و هذا القول عطف على قوله ﴿وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران:21] ذكر ذلك في معرض الثناء عليهم و ذم الذين لم يصغوا إلى ما بلغ الرسول و لا الوارث إليهم و أية فرحة أعظم ممن يفرح بثناء اللّٰه عليه ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58] و فيه علم الصفات التي يتميز بها أهل الاستحقاق حتى يوفيهم حقوقهم من تعين ذلك عليه و من الحقوق من يقتضي الثناء الجميل على من لا يوفيه حقه من ذلك كالمجرم المستحق للعذاب بأجرامه فيعفى عنه فهذا حق قد أبطل و هو محمود كما إن الغيبة حق و هي مذمومة و من عرف هذا عرف الحق ما هو و فرق بينه و بين الصدق و علم عند ذلك أن الغيبة ليست بحق و أنها صدق و لهذا يسأل الصادق عن صدقه و لا يسأل ذو الحق إذا قام به فالغيبة و النميمة و أشباههما صدق لا حق إذ الحق ما وجب و الصدق ما أخبر به على الوجه الذي هو عليه و قد يجب فيكون حقا و قد لا يجب و يكون صدقا لا حقا فلهذا يسأل الصادق عن صدقه إن كان وجب عليه نجا و إن كان لم يجب عليه بل منع من ذلك هلك فيه فمن علم الفرق بين الحق و الصدق تعين عليه أن يتكلم في الاستحقاق و فيه علم ما ينتج من ذل لغير اللّٰه على إنزاله منه منزلة ربه جهلا منه به فإن ذل للصفة من غير اعتبار المحل كان له في ذلك الذي حكم آخر و فيه علم ما يحكم على اللّٰه و هو خير الحاكمين و من هنا تعلم أن صفاته لو كانت زائدة على ذاته كما يقوله المتكلم من الأشاعرة لحكم على الذات ما هو زائد عليها و لا هو عينها و هذه مسألة زلت فيها أقدام كثيرين من العلماء و أضلهم فيها قياس الشاهد على الغائب أو طرد الدلالة شاهدا و غائبا و هذا غاية الغلط فإن الحكم على المحكوم عليه بأمر ما من غير أن يعلم ذات المحكوم عليه و حقيقته جهل عظيم من الحاكم عليه بذلك فلا تطرد الدلالة في نسبة أمر إلى شيء من غير أن تعرف حقيقة ذلك المنسوب إليه و فيه علم إن اللّٰه لا يجوز لأحد من المخلوقين التحكم عليه و لو بلغ من المنزلة ما بلغ إلى أن يأمره بذلك فيحكم عليه بأمره فيما يجوز له أن يوجبه على نفسه إن كان من العالم بخلاف الحق فإن المكلف تحت الحجر فلو أوجب على نفسه فعل ما حرم عليه فعله لم يجز له ذلك و كان كفارة ما أوجبه كفارة يمين فلم يخل عن عقوبة و إن لم يفعل ما أوجبه إذ لم يجز له ذلك و لا كفارة على من أوجب على نفسه فعل ما أبيح له فعله و لا مندوحة له إلا أن يفعله و لا بد و فيه علم المكر الخفي و تعجيل الجزاء عليه و فيه علم موجب الاضطرار في الاختيار و ما ينفع الاضطرار و فيه علم الأسباب التي تنسى العالم بأمر ما يقتضيه حكم ذلك العلم من العمل و هي كثيرة و فيه علم الحسرة و هو أن أحد لا يؤاخذه على ما جناه سوى ما جناه فهو الذي آخذ نفسه فلا يلومن إلا نفسه و من اتقى مثل هذا فقد فاز فوزا عظيما و بهذا تقوم الحجة لله على خلقه و إنه إذا تكرم عليهم بعدم تسليطهم عليهم و عفا و غفر وجب له الثناء بصفة الكرم و الإحسان و فيه علم دعوة اللّٰه عباده لما ذا يدعوهم هل إلى عمل ما كلفهم أو إلى ما ينتجه عمل ما كلفهم في الدار الآخرة و إن اللّٰه ما كلف عباده و لا دعاهم إلى تكليف قط بغير واسطة فإنه بالذات لا يدعو إلى ما فيه مشقة فلهذا اتخذ الرسل عليهم الصلاة و السلام و قال جل ثناؤه ﴿وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء:15]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية