فاعلم أيها السامع أن أهل اللّٰه إذا جذبهم الحق إليه سبحانه من مريد و مراد جعل في قلوبهم داعية إلى طلب سعادتهم فبحثوا عليها و فحصوا عنها و وجدوا في قلوبهم رقة و خشوعا و طلبا للسلامة مما الناس عليه من التكالب و التحاسد و التدابر و التنافر فإذا وفوا مكارم الأخلاق أو قاربوا ذلك وجدوا في أنفسهم داعية إلى الخلوات و الانفراد عن الناس فمنهم من أخذ في السياحة و لازم الجبال و الفلوات و منهم من كانت سياحته في البلاد كل ما أنس به أهل بلدة أو عرف فيها رحل عنها إلى غيرها و منهم من عزل في مسكنه بيتا و انفرد به و احتجب عن الناس كل ذلك ليقع له التفرد بالحق الذي دعاه إليه و الأنس به لا ليعلم و لا ليجد كونا من الأكوان من خرق عادة في ظاهر الحس أو في سره فلا يزال على كل ما ذكرناه إلى أن ينقدح له في نفسه لبعضهم أو في خياله لبعضهم أو من خارج لبعضهم من جانب الحق ما يحول بينه و بين نفسه و يستوحش من ذلك الوارد عليه و يطلب الأنس بالمخلوق في تلك الساعة فإذا سكت حكم الوارد عنه و عاد إلى حسه اشتاق إليه اشتياقا شديدا و استفرغ في محبة ذلك الوارد استفراغا عظيما و وجد حلاوته عند فقده و سرت اللذة في حسه و روحه و يأتيه في ذلك الوارد خطاب و تعريف بحاله أو بما يدعى إليه كإبراهيم بن أدهم حين نودي من قربوس سرجه ليس لهذا خلقت و لا بهذا أمرت و آخر قيل له إن كنت تطلبني فقد فقدتني في أول قدم و آخر قيل له أنت عبدي فإن كان صاحب هذا الانقطاع من أصحاب الجبال و القفار جعل له الأنس في الحيوان و إن كان سائحا في البلدان جعل له الأنس في الحركة ما بين المدينتين و إن كان ممن لزم بيته جعل له الأنس في الروحانيات و كل هذا ابتلاء إلا أن يجعل اللّٰه له الأنس في الأرواح النورية الملكية فهذا يرجى فلاحه بل يتحقق و هي بشرى من اللّٰه سارعت إليه عناية منه به و ما عدا هذا فهو على خطر عظيم فليعمل في قطعه ثم إنه منهم من يظلم عليه الجو عند الوارد فيجد لذلك غما و ضيق صدر و عصرا في قلبه فليصبر فإنه يعقبه اتساع و انشراح ثم لا تزال الأرواح تلزمه في عالم خياله في أكثر حالاته و تظهر له في الحس في أوقات فلا يرمي بذلك و لا يزهد فيه و يتعمل في إزالة التعلق به و يقف مع الفائدة التي يأتيه بها فذلك المطلوب فإن سمع خطابا من وراء حجاب نفسه فليلق السمع و هو شهيد و يع ما يسمع فإن اقتضى الكلام جوابا على قدر فهمك فلتجب بقدر فهمك فإن رزقت العلم بذلك فهي العناية الكبرى و إن لم يقتض جوابا فلتحصل ما قيل لك في خزانة حفظك فإن له موطنا يحتاج إليه فيه و لا بد فيكون عندك بحكم الاستعداد لذلك الوقت فإن اللّٰه سبحانه يقول أعددت فإذا كان الحق مع نفوذ قدرته في الآن قد أعد أمور الأوقات ظهور أحكامها فالمخلوق أولى بهذا و قال ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ﴾ [الحجر:21] و إن هنا بمعنى ما فعم بها و بشيء و جعله مخزونا في خزائن غيبه عنا و لهذا قلنا إن الكون صادر من وجود و هو ما تحويه هذه الخزائن إلى وجود و هو ظهورها من هذه الخزائن لأنفسها بالنور الذي تكشف به نفسها فإنها في ظلمة الخزائن محجوبة عن رؤية ذاتها فهي في حال عدمها و قال ﴿وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر:21] فما يتميز عنده إلا ما هو موجود له و لا يجري القدر إلا في عين مميزة عن غيرها و ليس هذا صفة المعدوم من كل وجه فدل ذلك كله على وجود الأعيان لله تعالى في حال اتصافها بالعدم لذاتها و هذا هو الوجود الأصلي الإضافي و العدم الإضافي فثبتت الأحوال للعالم و لكل ما سوى اللّٰه و أن الوجود ليس عين الموجود إلا في حق الحق سبحانه حتى لا يكون معلولا لوجوده فإنه لو كان معلولا لوجوده لكان حالا له تعالى اللّٰه عن ذلك علوا كبيرا فإذا خلص الإنسان بعد خروجه من ظلمة طبعه و هواه إلى نور عقله و هداه أربعين صباحا ظهر عنه مثل ما ظهر له و أخذ عنه مثل ما أخذ و تلك أول درجة الدينار الثالث و أول قيراط منه و لا يزال فيه حتى يجب عليه أن يطلب على من يأخذ عنه فإذا وجب عليه ذلك وجوبا شرعيا كفروض الأعيان كلها كان ذلك أول قيراط من الدينار الرابع و سمي رجلا عند ذلك و إن لم يحصل له هذا الوجوب فليس برجل فكمال الرجولية فيما ذكرناه و سواء كان ذكرا أو أنثى و أما الكمال الذاتي و هو غير كمال الرجولية فهو أن لا يتخلل عبوديته في نفسه ربانية بوجه من الوجوه فيكون وجودا في عين عدم و ثبوتا في عين نفي و لذلك أوجده الحق فكمال الرجولية عارض و كمال العبودة ذاتي فبين المقامين ما بين الكمالين و أما درجات منازل هذين الكمالين فمعلومة عندنا حيث هي فدرجة الكمال الذاتي في نفس الحق و درجات الكمال العرضي في الجنان فلهؤلاء النور و لهؤلاء الأجور قال تعالى ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [البقرة:62]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية