لنا فالبطون الذي وصف نفسه به إنما هو في حقنا فلا يزال باطنا عن إدراكنا إياه حسا ومعنى فإنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ولا ندرك إلا الأمثال التي نهينا أن نضربها لله لجهلنا بالنسب التي بها هي أمثال ولما كانت البطون محال التكوين والولادة وعنها ظهرت أعيان المولدات اتصف الحق بالباطن يقول إنه من كونه باطنا ظهر العالم عنه فنحن كنا مبطونين فيه فخذ ذلك عقلا لا وهما فإنك إن أخذته عقلا قبله العلم الصحيح وإن أخذته خيالا وهما رد عليك قوله لَمْ يَلِدْ ولا ينبغي للعاقل أن يشرع في أمر يمكن أن يرد عليه مثل هذا وإذا أخذته عقلا دون تخيل وقعت على عين الأمر فإنه لا بد لنا من مستند نستند إليه في وجودنا لما أعطاه إمكاننا من وجود المرجح الذي رجح وجودنا على عدمنا إلا أنه باطن عنا لعدم المناسبة بيننا إذ نحن بعيننا وجملتنا وتفصيلنا محكوم علينا بالإمكان فلو ناسبنا في أمر ما وذلك الأمر محكوم عليه بالإمكان لكان الحق محكوما عليه بالإمكان وهو واجب لنفسه من حيث نفسه فارتفعت المناسبة وإذا لم يناسبنا لم نناسبه فلنا الاستناد إليه لعدم المناسبة ومن وجه للمناسبة وله تعالى الغي عن العالم لأن محبته أن يعرف هي أنه لا يعرف فهذا حد معرفتنا به إذ لو عرف لم يبطن وهو الباطن الذي لا يظهر كما أنه أيضا في المأخذ الثاني أنه الباطن حيث هو في قلب عبده المؤمن الذي وسعه فهو باطن في العبد والعبد لا يشاهد باطنه فلا يشاهد ما هو مبطون فيه فمن الوجهين ما نراه ثم إنه إذا كان كما قال قوى العبد وسمعه وبصره والعبد يرى ببصره فيرى بربه ما يرى بصره ولا يرى شيئا من قواه والحق جميع قواه فما يرى ربه وبهذا يفرق بين العلم والرؤية فإنا نعلم بالإيمان ونوره في قلوبنا إنه قوانا ولا نشهد ذلك بصرا فنحن ندركه لا ندركه والأبصار لا تدركه فإذا كان بصرنا فإنه في هذه الحالة لا يدرك نفسه لأنه في حجابنا إذ كان بصرنا وإذا كان الأمر على هذا فبعيد أن ندركه وأما قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فإن البصر إنما جاء ليدرك به لا أنه يدرك ثم إنه في قوله لا تُدْرِكُه‏

بضمير الغائب فالغيب غير مدرك بالبصر والشهود وهو الباطن فإنه لو أدرك لم يكن غيبا ولا بطن ولكن يدرك الأبصار فإنه لا يلزم الغيبة من الطرفين ما يلزم من هو غائب عنك أن تكون غائبا عنه قد يكون ذلك وقد لا يكون وفي مدلول هذه الآية أمر آخر وهو أنه يدرك تعالى نفسه بنفسه لأنه إذا كان بهويته بصر العبد ولا يقع الإدراك البصري إلا بالبصر وهو عين البصر المضاف إلى العباد وقال إنه يدرك الأبصار وهو عين الأبصار فقد أدرك نفسه ولهذا قلنا إنه يظهر أو هو ظاهر لنفسه ولا يبطن عن نفسه ثم تمم الآية وقال وهُوَ اللَّطِيفُ من حيث إنه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ واللطيف المعنى من حيث إنه يدرك الأبصار أي دركه للابصار دركه لنفسه لأنه عينها وهذا غاية اللطف والرقة الْخَبِيرُ يشير إلى علم الذوق أي لا يعرف هذا إلا بالذوق لا ينفع فيه إقامة الدليل عليه إلا أن يكون الدليل عليه في نفس الدال وليس سوى ذوقه فيرى هذا العبد الذي بصره الحق نفسه بالحق ويرى الحق ببصره لأنه عين بصره فأدرك الأمرين‏

فكل من فيه بطن *** فإنه فيه قطن‏

وليس يدري قولنا *** إلا شهيدا وفطن‏

يرى الذي رأيته بقلبه رؤية ظن‏

فإنه هو الذي *** يراك من عين الجنن‏

وأنت لا تبصره *** إلا إذا لم تكن‏

وهي الإشارة

بقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الحديث الصحيح من كتاب مسلم فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏

فإن لم تكن تره *** وإن كنت لم تره‏

ومن كان حكمه *** كما قلت أبصره‏

فذاتي له وطاء *** وإن شئت منظره‏

إذا كان في وجودي *** فقد صح أقبره‏

وإن صاحب الوجود *** فقد جاء أنشره‏

فقلوب العارفين مدافن الحق كما ظواهرهم مجاليه وإنه في نفس قلوب عباده من حيث إن قلوبهم محل العلم به ثم إنهم لا يراعون حرمته ولا يقفون عند حدوده فهو فيهم كالميت في قبره لا حكم له فيه بل الحكم للقبر فيه بكونه أكنه وستره عن أعين الناظرين كذلك حكم الطبع إذا ظهر بخلاف الشرع فإن الشرع ميت في حقه في ذلك الزمان وهكذا يظهر الحق في الرؤيا ولقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في النوم ميتا في موضع عاينته بالمسجد الجامع بإشبيلية فسألت عن ذلك الموضع فوجدته مغصوبا فكان ذلك موت الشرع فيه حيث لم يتملك بوجه مشروع فاستناد الموت والدفن إلى الحق في قلوب الغافلين فهو فيها كأنه لا فيها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(التواب حضرة التوبة)

وهي الرجوع من المخالفة إلى الموافقة

ألا إن المتاب هو الرجوع *** فتب ترجع لتوبتك الشئون‏

إذا تابعت شخصا في فلاة *** فأنت لما تتابعه تكون‏

وإن كان الظهور له بوجه *** فمن وجه يكون له الكمون‏

له منا التحرك في جهات *** ولي منه الإقامة والسكون‏

وليس له سواى من معين *** إذا شاء المؤيد والمعين‏

[التوبة هي الرجوع من المخالفة إلى الموافقة]

يدعى صاحبها عبد التواب من هذه الحضرة تاب التائبون فله الرجعة الأولى ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا فما رجع إليهم إلا ليرجعوا وكل معلل علة الحق فإنه واقع كما أنه كل ترج من الله واقع فالرجعة الأولى من الله على العبد هي التي يعطيه الحق فيها الإنابة إليه فإذا رجع العبد إليه بالتوبة رجع الحق إليه غير الرجوع الأول وهو الرجوع بالقبول فإن الله لا يقبل معاصي عباده هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ والطاعات وهذا من رحمته بعباده فإنه لو قبل المعاصي لكانت عنده في حضرة المشاهدة كما هي الطاعات فلا يشهد الحق من عباده إلا ما قبله ولا يقبل إلا الطاعات فلا يرى من عباده إلا ما هو حسن محبوب عنده ويعرض عن السيئات فلا يقبلها فإن صاحب السيئة ما عملها على طريق القربة ولو عملها على طريق القربة لكان جهلا وافتراء على الله وكفرا صراحا فلا يقبلها حتى لا تكون عنده في موضع الشهود فيقع حساب العبد على ما أساء في الديوان الإلهي على أيدي الملائكة إذا أمر الحق بمحاسبته وأمر الملائكة أصحاب الديوان أن يتجاوزوا عن المتجاوزون أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولا بد لكل إنسان من أمر طيب يكون عليه لأنه لا بد أن يكون على مكارم خلق بأي وجه كان ومكارم الأخلاق كلها عند الله فلا بد أن يكون لكل عبد عند الله شفيع فإذا استوفى أهل ديوان المحاسبة ما بأيديهم في حق عبد من العباد وفعلوا فيه ما اقتضاه أمره معهم وفرغ من ذلك ورفع الأمر إلى الله راجعا كما قال وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لا يجد العبد عند ربه إلا ما قبله منه فشكره الله على ما عنده منه فأكرمه ونعمه فيقول العبد ربي أكرمني وما عنده علم بما قبل الله منه من طيب خلق كان عليه وسواء كان في أي دار كان فإن له فيها نعيما مقيما ما دام ذلك الطيب عند الله وهو لا يزال عند الله فلا يزال هذا العبد في نعيم في نفسه وإن ظهر عند غيره أنه في عذاب فهو في نفسه في نعيم وهو أو لمراد المعتبر في هذا الأمر فإذا اتفق أن يؤخذ التائب فما يأخذه إلا الحكيم لا غيره من الأسماء فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون الحكم فيه للرحيم فإن الله تَوَّابٌ رَحِيمٌ بطائفة وتَوَّابٌ حَكِيمٌ بطائفة والكل نواب الحق تعالى‏

توبة الله أولا *** تجعل العبد تائبا

فإذا تاب عبده *** جعل الحق تائبا

فيكون العبيد عن *** صفة الحق نائبا

لم يزل حال كل من *** تاب للعفو طالبا

أعظم التوب أن *** يكون عن التوب راغبا

فإذا كنت تائبا *** كن عن الفعل جانبا

تجد الحق في الذي *** تبتغي منه واهبا

فالعبد الصحيح التوبة أن يتوب الله عليه لا ليتوب بل يجرم وأنت تعفو تكرما حتى لا يكون رجوعك بالمغفرة على المذنب جزاء فيكون هو الذي عاد على نفسه بالمغفرة منك فأين المنة في الرجعة الثانية التي هي رجعة المغفرة إن لم تغفر من غير توبة من المذنب فرجوع الله ينبغي أن يكون رجوع امتنان كالرجعة الأولى في قوله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا فهذه الأولى توبة امتنان فإذا تاب عليهم بالمغفرة بعد توبتهم كانت هذه التوبة الإلهية جزاء لا يتخلص الامتنان الإلهي فيها إلا على بعد وهو أن يرجع العبد في توبته إلى التوبة الأولى الإلهية التي جعلته أن يتوب وتوبة الامتنان أيسر من توبة الجزاء وهي توبة الجواد الواهب المحسان الذي يعطي لينعم لا لعلة موجبة عقلا ولا شرعا وهذه إشارة كافية لمن أراد التخلق بأخلاق الكرم فمن كرمه كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فالكريم المطلق من جازى على السيئة إحسانا فإن المحسن هو الذي أخذ الإحسان بإحسانه فلا يتبين فضل المحسن فإنه ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ فافهم وتحقق عسى تلحق والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(العفو حضرة العفو)

عفوت عن الجائي وما زال عفونا *** يسير بنا حتى أنخنا بداره‏

فلما أنخنا قال من ذا فقلت من *** حقيق على جار يقوم بحاره‏

فإن عجز المسكين عن حق جاره *** فلم يبق إلا أن يكون بداره‏

ولو أنه من كان فالحفظ قائم *** عليه به منه لبعد مزاره‏

فإني له كالبدر عند امتلائه *** بنور معاليه وعند سراره‏

[العفو الإلهي في جناب الحق كالقناعة وهي الاكتفاء بالموجود من غير مزيد]

يدعى صاحبها عبد العفو قال الله تعالى إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ هذه الحضرة تشبه حضرة الجلال لأنها تجمع الضدين وهذه تجمع بالدلالة بين القليل والكثير هكذا هي في أصل وضع اللسان كالجليل يجمع بين العظيم والحقير فالعفو الإلهي في جناب الحق كالقناعة وهي الاكتفاء بالموجود من غير مزيد والكثير ما زاد على ما تدعو إليه الحاجة فاتصاف الحضرة بالعفو إنها تعطي ما تقتضيه الحاجة لا بد من ذلك من كونه سخيا وحكيما ثم يزيد في العطاء من كونه منعما مفضلا غير محجور عليه ولا تقضي عليه الحاجات بالاقتصار على ما يكون به الاكتفاء فالعطاء للانعام هو العطاء الحق عطاء الجود والمنة لا تحكم عليه العلل ولا يدخله ملل فإنه‏

قد ورد في الصحيح أن الله لا يمل حتى تملوا فإذا تركتم ترك‏

فمن أعطى بعد سؤاله وبذل ماء وجهه فإنما أعطى جزاء ومن أعطى ليشكر فقد أعطى لعلة يعود خيرها عليه ومن أعطى بعد الشكر فقد أعطى جَزاءً وِفاقاً وهذه التقييدات كلها تعطيها حضرة العفو والإطلاق فيها من غير تقييد تعطيه أيضا حضرة العفو فلذلك يطلق على القليل والكثير ومنه إعفاء اللحية فاختلف الناس في إعفائها ما أراد الشرع بهذه اللفظة هل أراد تكثيرها بأن لا يقص منها كما يقص من الشارب وإذا لم يقص منها كثرت وقد يريد أن يأخذ منها قليلا بكونه‏

قال ذلك عند قوله أحفوا الشارب وأعفوا اللحى‏

وإحفاء الشوارب استئصالها بالقص فيحتمل إعفاء اللحية أن لا يستأصلها ويأخذ منها القليل فمن فهم من هذا الحكم طلب الزينة الإلهية في قوله قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ الله نظر في لحيته فإن كانت الزينة في توفيرها وأن لا يأخذ منها شيئا تركها وإن كانت الزينة أظهر في أن يأخذ منها قليلا حتى تكون معتدلة تليق بالوجه وتزينه أخذ منها على هذا الحد وقد ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان يأخذ من طول اللحية لا من عرضها

فتوجه معنى العفو بالقلة والكثرة على اللحية وأما في المؤاخذة على الذنوب فقال ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ فيأخذ على القليل فيدل هذا العفو على أنه لا بد من المؤاخذة ولكن في قلة والقلة قد تكون بالزمان الصغير المدة ثم يغفر الله ويجود بالإنعام ورفع الألم عن المذنب المسلم وقد يكون بالحال فيقل عليه الآلام بالنظر إلى آلام هي أشد منها أين قرصة البرغوث من لدغ الحية ليس بين ألميهما نسبة وكل واحد منهما مؤلم لكن ثم ألم قليل وألم كثير فأهل الاستحقاق وهم المجرمون‏

المأمورون بأن يمتازوا وليس إلا أهل النار الذين هم أهلها وهم المشركون لا عن نظر فيكون أخذهم بالعفو في الزمان لأن زمان العقاب محصور فإذا ارتفع بقي عليهم حكم الزمان الذي لا نهاية لأبده فزمان عذابهم قليل بالإضافة إلى حكم الزمان الذي يؤول إليه أمرهم فهو عفو عز وجل بما يعطي من قليل العذاب وهو عفو بما يعطي من كثير المغفرة والتجاوز فإنه عز وجل قد أمرنا بالعفو والتجاوز والصفح عمن أساء إلينا وهو أولى بهذه الصفة منا ولذلك كان أجر العافين على الله لكونه عَفُوًّا غَفُوراً وما قرن مغفرته حين أطلقها بتوبة ولا عمل صالح بل قال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فبالغ وما خص إسرافا من إسراف ولا دارا من دار فلا بد من شمول الرحمة والمغفرة على من أسرف على نفسه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الرءوف حضرة الرأفة)

رءوف رحيم لا يكون مؤاخذا *** عبيدا أتاه راجيا متلهفا

من أجل ذنوب قد أتاها بغفلة *** ولو كانت الأخرى أتى متكلفا

فإن شئت عفوا لا تؤاخذه إنه *** أتى مستجيرا سائلا متكففا

وما جاء إلا من غنى سؤاله *** لذاك يراه سائلا متلطفا

فيقنع منا باليسير لفقرنا *** فنثرى له من كونه متعففا

[الإيمان بالله‏]

