الفتوحات المكية

في معرفة النفس بفتح الفاء

وهو الباب 198 من الفتوحات المكية

[توجه البديع على إيجاد الشرطين من المنازل‏]

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[13] - [توجه البديع على إيجاد الشرطين من المنازل‏]

وكذلك توجه هذا الاسم على إيجاد الشرطين من المنازل ليبين بذلك عين البروج المقدرة في الفلك الأطلس إذ ليس لها علامة تعرف بها فجعل لها هذه المنازل علامة على تلك المقادير تقطع في هذا الفلك الأطلس الجواري الخنس الكنس فيعرف بالمنازل كم قطعت من ذلك الفلك ولهذه المنازل أيضا وكل كوكب في الفلك المكوكب قطع في هذا الأطلس لكن لا يبلغ عمر الشخص الواحد إلى الشعور به وقد نقل إلينا أن بعض أهرام مصر وجد تاريخ عمله والنسر في الأسد وهو اليوم في الجدي فانظر ما مر عليها من السنين ويقول أصحاب تسيير الكواكب إن هذه الكواكب الثابتة تقطع في كل ستين سنة من الفلك درجة واحدة ونقلت عن بعضهم مائة سنة فمتى يدرك الحس انتقاله كما يدرك انتقال الجواري الخنس الكنس ثم إنا نعود إلى كلامنا في العقل الأول ومنزلته في النفس الرحماني منزلة الهمزة من حروف الإنسان فنقول إن الله لما خلق الملائكة وهي العقول المخلوقة من العماء وكان القلم الإلهي أول مخلوق منها اصطفاه الله وقدمه وولاة على ديوان إيجاد العالم كله وقلده النظر في مصالحه وجعل ذلك عبادة تكليفه التي تقربه من الله فما له نظر إلا في ذلك وجعله بسيطا حتى لا يغفل ولا ينام ولا ينسى فهو أحفظ الموجودات المحدثة وأضبطه لما علمه الله من ضروب العلوم وقد كتبها كلها مسطرة في اللوح المحفوظ عن التبديل والتحريف ومما كتب فيه فأثبته علم التبديل أي علم ما يبدل وما يحرف في عالم التغيير وإلا حالة فهو على صورة علم الله لا يقبل التبديل فلما ولاة الله ما ولاة أعطاه من أسمائه المدبر والمفصل من غير فكر ولا روية وهو في الإنسان‏

