Les révélations mecquoises: futuhat makkiyah

Parcourir les Titres Section I: les Connaissances (Maarif) Section II: les Interactions (Muamalat) Section IV: les Demeures (Manazil)
Présentations Section V: les Controverses (Munazalat) Section III: les États (Ahwal) Section VI : les Stations (Maqamat du Pôle)
Première Partie Deuxième Partie Troisième Partie Quatrième Partie

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة منزل عذاب المؤمنين من المقام السريانى في الحضرة المردانة المحمدية

ولم يبلغ مبلغ العلو على الآخر كان الحكم للمنحرف إلى العلو فإن كان ماء المرأة حاض الخنثى ولم يمن وإن كان ماء الرجل أمنى ولم يحض فسبحان القدير الخلاق العليم وهذا من أعجب البرازخ في الحيوان ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ الله قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ويكفي علم هذا القدر من هذا المنزل فإنه يتضمن مسائل كثيرة أكثرها في تولد العالم الطبيعي بين حركات الأفلاك وتوجهاتها وتوجهات كواكبها بأشعة النور وبين قبول العناصر والمولدات لآثار تلك الأنوار فيظهر من تلك الأحكام إيجاد الأعيان والمراتب والأحوال وهذا علم كبير طويل ويتعلق بهذا المنزل علم الابتلاء في

غير موطن التكليف ويتضمن علم الديوان الإلهي ويتضمن علم وجوب الكلمة الإلهية التي لا تتبدل ويتضمن علم أنه ما في العالم باطل ولا عبث وإنه حق كله بما فيه من الحق والباطل ويتضمن لما ذا أخر الله غالبا العقوبات إلى الدار الآخرة في حق الأكثرين وعجلها في حق آخرين وهو المعبر عنه بإنفاذ الوعيد وهو خبر والخبر الذي لا يتضمن حكما لا يدخله النسخ فقد ينفذ ما أوعد به لمن خالفه لأنه لم يخص بإنفاذه دارا من دار بل قال في الدنيا لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا وهو من جملة إنفاذ الوعيد فالذاهبون إلى القول بإنفاذ الوعيد مصيبون ولكن إنفاذه حيث يعينه الحق تعالى فإذا أنفذه في الدنيا بمرض وألم نفسي أو حسي يدخله على هذا المستحق بالوعيد كان ذلك سترا له عن عقوبة الآخرة فهو المعبر عن ذلك هنا بالمغفرة أي لا يؤاخذ بها في الآخرة وهذه أحوال أكثر السعداء والسعداء الذين لا تهمهم النار ولا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الذين فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ ولهذا عظم ابتلاء النفوس والبلاء المحسوس في الأمثال من الناس كالأنبياء والَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ من النَّاسِ من رد الحق في وجوههم وما يسمعون من الكفرة مما يتأذون به في نفوسهم وقد أخبر الله بذلك وكذلك ما سلط عليهم من القتل والضرب كل ذلك من إنفاذ الوعيد لخطرات وحركات تقتضيها البشرية والطبع مما لا يليق بالمنصب الذي هم فيه لكن هو لائق بالبشر ومن هنا يعرف قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ فقد قرر الذنب وأوقع المغفرة وأفهم من ذلك عباده أنه لا يعاقبهم في الآخرة وما علق المغفرة بالدنيا لما فيها من الآلام والأمراض النفسية والحسية وهو عين إنفاذ الوعيد في حقهم ويصح قول المعتزلي في هذه المسألة مسألة إيلام البري‏ء فإن الأشعري يجوز ذلك على الله ولكن ما كل جائز واقع وكل ما يحتجون به على المعتزلة فليس هو بذلك الطائل والانفصال عنه سهل وليس هذا الكتاب موضع إيراد هذا العلم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب التاسع والتسعون ومائتان في معرفة منزل عذاب المؤمنين من المقام السرياني في الحضرة المرادية المحمدية»

إن البروج منازل لمنازل *** قد هيئت للسبعة الأنوار

فإذا مشت بالعدل في أفلاكها *** تبدو لعينك أعين الأغيار

فالحق يجري في المنازل حكمه *** والكون في الأكوار والأدوار

والخلق من تحت المنازل ظاهر *** والأمر من فوق المنازل جاري‏

فيقال في لغة الكيان بأنه *** أمر تصرفه يد الأقدار

والكف والقلم العلي مخطط *** في اللوح ما يبدو من الأسرار

اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا المنزل من أعظم المنازل الذي تخافه الشياطين النارية لقوة سلطانه عليهم وهو منزل عال يتضمن علوما جمة

[إن الله خلق الروح الإنسانى على الفطرة]

اعلم أن الروح الإنساني لما خلقه الله خلقه كاملا بالغا عاقلا عارفا مؤمنا بتوحيد الله مقرا بربوبيته وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‏

فذكر الأغلب وهو وجود الأبوين فإنه قد يكون يتيما فالذي يربيه هو له بمنزلة أبويه فالروح ليس له كمية فيقبل الزيادة في جوهر ذاته بل هو جوهر فرد لا يجوز أن يكون مركبا إذ لو كان كذلك لجاز أن يقوم بجزء منه علم بأمر ما وبالجزء الآخر جهل بذلك الأمر عينه فيكون الإنسان عالما بما هو به جاهل وهذا محال فتركيبه في جوهره محال فإذا كان هكذا فلا يقبل الزيادة ولا النقصان كما يقبله الجسم لعدم التركيب ولو لا ما هو عاقل بذاته وهو عقل لنفسه ما أقر بربوبية خالقه عند أخذ الميثاق منه بذلك إذ لا يخاطب الحق إلا من يعقل عنه خطابه هذا هو حقيقة

الإنسان في نفسه ثم إن الله تعالى جعل له في الجسم الذي جعله الله له ملكا واستوى عليه جعل فيه قوى وآلات حسية ومعنوية وقيل له خذ العلوم منها وصرفها على حد كذا وكذا وجعلت له هذه الآلات على مراتب فالقوى المعنوية كلها قوى كاملة إلا قوة الخيال فإنها خلقت ضعيفة والقوة الحساسة وجعلت هاتان القوتان تابعة للجسم فكلما نما الجسم وكبر وزادت كميته كلما تقوى حسه وخياله إذ كانت جميع القوي لا تأخذ الأشياء إلا من الخيال وهي قوة هيولانية قابلة لجميع ما يعطيها الحس من الصور وقابلة لما تفتح فيها القوة المصورة من الصور التي تركبها من أمور موجودة قد أمسكها الخيال من القوة الحساسة وليس في القوي من يشبه الهيولى في قبول الصور إلا الخيال فإذا تقوى الخيال حينئذ وجد الفكر حيث يتصرف ويظهر سلطانه والوهم كذلك والعقل كذلك والقوة الحافظة كذلك فلم تكن لطيفة الإنسان من حيث ذاتها مدركة لما تعطيها هذه القوي إلا بوساطتها فلو اتفق أن تعطيها هذه القوي المعلومات من أول ما يظهر الولد في عالم الحس قبلها الروح الإنساني قبولا ذاتيا أ لا ترى أن الله قد خرق العادة في بعض الناس في ذلك وهو ما ذكر من صبي يوسف حين شهد له بالبراءة وكلام عيسى عليه السلام حين شهد بالبراءة وصبي جريج حين شهد له بالبراءة هذا سبب تأخير التكليف عن الروح الإنساني إلى الحلم الذي هو حد كمال هذه القوي في علم الله فلم يبق عند ذلك عذر للروح الإنساني في التخلف عن النظر والعمل بما كلفه ربه وأول درجات التكليف إذ كان ابن سبع سنين إلى أن يبلغ الحلم وقد اعتبر الله فعل الصبي في غير زمان تكليفه لو قتل لم يقم عليه الحد وحبس إلى أن يبلغ ويقتل بمن قتل في صباه إلا أن يعفو ولي الدم فقد آخذه الله بما لم يعمله في زمان تكليفه والقصد من هذا التمهيد ليقع الأنس بما نورده من عذاب المؤمن فإن الإنسان كما قلنا خلق مؤمنا وإن ألحقناهم بآبائهم في دفنهم في قبورهم معهم ورقهم إذا ملكناهم بطريق الإلحاق لا بطريق الاستحقاق تشريفا وتبيينا لعلو مرتبة ظهور الايمان الذي في الآباء وكما أن الكفر عارض كان الاسترقاق عارضا أيضا والأصل الحرية والايمان فمن إنفاذ الوعيد من حيث لا يشعر به وجود التكليف وهو أول العذاب لقيام الخوف بنفس المكلف فقد عذب عذابا نفسيا مؤلما وهو عقوبة ما جرى منه في الزمان الذي لم يكن فيه مكلفا من الأفعال التي تطرأ بين الصبيان من الأذى والشتم والضرب على طريق التعدي وكل خير يفعله الصبي يكتب له وقد قرر ذلك الشارع حين‏

رفعت امرأة إليه صلى الله عليه وسلم صبيا صغيرا وهو في الحج فقالت له يا رسول الله أ لهذا حج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم له حج ولك أجر

وذلك أن لها أجر المعونة التي لا يقدر الصبي عليها وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصبي إذا حج قبل بلوغ التكليف ثم مات قبل البلوغ كتب الله له ذلك الحج عن فريضته وكذلك العبد إذا حج عبدا ثم مات قبل العتق‏

وهذا الحديث وإن كان قد تكلم فيه من طريق إسناده فإن الحديث الصحيح يعضده وقد ورد في الصحيح أن الله يقول يوم القيامة في حق العبد يأتي بما فرض الله عليه ناقصا قد انتقص منه شيئا أن يكمل له من تطوعه ما نقص من ذلك‏

فقد أقام التطوع مقام الفرض وهو هذا بعينه لأن حج غير المكلف به ليس هو فرض عليه‏

قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الحديث الصحيح إنه أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة فيقول الله انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه قال صلى الله عليه وسلم ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم‏

أي فيفعل في الزكاة والصوم والحج مثل ما فعل في الصلاة سواء فلو لم يعتبر الشرع ذلك لم يحكم بهذا وكل ما يفعله الصبي في غير بلوغ زمان التكليف معتبر في الشرع في الخير وفي الشر غير إن الكرم الإلهي جازاه بالخير المعمول في هذا الزمان في الدار الآخرة وادخر له ذلك وأما الشر فلم يدخر له في الآخرة منه شيئا بل جازاه به في الدنيا من آلام حسية ونفسية تطرأ على الصبيان وهي موجودة لا يقدر أحد على إنكارها وهي عقوبات وعذاب لأمور تطرأ من الصبيان يعرف هذا القدر أهل طريقنا حكمة أوقفهم الحق عليها وهي في حق المؤمنين كما قلنا عذاب أوجب لهم الكفارة وفي حق الكفار إذا أدركوا وماتُوا وهُمْ كُفَّارٌ وعوقبوا في الآخرة وقد كانوا عذبوا في الدنيا وهم صغار مثل ما تعذب المؤمنون في حال صغرهم فذلك قوله تعالى زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ يعني الذي عذبوا به في‏

الدنيا وما شاكل هذا فإن هذا نص في تضاعف العذاب على مراتبه الذي هو واحد من ذلك ومن عذاب المؤمنين ما سلط الله عليهم من أصحاب الأهواء والكفار من الأسر والعذاب والاسترقاق والقتل في الدنيا كل هذا تكفير لهفوات ومزلات نفسية وحسية على قدر ما وقع منهم وما يقع هذا من الكفار بالمؤمنين إلا لأجل إيمانهم قال تعالى يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا فإن وما بعدها بتأويل المصدر كأنه يقول يخرجون الرسول وإياكم من أجل إيمانكم وقال تعالى وما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا وعليه يخرج تخليد من قتل مؤمنا متعمدا أي قصد قتله لإيمانه ومما يتضمن هذا المنزل علم الابتلاء وليس ذلك إلا لله قال تعالى ولَنَبْلُوَنَّكُمْ وقال عز وجل أيضا لِيَبْلُوَكُمْ وليس للمؤمن أن يبتلي المؤمن إلا بأمر إلهي فيكون الابتلاء لله تعالى ومنه لا منهم مثل قوله تعالى فَامْتَحِنُوهُنَّ فالله أمر بذلك فامتثل العبد أمر سيده كالسلطان يأمر بعذاب شخص فيتولى عذابه من أمر بتعذيبه وإن كان شفيقا عليه ولكن أمر السلطان واجب أن يمتثل للمرتبة لما يقتضيه من الهيبة فالابتلاء لا يكون إلا لله وكل من ابتلى أحدا من المؤمنين بغير أمر إلهي فإن الله يؤاخذه على ذلك وبهذا المقام انفرد الاسم الخبير وهو من أعجب أحكام الأسماء لأن الخبرة إنما جاءت لاستفادة علم المخبر المختبر وهنا في الجناب الإلهي العلم محقق بما يكون من هذا المختبر اسم مفعول فلا يستفيد علما المختبر اسم فاعل فيظهر أنه لا حكم لهذا الاسم وكان الأولى به العبد لجهله بما يكون من المختبر اسم مفعول والعبد ممنوع من الاختيار إلا بأمر إلهي فقد يسمى الله تعالى بما يستحقه العبد فحكمه في جناب الحق إفادة العلم للمختبر في نفسه بهذا الاختبار لإقامة الحجة عليه وله فلهذا لا يلحق الخبير بصفة العلم كما ألحقه أبو حامد والأسفراييني وأكثر الناس ولو كان كما زعموا لكان نقصا

وإنما أوقعهم في ذلك قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ وهو حجة عليهم إن لو كان الأمر على ظاهره فإن الاختبار سبب في تحصيل العلم ما هو نفس العلم وبالخبرة سمي خبيرا فإذا حصل العلم سمي عالما في ذلك الحال وغاية من نزه مثل ابن الخطيب وغيره في قوله حَتَّى نَعْلَمَ تعلق العلم بهذه الحالة وتعلق العلم محدث ولا يؤدي إلى حدوث العلم فبقي العلم على حاله من الوصف بالقدم وإن حدث التعلق فهذا منتهى غايتهم في التنزيه ويقولون لو تعلق العلم بما من شأنه إنه سيكون كائنا أو قد كان فقد علم الشي‏ء على خلاف ما هو به وكذلك لو علم ما هو كائن قد كان أو سيكون أو علم ما كان هو كائن أو سيكون لكان هذا كله جهلا والله يتعالى عن ذلك فأدخلوا على الله الزمان من حيث لا يشعرون والتقدم في الأشياء والتأخر وما علموا إن الله تعالى يشهد الأشياء ويعلمها على ما هي عليه في أنفسها والأزمنة التي لها من جملة معلوماته مستلزمة لها وأحوالها وأمكنتها إن كانت لها ومحالها إن كانت ممن يطلب المحال وأحيازها كل ذلك مشهود للحق في غير زمان لا يتصف بالتقدم ولا بالتأخر ولا بالآن الذي هو حد الزمانين ولهذا لم يرد مع‏