هي لعبد الرءوف وصف الحق عبده محمدا صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بأنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فقيده بالإيمان ولم يقيد الايمان فهذا تقييد في إطلاق فإنه قال في الايمان إنه مؤمن صاحبه بالحق والباطل وهو قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وذكر ما ذكر فسماهم مؤمنين وما كانوا مؤمنين إلا بالباطل فأمرهم أن يؤمنوا بالله وهو الحق ورسوله والْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ والْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ من قَبْلُ فدل على أنه ما خاطب أهل الكتاب فقط فإنه أمرهم بالإيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل ولا شك أنهم به مؤمنون أعني علماء أهل الكتاب ثم قيد الكفر هنا ولم يقيد الايمان فقال ومن يَكْفُرْ بِاللَّهِ فقيد في الذكر ما أمر به عبده أن يؤمن به وما تعرض في الذكر للكفر المطلق كما أطلق الايمان ونعتهم به في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وما كانوا مؤمنين إلا بالباطل فإن المؤمن بالله لا يقال له آمن بالله فإنه به مؤمن وإن احتمل أن يؤمن به لقول هذا الرسول الخاص على طريق القربة ولكن التحقيق في ذلك ما ذهبنا إليه ولا سيما والحق قد أطلق اسم الايمان على من آمن بالباطل واسم الكفر على من كفر بالطاغوت‏

[الرأفة من القلوب‏]

واعلم أن الرأفة من القلوب مثل جبذ وجذب كذلك رأف ورفأ وهو من الإصلاح والالتئام فالرأفة التئام الرحمة بالعباد ولذلك نهي عنها في إقامة الحدود لا كل الحدود وإنما ذلك في حد الزاني والزانية إذا كانا بكرين إلا عند من يرى الجمع بين الحدين على الثيب وأكثر العلماء على خلاف هذا القول وليس المقصود إلا قوله ولا تَأْخُذْكُمْ يعني ولاة الأمر بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ الله ودين الله جزاؤه ثم قال إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فحص لأنه ثم من يؤمن بالباطل والْيَوْمِ الْآخِرِ يقول إقامة الله حدوده في اليوم الآخر كأنه يقول لولاة الأمر طهروا عبادي في الدنيا قبل أن يفضحوا على رءوس الأشهاد ولذلك قال في هؤلاء ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ ينبه أن أخذهم في الآخرة على رءوس الأشهاد فتعظم الفضيحة فإقامة الحدود في الدنيا أستر فأمر الوالي بإقامة الحد نكالا من الزاني كما هو نكال في حق السارق وبين ذلك فطهارته كما قال أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعاكِفِينَ كذلك إقامة الحد إذا لم يكن نكالا فإنه طهارة وإن كان نكالا فلا بد فيه من معقول الطهارة لأنه يسقط عنه في الآخرة بقدر ما أخذ به في الدنيا فسقط عن الزاني النكال وما سقط عن السارق فإن السارق قطعت يده وبقي مقيدا بما سرق لأنه مال الغير فقطع يده زجر وردع لما يستقبل وبقي حق الغير عليه فلذلك جعله نكالا والنكل القيد فما زال من القيد مع قطع يده وما تعرض في حد الزاني إلى شي‏ء من ذلك وقد ورد

في الخبر أن ما سكت عن الحكم فيه بمنطوق فهو عافية

أي دارس لا أثر له ولا مؤاخذة فيه فإن الله قد بين للناس ما نزل إليهم من الأحكام في كتابه وعلى لسان رسوله ص‏

(الوالي حضرة الإمامة)

إن الإمام هو الوالي فلا تكني *** فإنني عالم بما بدا مني‏

هذا الذي قلته لكم أقول به *** في كل حال أكون فيه لا أكني‏

[الوالي هو الذي يلي الأمور بنفسه‏]

يدعى صاحبها عبد الوالي وعبد الولي وعبد الوالي هو الذي يلي الأمور بنفسه فإن وليها غيره بأمره فليس بوال ولا إمام وإنما الوالي والإمام هو المنصوب للولاية وإنما سمي واليا لأنه يوالي الأمر من غير إهمال لأمر ما مما له عليه ولاية وإن لم يفعل فليس بوال وإنما هو حاكم هوى وقد قيل له ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله فأنفاس الوالي وحركاته وتصرفاته عليه معدودة والوالي لا يكون أبدا إلا في الخير لا بد من ذلك فإنه موجد على الدوام فلا تراه أبدا إلا في فضل وإنعام وإقامة حد لتطهير والتطهير خير فإن الوالي على الحقيقة هو الله فإن المنصوب للولاية بحكم الله يحكم وبما أراه الله وهو الحق‏

وقد أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه معلما إيانا فقال والخير كله في يديك‏

فلا يوالي إلا الخير ولا يأمر إلا بالخير ولا يكون عنه في العقوبة والمثوبة إلا الخير

ثم قال والشر ليس إليك‏

فالوالي لا يوالي الشر بل لا يفعله أصلا لأنه ليس إليه فالوالي إذا كان من نصب الحق فالشر ليس إليه إلا إذا ترك ولاية الحق وحكم بالهوى فضل عن سبيل الله فله عذاب شديد بما نسي يوم الحساب فيكون ديوان الحكم الإلهي يأخذه إذا حاسبه فالشقي من تأخر تطهيره إلى ذلك المقام الأخراوي والسعيد من تقدم تطهيره في الدنيا إما بتوبة يتوبها وإما بإنصاف وأخذ منه في الدنيا حتى ينقلب إلى الآخرة وليس عليه حق وربما يكون ممن يمشي في الدار الدنيا وما عليه خطيئة لكثرة ما يبتليه الله به مما يقع له به الكفارة

فوالي الحق من والى *** جميع الخير في نسق‏

فما ينفك عن طبق *** بغير الحكم في طبق‏

له نور إذا يفضي *** كنور البدر في الغسق‏

إذا غسقت مسائله *** أتى في الحكم كالفلق‏

فجلى عنك ظلمتها *** وما تلقى من الحرق‏

وأيضا

تعوذوا بالله رب الفلق *** من شر ديجور إذا ما غسق‏

فإنه آلى علينا كما *** آلى لمن قد جاءنا بالشفق‏

وليلة المظلم مهما وسق *** والقمر العالي إذا ما اتسق‏

لتركبن اليوم في ذاتكم *** عند شهودي طبقا عن طبق‏

فالحمد لله على ما خلق *** وأخلق الخلق الذي قد خلق‏

أوجدنا ماء إلى نطفة *** مكنونة في مضغة من علق‏

أودع فيها ولديها بنا *** جميع ما اختص بنا من علق‏

[الغلول في الدين‏]

وقد نصحتك أيها الوالي المتغالي فلا تغل في الدين ولا تقل على الله إلا الحق ولا على الخلق إلا الحق فإنك المطلوب بما أنت وال عليه وعنه‏

فإذا وليت أمرا *** فلتقم فيه بحق‏

إنما الوالي بحق *** هو مقعد صدق‏

فتراه بين حق *** حاكما وبين خلق‏

رتبة يسمو إليها *** كل ذي عقل ونطق‏

هو للفناء مفن *** وهو للبقاء مبق‏

فإذا أفنى فناء *** جاء حكم الضد يبق‏

قال الله تعالى لخليله إبراهيم عليه السلام إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ابتداء منه من غير طلب من إبراهيم عليه السلام ليكون معنا مسددا وعلمنا أنه ليس بظالم قطعا لأن الإمامة عهد من الله وقال إبراهيم لربه تعالى ومن ذُرِّيَّتِي فقال‏

لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فأمرنا الحق أن نتبع ملة إبراهيم لأن العصمة مقرونة بها فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد نبه على أنه من طلب الإمارة وكل إليها ومن أعطيها من غير مسألة أعين عليها وبعث الله ملكا يسدده والملك معصوم من الخطاء في الأحكام المشروعة في عالم التكليف فكان الخليل حنيفا أي مائلا إلى الحق مسلما منقادا إليه في كل أمر فكان يوالي الخير حيثما كان قالوا لي الكامل من والى بين الأسماء الإلهية فيحكم بينها بالحق كما يحكم الوالي الكامل الولاية من البشر بين بِالْمَلَإِ الْأَعْلى‏ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ولهذا أمروا بالسجود لآدم عليه السلام فإن الاعتراض خصام في المعنى والخصم قوي فلما أعطى الإمامة والخلافة وأسجدت له الملائكة وعوقب من أساء الأدب عليه وتكبر عليه بنشأته وأبان عن رتبة نفسه بأنها عين نشأته فجهل نفسه أولا فكان بغيره أجهل ولا شك أن هذا المقام يعطي الزهو والافتخار لعلو المرتبة والزهو والفخر داء معضل وإن كان بالله تعالى فأنزل الله لهذا الداء دواء شافيا فأمر الإمام بالسجود للكعبة فلما شرب هذا الدواء بري‏ء من علة الزهو وعلم إِنَّ الله يَفْعَلُ ما يُرِيدُ وما تقدم على من تقدم عليه من الملائكة بالصفة التي أعطاه الله لعلو رتبته على الملائكة وإنما كان ذلك تأديبا من الله لملائكته في اعتراضهم وهو على ما هو عليه من البشرية كما أنه قد علم أنه ما سجد للكعبة لكون هذا البيت أشرف منه وإنما كان دواء لعلة هذه الرتبة فكان الله حفظ على آدم صحته قبل قيام العلة به فإنه من الطب حفظ الصحة وهو أن يحفظ المحل أن يقوم به مرض لأنه في منصب الاستعداد لقبول المرض وقد علم أنه وإن سجد للبيت فإنه أتم من البيت في رتبته فعلم إن الملائكة ما سجدت له لفضله عليهم وإنما سجدت لأمر الله وما أمرها الله إلا عناية بها لما وقع منهم مما يوجب وهنهم ولكن لما لم يقصدوا بذلك إلا الخير اعتنى الله بهم في سرعة تركيب الدواء لهم بما علمهم آدم من الأسماء وبما أمروا به من السجود له وكل لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أمرت الملائكة بالسجود فامتثلت وبادرت فأثنى الله عليهم بقوله لا يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ونهى آدم فعصى فلما غوى أي خاف قال الشاعر

ومن يغو لا يقدم على الغي لائما *** ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى‏

(الجامع حضرة الجمع)

إنما الجمع وجود *** ليس في الجمع افتراق‏

إنما الفرق الذي *** فيه له بنا اتفاق‏

فله في الحكم فينا *** من وجودنا اشتقاق‏

ولنا عليه حكم *** قيده فيه انطلاق‏

[إن الحق عين الوجود]

يدعى صاحبها عبد الجامع قال الله تعالى إن الله جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ فهو في نفسه جامع علمه العالم علمه بنفسه فخرج العالم على صورته فلذلك قلنا إن الحق عين الوجود ومن هذه الحضرة جمع العالم كله على تسبيحه بحمده وعلى السجود له إلا كثير من الناس ممن حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ فسجد لله في صورة غير مشروعة فأخذ بذلك مع أنه ما سجد إلا لله في المعنى فافهم ومن هذه الحضرة ظهر جنس الأجناس وهو المعلوم ثم المذكور ثم الشي‏ء فجنس الأجناس هو الجنس الأعم الذي لم يخرج عنه معلوم أصلا لا خلق ولا حق ولا ممكن ولا واجب ولا محال ثم انقسم الجنس الأعم إلى أنواع تلك الأنواع نوع لما فوقها وجنس لما تحتها من الأنواع إلى أن تنتهي إلى النوع الأخير الذي لا نوع بعده إلا بالصفات وهنا تظهر أعيان الأشخاص وكل ذلك جمع دون جمع من هذه الحضرة وأقل الجموع اثنان فصاعدا ولم يكن الأمر جمعا ما ظهر حكم كثرة الأسماء والصفات والنسب والإضافات والعدد وإن كانت الأحدية تصحب كل جمع فلا بد من الجمع في الأحد ولا بد من الأحد في الجمع فكل واحد بصاحبه وقال تعالى من هذه الحضرة وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ والمعية صحبة والصحبة جمع وقال ما يَكُونُ من نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى‏ من ذلِكَ وهو الواحد ولا أَكْثَرَ إلى ما لا يتناهى إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ فإن كان واحدا فهو الثاني له لأنه معه فظهر الجمع به فهو الجامع ثم ما زاد على واحد فهو مع ذلك المجموع من غير لفظه أي لا يقال هو ثالث ثلاثة وإنما يقال ثالث اثنين ورابع ثلاثة وخامس أربعة لأنه ليس من جنس ما أضيف إليه بوجه من الوجوه لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ولما كانت هذه الحضرة لها الدوام في الجمعية ولا تعقل إلا جامعة وما لها أثر إلا الجمع وما تفرق إلا لتجمع وقد علمت إن الدليل‏

يضاد المدلول وأن الدال وهو الناظر في الدليل إذا كان فيه ومعه مجتمعا لا يكون مع المدلول ودليلك على الحق نفسك والعالم كما قال سَنُرِيهِمْ آياتِنا أي الدلالة علينا في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ وقال من عرف نفسه عرف ربه‏

جعلك دليلا عليه فجمعك بك وفرقك عنه في حال جمعك بك ثم قال لأبي يزيد اترك نفسك وتعالى ففرقك عنك لتجتمع به ولا تجتمع به حتى تنظر في الدليل به لا بك فتعلم أنك ما زلت مجتمعا به في حال نظرك في الدليل فإنه سمعك وبصرك فأنت وهو مجتمعان في حال طلبك إياه فمن تطلب أو من يطلب فما برحت في عين الجمع به وهو الجامع لنفسه بك لمحبته فيك وهذا من أعجب الأحوال الطلب في عين التحصيل‏

إنما الحال ملعب *** ولنا فيه مذهب‏

هو ميداننا الذي *** فيه نلهو ونلعب‏

وبهن ننكح العذارى *** ونسقي ونشرب‏

فانظروا في صنيعه *** واعجبوا منه واعجبوا

ما لنا فيه مطلب *** وله في مطلب‏

[حكم الجمع في الوجود وفي العدم‏]

لما كان الدوام لمعية الحق مع العالم لم يزل حكم الجمع في الوجود وفي العدم فإنه مع الممكن في حال عدمه كما هو معه في حال وجوده فأينما كنا فالله معنا فالتوحيد معقول غير موجود والجمع موجود ومعقول ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وليست إلا درجة الوجود لو أراد التوحيد ما أوجد العالم وهو يعلم أنه إذا أوجده أشرك به ثم أمره بتوحيده فما عاد عليه إلا فعله فقد كان ولا شي‏ء معه يتصف بالوجود فهو أول من سن الشرك لأنه أشرك معه العالم في الوجود فما فتح العالم عينه ولا أبصر نفسه إلا شريكا في الوجود فليس له في التوحيد ذوق فمن أين يعرفه فلما قيل له وحد خالقك لم يفهم هذا الخطاب فكرر عليه وأكد وقيل له عن الواحد صدرت فقال ما أدري ما تقول لا اعقل إلا الاشتراك فإن صدوري عن ذات واحدة لا نسبة بيني وبينها لا يصح فلا بد أن يكون مع نسبة علمية أو نسبة قادرية لا بد من ذلك ثم إنه وإن كان قادرا فلا بد من الاشتراك الثاني وهو أن يكون لي من ذاتي القبول لاقتداره وتأثيره في وجودي فما صدرت عن واحد وإنما صدرت عن ذات قادرة في شي‏ء قابل لأثر اقتداره أو في مذهب أصحاب العلل عن حكم علة وقبول معلول فلم أدر للوحدة طعما في الوجود

