Mekkeli Fetihler: futuhat makkiyah

Gözat Başlıkları Bölüm I: Bilgi Üzerine (Maarif) Bölüm II: Etkileşimler (Muamalat) Bölüm IV: Meskenler (Manazil) Girişler Bölüm V: Tartışmalar (Munazalat) Bölüm III: Eyaletler (Ahwal) Bölüm VI: İstasyonlar (Kutup Makamı) Birinci Bölüm İkinci Bölüm Üçüncü Bölüm Dördüncü Bölüm

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة النفَس بفتح الفاء

لا يتمكن للعارف فكيف للمحب أن يمر عليه نفس ولا حال لا يكون المحبوب فيه مشهودا له بعين قلبه ووجوده وما بقي حجاب إلا في الحس بإدراكه المحسوسات حيث يراها ليست عين محبوبه فيحجبه فيطلب اللقاء لأجل هذا الحجاب فإذا ذهب المحسوس عن حسه في ظاهر الصورة كما يذهب في حق النائم انصرف الحس إلى الخيال فرأى مثال محبوبه في خياله وقرب من قلبه فرآه من غير مثال لأن الخيال ما بينه وبين المعنى واسطة ولا درجة كما أنه ليس بينه وبين المحسوس واسطة ولا درجة فهو واسطة العقد إليه ينزل المعنى وإليه يرتفع المحسوس فهو يلقي الطرفين بذاته فإذا انتقل العارف أو المحب من المحسوس إلى الخيال قرب من معنى المحبوب فشاهده في الخيال ممثلا ذا صورة وشاهده وهو في الخيال لما عدل بنظره إلى حضرة المعاني المجاورة لحضرة الخيال عاين المعنى مجردا عن المثال والصورة ثم نظر إلى المثال وإلى المحسوس فعلم أنه لو تصور هذا المعنى في المحسوس لكان جميع صور المحسوسات صورته فغاب هذا المشاهد عن شهود كل محسوس إنه غير صورة محبوبه بل كل محسوس صورة محبوبه ولا بد فذهب عنه صورة المحسوس إنها غير صورة محبوبه فصار يشاهده في كل شي‏ء فهذا هو الذهاب ومنه المذهب الذي هو الطريق سمي مذهبا للذهاب فيه فهذا المحب ذاهب في صور المحسوسات كلها إنها صورة عين محبوبه فلا يزال في اتصال دائم في عالم الحس وفي حضرة الخيال وفي حضرة المعاني فله الذهاب في هذه الحضرات كلها وصارت مذهبا له حتى نفسه في جملة الصور ولهذا يقول‏

أنا من أهوى *** ومن أهوى أنا

ومثل هذا قلنا في قصيدة

أنا محبي أنا حبيبي *** أنا فتاي أنا فتاتي‏

وقد قلنا في هذا الباب أيضا من قصيدة

فإنني ما عشقت غيري *** فعين فصلى هو اتصالي‏

(الباب الثامن والتسعون ومائة في معرفة النفس بفتح الفاء)

نفس الأكوان من نفسه *** وهو وحي الحق في جرسه‏

وكلام الحق شاهده *** أثر في الكون من نفسه‏

إن موسى قبل أبصره *** في اشتعال النار في قبسه‏

معدن الراحات فيه فمن *** ناظر فيه وفي حرسه‏

كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قبل أن يعرف بعصمته من الناس وهو قوله والله يَعْصِمُكَ من النَّاسِ إذا نزل منزلا يقول من يحرسنا الليلة مع كونه يعلم أن الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ

وقال عليه السلام لما اشتد عليه كرب ما يلاقي من الأضداد إن نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن‏

فكانت الأنصار

[أن الموجودات هي كلمات الله التي لا تنفد]

اعلم أن الموجودات هي كلمات الله التي لا تنفد قال تعالى في وجود عيسى عليه السلام إنه كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وهو عيسى عليه السلام فلهذا قلنا إن الموجودات كلمات الله من حيث الدلالة السمعية إذ كان لا يصدقنا كل أحد فيما ندعي فيه الكشف أو التعريف الإلهي والكلمات المعلومة في العرف إنما تتشكل عن نظم الحروف من النفس الخارج من المتنفس المتقطع في المخارج فيظهر في ذلك التقاطع أعيان الحروف على نسب مخصوصة فتكون الكلمات وبعد أن نبهتك على هذا لتجعل بالك لما نورده في هذا الباب فاعلم أن الله سبحانه ما استواء على عرشه إلا بالاسم الرحمن أعلاما بذلك أنه ما أراد بالإيجاد إلا رحمة بالموجودين ولم يذكر غيره من الأسماء وذكر الاستواء على أعظم المخلوقات إحاطة من عالم الأجسام فإن الآلام ليس محلها إلا التركيب وأما البسائط فلا تقبل في ذاتها قيام معنى بها بل هي عين المعنى يدل على شمول الرحمة للعالم وإن طرأت عوارض البلايا فإنها رحمة كما ذكرنا في شرب الدواء الكرية ليس المقصود منه عذاب من شربه ولا إيلامه وإنما المقصود من استعماله ما يؤول إليه من استعمله من الراحة والعافية

[أن الله تعالى تسمى بالظاهر والباطن‏]

ثم اعلم بعد هذا أن الحق تسمى بالظاهر والباطن فالظاهر للصور التي يتحول فيها والباطن للمعنى الذي يقبل ذلك التحول والظهور في تلك الصور فهو عالم الغيب من كونه الباطن والشهادة من كونه الظاهر وقد أعلمتك أن العالم نسخة إلهية على صورة حق ولذلك قلنا علم الله بالأشياء علمه بنفسه فلذلك حكمنا عليه بالصورة

وبذا وردت الأسماء الإلهية وورد في الصحيح‏

أن الله خلق آدم على صورته‏

وهو الإنسان الكامل المختصر الظاهر بحقائق الكون كله حديثه وقديمه وجعل سبحانه النفس بخرج من القلب للأمر الذي قد علم وقررناه فيجد المخارج إذا قصد المتنفس الكلام وإن لم يقصد الكلام كان النفس بالحرف الهاوي خاصة وما هو عندنا من الحروف وهو يهوى على ثلاث مراتب هويا ذاتيا يعبر عنه بالألف وهو المسمى عند القراء الحرف الهاوي فإذا مر بالأرواح العلوية في هويه حدث له منها واو العلة وهو امتداد الهواء من المتنفس عن ضم الحرف وهو إشباع حركة الضم وإذا مر بالأجسام الطبيعية السفلية في هويه حدث له من ذلك ياء العلة وهو امتداد الهواء من المتنفس عن خفض الحرف وهو إشباع حركة الخفض لأن الخفض من العالم الأسفل وما لهذا النفس في هويه أكثر من هذه الثلاث المراتب فاعلم ذلك فحدثت رسالة الملك بالواو المضموم ما قبلها وحدثت رسالة البشر بالياء المكسور ما قبلها وكان الألف على الأصل عن الله وهو سبب الأسباب كلها ولما ذكر الله عن نفسه أنه الظاهر وأنه الباطن وأن له كلاما وكلمات ذكر أن له نفسا من الاسم الرحمن الذي به استوى على العرش فاسأل به خبيرا وهو العارف من عباد الله من نبي وغيره ممن شاء الله من عباده لأنه قال يُؤْتِي الْحِكْمَةَ من يَشاءُ فنكر الأمر ولم يعرفه فهو نكرة في معرفة يعلمها هو لا غيره لأن الأمور معينة عنده مفصلة ليس في حقه إجمال ولا يصح ولا مبهم مع علمه بالمجمل في حق من يكون في حقه الأمر مجملا ومبهما وغير ذلك فلما علمنا أن له نفسا وأنه الباطن وأن له كلاما وأن الموجودات كلماته علمنا أن الله ما أعلمنا بذلك إلا لنقف على حقائق الأمور بأنا على الصورة فنقبل جميع ما تنسبه الألوهة إليها على ألسنة رسلها وكتبها المنزلة وجعل النطق في الإنسان على أتم الوجود فجعل له ثمانية وعشرين مقطعا للنفس يظهر في كل مقطع حرفا معينا ما هو عين الآخر ميزه المقطع مع كونه ليس غير النفس فالعين واحدة من حيث إنها نفس وكثيرة من حيث المقاطع وجعلها ثمانية وعشرين لأن العالم على ثمانية وعشرين من المنازل التي تجول السيارة فيها وفي بروجها وهي أمكنتها من الفلك المستدير كأمكنة المخارج للنفس لإيجاد العالم وما يصلح له ولكل عالم أعطت هذه المقاطع التي أظهرت أعيان الحروف ثم قسم هذه المقاطع إلى ثلاثة أقسام قسم أقصى عن الطرف الأقصى الآخر فالأقصى الواحد يسمى حروف الحلق وهو على طبقات والأقصى الثاني حروف الشفتين وما بينهما حروف الوسط فإن الحضرة الإلهية على ثلاث مراتب باطن وطاهر ووسط وهو ما يتميز به الظاهر عن الباطن وينفصل عنه وهو البرزخ فله وجه إلى الباطن ووجه إلى الظاهر بل هو الوجه عينه فإنه لا ينقسم وهو الإنسان الكامل أقامه الحق برزخا بين الحق والعالم فيظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقا ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقا وجعله على ثلاث مراتب عقل وحس وهما طرفان وخيال وهو البرزخ الوسط بين المعنى والحس فلما عرفنا الله أنه باطن وظاهر وله نفس وكلمة وكلمات نظرنا ما ظهر من ذلك ولم ينسب إلى ذاته النفس وما يحدث عنه فقلنا عين النفس هو العماء فإن نفس المتنفس المقصود بالعبارة عنه ما يتنزل منزلة الريح وإنما يتنزل منزلة البخار فالنفس هذا حقيقته حيث كان فكان عنه العماء كما يحدث العماء عن بخار رطوبات الأركان فيصعد ويعلو فيظهر منه العماء أولا ثم بعد ذلك يكثف والهواء يحمله والريح تسوقه فما هو عين الهواء وإنما هو عين البحار ولذلك‏

جاء في صفة العماء الذي كان فيه ربنا قبل خلق الخلق إنه عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء

فذكر أن له الفوق وهو كون الحق فيه والتحت وهو كون العالم فيه فلم يكن ثم غير نفس الحق ففيه يكون الهواء وجرت الرياح ما بين زعزع ورخاء وهي الحروف الشديدة والرخوة وظهر عن هذا النفس أصوات الرعود كالحروف المجهورة وهبوب النسيم وهي الحروف المهموسة وظهرت الطباق في الأفلاك كالحروف المطبقة من تنفس الإنسان بالقول إذا قصده وهو في الإلهيات إذا أردناه أن نقول له كن فالحروف المطبقة في النفس الإلهي وجود سبع سماوات طباقا وكل موجود في العالم على جهة الانطباق وأبرز في هذا النفس الإلهي افتتاح الوجود بالكون إذ كان ولا شي‏ء معه وجعلها في المتنفس حقيقة الحروف المنفتحة ثم لما أوجد العالم وفتح صورته في العماء وهو النفس الذي هو الحق المخلوق به مراتب العالم وأعيانه وأبان منازله جعل منه عالم الأجسام كالحروف المنسفلة لأنها من جانب الطبيعة وهو حد الكون الظلم وجعل منه عالم الأرواح وهو الحروف المستعلية في المتنفس بالنفس الإنساني‏

وكل ذلك كلمات العالم فتسمى في الإنسان حروفا من حيث آحادها وكلمات من حيث تركيبها كذلك أعيان الموجودات حروف من حيث آحادها وكلمات من حيث امتزاجاتها وجعل في النفس الإلهي علة الإيجاد من جانب الرحمة بالخلق ليخرجهم من شر العدم إلى خير الوجود فكان بالحرف الهاوي ثم أبان لهم أيضا بوجود ما يؤدي إلى السعادة ببعثة الرسول الملكي والبشرى إرسال رحمة فكانت حروف اللين في المتنفس الإنساني ثم أوجد في هذا النفس الصوت عند خروجه من الباطن إلى الظاهر بطريق الوحي الذي شبهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم سلسلة على صفوان فكان في تنفس الإنسان حروف الصفير ثم انفش ذلك النفس الإلهي على أعيان العالم الثابتة ولا وجود لها فكان مثل ذلك في الكلام الإنساني حروف التفشي ثم إن النفس الإلهي استطالت عليه الأكوان بالدعوى والتحكم حيث عددت وكثرت ما هو أحدي العين وهو في نفس المتنفس الإنساني الحرف المستطيل وهو الضاد وحده لأنه طال حتى أدرك مخرج اللام ثم إن هذا النفس الإلهي في إيجاد الشرائع قد جعل طريقا مستقيما وخارجا عن هذه الاستقامة المعينة ويسمى ذلك تحريفا وهو قوله يُحَرِّفُونَهُ من بَعْدِ ما عَقَلُوهُ مع كونه إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ يقول وإن تعدد فالنفس يجمعه فسمى ذلك التحريف في نفس المتنفس الإنساني الحرف المنحرف فخالط أكثر الحروف وهو اللام وليس لغيره هذه المرتبة وهو كبعض الأحكام الذي تجتمع فيه الشرائع ثم إنه ظهر في النفس الإلهي في الصور الأمثال فلم يقع التمييز فتخيل فيه التكرار والحقيقة تعطي أنه لا تكرار فظهر في عالم الحروف البشرية الحرف المكرر وهو الراء فإذا كان النفس يحمل الروائح فيعرف أن خروجه على المشام وهو المسمى في الحروف في النطق الإنساني حروف الغنة لأنها من الخيشوم وتمت مراتب الحروف بكمالها والحمد لله انتهى الجزء الثامن عشر ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

[نسيم الأرواح ونسيم الرياح‏]

وقد رأينا من رجال الروائح جماعة وكان عبد القادر الجيلي منهم يعرف الشخص بالشم أخبرني صاحبي أبو البدر عنه إن ابن قائد الأواني جاء إليه وكان ابن قائد يرى لنفسه حظا في الطريق فأخذ عبد القادر يشمه نحو ثلاث مرات ثم قال له لا أعرفك فكان ذلك تربية في حقه فعلت همة ابن قائد إلى أن التحق بالإفراد والنفس أبدا أكثر ما يظهر حكمه في المحبين العشاق هو مقامهم ومرتبتهم ويضيفون ذلك إلى نفس الرياح لا إلى نفس الأرواح كما قال بعضهم‏

ناشدتك الله نسيم الصبا *** من أين هذا النفس الطيب‏

هل أودعت برداك عند الضحى *** مكان ألقت عقدها زينب‏

أو ناسمت رياك روض الحمى *** وذيلها من فوقها تسحب‏

فهات أ تحفني بأخبارها *** فعهدك اليوم بها أقرب‏

هذه الأبيات على لطافتها ورقتها من أكثف ما قيل في عشق الأرواح لأن نسيم الأرواح ألطف من نسيم الرياح لأنها بعيدة المناسبة عن عالم الطبيعة والرياح ليست كذلك فالأرواح إذا تنسمت لا تسوق إلا طيبا فإنها تهب من الحضرة الذاتية من الغيب الأقدس فلا تأتي إلا بكل طيب وطيبة والرياح ليست كذلك لأنها من عالم الطبيعة فإن مرت على خبيث جاءت بخبيث وإن مرت بطيب جاءت بطيب ونسيم الأرواح إذا مر بخبيث رده طيبا وإذا مر بطيب زاده طيبا فلو كان هذا القائل عاشقا حقيقة لا يتكلم بدعوى زور لم يجعل الطيب من زينب وإن كانت طيبة فلو ذكر أن طيبها زاد به طيب المكان طيبا وجعل محبوبته تنم بأسرارها الرياح فليست بمنيعة الحمى وعالم الطبيعة يخترقها وهو الريح وأخذ يهجو الريح حيث تعجب من أين له هذا النفس الطيب فلو ساق الطيب بطريق المفاضلة بأن يقول من أين هذا النفس الأطيب فإنه لم يكن الريح بأمر زائد على نفس محبوبته إذا حققت لأنها عين الطيب حيث ظهر طيب وسألني بعض أصحابي أن أشرح له هذه الأبيات لو قالها عارف من المحبين الإلهيين فأجبته إلى ذلك‏

فأنا أشرحها إن شاء الله ثم أعود إلى الكلام على تحقيق النفس في هذا الباب فنقول والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

[شرح الأبيات‏]

قوله يخاطب نسيم الصبا ناشدتك الله اعلم أن الصبا هي ريح القبول والصبا الميل والميل قبول وسميت الصبا قبولا لأن العرب لما أرادت أن تعرف الرياح حتى تجعل لها أسماء تذكرها بها لتعرف فاستقبلت مطلع الشمس فكل ريح هبت عليها من جهة مطلع الشمس استقبلته إذ كان وجهها إلى تلك الجهة فسمتها قبولا وما أتى إليها من الريح عن دبر في حال استقبالها ذلك سمته دبورا وهي الريح الغربية وما أتاها منها في هبوبها عن الجانب الأيمن سمته جنوبا وعن جانب الشمال سمته شمالا وكل ريح بين جهتين من هذه الجهات تهب سمتها نكباء من النكوب وهو العدول أي عدلت عن هذه الأربع الجهات والنسيم أول هبوب الريح والشي‏ء المستلذ إذا فاجأك ابتداء فهو ألذ من استصحابه مثل قوله‏

أحلى من الأمن عند الخائف الوجل‏

ولهذا نعيم الجنان جديد في كل نفس فلذلك ما ناشد إلا النسيم لالتذاذه به وجعله نسيم الصبا لأنها ريح شرقية قبول فأعطته الريح من إخبارها بما جاءت به من طيبها ما يعطيه قبولها لو أقبلت ورؤيتها لو طلعت عليه كما تطلع الشمس لأن الصبا ريح شرقية والشروق طلوع الشمس والإشراق ضوء الشمس وقوله ناشدتك أي طالبتك مقسما بالله والناشد الطالب فهو كالمستفهم وهذا يدلك على قلة معرفته بمحبوبه حيث جعل له أمثالا لقوله من أين هذا النفس الطيب فإنه ثم من له أنفاس طيبة فلو استفرغ في شغله بمحبوبه ولم ير مشهودا له سواه ما استفهم إذ كل من استفهم فقد أحضر ذلك في ذهنه فهذا شاعر أحضر الاشتراك في ذهنه فشهد على نفسه بنقصان المعرفة إن كان عارفا ونقصان المحبة إن كان محبا عاشقا فإن أراد من المحبوب كثرة وجوهه وتجليه في أعيان متعددة كالاسماء الإلهية لله مع كونه ذاتا واحدة ومع هذا فله تسعة وتسعون اسما فما فوق ذلك فيريد في أي اسم كان لما هبت هذه الريح وهي نسمة قبول إلهي لطيفة الهبوب أورثت في القلب لطفا ورقة بهبوبها فاستفهم الريح لما جاءت به من الطيب المستلذ فقال‏

هل أودعت برداك عند الضحى *** مكان ألقت عقدها زينب‏

اعلم أن هذا البيت من أدل دليل على أنه ليس بمحب وأن هذا القول هو إلى هجاء المحبوب أقرب منه إلى الثناء والمدح وذلك أنه لما جاءته الريح بهذا النفس الطيب أضاف ذلك الطيب إلى ما حصل للمكان الذي ألقت عقدها زينب فيه فهو ثناء على العقد فإنه يريد أن عقدها كان عنبرية ذا طيب فطاب المكان بذلك العقد وما ذكر أن العقد إنما اكتسب الطيب من روائح زينب أو عرفها أو أنفاسها فلو سلك في كلامه إن طيب المكان مما تنفست فيه زينب فلو قال مثل ما قلنا

هل أودعت برداك عند الضحى *** طيب مكان طيبت زينب‏

أنفاسه من طيب أنفاسها *** فطيبها من طيبه أعجب‏

ولنا في هذا المعنى في غير هذا الروي‏

ما الطيب في المسك إلا طيب رياها *** والنور في الشمس إلا من محياها

الخلد مأوى الحسان الحور تسكنه *** وذاتها لجنان الخلد مأواها

وأما قوله بعد هذا

أو ناسمت رياك روض الحمى *** وذيلها من فوقه تسحب‏

فهذا مثل الأول جعل الطيب للروض من ذيل زينب لما سحبته على ذلك المكان طاب من طيب ذيلها وطيب ذيلها من طيب طيبت ثيابها به مثل العقد سواء فما ذكر ما يدل على أن طيب هذه الأماكن من طيب أنفاسها وإذا كان هذا فلا يطيب إلا من ليس بطيب أو ليس له ذلك الطيب ولذا قلنا لو قال النفس الأطيب لا الطيب لكان أشعر وأثبت في المدح ثم قوله للنسيم‏

فهات أتحفني بأخبارها *** فعهدك اليوم بها أقرب‏

كلام غير محقق فإن نسيم الريح ما له عهد قريب إلا بالمكان وروض الحمى لا بزينب والطيب للمكان من العقد وللروض من الذيل فلم ينقل هذا النسيم شيئا من طيبها المختص بذاتها ولو كانت مشهودة للنسيم حين هب على المكان والروض‏

بقوله وذيلها فذكر ما يدخله الاحتمال في الحال فإنه يحتمل أن يكون الحال في قوله وذيلها أي في حال مرورها أكسبت هذا الروض الطيب من ذيلها ويحتمل أن يكون شهود الريح لها في حال مرورها على روض الحمى وهذا بعيد والأول أقرب فإنه لو مر بها مشاهدا لها في حال انسحاب ذيلها على الروض لنقل طيب ذيلها لا طيب الروض من ذيلها فدل أنه ما شاهدها نسيم الريح وإذا لم يشاهدها فليس عهده بها قريبا وإنما عهده قريب بالمكان الذي مرت عليه ثم فيه من النقص بقوله أقرب وصفها بالأمر العام في كل طيب إذ المكان الذي يبقى فيه الطيب إنما يكون قريب العهد بالطيب في جلوسه فيه أو مروره عليه وهذا ليس بمخصوص بها بل لو قال إن طيبها في المكان لا يزول بعد أن اكتسبه منها وأنه بها بعيد عهد ومع هذا فالطيب باق لقوة سلطانه لكان أشعر والنسيم ما نقل إليه إلا طيب المكان والروض فكان ينبغي أن يصدق فكان يقول فعهدك اليوم به أقرب يعني بالمكان أو بكل واحد منهما يعني الروض والمكان أو يقول بهم أقرب فكذب بقوله بها أقرب ثم إنه لا يلزم طيب المكان ولا طيب الروض من إلقاء العقد ولا من طيب الذيل قد يكون طيب الروض من الزهر وطيب المكان من أمر آخر مع وجود العقد فيه وانسحاب الذيل على الروض فهو قاصر بكل وجه فهذا شعر لطيف اللفظ مليح وهو بالمعنى ليس بشي‏ء لأن جمال الشعر والكلام أن يجمع بين اللفظ الرائق والمعنى الفائق فيحار الناظر والسامع فلا يدرى اللفظ أحسن أو المعنى أو هما على السواء فإنه إذا نظر إلى كل واحد منهما أذهله الآخر من حسنه وإذا نظر فيهما معا حيراه فما يستحسن مثل هذا الشعر إلا ذو قلب كثيف فإن اللفظ لطيف والمعنى كثيف وإذا كان المعنى قبيحا عند الصحيح النظر لم يحجبه حسن اللفظ عن قبح المعنى فإن مثاله عندي مثال من بحب صورة في غاية الحسن منقوشة في جدار مزينة بأنواع الأصبغة تامة الخلق لا روح لها فإن المعنى للفظ كالروح للصورة هو جمالها على الحقيقة انظر في إعجاز القرآن تجده كما ذكرنا حسن النظم مع توفير المعنى وحسن مساقه وجمع المعاني بعضها إلى بعض في اللفظ الحسن النظم الوجيز مع وجود تكرار القصة الموجب للملل ولا تجد هذا في القرآن فتجد مع تكرار القصة الواحدة مثل قصص الأمم كآدم وموسى ونوح وغيرهم مما تكرر بزيادة لفظ أو نقصه ما تجد إخلالا في المعنى جملة واحدة وسبب ذلك أنه قول حق ما فيه تزوير ولما أتينا على تنبيه ما في قول هذا الشاعر مع كونه لم يخرج عن حقيقة هذا الباب في ذلك فإنه باب النفس بفتح الفاء والشعر من الكلام فهو من باب الأنفاس فثم أنفاس يخرج معها تحقيق المعاني على ما هي عليه في تركيب بعضها مع بعض وثم أنفاس بالعكس‏

[من نفس الرحمن ظهر حروف الكائنات وكلمات العالم‏]

فلنرجع إلى النفس الرحماني الذي ظهر عنه حروف الكائنات وكلمات العالم على مراتب مخارج الحروف من نفس المتنفس الإنساني الذي هو أكمل النشآت كلها في العالم وهي ثمانية وعشرون حرفا لكل حرف اسم عينه المقطع مقطع نفسه فأولها الهاء وآخرها الواو ومنها حروف مفردة المخرج كالحرف المستطيل والمنحرف والمكرر ومنها مشتركة في المخرج كحروف الصفير وإن كان بين المشترك تفاوت فهو قريب بعضها من بعض يجد اللافظ الصحيح اللفظ في حال التلفظ بها الفرق بين الحرفين المشتركين كالطاء والتاء والدال فهذه الثلاثة وإن كانت من مخرج واحد فهو على التقارب لا على التحقيق ولهذا اختلفت الألقاب عليه لاختلاف أحوالها في المخارج فيكون للحرف الواحد ألقاب متعددة لدرجات له في النفس عند التكوين منه في مقطع الحرف يمتاز به عن الذي يقاربه في المخرج الذي أوجب له أن يقال فيه إنه مشترك كحرف الصاد غير المعجمة مثلا فإنه من الحروف المهموسة ويشارك الكاف في الهمس وهو من حروف الصفير فهو يشارك الزاي في الصفير وهو من الحروف المطبقة فهو يشارك الطاء في الإطباق وهو من الحروف الرخوة فهو يشارك العين في الرخاوة وهو من الحروف المستعلية فهو يشارك القاف في الاستعلاء فهذا حرف واحد اختلف عليه ألقاب كثيرة لظهوره في مراتب متعددة قابل بذاته كل مرتبة صالح لها فاختلفت الاعتبارات فاختلفت الأسماء كذلك نقول في العقل الأول عقلا لمعنى يخالف المعنى الذي لأجله نسميه قلما يخالف المعنى الذي لأجله نسميه روحا يخالف المعنى الذي لأجله نسميه قلبا

والعين واحدة والحكم مختلف *** لذا تنوعت الأرواح والصور

كذلك الحق أصل الوجود الواحد الأحد الذي لا يقبل العدد فهو وإن كان واحد العين فهو المسمى بالحي القيوم العزيز المتكبر الجبار إلى تسعة وتسعين اسما لعين واحدة وأحكام مختلفة فما المفهوم من الاسم الحي هو المفهوم من الاسم المريد ولا القادر ولا المقتدر كما قلنا في حرف الصاد وكذلك سائر الحروف فخرجت الحروف من نفس المتنفس الإنساني الذي هو أكمل النشآت وبه ظهرت وبنفسه جميع الحروف فكان على الصورة الإلهية بالنفس الرحماني وظهور حروف الكائنات وعالم الكلمات سواء وكلها النفس الإنساني ثمانية وعشرين حرفا محققة لما صدر من النفس الرحماني أعيان الكلمات الإلهية ثمانيا وعشرين كلمة لكل كلمة وجوه فصدر عن نفس الرحمن وهو العماء الذي كان فيه ربنا قبل أن يخلق الخلق فكان العماء كالنفس الإنساني وظهور العالم في امتداده في الخلأ بحسب مراتب الكائنات كالنفس الإنساني من القلب وامتداده إلى الفم وظهور الحروف في الطريق والكلمات كظهور العالم من العماء الذي هو نفس الحق الرحماني في المراتب المقدرة في الامتداد المتوهم لا في جسم وهو الخلأ الذي ملأه العالم فكما كان أول حرف ظهر من أعيان العالم من هذا النفس لما طلب الخروج إلى الغاية وهو نهاية الخلأ كما كان غاية امتداد النفس إلى الشفتين فظهرت الهاء أولا والواو آخرا وليس وراء ذلك حرف يعقل فكان أجناس العالم منحصرة وأشخاصه لا تتناهى وجودا فإنها تحدث ما دام السبب موجودا والسبب لا ينقضي فإيجاد أشخاص النوع لا ينقضي فأما حصر العالم على عدد الحروف من أجل النفس في ثمانية وعشرين لا تزيد ولا تنقص فأول ذلك العقل وهو القلم وهوقول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إنه أول ما خلق الله العقل‏

وفي خبر آخر أول ما خلق الله القلم‏

الحديث فكان أول خلق خلقه الله من النفس الذي هو العماء القابل لفتح صور العالم فيه العقل وهو القلم ثم النفس وهو اللوح ثم الطبيعة ثم الهباء ثم الجسم ثم الشكل ثم العرش ثم الكرسي ثم الأطلس ثم فلك الكواكب الثابتة ثم السماء الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة ثم كرة النار ثم كرة الهواء ثم كرة الماء ثم التراب ثم المعدن ثم النبات ثم الحيوان ثم الملك ثم الجن ثم البشر ثم المرتبة والمرتبة هي الغاية في كل موجود كما أن الواو غاية حروف النفس وقصدت ذكر أسماء العالم لا ترتيب وجوده كما قصد في أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ حصر الحروف لا ترتيب وجودها في المخارج ولكل موجود مما ذكرنا مرتبة وأحكام ونسب معلومة عند العلماء بالله وكل واحد له مقام معلوم يتميز به لا يكون للآخر كما أن له أمورا يشترك فيها مع غيره خلقا وحكما فأما في الخلق فكأشخاص النوع الواحد وأنواع الجنس الواحد مثل الأفلاك تشترك في الاستدارة الفلكية وفي الجسمية من حيث التركيب وما ذكرنا إلا ما يختص بعالم الدنيا كما أنه ما ذكرنا من الحروف إلا ما يختص بالنفس الإنساني اليوم إذ لا نتكلم إلا في وجود فإنا لا نحيط بالله علما فتكلمنا على قدر ما أعطانا من العلم به وليس في الإمكان أبدع مما خلق لأنه الصادق وقد قال إنه خلق العالم على صورته وأكمل منه فلا يكون فأكمل من هذا العالم فلا يكون وقد وقعت لنا واقعة في هذا الباب من الحق قد تقدم ذكرها ثم لتعلم أن أقرب شبه بالنفس بل هو عين النفس حروف العلة وهو الألف والواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها وليست هذه الثلاثة الحروف من الحروف الصحاح المحققة في الحرفية هي أجل من ذلك وإطلاق الحرف عليها بطريق المجاز وما يدل عليها إلا الحرف إذا انفتح وأشبع الفتحة أو ضم فأشبع الضمة أو كسر فأشبع الكسرة فذلك الدليل على إبراز هذه الحروف كما كان العالم من أجل حدوثه الذي هو بمنزلة إشباع الحركات في الحروف دليلا على وجود الحق سواء فافهم ما ذكرناه وثم إن الحروف لها خواص هي عليها أعطتها لها المخارج فهي في النفس مجموعة إذ هو يجمعها وفي أعيان الحروف والكلمات مفترقة فإذا جرى النفس من أول الحروف إلى غايتها فإنه يفعل كل حرف يتأخر وجوده لتاخر مخرجه عند انقطاع النفس ما يفعله كل حرف في مخرج تقدمه فهو يحوي على قوة كل حرف تقدمه لأن النفس مر في خروجه على تلك المخارج إلى أن انقطع عند هذا المخرج فنقل معه مرتبة كل حرف فظهرت في قوة الحرف المتأخر وآخر الحروف الواو ففي الواو قوة جميع الحروف كما إن الهاء أقل في العمل من جميع الحروف فإن لها البدو فكلمة هو جمعت جميع قوى الحروف في‏