قوله صلى الله عليه وسلم عن ربه كان الله ولا شي‏ء معه‏

وأتى بكان وهي حرف وجودي لا بفعل ولم يقل وهو الآن فإن الآن نص في وجود الزمان فلو جعله ظرفا لهوية الباري تعالى لدخل تحت ظرفية الزمان بخلاف كان فإن لفظ كان من الكون وهو عين الوجود فكأنه يقول الله موجود ولا شي‏ء معه في وجوده فما هي من الألفاظ التي ينجر معها الزمان إلا بحكم التوهم ولهذا لا ينبغي أن يقال كان فعل ماض في إعرابه على طريقة النحويين وقد بوب عليها الزجاجي وسماها بالحرف الذي يرفع الاسم وينصب الخبر ولم يجعلها فعلا فينجر معها الزمان الماضي والحال والمستقبل وبهذا القدر المتوهم الذي يتخيل في هذه الصيغة التي هي كان ويكون وسيكون من الزمان أشبهت الفعل الصحيح الذي هو قام ويقوم وسيقوم وجعلوا قائما مثل كائن فأجروها مجرى الأفعال من هذا الوجه وإذا كان أمرها على هذا فيطلق من الوجه الذي لا يقبل به ظرفية الزمان على الله تعالى وهو قوله وكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً وكانَ الله شاكِراً عَلِيماً وما أطلق عليه الآن لما ذكرناه لأنه نص في الزمان اسم علم له ومعناه الظرف كما جاء الاستواء على العرش بلفظ العرش ولفظ الاستواء وما هو نص في ظرفية المكان بخلاف اسم لفظة المكان فإنه نص بالوضع في ظرفيته والمتمكن في المكان نص فيه فعدل إلى الاستواء والعرش ليسوغ التأويل الذي يليق بالجناب العالي لمن يتأول ولا بد والأولى التسليم لله فيما قاله ورد ذلك إلى علمه سبحانه بما أراده في هذا الخطاب ونفى التشبيه المفهوم منه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ على زيادة الكاف أو فرض المثل‏

إذ كان لا يستحيل فرض المحال ومما يتضمن هذا المنزل علم العالم العلوي المختص بالفلك الأطلس خاصة ومن عمارة وما تسبيحهم وما يتعلق به عمن يأخذ ولمن يعطي ومن يتلقى منه والعطاء الذاتي وهو عطاء العلة والعطاء الإرادي وهو عطاء الاختيار ومعرفة الآخرة ومعرفة ما يحصل من التجلي في نفس العبد وتأثير الضعيف في القوي وما تؤدي إليه الأغراض والأهواء الربانية السارية في العالم التي يدعيها كل أحد من الحيوان الإنسان وغيره ومعرفة الصلاح الذي تسأله الأنبياء من الله والتصديق الإنساني خاصة ولمن يصدق وبما ذا يصدق وما ذا يرد وهل يلزمه التصديق بما يحيله دليل العقل وما منزلته عند الله وأين ينتهي بصاحبه وهل المؤمنون فيه على السواء أو يتفاضلون وهل يقبل الزيادة والنقص أو هل ينقص في وقت عند قيام شبهة على ما وقع به التصديق وهل إذا قام به النقص في مسألة من مسائل الايمان هل يسرى ذلك النقص في الايمان كله أو يؤثر في زواله بالكلية أو هو مقصور على ما وقعت عليه الشبهة ومعرفة سرعة الأخذ الإلهي ما سببها فإنه لما أطلعني الله تعالى على إنزال هذه الآية بالإنزال الذي يرد على أمثالنا ممن ليس بنبي فإن القرآن وكل كلام ينزل على التالين والمتكلمين في حال تلاوتهم وكلامهم ولو لا ذلك ما تلوا ولا تكلموا وهنا لطائف إلهية لمن نظر فقيل لي اقرأ قلت وما أقرأ فقيل لي اقرأ وكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى‏ وهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فقرأت هذه الآية على ما كنت أحفظها فقيل لي لما وصلت إلى قوله تعالى إِنَّ أَخْذَهُ قيل لي قل بك فقلت ما هو في القرآن ولا نزل كذا فقيل لي لا تقل هكذا بل هكذا هو وكذا نزل قل بك وشدد علي فقرأت إن أخذه بك أليم شديد فطلبت معنى ذلك فأقيم لي شخص كنت أعرفه وكان قد افترى علي فقيل لي هذا مأخوذ بك أي بسببك فاقرأ إن أخذه بك أليم شديد وهو ممدود بين يدي فلما فرغ ذلك التنزيل استدعيت بالشخص وقلت له ما رأيت فتأفف علي وأظهر التوبة وخرج عني وهو على حاله من الفرية فلم يكمل الشهر حتى قتله الله بحجر شدخ رأسه وما أخذ القاتل من ثيابه ولا فرسه ولا ماله شيئا فشاع الخبر وانتهى إلى السلطان وقرروا عند السلطان إني كنت سبب قتله فما التفت السلطان فلما كان يعد ثلاث سنين جاء القاتل واعترف بين يدي السلطان بقتله فسأله ما سبب ذلك فقال ما له سبب ولا فعل معي قبيحا إلا أني مررت عليه وهو نائم في خربة ولجام فرسه في يده فزين لي قتله فعمدت إلى حجر كبير فاقتلعته ووازنت رأسه ورميت عليه الحجر فما تحرك ولا أخذت له شيئا وما طمعت في شي‏ء من ذلك ولا اكترثت فقتله السلطان به وبعث إلى الخبر بذلك وهذا من أعجب التنزلات وجود مثل هذه الزيادة فيعرف العارف من هذا المنزل من أين صدرت وما اسمها وما منزلتها من كلام الحق فإن الأخبار النبوية المروية عن الله لا تسمى قرآنا مع أنها من كلام الله ويتضمن هذا المنزل علم بدء الخلق وإعادته وكيفية إعادته فإن أهل الكشف اختلفوا في الكيفية فذهب ابن قسي إلى كيفية انفرد بها وذهب الآخرون إلى غير ذلك على اختلاف بينهم وكذلك اختلف فيه علماء النظر الفكري ويتضمن علم المحبة الإلهية وثبوتها وعلم الستور التي بين المحبوبين وبين ما يؤدي لو وقع من غيرهم إلى عقوبتهم كما قيل‏

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت ملاحته بكل شفيع‏

وعلم العرش وعددها وصفاتها وعلم الإرادة المضافة إليه وما تأثيرها في حال العارفين وهل هي من نعوت الجلال أو من نعوت الجمال ويتضمن علم الاعتبار ويتضمن علم الوعيد من أي اسم هو ويتضمن علم النفس الكلية ولما ذا لا يلحقها التغيير وما شرف القرآن على غيره من الكتب والصحف والأخبار المروية عن الله مع أن ذلك كله كلام الله وينجر مع هذا العلم في نفس القرآن شرف آية الكرسي على سائر آي القرآن بالسيادة ويس بالقلبية وإذا زلزلت‏

بقيامها مقام نصف القرآن وسورة الكافرون مقام ربع القرآن وكذلك إذا جاء نصر الله وسورة الإخلاص مقام ثلث القرآن ويس مقام القرآن عشر مرار ولما ذا يرجع ذلك ومن هو الموصوف بهذا الفضل هل الدليل أو المدلول أو الناظر في الدليل ويكفي هذا القدر من هذا المنزل والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (انتهى الجزء الثاني من كتاب الفتوحات المكية بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ويتلوه المجلد الثالث أوله الباب الموفي ثلاثمائة)

نهب ماله وخراب ملكه وإهانته فالملك مستريح بيد من صار إليه والأمير يعذب بخرابه وإن كان بدنه سالما من العلل والأمراض الحسية ولكن هو أشد الناس عذابا حتى أنه يتمنى الموت ولا يرى ما رآه وجميع ما ذكرناه إنما أخبرنا الله به لنتفكر ونتذكر ونرجع إليه سبحانه ونسأله أن يجعلنا في معاملته كمن هذه صفته فنلحق بهم وهو قد ضمن الإجابة لمن اضطر في سؤاله فيكون من الفائزين فأي شرف أعظم من شرف شخص قامت به صفة منحه الله إياها أسعده بها وجعل من خلقه على صورته يسأله تعالى أن يلحق بهم في تلك الصفة فقد علمت قدر كبره على خلق الناس ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فكن يا أخي بما أعلمتك ونبهتك عليه من القليل الذي يعلم ذلك جعلنا الله منهم آمين بعزته‏

[أول وجود الكون بالسماع وآخر انتهائه من الحق السماع‏]

ومما يتضمن هذا المنزل السماع الإلهي وهو أول مراتب الكون وبه يقع الختام فأول وجود الكون بالسماع وآخر انتهائه من الحق السماع ويستمر النعيم في أهل النعيم والعذاب في أهل العذاب فأما في ابتداء كون كل مكون فإنما ظهر عن قول كن فأسمعه الله فامتثل فظهر عينه في الوجود وكان عدما فسبحان العالم بحال من قال له كن فكان فأول شي‏ء ناله الممكن مرتبة السماع الإلهي فإن كن صفة قول قال تعالى إِنَّما قَوْلُنا والسماع متعلقة القول وأما في الانتهاء في حق الكفار اخْسَؤُا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ فخاطبهم وهم يسمعون وأما في حق أهل الجنة فبعد الرؤية والتجلي الذي هو أعظم النعم عندهم في علمهم فيقول هل بقي لكم شي‏ء فيقولون يا ربنا وأي شي‏ء بقي لنا نجيتنا من النار وأدخلتنا الجنة وملكتنا هذا الملك ورفعت الحجب بيننا وبينك فرأيناك وأي شي‏ء بقي يكون عندنا أعظم مما نلناه فيقول سبحانه رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا فأخبرهم بالرضا ودوامه وهم يسمعون قال فذلك أعظم نعيم وجدوه فختم بالسماع كما بدأ ثم استصحبهم السماع دائما ما بين بدايتهم وغاية مراتب نعيمهم فطوبى لمن كانت له أُذُنٌ واعِيَةٌ لما يورده الحق في خطابه فالعارف المحقق في سماع أبدا إذ لا متكلم عنده إلا الله بكل وجه فمن خاطبه من المخلوقين يجعل العارف ذلك مثل خطاب الرسول عن الحق فيتأهب لقبول ما خاطبه به ذلك الشخص وينظر ما حكمه عند الله الذي قرره شرعا فيأخذه على ذلك الحد قال تعالى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله والمتكلم به إنما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فليس أحد من خلق الله يجوز أن يخبر عن نفسه ولا عن غيره وإنما إخبار الجميع عن الله فإنه سبحانه هو الذي يخلق فيهم بكن ما يخبرون به فالكل كلماته فليس للعبد على الحقيقة إلا السماع وكلام المخلوق سماع فلا يرمي العارف ولا يهمل شيئا من كلام المخلوقين وينزله منزلته خبيثا ومنكرا وزورا كان ذلك القول في حكم الشرع أو طيبا ومعروفا وحقا

فالعارف يقبله وينزله في المنزلة التي عينها الله على لسان الشرع والحكمة لذلك القول ومن علوم هذا المنزل الغمام الذي يقع الإتيان فيه في تجلى القهر والرحمة وهو حين تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي بسبب الغمام أي لتكون غماما فتفتح أبوابا كلها فتصير غماما وقد كان الملائكة عمارها وهي سماء فيكونون فيها وهي غمام وفيها يأتون يوم القيامة إلى الحشر التقديري والملائكة في ظُلَلٍ من الْغَمامِ والظلل أبوابها يقول الله في ذلك وفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وقال ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ونُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا وهو إتيانهم في ذلك الغمام لإتيان الله للقضاء والفصل بين عباده يوم القيامة فالعارف إذا شقت سماؤه بالغمام وتنزلت قواه في ذلك الغمام وأتى الله للفصل والقضاء في وجوده في دار دنياه فقد قامت قيامته واستعجل حسابه فيأتي يوم القيامة آمنا لا خوف عليه ولا يحزن لا في الحال ولا في المستقبل ولهذا أتى سبحانه بفعل الحال في قوله ولا هُمْ يَحْزَنُونَ فإن هذا الفعل يرفع الحزن في الحال والاستقبال بخلاف الفعل الماضي والمخلص للاستقبال بالسين أو سوف‏

[أن للأرض في كل نفس ثلاثة أحوال‏]

واعلم أن الأرض في كل نفس لها ثلاثة أحوال قبول الولد والمخاض والولادة ما لم تقم القيامة والإنسان من حيث طبيعته مثل الأرض فينبغي له أن يعرف في كل نفس ما يلقي إليه فيه ربه وما يخرج منه إلى ربه وما هو فيه مما ألقى فيه ولم يخرج منه مع تهيئة للخروج فإنه مأمور بمراقبة أحواله مع الله في هذه الثلاث المراتب والأحوال وإلقاء الله إليه تارة بالوسائط وتارة بترك الوسائط والواسطة تارة تكون محمودة وتارة مذمومة وتارة لا محمودة ولا مذمومة وإن كانت تؤدي هذه الحالة إلى الندم والغبن فالمحقق يسمع ويأخذ ويعرف ممن يسمع وممن يأخذ وما يلد ومن يقبل ولده إذا ولد ومن يربيه هل يربيه ربه أو غير ربه كما

ورد في الخبر الصحيح أن الصدقة وهي مما يلدها العبد

يوفق لأدائها كان ظالما لغيره ولنفسه وجهل الإنسان ذلك من نفسه ومن قدرها وإن كان عالما بقدرها فما هو عالم بما في علم الله فيه من التوفيق إلى أدائها بل هو جهول كما شهد الله فيه فكان قبول الإنسان الأمانة اختيارا لا جبرا فخان فيها لأنه وكل إلى نفسه وكان حمل الأرض والسماء لها جبرا لا اختيارا فوفقهما الله إلى أدائها إلى أهلها وعصما من الخيانة وخذل الإنسان‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من طلب الإمارة وكل إليها ومن أعطيها من غير طلب بعث الله أو وكل الله به ملكا يسدده‏

ومن شرف الأرض والسماء والجبال على الإنسان قول الله فيهم لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً من خَشْيَةِ الله أ ترى ذلك لجهله بما نزل عليه لا والله إلا بقوة علمه بذلك وقدره أ لا تراه عز وجل يقول لنا في هذه الآية كذلك يضرب الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإنهم إذا تفكروا في ذلك علموا شرف غيرهم عليهم فإن شهادة الله بمقدار المشهود له بالتعظيم كالواقع منه لأنه قول حق وعلموا إذا تفكروا جهلهم بقدر القرآن حيث لم تظهر منهم هذه الصفة التي شهد الله بها للجبل‏

خرج أبو نعيم الحافظ في دلائل النبوة أن الله بعث جبريل عليه السلام إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بشجرة فيها كوكرى طائر فقعد جبريل في الواحد وقعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الآخر وصعدت بهما الشجرة فلما قربا من السماء تدلى لهما أمر شبه الرفرف درا وياقوتا فأما جبريل فغشي عليه حين رآه وأما النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فما غشى عليه ثم قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فعلمت فضل جبريل علي في العلم لأنه علم ما هو ذلك فغشي عليه وما علمت‏

فاعترف صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلو علم الإنسان قدر القرآن وما حمله لما كانت حالته هكذا فانظر إلى ما كان يقاسي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في باطنه من حمله القرآن لمعرفته به وما أبقى الله عليه جسده وعصم ظاهره من أن يتصدع كالجبل لو أنزل عليه القرآن إلا لكون الله تعالى قد قضى بتبليغه إلينا على لسانه فلا بد أن يبقى صورته الظاهرة على حالها حتى نأخذه منه وكذلك بقاء صورة جبريل النازل به وإنما الكلام فينا ومن شرف من ذكرناه على الإنسان وشرف الإنسان إذا مات وصار مثل الأرض في الجمادية على حاله حيا في الإنسانية قول الله تعالى ولَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ به الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ به الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ به الْمَوْتى يعني لكان هذا القرآن فحذف الجواب لدلالة الكلام عليه ومعنى ذلك لو أنزلناه على من ذكرناه لسارت الجبال وتقطعت الأرض وأجاب الميت وما ظهر شي‏ء من ذلك فينا وقد كلمنا به‏

[شرف الجن على الإنس‏]

ومن شرف الجن علينا

أن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حين تلا على أصحابه سورة الرحمن وهم يسمعون فقال لهم لقد تلوتها على إخوانكم من الجن فكانوا أحسن استماعا لها منكم وذكر الحديث وفيه فما قلت لهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا قالوا ولا بشي‏ء من آلائك ربنا نكذب‏

فانظر ما أعلمهم بحقائق ما خوطبوا كيف أجابوا بنفس ما خوطبوا به حتى بالاسم الرب ولم يقولوا يا إلهنا ولا غير ذلك ولم يقولوا ولا بشي‏ء منها وإنما قالوا من آلائك كما قيل لهم لاحتمال أن يكون الضمير يعود على نعمة مخصوصة في تلك الآية وهم يريدون جميع الآلاء حتى يعم التصديق فيلحق الإنسان بهؤلاء كلهم من حيث طبيعته لا من حيث لطيفته بما هي مدبرة لهذا الجسم ومتولدة عنه فيدخل عليها الخلل من نشأتها فجسده كله من حيث طبيعته طائع لله مشفق وما من جارحة منه إذا أرسلها العبد جبرا في مخالفة أمر إلهي إلا وهي تناديه لا نفعل لا ترسلني فيما حرم عليك إرسالي إني شاهدة عليك لا تتبع شهوتك وتبرأ إلى الله من فعله بها وكل قوة وجارحة فيه بهذه المثابة وهم مجبورون تحت قهر النفس المدبرة لهم وتسخيرها فينجيهم الله تعالى دونه من عذاب يوم أليم إذا آخذه الله يوم القيامة وجعله في النار فأما المؤمنون الذين يخرجون إلى الجنة بعد هذا فيميتهم الله فيها إماتة كرامة للجوارح حيث كانت مجبورة فيما قادها إلى فعله فلا تحس بالألم وتعذب النفس وحدها في تلك الموتة كما يعذب النائم فيما يراه في نومه وجسده في سريره وفرشه على أحسن الحالات وأما أهل النار الذين قيل فيهم لا يموتون فيها ولا يحيون فإن جوارحهم أيضا بهذه المثابة أ لا تراها تشهد عليهم يوم القيامة فأنفسهم لا تموت في النار لتذوق العذاب وأجسامهم لا تحيا في النار حتى لا تذوق العذاب فعذابهم نفسي في صورة حسية من تبديل الجلود وما وصف الله من عذابهم كل ذلك تقاسيه أنفسهم فإنه قد زالت الحياة من جوارحهم فهم ينضجون كما ينضج اللحم في القدر أ تراه يحس بذلك بل له نعيم به إذا كان ثم حياة يجعل الله في ذلك نعيما وإلا ما تحمله النفوس كشخص يرى بعينه‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏

«الباب الموفي ثلاثمائة في معرفة منزل انقسام العالم العلوي من الحضرة المحمدية»

حمل المحقق ما يلقيه خالقه *** فيه ليظهر ما في الغيب من خبر

تمتد منه إلى قلبي رقائقه *** مثل امتداد شعاع الشمس للبصر

فالضم واللثم والتعتيق يجمعنا *** مثل العرائس كالأنثى مع الذكر

على الدوام فلا صبح يفرقنا *** منزهين عن الآصال والبكر

من بيننا تظهر الأسرار في حجب *** الآفاق طالعة شمسا بلا غير

لا شرق يظهرها لا غرب يسترها *** لا عين تدركها من أعين البشر

زمانها الآن ماض فتفقده *** ولا بمستقل يأتي على قدر

فيا أولي الفكر والألباب قاطبة *** لا تعجبوا أنها نتيجة العمر

إني لحي بحي لا حياة له *** ولا حياة لنا في عالم السور

إن الحياة التي تجري إلى أمد *** هي الحياة التي في عالم الصور

[شرف الجماد على الإنسان‏]

اعلم أن هذا المنزل يتضمن شرف الجماد على الإنسان وشرف الجن من المؤمنين في استماع القرآن على المؤمنين من الإنس لمعنى خلقهم الله عليه وخلقه فيهم قال تعالى لَخَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أ ترى هذا الكبر في الجرم وعظم الكمية هيهات لا والله فإن ذلك معلوم بالحس وإنما ذلك لمعنى أوجده فيهم لم يكن ذلك للإنسان يعطيه العلم بالمراتب ومقادير الأشياء عند الله تعالى فننزل كل موجود منزلته التي أنزله الله فيها من مخلوق وأسماء إلهية

[الأمانة الإلهي‏]

ومن ذلك قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والْأَرْضِ والْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها وحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أ ترى ذلك لجهلهم لا والله بل الحمل للأمانة كان لمجرد الجهل من الحامل وهل نعت الله بالجهل على المبالغة فيه وبالظلم لنفسه فيها ولغيره إلا الحامل لها وهو الإنسان فعلمت الأرض ومن ذكر قدر الأمانة وأن حاملها على خطر فإنه ليس على يقين من الله أن يوفقه لأدائها إلى أهلها وعلمت مراد الله بالعرض أنه يريد ميزان العقل فكان عقل الأرض والجبال والسماء أوفر من عقل الإنسان حيث لم يدخلوا أنفسهم فيما لم يوجب الله عليهم فإنه كان عرضا لا أمرا فتتعين عليهم الإجابة طوعا أو كرها أي على مشقة لمعرفتهم تعظيم ما أوجب الله عليهم فأتوا طائعين حين قال لهما ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي تهيئا لقبول ما يلقى فيكما فلما أتيا طائعين وتهيئا لقبول ما شاء الحق أن يجعل فيهما مستسلمين خائفين فقدر في الأرض أقواتها وجعلها أمانة عندها حملها إياها جبرا لا اختيارا وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وجعل ذلك أمانة بيدها تؤديها إلى أهلها حملها إياها جبرا لا اختيارا ومن معرفتهم أيضا بما يعطيه حمل الأمانة بالعرض والاختيار من ظلم الحامل إياها لنفسه حيث عرض بها إلى أمر عظيم وإذا لم‏

[الجزء الثالث‏]

الجزء الثالث من كتاب الفتوحات المكية التي فتح الله بها على الشيخ الإمام العامل الراسخ الكامل خاتم الأولياء الوارثين برزخ البرازخ محيي الحق و الدين أبي عبدالله محمّد بن علي المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي قدّس الله روحه و نوّر ضريحه آمين طبع على النسخة المقابلة على نسخة المؤلف الموجودة بمدينة قونية وقام بهذا المهم جماعة من العلماء بأمر المغقور له الأمير عبد القادر الجزايرلي رحم الله الجميع وأثابهم المكان الرفيع طبع بمطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر على نفقة الحاج فدا محمد الكشميري وشركاه‏

تقع بيد الرحمن فالرحمن قابلها فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله‏

ولم يقل كما يربي أحدكم ولده فإن الولد قد لا ينتفع به إذا كان ولد سوء فالنفع بالولد غير محقق بل ربما يطرأ عليه منه من الضرر بحيث أن يتمنى أن الله لم يخلقه والفلو والفصيل ليس كذلك فإن المنفعة بهما محققة ولا بد إما بركوبه أو بما يحمل عليه أو بثمنه أو بلحمه يأكله إن احتاج إليه فشبهه سبحانه بما يتحقق الانتفاع به ليعلم المصدق أنه ينتفع بصدقته ولا بد وأول الانتفاع بها إنها تظله يوم القيامة من حر الشمس حتى يقضى بين الناس ومما يلده الإنسان الكلمة الطيبة وقد قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الكلمة الطيبة صدقة

فتربي أيضا له ويتولى الحق بنفسه تربية كل ما يلده العبد من النكاح لا من السفاح وإذا كان الملك يتولى تربية ولد عبده بنفسه هل يقدر ما يصل إليه من الخير من جهة ولده فأول ذلك إن الولد يعرف منزلة أبيه من الملك وإنه ما رباه الملك وأكرمه بذلك إلا لعلو رتبة أبيه عنده فيرى المنة لأبيه عليه بذلك فيكون بارا به محسنا إليه بنفسه إعظاما لمرتبة الملك وعنايته بأبيه وعلى هذا تجري أفعال العارفين من عباده وكل ما تكلمنا فيه من هذا المنزل فهو من خارج بابه لم نتعرض لما يحوي عليه لضيق الوقت وطلب الاختصار وما اتفق لي مثل هذا في العبارة عن غيره من المنازل لأني وجدت عند باب هذا المنزل صور علم ما ذكرته ولم نستوف جميع ما رأيته على بابه فكان هذا القدر مما في هذا المنزل كالغلمان والحدادين والحجاب الذين على باب الملك وأما فهرست ما يتضمنه هذا المنزل فهو معرفة العالم العلوي والسفلي بين الدارين وعلم إبراز الغيوب من خلف الحجب ولما ذا حجبت ولما ذا أخرجت وما أخرج منها وما بقي وما ينتظر إخراجه من ذلك وما لا يصح إخراجه مما هو ممكن أن يخرج فمنعه مانع فما ذلك المانع وهل يخرج عن سماع أو عن غير سماع وإذا كان عن سماع فعن كراهة أو عن محبة وسرور أو ينقسم إلى هذا وإلى هذا بحسب الأحوال التي تعطيها الأوقات ومن علوم هذا المنزل أيضا علم الزيادة في الشي‏ء من نفسه لا من غيره كنشر المطوي وبسط المقبوض وعلم إخراج الكنوز المحسوسة بالأسماء وما تعطيه من الخواص في ذلك بحيث أن يقف العارف بذلك على موضع الكنز فيتكلم بالاسم فيشق الأرض عن المال المكنوز فيها كما تنشق الكمامة عن الزهرة فإذا أبصرها تكلم باسم آخر فيخرج المال بتلك الخاصية كما ينجذب الحديد إلى المغناطيس حتى لا يبقى من ذلك المال في ذلك الموضع شي‏ء ويتضمن علم الأعمال المشروعة وأين ما لها وما يلقاه منها ويتضمن علم السعادة والشقاء بالعلامات ويتضمن علم الجهات ولما ذا ترجع واتصاف الحق بالفوقية هل هي فوقية جهة أو فوقية رتبة ويتضمن معرفة أحوال الناس في منازلهم التي ينزلونها في الدار الآخرة وما سبب تلك الأحوال التي يتقلبون فيها في تلك المنازل وهل تتكرر عليهم بأعيانها في أزمنتها التي كانت فيها أم لا ويتضمن رؤية الله عباده لآية نسبة ترجع ويتضمن شرف الكواكب والزمان من غير مفاضلة ويتضمن علم نفي الايمان مع وجود العلم وهذا من أقلق الأمور عند المحقق وفيها علم البشري وإنها لا تختص بالسعداء في الظاهر وإن كانت مختصة بالخير فقوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ والكلام على هذه البشرى لغة وعرفا فأما البشرى من طريق العرف فالمفهوم منها الخير ولا بد ولما كان هذا الشقي ينتظر البشرى في زعمه لكونه يتخيل أنه على الحق قيل بشره لانتظاره البشرى ولكن كانت البشرى له بعذاب أليم وأما من طريق اللغة فهو إن يقال له ما يؤثر في بشرته فإنه إذا قيل له خير أثر في بشرته بسط وجه وضحكا وفرحا واهتزاز أو طربا وإذا قيل له شر أثر في بشرته قبضا وبكاء وحزنا وكمدا واغبرارا وتعبيسا ولذلك قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ فذكر ما أثر في بشرتهم فلهذا كانت البشرى تنطلق على الخير والشر لغة وأما في العرف فلا ولهذا أطلقها الله تعالى ولم يقيدها فقال في حق المؤمنين لَهُمُ الْبُشْرى في الْحَياةِ الدُّنْيا وفي الْآخِرَةِ ولم يقل بما ذا فإن العرف يعطي أن ذلك بالخير وقرينة الحال وفيه العلم بالأبد ولما ذا يرجع وهل الأبد زماني أو هو عين الزمان وبما ذا يبقى الزمان هل يبقى بنفسه أو يبقى بغيره يكون له ذلك الغير كهو معنا ظرفا لبقائه ودوامه أو هو أمر متوهم ليس له وجود حقيقي عيني والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب الأحد وثلاثمائة في معرفة منزل الكتاب المقسوم بين أهل النعيم وأهل العذاب»

إن المقرب من كانت سجيته *** سجية البر والأبرار تجهله‏

القرب منزل من لا شي‏ء يشبهه *** عينا قد أنزله فيه منزله‏

إجماله قد علا قدسا ومنزلة *** ولا لسان لمخلوق يفصله‏

إن العوالم بالميزان تدركها *** فلا تفرط ولا تفرط فتهمله‏

القرب أمر إضافي فرب أذى *** يكون قوتا لنفس منه تسأله‏

فليعطه سؤله إن كان ذا كرم *** وليتق الشح أن الشح يقتله‏

إن العذاب الذي يأتيك من كثب *** قد كنت بالغير في دنياك تنزله‏

ومن آتاه الذي قد كان يفعله *** فكيف ينكره أم كيف يجهله‏

قال الله عز وجل (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) على أي قلب ينزل (خَلَقَ الْإِنْسانَ) فعين له الصنف المنزل عليه (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي نزل عليه القرآن فأبان عن المراد الذي في الغيب (الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) ميزان حركات الأفلاك (وَ النَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدانِ) لهذا الميزان أي من أجل هذا الميزان فمنه ذو ساق وهو الشجر ومنه ما لا ساق له وهو النجم فاختلفت السجدتان (وَ السَّماءَ رَفَعَها) وهي قبة الميزان (وَ وَضَعَ الْمِيزانَ) ليزن به الثقلان (أَلَّا تَطْغَوْا في الْمِيزانِ) بالإفراط والتفريط من أجل الخسران (وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) مثل اعتدال نشأة الإنسان إذ الإنسان لسان الميزان (وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي لا تفرطوا بترجيح إحدى الكفتين إلا بالفضل وقال تعالى ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ

[ما من صنعة ولا مرتبة إلا والوزن حاكم عليه علما وعملا]

فاعلم أنه ما من صنعة ولا مرتبة ولا حال ولا مقام إلا والوزن حاكم عليه علما وعملا فللمعاني ميزان بيد العقل يسمى المنطق يحوي على كفتين تسمى المقدمتين وللكلام ميزان يسمى النحو يوزن به الألفاظ لتحقيق المعاني التي تدل عليه ألفاظ ذلك اللسان ولكل ذي لسان ميزان وهو المقدار المعلوم الذي قرنه الله بإنزال الأرزاق فقال وما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ولكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ وقد خلق جسد الإنسان على صورة الميزان وجعل كفتيه يمينه وشماله وجعل لسانه قائمة ذاته فهو لأي جانب مال وقرن الله السعادة باليمين وقرن الشقاء بالشمال وجعل الميزان الذي يوزن به الأعمال على شكل القبان ولهذا وصف بالثقل والخفة ليجمع بين الميزان العددي وهو قوله تعالى بِحُسْبانٍ وبين ما يوزن بالرطل وذلك لا يكون إلا في القبان فلذلك لم يعين الكفتين بل قال فَأَمَّا من

ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ في حق السعداء وأَمَّا من خَفَّتْ مَوازِينُهُ في حق الأشقياء ولو كان ميزان الكفتين لقال وأما من ثقلت كفة حسناته فهو كذا وأما من ثقلت كفة سيئاته فهو كذا وإنما جعل ميزان الثقل هو عين ميزان الخفة كصورة القبان ولو كان ذا كفتين لوصف كفة السيئات بالثقل أيضا إذا رجحت على الحسنات وما وصفها قط إلا بالخفة فعرفنا إن الميزان على شكل القبان ومن الميزان الإلهي قوله تعالى أَعْطى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وزنت أنا وأبو بكر فرجحت ووزن أبو بكر بالأمة فرجحها!

[الأمر محصور في علم وعمل‏]

واعلم أن الأمر محصور في علم وعمل والعمل على قسمين حسي وقلبي والعلم على قسمين عقلي وشرعي وكل قسم فعلى وزن معلوم عند الله في إعطائه وطلب من العبد لما كلفه أن يقيم الوزن بالقسط فلا يطغى فيه ولا يخسره فقال تعالى لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ وهو معنى أَلَّا تَطْغَوْا في الْمِيزانِ ولا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ وهو قوله وأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ فطلب العدل من عباده في معاملتهم مع الله ومع كل ما سوى الله من أنفسهم وغيرهم فإذا وفق الله العبد لإقامة الوزن فما أبقى له خيرا إلا أعطاه إياه فإن الله قد جعل الصحة والعافية في اعتدال الطبائع وأن لا يترجح إحداهن على الأخرى وجعل العلل والأمراض والموت بترجيح بعضهن على بعض فالاعتدال سبب البقاء والانحراف سبب الهلاك والفناء وترجيح الميزان في موطنه هو إقامته وخفة الميزان في موطنه إقامته فهو بحسب المقامات وإذا كان الأمر على ما قررناه‏

[إن المحقق هو الذي يقيم هذا الميزان على حسب ما يقتضيه من الرجحان‏]

فاعلم إن المحقق هو الذي يقيم هذا الميزان في كل حضرة من علم وعمل على حسب ما يقتضيه من الرجحان والخفة في الموزون بالفضل في موضعه والاستحقاق‏

فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ندب في‏

قضاء الدين وقبض الثمن إلى الترجيح فقال أرجح له حين وزن له‏

فما أعطاه خارجا عن استحقاقه بعين الميزان فهو فضل لا يدخل الميزان إذا الوزن في أصل وضعه إنما وضع للعدل لا للترجيح وكل رجحان يدخله فإنما هو من باب الفضل وإن الله لم يشرع قط الترجيح في الشر جملة واحدة وإنما قال والْجُرُوحَ قِصاصٌ وقال وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ولم يقل أرجح منها وقال فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ ولم يقل بأرجح فَمَنْ عَفا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله فرجح في الإنعام وما ندب الله عباده إلى فضيلة وكريم خلق إلا وكان الجناب الإلهي الأعلى أحق بذاك وهذا من سبق رحمته غضبه فالنار ينزل فيها أهلها بالعدل من غير زيادة والجنة ينزل فيها أهلها بالفضل فيرون ما لا تقتضيه أعمالهم من النعيم ولا يرى أهل النار من العذاب إلا قدر أعمالهم من غير زيادة ولا رجحان إلى أن يفعل الله بهم ما يريد بعد ذلك ولذلك قال في عذابهم إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وما يعلم أحد من خلق الله حكم إرادة الله في خلقه إلا بتعريفه أ لا تراه في حق السعداء يقول عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ والصورة واحدة والمدة واحدة ولم يقل في العذاب إنه غير مجذوذ لكن يقطع بأنهم غير خارجين من النار ولا يعرف حالتهم فيها في حال الاستثناء ما يفعل الله فيهم فلا يقضى في ذلك بشي‏ء مع علمنا بأن رحمته سبقت غضبه وعلمنا بأن الله يجزي كل نفس بما عملت وقد قام الدليل على الفضل في أهل السعادة وما جاء مثل ذلك في الأشقياء وهذه مسألة يقف عندها صاحب الفكر أو يحكم بغلبة الظن لا بالقطع إلا صاحب الكشف فإنه يعلم بما أعلمه الله من ذلك غير أن ابن قسي وهو من أهل هذا الشأن قال لا يحكم عدله في فضله ولا فضله في عدله وهذا كلام مجمل فلا أدري هل قاله عن كشف أو عن اعتبار وفكر وهذا الكلام من وجه ينافي‏

قوله تعالى سبقت رحمتي غضبي‏

ومن وجه لا ينافيه فإن الحقائق تعطي أن الفضل لا يحكم في العدل وأن العدل لا يحكم في الفضل فإنه ليس كل واحد من النعتين محلا لحكم الآخر وإن محل حكم الصفة أنما هو في المفضول عليه أو المعدول فيه وإنا قد علمنا من الله تعالى إن الله يتفضل بالمغفرة على طائفة من عباده قد عملوا الشر ولم يقم عليهم ميزان العدل ولا آخذهم بعدله وإنما حكم فيهم بفضله ولا يقال في مثل هذا إنه حكم فضله في عدله وهو الذي يليق بابن قسي رحمه الله إنه أنبأ عن حقيقة كما هو الأمر عليه في نفسه وإذا خالف الكشف الذي لنا كشف الأنبياء عليه السلام كان الرجوع إلى كشف الأنبياء عليه السلام وعلمنا إن صاحب ذلك الكشف قد طرأ عليه خلل بكونه زاد على كشفه نوعا من التأويل بفكره فلم يقف مع كشفه كصاحب الرؤيا فإن كشفه صحيح وأخبر عما رأى ويقع الخطاء في التعبير لا في نفس ما رأى فالكشف لا يخطئ أبدا والمتكلم في مدلوله يخطئ ويصيب إلا أن يخبر عن الله في ذلك فأما ميزان العلم العقلي فهو على قسمين قسم يدركه العقل بفكره وهو المسمى بالمنطق في المعاني وبالنحو في الألفاظ وهذا ليس هو طريق أهل هذا الشأن أعني علم ما اصطلحوا عليه من الألفاظ المؤدية إلى العلم به من البرهان الوجودي والجدلي والخطابي والكلية والجزئية والموجبة والسالبة والشرطية وغير الشرطية وإن اجتمعنا معهم في المعاني ولا بد من الاجتماع فيها ولكن لا يلزم من الاجتماع في المعنى أن لا يكون ذلك إلا من طريق هذه الألفاظ وكذلك لا يلزمنا معرفة المبتدأ والابتداء والفاعل والمفعول والمضاف والمصدر والإضافة واسم كان واسم إن والإعراب والبناء وإن علمنا المعاني ولكن لا يلزم أن نعرف هذه الألفاظ فصاحب الكشف على بصيرة من ربه فيما يدعو إليه خلقه ولكن للعقل قبول كماله فكر ولذلك القبول في الكشف ميزان قد عرفه فيقيمه في كل معلوم يستقل العقل بإدراكه لكن لا يعلمه هذا الولي من طريق الفكر وميزان المنطق فالذي دخل في طريقنا من ميزان العلم العقلي هو إذا ورد العلم الذي يحصل عقيب التقوى من قوله تعالى واتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله ومن قوله إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فالعارف عند ذلك ينظر في تقواه وما اتقى الله فيه من الأمور وما كان عليه من العمل وينظر في ذلك العلم ويناسب بينه وبين تقواه في العمل الذي كان عليه فإن موازين المناسبات لا تخطئ فإذا رأى المناسبة محققة بين العلم المفتوح عليه به وبين ذلك العمل ورأى أن ذلك العمل يطلبه فذلك العلم مكتسب له بعمله فإذا رآه خارجا عن الميزان وترتفع المناسبة أو يكون ما زاد من جنس ما حصل ولكن لا يقتضيه قوة عمله لضعف أو نقص كان في عمله فما زاد على هذا المقدار فهو من علوم الوهب وإن كان له أصل في الكسب فيتعين عليه أن يشكر الله سبحانه على‏

ما منحه فيكون ذلك الشكر يجبر له ما نقص من العمل الذي لو عمله نتج له هذا الذي وهب له فهذا مسبب قد تقدم سببه بل عاد سببا لما كان ينبغي أن يكون مسببا عنه ويزيده الله لذلك الشكر فتحا في قلبه على الحد الذي ذكرناه وتؤخذ جميع الأعمال على ذاكم فهذا حد الميزان العقلي في الطريق واختلفنا فيما يستقل العقل بإدراكه إذا أخذه الولي من طريق الكشف والفتح هل يفتح له مع دليله أم لا فذهبنا نحن إلى أنه قد يفتح له فيه ولا يفتح له في دليله وقد ذقناه وذهب بعضهم منهم صاحبنا الشيخ الإمام أبو عبد الله الكتاني بمدينة فاس سمعته يقول لا بد أن يفتح له في الدليل من غير فكر ويرى ارتباطه بمدلوله فعلمت إن الله ما فتح عليه في مثل هذا العلم إلا على هذا الحد فقال أيضا ذوقه فإخباره أنه كذا رآه صحيح وحكمه أنه لا يكون إلا هكذا باطل فإن حكمه كان عن نظره لا عن كشفه فإنه ما أخبر عن الله أنه قال له هكذا أفعله وأن غير هذا الرجل من أهل هذا الشأن قد أدرك ما ذهبنا إليه ولم يعرف دليله العقلي فأخبر كل واحد بما رآه وصدق في إخباره وما يقع الخطاء قط في هذا الطريق من جهة الكشف ولكن يقع من جهة التفقه فيه فيما كشف إذا كان كشف حروف أو صور وأما الميزان الشرعي فهو إن الله إذا أعطاك علما من العلوم الإلهية لا من غيرها فإنا لا نعتبر الغير في هذا الميزان الخاص فننظر في الشرع إن كنا عالمين به وإلا سألنا المحدثين من علماء الشرائع لا نسأل أهل الرأي فنقول لهم هل رويتم عن أحد من الرسل أنه قال عن الله كذا وكذا فإن قالوا نعم فوازنه بما علمت وبما قيل لك واعلم أنك وارث ذلك النبي في تلك المسألة أو ينظر هل يدل عليها القرآن وهو قول الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فهو الميزان وليس يلزم في هذا الميزان عين المسألة أن تكون مذكورة في الكتاب أو السنة وإنما الذي يطلب عليه القوم أن يجمعهما أصل واحد في الشرع المنزل من كتاب أو سنة على أي لسان نبي كان من آدم عليه السلام إلى محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فإن أمورا كثيرة نرد في الكشف على الأولياء وفي التعريف الإلهي لا تقبلها العقول وترمي بها فإذا قالها الرسول أو النبي عليه السلام قبلت إيمانا وتأويلا ولا تقبل من غيره وذلك لعدم الإنصاف فإن الأولياء إذا عملوا بما شرع لهم هبت عليهم من تلك الحضرة الإلهية نفحات جود إلهي كشف لهم من أعيان تلك الأمور الإلهية التي قبلت من الأنبياء عليه السلام ما شاء الله فإذا جاء بها هذا الولي كفر والذي يكفره يؤمن بها إذا جاء بها الرسول فما أعمى بصيرة هذا الشخص وأقل الأمور أن يقول له إن كان ما تقوله حق إنك خوطبت بهذا أو كشف لك فتأويله كذا وكذا إن كان ذلك من أهل التأويل وإن كان ظاهريا يقول له قد ورد في الخبر النبوي ما يشبه هذا فإن ذلك ليس هو من شرط النبوة ولا حجره الشارع لا في كتاب ولا سنة ومن هذا الباب في هذا المنزل يعلم الإنسان ميزانه من الحضرة الإلهية في‏

قوله إن الله خلق آدم على صورته‏

فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حد ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن‏

بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك‏

[أن الله قد جعل من مخلوقاته من هو أكبر من الإنسان‏]

واعلم أن الله قد جعل من مخلوقاته من هو أكبر منك وإن كان خلقه من أجلك ولكن لا يلزم إذا خلق شيئا من أجلك أن تكون أنت أكبر منه فإن السكين عمل من أجل أمور منها قطع يد السارق والنار خلقت من أجل عذاب الإنسان فالإنسان أشرف من النار لأنها خلقت من أجله فهذا الفصل لا يطرد فلا تدخله ميزانك فأنت أنت وهو هو لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فبهذا قد أعلمتك بالميزان العلمي المشروع والمعقول وما يحتاج إليه من ذلك فلنبين لك ميزان العمل‏

[إن العمل إما حسي وإما قلبي‏]

فاعلم إن العمل منه حسي وقلبي وميزانه من جنسه فميزان العمل أن ينظر إلى الشرع وكيف أقام صور الأعمال على أكمل غاياتها قلبيا كان ذلك العمل أو حسيا أو مركبا من حس وقلب كالنية والصلاة من الحركات الحسية فقد أقام الشرع لها صورة روحانية يمسكها عقلك فإذا شرعت في العمل فلتكن عينك في ذلك المثال الذي أخذته من الشارع واعمل ما أمرت بعمله في إقامة تلك الصورة فإذا فرغت منها قابلها بتلك الصورة الروحانية المعبر عنه بالمثال الذي حصلته من الشارع عضوا عضوا ومفصلا مفصلا ظاهرا وباطنا فإن جاءت الصورة فيها بحكم المطابقة من غير نقصان ولا زيادة فقد أقمت الوزن بالقسط ولم تطغ فيه ولم تخسره فإن الزيادة في الحد عين النقص في المحدود فإذا وزنت عملك مثل هذا الوزن كانت صورة عملك مقدارا للجزاء الذي عينه الحق لك عليه سواء كان ذلك العمل محمودا أو مذموما فإن الشرع أيضا كما أقام لك صورة العمل المحمود لتعمله وبينه لك لتعرفه كذلك أقام لك صورة العمل المذموم لتعرفه وتميزه من المحمود ونهاك أن تعمل عليه صورة تطابقه فإن خالفت وعملت صورة تطابق تلك الصورة طلبت تلك الصورة موازنتها من الجزاء فإن اتفق أن يدخلها الحق في الميزان بالجزاء فإنه لا يزيد عليها في المقدار وزن ذرة أصلا هذا إذا أقام الوزن عليه بالجزاء وكان عذابه في النار جزاء على قدر عمله لا يزيد ولا ينقص لا في العمل ولا في مقدار الزمان والإصرار من الأعمال المنهي عن عملها ولا يزيله إلا التوبة فإن مات عليه خيف عليه ولم يقطع وإذا أدخل الحق صورة العمل الصالح الميزان ووزنه بصورة الجزاء رجحت عليه صورة الجزاء أضعافا مضاعفة وخرجت عن الحد والمقدار منة من الله وفضلا وهو قوله تعالى من عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها كما ذكرناه وقال في الأخرى من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وقال مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ والله يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ولم يجعل للتضعيف في الخير مقدارا يوقف عنده بل وصف نفسه بالسعة فقال والله يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ والله واسِعٌ عَلِيمٌ وقال إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ وقال ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وغضبه شي‏ء فقد وسعته الرحمة وحصرته وحكمت عليه فلا يتصرف إلا بحكمها فترسله إذا شاءت وفيه رائحة الرحمة من أجل المنزل وتمسكه إذا شاءت ولهذا ليس في البسملة شي‏ء من أسماء القهر ظاهرا بل هو الله الرحمن الرحيم وإن كان يتضمن الاسم الله القهر فكذلك يتضمن الرحمة فما فيه من أسماء القهر والغلبة والشدة يقابله بما فيه من الرحمة والمغفرة والعفو والصفح وزنا بوزن في الاسم الله من البسملة ويبقى لنا فضل زائد على ما قابلنا به الأسماء في الاسم الله وهو قوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فأظهر عين الرحمن وعين الرحيم خارجا زائدا على ما في الاسم الله منه فزاد في الوزن فرجح فكان الله عرفنا بما يحكمه في خلقه وأن الرحمة بما هي في الاسم الله الجامع من البسملة هي رحمته بالبواطن وبما هي ظاهرة في الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هي رحمته بالظواهر فعمت فعظم الرجاء للجميع وما من سورة من سور القرآن إلا والبسملة في أولها فأولناها إنها إعلام من الله بالمال إلى الرحمة فإنه جعلها ثلاثا الرحمة المبطونة في الاسم الله والرحمن الرحيم ولم يجعل للقهر سوى المبطون في الاسم الله فلا عين له موجودة كالكناية في الطلاق ينوي فيه الإنسان بخلاف الصريح فافهم وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر سور القرآن أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنهم كانوا لا يعرفون كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم يجي‏ء هنا فدل أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ما لهذا الوجه تلك القوة بل هو وجه ضعيف وسبب ضعفه أنه في الاسم الله المنعوت بجميع الأسماء ما هو في اسم خاص يقتضي المؤاخذة والبراءة إنما هي‏