الفكر والتفكر فإذا انفرد بذلك في نفسه كان له حكم وإذا دبر مع غيره كان له حكم يقال له في عالم الإنسان المشاورة يقول تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم آمرا وشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله فحكم التدبير الذي يدبر به ولايته على أقسام سواء انفرد بالتدبير أو طلب المشاركة بحكم المشورة والسبب الموجب للمشورة كون الحق له وجه خاص في كل موجود لا يكون لغير ذلك الموجود فقد يلقى إليه الحق سبحانه في أمر ما ما لا يلقيه لمن هو أعلى منه طبقة كعلم الأسماء لآدم مع كون الملإ الأعلى عند الله أشرف منه ومع هذا فكان عند آدم ما لم يكن عندهم وقد ذكرنا في هذا الكتاب دليل تفضيل الملإ الأعلى من الملائكة على أعلى البشر أعطاني ذلك الدليل رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في رؤيا رأيتها وقبل تلك الرؤيا ما كنت أذهب في ذلك إلى مذهب جملة واحدة وإذا كان هذا فقد ينفرد في أمور نصبها في العالم بما هو مدبر ومفصل لا عن فكر فإنه ليس من أهل الأفكار وقد يشاركه في تدبيره عقل آخر مثل النفس الكلية التي أذكرها في الفصل الذي يلي هذا إن شاء الله فمثل هذا هو حظ المشورة في عالم الخلق وسبب ذلك توفية الألوهة ما تستحقه لما علم أن لله تعالى في كل موجود وجها خاصا يلقى إليه منه ما يشاء مما لا يكون لغيره من الوجوه ومن ذلك الوجه يفتقر كل موجود إليه وإن كان عن سبب فإن قلت فقد أعلمه الله علمه في خلقه حين قال له اكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة قلنا الجواب على هذا من وجهين الوجه الواحد وإن علم ما يكون فمن جملة ما أعلمه به من الكون مشورته ومشاركة غيره له في تدبيره كما نعلم أن الله يعلم ما يكون من خلقه ولكنه قال ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وأعلم من الله فلا يكون وقد جاء مثل هذا في حق الله والوجه الآخر في الجواب وهو إنا قد علمنا إن لله في كل كائن وجها يخصه وذلك الوجه الإلهي لا يتصف بالخلق وقال للقلم اكتب علمي في خلقي وما قال له اكتب علمي في الوجه الذي مني لكل مخلوق على انفراده فهو سبحانه يعطي بسبب وهو الذي كتبه القلم من علم الله في خلقه ويعطي بغير سبب وهو ما يعطيه من ذلك الوجه فلا تعرف به الأسباب ولا الخلق فوقعت المشورة ليظهر عنها أمر يمكن أن يكون من علم ذلك الوجه فيلقي إليه من شاوره في تدبيره علما قد حصل له من الله من حيث ذلك الوجه الذي لم يكتب علمه ولا حصل في خلقه ولهذا قال الله لرسوله فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله يعني على إمضاء ما اتفقتم عليه في المشورة أو ما انفردت به دونهم وقوله فَتَوَكَّلْ عَلَى الله في مثل هذا ما لم يقع الفعل فإن العزم يتقدم الفعل فقيل له توكل على الله فإنه ما يدرى ما لم يقع الفعل ما يلقي الله في نفسك من ذلك الوجه الخاص الإلهي الخارج عن الخلق وهو الأمر الإلهي فإن له الخلق والأمر فما كان من ذلك الوجه فهو الأمر وما كان من غير ذلك الوجه فهو الخلق وكذلك جرى الأمر في حركات الكواكب فيعطي كل كوكب في الدرجة الفلكية على انفراده من الحكم ما لا يعطيه إذا اجتمع معه في تلك الدرجة كوكب آخر أو أكثر فاجتماعهم بمنزلة المشورة وعدم اجتماعهم بمنزلة ما ينفرد به فيكون عن الاجتماع ما لا يكون عن الانفراد ف أَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها مما تنفرد به ومما لا تنفرد به فذلك ما يحدث من الاجتماع فإنه خارج عن الأمر الذي تنفرد به كل سماء ثم في الاجتماعات أحوال مختلفة فيكون ما يحدث بحسب اختلاف الأحوال والأحوال هنالك في القرانات كالأغراض عندنا فكل يقول بحسب غرضه ونظره قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ ثم ينزل الأمر إلى النفس الإنساني فيكون حكم الحرف الواحد خلاف حكمه إذا اجتمع مع غيره فالقاف في ق مفرد يدل على الأمر بالوقاية فإذا اجتمع مع لام جاء منه صورة تسمى قل فحدث للقاف أمر بالقول وأين هو من الأمر بالوقاية وكذلك لو اجتمع بحرف الميم ظهر من هذا الاجتماع صورة قم فحدث للقاف أمر بالقيام وهكذا ما زاد على حرف من حروف متصلة لإبراز كلمة أو منفصلة لإبراز كلمات فتحدث أمور لحدوث هذه‏

الكلمات فيقول السيد لعبده قل فيحدث في العبد القول فيقول أو قم فيقوم فيظهر من المأمور حركة تسمى قياما عن ظهور صورة ذلك الاجتماع فهكذا تحدث الكائنات في النفس الرحماني فتظهر أعيان الكلمات وهو المعبر عنها بالعالم فالكلمة ظهورها في النفس الرحماني والكون ظهورها في العماء فبما هو للنفس يسمى كلمة وأمر أو بما هو في العماء يسمى كونا وخلقا وظهور عين فجاء بلفظة كن لأنها لفظة وجودية فنابت مناب جميع الأوامر الإلهية كما نابت الفاء والعين واللام الذي هو فعل في الأوزان مناب جميع الأوزان‏