عالم الكلمات فلهذا كانت الهوية أعظم الأشياء فعلا وكذلك الإنسان آخر غاية النفس والكلمات الإلهية في الأجناس ففي الإنسان قوة كل موجود في العالم فله جميع المراتب ولهذا اختص وحده بالصورة فجمع بين الحقائق الإلهية وهي الأسماء وبين حقائق العالم فإنه آخر موجود فما انتهى لوجوده النفس الرحماني حتى جاء معه بقوة مراتب العالم كله فيظهر بالإنسان ما لا يظهر بجزء جزء من العالم ولا بكل اسم اسم من الحقائق الإلهية فإن الاسم الواحد ما يعطي ما يعطي الآخر مما يتميز به فكان الإنسان أكمل الموجودات والواو أكمل الحروف وكذا هي في العمل عند من يعرف العمل بالحروف فكل ما سوى الإنسان خلق إلا الإنسان فإنه خلق وحق فالإنسان الكامل هو على الحقيقة الحق المخلوق به أي المخلوق بسببه العالم وذلك لأن الغاية هي المطلوبة بالخلق المتقدم عليها فما خلق ما تقدم عليها إلا لأجلها وظهور عينها ولو لا ما ظهر ما تقدمها فالغاية هو الأمر المخلوق بسببه ما تقدم من أسباب ظهوره وهو الإنسان الكامل وإنما قلنا الكامل لأن اسم الإنسان قد يطلق على المشبه به في الصورة كما تقول في زيد إنه إنسان وفي عمرو إنه إنسان وإن كان زيد قد ظهرت فيه الحقائق الإلهية وما ظهرت في عمرو فعمرو على الحقيقة حيوان في شكل إنسان كما أشبهت الكرة الفلك في الاستدارة وأين كمال الفلك من الكرة فهذا أعني بالكامل فحاز الإنسان جميع المراتب برتبته كما حازت الواو جميع قوى الحروف فدل أن الواو كانت المطلوبة بالكلام لتوجد فوجد بسببها جميع ما وجد في الطريق باستعداد المخارج من الحروف حتى انتهى إلى الواو

[أن نفس المتنفس لم يكن غير باطن المتنفس‏]

ثم لتعلم أن نفس المتنفس لم يكن غير باطن المتنفس فصار النفس ظاهرا وهو أعيان الحروف والكلمات فلم يكن الظاهر بأمر زائد على الباطن فهو عينه واستعداد المخارج لتعيين الحروف في النفس استعداد أعيان العالم الثابتة في نفس الرحمن فظهر عين الحكم الاستعدادي الذي في العالم الظاهر في النفس فلهذا قال تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ وقال للنفس المطمئنة ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً كما قال طَوْعاً وكَرْهاً أي إن لم ترجعي راضية من ذاتك وإلا أجبرت على الرجوع إلى ربك فتعلم أنك ما أنت أنت وإذا رجعت راضية فهي النفس العالمة المرضية عند الله فدخلت في عباده فلم تنسب ولا انتمت إلى غيره ممن اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ودخلت في جنته أي في كنفه وستره فاستترت هذه النفس به فكان هو الظاهر وهي غيب فيه فهي باطنة إذ كانت هي عين النفس والنفس باطن فقامت للرحمن بهذا النعت من الدخول في الستر المضاف إليه بقوله جَنَّتِي مقام الروح للجسم الصوري فإنه ستر عليه فالجسم المشهود والحكم للروح فالظاهر الحق والحكم للروح وهو استعداد العالم الذي أظهر الاختلاف في الحق الظاهر فهذا معنى قوله وادْخُلِي جَنَّتِي وأضافه إلى نفسه‏

فالرب والمربوب مرتبطان *** ثنى الوجود به وليس بثان‏

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله *** إلا الذي قالوه في العمران‏

والقمران يريدون أبا بكر وعمر والشمس والقمر والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ فأثبت بالضمير ونفى بالفعل الذي هو خلق كما انتفى أبو بكر فلم يظهر له اسم في العمران وأثبته ضمير التثنية وهو قولهم العمران فسبحان من أخفى عنه حكمته فيه فظهر في الوجود العليم الذي لا يعلم كالرامي الذي ما رمى فالحروف ليست غير النفس ولا هي عين النفس والكلمة ليست غير الحروف وما هي عين الحروف‏

والجمع حال لا وجود لعينه *** وله التحكم ليس للآحاد

(وصل)

واعلم أن الله لما قال قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فجعل الأسماء الحسنى لله كما هي للرحمن غير أن هنا دقيقة وهي أن الاسم له معنى وله صورة فيدعي الله بمعنى الاسم ويدعي الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلأ الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء التي من أنفاسنا مترجمون عن الأسماء الإلهية والأسماء الإلهية لها صور من نفس الرحمن من كونه قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي لتلك الصور كالأرواح فصور الأسماء الإلهية

التي يذكر الحق بها نفسه بكلامه وجودها من نفس الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي للاسم الله خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف ولما علمنا هذا وأمرنا أن ندعوه بأسمائه الحسنى وخيرنا بين الله والرحمن فإن شئنا دعوناه بصورة الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة وهي الأسماء التي يتلفظ بها في عالم الشهادة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا أما الله فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه ولما كان ذكر أسمائه عين الثناء عليه ذكرنا في هذا الباب ما هو فينا مثل كلمة كن منه وذلك البسملة يقول أهل الله إن بسم الله منا في إيجاد الأفعال بمنزلة كن منه ولما كان القرآن ذكرا وجامعا لأسمائه صور أو معاني جعلنا التلاوة في هذا الباب من جملة الأذكار فلا نذكر من الأذكار إلا ما يختص بالقرآن فنذكره بكلامه من حيث علمه بذلك لا من حيث علمنا فيكون هو الذي يذكر نفسه لا نحن ولما كان دعاؤنا بأسمائه القرآنية وكنا ذاكرين تالين وجب علينا التعوذ وهو من الذكر فيعيذنا وسقنا من الأذكار الحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله فلنذكر فهرست ما أنا ذاكره في هذا الباب من فصول ما يتكلم عليه مما يختص بالنفس الإلهي ومراتب الذاكرين من العالم في الذكر لأن الذاكرين هم أعلى الطوائف لأنه جليسهم ولهذا ختم الله بذكرهم صفات المقربين من أهل الله ذكرانهم وإناثهم فقال تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِماتِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ والْقانِتِينَ والْقانِتاتِ والصَّادِقِينَ والصَّادِقاتِ والصَّابِرِينَ والصَّابِراتِ والْخاشِعِينَ والْخاشِعاتِ والْمُتَصَدِّقِينَ والْمُتَصَدِّقاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِماتِ والْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحافِظاتِ والذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً والذَّاكِراتِ وما ذكر بعد الذاكرات شيئا والذكر من نعوت كونه متكلما وهو نفس الرحمن الذي ظهرت فيه حقائق حروف الكائنات وكلمات الحضرة

(ذكر فهرست الفصول وهي خمسون فصلا)

(الفصل الأول) في ذكر الله نفسه بنفس الرحمن وبه أوجد العالم من كونه أحب ذلك (الفصل الثاني) في كلام الله وكلماته (الفصل الثالث) في ذكر التعوذ (الفصل الرابع) في الذكر بالبسملة (الفصل الخامس) في كلمة الحضرة وهي كلمة كن (الفصل السادس) في الذكر بالحمد (الفصل السابع) في الذكر بالتسبيح (الفصل الثامن) في الذكر بالتكبير (الفصل التاسع) في الذكر بالتهليل (الفصل العاشر) في الذكر بالحوقلة (الفصل الحادي عشر) في الاسم البديع وتوجهه على إيجاد العقل والعقول وهو القلم الأعلى ومن الحروف على الهمزة وتفاصيل الهمزة ومن المنازل على الشرطين والإمداد الإلهي النفسي ومراتبه الذاتية والزائدة (الفصل الثاني عشر) في الاسم الباعث وتوجهه على إيجاد اللوح المحفوظ وهو النفس الكلية وهو الروح المنفوخ منه في الصور المسواة بعد كمال تعديلها فيهبها الله بذلك النفخ أي صورة شاء وتوجهه على إيجاد الهاء من الحروف وهاء الكنايات وتوجهه على إيجاد البطين من المنازل (الفصل الثالث عشر) في الاسم الباطن وتوجهه على خلق الطبيعة وما يعطيه من أنفاس العالم وحصرها في أربع حقائق وافتراقها واجتماعها وتوجهه على إيجاد العين المهملة وإيجاد الثريا من المنازل‏

(الفصل الرابع عشر) في الاسم الآخر وتوجهه على خلق الجوهر الهبائي الذي ظهر فيه صور الأجسام وما يشبه هذا الجوهر في عالم التركيب وإيجاد الحاء المهملة من الحروف وإيجاد الدبران من المنازل المقدرة (الفصل الخامس عشر) في الاسم الظاهر وتوجهه على إيجاد الجسم الكل وإيجاد الغين المعجمة من الحروف وإيجاد الميسان وهي الهقعة من المنازل (الفصل السادس عشر) في الاسم الحكيم وتوجهه على إيجاد الشكل وحرف الخاء المعجمة والتحية من المنازل (الفصل السابع عشر) في الاسم المحيط وتوجهه على إيجاد العرش والعروش المعظمة والمكرمة والممجدة وحرف القاف من الحروف والذراع من المنازل (الفصل الثامن عشر) في الاسم الشكور وتوجهه على إيجاد الكرسي والقدمين وحرف الكاف والنثرة (الفصل التاسع عشر) في الاسم الغني وتوجهه على إيجاد الفلك الأطلس فلك البروج وحدوث الأيام بوجود حركته واستعانته بالاسم الدهر على ذلك وحرف الجيم والطرف (الفصل العشرون) في الاسم المقدر وتوجهه على إيجاد فلك الكواكب الثابتة والجنات وتقدير صور الكواكب في مقعر هذا الفلك وكونه أرض الجنة وسقف جهنم وحرف الشين المعجمة والجبهة (الفصل الحادي والعشرون) في الاسم الرب وتوجهه على إيجاد السماء الأولى والبيت المعمور وسدرة المنتهى وإبراهيم الخليل ويوم السبت وحرف الياء بالنقطتين من أسفل والخرثان من المنازل المقدرة وخانس هذه السماء وكوكبها (الفصل الثاني والعشرون) في الاسم العليم وتوجهه على إيجاد السماء الثانية وخانسها ويوم الخميس وموسى عليه السلام وحرف الضاد المعجمة والصرفة من المنازل (الفصل الثالث والعشرون) في الاسم القاهر وتوجهه على إيجاد السماء الثالثة وخانسها ويوم الثلاثاء وحرف اللام والعوا (الفصل الرابع والعشرون) في الاسم النور وتوجهه على إيجاد السماء الرابعة وهي قلب جسم العالم المركب وإيجاد الشمس وحدوث الليل والنهار في عالم الأركان وروح إدريس عليه السلام وقطبيته وحرف النون والسماك الأعزل ويوم الأحد ونفخ الروح الجزئي عند كمال تصوير النطف (الفصل الخامس والعشرون) في الاسم المصور وتوجهه على إيجاد السماء الخامسة وخانسها والتصوير والحسن والجمال ويوسف عليه السلام وحرف الراء والغفر ويوم الجمعة (الفصل السادس والعشرون) في الاسم المحصي وتوجهه على إيجاد السماء السادسة وخانسها وعيسى عليه السلام والاعتدال وحرف الطاء المهملة والزبانا ويوم الأربعاء (الفصل السابع والعشرون) في الاسم المتين وتوجهه على إيجاد السماء الدنيا والقمر وآدم عليه السلام والمد والجزر وحرف الدال المهملة والإكليل ويوم الإثنين (الفصل الثامن والعشرون) في الاسم القابض وتوجهه على إيجاد الأثير وما يظهر فيه من ذوات الأذناب والاحتراقات ومن الحروف حرف التاء المنقوطة باثنتين من فوق والقلب من المنازل (الفصل التاسع والعشرون) في الاسم الحي وتوجهه على إيجاد ما ظهر في ركن الهواء وحرف الزاي من الحروف ومن المنازل الشولة (الفصل الثلاثون) في الاسم المحيي وتوجهه على إيجاد ما ظهر في الماء وحرف السين المهملة والنعائم (الفصل الحادي والثلاثون) في الاسم المميت وتوجهه على إيجاد التراب وحرف الصاد المهملة والبلدة (الفصل الثاني والثلاثون) في الاسم العزيز وتوجهه على إيجاد المعادن وحرف الظاء المعجمة والذابح‏

(الفصل الثالث والثلاثون) في الاسم الرزاق وتوجهه على إيجاد النبات وحرف الثاء المعجمة بثلاث ومن المنازل بلع (الفصل الرابع والثلاثون) في الاسم المدل وتوجهه على إيجاد الحيوان وحرف الذال المعجمة ومن المنازل السعود (الفصل الخامس والثلاثون) في الاسم القوي وتوجهه على إيجاد الملائكة وحرف الفاء والأخبية (الفصل السادس والثلاثون) في الاسم اللطيف وتوجهه على إيجاد الجن حرف الباء المعجمة بواحدة والفرع المقدم (الفصل السابع والثلاثون) في الاسم الجامع وتوجهه على إيجاد الإنسان وحرف الميم والمؤخر (الفصل الثامن والثلاثون) في الاسم رفيع الدرجات وتوجهه على تعيين الرتب والمقامات والمنازل وحرف الواو ومن المنازل الرشاء (الفصل التاسع والثلاثون) في النقل وأين مقامه في الأنفاس (الفصل الأربعون) في معرفة الجلي والخفي من الأنفاس وهو بمنزلة الإدغام والإظهار في الكلام (الفصل الحادي والأربعون) في الاعتدال والانحراف في النفس وهو بمنزلة الفتح والإمالة وبين اللفظين (الفصل الثاني والأربعون) في الاعتماد على الناقص والميل إليه وهو في الكلام معرفة الوقف على هاء التأنيث وهو من باب الأنفاس أيضا (الفصل الثالث والأربعون) في الإعادة وهي التكرار وأين هو في النفس (الفصل الرابع والأربعون) في اللطيف من النفس يرجع كثيفا وما سببه والكثيف يرجع لطيفا من النفس وما سببه وعليه مبني أصوات الملاحن (الفصل الخامس والأربعون) في الاعتماد على أصناف المحدثات وهو في باب النفس الإنساني الوقف على أواخر الكلم في اللسان (الفصل السادس والأربعون) في الاعتماد على العالم من حيث ما هو كتاب مسطور في رق الوجود المنشور في عالم الأجسام الكائن من الاسم الظاهر (الفصل السابع والأربعون) في الاعتماد على الوعد قبل كونه وهو الاعتماد على المعدوم لصدق الوعد وهو في الأنفاس السكوت على الساكن قبل الهمزة (الفصل الثامن والأربعون) في الاعتماد على الكائنات وما يظهر منها من الفتوح وهو الأينية في الطريق وكيف يرجع المعلول صحيحا والصحيح عليلا (الفصل التاسع والأربعون) فيما يعدم ويوجد مما يزيد على الأصول التي هي بمنزلة النوافل مع الفرائض (الفصل الخمسون) في الأمر الجامع لما يظهر في النفس من الأحكام في كل متنفس حقا وخلقا وحيوانا ونطقا وبه تمام باب النفس على الاقتصاد والاختصار إن شاء الله ثم اللواحق وهي الأقسام الإلهية التي نفس الله بها عن عباده وهي من نفس الرحمن‏

(الفصل الأول) في ذكر الله نفسه بنفس الرحمن‏

ورد في الحديث الصحيح كشفا الغير الثابت نقلا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن ربه جل وعز أنه قال ما هذا معناه كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني‏

ولما ذكر المحبة علمنا من حقيقة الحب ولوازمه مما يجده المحب في نفسه وقد بينا أن الحب لا يتعلق إلا بمعدوم يصح وجوده وهو غير موجود في الحال والعالم محدث والله كان ولا شي‏ء معه وعلم العالم من علمه بنفسه فما أظهر في الكون إلا ما هو عليه في نفسه وكأنه كان باطنا فصار بالعالم ظاهرا وأظهر العالم نفس الرحمن لإزالة حكم الحب وتنفس ما يجد المحب فعرف نفسه شهودا بالظاهر وذكر نفسه بما أظهره ذكر معرفة وعلم وهو ذكر العماء المنسوب إلى الرب قبل خلق الخلق وهو ذكر العام المجمل وإن كلمات العالم بجملتها مجملة في هذا النفس الرحماني وتفاصيله غير متناهية ومن هنا يتكلم من يرى قسمة الجسم عقلا إلى ما لا يتناهى مع كونه قد دخل في الوجود وكل ما دخل في الوجود فهو متناه‏

والقسمة لم تدخل في الوجود فلا تتصف بالتناهي وهؤلاء هم الذين أنكروا الجوهر الفرد الذي هو الجزء الذي لا ينقسم وكذلك العماء وإن كان موجودا فتفاصيل صور العالم فيه على الترتيب دنيا وآخرة غير متناه التفصيل وذلك أن النفس الرحماني من الاسم الباطن يكون الإمداد له دائما والذكر له في الإجمال دائما فهو في العالم كآدم في البشر ولما عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أعلمنا بهذا أن العماء من حيث ما هو نفس رحماني قابل لصور حروف العالم وكلماته هو حامل الأسماء كلها وكلمات الله ما تنفد فذكر الله لا ينقطع والرحمن يذكر الله بأسمائه وهو أيضا مسمى بها فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ويذكر نفسه من كونه متكلما ومفصلا فذكر الرحمن مجمل وذكر الله مفصل‏

(الفصل الثاني) في كلام الله وكلماته‏

الكلام والقول نعتان لله فبالقول يسمع المعدوم وهو قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وبالكلام يسمع الموجود وهو قوله تعالى وكَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً وقد يطلق الكلام على الترجمة في لسان المترجم وينسب الكلام إلى المترجم عنه في ذلك فالقول له أثر في المعدوم وهو الوجود والكلام له أثر في الموجود وهو العلم والموصوف بالتبديل في قوله يُحَرِّفُونَهُ من بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وقوله يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله هو في الترجمة فإنها تقبل التبديل والمعاني تابعة للكلام فلا يفهم من الأمر الذي حرف به وبدل المعنى الذي يفهم من الأصل ولذلك ألحق التبديل والتحريف بالأصل وإن كان لا يقبل التحريف ولا التبديل لأنه كلام إلهي لا يحكى ولا يوصف بالوصف الذاتي فإذا وقع التجلي في أي صورة كانت فلا يخلو أن كانت من الصور المنسوب إليها الكلام في العرف أو لا تكون فإن كانت من الصور المنسوب إليها الكلام فكلامها من جنس الكلام المنسوب إليها لحكم الصورة على التجلي مثل قوله عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وقالَتْ نَمْلَةٌ وإن كان مما لا ينسب إليه الكلام في العرف فلا يخلو إما أن تكون ممن ينسب إليها القول بالإيمان مثل قوله هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ وقوله قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وقوله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ وقوله قالُوا أَنْطَقَنَا الله وإما أن لا تكون ممن نسب إليه قول ولا نطق وهو الذي نسب إليه التسبيح الذي لا يفقه وما قال لا يسمع إذ الكلام أو القول هو الذي من شأنه أن يتعلق به السمع والتسبيح لو كان قولا أو كلاما لنفى عنه سمعنا وإنما نفى عنه فقهنا وهو العلم والعلم قد يكون عن كلام وقول وقد لا يكون فإذا تجلى في مثل هذه الصور فيكون النطق بحسب ما يريده المتجلي مما يناسب تسبيح تلك الصورة لا يتعداه فيفهم من كلام ذلك المتجلي تسبيح تلك الصورة وهو علم عجيب قليل من أهل الله من يقف عليه فيكون الكلام المنسوب إلى الله عز وجل في مثل هذه الصور بحسب ما هي عليه هذا إذا وقع التجلي في المواد النورية والطبيعية فإن وقع التجلي في غير مادة نورية ولا طبيعية وتجلى في المعاني المجردة فيكون ما يقال في مثل هذا إنه كلام فمن حيث أثره في المتجلي له لا من حيث إنه تكلم بكذا وتلك الآثار كلها من طبقات الكلام الذي تقدم تسمى كلمات الله جمع كلمة وهي أعيان الكائنات قال تعالى وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وهو عين عيسى لم يلق إليها غير ذلك ولا علمت غير ذلك فلو كانت الكلمة الإلهية قولا من الله وكلاما لها مثل كلامه لموسى عليه السلام لسرت ولم تقل يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا فلم تكن الكلمة الإلهية التي ألقيت إليها إلا عين عيسى روح الله وكلمته وهو عبده فنطق عيسى ببراءة أمه في غير الحالة المعتادة ليكون آية فكان نطقه كلام الله في نفس الرحمن فنفس الله عن أمه بذلك ما كان أصابها من كلام أهلها بما نسبوها إليه مما طهرها الله عنه ومن هنا قالت المعتزلة إن المتكلم من خلق الكلام وفيما ليس من شأنه أن يتكلم فذلك كلام الله مثل الجماد والنبات وحالة عيسى إلا القائلين بالشكل الغريب فيجعلون مثل هذا من الأشكال الحادثة في الكون فقد بينا لك معنى كلام الله وكلماته وكلام الله تعالى علمه وعلمه ذاته ولا يصح أن يكون كلامه ليس هو فإنه كان يوصف بأنه محكوم عليه للزائد على ذاته وهو لا يحكم عليه عز وجل وكل ذي كلام موصوف بأنه قادر على أن يتكلم متمكن في نفسه من ذلك والحق لا يوصف بأنه قادر على أن يتكلم فيكون كلامه مخلوقا وكلامه قديم في مذهب الأشعري وعين ذاته في مذهب غيره من العقلاء فنسبة الكلام إلى الله مجهولة لا تعرف كما أن ذاته لا تعرف ولا يثبت الكلام للاله إلا شرعا ليس في قوة العقل إدراكه من حيث فكره فافهم أن النفس للرحمن والكلام لله والقول وهو

انتهاء النفس إلى عين كلمة من الكلمات فيظهر عينها بعد بطونها وتفصيلها بعد إجمالها فإن قلت فائدة الكلام الإسماع وما في الوجود إلا الله وهو متكلم فمن أسمع قلنا ليس من شرط السامع أن يكون موجودا فإنه يقول للمعدوم في حال عدمه كن فيكون المعدوم عند ما يتعلق بسمعه الثبوتي كلام الله وأمره بالوجود وكذلك المرئي علة رؤيته جواز رؤيته الوجود بل الاستعداد والتهيؤ سواء كان موجودا أو معدوما والجواب الآخر كما أنه تكلم من حيث ما هو منعوت بالكلام يسمع كلامه من كونه سميعا وهما نسبتان مختلفتان فإن قلت ففائدة سماع الكلام حصول العلم وهو عالم لذاته قلنا ما كل كلام موضوع لحصول ما لا يعلم فإن المتكلم يثني على نفسه بما هو عالم به إنه عليه فلا يستفيد بل هو للابتهاج بالكمال الذاتي فالحق لم يزل متكلما وإن حدث في الكون فلا يدل على حدوثه في نفس الأمر قال تعالى ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني عندهم وإن كان قد تكلم به مع غيره قبل هذا مثل ما في التوراة وغيرها مما هو في القرآن هذا إذا قلنا إنه يريد كلام الله الذي هو صفة له وإن كان الظاهر أن السامع إنما سمع كلام المترجم عن الله كما

قال إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فلنذكر فصول الأذكار الإلهية ما تيسر منها من المذكورة في القرآن فنبدأ بالتعوذ من أجل أنه من أذكار القرآن‏

(الفصل الثالث في ذكر التعوذ)

قال تعالى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وأعوذ بك منك‏

والحق هنا هو الذاكر بالقرآن نفسه فالتعوذ يكون باسم إلهي من اسم إلهي وهو الذي‏

نبه عليه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بقوله وأعوذ بك منك‏

فإن كان التالي أعني الذاكر بالقرآن ممن للشيطان عليه سبيل حينئذ يجب عليه أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فاستعاذة الحق بما هو عليه من صفات التقديس والتنزيه مما ينسب إليه مما لا يليق به كما قال تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ فوقع العياذ برب العزة عَمَّا يَصِفُونَ يريد مما يطلق عليه مما لا ينبغي لجلاله من الصاحبة والولد والأنداد فهذا كله عياذ إلهي لأنه كلامه وأما الاستعاذة به منه فهو ما ورد من تجليه في صورة تنكر فيتعوذ المتجلي له منها بتجل في صورة يعرف وهو عين الصورة الأولى والثانية وقد بينا لك في هذا الكتاب أنه الظاهر في مظاهر الأعيان فهو المستعيذ به منه ومن هذا الباب قوله أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك هو قوله إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وقوله إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غالِبَ لَكُمْ وإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ فيتعوذ بالناصر من الخاذل وبالنافع من الضار وهو القائل على لسان العبد ما ظهر عنه من التعوذ

(الفصل الرابع في ذكر البسملة)

البسملة قولك بسم الله وهو للعبد كلمة حضرة الكون للتكوين بمنزلة كلمة الحضرة في قوله كُنْ فينفعل عن العبد بالبسملة إذا تحقق بها ما ينفعل عن كن فكأنه يقول بسم الله يكون ظهور الكون فهو إخبار عن حقيقة اقترن بها صدق محبوب كان الحق سمعه ولسانه فيكون عنه ما يكون عن كن وهو قوله فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي فبإذني متعلق بقوله فتنفخ وتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي أي بأمري لما كنت لسانك وبصرك تكونت عنك الأشياء التي ليست بمقدورة لمن لا أقول على لسانه فالتكوين في الحالين لي فبسم الله عين كن‏

(الفصل الخامس في كلمة الحضرة الإلهية)

وهي كلمة كُنْ لله تجل في صور تقبل القول والكلام بترتيب الحروف كما له تجل في غير هذا قد ذكرناه في التجلي الإلهي الذي خرجه مسلم في الصحيح قال تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ فقولنا هو كونه متكلما أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فكن عين ما تكلم به فظهر عنه الذي قيل له كن فأضاف التكوين إلى الذي يكون لا إلى الحق ولا إلى القدرة بل أمر فامتثل السامع في حال عدمه شيئية وثبوته أمر الحق بسمع ثبوتي فأمره قدرته وقبول المأمور بالتكوين استعداده فظهرت الأعيان في النفس الرحماني ظهور الحروف في النفس الإنساني والشي‏ء الذي يكون إنما هو الصورة الخاصة كظهور الصورة المنقوشة في الخشب أو الصورة في الماء المهين أو الصورة في الضلع أو الصورة في الطين أو الصورة فإن قلت عن وجود صدقت وإن قلت لم أكن صدقت‏

فلو رأيت الذي رأينا *** ما قلت إلا أنا هو أنتا

فاعلم بأن الذي سمعتا *** من قول كن منه قد خلقتا

فظاهر الأمر كان قول *** وباطن الأمر أنت كنتا

والشكل عين الذي بدا لي *** وهو الوجود الذي رأيتا

قد أثبت الشي‏ء قول ربي *** لو لم يكن ذاك ما وجدتا

فالعدم المحض ليس فيه *** ثبوت عين فقل صدقتا

لو لم تكن ثم يا حبيبي *** إذ قال كن لم تكن سمعتا

فأي شي‏ء قبلت منه *** الكون أو كون عين أنتا

فكلمة الحضرة كلمات كما قال وما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ فلم يكرر فعين الأمر عين التكوين وما ثم أمر إلهي إلا كن وكن حرف وجودي عند سيبويه من واجب الوجود لا يقبل الحوادث فالأمر في نفسه صعب تصوره من الوجه الذي يطلبه الفكر سهل في غاية السهولة من الوجه الذي قرره الشرع فالفكر يقول ما ثم شي‏ء ثم ظهر شي‏ء لا من شي‏ء والشرع يقول وهو القول الحق‏