من الشريك وإذا تبرأ من المشرك فلكونه مشركا لأن متعلقة العدم فإن الخالق لا يتبرأ من المخلوق ولو تبرأ منه من كان يحفظ عليه وجوده ولا وجود للشريك فالشريك معدوم فلا شركة في نفس الأمر فإذا صحت البراءة من الشريك فهي صفة تنزيه وتبرئة لله من الشريك وللرسول من اعتقاد الجهل ووجه آخر في ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في كل سورة أولها ويل وأين الرحمة من الويل ولهذا كان للقراء في مثل هذه السورة مذهب مستحسن فيمن يثبت البسملة من القراء وفيمن يتركها كقراءة حمزة وفيمن يخير فيها كقراءة ورش والبسملة إثباتها عنده أرجح فأثبتناها عند قراءتنا بحرف حمزة في هذين الموضعين لما فيهما من قبح الوصل بالقراءة وهو أن يقول والْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ويل فبسملوا هنا وأما مذهبنا فيه فهو إن يقف على آخر السورة ويقف على آخر البسملة ويبتدئ بالسورة من غير وصل والقراءة في هذا الفصل على أربعة مذاهب المذهب الواحد لا يرونه أصلا وهو أن يصل آخر السورة بالبسملة ويقف ويبتدئ بالسورة هذا لا يرتضيه أحد من القراء العلماء منهم وقد رأيت الأعاجم من الفرس يفعلون مثل هذا مما لا يرتضيه علماء الأداء من القراء والمذهب الحسن الذي ارتضاه الجميع ولا أعرف لهم مخالفا من القراء الوقوف على آخر السورة ووصل البسملة بأول السورة التي يستقبلها والمذهبان الآخران وهما دون هذا في الاستحسان أن يقطع في الجميع أو يصل في الجميع وأجمع الكل أن يبتدئ بالتعوذ والبسملة عند الابتداء بالقراءة في أول السورة وأجمع على قراءة البسملة في الفاتحة جماعة القراء بلا خلاف واختلفوا في سائر سور القرآن ما لم يبتدئ أحد منهم بالسورة فمنهم من خير في ذلك كورش ومنهم من ترك كحمزة ومنهم من بسمل ولم يخير كسائر القراء ولوجه التخيير والترك وعدم الترك لهذه البسملة حكم عجيبة لا يسع الوقت لذكرها ولأنها خارجة عن مقصود هذا الباب وهي آية حيثما وقعت إلا في سورة النمل في كتاب سليمان عليه السلام فإنها بعض آية ولا أعلم فيها خلافا فهذا قد أبنت لك عن الميزان العملي والعلمي على التقريب والاختصار فلنبين لك ما يتضمنه هذا المنزل من الأمور التي لم نذكرها مخافة التطويل فاعلم إن هذا المنزل يتضمن علم علل هذه الموازين التي ذكرناها وفيه علم ما يستحقه الرب من التعظيم وفيه علم الآخرة الذي بين الدنيا ونزول الناس في منازلهم من الجنة والنار وفيه علم البعث وفيه علم بعض منازل الأشقياء والسعداء وفيه علم السور وفيه علم الاصطلام وفيه علم مراتب العالم العلوي والسفلي والطبيعي والروحاني وفيه منزل القربة ولنا فيه جزء لطيف وفيه علم المفاضلة وفيه علم موازنة الجزاء وفيه علم التخليص والامتزاج وفيه معرفة الوصف الذي لا ينبغي أن يتصف به نبي وعصمة الولي من ذلك وهو عزيز وفيه علم ما يكره في الدنيا ويمقت فاعله وهو محبوب في الآخرة وهو ذلك الفعل بعينه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب الثاني وثلاثمائة في معرفة منزل ذهاب العالم الأعلى ووجود العالم الأسفل من الحضرة المحمدية والموسوية والعيسوية»

منزل تلقين الحجج *** منزل من كان درج‏

فلا تكن كمثل من *** إن فتح الباب خرج‏

والزم وكن كمثل من *** إن فتح الباب ولج‏

من لاذ بالله احتمى *** ومن ألح يندرج‏

في كل ما تسأله *** من كل ضيق وفرج‏

قد قيل ذا في مثل *** بأن من أدلج حج‏

في مثل هذا يا أخي *** تفني النفوس والمهج‏

كم من لبيب هالك *** في بحره وسط اللجج‏

وما على نفس ترى *** فيه الهلاك من حرج‏

[إن عالم الشهادة عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى‏]

اعلم أن الغيب ظرف لعالم الشهادة وعالم الشهادة هنا كل موجود سوى الله تعالى مما وجد ولم يوجد أو وجد ثم رد إلى الغيب كالصور والأعراض وهو مشهود لله تعالى ولهذا قلنا إنه عالم الشهادة ولا يزال الحق سبحانه يخرج العالم من الغيب شيئا بعد شي‏ء إلى ما لا يتناهى عددا من أشخاص الأجناس والأنواع ومنها ما يرده إلى غيبة ومنها ما لا يرده أبدا فالذي لا يرده أبدا إلى الغيب كل ذات قائمة بنفسها وليس إلا الجواهر خاصة وكل ما عدا الجواهر من الأجسام والأعراض الكونية واللونية فإنها ترد إلى الغيب ويبرز أمثالها والله يخرجها من الغيب إلى شهادتها

أنفسها فهو عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ والأشياء في الغيب لا كمية لها إذ الكمية تقتضي الحصر فيقال كم كذا وكذا وهذا لا ينطلق عليها في الغيب فإنها غير متناهية فكم وكيف والأين والزمان والوضع والإضافة والعرض وأن يفعل وأن ينفعل كل ذلك نسب لا أعيان لها فيظهر حكمها بظهور الجوهر لنفسه إذا أبرزه الحق من غيبه فإذا ظهرت أعين الجواهر تبعتها هذه النسب فقيل كم عين ظهرت فقيل عشرة أو أكثر أو أقل فقيل كيف هي فقيل مؤلفة فعرض لها الجسمية فصحت الكيفية بالجسمية وحلول الكون واللون فقيل أين فقيل في الحيز أو المكان فقيل متى فقيل حين كان كذا في صورة كذا فقيل ما لسانه فقيل أعجمي أو عربي فقيل ما دينه فقيل شريعة كذا فقيل هل ظهر منه ما يكون من ظهور آباء كما ظهر هو من غيره فقيل هو ابن فلان قيل ما فعل قيل أكل قيل ما انفعل عن أكله قيل شبع فهذه جملة النسب التي تعرض للجواهر إذا أخرجها الله من غيبه فليس في الوجود المحدث إلا أعيان الجوهر والنسب التي تتبعه فكان الغيب بما فيه كأنه يحوي على صورة مطابقة لعالمه إذ كان علمه بنفسه علمه بالعالم فبرز العالم على صورة العالم من كونه عالما به فصورته من الجوهر ذاته ومن الكم عدد أسمائه ومن الكيف قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في

شَأْنٍ وسَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ والرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ وأمثال هذا فيما أخبر به عن نفسه كثير والأين كان الله في عماء وهو الله في السماء والزمان كان الله في الأزل والوضع وكَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله فجميع الشرائع وضعه والإضافة خالق الخلق مالِكَ الْمُلْكِ وأن يفعل بيده الميزان يخفض القسط ويرفعه وأن ينفعل يدعى فيجيب ويسأل فيعطي ويستغفر فيغفر وهذه كلها صورة العالم وكل ما سوى الله قد ظهر على صورة موجدة فما أظهر إلا نفسه فالعالم مظهر الحق على الكمال فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم إذ ليس أكمل من الحق تعالى فلو كان في الإمكان أكمل من هذا العالم لكان ثم من هو أكمل من موجدة وما ثم إلا الله فليس في الإمكان إلا مثل ما ظهر لا أكمل منه فتدبر ما قلته فهو لباب المعرفة بالله ثم إن الله اختصر من هذا العالم مختصرا مجموعا يحوي على معانيه كلها من أكمل الوجوه سماه آدم وقال إنه خلقه على صورته فالإنسان مجموع العالم وهو الإنسان الصغير والعالم الإنسان الكبير أو سم الإنسان العالم الصغير كيفما شئت إذا عرفت الأمر كما هو عليه في نفسه وعينه فانسب إليه واصطلح كما تريد فلا فضل للإنسان على العالم بجملته والعالم أفضل من الإنسان لأنه يزيد عليه درجة وهي أن الإنسان وجد عن العالم الكبير فله عليه درجة السببية لأنه عنه تولد قال تعالى ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ لأن حواء صدرت من آدم فلم تزل الدرجة تصحبه عليها في الذكورة على الأنوثة وإن كانت الأم سببا في وجود الابن فابنها يزيد عليها بدرجة الذكورة لأنه أشبه أباه من جميع الوجوه فوجب على الإنسان تعظيم أبويه فأمه العالم بأسره وأبوه معروف غير منكور والنكاح التوجه فخرج الولد على صورة أبويه ولما كان الولد لا يدعى إلا لأبيه لا ينسب إلى أمه لأن الأب له الدرجة وله العلو فينسب إلى الأشرف ولما لم يتمكن لعيسى عليه السلام إن ينسب إلى من وهبه لها بشرا سويا أعطيت أمه الكمال وهو المقام الأشرف فنسب عيسى إليها فقيل عيسى ابن مريم فكان لها هذا الشرف بالكمال مقام الدرجة التي شرف بها الرجال على النساء فنسب الابن إلى أبيه لأجلها وكمال مريم شهد لها بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولآسية امرأة فرعون فأما كمال آسية فلشرف المقام الذي ادعاه فرعون فلم يكن ينبغي لذلك المقام أن يكون العرش الذي يستوي عليه إلا موصوفا بالكمال فحصل لآسية الكمال بشرف المقام الذي شقي به فرعون ولحق بالخسران المبين وفازت امرأته بالسعادة ولشرف المقام الذي حصل لها به الكمال قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً في الْجَنَّةِ فما أنطقها إلا قوة المقام بعندك ولم تطلب مجاورة موسى ولاحد من المخلوقين ولم يكن ينبغي لها ذلك فإن الحال يغلب عليها فإن الكامل لا يكون تحت الكامل فإن التحتية نزول درجة ولما كان كمال مريم بعيسى‏

في نسبته إليها لم تقل ما قالت آسية آسية تقول نَجِّنِي من فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ ونَجِّنِي من الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ حتى لا تنتهك حرمة النسبة ومريم تقول يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا وهي بريئة في نفس الأمر عند الله فما قالت ذلك من أجل الله كما قالت آسية عِنْدَكَ فقدمته وطلبت جواره والعصمة من أيدي عداته ولكن‏

قالت ذلك مريم حياء من الناس لما علمته من طهارة بيتها وآبائها فخافت من إلحاق العار بهم من أجلها ولما ذكرنا أن العالم كان مستورا في غيب الله وكان ذلك الغيب بمنزلة الظل للشخص فلو سلخ من الظل جميعه أمر ما لخرج على صورة الظل والظل على صورة ما هو ظل له فالخارج من الظل المسلوخ منه على صورة الشخص أ لا ترى النهار لما سلخ من الليل ظهر نورا فظهرت الأشياء التي كانت مستورة بالليل ظهرت بنور النهار فلم يشبه النهار الليل وأشبه النور في ظهور الأشياء به فالليل كان ظل النور والنهار خرج لما سلخ من الليل على صورة النور كذلك العالم في خروجه من الغيب خرج على صورة العالم بالغيب كما قررناه فقد تبين لك من العلم بالله من هذا المقام ما فيه كفاية إن عرفت قدره فَلا تَكُونَنَّ من الْجاهِلِينَ وأما مسألة روح صورة هذا العالم وأرواح صور العالم العلوي والسفلي فها أنا أبسطها لك في هذه المسألة من هذا المنزل في الدرجة الثامنة منه فإن هذا المنزل يحوي على سبعة عشر صنفا من العلم هذا أحدها فنقول إن روح العالم الكبير هو الغيب الذي خرج عنه فافهم ويكفيك أنه المظهر الأكبر الأعلى إن عقلت وعرفت قوله أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وبعد أن بان لك روح العالم الكبير فبقي لك أن تعلم أرواح صور العالم هل هي موجودة عن صورة أو قبلها أو معها ومنزلة الأرواح من صور العالم كمنزلة أرواح صور أعضاء الإنسان الصغير كالقدرة روح اليد والسمع روح الأذن والبصر روح العين‏

[إن الأرواح المدبرة للصور كانت موجودة في حضرة الجمال‏]