فقد رمت أن أخلو بتوحيد خالقي *** فكان قبولي مانعا ما أرومه‏

فيا ليت شعري هل يقام بمشهد *** ويا ليت شعري هل أرى من يقيمه‏

لقد رمت أمرا لا سبيل لنيله *** ويمنع عن تحصيل ذاك رسومه‏

أ لا تراه كيف نبه على إن الأمر جمع وأنه جامع بقوله ومن كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وعلم إن نفسه شي‏ء فخلق آدم على صورته فكان آدم زوجين ثم خلق منه حواء لا من غيره ليعلمه بأصل خلقه ومن زوجه ومن زوجه فما زاد بخلقه حواء منه على زوجيته بالصورة التي خلق عليها وتلك الصورة الزوجية أظهرت حواء فكانت أول مولد عن هذه الزوجية كما خلق آدم بيديه فكان عن زوجية يد الاقتدار ويد القبول وبهما ظهر آدم‏

وكان فردا فصار زوجا *** ماج به في المخاض موجا

كان حضيضا بقاع طبع *** فصار بالنفخ فيه أوجأ

أقامني سيدا فجاءت *** وفوده لي فوجا ففوجا

فيا أيها الموحد أين تذهب وأنت توحد توحيدك يشهد بأنك أشركت إذ لا يثبت توحيد إلا من موحد وموحد فالجمع لا بد منه فالاشتراك لا بد منه فما استند المشرك إلا لركن قوي ولهذا كان ما له إلى الرحمة في دار تقتضي بذاتها الغضب حتى يظهر سلطان الرحمة الأقوى لأن دار النعيم معين قال الشاعر

أحلى من الأمن عند الخائف الوجل‏

فلا يعرف طعم الأمان ذوقا من هو فيه مصاحب له وإنما يعرف قدره من ورد عليه وهو في حال خوف فيجد طعمه لوروده ولهذا نعيم الجنة يتجدد مع الأنفاس كما هو نعيم الدنيا إلا أنه في الآخرة يحس به من يتجدد عليه ويشاهد خلق الأمثال فيه وفي الدنيا لا يشاهد خلق الأمثال فيه ولا يحس به بل هو في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ فلذة أصحاب الجحيم عظيمة لمشاهدة الدار وحكم الأمان من حكمها فيه ليس العجب من ورد في بستان وإنما العجب من ورد في قعر النيران إبراهيم‏

الخليل عليه السلام في وسط النار يتنعم ويلتذ ولو لم يكن عليه السلام إلا في حمايتها إياه من الوصول إليه فالأعداء يرونها في أعينهم نارا تأجج وهو يجدها بأمر الله إياها بَرْداً وسَلاماً عليه فأعداؤه ينظرون إليه ولا يقدرون على الهجوم عليه انظر إلى الجنة محفوفة بالمكاره وهل جعل الله ذلك إلا ليتضاعف النعيم على أهلها فإن نعيم النجاة والفوز من أعظم النعم‏

فما خلق الإنسان إلا لينعما *** وما أشهد الإنسان إلا ليعلما

بأن وجود الحق في الخلق مودع *** وهل كان هذا الوجود إلا تكرما

فينعم بالتعذيب فيها جماعة *** ولو لا شهود الضد ما كان مسلما

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الغني حضرة الغني والإغناء)

ألا إنما المغني الغني لذاته *** وما كان فيه من جميل صفاته‏

فلو إن عين العبد كان بكونه *** لجلت معاليه لكثر هباته‏

ولكن عين الحق أفنت وجودها *** فلله ما يبديه من كلماته‏

أقول وقولي صادق غير كاذب *** لقد رمت أن أحظى لسر مناته‏

فيعبدني من كان بالحق عارفا *** فأجزيه بالإحسان قبل وفاته‏

[ليس الغني عن كثرة العرض لكن الغني غنى النفس‏]

يدعى صاحبها عبد الغني وعبد المغني قال الله عز وجل فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وقال تعالى وأَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏ وأَقْنى‏ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من هذه الحضرة ليس الغني عن كثرة العرض لكن الغني غنى النفس‏

ترى التاجر عنده من المال ما يفي بعمره وعمر ألزامه لو عاش إلى انقضاء الدنيا وما عنده في نفسه من الغني شي‏ء بل هو من الفقر إلى غاية الحاجة بحيث أن يرد بماله موارد الهلاك في طلب سد الخلقة التي في نفسه عسى يستغني فما يستغي بل لا يزال في طلب الغني الذي هو غنى النفس ولا يشعر فاعلم إن أول درجة الغني القناعة والاكتفاء بالموجود فلا غنى إلا غنى النفس ولا غنى إلا من أعطاه الله غنى النفس فليس الغني ما تراه من كثرة المال مع وجود طلب الزيادة من رب المال فالفقر حاكم عليه فالإنسان فقير بالذات لأنه ممكن وهو غني بالعرض لأنه غني بالصورة وذلك أمر عرض له بالنسبة إليه وإن كان مقصودا للحق فللإنسان وجهان إذا كان كاملا وجه افتقار إلى الله ووجه غنى إلى العالم فيستقبل العالم بالغنى عنه ويستقبل ربه بالافتقار إليه ولهذين الوجهين قيل إنه لا يكون عند الله وجيها لأنه لا يكون عند الله أبدا إلا فقيرا ذليلا ويكون عند العالم وجيها أي غنيا عزيزا

[الغيرة الإلهية قد أزالت الافتقار إلى العالم من العالم‏]

وأما الإنسان الحيوان الذي لا معرفة له بربه فهو فقير إلى العالم أبدا وإن كانت الغيرة الإلهية قد أزالت الافتقار إلى العالم من العالم بقولها يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فمن ذاق طعم الغني عن العالم وهو يراه عالما لا بد من هذا الشرط فقد حصل على نصيب وافر من الغني الإلهي إلا أنه محجوب عن المقام الأرفع في حقه لأن العالم مشهود له ولهذا اتصف بالغنى عنه فلو كان الحق مشهوده وهو ناظر إلى العالم لاتصف بالفقر إلى الله وحاز المقام الأعلى في حقه وهو ملازمة الفقر إلى الله لأن في ذلك ملازمة ربه عز وجل وأما الاستغناء فإنه يؤذن بالقرب المفرط وهو حجاب كالبعد المفرط ومن وقف على سر وجود العالم من حيث إيجاد الله إياه عرف ما أشرنا إليه فإذا كان العارف على قدر معلوم بين القرب والبعد حصل المطلوب وكان في ذلك الشرف التام للإنسان إذ كان الشرف لا يحصل إلا لأهل البرازخ الجامعين الطرفين قد علمنا إيمانا أن الله أقرب إلينا من حَبْلِ الْوَرِيدِ ولكن لا نبصره لهذا القرب المفرط وقد علمنا إيمانا أنه عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ فلا نبصره لهذا البعد المفرط عادة أيضا فمن شاهد الحق ورآه فإنما يشاهده في معينه من قوله وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ هذا حد رؤيته هنا ولا يشاهد متى شوهد إلا من هذا المقام وبهذه الصفة لا بد من ذلك فإذا أغناك فقد أبعدك في غاية القرب وإذا أفقرك فقد قربك في غاية البعد

فيا من قربه بعد *** ويا من بعده قرب‏

أقلني من هوى نفسي *** فإني الواله الصب‏

وإني هائم فيه *** قد استعبدني الحب‏

ولا مطلب لي إلا *** الذي يرضى به الحب‏

إذا أحببت محبوبا *** له النخوة والعجب‏

فلا تعجب فلا تحجب *** فقلبي للهوى قلب‏

ومن هذه الحضرة ظهر الغني في العالم الذي يحوي على الفقر والخوف مع ما فيه من الزهو والفخر أما ما فيه من الفقر فلطلب الزيادة وأما ما فيه من الخوف فهو الفزع من تلف ما بيده والحوطة عليه وأما ما فيه من الزهو والفخر فهو ما يشاهده من الطالبين رفده وسعى الناس في تحصيل مثل ما عنده فمن هو بين غنى وفقر كيف يفتخر فالفقر لا يتركه يفرح والغني لا يتركه يحزن فقد تعرى بهذين الحكمين من هاتين الصفتين‏

[أغنى الأغنياء]

فأغنى الأغنياء من استغنى بالله عن الأغنياء بالله ولو لم يكن عنده قوت يومه مع أنه يحزن من جهة من كلفه الله النظر في تحصيل ما يقوم بهم ويقوتهم من أهله وما يهتم بذلك إلا متشرع أديب عانق الأدب وعرف قدر ما شرع له من ذلك فإن طريق الأدباء طريق خفية لا يشعر بها إلا الراسخون في العلم المحققون بحقائق الفهم عن الله فكما إن الله ليس بغافل عما يحتاج إليه عباده كذلك أهل الله لا يغفلون عما قال لهم الحق احضروا معه ولا تغفلوا عنه فترى الكامل حريصا على طلب مئونة أهله فيتخيل المحجوب أن ذلك الحرص منه لضعف يقينه وكذلك في ادخاره وليس ذلك منه إلا ليوفي الأدب حقه مع الله فيما حد له من الوقوف عنده فالعالم من لا يطفي نور علمه نور ورعه ولا يحول بينه وبين أدبه فمن تعدى حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم أ لا ترى إلى ما في هذه الحضرة من العجب أن المشاهد غنى الحق الذي هو صفته في غنى العالم فلا يشهد إلا حقا ولا يكون القبول والإقبال إلا على صفة حق كيف يعتب على ذلك من هو بهذه المثابة فقيل له أما من استغنى فأنت له تصدى وقد علم تعالى لما تصدى ولمن تصدى فإن الله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏

فما تصدى لا بحق *** ولا تصدى إلا لحق‏

وما أتاه لعتاب لا *** لكونه ظاهرا بخلق‏

فمن تجلى بكل مجلى *** حاز بمجلاه كل أفق‏

فاحذر هذه الحضرة فإن فيها مكرا خفيا واستدراجا لطيفا فإن الغني معظم في العموم حيث ظهر وفيمن ظهر والخصوص ما لهم نظر إلا في الفقر فإنه شرفهم فلا يبرحون في شهود دائم مع الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وما راعى الحق في عتبة لرسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إلا جهل من جهل من الحاضرين أو من يبلغه ذلك من الناس بمن تصدى له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلو عرفوا الأمر الذي تصدى له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما عاتبه ولا كان يصدر منهم ما صدر من الأنفة من مجالسته صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الأعبد فهل هذا إلا من ذهولهم عن عبوديتهم للذي‏

اتخذوه إلها وما تلهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن الأعمى إلا لحبه في الفال وما جاء الله تعالى بالأعمى إلا لبيان حال مخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بعمي هؤلاء الرؤساء وعلم بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولكن وقف مع حرصه على إيمانهم والوفاء بالتبليغ الذي أمره الله به ولأن صفة الفقر صفة نفس المخلوق وقد علم صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه الدليل فإن الدليل لا يجتمع هو والمدلول وهو دليل على غنى الحق وقد تجلى في صورة هؤلاء الرؤساء فلا بد من قوع الأعراض عن الأعمى والإقبال على أولئك الأغنياء ومع هذا كله وقع العتاب جبرا للأعمى وتعريفا بجهل أولئك الأغنياء فجبر الله قلب الأعمى وأنزل الأغنياء عما كان في نفوسهم من طلب العلو في الأرض فانكسروا لذلك ونزلوا عن كبريائهم بقدر ما حصل في نفوسهم من ذلك العتاب الإلهي وهذا القدر كاف‏

(المعطي المانع حضرة العطاء والمنع)

حضرة المنع والعطاء *** حضرة ما لها غطا

فانظر المنع يا أخي *** تجده عين العطا

فإذا كنت هكذا *** كنت في الحكم مقسطا

وإذا لم تكن كذا *** كنت في حكم من سطا

لا تكن كالذي مضى *** في هواه وفرطا

[إنما الشكر لله تعالى إلا ما أمر الله به‏]

فمن علم إن الله هو المعطي لم يشكر غيره إلا بأمره قال تعالى أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ‏

إذا ما قلت تعطي *** فقد أعطيت لم تعطي‏

فلا نكذب ولا تجحد *** فإنك لم تزل تعطي‏

فلا نكفر وقم واشكر *** لمن أعطى الذي أعطى‏

متى ما لم يقل هذا *** عبيد الله قد أخطأ

يقال لصاحبها عبد المعطي وقال تعالى ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ من رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها

إذا أعطى فلا مانع *** وإن يمنع فلا معطي‏

فيا نفسي بجود الله *** مهما جنته حطي‏

وأسرع عند ما يدعوك *** للإتيان لا تبطئ‏

ولا تفزع إلى أمر *** أتى بالغت والغط

فتفرق منه لا تفعل *** فإن الجد في الحط

وكن بالحق مربوطا *** فإن الخير في الربط

ولا تضبط على أمر *** فإن البحل في الضبط

وكن للشرط مطلوبا *** فلا تقعد عن الشرط

وكن خطأ ولا تبرح *** مع الرحمن في الخط

ولا تركن إلى سطح *** ولا تنظره في النقط

تكن بالحق موصوفا *** بلا قرب ولا شحط

ولا تعرفه في قبض *** ولا تجهله في البسط

وإن عاينته بحرا *** فلا تبرح من الشط

وقل يا منتهى سرى *** لقد وفيتني قسطي‏

إذا أنزلت أزواجا *** بدخ العود بالقط

عسى يأتيك ما تهوي *** من الأخبار في القسط

يدعى صاحبها أيضا بوجه عبد المانع قال الله تعالى وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ من بَعْدِهِ‏

[إن الجود الإلهي مطلق‏]

اعلم أن حضرة المنع أنت فإن الجود الإلهي مطلق فالمنع عدم القبول لأنه لا يلائم المزاج فلا يقبله الطبع ولا تخلو عن قبول فقد قبلت من العطاء ما أعطاه استعدادك فإن تألمت بما حصل لك فما كان إلا قبولك وإن تنعمت فما كان إلا قبولك ومن قبل المفيض المعطي لا ألم ولا نعيم بل وجود جود صرف خالص محض فإن قلت قد وصف نفسه بالإمساك وهو المنع لا غير قلنا لما وصف نفسه بالإمساك في تلك الحال هل بقيت بلا أعطية فإنه يقول لا بل كنت على أعطية من الله فإن الجود الإلهي يأبى ذلك فلهذا لم تقبل لما في المحل مما قبلت فإن قلت فقد منع ما تعلق به غرضي حين إمساكه عني كما يمسك المطر قلنا ما أمسك شيئا عن إرساله إلا وإمساكه عطاء من وجه لا يعرفه صاحب ذلك الغرض فقد أعطاه الغرض وأمسك عنه الغيث ليستسقيه فيقام في عبادة ذاتية من افتقار فأعطاه ما هو الأولى به وهذا عطاء الكرم فلا تنطر إلى جهلك وراقب علمه بالمصالح فيك فتعرف إن إمساكه عطاء فمن مسكه عطاء كيف تنظره مانعا ولا تنظره معطيا وما تسمى بالمانع إلا لكونك جعلته مانعا حيث لم تنل منه غرضك فما منع إلا لمصلحة فإن قلت فالجاهل به قد منعه العلم به قلنا هنا غلط كبير فإن العلم بالله محال فلم يبق العلم به إلا الجهل به وهذا علم العلماء بالله وما عدا هؤلاء من أصحاب النظر فكل واحد منهم بزعم أنه قد علم ربه وما هو إلا علم ربه فما منهم من يقول إن الله منعني العلم به بل هو فارح مسرور بعقيدته وإنه عند نفسه عالم بربه وكذلك هو فذلك حظه من علمه بربه فما في الوجود من هو ممنوع العلم بالله لا الجاهل به ولا العالم كل قد علم صلاته وتسبيحه يعلم لمن يصلي ومن يسبح فما

[إن الله وهب العلم لمن طلب الزيادة]

