الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة حملة العرش |
وقال تعالى فَلا تَخافُوهُمْ فأبان عن المحل الذي ينبغي أن لا يظهر فيه خلق الخوف ثم قال لهم خافُونِ فأبان لهم حيث ينبغي أن يظهر حكم هذه الصفة وكذلك الحسد والحرص وجميع ما في هذه النشأة الطبيعية الظاهر حكم روحانيتها فيها قد أبان الله لنا حيث نظهرها وحيث نمنعها فإنه من المحال إزالتها عن هذه النشأة إلا بزوالها لأنها عينها والشيء لا يفارق نفسه قال صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين وقال زادك الله حرصا ولا تعد وإنما قلنا الظاهر حكم روحانيتها فيها تحرزنا بذلك من أجل أهل الكشف والعلماء الراسخين في العلم من المحققين العالمين فإن المسمى بالجماد والنبات عندنا لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إياها في العادة لا يحس بها مثل ما يحسها من الحيوان فالكل عند أهل الكشف حيوان ناطق بل حي ناطق غير إن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ووقع التفاضل بين الخلائق في المزاج فإنه لا بد في كل ممتزج من مزاج خاص لا يكون إلا له به يتميز عن غيره كما يجتمع مع غيره في أمر فلا يكون عين ما يقع به الافتراق والتميز عين ما يقع به الاشتراك وعدم التميز فاعلم ذلك وتحققه [العالم كله حي عالم ناطق]قال تعالى وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وشيء نكرة ولا يسبح إلا حي عاقل عالم بمسبحه وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس والشرائع والنبوات من هذا القبيل مشحونة ونحن زدنا مع الايمان بالأخبار الكشف فقد سمعنا الأحجار تذكر الله رؤية عين بلسان نطق تسمعه آذاننا منها وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله مما ليس يدركه كل إنسان فكل جنس من خلق الله أمة من الأمم فطرهم الله على عبادة تخصهم أوحى بها إليهم في نفوسهم فرسولهم من ذواتهم إعلام من الله بإلهام خاص جبلهم عليه كعلم بعض الحيوانات بأشياء يقصر عن إدراكها المهندس النحر يرو علمهم على الإطلاق بمنافعهم فيما يتناولونه من الحشائش والمأكل وتجنب ما يضرهم من ذلك كل ذلك في فطرتهم كذلك المسمى جمادا ونباتا أخذ الله بأبصارنا وأسماعنا عماهم عليه من النطق ولا تقوم الساعة حتى تكلم الرجل فخذه بما فعله أهله جعل الجهلاء من الحكماء هذا إذا صح إيمانهم به من باب العلم بالاختلاج يريدون به علم الزجر وإن كان علم الزجر علما صحيحا في نفس الأمر وأنه من أسرار الله ولكن ليس هو مقصود الشارع في هذا الكلام فكان له صلى الله عليه وسلم الكشف الأتم فيرى ما لا نرى ولقد نبه عليه السلام على أمر عمل عليه أهل الله فوجدوه صحيحا قوله لو لا تزييد في حديثكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع فخص برتبة الكمال في جميع أموره ومنها الكمال في العبودية فكان عبدا صرفا لم يقم بذاته ربانية على أحد وهي التي أوجبت له السيادة وهي الدليل على شرفه على الدوام وقد قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ولنا منه ميراث وافر وهو أمر يختص بباطن الإنسان وقوله وقد يظهر خلاف ذلك بأفعاله مع تحققه بالمقام فيلتبس على من لا معرفة له بالأحوال فقد بينا في هذا الباب ما مست الحاجة إليه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الثالث عشر في معرفة حملة العرش»العرش والله بالرحمن محمول *** وحاملوه وهذا القول معقول وأي حول لمخلوق ومقدرة *** لولاه جاء به عقل وتنزيل جسم وروح وأقوات ومرتبة *** ما ثم غير الذي رتبت تفصيل فذا هو العرش إن حققت سورته *** والمستوي باسمه الرحمن مأمول وهم ثمانية والله يعلمهم *** واليوم أربعة ما فيه تعليل محمد ثم رضوان ومالكهم *** وآدم وخليل ثم جبريل والحق بميكال إسرافيل ليس هنا *** سوى ثمانية غر بهاليل [العرش في لسان العرب]اعلم أيد الله الولي الحميم أن العرش في لسان العرب يطلق ويراد به الملك يقال ثل عرش الملك إذا دخل في ملكه خلل ويطلق ويراد به السرير فإذا كان العرش عبارة عن الملك فتكون حملته هم القائمون به وإذا كان العرش السرير فتكون حملته ما يقوم عليه من القوائم أو من يحمله على كواهلهم والعدد يدخل في حملة العرش وقد جعل الرسول حكمهم في الدنيا أربعة وفي القيامة ثمانية فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ثم قال وهم اليوم أربعة يعني في يوم الدنيا وقوله يومئذ ثمانية يعني يوم الآخرة [العرش محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة]روينا عن ابن مسرة