وجميع الموزونات من الأسماء والأفعال فهي حروف وزن الكلمة ووزن عين الموجود فكن قامت مقام قل وقم وخذ وقص واخرج وادخل واقترب وجميع ما يقع به الأمر فيكون إن كان أمر قيام فقيام وإن كان أمر قعود فقعود إلى جميع الأعيان فتحدث الكلمة في النفس فيحدث الكون في العماء على الميزان صلة في ذلك وهذه الصلة في أنواع ما يحدثه التدبير على الانفراد وبالمشورة في الكون فأما ما يحدث من ذلك على الانفراد وهو إذا حكم على المدبر اسمان الهيان أو خاطران في حق أصحاب الخواطر وهو في الإلهيات التردد ولا يخلو هذا المدبر في هذه الحال وغيرها من الأحوال أن يكون تحت حكم اسم إلهي من الأسماء السبعة المتحكمة في النفس وما يظهر فيه من الكلمات وهو الاسم الجامع والنافع والعاصم وهو الواقي والسريع والستار وهذه الخمسة الأسماء هي التي تعطي مقام العبودية في العالم والاسم البصير والبارئ وهما اللذان يعطيان مقام الحرية في الاسم الجامع فمنه يكون الإمداد لأهل الفضائل وهم الذين يثابرون على مكارم الأخلاق ومن هذا الاسم‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏

ويمد أيضا أهل الجمع والوجود والحماية وترك المؤاخذة بالجرائم فيذبون عن أصحابها ما يريد بهم الاسم المنتقم والمعاقب فهو معطي الأمان وهو قوله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ الله وفعله أبدا لا يكون إلا فيمن هو في مقام العبودية

وأما الاسم الإلهي النافع‏

فمنه يكون الإمداد للعلماء بالله على مراتبهم وأكثر ما يكون إمداده فيهم في علماء الأرواح وهو قوله تعالى أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً من أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الْكِتابُ ولا الْإِيمانُ ولكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً أي نور هداية ويمد أيضا أهل الجود من أصناف الكرماء خاصة وهم الذين يجودون بالعطاء قبل السؤال من كل ما يقع به المنفعة للمعطي إياه وهو مختص العطاء وإمداد هذا الاسم بالذين أقامهم الله في مقام العبودية والعبودة فإن رجال الله على إحدى حالتين إما حال عبودية أو حال حرية وقد تقدم لك باب العبودية وباب الحرية في هذا الكتاب‏

وأما الاسم الواقي‏

فهو الاسم العاصم من أمر الله فمنه يكون الإمداد للصديقين وأصحاب الأسرار وأهل النظر والأفكار في مباحثهم في المناظرات لاستخراج الفوائد في مجالس أهل الله من غير منازعة ولا يمد هذا الاسم إلا لأرباب مقام العبودية وأهل الاستكفاء بالله وهم المتوكلون على الله توكل العبد على سيده لا توكل الابن على أبيه ولا الميت على غاسله ولا الأجير على من آجره ولا توكل الموكل على وكيله‏

وأما الاسم السريع‏

فإنه مثل الواقي في أنه لا يمد إلا أهل هذا التوكل الخاص ومن هو في مقام العبودية ويكون إمداده للمنفقين بالخلف وهو قوله تعالى وما أَنْفَقْتُمْ من شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ويمد أيضا أهل البقاء لأهل الفناء وعنه يأخذون وإليه يلجئون‏

وأما الاسم الستار

وهو الغفار والغفور والغافر فهو في الإمداد مثل السريع والواقي في العبد والمتوكلين ومن هذا الاسم يكون الإمداد لأهل الاكتساب والقائلين بالأسباب مع الاعتماد على الله غير أنهم وإن اعتمدوا على الله فما في ظاهرهم الاكتفاء بالله وهكذا كل ذي سبب وإن كان من المتوكلين فما كل متوكل يظهر منه الاكتفاء بالله في ظاهره وهذا الاسم يمد أيضا أصحاب المنازل والمنازلات ولهم أبواب في هذا الكتاب نحوا من مائتي باب ترد فيما بعد إن شاء الله‏

