الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة البسط وأسراره |
فقد قبض بكلتا يديه على ما اعتقده ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فلو كان تسبيحهم راجعا إلى أمر واحد لم يجهل أحد تسبيح غيره وقد قال الله إن تسبيح الأشياء لا يفقه فدل على إن كل شيء يسبح إلهه بما تقرر عنده منه مما ليس عند الآخر ولما كان في قضية العقل إن الله عز وجل لا يكون محصورا وفي قضية الوقوع وجود الحصر وصف نفسه في آخر الآية بأنه حليم فلم يؤاخذ مع القدرة من زعم أن الحق على وصف كذا خاصة وما هو على وصف كذا ووصف نفسه في آخر هذه الآية بأنه غفور لما ستر به قلوبهم عن العلم به إلا من شاء من عباده فإنه أعطاه العلم به على الإجمال وقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لأنه عين كل شيء بدليل العلامة التي ثبتت عنه والشيء لا يكون مثلا لعينه لأنه عين كل شيء في كل ظل وكل فيء وكل طائفة سوى أهل الله قد نزهته أن يكون كذا ولهذا أخبر عنهم فقال وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ أي ينزه بِحَمْدِهِ أي بالثناء عليه والتنزيه البعد وما ذكر الله أنه أمرهم بتسبيحه بل أخبر أنهم يسبحون بحمده فاجعل بالك لقول الله في تلاوتك لما يقوله ربك عن نفسه وما يقوله العالم عنه وفرق ولا تحتج فيه إلا بما قاله عن نفسه لا بما يحكيه من قول العالم فيه تكن من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وحقيقة حال القبض الإلهي في إخباره تعالى عن نفسه ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له من لقائي فوصف نفسه بالكراهة وكل كاره فحاله القبض فافهم ما نبهتك عليه تعثر على الحق وقد حصل في هذا الخبر أمران موجبان للقبض وهما التردد والكراهة والغضب المنسوب إليه والغضب حكم قبض بلا شك ولكن لما كان الجناب الإلهي في اعتقاد العامة يضيق المجال فيه الذي وسعه الشارع لم نقدر على إيضاح الأمر على ما هو عليه ذلك الجناب الإلهي إذ له الاتساع الذي لا ينبغي إلا له ومن أسمائه الواسع وهو من أعظم الأسماء إحاطة وهو الاسم الذي يتضمن الأسماء الإلهية التي تطلبها الأكوان كلها لاتساعه وهي أكثر من أن تحصى كثرة وأعيانها معلومة عند أهل الله تعالى في قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله فمن كحل عين بصيرته بكحل الكشف علم ما قلناه وكل أثر وخبر ورد فيه القهر الإلهي فإنه من باب القبض الإلهي ومن هناك ظهر القبض فينا فمن وفى مقام القبض حالا وذوقا كان قبضه إلهيا بلا شك وأما القبض الذي هو عن حال الخوف كما يراه بعضهم فذلك قبض خاص يتعلق بالنفس وسواء خاف صاحبه على نفسه أو على غيره فإن كان خوفه على غيره صحبه الإشفاق إذ كان آمنا على نفسه وكخوف الأنبياء على أممهم يوم القيامة فهم وأمثالهم ممن يحزنهم الفزع الأكبر من أجل أممهم وهم ممن لا يحزنهم الفزع الأكبر من أجل أنفسهم والقبض حال خوف أبدا إلا القبض المجهول سببه فإنه أيضا مجهول الخوف فإذا ورد القبض المجهول على قلب العارف سكن تحته ولم يتحرك رأسا حتى ينقدح له السبب فيعمل عند ذلك بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك السبب من الأثر فيه في أي جانب ظهر من حق وخلق وهو من المقامات المستصحبة إلى أول قدم يلقيه في الجنة فيرتفع عنه ولا يتصف به أبدا كما يرتفع بعض حكم الأسماء الإلهية الموجودة هنا وفي الآخرة بانقضاء مدة حكمها فلا تجد قابلا فترتفع بارتفاع حكمها إذ كانت عين حكمها ومن هنا تعلم أن أعيان الأسماء الإلهية هي أعيان أحكامها ولذلك تبقي أعيانها ما بقيت أحكامها وتفني بفناء أحكامها فلو كانت الأسماء الإلهية راجعة إلى ذات المسمى موجودة قائمة بها لم يصح فناؤها ولا فناء أحكامها ولو كانت أيضا راجعة إلى ذات المسمى لكان حكمها كذلك فلم يبق أن تكون إلا لنسب وإضافات لا وجود لها في عينها فلذلك قلنا إنها عين أحكامها فتزول بزوال الحكم وتثبت بثبوته «الباب التاسع عشر ومائتان في معرفة البسط وأسراره»البسط حال ولكن ليس يدريه *** إلا الإله الذي أقامنا فيه له التحكم في الأكوان أجمعها *** به الوجود الذي تبدو معانيه وليس يحجبه عنا سوى قدر *** وهو الذي عن عيون الخلق يخفيه البغي حكم له إن كنت ذا نظر *** جاء الكتاب به لو كنت تدريه في عالم الخلق هذا الحكم ليس له *** في عالم الأمر هذا في تجليه [البسط عبارة عن حال الرجاء في الوقت]اعلم وفقك الله أن البسط عند الطائفة عبارة عن حال الرجاء في الوقت وقال بعضهم القبض والبسط أخذ وارد الوقت بحكم قهر وغلبة والبسط عندنا حال حكم صاحبه أن يسع الأشياء ولا يسعه شيء حقيقة