بل ثم شي‏ء فصار كونا *** وكان غيبا فصار عينا

انظر إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ يعني السحاب الكائن من الأبخرة هنا الصاعدة للحرارة التي فيها والأبخرة نفس عنصري وليس بشي‏ء زائد على السحاب ولم يكن سحابا في المتنفس بل هو شي‏ء فظهر سحابا فتكاثف ثم تحلل ماء فنزل فتكون بخارا فصعد فكان سحابا فانظر إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ من خِلالِهِ وأَنْزَلْنا من الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً فينشئه سَحاباً فَيَبْسُطُهُ في السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفاً وهو تعدد الأعيان فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ من خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ به من يَشاءُ من عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ فيما في السحاب من الماء يثقل فينزل كما صعد بما فيه من الحرارة فإن الأصغر يطلب الأعظم فإذا ثقل اعتمد على الهواء فانضغط الهواء فأخذ سفلا فحك وجه الأرض فتقوت الحرارة التي في الهواء فطلب الهواء بما فيه من الحرارة القوية الصعود يطلب الركن الأعظم فوجد السحاب متراكما فمنعه من الصعود تكاثفه فأشعل الهواء فخلق الله في تلك الشعلة ملكا سماه برقا فأضاء به الجو ثم انطفأ بقوة الريح كما ينطفئ السراج فزال ضوؤه مع بقاء عينه فزال كونه برقا وبقي العين كونا يسبح الله ثم صدع الوجه الذي يلي الأرض من السحاب فلما مازجه كان كالنكاح فخلق الله من ذلك الالتحام ملكا سماه رعدا فسبح بحمد الله فكان بعد البرق لا بد من ذلك ما لم يكن البرق خلبا فكل برق يكون على ما ذكرناه لا بد أن يكون الرعد يعقبه لأن الهواء يصعد مشتعلا فيخلقه ملكا يسميه برقا وبعد هذا يصدع أسفل السحاب فيخلق الله الرعد مسبحا بحمد ربه لما أوجده وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وثم بروق وهي ملائكة يخلقها الله في زمان الصيف من حرارة الجو لارتفاع الشمس فتنزل الأشعة الشمسية فإذا أحرقت ركن الأثير زادت حرارة فاشتعل الجو من أعلى وما ثم سحاب لأن قوة الحرارة تلطف الأبخرة الصاعدة عن كثافتها فلا يظهر للسحاب عين وهنالك حكم الشين المعجمة من الحروف ولهذا سمي حرف التفشي فخلق الله من ذلك الاشتعال بروقا خلبا لا يكون معها رعد أصلا وهذه كلها حوادث ظهرت أعيانها عن كلمة كن في أنفاس وإنما جئنا بمثل هذا تأنيسا لك لتعلم ما فتح الله من الصور والأعيان في هذا النفس العنصري المسمى بخار التكون لك عبرة إن كنت ذا بصر فتجوز بالنظر في هذا إلى تكوين العالم من النفس الرحماني الظاهر من محبة الله أن يعرفه خلقه فما في العالم أو ما هو العالم سوى كلمات الله وكلمات الله أمره وأمره واحدة وهو كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ لأنه ما ثم أسرع من لمح البصر فإنه زمان التحاظه هو زمان التحاقه بغاية ما يمكن أن ينتهي إليه في التعلق وكذلك قوة السمع دون ذلك فتدبر يا أخي كلام الله وهذا القرآن العزيز وتفاصيل آياته وسورة وهو أحدي الكلام مع هذا التعداد وهو التوراة والفرقان والإنجيل والزبور والصحف فما الذي عدد الواحد أو وحد العدد انظر كيف هو الأمر فإنك إذا علمته علمت كلمة الحضرة وإذا علمت كلمة الحضرة علمت اختصاصها من الكلمات بكلمة كن لكل شي‏ء مع اختلاف ما ظهر ومن الحروف الظاهرة بالكاف والنون ومن الحروف الباطنة

بالواو وكيف حكم العارض على الثابت بمساعدته عليه فرده غيبا بعد ما كان شهادة فإن السكون هو الحاكم من النون وهو عرض لأن الأمر الإلهي عرض له فسكنه فوجد سكون الواو فاستعان عليها بها كما يستعين العبد بربه على ربه فلما اجتمع ساكنان وأرادت النون الاتصال بالكاف لسرعة نفوذ الأمر حتى يكون أقرب من لمح بالبصر كما أخبر فزالت الواو من الوسط فباشرت الكاف النون فلو بقيت الواو لكان في الأمر بطء فإن الواو لا بد أن تكون واو علة لأجل ضمة الكاف فلا يصل النفس إلى النون الساكنة بالأمر إلا بعد تحقق ظهور واو العلة فيبطئ الأمر وهي واو علة فيكون الكون عن علتين الواو والأمر الإلهي وهو لا شريك له وإذا جاز أن يبطى‏ء المأمور عن التكوين زمانا واحدا وهو قدر ظهور الواو لو بقيت ولا تحذف لجاز أن يبقى المأمور أكثر من ذلك فيكون أمر الله قاصرا فلا تنفذ إرادته وهو نافذ الإرادة فحذف الواو من كلمة الحضرة لا بد منه والسرعة لا بد منها فظهور الكون عن كلمة الحضرة بسرعة لا بد منه فظهر الكون فظهرت الواو في الكون لتدل أنها كانت في كن وإنما زالت لأمر عارض فعملت في الغيب فظهرت في الكون لما ظهر الكون بصورة كن قبل حذف الواو ليدل على أن الواو لم تعدم وإنما غابت لحكمة ما ذكرناه فليس الكون بزائد على كن بواوها الغيبية فظهر الكون على صورة كن وكن أمره وأمره كلامه وكلامه علمه وعلمه ذاته فظهر العالم على صورته فخلق آدم على صورته فقبل الأسماء الإلهية وقد بينا ما فيه الكفاية للعاقل في كلمة الحضرة والله يضرب الأمثال لعباده‏

(الفصل السادس في الذكر بالتحميد)

الحمد ثناء عام ما لم يقيده الناطق به بأمر وله ثلاث مراتب حمد الحمد وحمد المحمود نفسه وحمد غيره له وما ثم مرتبة رابعة في الحمد ثم في الحمد بما يحمد الشي‏ء نفسه أو يحمده غيره تقسيمان إما أن يحمده بصفة فعل وإما أن يحمده بصفة تنزيه وما ثم حمد ثالث هنا وأما حمد الحمد له فهو في الحمدين بذاته إذ لو لم يكن لما صح أن يكون لها حمد

فحمد الحمد يعطي الحمد فيه *** ولو لا الحمد ما كان الحميد

ثم إن الحمد على المحمود قسمان القسم الواحد أن يحمد بما هو عليه وهو الحمد الأعم والقسم الثاني أن يحمد على ما يكون منه وهو الشكر وهو الأخص فانحصرت أقسام التحميدات والمحامد وتعيين الكلمات التي تدل على ما ذكرناه لا تتناهى‏

فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول في المقام المحمود فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن‏

وقال لا أحصي ثناء عليك‏

لأن ما لا يتناهى لا يدخل في الوجود ولما كان كل عين حامدة ومحمودة في العالم كلمات الحق الظاهرة من نفس الرحمن ونفس الرحمن ظهور الاسم الباطن والحكم الغيب وهو الظاهر والباطن رجعت إليه عواقب الثناء فلا حامد إلا الله ولا محمود إلا الله وحمد الحمد صفته لأن الحمد صفته وصفته عينه إذ لا يتكثر

ولا يكمل بالزائد تعالى الله *** فحمد الحمد هو فليس إلا هو

فما حمد الله إلا الإله *** ومحموده عينه لا سواه‏

فمن حمد الله على هذا النحو فقد حمده ومن نقصه من ذلك شيئا فهو بقدر ما نقصه فإن كنت حامد الله فلتحمده بهذا الحضور وهذا التصور فيكون الجزاء من الله لمن هذا حمده عينه فافهم‏

(الفصل السابع) في الذكر بالتسبيح‏

التسبيح التنزيه فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ هذا أمر سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ‏

[التسبيح قسم من أقسام الحمد]

خبر التسبيح قسم من أقسام الحمد ولهذا أن الحمد يملأ الميزان على الإطلاق وسبحان الله وغير ذلك من الأذكار تحت حيطة الحمد فإذا ظهر التسبيح فانظر كيف تسبحه فإن الجهل يتخلل هذا المقام تخللا خفيا لا يشعر به فإنه كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لحسان بن ثابت لما أراد أن يهجو قريشا ينافح بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لما هجته قريش وهو منها فنفسها هجت ولم تعلم بذلك وعلم بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فإنه العالم الأتم وقد علم رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن الذي انبعث إليه حسان بن ثابت من هجاء قريش إن ذلك مما يرضى الله لحسن قصده في ذلك وما علم ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إلا لما رأى روح القدس الذي يجيئه قد جاء إلى حسان بن ثابت يؤيده من حيث لا يشعر ما دام ينافح عن عرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وإنما أقر الله ذلك أعلاما لقريش بأن أعمالهم تعود عليهم إذ

كان الهجاء مما عملته لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما (كَسَبَتْ) عملت ليعلموا صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إني منهم فانظر ما تقول وكيف تقول وائت أبا بكر فإنه أعرف بالأنساب فيخبرك حتى لا تقول كلاما يعود على رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فتكون قد وقعت فيما وقعوا فيه فقال له حسان بن ثابت والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين لأنه لا يعلق بها شي‏ء من العجين‏

وهكذا باب التسبيح فإنه تنزيه والتنزيه عبارة عن العدم ليس بتنزيه وإنما يكون التنزيه عن كل صفة تدل على الحدوث لاتصافه بالقدم وصفات الحدوث إنما هي للمحدثات وهنا زلت الاقدام في العلم بالمحدثات ما هي المحدثات وما في الوجود إلا الله فإن الموجودات كلمات الله وبها يثنى على الله فإذا نزه المنزه ربه ولا ينزهه إلا عما هو صفة للمحدث والمحدث ليس له من نفسه شي‏ء ولا عينه له وإنما هي لمن أظهرها فإذا نزه الحق عن شي‏ء لا يثنى عليه إلا به وبأمثاله فقد تركت من الثناء عليه ما كان ينبغي لك أن تثني عليه به فإذا سبحته فتحقق عن أي شي‏ء تنزهه إذ ما ثم إلا هو فإن نفس الرحمن هو جوهر الكائنات ولهذا وصف الحق نفسه بما هو من صفات المحدثات مما تحيله الأدلة النظرية العقلية واحذر أن تسبحه بعقلك واجعل تسبيحه منك بالقرآن الذي هو كلامه فتكون حاكيا لا مخترعا ولا مبتدعا فإن كان هناك ما يقدح كنت أنت بري‏ء الساحة من ذلك إذ ما سبحه إلا كلامه وهو أعلم بنفسه منك وهو يحمد ذاته بأتم المحامد وأعظم الثناء كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنت كما أثنيت على نفسك‏

وقد أثنى على نفسه بما يقول فيه دليل العقل إنه لا يجوز عليه ذلك وينزهه عنه وهذا غاية الذم وتكذيب الحق فيما نسبه إلى نفسه وعلمك بأنك أعرف به منه فاحذر أن تنزهه عن أمر ثبت في الشرع أنه وصف له كان ما كان ولا تسبحه تسبيحة واحدة بعقلك جملة واحدة وقد نصحتك فإن الأدلة العقلية كثيرة التنافر للادلة الشرعية في الإلهيات فسبح ربك بكلام ربك وبتسبيحه لا بعقلك الذي استفاده من فكره ونظره فإنه ما استفاد أكثر ما استفاد إلا الجهل فتحفظ مما ذكر لك فإنه داء عضال قليل فيه الشفاء فذم بذم الله وامدح بمدح الله وارحم برحمة الله وألعن بلعنة الله تفز بالعلم وتملأ يديك من الخير والتسبيح ثناء كل موجود في العالم لا غير التسبيح وهذا هو الذي أضل العقلاء وهو من المكر الإلهي الخفي وغابت عقولهم عن قوله تعالى بحمده وهو ما ذكرناه فقال تعالى وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وما قال يحمد ولا يكبر ولا يهلل فإنها كلها ثناء بإثبات وجودي والتسبيح ثناء بعدم فدخله المكر الإلهي فأثر في العقول المفكرة فجاء العارفون فوجدوا الله قد قيد تسبيح كل شي‏ء بحمده المضاف إليه فسبحوه بما أثنى على نفسه فما استنبطوا شيئا بخلاف الناظرين بعقولهم في الإلهيات ولهذا قال ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ لأنهم نسوا بحمده حجتهم عن ذلك أدلة عقولهم إذ ستر الله عنها ذلك بستر أفكارهم فلم يؤاخذهم على ذلك لقوله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً مع ما فيه من سوء الأدب من وجه لما كان الشفيع فيهم عند الله قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وفيه غلطوا فقبل الله فيهم سؤال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فعفا عنهم فيما توقفوا فيه أو أحالوه مما أثبته الحق لنفسه من استواء ومعية وظرفية ونزول وغير ذلك مما لا يحصى كثرة مما نطقت به كتبه ورسله فقد أفهمتك كيف تسبح ربك وألقيت بك على الطريق فاذكرني عند ربك‏

(الفصل الثامن) في الذكر بالتكبير

قال تعالى ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وذكر الله القرآن فاذكره بالقرآن لا تكبره بتكبيرك إذ قد أمرك أن تكبره فقال وكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عن الولد والشريك والولي ولا تغفل في هذا التكبير عن قوله من الذل فقيده فإنه يقول إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ فما نصرناه من ذل فلهذا قال ولَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ من الذُّلِّ فإنه قد دعاك إلى نصرته ليوفي الصورة التي خلقك عليها حقها لأنه يقول أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فمن إعطائه الصورة التي خلقك عليها خلقها الذي هو عين حقها أن يطلب منها نصرته فإنه الناصر فقال كُونُوا أَنْصارَ الله والناصر هو الولي فلهذا قيده فإذا كبرته عن الولي فاعلم عن أي ولي تكبره وكذلك أيضا الشريك في الملك‏

[العبد هل يملك أو لا يملك‏]

وعلى هذه المسألة تبتني مسألة العبد هل يملك أو لا يملك فمن رأى شركة الأسباب التي لا يمكن وجود المسببات إلا بها لم يثبت الشريك في الملك لأن السبب من الملك وهو كالآلة والآلة يوجد بها ما هو ملك للموجد كما هي الآلة ملك للموجد وما تملك الآلة شيئا فلهذا قيد التكبير عن الشريك في الملك لا في الإيجاد لأن الله تعالى أوجد الأشياء على‏

ضربين ضرب أوجده بوجود أسبابه مثل صنائع العالم كالتابوت للنجار والحائط للبناء وجميع صنائع العالم والكل صنعته تعالى والإضافة إلى النجار وإن كان النجار ما استقل في عمل التابوت بيده فقط بل بآلات متعددة من الحديد وغير ذلك فهذه أسباب التجارة وما أضيف عمل التابوت إلى شي‏ء منها بل أضيف التابوت من كونه صنعة لصانعه ولم يصنع إلا بالآلة ثم ثم إضافة أخرى وهو إن كان النجار صنع في حق نفسه أضيف التابوت إليه لأنه ملكه وهو قوله وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ف لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وإن كان الخشب لغيره فالتابوت من حيث صنعته يضاف إلى النجار ومن حيث الملك يضاف للمالك لا إلى النجار فالنجار آلة للمالك والله ما نفى إلا الشريك في الملك لا الشريك في الصنعة أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ الْعالَمِينَ وأما الضرب الثاني فهو ما أوجده لا بسبب وهو إيجاده أعيان الأسباب الأول فإذا كبرت ربك عن الولي والشريك فقيده في ذلك بما قيده الحق ولا تطلق فيفتك خير كثير وعلم كبير وكذلك قوله وكبره أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فإن الولد للوالد ليس بمتخذ لأنه لا عمل له فيه على الحقيقة وإنما وضع ماء في رحم صاحبته وتولى إيجاد عين الولد سبب آخر والمتخذ الولد إنما هو المتبني كزيد لما تبناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال لنا وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً لأنه لو اتخذ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ فكان يتبنى ما شاء فما فعل فعل من لم يتخذ ولدا وقوله تعالى لَمْ يَلِدْ ذلك ولد الصلب فليس له تعالى ولد ولا تبنى أحدا فنفى عنه الولد من الجهتين لما ادعت طائفة من اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأرادوا التبني فإنهم عالمون بآبائهم وقالوا في المسيح إنه ابن الله إذ لم يعرفوا له أبا ولا تكون عن أب لجهلهم بما قال الله من تمثل الملك لمريم بَشَراً سَوِيًّا وجعله الحق تعالى روحا إذ كان جبريل روحا فما تكون عيسى إلا عن اثنين فجبريل وهب لها عيسى في النفخ فلم يشعروا لذلك كما ينفخ الروح في الصورة عند تسويتها فما عرفوا روح عيسى ولا صورته وإن صورة عيسى مثل تجسد الروح لأنه عن تمثل فلو تفطنت لخلق عيسى لرأيت علما عظيما تقصر عنه أفهام العقلاء فإذا كبرت ربك فكبره كما كبر نفسه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وهم الذين يكبرونه عما لم يكبر نفسه‏