الجبلي من أكبر أهل الطريق علما وحالا وكشفا العرش المحمول هو الملك وهو محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة فآدم وإسرافيل للصور وجبريل ومحمد للأرواح وميكائيل وإبراهيم للأرزاق ومالك ورضوان للوعد والوعيد وليس في الملك إلا ما ذكر والأغذية التي هي الأرزاق حسية ومعنوية فالذي نذكر في هذا الباب الطريقة الواحدة التي هي بمعنى الملك لما يتعلق به من الفائدة في الطريق وتكون حملته عبارة عن القائمين بتدبيره فتدبر صورة عنصرية أو صورة نورية وروحا مدبر الصورة عنصرية وروحا مدبرا مسخرا الصورة نورية وغذاء لصورة عنصرية وغذاء علوم ومعارف لأرواح ومرتبة حسية من سعادة بدخول الجنة ومرتبة حسية من شقاوة بدخول جهنم ومرتبة روحية علمية فمبنى هذا الباب على أربع مسائل المسألة الأولى الصورة والمسألة الثانية الروح والمسألة الثالثة الغذاء والمسألة الرابعة المرتبة وهي الغاية وكل مسألة منها تنقسم قسمين فتكون ثمانية وهم حملة عرش الملك أي إذا ظهرت الثمانية قام الملك وظهر واستوى عليه مليكه [الأجسام النورية والملائكة الكروبيون]المسألة الأولى الصورة وهي تنقسم قسمين صورة جسمية عنصرية تتضمن صورة جسدية خيالية والقسم الآخر صورة جسمية نورية فلنبتدئ بالجسم النوري فنقول إن أول جسم خلقه الله أجسام الأرواح الملكية المهيمة في جلال الله ومنهم العقل الأول والنفس الكل وإليها انتهت الأجسام النورية المخلوقة من نور الجلال وما ثم ملك من هؤلاء الملائكة من وجد بواسطة غيره إلا النفس التي دون العقل وكل ملك خلق بعد هؤلاء فداخلون تحت حكم الطبيعة فهم من جنس أفلاكها التي خلقوا منها وهم عمارها وكذلك ملائكة العناصر وآخر صنف من الأملاك الملائكة المخلوقون من أعمال العباد وأنفاسهم فلنذكر ذلك صنفا صنفا في هذا الباب إن شاء الله تعالى اعلم أن الله تعالى كان قبل إن يخلق الخلق ولا قبلية زمان وإنما ذلك عبارة للتوصيل تدل على نسبة يحصل بها المقصود في نفس السامع كان جل وتعالى في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وهو أول مظهر إلهي ظهر فيه سرى فيه النور الذاتي كما ظهر في قوله الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ فلما انصبغ ذلك العماء بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجسام الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم فلما أوجدهم تجلى لهم فصار لهم من ذلك التجلي غيبا كان ذلك الغيب روحا لهم أي لتلك الصور وتجلى لهم في اسمه الجميل فهاموا في جلال جماله فهم لا يفيقون [العقل الأول قطب عالم التدوين والتسطير]فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء الملائكة الكروبيين وهو أول ملك ظهر من ملائكة ذلك النور سماه العقل والقلم وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية وحد فقبل بذاته علم ما يكون وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي فاشتق من هذا العقل موجودا آخر سماه اللوح وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه جميع ما يكون إلى يوم القيامة لا غير وجعل لهذا القلم ثلاثمائة وستين سنا في قلميته أي من كونه قلما ومن كونه عقلا ثلاثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تغترف من ثلاثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح فهذا حصر ما في العالم من العلوم إلى يوم القيامة فعلمها اللوح حين أودعه إياها القلم فكان من ذلك علم الطبيعة وهو أول علم حصل في هذا اللوح من علوم ما يريد الله خلقه فكانت الطبيعة دون النفس وذلك كله في عالم النور الخالص [العرش وعماره من الملائكة]ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فعند ما أوجدها أفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة فلأم شعثها ذلك النور فظهر الجسم المعبر عنه بالعرش فاستوى عليه الاسم الرحمن بالاسم الظاهر فذلك أول ما ظهر من عالم الخلق وخلق من ذلك النور الممتزج الذي هو مثل ضوء السحر الملائكة الحافين بالسرير وهو قوله وتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ من حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فليس لهم شغل إلا كونهم حافين من حول العرش يسبحون بحمده وقد بينا خلق العالم في كتاب سميناه عقلة المستوفز وإنما نأخذ منه في هذا الباب رءوس الأشياء [الكرسي وعماره من الملائكة]ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته فكل فلك أصل لما خلق فيه من عمارة كالعناصر فيما خلق منها من |