
كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
![]() |
![]() |
مثل سائر
كلب جوّال خير من أسد رابض.
يقول الحكيم: لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان، فإن الكريم محتال والدنيّ عيّال. وأنشد:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم وكيف ينام الليل من كان معسر
ولحبيب بن أوس الطائي:
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
وكان ابن السماك يقول: لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض، وكن اليوم مشغولا بما أنت عنه مسئول غدا، وإياك والفضول فإن حسابها يطول.
لعمرو بن أذينة:
إني علمت و خير العلم أنفعه إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعنيني تطلّبه ولو قعدت أتاني لا يعنيني
قال بعض الأعراب: كيف يفرح عاقل بعمر تنقصه الساعات؟ وسلامة بدن معرّض للآفات؟ فلقد عجبت من المرء يفرّ من الموت وهو سبيله، ولا أرى أحدا إلا سيدركه الموت؟ روينا من حديث عليّ بن الجهم، قال: كنت في مجلس محمد بن عمرو بن مسعدة، فأقبلت جارية كأنها البدر ليلة التمام، بلون كأنه الدرّ في البياض، مع احمرار الخدين، كشقائق النعمان، فسلّمت، فقال لي محمد: يا أبا الحسن، هذه الجنة التي كنتم توعدون. فقالت:
وم الوعد يا سؤلي ومنية مهجتي فإن فؤادي من مقالك طائر
فقال لها أبو محمد:
أما وإله العرش ما قلت سيئا وما كان إلا أنني لك شاكر
فقال علي بن الجهم: فأقبلت تحدثنا، فإذا عقل كامل، وجمال فاضل، وحسن قاتل، وردف مائل. فقلت لها: قد أقرّ الله عينا تراك. فقالت: أقرّ الله أعينكم، وزادكم سرورا وغبطة. ثم اندفعت تغني بنغمة لم أسمع أحسن منها، وتقول:
أروح بهمّ من هواك مبرّح أناجي به قلبا كثير التفكّر
عليك سلام لا زيارة بيننا ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فما زلنا يومنا معها في الفردوس الأعلى. وما ذكرتها بعد إلا أسفت عليها وعلى فراقها.
وروين من حديث ثور بن معن السلمي، عن أبيه، قال: قال: إني دخلت على الخنساء في الجاهلية، و عليها صدار من شعر، وهي عريانة. قال: قال أبي: دخلت عليها تجهّرا بيتها، فكلمتها في طرح الصدار، فقالت: يا أحمق، أنا أحسن منك غرسا، وأطيب منك نفسا، و أرقّ منك نقلا، وأكرم منك بعلا.
وقال عبد الرحمن بن مرة عن بعض أشياخه: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للخنساء: م أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر. قال: يا خنساء، إنهم في النار. قالت: ذاك أطول بعويلي عليهم.
وقيل: إنها أقبلت حاجّة، فمرّة بالمدينة ومعها ناس من قومها، فأتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا: هذه الخنساء، فلو وعظتها يا أمير المؤمنين، فلقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام. فقام عمر رضي الله عنه، فأتاها فقال: يا خنساء، فرفعت رأسها، فقالت: ما تشاء؟ قال: ما الذي أقرح عينيك؟ قالت: البكاء على السادات من مضر. قال: إنهم هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاد اللهب، وحشو جهنم. قالت: فذاك الذي زادني وجعا. قال: فأنشدني مما قلت، قالت: أما إني لا أنشدك مما قلت اليوم، ولكن أنشدك ما قلت الساعة. وقالت:
سقى جدث أعراق عمره دونه ويدنيه وعّاث الربيع ووابله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى على فقد من قد فات والحزن شاغله
وأرعيهم سمعي إذا ذكروا الأسى وفي الصدر مني زفرة لا تزايله
فقال: دعوها، فإنها لا تزال حزينة أبدا.
ومم يستحسن الأدباء من شعرها:
تعرّفني الدهر قرعا وغمزا وأوجعني الدهر نهشا ووخزا
وأفنى رجالي فبادوا معا وأصبح قلبي لهم مستفزّ
كأن لم يكونوا حمى يتّقى من الناس إذ ذاك من عزّ بزّا
وكانوا سراة بني مالك وزين العشيرة مجدا وعزّ
وهم في القديم ضحاح الأديم والكائنون من البأس حرزا
بسمر الرماح وبيض الصفاح فبالبيض ضربا وبالسمر وخز
وخيل تكردس بالدّارعين وتحت العجاجة يجمزن جمزا
جززنا نواصي فرسانها وكانوا يظنون أن لا تجزّ
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب أن لا يصاب فقد ظن عجزا
تعفّ وتعرف حق القرى وتتخذ الحمد ذخرا وكنز
وتلبس في الحرب نسج الحديد وفي السلم تلبس خزّا وقزّ
حدثنا أبو جعفر الوزعي، قال: روى الأصمعي، عن رجل من أهل الشام، وهو عبد الله بن الحارث، قال: قدمت المدينة، فقصدت منزل ابن هرمة، فإذا ابنة صغيرة له تلعب، فقلت لها: أي بنيّة، ما فعل أبوك؟ قالت: يا عم، إنه قد وفد على بعض الإخوان، قال: قلت: فانحري لي ناقة، فأنا أضيافك، فقالت: يا عم، ما عندنا شيء، قلت: فباطل ما قال أبوك؟ قالت: وما قال؟ قلت: قال:
كم ناقة قد وجات منحرها بمنهل أكبر ثور أو جمل
قالت: يا عم، فذاك القول من أبي أصارنا إلى أن ليس عندنا شيء، قالت: فتعجبت من سرعة جوابها المسكت.
