الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


مثل سائر

أبخل من صاحب نجيح. حدثنا أبو ذرّ بن محمد بن مسعود، قال: ذكر أن نجيح بن شاكة اليربوعي خرج يوما إلى الصيد، فأثار حمار وحش، فمضى أمامه، وأتبعه نجيح، إلى أن رفعه إلى أكمة في فلاة، عليها رجل قاعد، فدنا منه، فإذا هو أعمى أسود في أطمار، بين يديه ذهب وفضة ودرّ وياقوت. فدنا نجيح من المال، فتناول بعضه، فلم

يستطع أن يحرّك به يده، حتى ألقاه من يده، فقال: يا هذا، ما الذي بين يديك؟ وكيف يستطاع أخذه؟ فإني لم أجد له سبيلا. فهو لك أم لغيرك؟ فإني أعجب مما أرى منه، فإن كنت أيها الرجل جوادا فإني ذو حاجة إليه، فجد بأي ما شئت منه. وإن كنت بخيلا فأخبرني أعذرك. فقال له الأعمى: اطلب رجلا قد غاب منذ سنين، وهو سعد بن خشرم بن شماس، فائتني به يعطيك ما تشاء مما تريد. قال: فانطلق نجيح مسرعا، وقد استطار مما رأى فؤاده، حتى وصل إلى قومه، ودخل خباءه، ووضع رأسه، ونام لما به من الغم، لا يدري من سعد بن خشرم؟ فأتاه آت في منامه، فقال له: يا نجيح، إن سعد بن خشرم في حي بني محلم، من ولد ذهل بن شيبان. فاسأل عن بني محلم، ثم سل عن سعد بن خشرم بن شماس. فإذا هو بشيخ قاعد على باب خبائه، يعني خشرم أبا سعد، فجاءه نجيح وسلّم عليه، فرد عليه خشرم. فقال له نجيح: من أنت؟ قال: أنا خشرم.

قال: فأين سعد؟ قال: خرج في طلب نجيح اليربوعي. فعرف نجيح القصة وكتمه في نفسه. وصرف نجيح فرسه ومضى وهو يقول:

يطلبني من قد عناني طلابه فيا ليتني ألقاك سعد بن خشرم

أتيت ابن يربوع لتبغي لقاءه وجئت لكي ألقاك حي محلم

فلما دنا نجيح من محلته، استقبله سعد. فقال له نجيح: يا أيها الركب، لقيت سعدا في بني يربوع؟ قال: أنا سعد، فهل تدلني على نجيح؟ قال: أنا نجيح. وحدثه بالحديث.

فقال سعد: الدال على الخير كفاعله. وهو أول من قاله. فانطلقا حتى أتيا ذلك المكان فتوارى الأعمى، فأخذه سعد كله. فقال نجيح: يا سعد، قاسمني. فقال له: أطوعن مالي كشحا. وأبي أن يعطيه. فانتضى نجيح سيفه فجعل يضربه حتى برد. فلما وقع قتيلا تحوّل الرجل الحافظ للمال ثعلا وأسرع في أكل سعد وعاد المال إلى مكانه. فلما رأى نجيح ذلك ولّى هاربا إلى قومه.

ويقال في المثل: أبخل من أبي عبس، وكان من شأنه إذا وقع الدرهم في يده نقره بإصبعه، ثم يقول: كم من مدينة قد دخلتها؟ ويد قد وقعت فيها؟ فالآن استقر بك القرار، واطمأن بك الدار. ثم يرمي به في صندوقه فيكون آخر العهد به.

وشبيه ذلك شخص يقال له خليل، من أعيان أهل فارس وأجلّهم قدرا، دخل منزلي يوما فرآني أهب شيئا من دراهم كانت عندي، ورأى السرور في وجهي بذلك، فقال لي: يا سيدنا، ما تقول في أمري؟ قلت: وما أمرك؟ قال: إني أعشق الناس في الدنيا والدرهم.

فقلت له: جماعة من كرام الناس يحبون الجدة من أجل الجود، فيجدون ما يهبون. فقال:

م أنا ممن يحب هذه الأحجار من أجل العطاء والإنفاق، لكني أحبها لعينها، أموت جوعا و لا أقدر أن أنفقها أصلا، وما يخرج منها من يدي شيء إلا وتخرج روحي معه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!