ثم من يقول إن الله ما وهبني العلم به إلا أنه يطلب الزيادة ولا يكون ذلك منعا فإن الحال لا يعطي إلا المزيد لكون استحالة ما لا يتناهى أن يدخل في الوجود ومريد العلم بالله لا يتناهى فهو في كل نفس يهب من العلم به ما يشعر به وما لا يشعر به يقول إن الله أبقى على ذلك العلم به الذي كان عندي فلا يزال التكوين دائما لا ينقطع فهو لكل ما لم يحصل في الوجود مانع عند هذا الشخص حيث يرى الإمكان في تحصيله في الزمان الذي لم يحصل له وما ذاك إلا لجهله بالأمر فإن الأمور لا تنظر من حيث إمكانها فقط بل تنظر من حيث إمكانها ومن حيث اقتضاه علم المرجح فيها من التقدم والتأخر وما في الوجود فراغ إذ لو كان ثم فراغ لصح المنع حقيقة فما ثم الا عطاء في عين منع ومنع في عين عطاء وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً

من منعه عطا *** فذاك الجواد

وكشفه غطا *** فإنه المراد

وذاته وطاء *** وليس بالمهاد

فلا يريد شيئا *** نعم ولا يراد

والأمر مستمر *** يجري على السداد

صراطه قويم *** يهدي إلى الرشاد

فحضرة المنع تعطي المنع بعطاء العين فالمنع تبع فإن المحل إذا كان في اللون أبيض فقد أعطاه البياض وعين إعطاء البياض منع ما يضاده من الألوان لكن ليس متعلق الإرادة إلا إيجاد عين البياض فامتنع ضده بحكم التبع وهكذا كل ضد في العين‏

فالنفي أصل في كل كون *** وذلك المنع إن عقلتا

وما له في الوجود حظ *** فما حرمت وما منعتا

أحكام سلب قامت بعين *** من غير عين إذا نسبتا

مثل العزيز الغني فاعلم *** فإنك الحبر إن علمتا

(الضار حضرة الضرر)

إذا كان إضراري وضري بمؤنسي *** فلا زال ضري مؤنسي ومصاحبي‏

لقد أنست نفسي به حين جاءني *** فلله من خل وفي وصاحب‏

أسير به تيها وعجبا ونخوة *** لذلك قد هانت على مطالبي‏

يطالبني في كل وقت بدينه *** ففزت به إذ كان حبي مطالبي‏

ولما وسعت الكل ضاقت برحبها *** على نواحي الأرض من كل جانب‏

[الإنسان الكامل ضرتان‏]

يدعى صاحبها عبد الضار فهو والإنسان الكامل ضرتان لأنه ما نازعه أحد في سورته إلا من أوجده على صورته فأول ضار كان هو حيث ضر نفسه ولهذا لم يدع أحد الألوهة ممن ادعيت فيه إلا الإنسان وهذا ضرر معنوي بين الصورتين وما رَمَيْتَ فضره إِذْ رَمَيْتَ فتضرر فإن نفا أضر بصاحبه وإن أثبت أضر بنفسه ولا بد من نفي وإثبات فلا بد من الضرر فهو الضار للصورتين لاحدية الصورة فإنه إذا نزل فيها أحدهما ارتحل الآخر حكما فإن ظلم نفسه أضر بها وإن ظلم لنفسه أضر بمثله ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ إلا هو وهذه حضرة سرها دقيق لأنها بين الحق والإنسان الكامل فكل ضرر في الكون فليس إلا منع الغرض أن يكون وهو عرض بالنظر إلى هذا الأصل وهو محقق في هذه العين قد نبه الشارع على إن الأولى والآخرة ضرتان إن أسخطت الواحدة أرضيت الأخرى والذات الأولى معلومة والذات الأخرى أيضا معلومة ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ فإنها عين كونك من الأولى لأنها تفنيك بظهورها وتردك إلى حكم العدم والآخرة لا تفني الأولى ولكن تندرج الأولى فيها إذا كان الظهور للآخرة فالأولى لا تمييز فيها فتجمع بين الضدين والآخرة ليست كذلك فبهذا تميزت عن الأولى فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ فيلتذ المعذب بالعذاب القائم به في الدنيا لأنه على صورة الأولى في الجمع بين الضدين وفي الآخرة ما له هذا الحكم فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ وامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فأنت الآخرة فعينك خير لك فإنك لا التذاذ لك إلا بوجودك فما يلتذ شي‏ء بشي‏ء إلا بما يقوم به وكذلك لا يتألم إلا بما يقوم به‏

فحضرة النفع حضرة الضرر *** في كل عين عين من البشر

لو رفع الضر لم يكن بشر *** ولا بدا الاشتراك في الصور

فالبعل هو الذي يعطي كل ضرة حقها من نفسه وإن أضر ذلك الحق بالأخرى فلعدم إنصافها في ذلك وليس البعل هنا بين الصورتين إلا ما قررناه من حقيقة الحقائق المعقولة التي لها الحدوث في الحادث والقدم في القديم ويظهر ذلك بالاشتراك في الأسماء فسماك بما سمى به نفسه وما سماك ولكن الحقيقة الكلية جمعت بين الحق والخلق فأنت العالم وهو العالم لكن أنت حادث فنسبة العلم إليك حادثة وهو قديم فنسبة العلم إليه قديم والعلم واحد في عينه وقد اتصف بصفة من كان نعتا له فافهم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(النافع حضرة النفع)

إني انتفعت بمن تأتي منائحه *** فقرا إلي به والنافع الله‏

لو لا وجودي ولو سر حكمته *** ما قلت في كل شي‏ء جاءني ما هو

لله قوم إذا حلوا بساحته *** وفي مساحته بربهم تاهوا

أفناهم عنهم كوني وطالبهم *** أغناهم عن وجودي المال والجاه‏

والله لو لا وجود الحق في خلدي *** ما كنت أرقبه لولاه لولاه‏

[إن النفع قد يكون عين إزالة الضرر خاصة وقد يكون نفعها بأمر زائد على إزالة الضرر]

يدعى صاحبها عبد النافع هذه الحضرة قد يكون نفعها عين إزالة الضرر خاصة وقد يكون نفعها بأمر زائد على إزالة الضرر وتحقيق الأمر في النفع وصول صاحب الغرض إلى نيل غرضه والغرض إرادة فالغرض لا متعلق له أبدا إلا بالمعدوم حكما أو عينا أما قولي حكما من أجل تعلق الغرض بإعدام أمر ما وهو إلحاق ذلك الأمر الوجودي بالعدم فحكم الإعدام فيه في حال وجوده غير محكوم عليه به فإذا حكم عليه به فلا يحكم عليه به حتى يلحق ذلك الأمر الوجودي بالعدم فلهذا قلنا حكما فإن تعلق الغرض بإيجاد أمر ما فإن المراد معدوم بلا شك عينا فإذا وجد زال الغرض بالإيجاد وتعلق بدوام ذلك الموجود إن كان مرادا له فالفرار من كل أمر مهلك نفع عند الخائف لينجو مما يحذر منه ويخاف فإذا وقع النفع وهو عين النجاة والفوز تفرغ المحل منه وقامت به أغراض في إيجاد ما يكون له بوجوده منفعة أي شي‏ء كان فتعطيه إياه هذه الحضرة

حضرة النفع حضرة الجود *** ليلة الصفح بالمنى عودي‏

فنعيم المحب ليس سوى *** ما يراه من كل مشهود

رؤية تنعم النفوس بها *** كان حدا أو غير محدود

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(النور حضرة النور)

النور نوران نور العلم والعمل *** ونور موجدنا الموصوف بالأزل‏

طلبت شخصا عسى أحظى برؤيته *** من حضرتي صاعد العلة العلل‏

ولم أعرج على كون أمر به *** حبا ولا كان ذاك الكون في أملي‏

حتى مررت بشخص لست أعرفه *** فلم يزل مؤنسي فيه ولم يزل‏

فقلت ما ذا فقالوا الحق قلت لهم *** هذا الذي كنت أبغيه مع النحل‏

[إن الوجود الحق هو النور]

يدعى صاحبها عبد النور قال الله تعالى الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وقال في معرض الامتنان وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ وما يمشي إلا بنفسه فعين نفسه قد يكون عين نوره وليس وجوده سوى الوجود الحق وهو النور فهو يمشي في الناس بربه وهم لا يشعرون كما

قال إذا أحب الله عبدا كان سمعه الذي يسمع به‏

وذكر في هذا الخبر جميع قواه وأعضائه‏

إلى أن قال ورجله التي يسعى بها

وما مشى في الناس إلا برجله في حال مشيه بربه فهو الحق ليس غيره فأزال بنوره ظلمة الكون الحادث فإنه ما حدث شي‏ء لأن عين الممكن ما زال في شيئية ثبوته ما له وجود وإنما ذلك حكم عينه في الوجود الحق فقال تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فهو قوله فيمن لا يعلم كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها وهو ما بقي من الممكنات في شيئية ثبوتها لا حكم لها في الوجود الحق ولا بد أن يبقى منها ما لا حكم له في الوجود الحق لأن الأمر لا نهاية فيه فلا يفرغ فكل عين ظهر لها حكم في الوجود الحق فإن ثم عينا ما ظهر لها حكم في الوجود الحق فهي في الظلمات حتى تظهر فيبقى غيرها كذلك من لا يعلم حتى يعلم فيلحق بأصحاب النور ولا بد أن يبقى من لا يعلم فنور الوجود ينفر ظلمة العدم ونور العلم ينفر ظلمة الجهل‏

[إن للأنوار درجات في الفضيلة]

ثم لتعلم إن الأنوار وإن اجتمعت في الإضاءة والتنفير فإن لها درجات في الفضيلة كما إن لها أعيانا محسوسة كنور الشمس والقمر والنجم والسراج والنار والبرق وكل نور محسوس أو منور وأعيانا معقولة كنور العلم ونور الكشف وهذه أنوار البصائر والأبصار وهذه الأنوار المحسوسة والمعنوية على طبقات يفضل بعضها بعضا فنقول عالم واعلم ومدرك وأدرك كما تقول في المحسوس نير وأنور أين نور الشمس من نور السراج كما أيضا يتفاضلون في الإحراق فإن الإضاءة محرقة مذهبة على قدر قوة النور وضعفه وقد ورد حديث السبحات المحرقة والسبحات الأنوار الوجهية هنا نقول إنه بالحجب قيل هذا العالم فإذا ارتفعت الحجب لاحت سبحات الوجه فذهب اسم العالم وقيل هذا هو الحق وهذا لا يرتفع عموما فلا يرتفع اسم العالم لكن قد يرتفع خصوصا في حق قوم ولكن لا يرتفع دائما في البشر لما هو عليه من جمعية الوجود وما ارتفع إلا في حق العالين وهم المهيمون الكروبيون وهذا يكون في البشر في أوقات‏

إذا كان عين العبد فالعبد باطن *** وإن كان سمع الحق فالحق سامع‏

فما الأمر إلا بين فرض ونفلة *** وأنت وعين الحق للكل جامع‏

فحق وخلق لا يزال مؤبدا *** فمعط وجود العين وقتا ومانع‏

إذا كان عين العبد فالليل حالك *** وإن كان عين الحق فالنور ساطع‏

فما أنت إلا بين شرق ومغرب *** فشمسك في غرب وبدرك طالع‏

[نور على النور]

وأما النور الذي على النور فهو النور المجعول على النور الذاتي فالنور على النور هو قوله نُورٌ عَلى‏ نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ من يَشاءُ وهو أحد النورين والنور الواحد من النورين مجعول بجعل الله على النور الآخر فهو حاكم عليه والنور المجعول عليه هذا النور متلبس به مندرج فيه فلا حكم إلا للنور المجعول وهو الظاهر وهذا حكم نور الشرع على نور العقل‏

فليس له سوى التسليم فيه *** وليس له سوى ما يصطفيه‏

فإن أولته لم تحظ منه *** بعلم في القيامة ترتضيه‏

فتحشر في ظلمة جهلك ما لك نور تمشي به ولا يسعى بين يديك فترى أين تضع قدميك ومن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ من نُورٍ ولكِنْ جَعَلْناهُ يعني الشرع الموحى به نُوراً نَهْدِي به من نَشاءُ من عِبادِنا وهو قوله وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ جعلنا الله من أهل الأنوار المجعولة آمين‏

(الهادي حضرة الهدى والهدى)

حضرة الهدى والهدى *** حضرة كلها هدى‏

تركتني بنورها *** حالك اللون أسودا

وهو فخري ومذهبي *** إن أراني مسودا

لست أبغي من سيدي *** ترك حالي كذا سدى‏

ما لنا المدة التي *** تنقضي بل لنا ابتدا

أنا للكل إذ بدا *** نور عيني لما بدا

لم ينلها سوى الذي *** كان حقا موحدا

فإذا ما انتهى به *** أمره فيه ألحدا

[هدى الأنبياء]

يدعى صاحبها عبد الهادي قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لما ذكر له الأنبياء عليه السلام أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وهدى الأنبياء عليه السلام هو ما كانوا عليه من الأمور المقربة إلى الله وفي الدعاء المأثور سؤاله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم هدى الأنبياء وعيشة السعداء وهُدَى الله هُوَ الْهُدى‏ أي بيان الله هو البيان وما لله لسان بيان فينا إلا ما جاءت به الرسل من عند الله فبيان الله هو البيان لا ما يبينه العقل ببرهانه في زعمه وليس البيان إلا ما لا يتطرق إليه الاحتمال وذلك لا يكون إلا بالكشف الصحيح أو الخبر الصريح فمن حكم عقله ونظره وبرهانه على شرعه فما نصح نفسه وما أعظم ما تكون حسرته في الدار الآخرة إذا انكشف الغطاء ورأى محسوسا ما كان تأوله معنى فحرمه الله لذة العلم به في الدار الآخرة بل تتضاعف حسرته وألمه فإنه يشهد هنالك جهله الذي حكم عليه في الدنيا بصرف ذلك الظاهر إلى المعنى ونفى ما دل عليه بظاهره فحسرة الجهل أعظم الحسرات لأنه ينكشف له في الموضع الذي لا يحمد فيه ولا يعود عليه منه لذة يلتذ بها بل هو كمن يعلم أن بلاء واقع به فهو يتألم بهذا العلم غاية التألم فما كل علم تقع عنده لذة ولا يقوم بصاحبه التذاذ فحضرة الهدى تعطي التوفيق وهو الأخذ والمشي بهدى الأنبياء وتعطي البيان وهو شرح ما جاء به الحق عن كشف لا عن تأويل فيفرق بين ضرب الأمثال فإنها محل التأويل إذ الأمثال لا تراد لعينها وإن كان لها وجود وإنما تراد لغيرها فهي موضوعة للتأويل ولا تضرب إلا لعالم بها فإن المقصود منه حصول العلم في من ضربت في حقه فينزل المضروب عليه المثل منزلة المثل للنسبة لا بد من ذلك فلا بد للمثل به أن يكون له وجود في الذهن فاعلم ذلك‏

فهدى الحق هدى الأنبياء *** وذاك هو الطريق المستقيم‏

عليه الرب والأكوان طرا *** فما في الكون إلا مستقيم‏

فشخص جاهل فظ غليظ *** وشخص عالم ليث رحيم‏

وكل لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وليس المطلوب إلا السعادة ولا سعادة أعظم من الفوز والنجاة مما يؤدي إلى نقص الجد ولو كنت به‏

ملتذا وإن ذوقك الحسرة لما يفوتك هنا تجدها وفي القيامة وأما في الجنة فيذهب الله بها عنك ولكن تعلم من هو أعلى منك قدر ما فاتك وترزق أنت القناعة بحالك وما أنت فيه والرضاء فلا أدنى همة ممن يعلم أن هناك مثل هذا ولا يرغب في تحصيل العالي من الدرجات هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد سأل أمته أن يسألوا الله له في الوسيلة طلبا للأعلى لعلو همته‏