فاعلم إن الناس اختلفوا في هذه المسألة على ما ذكرنا تفصيله والتحقيق في ذلك عندنا إن الأرواح المدبرة للصور كانت موجودة في حضرة الجمال غير مفصلة لأعيانها مفصلة عند الله في علمه فكانت في حضرة الإجمال كالحروف الموجودة بالقوة في المداد فلم تتميز لأنفسها وإن كانت متميزة عند الله مفصلة في حال إجمالها فإذا كتب القلم في اللوح ظهر صور الحروف مفصلة بعد ما كانت مجملة في المداد فقيل هذا ألف وباء وجيم ودال في البسائط وهي أرواح البسائط وقيل هذا قام وهذا زيد وهذا خرج وهذا عمرو وهي أرواح الأجسام المركبة ولما سوى الله صور العالم أي عالم شاء كان الروح الكل كالقلم واليمين الكاتبة والأرواح كالمداد في القلم والصور كمنازل الحروف في اللوح فنفخ الروح في صور العالم فظهرت الأرواح متميزة بصورها فقيل هذا زيد وهذا عمرو وهذا فرس وهذا فيل وهذه حية وكل ذي روح وما ثم إلا ذو روح لكنه مدرك وغير مدرك فمن الناس من قال إن الأرواح في أصل وجودها متولدة من مزاج الصورة ومن الناس من منع من ذلك ولكل واحد وجه يستند إليه في ذلك والطريقة الوسطى ما ذهبنا إليه وهو قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ وإذا سوى الله الصور الجسمية ففي أية صورة شاء من الصور الروحية ركبها إن شاء في صورة خنزير أو كلب أو إنسان أو فرس على ما قدره العزيز العليم فثم شخص الغالب عليه البلادة والبهيمية فروحه روح حمار وبه يدعى إذا ظهر حكم ذلك الروح فيقال فلان حمار وكذلك كل صفة تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا فيقال فلان كلب وفلان أسد وفلان إنسان وهو أكمل الصفات وأكمل الأرواح قال تعالى الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ وتمت النشأة الظاهرة للبصر في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ من صور الأرواح فتنسب إليها كما ذكرنا وهي معينة عند الله فامتازت الأرواح بصورها ثم إنه إذا فارقت هذه المواد فطائفة من أصحابنا تقول إن الأرواح تتجرد عن المواد تجردا كليا وتعود إلى أصلها كما تعود شعاعات الشمس المتولدة عن الجسم الصيقل إذا صدأ إلى الشمس واختلفوا هنا على طريقين فطائفة قالت لا تمتاز بعد المفارقة لأنفسها كما لا يمتاز ماء الأوعية التي على شاطئ النهر إذا تكسرت فرجع ماؤها إلى النهر فالأجسام تلك الأوعية والماء الذي ملئت به من ذلك النهر كالأرواح من الروح الكل وقالت طائفة بل تكتسب بمجاورتها الجسم هيئات رديئة وحسنة فتمتاز بتلك إلهيات إذا فارقت الأجسام كما إن ذلك الماء إذا كان في الأوعية أمور تغيره عن حالته إما في لونه أو رائحته أو طعمه فإذا فارق الأوعية صحبه في ذاته ما اكتسبه من الرائحة أو الطعم أو اللون وحفظ الله عليها تلك الهيئات المكتسبة ووافقوا في ذلك بعض الحكماء وطائفة قالت الأرواح المدبرة لا تزال مدبرة في عالم الدنيا فإذا انتقلت إلى البرزخ دبرت أجسادا برزخية وهي الصورة التي يرى الإنسان نفسه فيها في النوم وكذلك هو الموت وهو المعبر عنه بالصور ثم تبعث يوم القيامة في الأجسام الطبيعية كما كانت في الدنيا وإلى هنا انتهى خلاف أصحابنا في الأرواح بعد المفارقة وأما اختلاف غير أصحابنا في ذلك فكثير وليس مقصودنا إيراد كلام من ليس من‏

طريقنا

[إن الجنة التي يصل إليها من هو من أهلها في الآخرة هي مشهودة اليوم‏]

واعلم يا أخي تولاك الله برحمته إن الجنة التي يصل إليها من هو من أهلها في الآخرة هي مشهودة اليوم لك من حيث محلها لا من حيث صورتها فأنت فيها تتقلب على الحال التي أنت عليها ولا تعلم أنك فيها فإن الصورة تحجبك التي تجلت لك فيها فأهل الكشف الذين أدركوا ما غاب عنه الناس يرون ذلك المحل إن كان جنة روضة خضراء وإن كان جهنما يرونها بحسب ما يكون فيه من نعوت زمهريرها وحرورها وما أعد الله فيها وأكثر أهل الكشف في ابتداء الطريق يرون هذا وقد نبه الشرع على ذلك‏

بقوله بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة

فأهل الكشف يرونها روضة كما قال‏

ويرون نهر النيل والفرات وسيحان وجيحان نهر عسل وماء وخمر ولبن كما هو في الجنة فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أخبر أن هذه الأنهار من الجنة

ومن لم يكشف الله عن بصره وبقي في عمى حجابه لا يدرك ذلك مثل الأعمى يكون في بستان فما هو غائب عنه بذاته ولا يراه فلم يلزم من كونه لا يراه أنه لا يكون فيه بل هو فيه وكذلك تلك الأماكن التي ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنها من النار كبطن محسر بمنى وغيره ولهذا شرع الإسراع في الخروج عنه لأمته فإنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يرى ما لا يرون ويشهد ما لا يشهدون ومن الناس من يستصحبه هذا الكشف ومنهم من لا يستصحبه على ما قد أراده الله من ذلك لحكمة أخفاها في خلقه أ لا ترى أهل الورع إذا حماهم الله عن أكل الحرام من بعض علاماته عندهم إن يتغير في نظره ذلك المطعوم إلى صورة محرمة عليه فيراه دما أو خنزيرا مثلا فيمتنع من أكله فإذا بحث عن كسب ذلك الطعام وجده مكتسبا على غير الطريقة المشروعة في اكتسابه فلأهل الله تعالى أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها وآذانٌ يَسْمَعُونَ بِها وقُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وألسنة يتكلمون بها غير ما هي هذه الأعين والآذان والقلوب والألسنة عليه من الصورة فبتلك الأعين يشهدون وبتلك الآذان يسمعون وبتلك القلوب يعقلون وبتلك الألسنة يتكلمون فكلامهم مصيب فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ولكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ عن الحق والأخذ به صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ عن الله فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إلى الله وو الله إن عيونهم لفي وجوههم وإن سمعهم لفي آذانهم وإن ألسنتهم لفي أفواههم ولكن العناية ما سبقت لهم ولا الحسنى فالحمد لله شكرا حيث حيانا بتلك القلوب والألسن والآذان والأعين ولقد ورد في حديث نبوي عند أهل الكشف صحيح وإن لم يثبت طريقه عند أهل النقل لضعف الراوي ولو صدق فيه قال‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لو لا تزييد في حديثكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع‏

قال الله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وأكثر من هذا البيان الصريح ما يكون لكن أين من يفرغ محله لآثار ربه أين من ينقل ما يسمع من غير زيادة فيه هذا قليل جدا والله ولي التوفيق‏

[علم التحليل‏]

واعلم أن هذا المنزل يتضمن علم التحليل وعلم ما يحصل لأهل النار في النار من العلوم إذا دخلوها وعلم ما يعطيه عالم الطبيعة من الأسرار الإلهية التي لا تعلم من غيره وعلم السابقة واللاحقة وهي العاقبة وعلم تركيب البراهين الوجودية وعلم الإيجاد الروحاني والصوري وعلم السبب المؤدي إلى الشقاء وعلم ما يبقى به نظام العالم وحفظ صورته عليه وعلم التجلي في الحجاب وعلم الأحكام الإلهية على غير طريق الشارع وعلم توحيد الأفعال وعلم إلحاق الأعالي بالأسافل والأسافل بالأعالي وهو أو قريب منه علم التحام الأباعد بالأداني والأداني بالأباعد والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب الثالث وثلاثمائة في معرفة منزل العارف الجبرئيلي من الحضرة المحمدية»

للشمس في الفلك الأقصى علامات *** يدري بذلك أقوام إذا ماتوا

تسري به أنفس مثلي مطهرة *** لا تنجلي لهم إلا إذا باتوا

من الخمور سكارى في محاربهم *** وما لهم في وجود السكرنيات‏

فلو أراد زوال السكر صحوهم *** تتلى عليهم من القرآن آيات‏

[أن من الأرواح العلوية السماوية المعبر عنها بالملائكة هم أصحاب أمر]

اعلم أيدك الله أن من الأرواح العلوية السماوية المعبر عنها بالملائكة مقدمين لهم أمر مطاع فيمن قدموا عليه من الملإ الأعلى وهم أصحاب أمر لا أصحاب نهي ف لا يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ وقد نبه الله تعالى على إن جبريل عليه السلام منهم بقوله مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ولا يكون مطاعا إلا من له الأمر فيمن يطيعه‏

[إن للعارف أثر في العالم العلوي والسفلي بقدر مرتبة ذلك الروح‏]

فاعلم إن العارف إذا كان يمده من‏

الملإ الأعلى روح من هذه الأرواح الآمرة التي لها التقدم على غيرها كإسرافيل وإسماعيل وعزرائيل وجبريل وميكائيل والنور والروح وأمثالهم فإن العارف يكون له أثر في العالم العلوي والسفلي بقدر مرتبة ذلك الروح الذي يتولاه من هناك فمن تولاه إسرافيل يكون له من الأثر بحسب مرتبة إسرافيل وما يكون تحت نظره وأمره وكذلك كل روح بهذه المثابة له رجل أو امرأة على مقامه وهو الذي تسمعونه من الطائفة من أن فلانا على قلب آدم أو جماعة على قلب آدم وجماعة على قلب إبراهيم أي لهم من المنازل ما لإبراهيم وآدم من مقام الولاية التي لهم لا من مقام النبوة وإن كان لهم منها شرب فمن بعض مقاماتها لا كلها كالرؤيا جزء من أجزاء النبوة وغيرها وأما النبوة بالجملة فلا تحصل إلا لنبي وأما الولي فلا إلا أن يكون له من ظهره تمده وتقويه وتؤيده هكذا أخذتها مشاهدة من نفسي وأخبرت أن كل ولي كذا يأخذها من المكملين في الولاية ويترجم عنها ولكن من حجاب الظهر ويكون للنبي من الفوق أو من الأمام تنزل على قلبه أو يخاطب بها في سمعه فالولي يجد أثرها ذوقا وهو فيها كالأعمى الذي يحس بجانبه شخص ولا يعرف من هو ذلك الشخص ولهذا تقول الطائفة لا يعرف الله إلا الله ولا النبي إلا النبي ولا الولي إلا ولي مثله فالنبي ذو عين مفتوحة لمشاهدة النبوة والولي ذو عين مفتوحة لمشاهدة الولاية ذو عين عمياء لمشاهدة النبوة فإنها من خلفه فهو فيها كحافظ القرآن لأنه من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه ولم يقل في صدره ولا بين عينيه ولا في قلبه فإن تلك رتبة النبي لا رتبة الولي وأين الاكتساب من التخصيص فالنبوة اختصاص من الله يختص بها من يَشاءُ من عِبادِهِ وقد أغلق ذلك الباب وختم برسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم والولاية مكتسبة إلى يوم القيامة فمن تعمل في تحصيلها حصلت له والتعمل في تحصيلها اختصاص من الله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من يَشاءُ قال تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ كما قال تعالى نَهْدِي به من نَشاءُ من عِبادِنا فبنور النبوة تكتسب الولاية فالأولياء هم ولاة الحق على عباده والخواص منهم الأكابر يقال لهم رسل وأنبياء ومن نزل عنهم بقي عليه اسم الولاية فالولاية الفلك المحيط الجامع للكل فهم وإن اجتمعوا في منصب الولاية فالولاة لهم مراتب فالسلطان وال على الخلق والقاضي وال والمحتسب وال وأين رتبة السلطان من مرتبة صاحب الحسبة وكلهم لهم الأمر في الولاية وهكذا ما ذكرناه في حق الأنبياء والرسل والأقطاب كل ولي على مرتبته فالسلطنة لا تحصل بالكسب جملة وما عداها يتعمل في تحصيلها فثم وال يقدم للسلطان خدمة من مال أو متاع فيوليه السلطان المنصب الذي يليق به وخدم عليه وهو بمنزلة من تحصل له الولاية من عند الله بالصدقة والقرض الحسن وصلة الرحم ومن الناس من يلازم خدمة السلطان في ركوبه وخروجه ويتعرض له فإذا أمر السلطان بأمر يفعل ما لم يعين أحدا بادر هذا الشخص لامتثال أوامر السلطان فيراه السلطان ملازما مشاهدته مبادرا لأوامره فيوليه فهذا بمنزلة من تحصل له الولاية من الله بمراقبته والمبادرة لأوامر الله التي ندب إليها لا التي افترضها عليه وهوقوله ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا

فهذا معنى الكسب في الولاية وكذلك من تعرض للسلطان وخدمه عن أمره وواجهه بالأمر فرأى محافظته على الأوامر السلطانية التي أوجبها عليه لا يغفل عنها ولا يتأولها بل يأخذها على الوجوب ويسارع إليها ويسبق إلى امتثالها حين يبطى‏ء عنها ويتأولها من هو معه في رتبته فيرى له السلطان ذلك فيوليه ويعطيه النيابة عنه في رعيته كذلك المسارع إلى ما أوجب الله عليه من الطاعات وافترضها عليه وأخذ أوامره على الوجوب ولم يتأول عليه كلامه ولا أمره فإن الله يصطفيه ويوليه أكبر ولاياته وقد عرفت الكسب ومحله والاختصاص وأهله فاسلك عليه فهو الباب الذي من دخل عليه نجا وتولى ودنا وتدلى ونودي بالأفق الأعلى‏

[الولي هو من الأمناء الذين لله تعالى في خلقه‏]

واعلم أن الولي الذي تمتد إليه رقيقة روحانية جبرئيلية هو من الأمناء الذين لله تعالى في خلقه الذين لا يعرفون في الدنيا فإذا كان في الآخرة وظهرت منزلته هناك وما كان ينطوي عليه في هذه الدار مما لا يعرف هنا فإنه كان إما تاجرا في السوق أو بائعا صاحب حرفة أو صنعة أو واليا من ولاة المسلمين من حسبة أو قضاء أو سلطنة وبينه وبين الله أسرار لا تعرف منه فيقال عنه يوم القيامة عند ظهور ما كان عنده في الآخرة إن الله أمناء حيث كان هذا عندهم وما ظهروا به في الدنيا حين ظهر غيرهم بما أعطاه الله من الكشف بالكلام على الخواطر أو على‏

الأرض واختراق الهواء والمشي على الماء والأكل من الكون وما ظهر عليه شي‏ء من ذلك وهو في قوته وتحت تصريفه وأبي أن يكون إلا على ما هم عليه عامة المسلمين إلا وهم الملامية من أهل هذا الطريق خاصة كبيرهم وصغيرهم فيكون هذا الشخص في الأمة المحمدية كجبريل في الأمة الملكية مطاع الباطن فإن جبريل روح وله الباطن غير مطاع في الظاهر لو أمر لكنه لا يأمر فإنه ما امتاز عن العامة بشي‏ء فلو امتاز عندهم بخرق عادة تظهر منه مما لا يقتضيها الموطن عظم وامتثل أمره للتفوق الذي ظهر له على العامة فهذا سبب رد أمره لو أمر لكنه لا يأمر ولكنه في الباطن مطاع الأمر ورأينا من هؤلاء جماعة مثل عبد الله بن تاخمست ومثل ابن جعدون الحناوي وهو من الأوتاد كان كبير الشأن فهذا العارف الذي له هذا المقام الذي ذكرناه له التمكن من نفسه ومن مكن من نفسه فهو أقوى خلق الله فإن النفس تريد الظهور في العالم بالربوبية وصاحب هذا المقام قد خلع الله عليه من أوصاف السيادة وقواه بحيث أن يقول للشي‏ء كن فيكون ذلك الشي‏ء لمكانته من ربه فكان من قوته أنه ملك نفسه فلم يظهر عليه من ذلك شي‏ء لا في أقواله ولا في أفعاله ولا عبادته وهو ممن‏