ذكر أبو حيّان التوحيدي في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أن الفرس إذا وطئ أثر الذئب ارتعد و خرج الدخان من جسده كله، والذئب إن رأى الإنسان يطأ خطوه وهو ساكت سكت عنه، فإن رآه خاف وجبن، اجترأ وحمل عليه. وإذا وطئ الذئب على ورق العنصل مات من ساعته. و لذلك يأتي الثعلب بها في جحره لئلا يأتي الذئب فيأكل ولده.
حمار الوحش إذا ولدت أولادا ذكورا أو إناثا، جاء الفحل فانتزع خصي تلك الذكور وقطعه بأسنانه لكيلا يصاد ويشاركه في طروقته. فربما تضع الأنثى أولادها في موضع ل يعرفه الفحل حتى يشتدوا، وبهذا السبب يقلّ فيها الفحول.
الحريش: دابة صغيرة في جرم الحربي ساكنة جدا، غير أنها من قوة الجسم وسرعة العدو ما يعجز القانص. ولها من وسط رأسها قرن واحد منتصب مستقيم، به تناطح جميع
الحيوان فلا يغلبها شيء. وصورة الحيلة في صيدها أن تتعرض لها جارية حسناء عذراء وضيئة، فإن هذه الدابة إذا رأت الفتاة وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع. وهذه فيه محبة طبيعية ثابتة، فإذا صارت إلى حجر الجارية أرضعتها من ثديها على غير حضور لبن فيها، حتى تصير كالنشوان من الخمر والوسنان من النوم. فيأتيها القانص وهي على تلك الحالة فيشدها وثاقا على سكون منها بهذه الحيلة.
قال أبو حيّان: إن أسنان الرجل في فيه اثنان وثلاثون سنّا، وأسنان المرأة ثلاثون، و أسنان الخصي ثمان وعشرون، وأسنان الخصي من البقر أربعة وعشرون، وأسنان الشاة إحدى وعشرون سنّا، وأسنان المعز تسعة عشر سنّا. قال: ومن كان من الحيوان أسنانه قليلة فعمره قصير، ومن كانت أسنانه كثيرة فعمره طويل.
قال: و الفيل إذا ولد نبتت أسنانه في الحال، فأما أسنانه الكبار وأنيابه الطوال فتظهر إذا كبر وشبّ.
قال: و الذي يكسب معاشه بالليل من الحيوان: البومة والوطواط. قال: الرجال يشتاقون إلى الجماع في الشتاء. وقال: كل ما كان من البيض مستطيلا مجرد الطرف يفرح الإناث، و ما كان مستديرا عريض الأطراف يفرّح الذكور. وقال: من الحيوان إذا هاج ووقفت الأنثى قابلة الذكر وهبّت الريح من ناحية الذكر مقبلة إلى ناحيتها حملت من ساعتها. قيل: اسم هذا الحيوان القبح.
وأخبرني جماعة، من جملتهم ما كان صاحب تاريخ وتجاريب. وقد وقع بيننا ذكر الثعبان العظيم، قال: تعرفون من أبوه ومن أمه؟ قلنا: لا. قال: إن العقاب ينكح الأنثى من الثعالب فتحمل، فإذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة ووضعت فيها قطع لحم لها ارتعاش وارتعاد، فتأكل بعضها بعضا تحت الأرض حتى تبقى واحدة، فينشأ من تلك الواحدة هذا التنين العظيم.
ولنا في أسماء الطبيعة:
إن الضريبة والسليقة والخليقة والغريزة هي الطبيعة والنجيبة والسجية والنخيزة
وكذاك شنشنة يقا ل وشيمة لغة عزيزة
وكتب أبو هاشم الحرّاني إلى بعض الأمراء، عرض من الأمير معوز، والصبر على الحرمان معجز.
وكتب بعضهم إلى صديق له: أما بعد، فقد أصبح لنا من نعم الله ما لا نحصيه، مع
كثرة ما نعصيه، وما ندري ما نشكر، جميل ما ينشر أم كثير ما يستر، أم عظيم ما أبلى أم كثير ما عفا. غير أنه يلزمنا في كل الأمور شكره، ويجب علينا حمده. فاستزد الله في حسن بلائه، كشكرك في حسن آلائه.
سئل بعض البلغاء عن النطق والصمت، فقال: أخزى الله الساكنة ما أفسدها للّسان وأجلبه للعي، وو الله لا مماراة في استخراج حق أهدم للعي من النار في يابس العرفج.
فقيل له: قد عرفت ما في المماراة من الذم. فقال: ما فيها أقل ضررا من السكتة التي تورث عللا، وتولد داء أيسره العي. ولبعضهم في الكتمان:
صن السر بالكتمان يرضيك غبّه فقد يظهر السر المذيع فيندم
حدثنا مصعب بن محمد، قال: دخل أبو العتاهية على المهدي وقد ذاع سره في غيبته، فقال له: ما أحسنت في حبك ولا أجملت في إذاعة سرك، فقال:
من كان يزعم أن سيكتم حبه حتى يشكك فيه فهو كذوب
الحب أغلب للرجال بقهره من أن يرى للستر فيه نصيب
فإذا بدا سرّ اللبيب فإنه لم يبد إلا والفتى مغلوب
إني لأحسد ذا هوى مستحفظا لم تتهمه أعين وقلوب
فاستحسن المهدي شعره، وقال: قد عذرناك على إذاعة سرك، ووصلناك على حسن عذرك، على أن كتمان السر أحسن من إذاعته.
وقال آخر:
لا يكتم السر إلا كل ذي خطر والسر عند كريم الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق قد ضاع مفتاحه والباب مردوم
قال زياد: ليس للسر موضع إلا أحد رجلين: إما صاحب آخرة يرجو ثواب الله، وإم صاحب دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون به حسبه، وهما معدومان في هذا الوقت.
![]() |
![]() |