أ لا تراه عند موته صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كيف قال لما خير الرفيق الأعلى‏

فقيده بالأعلى وإن علم المحروم في الجنة ما فاته فلا يكترث له لعدم ذوقه وكل من تعلقت همته في الدنيا بطلب الأعلى ولم يحصل ذلك ذوقا في الدنيا ولا كشف له فيه فإنه يوم القيامة يناله ولا بد ويكون فيه كالذائق له هنا لا فرق وما بين الشخصين إلا ما عجل له هنا من ذلك فالمحروم كل المحروم من لا يعلق همته هنا بتحصيل المعالي من الأمور ولكن لا بد مع التمني من بذل المجهود وأما إن تمنى مع الكسل والتثبط فما هو ذلك الذي أشرنا إليه‏

حضرة الهدى والهدى *** تركت أمرنا سدى‏

قالت الأمر كله *** لآله تفردا

ليس المجد عزة *** وامتناعا وسؤددا

بوجودي من جوده *** في وجودي توحدا

وبعيني وكونه *** قد بدا منه ما بدا

فبه كنت لم أكن *** بكيانى موحدا

فإذا ما تمجدا *** فبكوني تمجدا

فإنه لا يحمد ولا يمجد إلا بأسمائه ولا تعقل مدلولات أسمائه إلا بنا فلو زلنا نحن ذهنا ووجودا لما كان ثم ثناء ولا مثن ولا مثنى عليه فبي وبه كان الأمر وكمل ومع هذا فهو غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ إذا لم يطلب كمال الأمر فهو الكامل لنفسه وعينه وكونه لأنه واجب الوجود لنفسه لا تعلق له بالعالم لذاته وإنما كان التعلق من حيث أعيان الممكنات لأنها تطلب نسبا تظهر بها عينها وما ثم موجود تستند إليه هذه النسب إلا واحد وهو الله الواجب الوجود لنفسه تعالى فافتقرت إليه إضافات النسب وافتقرت الممكنات إلى النسب فافتقرت إليه فهي أشد فقرا من النسب فصح غناه عن العالم لذاته وعينه‏

[إن الوجود طلب الكمال‏]

ولذلك تقول في التقسيم العقلي إن الوجود طلب الكمال والمعرفة طلبت الكمال ولم تجد من بيده مطلوبها إلا الحق سبحانه فافتقرت إليه في ذلك فأوجد الحادث الذي هو عين الممكن فكمل الوجود أي كمل أقسام الوجود في العقل وكذلك تعرف إلى العالم فعرفوه بمعرفة حادثة فكملت المعرفة به في التقسيم العقلي وكل معرفة وعلم بقدر العالم والعارف إلا أنه في الجملة لم يبق كمال إلا ظهر فيه بإحسان الله ورحمته بالسائل في ذلك ولما ظهر العالم من البر الرحيم لم يعرف غير الإحسان والرحمة فهو على صورة الإحسان والرحمة فهو مفطور على أن لا يكون منه إلا إحسان ورحمة ولكن بقي متعلقها فيرحم ويحسن لنفسه أولا ولا يبالي كان في ذلك إحسان للغير أو لم يكن فإن الأصل على هذا خرج حيث أحب أن يعرف فخلق الخلق فتعرف إليهم فعرفوه وقد علم إن منهم من يتألم ولكن ما راعى إلا العلم به لا من يتألم منهم فالنعيم وجود والعذاب فقد ذلك النعيم لا أنه أمر وجودي فالعالم كله بر رحيم بنفسه لا بد من ذلك فإنه من الجود صدر

ليس في العالم إلا *** من هو البر الرحيم‏

فإذا ما كنت عبدا *** فنعيمه المقيم‏

وإذا ما كنت ربا *** فعذابه الأليم‏

وصراطي بين هذين *** صراط مستقيم‏

ذاك هدى الأنبياء *** وهدى الله القويم‏

فنعيمه وجود *** وعذابه عديم‏

فانظروا فيما ذكرنا *** فهو العليم الحكيم‏

[الهدى والابتلاء]

فالهدى التبياني ابتلاء وهو قوله تعالى وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ وقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل‏

وقوله تعالى وأَضَلَّهُ الله عَلى‏ عِلْمٍ والهدى التوفيقي وهو الذي يعطي السعادة لمن قام به وهو قوله إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ وقوله لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وهذا هو هدى الأنبياء فالهدى التوفيقي هدى الأنبياء عليه السلام فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وهو الذي يعطي سعادة العباد وما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ والهدى بمعنى البيان قد يعطي السعادة وقد لا يعطيها إلا أنه يعطي العلم ولا بد فاعلم ذلك والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(البديع حضرة الإبداع)

حضرة الإبداع لا مثل لها *** فتعالت حيث عزت إن تنال‏

كلما قلت لها هادي مني *** فاحذر الرمي بها قبل الزوال‏

فأجابتني جوابا شافيا *** ليس هذا من مقالات الرجال‏

إنما الله إله واحد *** ذو كمال لجمال وجلال‏

كلما نطقني الذكر به *** قلت ما ذا قال لي السحر الحلال‏

[الإبداع ما هو]

يدعى صاحبها عبد البديع قال تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وهو ما علا وما سفل وأنت المميز للعالي والسافل لأنك صاحب الجهات فهو بديع كل شي‏ء وليس الإبداع سوى الوجه الخاص الذي له في كل شي‏ء وبه يمتاز عن سائر الأشياء فهو على غير مثال وجودي إلا أنه على مثال نفسه وعينه من حيث إنه ما ظهر عينه في الوجود إلا بحكم عينه في الثبوت من غير زيادة ولا نقصان فمن جعل العلم تصور المعلوم فلا بد للمعلوم من صورة في نفس العالم‏

[إن العلم تصور المعلوم‏]

وأما نحن فلا نقول إن العلم تصور المعلوم على ما قاله صاحب هذا النظر وإنما العلم درك ذات المطلوب على ما هي عليه في نفسه وجودا كان أو عدما ونفيا أو إثباتا وإحالة أو جواز أو وجوبا ليس غير ذلك وإنما يتصور العالم المعلوم إذا كان العالم ممن له خيال وتخيل وما كل عالم يتصور ولا كل معلوم يتصور إلا إن الخيال له قوة وسلطان فيعم جميع المعلومات وبحكم عليها ويجسدها كلها وهو من الضعف بحيث لا يستطيع أن ينقل المحسوس إلى المعنى كما ينقل المعنى إلى الصورة الحسية ومن ضعفه أنه لا يستقل بنفسه فلا بد أن يكون حكمه بين اثنين بين متخيل اسم مفعول ومتخيل اسم فاعل معا فالابتداع على الحقيقة إنشاء ما لا مثل له بالمجموع وبهذا قال الله تعالى ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها فمجموع ما ابتدعوه من العبادة ما كان الحق شرع ذلك لهم فلا بديع من المخلوقات إلا من له تخيل وقد يبتدع المعاني ولا بد أن تنزل في صورة مادية وهي الألفاظ التي بها يعبر عنها فيقال قد اخترع فلان معنى لم يسبق إليه وكذلك أرباب الهندسة لهم في الإبداع اليد الطولى ولا يشترط في المبتدع أنه لا مثل له على الإطلاق إنما يشترط فيه أنه لا مثل له عند من ابتدعه ولو جاء بمثله خلق كثير كل واحد منهم قد اخترع ذلك الأمر في نفسه ثم أظهره فهو مبتدع بلا شك وإن كان له مثل ولكن عند هذا الذي ابتدعه لا سبيل إلا ابتداع الحق تعالى فإنه قال عن نفسه إنه بديع أي خلق ما لا مثل له في مرتبة من مراتب الوجود لأنه عالم بطريق الإحاطة بكل ما دخل في كل مرتبة من مراتب الوجود ولذلك قال في خلقة الإنسان لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً لأن الذكر له تعالى وهو للمذكور منا مرتبة من مراتب الوجود بخلاف المعلوم ومراتب الوجود أربعة عيني وذهني ورقمى ولفظي فالعيني معلوم واللفظي راجع إلى قول القائل في ذكره ما ذكره فللشي‏ء وجود في ذكر من ذكره فلم يكن الإنسان شيئا مذكورا فحدث الإنسان لما حدث ذكره مثل قوله ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فوصف الذكر بالحدوث وإن كان كلامه قديما ولكن الذكر هنا هو التكلم به لا عين الكلام فالكلام موصوف بالقدم لأنه راجع إلى ذات المتكلم إذا أردت كلام الله والمتكلم به ما هو عين الكلام وقد يكون المتكلم به معنى وقد يكون غير معنى ثم إنه ذلك المعنى قد يكون قديما وقد يكون حادثا فالمتكلم به أيضا لا يلزم قدمه ولا حدوثه إلا من حيث إسماع المخاطب فإنه سمع أمرا لم يكن سمعه قبل ذلك فقد حدث عنده كما حدث الضيف عند صاحب المنزل وإن كان موجودا قبل ذلك ولكن في مثل هذا تجوز وهو قولك حدث عندنا اليوم ضيف وأنت تريد عين الشخص وما حدث الشخص وإنما حدث كونه ضيفا عندك وضيفيته عندك لا شك أنها حدثت لأنها لم تكن قبل قدومه عليك فعلى الحقيقة إتيان الذكر على من أتى عليه هو حادث بلا شك لأن ذلك الإتيان الخاص لم يكن موصوفا بالوجود وإن كان الآتي أقدم من إتيانه لا من حيث إتيانه بل من حيث عينه فأصل كل ما سوى الله مبتدع والله هو الذي ابتدعه ولكن من الأشياء ما لها أمثال ومنها ما ليس لها أمثال أعني وجودية هكذا بحكم العين لا الوجود في نفسه فما في الوجود إلا مبتدع وفي الشهود أمثال والعلم يقتضي الوجه الخاص في كل موجود ومعلوم حتى يتميز به عن غيره فكله مبتدع وإن‏

وقع الاشتراك في التعبير عنه كما تقول في الحركة تقول إنها حركة في كل متحرك فيتخيل أنها أمثال وليست على الحقيقة أمثال لأن الحركة من حيث عينها واحدة أي حقيقة واحدة حكمها في كل متحرك فهي عينها في كل متحرك بذاتها فلا مثل لها فهي مبتدعة مهما ظهر حكمها وهكذا جميع المعاني التي توجب الأحكام من أكوان وألوان فافهم فإن لم تعرف كون الحق بديعا على ما ذكرته لك فما هو بديع من جميع الوجوه لأن الجوهر القابل جوهر واحد من حيث حده وحقيقته ولا تتعدد حقيقته بالكثرة والمعنى الموجب لها حكما ما لا يتعدد من حيث حقيقته فهو بحقيقته في كل محكوم عليه بحكمه فما ثم مثل فالبياض في كل أبيض والحركة في كل متحرك فافهم ذلك فكل ما في الوجود مبتدع لله فهو البديع وانظر في قوله تعالى تجده ينبه على هذا الحكم أعني حكم الابتداع ونُنْشِئَكُمْ في ما لا تَعْلَمُونَ من باب الإشارة أي لا يعلم له مثال وما ثم إلا العالم وهو المخاطب بهذا وهو كل ما سوى الله فعلمنا إن الله ينشئ كل منشئ فيما لا يعلم إلا إن أعلمه الله ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ أنها كانت على غير مثال سبق كما هو الأمر في نفسه وكذلك قوله كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وبدأنا على غير مثال فيعيدنا على غير مثال فإن الصورة لا تشبه الصورة ولا المزاج المزاج وقد وردت الأخبار الإلهية بذلك على ألسنة الأنبياء عليه السلام وهم الرسل‏

[إن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق‏]

وهذا يدلك على إن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا كما تحدث صورة المرئي في المرآة ينظر الناظر فيها فهو بذلك النظر كأنه أبدعها مع كونه لا تعمل له في أسبابها ولا يدري ما يحدث فيها ولكن بمجرد النظر في المرآة ظهرت صور هذا أعطاه الحال فما لك في ذلك من التعمل إلا قصدك النظر في المرآة ونظرك فيها مثل قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ وهو قصدك النظر أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وهو بمنزلة النظر فَيَكُونُ وهو بمنزلة الصورة التي تدركها عند نظرك في المرآة ثم إن تلك الصورة ما هي عينك لحكم صفة المرآة فيها من الكبر والصغر والطول والعرض ولا حكم لصورة المرآة فيك فما هي عينك ولا عين ما ظهر ممن ليست أنت من الموجودات الموازية لنظرك في المرآة ولا تلك الصورة غيرك لما لك فيها من الحكم فإنك لا تشك إنك رأيت وجهك ورأيت كل ما في وجهك ظهر لك بنظرك في المرآة من حيث عين ذلك لا من حيث ما طرأ عليه من صفة المرآة فما هو المرئي غيرك ولا عينك كذلك الأمر في وجود العالم والحق أي شي‏ء جعلت مرآة أعني حضرة الأعيان الثابتة أو وجود الحق فأما أن تكون الأعيان الثابتة لله مظاهر فهو حكم المرآة في صورة الرائي فهو عينه وهو الموصوف بحكم المرآة فهو الظاهر في المظاهر بصورة المظاهر أو يكون الوجود الحق هو عين المرآة فترى الأعيان الثابتة من وجود الحق ما يقابلها منه فترى صورتها في تلك المرآة ويتراءى بعضها لبعض ولا ترى ما ترى من حيث ما هي المرآة عليه وإنما ترى ما ترى من حيث ما هي عليه من غير زيادة ولا نقصان كما لا يشك الناظر وجهه في المرآة إن وجهه رأى وبما للمرآة في ذلك من الحكم يعلم أن وجهه ما رأى فهكذا الأمر فانسب بعد ذلك ما شئت كيف شئت‏

فالكل مبتدع في عين موجدة *** والحق مبتدع لما بدا فظهر

فالعين ثابتة والذات ثابتة *** وكون إبداعه لما أتى فنظر

فما بدت صور إلا لها صور *** منها ومنه فبالمجموع كان أثر

(الوارث حضرة الورث)

أنا وارث والحق وارث ما عندي *** من الحب والشوق المبرح والود

عهدت الذي قد همت فيه وإنني *** مقيم على ما تعلمون من العهد

إذا ما تراءى البرق من جانب الحي *** وقد زادني مسراه وجدا إلى وجد

أقول له أهلا وسهلا ومرحبا *** بمن قد أنى من غير قصد ولا وعد

فيذهب بالأبصار عند خفوقه *** فيا ليت شعري من يقوم له بعدي‏

[إن الله خلق الخلق للخلق‏]

يدعى صاحبها عبد الوارث قال الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ ومن عَلَيْها فورثها ليورثها من يَشاءُ من عِبادِهِ‏