وأما الاسم الباري‏

فمنه يكون الإمداد للاذكياء المهندسين أصحاب الاستنباطات والمخترعين الصنائع والواضعين الأشكال الغريبة عن هذا الاسم يأخذون وهو الممد للمصورين في حسن الصورة في الميزان وأعجب ما رأيت من ذلك في قونية من بلاد يونان في مصور كان عندنا اختبرناه وأفدناه في صنعته من صحة التخيل ما لم يكن عنده فصور يوما حجلة وأخفى فيها عيبا لا يشعر به وجاء بها إلينا ليختبرنا في ميزان التصوير وكان قد صورها في طبق كبير على مقدار صورة الحجلة في الجرم وكان عندنا بازي فعند ما أبصرها أطلقه من كان في يده عليها فركضها برجله لما تخيل أنها حجلة في صورتها وألوان ريشها فتعجب الحاضرون من حسن صنعته فقال لي ما تقول في هذه الصورة فقلت له هي على غاية التمام إلا أن فيها عيبا خفيا وكان قد ذكره للحاضرين فيما بينه وبينهم فقال لي وما هو هذه أوزانها صحيحة قلت له في رجليها من الطول عن موازنة الصورة قدر عرض شعيرة فقام وقبل رأسي وقال بالقصد فعلت ذلك لأجربك فصدقه الحاضرون وقالوا إنه ذكر ذلك لهم قبل أن يوقفني عليها فتعجبت من وقوع البازي عليها وطلبه إياها ويمد أيضا هذا الاسم أرباب الجود في وقت المسغبة خاصة لا المنفقين على الإطلاق من غير تقييد وهذا

الاسم لا ينظر من الرجال إلا لمن أقيم في مقام الحرية ما بينه وبين من أقيم في العبودية إمداد

وأما الاسم البصير

فإنه يمد أهل الحرية والعبودة وإمداد أهل الحرية أكثر ونظره إليهم أعظم وهذا الاسم والاسم الباري يمدان أهل الفصاحة والعبارات ولهما إعجاز القرآن وحسن نظم الكلام الرائق هذا لهذين الاسمين ويمد هذا الاسم البصير أصحاب المنازل والمنازلات في بصائرهم وهم الذين تعملوا في اكتسابها الذين أكلوا من تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ما أنزلوها بطرق العناية من غير عمل لأن أهل هذا المقام على نوعين فطائفة نزلت هذه المنازل عن تعمل واكتسبتها وطائفة نزلتها بالإنزال الإلهي عناية من غير تعمل ولا تقدم عمل بل باختصاص إلهي ويمد أيضا هذا الاسم أهل التفرقة وهم الذين يميزون ما تعطيه أعيان المظاهر في الظاهر باستعداداتها وهو مقام عجيب لا يعرفه أكثر أهل التفرقة وأكثر علم أهل التفرقة العلم بمعاني الأسماء الإلهية من حيث معانيها لا من وجه دلالتها على الذات فهذا حصر ما تعطيه هذه الأسماء وحصر من تعطيه ومنتهى العالم في هذا الباب الذي شاهدناه كشفا ألفا من العالمين لا زائد على ذلك والذي شاهدناه ذوقا وجاريناهم قدما بقدم وسابقناهم وسبقناهم في حضرتين حضرة النكاح وحضرة الشكوك ستة عشر عالما من ثماني حضرات وباقي العالم كشفا وتعريفا لا ذوقا فدخلنا في كل ما ذكرناه في هذه الإمدادات الإلهية ذوقا مع عامة أهل الله وزدنا عليهم باسم إلهي وهو الآخر أخذنا منه الرئاسة وروح الله الذي يناله المقربون من قوله تعالى فَأَمَّا إِنْ كانَ من الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ ونلت هذه المقامات في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة في مدة يسيرة في حضرة النكاح مع أهل الصفاء وفي حضرة الشكوك مع أهل القهر والغلبة من أجل الاختلال في الشروط وهي المواثيق التي أخذت على العالم بالله فمنا من غدر ومنا من وفى فكنا ممن وفى بحمد الله وهذه علوم غريبة وأذواق عزيزة لقينا من أربابها رجالا بالمغرب ورجالا بالإسكندرية ورجلين أو ثلاثة بدمشق ورجلا بسيواس كان قد نقصه من هذا المقام شي‏ء قليل فعرضه علينا فأتممناه له حتى تحقق به في زمان يسير وكان غريبا لم يكن من أهل البلاد كان من أهل أخلاط ولكل طائفة ممن ذكرنا ممن هم تحت إحاطة هذه الأسماء الإلهية التميز في ثلاث حضرات حضرة عليا وحضرة وسطي وحضرة سفلي وحضرة مشتركة


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!