نص عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الحديث الحسن الغريب حين خلق الله الجبال عند ميد الأرض فرست وسكن ميدها فقالت الملائكة يا ربنا هل خلقت شيئا أشد من الجبال قال نعم الحديد قالت يا ربنا هل خلقت شيئا أشد من الحديد قال نعم النار قالت يا ربنا هل خلقت شيئا أشد من النار قال نعم الماء قالت يا ربنا هل خلقت شيئا أشد من الماء قال نعم الهواء قالت يا ربنا هل خلقت شيئا أشد من الهواء قال المؤمن يتصدق بيمينه لا تعرف بذلك شماله أو قال فيخفيها عن شماله‏

وهذه حالة من ذكرنا وقد وصفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بالقوة وأن له منها أكثر مما ذكره من الأقوياء فإن النفس مجبولة على حب الرئاسة على جنسها هذا في أصل جبلتها وخلقها ومن قيل له اخرج عن جبلتك وطبعك فقد كلف أمرا عظيما فسبحان من رزقهم من القوة بحيث إن هان عليهم مثل هذا وسبب ذلك أنه أعطاهم من المعرفة بالله التي خلقوا لها ما شغلهم الوفاء بحق العبودة عن مثل هذا فهم على الطريقة المثلى التي اختارها الله لعباده ولهم المكانة الزلفى بثبوتهم عليها مكرمون عند الله وهذا العارف الذي بهذه المثابة من الأفراد الذين أفردهم الحق إليه واختصهم له وأرخى الحجاب حجاب العادة بينهم وبين الخلق فاستخلصهم لنفسه ورضي عنهم ورضوا عنه وأعطى صاحب هذا المقام من القوي المؤثرة في العالم الأعلى والأسفل ألفا ومائتي قوة قوة واحدة منها لو سلطها على الكون أعدمته ومع هذا التمكن من هذه القوي إذا نزل الذباب عليه لا يقدر على إزالته حياء من الله ومعرفة فأما المعرفة التي له فيه فإن ذلك الذباب رسول من الحق إليه وهو الذي أنزله عليه فهو يراقب ما جاءه به من العلم فإذا فرغ من رسالته إن شاء نهض إن استدعاه خالقه وإن شاء أقام فيكون هذا العارف كرسي ذلك الرسول الذبابي فهذا سبب تركه إياه ولا يشرده عن نفسه كما تفعله العامة للمعرفة وأما الحياء من الله فإن في إزالة الذباب راحة للنفس ونعيما معجلا وما خلق الله الإنسان في هذه الدار للراحة والنعيم وإنما خلق لعبادة ربه فيستحي إن يراه الله في طلب الراحة من أذى الذباب حيث إن الموطن لا يقتضيه فإن قلت فالمتنعم في الدنيا المباح له التنعم في الحلال قلنا لا نمنع ذلك في حق غير العارف ولكن العارف تحت سلطان التكليف فما من نعمة ينعم الله بها عليه باطنة كانت أو ظاهرة إلا والتكليف من الله بالشكر عليها يصحبها فذلك التكليف ينغص على العارف التنعم بتلك النعمة لاشتغاله بموازنة الشكر عليها وإذا وفى الشكر عليها فالوفاء به نعمة من الله عليه يجب عليه الشكر عليها فلا يزال متعوب الخاطر في إقامة الوزن بالقسط أن لا يخسر الميزان ومن هذه حالته كيف ينعم فظاهرها نعمة وباطنها غصص وهو لا يبرح يتقلب في نعم الله ظاهرا وباطنا ولا تؤثر عنده إلا ألما وتنغيصا والعامة تفرح بتلك النعم وتتصرف فيها أشرا وبطرا والعارف مسدود عليه في الدنيا باب الراحة في قلبه وإن استراح في ظاهره فهو يموت في كل نفس ألف موتة ولا يشعر به يقول عمر بن الخطاب ما ابتلاني الله بمصيبة إلا رأيت لله علي فيها ثلاث نعم إحداها أن لم تكن في ديني الثانية حيث لم تكن أكبر منها الثالثة ما وعد الله عليها من الثواب ومن كان في مصيبة واحدة يرى ثلاث نعم فقد انتقل إلى مصيبة أعظم من تلك المصيبة فإنه يتعين عليه إقامة ميزان الشكر على ثلاث نعم فابتلاه الله بمصيبة واحدة

ليصبر عليها وابتلته معرفته في تلك المصيبة بثلاث مصائب كلفه الله الشكر عليها حيث أعلمه بتلك النعم في تلك المصيبة الواحدة فانظر إلى معرفة عمر رضي الله عنه كيف أوجب على نفسه مثل هذا وانظر إلى ما فيها من الأدب حيث عدل عن النظر فيها من كونها مصيبة إلى رؤية النعم فتلقاها بالقبول لأن النعمة محبوبة لذاتها فرضي فكان له مقام الرضاء والاستسلام والتفويض والصبر والاعتماد على الله وأين الناس من هذا الذوق الشريف ولم يحكم أحد من الأولياء ولا قام فيه مثل هذا المقام مثل أبي بكر الصديق إلا من لا أعرفه فإنه رضي الله عنه ما ظهر قط عليه مما كان عليه في باطنه من المعرفة شي‏ء لقوته إلا يوم مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وذهلت الجماعة وقالوا ما حكى عنهم إلا الصديق فإن الله تعالى وفقه لإظهار القوة التي أعطاه لكون الله أهله دون الجماعة للامامة والتقدم والإمام لا بد أن يكون صاحيا لا يكون سكران فقامت له تلك القوة في الدلالة على إن الله قد جعله مقدم الجماعة في الخلافة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في أمته كالمعجزة للنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الدلالة على نبوته فلم يتقدم ولا حصل الأمر الإله عن طوع من جماعة وكره من آخرين وذلك ليس نقصا في إمامته كراهة من كره فإن ذلك هو المقام الإلهي والله يقول ولِلَّهِ يَسْجُدُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً فإذا كان الخالق الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يسجد له كرها فكيف حال خليفته ونائبه في خلقه وهم الرسل فكيف حال أبي بكر وغيره فلا بد من طائع وكاره يدخل في الأمر على كره لشبهة تقوم عنده إذا كان ذا دين أو هوى نفس إذا لم يكن له دين فأما من كره إمامته من الصحابة رضي الله عنهم فما كان عن هوى نفس نحاشيهم من ذلك على طريق حسن الظن بالجماعة ولكن كان لشبهة قامت عندهم رأى من رأى ذلك أنه أحق بها منه في رأيه وما أعطته شبهته لا في علم الله فإن الله قد سبق علمه بأن يجعله خليفة في الأرض وكذلك عمر وعثمان وعلي والحسن ولو تقدم غير أبي بكر لمات أبو بكر في خلافة من تقدمه ولا بد في علم الله أن يكون خليفة فتقدمهم بالزمان بأنه أولهم لحوقا بالآخرة فكان سبب هذا الترتيب في الخلافة ترتيب أعمارهم فلا بد أن يتأخر عنها من يتأخر مفارقته للدنيا ليلي الجميع ذلك المنصب وفضل بعضهم على بعض مصروف إلى الله هو العالم بمنازلهم عنده فإن المخلوق ما يعلم ما في نفس الخالق إلا ما يعلمه به الخالق سبحانه وما أعلم بشي‏ء من ذلك فلا يعلم ما في نفسه إلا إذا أوجد أمرا علمنا أنه لو لا ما سبق في علم الله كونه ما كان فالله يعصمنا من الفضول إنه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فهذا قد أبنت لك منزلة العارف من هذا المنزل على غاية الاختصار بطريق التنبيه والإيماء فإن المقام عظيم فيه تفاصيل عجيبة فلنذكر فهرست ما يتضمنه هذا المنزل من العلوم فمن ذلك علم ذهاب النور الأعظم وبقاء حكمه وهو من أعجب الأشياء وجود الحكم مع عدم عين الحاكم ويتعلق بهذه المسألة فقد النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وبقاء شريعته في المكلفين إلا في مذهب من يقول إن الشارع هو الله وهو موجود وفيه علم طموس العلوم وما سببها ومنها سبب عزل أهل المراتب من مراتبهم مع وجود الأهلية منهم ولما ذا عزلوا وهم يستحقونها وهل يصح هذا العزل أم لا مع وجود الأهلية وهل للسلطان عزل القاضي العادل إذا ولاة أو لا ينعزل في نفس الأمر إذا جار عليه السلطان وأخره عن الحكم فإن حكم وهو بهذه المثابة هل ينفذ حكمه شرعا أو لا ينفذ وبعد أن يحكم وهو بهذه المثابة لشخص بأمر ما فيأبى السلطان إمضائه ويطلب الخصم المحكوم عليه الرجوع إلى القاضي الذي ولاة السلطان فيظهر عند القاضي الثاني أن الحكم للذي كان الحكم عليه عند الأول هل لهذا المحكوم له عند القاضي الثاني أن يأخذ ما حكم له به مما كان قد انتزعه منه خصمه بالحاكم الأول أم لا وهل يصح قضاء هذا الثاني أم لا وإن صح فهل هو مستقل فيه كالأول أو هو كالنائب عن الأول إلا أنه بأمر سلطاني أو ينعزل الحاكم الأول إذا عزله السلطان من‏

هذا المنزل يعرف ذلك ومن أراد تحقيق هذه المسألة ودليلها فلينظر في النسخ الوارد في الشريعة الواحدة فيصح العزل ومن نظر في حكم المشرعين وأن الله ما عزل نبيا رسولا عن رسالته بغيره في تلك الأمة التي له إلا بعد موته قال لا ينعزل فهو على حسب ما يكشف له فافهم ومن علوم هذا المنزل علم الجور في العالم من أي حضرة صدر وما ثم إلا العدل المحض فمن أين هذا الجور وأي حقيقة ترتبط به وأي اسم يدل عليه وذهاب الرجال الذين يحفظ الله بهم العالم وعلم نزول الكلم‏

والهمم على مراكب الأعمال لم كان ذلك وعلم البعث الأخروي هل هو عام في كل حيوان أو خاص بالإنس والجان وما معنى قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وعلم الاستحالات العنصرية وعلم ما يتولد عن تأليف الروح والجسم الطبيعي وهل الجسم للروح كالمرأة للبعل في النكاح لما يتولد بينهما أم لا وهل الموت طلاق رجعي أو بائن فإن العلماء قالوا إن المرأة إذا ماتت كانت من زوجها كالأجنبية ولا بد فليس له أن يكشف عليها وذهب آخرون إلى بقاء حرمة الزوجية فله إن يغسلها وحاله معها كحاله في حياتها فإن كان رجعيا فإن الأرواح ترد إلى أعيان هذه الأجسام من حيث جواهرها في البعث وإن لم يكن رجعيا وكان بائنا فقد ترد إليها ويختلف التأليف وقد تنشأ لها أجسام أخر لأهل النعيم أصفى وأحسن ولأهل العذاب بالعكس وعلم كلام الأطفال من أين ينطقون ومن ينطقهم مثل كلام عيسى في المهد وصبي يوسف عليه السلام وجريج وأما أنا فرأيت في زماننا شخصا شابا اسمه والله أعلم عبد القادر بمدرسة ابن رواحة بمدينة دمشق فجاء وسلم فأخبرني عنه جماعة منهم الزكي بن رواحة صاحب المدرسة قالوا إن أم هذا الشاب لما كانت حاملة به عطست فحمدت الله فقال لها من جوفها يرحمك الله بصوت سمعه كل من حضر هنالك وأما أبا فكانت لي بنت ترضع وكان عمرها دون السنتين وفوق السنة لا نتكلم فأخذت ألاعبها يوما فقلت لها يا زينب فأصغت إلي فقلت لها إني أريد أن أسألك عن مسألة مستفتيا ما قولك في رجل جامع امرأته ولم ينزل ما ذا يجب عليه قالت لي يجب عليه الغسل بكلام فصيح وأمها وجدتها يسمعان فصرخت جدتها وغشى عليها وعلم النشر بعد الطي كما قال تعالى والسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وعلم المحو والإثبات وعلم تضاعف الأنوار وعلم القرب

الإلهية التي تعطي التجلي وعلم الغيبة والحضور وعلم النجوم وعلم الزمان وعلم تنزيل الشرائع وصفة من ينزل بها ومن تنزل عليه وهل هي من باب الاختصاص أم لا وعلم التأييد والسلطان والنيابة عن الحق في العالم حتى الإنسان في نفسه وعلم الكشف وما الحجاب الذي بين الناس وبين ما يكشفه هذا المكاشف وهل هو شرط في الطريق أم لا وعلم رؤية الأرواح العلوية وعلامة الصدق فيمن يدعي رؤية الأرواح الصادق فيه من الكاذب ولنا فيهم علامات تعرف من يصدق منهم ممن يكذب وعلامات أخر لنا أيضا في الصادق منهم إذا أخبر عما رأى هل هو مخبر عن الأرواح أنفسها أو عن خيالات قامت له فيتخيل أنه رأى الملك أو الجني وهو ما رأى أمثلة في خياله قامت له لقوة سلطان الخيال عليه خارجة عن وهمه فلنا في مثل هؤلاء علامات فهو يصدق فيما يراه ويخطئ في الحكم أنه رأى ملكا أو جانا وذلك المرئي ليس بملك ولا جان فهذا من خصائص علم هذا المنزل وعلم الوعيد ولما ذا يرجع ومن عارض القرآن من أين أتى عليه كالحلاج حين دخل عليه عمرو بن عثمان المكي فقال له يا حلاج ما تصنع فقال هو ذا أعارض القرآن فدعا عليه فكانت المشيخة تقول ما أصيب الحلاج إلا بدعاء هذا الشيخ عليه وكالمهذب ثابت بن عنتر الحلوي لقيته بالموصل سنة إحدى وستمائة عارض القرآن وسمعته يتلو منه سورا وكان في مزاجه اختلال إلا أنه كان من أزهد الناس وأشرفهم نفسا ومات في تلك السنة وفي هذا المنزل علم المشيئة المحدثة هل لها أثر في الأفعال كما تقوله الأشاعرة في مسألة الكسب أو لا أثر لها وهل هي مظهر من مظاهر الحق أو تكون في وقت من مظاهر الحق وهي المشيئة التي ينفذ حكمها وفي أوقات لا تكون مظهر الحق فتكون قاصرة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب الرابع وثلاثمائة في معرفة منزل إيثار الغناء على الفقر من المقام الموسوي وإيثار الفقر على الغناء من الحضرة العيسوية»

غنى نفس المحقق مستعار *** وفقر النفس ذل وانكسار

فلو أن الفقير يكون ملكا *** لزار العالمين ولا يزار

ولو أن الغني يكون عبدا *** لكان له التقدم والفخار

فحكم الجهل قد عم البرايا *** ولا تدري لحكم العلم دار

«و من هذا المنزل أيضا قولنا»

الكون أعمى لنقص كامن فيه *** والنور ليس به نقص فيخفيه‏

لك الكمال ولي ضد الكمال لذا *** بيني وبينك وعدما نوفيه‏

قد قلت إنك معروف بمعرفتي *** وبحر جهلي عقلي مغرق فيه‏

هبني من الحال ما قد كنت فيه لكم *** لا لي فإن حجابي في تجليه‏

إني لا عجب مني حين أسرى بي *** وكيف أثر قربى في تدليه‏

لو لا دنوي لما قام التدلل به *** وما أنا علة فيما يؤديه‏

فقل لعلمك لا تفرح فما ظفرت *** يداك إلا بجهل ظاهر فيه‏

«و من هذا المنزل أيضا قولنا»