فهو في هذه المسألة كالموصي فهو مورث لا وارث وما هو وارث إلا إذا مات من عليها فإنه قد وقعت الفرقة بين المالك والمملوك فهو الوارث لهما فهو قوله إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ ومن عَلَيْها ولم يقل ومن فيها لأن الميت من حيث جسمه فيها لا عليها فإذا نزهت الحق عن خلقه الأشياء لنفسه وإنما خلقها بعضها لبعضها فقد فارقها من هذا الوجه وفارقته وتميز عنها وتميزت عنه فراقا ما فيه اجتماع فأنت وارث والحق موروث منه وهو قوله يُورِثُها من يَشاءُ من عِبادِهِ وهو الذي أطلعه الله على هذا العلم الذي فرق به بين الخالق والمخلوق فخلق الخلق للخلق لا لنفسه فإن المنافع إنما تعود من الخلق على الخلق والله هو النافع الموجد للمنافع وإن كان خلقنا لنعبده فمعناه لنعلم أنا عبيد له فإنا في حال عدمنا لا نعلم ذلك لأنه ما ثم وجود يعلم فهو سبحانه الحي الذي لا يموت مع أنه يتميز عن خلقه بما هو عليه من صفات الجلال والكبرياء الذي لا نعقله إلا منا فما نعلم الإجلال الحادثات وكبريائها لا غير ولا تنسب إليه ما نحن عليه مما حمده الحق أو ذمه فينا فإن ذلك كله محدث والمحدثات لا نصفه بها وإنما نصفه بإيجادها وما أوجده لا يقوم به فالكبرياء والجلال الذي ننسبه إليه غير معلوم لنا فإنه لا يقبل جلالنا ولا كبرياءنا وجميع ما نحن عليه من الصفات وصف نفسه بها ثم نزه نفسه عنها فقال سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ وهي المنع عما يصفون فأخذنا هذه الصفات التي كنا نصفه بها بعد تنزيهه عنها بحكم الورث لأنه قد وصف نفسه بها ووصفناه بها فقام التنزيه بعد ذلك مقام الورث لنا فهو يرثنا بالموت ونحن نرثه بالتنزيه‏

فكل وصف فعلينا يعود *** من كل ما أظهره في الوجود

فالجود لله على خلقه *** ونحن من إحسانه في مزيد

فنحن بالحق كما هو بنا *** فإنه المولى ونحن العبيد

وإن في ذلك ذكرى لمن *** كان له قلب وكان الشهيد

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الصبور حضرة الصبر)

عبد الصبور هو الذي لا يصبر *** إلا به فهو الذي لا يضجر

يشكى إليه ويشتكي بالحال في *** صمت فتبصره به يتضرر

حبست نفسي لربي *** وإنني لصبور

وإن ربي بحالي *** كما علمت خبير

فإن أقل *** فيه قولا

فالقول *** صدق وزور

وإنني لصدوق *** فيما أقول بصير

ما لي إليه دليل *** ما لي عليه نصير

[إن الشكوى إلى الله تعالى لا تقدح في نسبة الصبر إلينا]

عبد الصبور قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله فوصف نفسه بأنه يؤذي ولم يؤاخذ على أذاه في الوقت من أذاه فوصف نفسه بالصبور لكنه ذكر لنا من يؤذيه وبما ذا يؤذيه لنرفع عنه ذلك مع بقاء اسم الصبور عليه ليعلمنا أنا إذا شكونا إليه ما نزل بنا من البلاء من اسم ما من الأسماء إن تلك الشكوى إليه لا تقدح في نسبة الصبر إلينا فنحن مع هذه الشكوى إليه في رفع البلاء عنا صابرون كما هو صابر مع تعريفنا وإعلامه إيانا بمن يؤذيه وبما يؤذيه لننتصر له وندفع عنه ذلك وهو الصبور ومع هذا التعريف فنحن الصابرون مع الشكوى إليه فلا أرفع ممن يدفع عن الله أذى إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ فمن كان عدوا لله فهو عدو للمؤمن وقد ورد في الخبر ليس من أحد أصبر على أذى من الله لكونه قادرا على الأخذ وما يأخذ ويمهل‏

باسمه الحليم وعلى الحقيقة فما صبر على أحد وإنما صبر على نفسه أعني على حكم اسم من أسمائه لأن الأذى إنما وقع بالنطق وما أنطق من نطق بما يقع به الأذى إلا الذي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وهو الله تعالى قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ والجلود عدل فإن الله قبل شهادتهم على من أقامها عليهم وقال المنطقون اتَّخَذَ الله وَلَداً وأمثال ذلك وكذبوا الله وشتموه وسبوه مختارين ذلك مع علمنا بأنهم مجبورون في اختيارهم منطقون بما أراده لا بما رضيه إلا أن الدقيقة الخفية إن الله نطقهم أي أعطاهم قوة النطق التي بها نطقوا وبقي عين ما نطقوا به‏

وما قالت الجلود إلا أنها منطقة ما تعرضت بالاعتراف إلى ما نطقت به فإن ذلك إذا وقع بالاختيار دون الاضطرار والكرة نسب إلى من وقع منه نسبة صحيحة إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له وخلقنا له الإرادة في محله والتعلق نسبة لا تتصف بالوجود فتكون مخلوقة لأحد فتعلقت بأمر ما متعين مما فيه أذى لله ورسوله ومما يسمى به شاكرا أو كفورا فهو تعلق خاص مع كون الناطق غافلا عن استحضار هذه النسب كلها وردها إلى الله بحكم الأصل فإنه لو استحضرها ما نطق بها إذ لا ينطق بها إلا جاهل أو غافل ثم إنه من الحجة البالغة لله في هذا إنه ما وقع في الوجود من ممكن من الممكنات إلا ما سبق بوقوعه العلم الإلهي فلا بد من وقوعه وما علم الله معلوما من المعلومات إلا بما هو عليه ذلك المعلوم في نفسه فإن العلم يتبع المعلوم ما يتبع الوجود الحادث يعني حدوث الوجود يتبع العلم والعلم يتبع المعلوم وهذا المعلوم الممكن في حال عدمه وشيئية ثبوته على هذا الحكم الذي ظهر به في وجوده فما أعطى العلم لله إلا المعلوم فيقول له الحق هذا منك لا مني لو لم يكن في عينك الثبوتية على ما علمتك به ما علمتك فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لكنه لم يشأ ولا تحدث له عز وجل مشيئة لأنه ليس بمحل للحوادث مع أن المشيئة تابعة للعلم فهي تابع التابع فلهذا الأمر الذي قررناه يقول الله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورَسُولَهُ وقال في الصحيح شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك‏

وذكر الحديث فقوله ولم يكن ينبغي له ذلك لما له عليه تعالى من فضل إخراجه من الشر الذي هو العدم إلى الخير الذي بيده تعالى وهو الوجود والله يقول في مكارم الأخلاق هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فأحكام الأسماء الحسنى لذاتها وتعيين تلك الأحكام بكذا دون كذا مع جواز كذا لما أعطاه الممكن المعلوم من نفسه فمن هنا نسب الأذى إلى المخلوق واتصف الحق بالصبر على أذى العبد وعرف أهل الاعتناء من المؤمنين بذلك صورة الشاكي بهم ليدفعوا عنه ذلك الأذى فيكون لهم من الله أعظم الجزاء كما قررناه قبل فهذه حضرة عجيبة فقد ذكرنا مائة حضرة كما اشترطنا على إن الحضرات الإلهية تكاد لا تنحصر لأنها نسب وقد ذكر منها أن لله ثلاثمائة خلق هذه التي ذكرنا من تلك الثلاث مائة وكل اسم إلهي فهو حضرة ومن أسمائه ما نعلم ومنها ما لا نعلم ومنها ما نحوز إطلاق ما نعلم عليه ومنها ما لا نجوزه لما يقتضي في العرف من سوء الأدب فسكتنا عنه أدبا مع الله لكن جاء في القرآن من ذلك شي‏ء بطريق التضمن وأسماء الأفعال التي ما بنى منها أسماء كثيرة وجاء أسماء أشياء نسب إليها حكم ما هو لله ولم يتسم الله بها ونسب ذلك الحكم إليها مثل قوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ والواقي إنما هو الله والسربال هنا نائب علق به الذكر في الحكم ونسب الوقاية إليه وليس الواقي إلا الله ولكن ما يطلق على الله اسم السربال بل كل ما يفتقر إليه هو اسم من أسمائه تعالى لأنه قال يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ولما كان الله يحب الوتر لأنه وتر وجئنا بمائة حضرة فجئنا بالشفعية أوترناها بحضرة الحضرات لتكون مائة وواحدة فإن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ونحن أهل القرآن فإنه علينا أنزل والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(حضرة الحضرات الجامعة للأسماء الحسنى)

قال الله تعالى ولِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فَادْعُوهُ بِها قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏

[إن أسماء الله منها معارف ومنها مضمرات ومنها أسماء تدل عليها الأفعال‏]

فاعلم إن أسماء الله منها معارف كالاسماء المعروفة وهي الظواهر ومنها مضمرات مثل كاف الخطاب وتائه تاء المتكلم ويائه وضمير الغائب وضمير التثنية من ذلك وضمير الجمع مثل نَحْنُ نَزَّلْنَا ونون الضمير في الجمع مثل إِنَّا نَحْنُ وكلمة أنا وأنت وهو ومنها أسماء تدل عليها الأفعال ولم يبن منها أسماء مثل سَخِرَ الله مِنْهُمْ ومثل الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ومنها أسماء النيابة هي لله ولكن نابوا عن الله منابه مثل قولنا سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وكل فعل منسوب إلى كون ما من الممكنات إنما ذلك المسمى نائب فيه عن الله لأن الأفعال كلها لله سواء تعلق بذلك الفعل ذم أو حمد فلا حكم لذلك التعلق بالتأثير فيما يعطيه العلم الصحيح فكل ما ينسب إلى المخلوق من الأفعال فهو فيه نائب عن الله فإن وقع محمودا نسب إلى الله لأجل المدح فإن الله يحب أن يمدح كذا ورد في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وإن تعلق به ذم لم ننسبه إلى الله أو لحق به عيب مثل المحمود قول الخليل فَهُوَ يَشْفِينِ وقال في المرض إِذا مَرِضْتُ ولم يقل أمرضني وما أمرضه إلا الله فمرض كما أنه شفاه وكذلك فأردت أَنْ أَعِيبَها فكنى العالم العدل الأديب عن نفسه إرادة العيب وقال في المحمود فَأَرادَ رَبُّكَ في حق اليتيمين‏

وقال في موضع الحمد والذم فَأَرَدْنا بنون الجمع لما فيه من تضمن الذم في قتل الغلام بغير نفس ولما فيه من تضمن الحمد في حق ما عصم الله بقتله أبويه فقال فَأَرَدْنا وما أفرد ولا عين هكذا حال الأدباء ثم قال وما فَعَلْتُهُ يعني ما فعل عَنْ أَمْرِي بل الأمر كله لله فإذا كنى الحق عن نفسه بضمير الجمع فلأسمائه لما في ذلك المذكور من حكم أسماء متعددة وإذا ثنى فلذاته ونسبة اسم خاص وإذا أفرد فلاسم خاص أو ذات وهي المسمى إذا كنى بتنزيه فليس إلا الذات وإذا كنى بفعل فليس إلا الاسم على ما قررناه وانحصر فيما ذكرناه جميع أسماء الله لا بطريق التعيين فإنه فيها ما ينبغي أن يعين وما ينبغي أن لا يعين وقد جاء من المعين مثل الفالق والجاعل ولم يجي‏ء المستهزئ والساخر وهو الذي يستهزئ بمن شاء من عباده ويكيد ويسخر ممن شاء من عباده حيث ذكره ولا يسمى بشي‏ء من ذلك ولا بأسماء النواب ونوابه لا يأخذهم حصر ولكن انظر إلى كل فعل منسوب إلى كون من الأكوان فذلك المسمى هو نائب عن الله في ذلك الفعل كآدم والرسل خلفاء الله على عباده ومن أطاع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله فلننبه من ذلك على يسير يكون خاتمة هذا الباب لنفيد المؤمنين بما فيه سعادتهم لأن السعادة كلها في العلم بالله تعالى‏

[إن من الأفعال ما علق الله الذم بفاعله ومن الأفعال ما علق الله المدح والحمد بفاعله‏]

فنقول إن من الأفعال ما علق الله الذم بفاعله والغضب عليه واللعنة وأمثال ذلك ومن الأفعال ما علق الله المدح والحمد بفاعله كالمغفرة والشكر والايمان والتوبة والتطهير والإحسان وقد وصف نفسه بأنه يحب المتصفين بهذا كله كما أنه لا يحب الموصوفين بالأفعال التي علق الذم بفاعلها مع قوله والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ والأمر كله لله وقال أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ فأخبر أنه يحب الشاكرين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين والذين اتقوا ولا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ويغفر لهم ولا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ولا الظالمين وما جاء في القرآن من صفة من لا يحبه عز وجل فالأدب من العلماء بالله أن تكون مع الله في جميع القرآن وما صح عندك أنه قول الله في خبر وارد صحيح فما نسب إلى نفسه بالإجمال نسبناه مجملا لا نفصله وما نسبه مفصلا نسبناه إليه مفصلا وعيناه بتفصيل ما فصل فيه لا نزيد عليه وما أطلق لنا التصرف فيه تصرفنا فيه لنكون عبيدا واقفين عند حدود سيدنا ومراسمه‏

فإنه الرب ونحن العبيد *** فنبتغي بالشكر منه المزيد

لكوننا بالفقر في فاقة *** أولها حال حصول الوجود

وبعد ذا استمراره دائما *** إلى مقامات الفناء في الشهود

لأنه سبحانه فاعل *** يفعل في أعياننا ما يريد

ولا يريد الحق إلا الذي *** أعطاه في التحقيق حال العبيد

وما يزيد الله في علمه *** فجودهم منهم عليهم يعود

وننسب الجود إليه لما *** له من الخير الذي لا يبيد

فكل خيرنا لنا حادث *** نعيمنا منا فما نستزيد

بنا نعمنا لا به فانظروا *** في قولنا فنحن عين الحدود

فما نعمنا إلا بحادث فبنا نعمنا لأنه يستحيل تنعمنا به ويستحيل قيام الحوادث به فتنعمه وابتهاجه بذاته وكماله فإنه الغني عن العالمين فما رأى راء سوى نفسه لا رؤية علم ولا رؤية حس فانظر ما ذا ترى وأنظر من ذا يرى وأنظر ما يحصل عن كل رؤية في نفس الرائي فإن اقتضى ذلك الحاصل حكم رضي رضي وإن اقتضى حكم سخط وغضب سخط وغضب كان ذلك الرائي من كان ذلك بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ الله فقد أسخطوا الله وأغضبوه فعاد وبال ذلك الغضب على من أغضبه فلو لا شهود ما أغضبه ما غضب وما أسخطه ما سخط وما أرضاه ما رضي فإن الأصل التعري والتنزيه عن الصفات ولا سيما في الله إذا كان أبو يزيد يقول لا صفة لي فالحق أولى أن يطلق عن التقييد بالصفات لغناه عن العالم لأن الصفات إنما تطلب الأكوان فلو كان في الحق ما يطلب العالم لم يصح كونه غنيا عما هو له طالب‏

[إن ملك الله هي الممكنات وهي أعياننا]

واعلم أن هذه الحضرة الجامعة للحضرات تتضمن ملك الله وليس ملك الله سوى الممكنات وهي أعياننا فنحن ملكه وبناء كان ملكا وهو القائل لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الثناء على الله إنه رب كل شي‏ء

ومليكه‏

فجاء بلفظة شي‏ء وهي تنطلق على الأعيان الثابتة والوجودية فما وجد منها فهو متناه وما لم يوجد فلا يوصف بالتناهي ثم أنظر في الخبر الإلهي الثابت الصحيح قوله لو أن أولكم وآخركم وما له آخر لأن الأمر لا يتناهى فلا يظهر الآخر إلا فيما وجد ثم يوجد آخر فيزول عن ذلك حكم الآخر وينتقل إلى هذا الذي وجد هكذا إلى ما لا يتناهى وقد يتناهى الأمر في نوع خاص كالإنسان فإن أشخاص هذا النوع متناهية لا أشخاص العالم ولا يتناهى أيضا خلق أشخاص النوع الإنساني بوجه آخر لا يعثر عليه كل أحد وهو في قوله تعالى بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ فعين كل شخص يتجدد في كل نفس لا بد من ذلك فلا يزال الحق فاعلا في الممكنات الوجود ويدل على ذلك اختلاف الأحكام على الأعيان في كل حال فلا بد أن تكون تلك العين التي لها هذه الحال الخاص ليست تلك العين التي كان لها ذلك الحال الذي شوهد مضيه وزواله فيما شوهد من ذلك ثم قال وإنسكم وجنكم وهو ما تبصرون وما لا تبصرون وجاء بلو وهي كلمة امتناع لامتناع أي لو وقع هذا لكان الحكم فيه كما قرره ثم قال كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا وهو الصحيح لأن ذلك عين ملكه فما زاد شي‏ء في ملكه بل يقبل الزيادة ملك الوجود وهو إنما أراد ملك الثبوت فالنقص والزيادة في الوجود