في قوله يفرح بتوبة عبده ويتبشبش إلى من جاء إلى بيته ويباهي ملائكته بأهل الموقف ويقول جعت فلم تطعمني‏

فأنزل نفسه منزلة عبده فإن كبرته بأن تنزهه عن هذه المواطن فلم تكبره بتكبيرة بل أكذبته فهؤلاء هم الظالمون على الحقيقة فليس تكبيره إلا ما كبر به نفسه فقف عند حدك ولا تحكم على ربك بعقلك‏

(الفصل التاسع في الذكر بالتهليل)

هذا هو ذكر التوحيد بنفي ما سواه وما هو ثم فإن لم يكن ثم ونفيت النفي فقد أثبت فإن الله تعالى يقول وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فما عبد فيما عبد إلا الله‏

[ما المراد بالتوحيد]

وهذا التوحيد على ستة وثلاثين أعني الواردة في القرآن من حيث ما هو كلام الله فمنه ما هو توحيد الواحد ولهذا يرى بعض العلماء الإلهيين إن الله هو الذي وحد الواحد ولو لا توحيده لم يكن ثم من يقال فيه إنه واحد فوحدانيته أظهرت الواحد ومنه ما هو توحيد الله وهو توحيد الألوهية ومنه ما هو توحيد الهوية ولنذكر هذا كله في هذا الفصل وما له تعالى في هذا التهليل من الأسماء الإلهية ولا نزيد على ما ورد في القرآن من ذلك وهو ستة وثلاثون موضعا وهي عشر درجات الفلك الذي جعل الله إيجاد الكائنات عند حركاته من أصناف الموجودات من عالم الأرواح والأجسام والنور والظلمة فهذه الستة وثلاثون حق الله مما يكون في العالم من الموجودات فإنها مما تكون في عين التلفظ الإنساني بالقرآن فهو كالعشر فيما سقت السماء وهو المسمى الأعلى من قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فالتهليل عشر الذكر وهو زكاته لأنه حق الله فهو عشر ثلاثمائة وستين درجة فمن ذلك‏

(التوحيد الأول)

وهو قوله تعالى وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فهذا توحيد الواحد

بالاسم الرحمن الذي له النفس فبدأ به لأن النفس لولاه ما ظهرت الحروف ولو لا الحروف ما ظهرت الكلمات فنفى الألوهية عن كل أحد وحده الحق تعالى إلا أحديته فأثبت الألوهية لها بالهوية التي أعاد على اسمه الواحد وأول نعت نعته به الرحمن لأنه صاحب النفس وسمي مثل هذا الذكر تهليلا من الإهلال وهو رفع الصوت أي إذا ذكر بلا إله إلا الله ارتفع الصوت الذي هو النفس الخارج به على كل‏

نفس ظهر فيه غير هذه الكلمة ولهذا

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وما قالها إلا نبي‏

لأنه ما يخبر عن الحق إلا نبي فهو كلام الحق فارفع الكلمات كلمة لا إله إلا الله وهي أربع كلمات نفي ومنفي وإيجاب وموجب والأربعة الإلهية أصل وجود العالم والأربعة الطبيعية أصل وجود الأجسام والأربعة العناصر أصل وجود المولدات والأربعة الأخلاط أصل وجود الحيوان والأربع الحقائق أصل وجود الإنسان فالأربعة الإلهية الحياة والعلم والإرادة والقول وهو عين القدرة عقلا والقول شرعا والأربع الطبيعة الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة والأربعة العناصر الأثير والهواء والماء والتراب والأربعة الأخلاط المرتان والدم والبلغم والأربع الحقائق الجسم والتغذي والحس والنطق فإذا قال العبد لا إله إلا الله على هذا التربيع كان لسان العالم ونائب الحق في النطق فيذكره العالم والحق بذكره وهذه الكلمة اثنا عشر حرفا فقد استوعبت من هذا العدد بسائط أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ثلاث عقود العشرات والمئين والآلاف ومن الواحد إلى التسعة ثم بعد هذا يقع التركيب بما لا يخرجك عن هذه الآحاد إلى ما لا يتناهى فقد ضم ما يتناهى وهو هذه الاثنا عشر ما لا يتناهى وهو ما يتركب منها فلا إله إلا الله وإن انحصرت في هذا العدد في الوجود فجزاؤها لا يتناهى فبها وقع الحكم بما لا يتناهى فبقاء الوجود الذي لا يلحقه عدم بكلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله فهذا عمل نفس الرحمن فبها ولهذا ابتدأ به في القرآن وجعله توحيد الأحد لأن عن الواحد الحق ظهر العالم‏

(التوحيد الثاني)

من نفس الرحمن الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فهذا توحيد الهوية وهو توحيد الابتداء لأن الله فيه مبتدأ ونعته في هذه الآية بصفة التنزيه عن حكم السنة والنوم لما يظهر به من الصور التي يأخذها السنة والنوم كما يرى الإنسان ربه في المنام على صورة الإنسان التي من شأنها أن تنام فنزه نفسه ووحدها في هذه الصورة وإن ظهر بها في الرؤيا حيث كانت فما هي ممن تأخذها سنة ولا نوم فهذا هو النعت الأخص بها في هذه الآية وقدم الحي القيوم لأن النوم والسنة لا يأخذ إلا الحي القائم أي المتيقظ إذ كان الموت لا يرد إلا على حي فلهذا قيل في الحق إنه الحي الَّذِي لا يَمُوتُ كذلك النوم والسنة والسنة أول النوم كالنسيم للريح فإن النوم بخار وهو هواء والنسيم أوله والسنة أول النوم فلا يرد إلا على متصف باليقظة فهذا توحيد التنزيه عمن من شأنه أن يقبل ما نزه عنه هذا الإله الحي القيوم ولو لا التطويل لذكرنا تمام الآية بما فيها من الأسماء الإلهية

(التوحيد الثالث)

من نفس الرحمن وهو الم الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وهذا توحيد حروف النفس وهو الألف واللام والميم وقد ذكرنا من حقائق هذه الحروف في الباب الثاني من هذا الكتاب ما فيه غنية وهذا التوحيد أيضا توحيد الابتداء وله من أسماء الأفعال منزل الكتاب بالحق من الله المسمى بالحي القيوم فبين أنه منزل الكتاب بالحق من الله المسمى بالحي القيوم فبين أنه منزل الأربعة الكتب يصدق بعضها بعضا لأن أكثر الشهود أربعة والكتب الإلهية وثائق الحق على عباده وهي كتب مواصفة وتحقيق بما له عليهم وما لهم عليه مما أوجبه على نفسه لهم فضلا منه ومنة فدخل معهم في العهدة فقال أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فأدخلنا تحت العهد أعلاما بأنا جحدنا عبوديتنا له إذ لو كنا عبيدا لم يكتب علينا عهده فإنا بحكم السيد فلما أيقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك والتصرف والأخذ والعطاء كتب بيننا وبينه عقودا وأخذ علينا العهد والميثاق وأدخل نفسه معنا في ذلك أ لا ترى العبد المكاتب لا يكاتب إلا أن ينزل منزلة الأحرار فلو لا توهم رائحة الحرية ما صحت مكاتبة العبد وهو عبد فإن العبد لا يكتب عليه شي‏ء ولا يجب له حق فإنه ما يتصرف إلا عن إذن سيده فإذا كان العبد يوفي حقيقة عبوديته لم يؤخذ عليه عهد ولا ميثاق أ لا ترى العبد الآبق يجعل عليه القيد وهو الوثاق لإباقه فهذا بمنزلة الوثائق التي تتضمن العهود والعقود التي لا تصح بين العبد والسيد فمن أصب آية تمر على العارفين كل آية فيها أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد عن عبوديتهم لله‏

(التوحيد الرابع)

من نفس الرحمن قوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ في الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هذا توحيد المشيئة ووصف الهوية بالعزة وهو قوله ولَمْ يُولَدْ فهو عزيز الحمى إذ كان هو الذي صورنا في الأرحام من غير مباشرة إذ لو باشر لضمه الرحم كما يضم القابل للصورة ولو لم يكن هو المصور

لما صدقت هذه النسبة وهو الصادق فإنه ما أضاف التصوير إلى غيره فقال كَيْفَ يَشاءُ أي كيف أراد فظهر في هذه الكيفية أن مشيئته تقبل الكيفية مع نعته بالعزة ثم بالحكمة والحكيم هو المرتب للأشياء التي أنزلت منازلها فالتصوير يستدعيه إذ كان هو المصور لا الملك مع العزة التي تليق بجلاله فحير العقول السليمة التي تعرف جلاله وأما أهل التأويل فما حاروا ولا أصابوا أعني في خوضهم في التأويل وإن وافقوا العلم فقد ارتكبوا محرما عليهم يسألون عنه يوم القيامة هم وكل من تكلم في ذاته تعالى ونزهة عما نسبه إلى نفسه ورجح عقله على إيمانه وحكم نظره في علم ربه ولم يكن ينبغي له ذلك وهوقوله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له‏

وذكر بعض ما كذبه فيه لا كله وأبقى له ضربا من الرجاء حيث أضافه إليه في الحديث الذي يقول فيه عبدي فإن قال ابن آدم وهو الأصح في الرواية فأبعده عن نفسه وأضافه إلى ظاهر آدم عليه السلام لأن المعصية بالظاهر وقعت وهو القرب من الشجرة والأكل ونسي ولم يجد له عزما وهو عمل الباطن فبرأ باطنه منها وكانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً مجتبى كما قال تعالى‏

(التوحيد الخامس)

من نفس الرحمن وهو قوله شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ هذا توحيد الهوية والشهادة على الاسم المقسط وهو العدل في العالم وهو قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فوصف نفسه بإقامة الوزن في التوحيد أعني توحيد الشهادة بالقيام بالقسط وجعل ذلك للهوية وكان الله الشاهد على ذلك من حيث أسماؤه كلها فإنه عطف بالكثرة وهو قوله والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ فعلمنا حيث ذكر الله ولم يعين اسما خاصا إنه أراد جميع الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم بالقسط إذ لا يزن على نفسه فلم يدخل تحت هذا إلا ما يدخل في الوزن فهذا توحيد القسط وقد روينا في ذلك حديثا ثابتا وهو ما

حدثناه يونس بن يحيى عن أبي الوقت عبد الأول الهروي عن ابن المظفر الداودي عن أبي محمد الحموي عن الفربري عن البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال قال الله عز وجل أنفق أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار وقال أ رأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يده وكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وبيده الميزان يخفض ويرفع‏

خرجه مسلم أيضا عن أبي هريرة وقال يمينه لم يقل يده وقال بيده الأخرى‏

وهو حديث صحيح فإذا قام العبد بالقسط في تهليل ربه صدقه ربه فقال مثل قوله فهذا من تزكية الله عبده‏

حدثنا غير واحد منهم ابن رستم مكين الدين أبو شجاع الأصفهاني إمام المقام بالحرم المكي الشريف وعمر بن عبد المجيد الميانشي عن أبي الفتح الكرخي عن الترياقي أبي نصر عن عبد الجبار بن محمد عن المحبوبي عن أبي عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن إسماعيل بن محمد عن جحادة عن عبد الجبار بن عباس عن الأغر أبي مسلم قال أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما شهدا على النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال من قال لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقال لا إله إلا أنا وأنا أكبر وإذا قال لا إله إلا الله وحده قال يقول الله لا إله إلا أنا وأنا وحدي وإذا قال لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال الله لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الله لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي وكان يقول من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار

فمن أعطى الحق من نفسه لربه ولغيره ولنفسه من نفسه بإقامة الوزن على نفسه في ذلك فلم يترك لنفسه ولا لغيره عليه حقا جملة واحدة قام في هذا المقام بالقسط الذي شهد به لربه فإنها شهادة أداء الحقوق من يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وما كان له من حق تعين له عند غيره أسقطه ولم يطالب به إذ كان له ذلك ف وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله ثم يؤيد ما ذكرناه في إعطاء الحق في هذه الشهادة قوله بعد قوله قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فشهد الله لنفسه بتوحيده وشهد لملائكته وأولي العلم أنهم شهدوا له بالتوحيد فهذا من قيامه بالقسط وهو من باب فضل من أتى بالشهادة قبل أن يسألها فإن الله شهد لعباده أنهم شهدوا بتوحيده من قبل أن يسأل منه عباده ذلك وبين في هذه الآية أن الشهادة لا تكون إلا عن علم لا عن غلبة ظن ولا تقليد إلا تقليد معصوم فيما يدعيه فتشهد له بأنك على علم كما نشهد نحن على الأمم أن أنبياءها بلغتها دعوة الحق ونحن ما كنا في زمان التبليغ ولكنا صدقنا الحق فيما أخبرنا به في كتابه عن نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة وقوم موسى وشهادة خزيمة وذلك لا يكون إلا لمن هو في إيمانه على علم بمن آمن به لا على تقليد وحسن ظن فاعلم ذلك‏

(التوحيد السادس)

من نفس الرحمن هو قوله الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ هذا أيضا توحيد الابتداء وهو توحيد الهوية المنعوت بالاسم الجامع للقضاء والفصل فمن رحمة الله أنه قال لَيَجْمَعَنَّكُمْ فما نجتمع إلا فيما لا نفترق فيه وهو الإقرار بربوبيته سبحانه وإذا جمعنا من حيث إقرارنا له بالربوبية فهي آية بشرى وذكر خير في حقنا بسعادة الجميع وإن دخلنا النار فإن الجمعية تمنع من تسرمد الانتقام لا إلى نهاية لكن يتسرمد العذاب وتختلف الحالات فيه فإذا انتهت حالة الانتقام ووجدان الآلام أعطى من النعيم والاستعذاب بالعذاب ما يليق بمن أقر بربوبيته ثم أشرك ثم وحد في غير موطن التكليف والتكليف أمر عرض في الوسط بين الشهادتين لم يثبت فبقي الحكم للأصلين الأول والآخر وهو السبب الجامع لنا في القيامة فما جمعنا إلا فيما اجتمعنا

فإذا استعذبوا العذاب أريحوا *** من أليم العذاب وهو الجزاء

قال أبو يزيد الأكبر البسطامي‏

وكل مآربي قد نلت منها *** سوى ملذوذ وجدي بالعذاب‏

لم يقل بالألم ولنا في هذا الباب نظم كثير

(التوحيد السابع)

من نفس الرحمن هو قوله ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ هذا توحيد الرب بالاسم الخالق وهو توحيد الهوية فهذا توحيد الوجود لا توحيد التقدير فإنه أمر بالعبادة ولا يأمر بالعبادة إلا من هو موصوف بالوجود وجعل الوجود للرب فجعل ذلك الاسم بين الله وبين التهليل وجعله مضافا إلينا إضافة خاصة إلى الرب فهي إضافة خصوص لنوحده في سيادته ومجده وفي وجوب وجوده فلا يقبل العدم كما يقبله الممكن فإنه الثابت وجوده لنفسه ويوحد أيضا في ملكه بإقرارنا بالرق له ولنوحده توحيد المنعم لما أنعم به علينا من تغذيته إيانا في ظلم الأرحام وفي الحياة الدنيا ولنوحده أيضا فيما أوجده من المصالح التي بها قوامنا من إقامة النواميس ووضع الموازين ومبايعة الأئمة القائمة بالدين وهذه الفصول كلها أعطاها الاسم الرب فوحدناه ونفينا ربوبية ما سواه قال يوسف لصاحبي السجن أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ

(التوحيد الثامن)

من نفس الرحمن قوله تعالى اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ هذا توحيد الاتباع وهو من توحيد الهوية فهو توحيد تقليد في علم لأنه نصب الأسباب وأزال عنها حكم الأرباب لما قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فلو قالوا ما نتخذهم وأبقوا العبودية لجناب الله تعالى لكان لهم في ذلك مندوحة بوضع الأسباب الإلهية المقررة في العالم فأمر صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يعرض عن الشرك لا عن السبب فإنه قال في مصالح الحياة الدنيا ولَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ فعلل ولام العلة في القرآن كثير وهذا أيضا فيه ما في السابع من توحيد الاسم الرب وعمم إضافة جميعنا إليه وهنا خصص به الداعي فكأنه توحيد في مجلس محاكمة فيدخل فيه توحيد المقسط لإقامة الوزن في الحكم بين الخصماء بين ذلك قوله وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وخص به الداعي لمجيئه بالتوحيد الإيماني لا التوحيد العقلي وهو توحيد الأنبياء والرسل لأنها ما وحدت عن نظر وإنما وحدت عن ضرورة علم وجدته في نفسها لم تقدر على دفعه فترك المشركين وآلهتهم وانفرد بغار حرا يتحنث فيه من غير معلم إلا ما يجده في نفسه حتى فجئه الحق وهو قوله اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أنه لا يقبل الشريك فأعرض عنهم حتى يستحكم الايمان وأقمه بنفس الرحمن فاجعل له أنصارا وآمرك بقتال المشركين لا بالإعراض عنهم‏

(التوحيد التاسع)

من نفس الرحمن هو قوله إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي ويُمِيتُ توحيد الهوية في الاسم المرسل وهو توحيد الملك ولهذا نعته بأنه يحيي ويميت إذ الملك هو الذي يحيي ويميت ويعطي ويمنع ويضر وينفع فمن أعطى أحيا ونفع ومن منع أضر وأمات ومن منع لا عن بخل كان منعه حماية وعناية وجودا من حيث لا يشعر الممنوع وكان الضرر في حقه حيث لم يبلغ إلى نيل غرضه لجهله بالمصلحة فيما حماه عنه النافع ومات هذا الممنوع لكونه لم تنفذ إرادته كما لا تنفذ إرادة الميت فهذا منع الله وضرره وإماتته فإنه المنعم المحسان فأرسل الرسل بالتوحيد تنبيها لإقرارهم في الميثاق الأول فقال وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فمن وحده بلسان رسوله لا من لسانه جازاه الله على توحيده جزاء رسوله فإن وحده‏

لا بلسان رسوله بل بلسان رسالته جازاه مجازاة إلهية لا تعرف يدخل تحت‏

قوله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

انتهى الجزء التاسع عشر ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(التوحيد العاشر)

من نفس الرحمن قوله وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ هذا توحيد الأمر بالعبادة وهو من أعجب الأمور كيف يكون الأمر فيما هو ذاتي للمأمور فإن العبادة ذاتية للمخلوقين ففيم وقع الأمر بالعبادة فأما في حق المؤمنين فأمرهم إن يعبدوه من حيث أحدية العين لما قال في حق طائفة قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فما هي هذه الطائفة التي أمرت أن تعبد إلها واحدا فلا تنظروا في الأسماء الإلهية من حيث ما تدل على معان مختلفة فتتعبدهم معانيها فتكون عبادتهم معلولة حيث رأوا أن كل حقيقة منهم مرتبطة بحقيقة إلهية يتعلق افتقارها القائم بها إليها وهي متعددة فإن حقيقة الطلب للرزق إنما تعبد الرزاق وحقيقة الطلب للعافية إنما تعبد الشافي فقيل لهم لا تعبدوا إلا إلها واحدا وهو أن كل اسم إلهي وإن كان يدل على معنى يخالف الآخر فهو أيضا يدل على عين واحدة تطلبها هذه النسب المختلفة وأما من حمل العبادة هنا على الأعمال فلا معرفة له باللسان فالعمل صورة والعبادة روح لتلك الصورة العملية التي أنشأها المكلف وأما غير المؤمنين وهم المشركون فهم الذين نسبوا الألوهة إلى غير من يستحقها ووضعوا اسمها على غير مسماها وادعوا الكثرة فيها كما ادعوا الكثرة في الإنسانية فدعواهم فيها صحيحة وما عرفوا بطلانها في الإلهية ولذلك تعجبوا من توحيدها فقالوا أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ وما علموا إن جعل الألوهة في الكثيرين أعجب فقيل لهم وإن كنتم ما عبدتم كل من عبدتموه إلا بتخيلكم إن الألوهة صفته فما عبدتم غيرها ليس الأمر كذلك فإنكم شهدتم على أنفسكم إنكم ما تعبدونها إلا لتقربكم إلى الله زلفى فأقررتم مع شرككم إن ثم إلها كبيرا هذه الآلهة خدمتكم إياها تقربكم من الله فهذه دعوى بغير برهان وهو قوله ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به وهذه أرجى آية للمشرك عن نظر جهد الطاقة وتخيله في شبهه أنها برهان فيقوم له العذر عند الله فإذ وقد اعترفوا أنهم عبدوا الشريك ليقربهم إلى الله زلفى فتح القائل على نفسه باب الاعتراض عليه بأن يقال له ومن أين علمتم إن هذه الحجارة أو غيرها لها عند الله من المكانة بحيث أن جعلها معبودة لكم كما قال فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فالذين عبدوا من ينطق ويدعي الألوهة أقرب حالا من عبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا وهذا قول إبراهيم لأبيه وهو الذي قال فيه تعالى وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ وأبوه من قومه وهذه وغيرها من الحجة التي أعطاه الله فأمرهم الله أن لا يعبدوا إلا إلها واحدا لا إله إلا هو في نفس الأمر سبحانه أي هو بعيد أن يشرك في ألوهته فهذا توحيد الأمر

(التوحيد الحادي عشر)

من نفس الرحمن قوله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هذا توحيد الاستكفاء وهو من توحيد الهوية لما قال الله تعالى وتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوى‏ فأحالنا علينا بأمره فبادرنا لامتثال أمره فمنا من قال لو لا إن الله قد علم إن لنا مدخلا صحيحا في إقامة ما كلفنا من البر والتقوى ما أحالنا علينا ومنا من قال التعاون الذي أمرنا به على البر والتقوى أن يرد كل واحد منا صاحبه إلى ربه في ذلك ويستكفي به فيما كلفه وهو قوله اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ خطاب تحقيق واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ خطاب ابتلاء فإذا سمع القوم اللذين قالوا إن لنا مدخلا محققا في العمل ولهذا أمرنا بالتعاون ما قاله من جعله خطاب ابتلاء أو حمله على الرد إلى الله في ذلك لما علمنا أن نقول وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ واسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وهو قول موسى لقومه مع أنهم ما طلبوا معونة الله إلا وعندهم ضرب من الدعوى ولكن أعلى من أصحاب المقام الأول وأقرب إلى الحق فتولوا عنهم في هذا النظر ولم يقولوا به فكيف حالهم مع من هو مشهده وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فقال تعالى لهم فَإِنْ تَوَلَّوْا عما دعوتموهم إليه فَقُلْ حَسْبِيَ الله أي في الله الكفاية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فإذا كان رب العرش والعرش محيط بعالم الأجسام وأنت من حيث جسميتك أقل الأجسام‏

فاستكف بالله الذي هو رب مثل هذا العرش ومن كان الله حسبه انقلب بِنِعْمَةٍ من الله وفَضْلٍ لم يمسسه سوء وجاء في ذلك بما يرضى الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على من جعله حسبه والفضل الزيادة أي ما يعطيه على موازنة عمله بل أزيد من ذلك مما يعظم عنده إذا رآه ذوقا ومن أعجب ما رأيت من بعض الشيوخ من أهل الله ممن كان مثل أبي يزيد في الحال وربما أمكن منه فيه فقعدت مع هذا الشخص يوما بجامع دمشق وهو يذكر لي حاله مع الله وما يجري له معه في وقائعه فقال لي إن الحق ذكر له عظم ملكه قال الشيخ فقلت له يا رب ملكي أعظم من ملكك فقال لي كيف تقول وهو أعلم فقلت له يا رب لأن مثلك في ملكي فإنك لي تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك وما في ملكك مثلك قال فقال لي صدقت وما رأيت أحدا ذهب إلى ما يقارب هذا المذهب أو هو هو سوى محمد بن علي الترمذي الحكيم فإنه يقول في هذا المقام مقام ملك الملك وقد شرحناه في مسائل الترمذي في هذا الكتاب التي سأل عنها أهل الله في كتاب ختم الأولياء ثم بكى هذا الشيخ أدبا مع الله ويقول يا أخي هو يجزئني عليه ويباسطني فكنت أقول له إذا كان يفرح بتوبة عبده كما قاله عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فكيف يكون نظره إلى العارفين به‏

(التوحيد الثاني عشر)

من نفس الرحمن هو قوله حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ هذا توحيد الاستغاثة وهو توحيد الصلة فإنه جاء بالذي في هذا التوحيد وهو من الأسماء الموصولة وجاء بهذا ليرفع اللبس عن السامعين كما فعلت السحرة لما آمنت برب العالمين فقالت رَبِّ مُوسى‏ وهارُونَ لرفع اللبس من أذهان السامعين ولهذا توعدهم ثم تمم وقال وأَنَا من الْمُسْلِمِينَ لما علم إن الإله هو الذي ينقاد إليه ولا ينقاد هو لأحد قال على ابن أبي طالب أهللت بما أهل به رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وهو لا يعرف بما أهل به فقيل منه مع كونه أهل على غير علم محقق فأحرى إذا كان على علم محقق فاعلم بذلك فرعون ليعلم قومه برجوعه عما كان ادعاه فيهم من أنه ربهم الأعلى فأمره إلى الله فإنه آمن عند رؤية البأس وما نفع مثل ذلك الايمان فرفع عنه عذاب الدنيا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ولم يتعرض للآخرة ثم إن الله صدقه في إيمانه بقوله آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ فدل على إخلاصه في إيمانه ولو لم يكن مخلصا لقال فيه تعالى كما قال في الأعراب الذين قالوا آمنا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ في قُلُوبِكُمْ فقد شهد الله لفرعون بالإيمان وما كان الله ليشهد لأحد بالصدق في توحيده إلا ويجازيه به وبعد إيمانه فما

عصى فقبله الله إن كان قبله طاهرا والكافر إذا أسلم وجب عليه إن يغتسل فكان غرقه غسلا له وتطهيرا حيث أخذه الله في تلك الحالة نَكالَ الْآخِرَةِ والْأُولى‏ وجعل ذلك عبرة لِمَنْ يَخْشى‏ وما أشبه إيمانه إيمان من غرغر فإن المغرغر موقن بأنه مفارق قاطع بذلك وهذا الغرق هنا لم يكن كذلك لأنه رأى البحر يبسا في حق المؤمنين فعلم أن ذلك لهم بإيمانهم فما أيقن بالموت بل غلب على ظنه الحياة فليس منزلته منزلة من حضره الموت فقال إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ولا هو من الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ وأَمْرُهُ إِلَى الله تعالى ولما قال الله له فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً كما كان قوم يونس فهذا إيمان موصول وقدم الهوية لبعيد ضميريه عليه ليلحق بتوحيد الهوية

(التوحيد الثالث عشر)

من نفس الرحمن هو قوله فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ الله وأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هذا توحيد الاستجابة وهو توحيد الهو وهو توحيد غريب فإن قوله فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا يعني المدعين لَكُمْ يعني الداعين فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ الله فالضمير في فاعلموا يعود على الداعين وهم عالمون بأنه إنما أنزل بعلم الله ولو أراد المدعين لقال فيعلموا بالياء كما قال يستجيبوا بياء الغيبة ثم قال وأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أنه لا إله إلا هو كما علمتم أنه إنما أنزل بعلم الله ثم قال فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وقد كانوا مسلمين وهذا كله خطاب الداعين إن كانت هل على بابها وإن كانت هنا مثل ما هي في قوله هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ اعتمادا على قرينة الحال فأخرجت عن الاستفهام وإلا فما هذا خطاب الداعين إلا أن يكون مثل قولهم‏

إياك أعني فاسمعي يا جارة

فالخطاب لزيد والمراد به عمرو ولَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وفَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ من قَبْلِكَ ومعلوم أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو عَلى‏ بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ في ماله فعلمنا بقرائن الأحوال أنه المخاطب والمراد غيره لا هو وحكمة ذلك مقابلة الإعراض بالإعراض لأنهم أعرضوا عن قبول دعوة الداعين فأعرض الله عنهم‏

بالخطاب والمراد به هم فأسمعهم في غيرهم وأما فائدة العلم في ذلك فهي إن تقول لما علم الله أن قوما لا يؤمنون ارتفعت الفائدة في خطابهم وكان خطابهم عبثا فأخبرهم الله تعالى أن نزول الخطاب بالدعوة لمن ليس يقبله في علم الله أنه إنما أنزل بعلم الله أي سبق في علم الله إنزاله فلا بد من إنزاله لأن تبدل المعلوم محال كما قال ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنه سبق في علم الله أن تكون خمس صلوات في العمل وخمسون في الأجر فما زال يحط من الخمسين بعلم الله إلى أن انتهى إلى علم الله بإثبات الخمس فنع النقص من ذلك وقال ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وهكذا يكون الله علمه في الأشياء سابق لا يحدث له علم بل يحدث التعلق لا العلم ولو حدث العلم لم تقع الثقة بوعده لأنا لا ندري ما يحدث له فإن قلت فهذا أيضا يلزم في الوعيد قلنا كذا كنا نقول ولكن علمنا أنه ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه وبما تواطئوا عليه من كل ما هو محمود فيعاملهم بذلك في شرعهم كذا سبق علمه وهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ومما يتمدح به أهل هذا اللسان بل هو مدح في كل أمة التجاوز عن إنفاذ الوعيد في حق المسي‏ء والعفو عنه والوفاء بالوعد الذي هو في الخير وهو الذي يقول فيه شاعر العرب‏

وإني إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادى ومنجز موعدي‏

فكان إنزال الوعيد بعلم الله الذي سبق بإنزاله ولم يكن في حق قوم إنفاذه في علم الله ولو كان في علم الله لنفذ فيهم كما ينفذ الوعد الذي هو في الخير لأن الإيعاد لا يكون إلا في الشر والوعد يكون في الخير وفي الشر معا يقال أوعدته في الشر ووعدته في الشر والخير وقال تعالى وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فمما بين لهم تعالى التجاوز عن السيئات في حق من أساء من عباده والأخذ بالسيئة من شاء من عباده ولم يفعل ذلك في الوعد بالخير فأعلمنا ما في علمه فكما هو واحد في ألوهيته هو واحد في أمره فما أنزل إلا بعلم الله سواء نفذ أو لم ينفذ

(التوحيد الرابع عشر)