لو لا دنوي لما تدلى *** ولا تدانى ولا تجلى‏

فآب عنه وجود عيني *** وقد تعالى لما تحلى‏

فقمت في أرضه إماما *** خليفة سيدا معلى‏

أحكم فيه بحكم ربي *** وهو عن العين ما تخلى‏

فعند ما تم لي مرادي *** ناديت مولاي قال مهلا

خذني إلى ما خرجت منه *** فقال أهلا بكم وسهلا

[أن الله سبحانه يغار لعبده المنكسر الفقير أشد مما يغار لنفسه‏]

اعلم وفقك الله تعالى أن الله سبحانه يغار لعبده المنكسر الفقير أشد مما يغار لنفسه فإنه طلب من عباده أن يغار والله إذا انتهكت حرماته غير إن غيرتك لله تعود محمدتها عليك وغيرته عز وجل لك تعود محمدتها أيضا عليك لا عليه فهو سبحانه وتعالى يثني عليك بغيرته لك ويثني عليك بغيرتك له فأنت المحمود على كل حال وبكل وجه وهذا الفصل أرفع مقام يكون للعبد ليس وراء مقام أصلا فينبغي للعبد أن يغار لنفسه في هذا المقام ولا بد فإن الله يغار له فإذا حضر ملك مطاع نافذ الأمر وقد جاءك مع عظم مرتبته زائرا وجاءك فقير ضعيف في ذلك الوقت زائرا أيضا فليكن قبولك على الفقير وشغلك به إلى أن يفرغ من شأنه الذي جاء إليه فإن تجلى الحق عند ذلك الفقير أعلى وأجل من تجليه في صورة ذلك الملك فإنك تعاين الحق في الملك المطاع تجليا في غير موطنه اللائق به على غير وجه التنزيه الذي ينبغي له وأنى للعبد برتبة السيادة فإذا ظهر فيها وبها فقد أخل بها وأشكل الأمر على الأجانب فما عرفوا السيد من العبد إذا رأوه على صورته في مرتبته ولذلك قال تعالى واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ولا تُطِعْ من أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وقُلِ الْحَقُّ من رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومن شاءَ فَلْيَكْفُرْ أي لا تأخذكم في الله لومة لائم وكان سبب هذه الآية أن زعماء الكفار من المشركين كالأقرع بن حابس وأمثاله قالوا ما يمنعنا من مجالسة محمد إلا مجالسته لهؤلاء الأعبد يريدون بلالا وخباب بن الأرت وغيرهما فكبر عليهم إن يجمعهم والأعبد مجلس واحد وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حريصا على إيمان مثل هؤلاء فأمر أولئك الأعبد إذا رأوه مع هؤلاء الزعماء لا يقربوه إلى أن يفرغ من شأنهم أو إذا قبل الزعماء والأعبد عنده إن يخلو لهم المجلس فأنزل الله هذه الآية غيرة لمقام العبودية والفقر أن يستهضم بصفة عز وتأله ظهر في غير محله فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بعد ذلك إذا جالس هؤلاء الأعبد وأمثالهم لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يقومون من عنده ولو أطالوا الجلوس وكان يقول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله أمرني أن أحبس نفسي معهم فكان إذا أطالوا الجلوس معه يشير إليهم بعض الصحابة مثل أبي بكر وغيره إن يقوموا حتى يتسرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لبعض شئونه‏

فهذا من غيرة الله لعبده الفقير المنكسر وهو من أعظم دليل على شرف العبودة والإقامة عليها وهو المقام الذي ندعو له الناس فإن جميع النفوس يكبر عندهم رب الجاه ورب المال لأن العزة والغني لله تعالى فحيثما تجلت هذه الصفة تواضع الناس وافتقروا إليها ولا يفرقون بين ما هو عز وغني ذاتي وبين ما هو منهما عرضي إلا بمجرد مشاهدة هذه الصفة ولهذا يعظم في عيون الناس من استغنى عنهم وزهد فيما في أيديهم فترى الملوك على ما هم عليه من العزة والسلطان كالعبيد بين يدي الزهاد وذلك لغناهم بالله وعدم افتقارهم إليهم في عزهم وما في أيديهم من عرض الدنيا فإذا التمس الفقير من الغني بالمال شيئا من عز أو مال سقط من عينه بقدر ذلك مع كونه يبادر لقضاء حاجته حتى لو وزنت‏

مرتبته في قلب الملك قبل طلب تلك الحاجة ووزنتها بعد طلب الحاجة نقصت عنها بقدر ما طلب فصفة الحق تعالى حيثما ظهرت محبوبة مطلوبة عند الناس الذين لا يفرقون بين ظهورها عند من يستحقها وبين ظهورها عند من لا يستحقها ولو علم هذا الجاهل أن أفقر الناس إلى المال أكثرهم مالا وذلك أن صاحب الفقر المدقع محتاج بالضرورة إلى ما يسد به خلته فهو فقر ذاتي والغني بالمال مع كثرة ماله بحيث لو قسمه على عمره وعمر بنيه وحفدته لكفاهم ومع هذا يترك أهله وولده ويسافر بماله ويخاطر به في البحار والأعداء وقطع المفازات إلى البلاد القاصية شرقا وغربا في اقتناء درهم زائد على ما عنده لشدة فقره إليه وربما هلك في طلب هذه الزيادة وغرق ماله أو أخذ وربما استؤسر في سفره أو قتل ومع هذه المعضلات كلها لا يترك سفرا في طلب هذه الزيادة فلو لا جهله وشدة فقره ما خاطر بالأنفس في طلب الأخس فالفقير الزاهد يرى أن هذا الغني أفقر منه بكثير وهو في فقره مذموم وأن هذا الزاهد لو لا غناه بربه عن هذه الأعراض لكان أشد حرصا في طلبها من التجار والملوك ولنا في هذا المعنى أبيات منها

بالمال ينقاد كل صعب *** من عالم الأرض والسماء

يحسبه عالم حجابا *** لم يعرفوا لذة العطاء

لو لا الذي في النفوس منه *** لم يجب الله في دعاء

لا تحسب المال ما تراه *** من عسجد مشرق الراء

بل هو ما كنت يا بنيي *** به غنيا عن السواء

فكن برب العلا غنيا *** وعامل الحق بالوفاء

ولنا فيه أيضا من قصيدة

المال يصلح كل شي‏ء فاسد *** وبه يزول عن الجواد عثارة

وهذه طريقة أغفلها أهل طريقنا ورأوا أن الغني بالله تعالى من أعظم المراتب وحجبهم ذلك عن التحقيق بالتنبيه على الفقر إلى الله الذي هو صفتهم الحقيقية فجعلوها في الغني بالله بحكم التضمين لمحبتهم في الغني الذي هو خروج عن صفتهم والرجل إنما هو من عرف قدره وتحقق بصفته ولم يخرج عن موطنه وأبقى على نفسه خلعة ربه ولقبه واسمه

الذي لقبه به وسماه فقال أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فلرعونة النفس وجهالتها أرادت أن تشارك ربها في اسم الغني فرأت إن تتسمى بالغنى بالله وتتصف به حتى ينطلق عليها اسم الغني وتخرج عن اسم الفقير فانظر ما بين الرجلين وما رأيت أحدا من أهل طريقنا أشار إلى ما ذكرناه أصلا من غوائل النفوس المبطونة فيها إلا الله تعالى فهو الذي نبه عباده عليها وبعد هذا فما سمعوا وتعاموا وكم جهدت أن أرى لأحد في ذلك تنبيها عليه فما وجدت وأسأل من الله تعالى أن لا يجعلنا ممن انفرد بها وأن يشاركنا فيها إخواننا من العارفين وأما أصحابنا فإنهم أخذوها عنا وتحققوا بها في نفوسهم وما بقي عليهم فيها إلا التخلق بها وأن تكون صفتهم دائما ولكن بعد أن عرفنا أولادنا فعرفوا هذه المرتبة وتنبهوا إلى ما جهل الناس من العارفين من ذلك فقد حصل لهم خير كثير منعهم هذا القدر إن يسيئوا الأدب مع الله تعالى‏

[من إساءة الأدب في طريق الله تعالى‏]

ومن إساءة الأدب في طريق الله تعالى وهو مما يستدرج الله به العارفين عزة الشيوخ على أتباعهم من المريدين بما افتقروا إليهم فيه من التربية وامتيازهم عنهم فإن الشيخ إذا لم يوف هذا المقام حقه يحجبه فقر المريد إليه عن فقره إلى ربه حالا ويكون مشهده عند ذلك غناه بالله والغني بالله يطلب العزة وحال المحقق صاحب هذا المقام إذا رأى المريدين يفتقرون إليه فيما عنده من الله شكر الله على ذلك حيث ألزم الله به فقراء إليه يثبتونه بصفة فقرهم إليه على فقره إلى الله تعالى فإنه ربما لو لم يظهر صفة فقرهم إليه نسي فقره إلى الله تعالى فهكذا هو حال الشيخ المحقق فينظر هذا الشيخ المريدين المفتقرين إليه بعين من يثبته على طريقه لئلا تزل به القدم فيه فهو كغريق وجد من يأخذ بيده كيف يكون حب ذلك الغريق فيه حيث أمسك عليه حياته فيرى هذا الشيخ حق المريد عليه أعظم من حقه على المريد فالمريد هو شيخ الشيخ بالحال والشيخ هو شيخ المريد بالقول والتربية وإن كنت عاقلا فقد نبهتك على الطريق الأنفس فاعمل عليه فما أبقيت لك في النصيحة ولنا

أنا عبد والذل بالعبد أولى *** لا أراني للعز بالحق أهلا

فانظروني فكلما قلت قولا *** كان قولي حالا وعقدا وفعلا

إن غيري يقول إني عبد *** فإذا ما سببته قال مهلا

[فإن الفقير المؤمن هو مجلى حقيقتك وأنت مأمور بمشاهدة نفسك‏]

فيا أيها الولي الحميم لا ننسخ العلم بالظن فأخسر الأخسرين من كانت حاله هذه عزة الايمان أعلى وعزة الفقر أولى فليكن شأنك تعظيم المؤمن الفقير على المؤمن الغني بماله العزيز بجاهه المحجوب عن نفسه فإن الفقير المؤمن هو مجلى حقيقتك وأنت مأمور بمشاهدة نفسك حذر الخروج عن طريقها فالفقير المؤمن مرآتك ترى فيه نفسك والمؤمن الغني بالمال عنك هو مرآة لك صدئت فلا ترى نفسك فيها فلا تعرف ما طرا على وجهك من التغير فما عتب الله نبيه سدى بل أبان والله في ذلك عن أرفع طريق الهدى وزجر عن طريق الردي فقال كلا ردعا وزجرا لحالة تحجبك عما ذكرته وقررته لك في هذه النصيحة فلا تعدل بالغنى والعزة مستحقهما وهو الله تعالى تكن من العلماء الكمل الذين لم يدنسوا علمهم بغفلة ولا نسيان معذرة وبعد أن أبنت لك عن الطريقة المثلى التي غاب عنها الرجال الذين شهد لهم بالكمال‏

[إن الإنسان تملك الأحوال‏]

فاعلم إن الأحوال تملك الإنسان لا بد من ذلك وإذا سمعت بشخص يملك الأحوال فإنه لا يملك حالا ما إلا بحال آخر فالحال الذي أوجب له ملك هذا الحال هو الحاكم عليه في الوقت فإن الوقت له فإن بعض الناس غلط في هذه المسألة من أهل طريقنا وجعلوا من الفروق بين الأنبياء عليه السلام وبين الأولياء ملك الحال فقالوا الأنبياء يملكون الأحوال والأولياء تصرفهم الأحوال وهو غلط كبير من كل وجه فإن الإنسان لا يخلو أبدا عن حال يكون عليه به يعامل وقته وهو الحاكم عليه‏

[أن الله قد قرر في نفوس الأكابر تعظيم صفات الحق‏]

واعلم أن الله قد قرر في نفوس الأكابر من رجال الله تعظيم صفات الحق حيثما ظهرت فإن ظهرت على من هي فيه بحكم العرض كان تعظيم هذا الرجل الولي لصفة الحق لا للمحل الظاهرة فيه فإن غفل انحجب بالموصوف عن الصفة فعظمها من أجلها وينبغي أن لا يكون ذلك إلا فيمن ألبسه الحق إياها لا فيمن سرقها فكان كلابس ثوبي زور كالمتشبع بما لا يملك وإذا عظم الولي صفة الحق إذا ظهرت له في شخص وبدت له صفته في شخص آخر أعرض عن صفته إعظاما أن يعرض عن الحق بمشاهدة نفسه فلم يقصد إلا التعظيم وينجر مع ذلك تعظيم المحل الذي ظهرت فيه صفة الحق وإن كان ليس مقصودا للمعظم ومع هذا فالذي نبهناك عليه أولى وأحق بالتقديم من هذا وما أحسن‏

قول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حيث قال انزلوا الناس منازلهم أو قال أمرت أن أنزل الناس منازلهم‏

ومنازل الناس والله معلومة ولم يقل كل أحد منزلته وإنما قال الناس فالصفة التي تعمهم هي التي أمر النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن ننزلهم فيها وهي التي ذكرناها ونبهناك عليها من الذلة والافتقار وكل ما ورد في القرآن من وصف الإنسان بما ليس له بحقيقة فإنما هو في مقابلة أمر قد ادعاه من ليس من أهله فقوبل به من جنسه ليكون أنكى في حقه‏

قال في ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فنخرج منها محمدا وأصحابه فجاء ولده فأخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم واستأذنه في قتل أبيه لما سمع الله يقول لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ من حَادَّ الله ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ وكان من المنافقين فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما أريد أن يتحدث بأن محمدا يقتل أصحابه فأضاف الله العزة لرسوله وللمؤمنين في مقابلة دعوى المنافقين إياها فقال تعالى يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ لمن ينسبون العزة فكيف ينسبونها إلى غير الله من المؤمنين وما حظ الرسول والمؤمن منها ولم يقل تعالى بإخراجهم وكذلك ما أخرجهم بل هذا القائل لم يزل بالمدينة إلى أن مات ودفع لكفنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ثوبه جزاء ليد كانت له عند النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من جهة عمه العباس حين أسره في غزوة بدر فكساه هذا المنافق ثوبه فلم يبق للمنافق يوم القيامة مطالبة للنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من أجل ذلك‏

إذا رأيت عارفا قد وقع في مثل هذا فاعلم أنه ما قصد سوى تعظيم صفة الحق وتصغير نفسه فإن كنت مثله في المقام أو أكبر منه فاذكره بما عرفتك به وإذا كان هذا المقام لك وأنت شاهد له فبالضرورة تكون أكبر منه في تلك الحالة وإن كنت نازلا عنه في غيرها فعلى كل وجه ذكره وإن كان حاله الايمان في ذلك الوقت فإنه يقبل الذكرى فإن انتهرك وقال لك لمثلي تقول هذا فاعلم أنه قد سقط من عين الله وقد حجبه الله عن عبوديته وعن الايمان فاتركه فقد فعلت ما فرضه الله عليك وادع له فإن الله قد أعمى بصيرته عن سبيل‏



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de l'arabe de manière semi-automatique!