ثم قال ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا

وكيف ينقص منه والكل عين ملكه‏

ثم قال لو أن أولكم لكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ثم سألوا فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا

لأن المعطى والمعطي إياه ما هو سوى عين ملكه فما خرج شي‏ء عن ملكه إلا أن ملكه منه ما هو موصوف بالوجود ومنه ما هو موصوف بالثبوت فالثبوت والوجود منه لا بد أن يكون متناهيا والثابت لا نهاية له وما لا نهاية له لا يتصف بالنقص لأن الذي حصل منه في الوجود ما هو نقص في الثبوت لأنه في الثبوت لعينه في حال وجوده إلا إن الله كساه حلة الوجود بنفسه فالوجود لله الحق وهو على ثبوته ما نقص ولا زاد فما كسي منه حلة الوجود كأنه تعين وتخصص وحده مما لا يتناهى حد المخيط إذا غمسته في اليم فانظر ما يتعلق به فإنا نعلم أن المثال صحيح فإنا نعلم أن من الأعيان الثابتة ما يتصف بالوجود كما نعلم أن المخيط قد تعلق به من اليم في الغمس ونسبة ما تعلق من الماء بالمخيط من اليم ما هو في الدرجة مثل ما اكتسى من الأعيان الثابتة حلة الوجود لأن اليم محصور يأخذه العدد والتناهي لوجوده والأعيان الثابتة لا نهاية لها وما لا يتناها لا يأخذه حد ولا يحصيه عدد مع صحة المثال بلا شك وهكذا مثل الخضر لموسى بنقر الطائر في البحر بمنقاره وهو على حرف السفينة فقال له الخضر تدري ما يقول هذا الطائر وكان الخضر قد أعطى منطق الطير فكان نقره كلاما عند الخضر لا علم لموسى بذلك وكان الخضر قد ذكر لموسى عليه السلام أنه على علم علمه الله لا يعلمه موسى وموسى على علم علمه الله لا يعلمه خضر مع العلم الكثير الذي كان عند كل واحد منهما فقال ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا بقدر ما نقر هذا الطائر

ومعلوم أنه قد حصل شيئا من الماء في نقره كذلك حصل بما علمه موسى والخضر من العلم شركه مع الله في ذلك القدر فعلمنا من علم الله شيئا مما يعلمه الله فحقق ما حصل لك وما بقي ولم يحصل لك فوقع التشبيه الصحيح من جهة ما حصل لا من جهة ما لم يحصل لأن الذي لم يحصل من اليم متناه والذي لم يحصل من العلم لموسى والخضر غير متناه فلذلك جاء ضرب المثل من جهة ما حصل خاصة فإنا لا نشك في أنه حصل شي‏ء في نفس الأمر إلا أن حصول المعاني في النفوس بأي نوع كان حصولها لا يتصف من حصلت منه ومن كان موصوفا بها أنه نقص منه بقدر ما حصل عند المتعلم منه بل هو عنده كما هو عند من حصل له وإنما لما ظهر ذلك المعنى في محلين كأنه وقع فيه الاشتراك وفي المثال المحسوس ما يؤيد هذا وهو أخذ النور من السراج بالفتائل فتتقد به فتائل لا تتناهى ولا ينتقص منه شي‏ء وإنما حصل ذلك باستعداد القابل أن يقبل واستعداد لمأخوذ منه أن لا يمتنع والسراج سراج على حاله وقد ملأ العالم سرجا كذلك العلم والتعلم فإذا كان المحسوس بهذه السعة وعلى هذه الحقيقة فما ظنك بالمعاني ثم لتعلم إن لنا أحكاما في حضرة الحق تضاف إليها بها من موالاة وعبادة وسؤال وغير ذلك مما لا يحصى كثرة إذا تتبع الإنسان أحوال نفسه مع ربه ولهذا وصف نفسه بأن له أسماء وأخلاقا وهي معلومة عند علماء الرسوم ألفاظها ومعانيها وعند أهل الله الاتصاف بها حتى أطلق عليهم منها

أعيان أسمائها كما قال عن نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ووصف نفسه بأنه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وخير الشاكرين وخَيْرُ النَّاصِرِينَ وكل ذلك اتصف به أهل الله على السنة المشروعة والطريقة الإلهية الموضوعة فاتخذوا ذلك قربة إلى الله فالله يجعلنا من أهله فإنا من هذه الأهلية إلهية واليناه ومن كونه مجيبا لما يطلبه منه عباده حين ينادونه سألناه ومن كونه نزل إلينا في ألطافه الخفية وسأل منا أمورا وردت بها الأخبار الإلهية بالسنة الشرائع بادرنا إلى ذلك وقبلناه ومن كونه إذا تقربنا إليه بنوافل الخيرات وأحبنا فكان سمعنا وبصرنا وجميع قوانا بهويته كنا ومن كونه خلقنا دون جميع صور العالم على صورته وما بقي اسم ورد إلا وظهرنا به حتى أضيف إلينا وسعناه ومن كونه أعطانا الانفعال عنا والتأثير في الأكوان علمنا ما حصل لنا من ذلك منه وحققناه ومن استنادنا إلى ذات موجدة لها غنى عنا ولنا إليها افتقار ذاتي لإمكاننا عرفناه ومن كون هذا الأمر الذي استندنا إليه له نسبة إلينا بها ظهرت أعياننا بما نحن عليه من جميع ما يقوم بنا ونتصف به علمناه وبتجليه في صورة كل شي‏ء من العالم في قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله خشعنا له وشهدناه ومن اسمه الظاهر في المظاهر فلا فاعل في الكون إلا هو رأيناه ومن كونه يطلب آثار عباده وما يكون منهم وإن كان ذلك خلقا له كما قال ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ والصَّابِرِينَ ونَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ طالعناه ومن كونه وصف نفسه بصفات المحدثات تنزلا لنا آمنا بذلك القول إذ نسبه إلى نفسه واعتقدناه ومن كونه‏

أوحى إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يقول لنا اعبد الله كأنك تراه‏

وإن الله في قبلة المصلي إذا هو ناجاه تخيلناه‏

ومن قوله الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى‏ نُورٍ شبهناه ومن كونه قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ومع هذا أمرنا باستقبال جهة خاصة سماها القبلة جعل نفسه لنا فيها

فقال عليه السلام إن الله في قبلة المصلي‏

وأمرنا باحترامها وأن نستقبلها في مجالسنا وأداء صلواتنا وأن لا نستقبلها بغائط ولا بول فإن اضطررنا إلى هذه القاذورات انحرفنا عنها قليلا قدر الطاقة واستغفرنا الله مثلناه ومن كونه‏

قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عند سفره عن أهله أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل‏

وأمرنا أن نتخذه وكيلا وكلناه ومن كونه أقرب إلينا من حَبْلِ الْوَرِيدِ ولكن لا نبصره كبرناه ومن كونه أمرنا أن نعظم شعائر الله لدلالتها عليه وحرمات الله عظمناه وعن ملابسته إيانا في حركاتنا وسكناتنا مع شهودنا إياه فيها أجللناه ومن أمره إيانا في الإهلال بالحج بتوحيده نفينا الشريك عنه تعالى وأثبتناه وبتهليله في قولنا لا إله إلا الله هللناه ومن دعائه بأمره لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في قوله وأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ الآيات لبيناه ومن كونه ظهر فينا بنا وإلينا عنا وكان أقرب إلينا منا كما أخبرنا آمنا بذلك كله ثم قال إنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ صدقناه ونزهناه وبقوله قال الله في غير موضع من كتابه ووعده ووعيده وتجاوزه عن سيئاتنا في خطابه وإضافة الكلام إليه صدقناه ومن كونه أمرنا أن نعلمه ونصب الأدلة لنا محررة على الوصول إلى العلم به والبحث عنه لنتبين أنه الحق في قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ لنستدل بما ذكره عليه طلبناه ولما علمنا أنه ما طلبنا ولا طلب منا أن نطلبه إلا ولا بد أن نجده إما بالوصول إليه أو بالعجز عن ذلك وعلى كلا الأمرين فوجدناه فلما ظفرنا به في زعمنا وأردنا أن نقره على ما وجدناه تحول سبحانه لنا في غير الصورة التي ظفرنا به فيها ففقدناه ومن قوله أَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً علمنا بتقييد القرض بالحسن أنه يريد أن نرى النعمة منه وإنها نعمته فعلى هذا الحد من المعرفة بالإنعام والنعم أقرضناه ولما ظهر لنا سبحانه عند صور التجلي في صور العالم لنحكم عليه بما تعطيه حقائق ما ظهر فيها من الصور وقد ظهر في صور تقتضي الملل وأخبر صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن الله لا يمل حتى تملوا

فأشار إن ملل الإنسان ملله فأثبته للإنسان ونفاه وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ ومع هذا التعريف مللناه وبما أطلعنا عليه من أسراره في عباده واطلع على أسرار عباده بما أطلعوه عليه من ذلك من هذه النسبة لا من كونه عالما بها من غير نسبة اطلاعنا إياه عليها كاشفناه ومن كونه غيورا كما

ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في حديث الغيرة في خبر سعد إن الله غيور ومن غيرته حرم الفواحش سترناه‏

ومن قوله تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ‏

ومن كونه من ورائنا محيطا حجبناه ومن كونه أنزل نفسه منا منزلة السر وأخفى مع شدة ظهوره بكونه صورة كل شي‏ء وقال قُلْ سَمُّوهُمْ علمنا أنه يريد الإخفاء فأخفيناه ومن كونه يقول في نزوله هل من داع دعونا وهل من تائب ومن سائل ومن مستغفر وأمثال هذا نازلناه ومن كونه أعلمنا أنه معنا أينما كنا بطريق الشهود والحفظ صاحبناه ومن كونه أظهرنا بكل صورة ظهر بها لا نزيده عليها في الحال الذي يظهر به في عباده وافقناه ومن كونه صادق القول فقال نَسُوا الله مع علمه بأن العالم منا يعلم أنه هوية كل شي‏ء نسيناه ومن كونه أنزل قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ نسبا له عند قول اليهود لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم انسب لنا ربك فنسبناه ومن كونه سمى نفسه لنا بأسماء تطلب معانيها تقوم به ما هي عين ذاته من حيث ما يفهم منها مع اختلافها وصفناه ومن كونه سمى نفسه بأسماء لا يفهم منها معان تقوم به بل يفهم منها نسب وإضافات كالأول والآخر والظاهر والباطن والغني والعلي وأمثال ذلك نعتناه ومن قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا فنبه على العلة وحدناه ومن كونه في عماء وعَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ وجعلنا على أحوال نطلب بها نزول الذكر إلينا وهو كلامه والصفة لا تفارق الموصوف فإذا نحن لضعفنا نزلناه فإذا نزل إلينا لما طلبناه له بقلوبنا أنزلناه ولما أنزلناه في آنية مخصوصة معينة عينها سبحانه لنفسه حصرناه وباستمرار بقائه بالأين الذي أنزلناه به مع الأناة وصفنا بأنا مسكناه ومن كونه حيا وسمى نفسه المحيي وجعلنا بلدا ميتا دعوناه إلى إحيائه وسقيناه ولما عرضنا هذه الصفات التي نسبنا إليه مع ما تقرر عندنا من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وكل تسبيح ورد عن الله تعالى وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنكرناه ولما آية بنا من مكان قريب وبعيد لحكمة يريد ظهورها فينا أجبناه وبما استعمله منا في ابتلائنا أعلمناه ومن كونه عند عبده في لسانه إذا مرض وقلبه والتجائه واضطراره إليه عدناه وباستسقاء الظمآن الذي تخيل السراب ماء فلما جاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً سقيناه وباستطعام الجائع أطعمناه وإلى كل ملمة ونازلة مهمة ليرفعها عن الضعفاء دعوناه وبقولنا في دعائنا إياه عن أمره اغفر لنا وارحمنا وانصرنا أمرناه وبقولنا لا

تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ من قَبْلِنا رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا به نهيناه وبقولنا إنه لن يعيدنا كما بدأنا كذبناه وبقولنا إن له صاحبة وولدا شتمناه وبتكذيبه وشتمه آذيناه وباستفهامه إيانا عن أمور يعلمها أخبرناه وبتلاوتنا كلامه العزيز بالنهار حدثناه وبه في ظلام الليل سامرناه وفي الصلاة عند ما نقول ويقول ناجيناه وعند سفرنا في أهلنا استخلفناه وعند طلبه منا نصرة دينه نصرناه وإذا لم نطلب سواه شاهد أو غائبا واعتمدنا عليه في كل حال حصلناه وبمحاسبتنا نفوسنا وهو السريع الحساب سابقناه وبأسمائنا التي أدخلتنا عليه وأعطتنا الحظوة لديه كالخاشع والذليل والفقير قابلناه وبكونه سمعنا سمعناه وبصرنا أبصرناه ورأيناه وبما أوجدنا له بلام العلة عبدناه وفي اعتمارنا الذي شرع لنا زرناه وفي بيته الذي أذن فينا بالحج إليه قصدناه وأملناه ولنيل جميع أغراضنا أردناه وذلك لما نسب إلى نفسه من الأسماء الحسنى دون غيرها من الأسماء وإن كانت أسماء له في الحقيقة إلا أنه عراها عن النعت بالحسنى فهو عز وجل الله من حيث هويته وذاته الرحمن بعموم رحمته التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ الرحيم بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده الرب بما أوجده من المصالح لخلقه الملك بنسبة ملك السموات والأرض إليه فإنه رب كل شي‏ء ومليكه القدوس بقوله وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وتنزيهه عن كل ما وصف به السلام بسلامته من كل ما نسب إليه مما كره من عباده أن ينسبوه إليه المؤمن بما صدق عباده وبما أعطاهم من الأمان إذ أوفوا بعهده المهيمن على عباده بما هم فيه من جميع أحوالهم مما لهم وعليهم العزيز لغلبة من غالبه‏

إذ هو الذي لا يغالب وامتناعه في علو قدسه أن يقاوم الجبار بما جبر عليه عباده في اضطرارهم واختيارهم فهم في قبضته المتكبر لما حصل في النفوس الضعيفة من نزوله إليهم في خفي ألطافه لمن تقرب بالحد والمقدار من شبر وذراع وباع وهرولة وتبشيش وفرح وتعجب وضحك وأمثال ذلك الخالق بالتقدير والإيجاد البارئ بما أوجده من مولدات الأركان المصور بما فتح في الهباء من الصور وفي أعين المتجلي لهم من صور التجلي المنسوبة إليه ما نكر منها وما عرف وما أحيط بها وما لم يدخل تحت إحاطة الغفار بمن ستر من عباده المؤمنين‏