البسط لا تكون إلا لرفيع المنزلة رفيع الدرجات فينزل بالحال إلى حال من هو في أدنى الدرجات فيساويه وهو في الجناب الإلهي في مثل قوله تعالى وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً وأعظم في النزول من ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله ولأجل هذا البسط قال من قال إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ وهذا القول تصديق قوله تعالى ولَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الْأَرْضِ ومن البسط الإلهي قوله تعالى يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ولو لا البسيط الإلهي ما تمكن لأحد من خلق الله أن يتخلق بجميع الأسماء الإلهية وأعظم تعريف في البسط الإلهي إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ويا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله فلما تمكن مثل هذا البسط في قلوب العباد ربما أثر في قلوبهم بغيا فتعدوا منزلتهم فلما علم الحق أنه ربما أثر ذلك مرضا في قلوب بعض العباد جعل دواءه تمام الآية وهو قوله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فأنزل الداء والدواء وهذا من نشر رحمته لأن الأدنى في مرتبة تقتضي أن لا يكون صاحب بسط فإن انبسط فليس له إلا أن يجول في غير ميدانه فيكون البسط من الأدنى سوء أدب ولما علم الحق هذا أمر عباده بالتخلق بمكارم الأخلاق وأثنى عليهم بها وجعل ذلك من أعظم أعمال العباد فظهروا بها عن الأمر الإلهي فكان بسطهم عبادة وقربة إلى الله وهذا من نشر رحمته واتساع مغفرته وعموم تفضله فبسط العباد بسط عن قبض وبسط الحق لا عن قبض بل له البسط ابتداء ثم بعد ذلك يكون القبض الإلهي وهوقوله صلى الله عليه وسلم إن رحمة الله سبقت غضبه فمن رحمته وبسطه أوجد الخلق ولا يكون حكم القبض والبسط إلا مع ثبوت الأغيار ولو لا الأغيار لم يتحقق بسط ولا قبض فتحقق ذلك [إن من أعظم بسط العبد أن يكون خلاقا]واعلم أن أعظم بسط العبد أن يكون خلاقا فإن تأدب في هذا البسط فهو المذكور الداخل في عموم قوله تعالى فَتَبارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فأضاف الحسن إلى الخالقين غير إن الله أحسن الخالقين إذ كان هذا النعت من خصوص وصف الإله لأنه قال تعالى في الرد على عبدة الأوثان أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ فنفى الخلق عن الخلق فلو لم يرد عموم نفي الخلق عن الخلق لم تقم به حجة على من عبد فرعون وأمثاله ممن أمر من المخلوقين أن يعبد من دون الله ولم يكن هؤلاء ممن يدخل في عموم الخالقين من قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فإنهم لم يتصفوا بالإحسان في الخلق فإن الإحسان في العباد أن تعبد الله كأنك تراه فتعلم من هو الخالق على الحقيقة فلما كان هذا النعت من خصوص وصف الإله وقد أضاف الخلق إلى الخلق انفرد هو بالنظر إلى ما أثبت من الخلق للخلق بالأحسن في ذلك فقال أحسن الخالقين وهو معنى قوله تعالى فَتَبارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ والبركة الزيادة فزاد أحسن في قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وما أحسن قوله تعالى أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ولم يقل أ أنتم تخلقون منه ولا فيه وإنما قال تخلقونه فأراد عين إيجاده منيا خاصة والاسم المصور هو الذي يتولى فتح الصورة فيه أي صورة شاء من الجنس أو غيره وهو قوله في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ فهو الاسم المصور وهنا أسرار من علوم الطبيعة لما جعل الله فيها من الاشتراك في التكوين فهل هي سبب من جملة الأسباب التي تفعل لعينها بذاتها فيكون الحق يفعل بها لا عندها أو تكون من الأسباب التي يفعل الحق مسببها عندها لا بها ويتفاوت هنا نظر النظار وأما أهل الكشف فيعلمون ذلك ابتداء عند الكشف من غير نظر لعلمهم بمرتبة الطبيعة وأن منزلتها منزلة جميع الحقائق والحقائق لا تتبدل فيجرونها مجراها وينزلونها منزلتها فبسط العلماء بالله هو عين العلم بالله فإذا علموا علموا من انبسط ومن له البسط وعلموا من انقبض ومن له القبض فيبقى عندهم كل أمر على أصله وحقيقته لا تبديل عندهم في ذلك ولا تحويل لأنهم على سنة الله فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا فأهل سنة الله لهم البسط المحقق لأن البسط نشر والنشر ظهور ولو لا الظهور ما أدركت الأشياء فبسط العارفين على يقين *** وبسط الخلق تخمين وحدس إذا خشعت الأصوات للرحمن فكيف يكون الحال مع الجبار خشوع حياء لا خشوع مهانة *** وهيبة إجلال وقبض تأدب |