الغافر بنسبة اليسير إليه الغفور بما أسدل من الستور من أكوان وغير أكوان القهار من نازعه من عباده بجهالة ولم يتب الوهاب بما أنعم به من العطاء لينعم لا جزاء ولا ليشكر به ويذكر الكريم المعطي عباده ما سألوه منه الجواد المعطي قبل السؤال ليشكروه فيزيدهم ويذكروه فيثيبهم السخي بإعطاء كل شي‏ء خلقه وتوفيته حقه الرزاق بما أعطى من الأرزاق لكل متغذ من معدن ونبات وحيوان وإنسان من غير اشتراط كفر ولا إيمان الفتاح بما فتح من أبواب النعم والعقاب والعذاب العليم بكثرة معلوماته العالم بأحدية نفسه العلام بالغيب فهو تعلق خاص والغيب لا يتناهى والشهادة متناهية إذا كان الوجود سبب الشهود والرؤية كما يراه بعض النظار وعلى كل حال فالشهادة خصوص فإن من يقول إن العلة في الرؤية استعداد المرئي فما ثم مشهود إلا الحق وما وجد من الممكنات وما لم يوجد وبقي المحال معلوما غيبا لم يدخل تحت الرؤية ولا الشهادة القابض بكون الأشياء في قبضته والأرض جميعا قبضته وكون الصدقة تقع بيد الرحمن فيقبضها الباسط بما بسطة من الرزق الذي لا يعطي البغي بسطة وهو القدر المعلوم وإنه تعالى يقبض ما شاء من ذلك لما فيه من الابتلاء والمصلحة ويبسط ما شاء من ذلك لما فيه من الابتلاء والمصلحة الرافع من كونه تعالى بيده الميزان يخفض القسط ويرفعه فيرفع ليؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويغني من يشاء الخافض لينزع الملك ممن يشاء ويذل من يشاء ويفقر من يشاء بيده الخير وهو الميزان فيوفي الحقوق من يستحقها وفي هذه الحال لا يكون معاملة الامتنان فإن استيفاء الحقوق من بعض الامتنان أعم في التعلق المعز المذل فأعز بطاعته وأذل بمخالفته وفي الدنيا أعز بما أتى من المال من أتاه وبما أعطى من اليقين لأهله وبما أنعم به من الرئاسة والولاية والتحكم في العالم بإمضاء الكلمة والقهر وبما أذل به الجبارين والمتكبرين وبما أذل به في الدنيا بعض المؤمنين ليعزهم في الآخرة ويذل من أورثهم الذلة في الدنيا لإيمانهم وطاعتهم السميع دعاء عباده إذا دعوه في مهماتهم فأجابهم من اسمه السميع فإنه تعالى ذكر في حد السمع فقال ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ ومعلوم إنهم سمعوا دعوة الحق بآذانهم ولكن ما أجابوا ما دعوا إليه وهكذا يعامل الحق عباده من كونه سميعا البصير بأمور عباده كما قال لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرى‏ فقال لهما لا تَخافا فإذا أعطى بصره الأمان فذلك معنى البصير لا أنه يشهده ويراه فقط فإنه يراه حقيقة سواء نصره أو خذله أو اعتنى به أو أهمله الحكم بما يفصل به من الحكم يوم القيامة بين عباده وبما أنزل في الدنيا من الأحكام المشروعة والنواميس الوضعية الحكمية كل ذلك من الاسم الحكم العدل بحكمه بالحق وإقامة الملة الحنيفية قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فهو ميل إليه إذ قد جعل للهوى حكما من اتبعه ضل عن سبيل الله اللطيف بعباده فإنه يوصل إليهم العافية مندرجة في الأدوية الكريهة فأخفى من ضرب المثل في الأدوية المؤلمة المتضمنة الشفاء والراحة لا يكون فإنه لا أثر لها في وقت الاستعمال مع علمنا بأنها في نفس استعمال ذلك الدواء ولا نحس بها للطافتها ومن باب لطفه سريانه في أفعال الموجودات وهو قوله والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ ولا نرى الأعمال إلا من المخلوقين ونعلم أن العامل لتلك الأعمال إنما هو الله فلو لا لطفه لشوهد الخبير بما اختبر به عباده ومن اختباره قوله حَتَّى نَعْلَمَ فنرى هل ننسب إليه حدوث العلم أم لا فانظر أيضا هذا اللطف ولذلك قرن الخبير باللطيف فقال اللطيف الخبير الحليم هو الذي أمهل وما أهمل ولم يسارع بالمؤاخذة لمن عمل سوءا بجهالة مع تمكنه أن لا يجهل وأن يسأل وينظر حتى يعلم العظيم في قلوب العارفين به الشكور لطلب الزيادة من عباده مما شكرهم عليه وذكرهم به من عملهم بطاعته والوقوف عند حدوده ورسومه وأوامره ونواهيه وهو يقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فبذلك يعامل عباده فطلب منهم بكونه شكورا أن يبالغوا فيما شكرهم عليه العلي في شأنه وذاته عما يليق بسمات الحدوث وصفات المحدثات الكبير بما نصبه المشركون من الآلهة ولهذا قال الخليل في‏

معرض الحجة على قومه مع اعتقاده الصحيح أن الله هو الذي كسر الأصنام المتخذة آلهة حتى جعلها جذاذا مع دعوى عابديها بقولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فنسبوا الكبر له تعالى على آلهتهم فقال إبراهيم عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وهنا الوقف ويبتدئ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فلو نطقوا لاعترفوا بأنهم‏

عبيد وأن الله هو الكبير العلي العظيم الحفيظ بكونه بكل شي‏ء محيط فاحتاط بالأشياء ليحفظ عليها وجودها فإنها قابلة للعلم كما هي قابلة للوجود فمن شاء سبحانه أن يوجده فأوجده حفظ عليه وجوده ومن لم يشأ أن يوجد وشاء أن يبقيه في العدم حفظ عليه العدم فلا يوجد ما دام يحفظ عليه العدم فأما أن يحفظه دائما أو إلى أجل مسمى المقيت بما قدر في الأرض من الأقوات وبما أوحى في السماء من الأمور فهو سبحانه يعطي قوت كل متقوت على مقدار معلوم الحسيب إذا عدد عليك نعمه ليريك منته عليك لما كفرت بها فلم يؤاخذك لحلمه وكرمه وبما هو كافيك عن كل شي‏ء لا إله إلا هو العليم الحكيم الجليل لكونه عز فلم تدركه الأبصار ولا البصائر فعلا ونزل بحيث إنه مع عباده أينما كانوا كما يليق بجلاله لي أن بلغ في نزوله أن‏

قال لعبده مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني‏

فأنزل نفسه من عباده منزلة عباده من عباده فهذا من حكم هذا الاسم الإلهي الرقيب لما هو عليه من لزوم الحفظ لخلقه فإن ذلك لا يثقله وليعلم عباده أنه إذا راقبهم يستحيون منه فلا يراهم حيث نهاهم ولا يفقدهم حيث أمرهم المجيب من دعاه لقربه وسماعه دعا عباده كما أخبر عن نفسه وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فوصف نفسه بأنه متكلم إذ المجيب من كان ذا إجابة وهي التلبية الواسع العطاء بما بسط من الرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وهي مخلوقة فرحم بها كل شي‏ء وبها أزال غضبه عن عباده فانظر فهنا سر عجيب في قوله ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وقوله كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ الحكيم بإنزال كل شي‏ء منزلته وجعله في مرتبته ومن أوتي الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وقد قال عن نفسه أن بيده الخير وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم له والخير كله بيديك‏

فلم يبق منه شيئا

والشر ليس إليك‏

الْوَدُودُ الثابت حبه في عباده فلا يؤثر فيما سبق لهم من المحبة معاصيهم فإنها ما نزلت بهم إلا بحكم القضاء والقدر السابق لا للطرد والبعد لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ فسبقت المغفرة للمحبين اسم المفعول المجيد لما له من الشرف على كل موصوف بالشرف فإن شرف العالم بما هو منسوب إلى الله إنه خلقه وفعله فما هو شرفه بنفسه فالشريف على الحقيقة من شرفه بذاته وليس إلا الله الباعث عموما وخصوصا فالعموم بما بعث من الممكنات إلى الوجود من العدم وهو بعث لم يشعر به كل أحد إلا من قال بأن للممكنات أعيانا ثبوتية وإن لم يعثر على ما أشرنا إليه القائل بهذا ولما كان الوجود عين الحق فما بعثهم إلا الله بهذا الاسم خاصة ثم خصوص البعث في الأحوال كبعث الرسل والبعث من الدنيا إلى البرزخ نوما وموتا ومن البرزخ إلى القيامة وكل بعث في العالم في حال وعين فمن الاسم الباعث فهو من أعجب اسم تسمى الحق به تعريفا لعباده الشهيد لنفسه بأنه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولعباده بما فيه الخير والسعادة لهم بما جاءوا به من طاعة الله وطاعة رسوله وبما كانوا عليه من مكارم الأخلاق وشهيد عليهم بما كانوا فيه من المخالفات والمعاصي وسفساف الأخلاق ليريه منة الله وكرمه بهم حيث غفر لهم وعفا عنهم وكان مالهم عنده إلى شمول الرحمة ودخولهم في سعتها إذ كانوا من جملة الأشياء وإن تلك الأشياء المسماة مخالفة لم يبرزها الله من العدم إلى الوجود إلا برحمته فهي مخلوقة من الرحمة وكان المحل الذي قامت به سببا لوجودها لأنها لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بنفس المخالف وقد علمت أنها مخلوقة من الرحمة ومسبحة بحمد خالقها فهي تستغفر للمحل الذي قامت به حتى ظهر وجود عينها لعلمها بأنها لا تقوم بنفسها الحق الوجود الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ وهو العدم من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ فمن بين يديه من قوله لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ومن خلفه‏

لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ليس وراء الله مرمى‏

فنسب إليه الوراء وهو الخلف فهو وجود حق لا عن عدم ولا يعقبه عدم بخلاف الخلق فإنه عن عدم ويعقبه العدم من حيث لا يشعر به فإن الوجود والإيجاد لا ينقطع فما ثم في العالم من العالم إلا وجود وشهود دنيا وآخرة من غير إنهاء ولا انقطاع فأعيان تظهر فتبصر الوكيل الذي وكله عباده على النظر في مصالحهم فكان من النظر في مصالحهم أن أمرهم بالإنفاق على حد معين فاستخلفهم فيه بعد ما اتخذوه وكيلا فالأموال له بوجه فاستخلفهم فيها والأموال لهم بوجه فوكلوه في النظر فيها فهي لهم بما لهم فيها من المنفعة وهي له بما هي عليه من تسبيحه بحمده فمن اعتبر التسبيح قال إن الله ما خلق العالم إلا لعبادته ومن راعى المنفعة قال إن الله ما خلق العالم إلا لينفع بعضه بعضا أول المنفعة فيهم للإيجاد فأوجد المحال لينتفع بالوجود من لا يقوم من الموجودات إلا بمحل وأوجد من لا قيام له بنفسه‏

لينتفع به من لا يستغني عن قيام الحوادث به ولا يعري عنها فوجود كل واحد منهما موقوف على صاحبه من وجه لا يدخله الدور فيستحيل الوقوع القوي المتين هو ذُو الْقُوَّةِ لما في بعض الممكنات أو فيها مطلقا من العزة وهي عدم القبول للاضداد فكان من القوة خلق عالم الخيال ليظهر فيه الجمع بين الأضداد لأن الحس والعقل يمتنع عندهما الجمع بين الضدين والخيال لا يمتنع عنده ذلك فما ظهر سلطان القوي ولا قوته إلا في خلق القوة المتخيلة وعالم الخيال فإنه أقرب في الدلالة على الحق فإن الحق هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ قيل لأبي سعيد الخراز بم عرفت الله قال بجمعه بين الضدين ثم تلا هذه الآية وإن لم تكن من عين واحدة وإلا فما فيها فائدة فإن النسب لا تنكر فإن الشخص الواحد قد تكثر نسبه فيكون أبا وابنا وعما وخالا وأمثال ذلك وهو هو لا غيره فما حاز الصورة على الحقيقة إلا الخيال وهذا ما لا يسع أحدا إنكاره فإنه يجده في نفسه ويبصره في منامه فيرى ما هو محال الوجود موجودا فتنبه لقوله إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الولي هو الناصر من نصره فنصرته مجازاة ومن آمن به فقد نصره فالمؤمن يأخذ نصر الله من طريق الوجوب فإنه قال وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ مثل وجوب الرحمة عليه سوء قال تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لمن عمل سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ من بَعْدِهِ وأَصْلَحَ وأين هذا من اتساعها فنصرة الله تشبه رحمة الوجوب وتفارق رحمة الامتنان الواسعة فإنه ما رأينا فيما أخبرنا به تعالى نصرة مطلقة وإنما رأيناها مقيدة إما بالإيمان وإما بقوله إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وهنا سر من أسرار الله تعالى في ظهور المشركين على المؤمنين في أوقات فتدبره تعثر عليه إن شاء الله فما ورد حتى نؤمن به إلا أن الايمان إذا قوى في صاحبه بما كان فله النصر على الأضعف والميزان يخرج ذلك وقولي هذا ما كان لقوله والَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ فسماهم مؤمنين ولكن تحقق في إيمانهم بالباطل إنهم ما آمنوا به من كونه باطلا وإنما آمنوا به من كونهم اعتقدوا فيه ما اعتقد أهل الحق في الحق فمن هنا نسب الايمان إليهم وبما هو في نفس الأمر على غير ما اعتقدوه سماه الحق لنا باطلا لا من حيث ما توهموه الحميد بما هو حامد بلسان كل حامد وبنفسه وبما هو محمود بكل ما هو مثنى عليه وعلى نفسه فإن عواقب الثناء عليه تعود المحصي كل شي‏ء عددا من حروف وأعيان وجودية إذ كان التناهي لا يدخل إلا في الموجودات فيأخذه الإحصاء فهذه الشيئية شيئية الوجود وفي قوله وأَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً المبدئ هو الذي ابتدأ الخلق بالإيجاد في الرتبة الثانية وكل ما ظهر من العالم ويظهر فهو فيها وما ثم رتبة ثالثة فهي الآخر والأولى للحق فهو الأول فالخلق من حيث وجوده لا يكون في الأول أبدا وإنما له الآخر والحق معه في الآخر فإنه مع العالم أَيْنَ ما كانُوا وقد تسمى بالآخر

[المعيد إذا خلق شيئا وفرغ خلقه عاد إلى خلق آخر]

فاعلم المعيد عين الفعل من حيث ما هو خالق وفاعل وجاعل وعامل فهو إذا خلق شيئا وفرغ خلقه عاد إلى خلق آخر لأنه ليس في العالم شي‏ء يتكرر وإنما هي أمثال تحدث وهي الخلق الجديد وأعيان توجد المحيي بالوجود كل عين ثابتة لها حكم قبول الإيجاد فأوجدها الحق في وجوده المميت في الزمان الثاني فما زاد من زمان وجودها فمفارقتها وانتقالها لحال الوجود الذي كان لها موت وقد يرجع إلى حكمها من الثبوت الذي كان لها فمن المحال وجودها بعد ذلك حتى تفرغ وهي لا تفرغ لعدم التناهي فيها فافهم وفي تقييدي هذا الباب في هذه المسألة سمعت منشدا ينشد من زاوية البيت لا أرى له شخصا لكني أسمع الصوت ولا أدري لمن يخاطب بذلك الكلام وهو

أوص فإنك رائح *** لمنزل أنت رابح‏

فيه لأنك ممن *** له قبول النصائح‏

قد صاح في جانب *** الدار للمنية صائح‏

وقد دعاك إليه *** فلا تجب بالنوائح‏

وقد أتاك رسول *** منه بخير المنائح‏

لقاء ربك فيها *** وفيه كل المصالح‏

فهو بالنسبة إلى رؤية الله قريب وقد يكون بالنسبة إلينا بعيد مثل قوله في المعارج إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ونَراهُ قَرِيباً الحي لنفسه لتحقيق ما نسب إليه مما لا يتصف به إلا من من شرطه أن يكون حيا القيوم لقيامه على كل نفس بما كسبت الواجد بالجيم لما طلب فلحق فلا يفوته هارب كما لا يلحقه في الحقيقة طالب معرفته الواحد



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de l'arabe de manière semi-automatique!