من نفس الرحمن وهو قوله وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ مَتابِ هذا توحيد الرجعة وهو توحيد الهوية أخبر أنهم يكفرون بالرحمن لأنهم جعلوا هذا الاسم إذ لم يكن عندهم ولا سمعوا به قبل هذا فلما قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وما الرَّحْمنُ ... وزادَهُمْ هذا الاسم نُفُوراً فإنهم لا يعرفون إلا الله الذين يعبدون الشركاء ليقربوهم إلى الله زلفى ولما قيل لهم اعبدوا الله لم يقولوا وما الله وإنما أنكروا توحيده وقد نقل إنهم كانوا يعرفونه مركبا الرحمن الرحيم اسم واحد كبعلبك ورام‏هرمز فلما أفرده وبغير نسب أنكروه فإنه يقال في النسب بعلي فقال لهم الداعي الرحمن هو ربي ولم يقل هو الله وهم لا ينكرون الرب ولما كان الرحمن له النفس وبالنفس حياتهم فسره بالرب لأنه المغذي وبالغذاء حياتهم فلا يفرقون من الرب ويفرقون من الله ولهذا عبدوا الشركاء ليشفعوا لهم عند الله إذ بيده الاقتدار الإلهي والأخذ الشديد وهو الكبير عندهم المتعالي فهم معترفون مقرون به فتلطف لهم بالعبارة بالاسم الرب ليرجعوا فهو أقرب مناسبة بالرحمن قال لموسى وهارون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ والترجي من الله واقع كما قالوا في عسى فإنهما كلمتا ترج ولم يقل لهما لعله يتذكر أو يخشى في ذلك المجلس ولا بد ولا خلصه للاستقبال الأخراوي فإن الكل يخشونه في ذلك الموطن فجاء بفعل الحال الذي يدخله الاحتمال بين حال الدنيا وبين استقبال التأخير للدار الآخرة وذلك لا يكون مخلصا للمستقبل إلا بالسين أو سوف فالذي ترجى من فرعون وقع لأن ترجيه تعالى واقع فآمن فرعون وتذكر وخشي كما أخبر الله وأثر فيه لين قول موسى وهارون ووقع الترجي الإلهي كما أخبر فهذا يدلك على قبول إيمانه لأنه لم ينص إلا على ترجى التذكر والخشية لا على الزمان إلا أنه في زمان الدعوة ووقع ذلك في زمان الدعوة وهو الحياة الدنيا وأمر نبيه أن يقول بحيث يسمعون قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في أمركم وإِلَيْهِ مَتابِ أي مرجعي في أمركم عسى يهديكم إلى الايمان فما أغلظ لهم بل هذا أيضا من القول اللين لتتوفر الدواعي من المخاطبين للنظر فيما خاطبهم به إذ لو خاطبهم بصفة القهر وهو غيب لا عين له في الوقت إلا مجرد إغلاظ القول لنفرت طباعهم وأخذتهم حمية الجاهلية لمن نصبوهم آلهة فأبقى عليهم وهو قوله تعالى وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ولم يقل للمؤمنين وكان سبب نزولها أن دعا على رعل وذكوان وعصية شهرا كاملا في كل صلاة بأن يأخذهم الله فعتبه الله في ذلك وفيه تنبيه على رحمة الله بعباده لأنهم على كل حال عباده معترفون به معتقدون لكبريائه طالبون القربة إليه لكنهم جهلوا طريق القربة ولم يوفوا النظر

حقه ولا قامت لهم شبهة قوية في صورة برهان فكانوا يدخلون بها في مفهوم قوله ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به ويريد بالبرهان هنا في زعم الناظر فإنه من المحال أن يكون ثم دليل في نفس الأمر على إله آخر ولم يبق إلا أن تظهر الشبهة بصورة البرهان فيعتقد أنها برهان وليس في قوته أكثر من هذا

(التوحيد الخامس عشر)

من نفس الرحمن هو قوله يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ من أَمْرِهِ عَلى‏ من يَشاءُ من عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ هذا توحيد الإنذار وهو توحيد الإنابة استوى في هذا التنزل في التوحيد رسل البشر والمرسلون إليهم فإن الملائكة هي التي نزلت بالإنذار من أجل أمر الله لهم بذلك والروح هنا ما نزلوا به من الإنذار ليحيى بقبوله من قبله من عباده كما تحيي الأجسام بالأرواح فحييت بهذا الروح المنزل رسل البشر فأنذروا به فهذا توحيد عظيم نزل من جبار عظيم بتخويف وتهديد مع لطف خفي في قوله فَاتَّقُونِ أي فاجعلوني وقاية تدفعون بي ما أنذرتكم به هذا لطفه ليس معناه فخافوني لأنه ليس لله وعيد وبطش مطلق شديد ليس فيه شي‏ء من الرحمة واللطف ولهذا قال أبو يزيد وقد سمع قارئا يقرأ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فقال بطشي أشد فإن بطش المخلوق إذا بطش لا يكون في بطشه شي‏ء من الرحمة بل ربما ما يقدر أن يبلغ في المبطوش به ما في نفسه من الانتقام منه لسرعة موت ذلك الشخص ولما كانت الرحمة منزوعة عن بطشه قال بطشي أشد وسبب ذلك ضيق المخلوق فإنه ما له الاتساع الإلهي وبطش الله وإن كان شديدا ففي بطشه رحمة بالمبطوش به وبطش المخلوق ليستريح من الضيق والحرج الذي يجده في نفسه بما يوقعه بهذا به المبطوش فيطلب في بطشه الرحمة بنفسه في الوقت وقد لا ينالها كلها بخلاف الحق تعالى فإن بطشه لسبق العلم يأخذ هذا المبطوش به للسبب الموجب له لا غير والمنتقم لغيره ما هو كالمنتقم لنفسه‏

(التوحيد السادس عشر)

من نفس الرحمن وهو قوله فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفى‏ الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ هذا توحيد الأبدال فإنه أبدل الله من الرحمن وهذا في المعنى بدل المعرفة من النكرة لأنهم أنكروا الرحمن وفي اللفظ بدل المعرفة من المعرفة وهو من توحيد الهوية القائمة بأحكام الأسماء الحسنى لا إن الأسماء الحسنى تقوم معانيها بها بل هي القائمة بمعاني الأسماء كما هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كذلك هو قائم بكل اسم بما يدل عليه وهذا علم غامض ولهذا قال في هذا التوحيد يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفى‏ لما قال وإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فالأخفى عن صاحب السر هو ما لا يعلمه مما يكون لا بد أن يعلمه خاصة وما تسمى إلا بأحكام أفعاله من طريق المعنى فكلها أسماء حسني غير أنه منها ما يتلفظ بها ومنها ما يعلم ولا يتلفظ بها لما هو عليه حكمها في العرف من إطلاق الذم عليها فإنه يقول فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها وقدم الفجور على التقوى عناية بنا إلى الخاتمة والغاية للخير فلو أخر الفجور على التقوى لكان من أصعب ما يمر علينا سماعه فالفجور يعرض للبلاء والتقوى محصل للرحمة وقد تأخر التقوى فلا يكون إلا خيرا وقال تعالى الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ولا يشتق له منه اسم لما ذكرناه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ في العرف وحسن غيرها مبطون مجهول في العرف إلا عند العارفين بالله ويندرج في هذا العلم بسبب الألف واللام التي هي للشمول جميع ما ينطلق عليه اسم السر وما هو أخفى من ذلك السر ومن

السر النكاح قال تعالى ولكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي نكاحا فإن الله أيضا يعلمه وإن كانت الآية تدل بظاهرها على ما يحدث المرء به نفسه لقوله وإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فإنه يعلم ذلك ويعلم ما تحدث به نفسك وهو قوله ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ به نَفْسُهُ ومع هذا فإن الألف واللام لها حكم في مطلق اسم السر فيعلم ما ينتجه النكاح وهو قوله تعالى ويَعْلَمُ ما في الْأَرْحامِ فإنه الخالق ما فيها أَ لا يَعْلَمُ من خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ لعلمه بالسر الْخَبِيرُ لعلمه بما هو أخفى ومن هذه الحضرة نصب الأدلة على معرفته وجعل في نفوس العلماء تركيب المقدمات على الوجه الخاص والشرط الخاص فأشبهت المقدمات النكاح من الزوجين بالوقاع ليكون منه الإنتاج فالوجه الخاص الرابط بين المقدمتين وهو أن واحدا من المقدمتين يتكرر فيهما ليربط بعضهما ببعض من أجل الإنتاج والشرط الخاص أن يكون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها حتى يدخل هذا المطلوب تحت الحكم ولو كان الحكم أخص لم ينتج وخرج عنه كقولهم كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فالحادث هنا هو الحكم والمقدمة الأخرى والأجسام لا تخلو عن الحوادث فالحوادث هو الوجه الخاص الجامع بين المقدمتين فانتج إن الجسم حادث ولا بد فالحكم أعم لأن العلة الحوادث القائمة به والحكم كونه حادثا

وما كل حادث يقال فيه إنه لا يخلو عن الحوادث فهذا حكم أعم من العلة فالنتيجة صحيحة ثم الاستفصال في تصحيح المقدمتين معلوم الطريق في ذلك وإنما قصدنا التمثيل لا معرفة حدوث الأجسام ولا غيرها وإذا علمت أن الإيجاد لا يصح إلا على ما قررناه وهو بمنزلة السر في النكاح ينتقل إلى العلم بما هو أخفى من السر كما تنتقل مما ضربت لك به المثل إلى كون الحق أوجد العالم على هذا المساق وظهر العالم عن ذات موصوفة بالقدرة والإرادة فتعلقت الإرادة بإيجاد موجود ما وهو التوجه مثل اجتماع الزوجين فنفذ الاقتدار فأوجد ما أراد فكان أخفى من السر لجهلنا بنسبة هذا التوجه إلى هذه الذات ونسبة الصفات إليها لأنها مجهولة لنا لا تعرف فيعرف التوجه والصفة من حيث عينه وعين الصفة ويجهل كيفية النسبة لجهلنا بالمنسوب إليه لا بالمنسوب فهذا توحيد الموجد للأشياء مع كثرة النسب فهو واحد في كثير فأوقع الحيرة هذا العلم في هذا المعلوم إلا لمن كشف الله عن عينه غطاء الستر فأبصر الأمر على ما هو عليه فحكم بما شاهد واختلفوا هل يجوز وقوع مثل هذا أو لا يجوز

(التوحيد السابع عشر)

من نفس الرحمن هو قوله وأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى‏ إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي هذا توحيد الاستماع وهو توحيد الإنابة وقوى بالجمع إذ قد قرئ وأنا اخترناك فكثر ثم أفرد فقال إِنَّنِي وإن كلمة تحقيق فالإنية هي الحقيقة ولما كان حكم الكناية بالياء يؤثر في صورة الحقيقة نظرت من في الوجود على صورتها فوجدت نونا من النونات فقالت لها قني بنفسك من أجل كناية الياء لئلا تؤثر في صورة حقيقتي فيشهد الناظر والسامع التغيير في الحقيقة أن الياء هي عين الحقيقة فجاءت نون الوقاية فحالت بين الياء ونون الحقيقة فأحدثت الياء الكسر في النون المجاورة لها فسميت نون الوقاية لأنها وقت الحقيقة بنفسها فبقيت الحقيقة على ما كانت عليه لم يلحقها تغيير فقال إِنَّنِي أَنَا الله ولو لا نون الوقاية لقال إني أنا الله فغيرها وتغيير الحقيقة بالضمير في الآن هو مقام تجليه في الصور يوم القيامة وما ثم إلا صورتان خاصة لا ثالثة لهما صورة تنكر وصورة تعرف ولو كان ما لا يتناهى من الصور فإنها محصورة في هذا الحكم إما أن تنكر أو تعرف لا بد من ذلك فإذا قرئ وأَنَا اخْتَرْتُكَ كان أحق بالآية وأنسب وأنفى للتغيير فإنه ما زال التوحيد يصحبها إلى آخر الآية في قوله فَاعْبُدْنِي وإذا قرئ بالجمع ظهر التغير بالانتقال في العين الواحدة من الكثير إلى الواحد فمساق الآية يقوي وأنا اخترناك لأنه عدد أمورا تطلب أسماء مختلفة فلا بد من التغيير والتجلي في كل صورة يدعى إليها وكان جملة ما تحصل من الصور في هذه الواقعة لموسى على ما روى اثنتي عشرة ألف صورة يقول له في كل صورة يا موسى ليتنبه موسى على أنه لو أقيم لصورة واحدة لا تسق الكلام ولم يقل في كل كلمة يا موسى فاعلم ذلك فإن هذا التوحيد في هذه الآية من أصعب ما يكون لقوله وأنا اخترناك فجمع ثم أفرد ثم عدد ما كلم به موسى عليه السلام فهذا توحيد الجمع على كل قراءة غير أن قوله وأنا اخترناك قرأ بها حمزة على رب العزة في المنام فقال له ربه وأنا اخترناك فهي قراءة برزخية فلهذا جمع لأنه تجل صوري في منام فلا بد أن تكون القراءة هكذا فإذا أفردتها بعد الجمع فلأحدية الجمع لا غير

(التوحيد الثامن عشر)

من نفس الرحمن هو قوله إِنَّما إِلهُكُمُ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً هذا توحيد السعة من توحيد الهوية وهو توحيد تنزيه لئلا يتخيل في سعته الظرفية للعالم من أجل الاسم الباطن والظاهر ونفس الرحمن والكلمات التي لا تنفد والقول فقال إن سعته علمه بكل شي‏ء لا أنه طرف لشي‏ء وسبب هذا التوحيد لما جاء في قصة السامري وقوله عن العجل لما نبذ فيه ما قبضه من أثر الرسول فكان العجل ظرفا لما نبذ فيه فلما خار العجل قال هذا إِلهُكُمْ وإِلهُ مُوسى‏ فقال الله إِنَّما إِلهُكُمُ إله واحد لا تركيب فيه وَسِعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً أي هو عالم بكل شي‏ء أكذب السامري في قوله ثم نصب لهم الدلالة على كذب السامري مع كون العجل خار فقال مثل ما قال إبراهيم في الأصنام أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي إذا سئل لا ينطق والله يكون متصفا بالقول ولا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نَفْعاً أي لا ينتفعون به لأنه قال لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في الْيَمِّ نَسْفاً ومن لا يدفع الضرر عن نفسه كيف يدفع عن غيره وإذا حرقه ونسفه لم ينتفع به فإنه لو أبقاه دخلت عليهم الشبهة بما يوجد في الحيوان من الضرر والنفع وفي إقامة هذه الأدلة أمور كبار قال تعالى عن اليهود إنهم قالوا يَدُ الله مَغْلُولَةٌ وقالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ وقال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وأصمنا عن إدراك هذا القول‏

إلا بطريق الايمان وأعمانا عن توجهه على إيجاد الأشياء بما نصب من الأسباب فأنزل المطر فنزل وحرثت الأرض وبذر الحب وانبسطت الشمس وطلع الحب وحصد وطحن وعجن وخبر ومضغ بالأسنان وابتلع ونضج في المعدة وأخذه الكبد فطبخه دما ثم أرسل في العروق وانقسم على البدن فصعد منه بخار فكان حياة ذلك الجسم من أجل ذلك النفس فهذه أمهات الأسباب مع تحريك الأفلاك وسير الكواكب وإلقاء الشعاعات على مطارح الأنوار مع نظير النفس الكلية بإذن الله مع إمداد العقل لها هذه كلها حجب موضوعة أمهات سوى ما بينها من دقائق الأسباب فيحتاج السمع إلى شق هذه الحجب كلها حتى يسمع قول كُنْ فخلق في المؤمن قوة الايمان فسرت في سمعه فأدرك قول كن وسرت في بصره فشاهد المكون للأسباب وفعل هذا كله من نفس الرحمن ليرحم بها من عبد غير الله إذا استوفى منه حقوق الشركاء الذين يتبرءون منهم يوم القيامة فإذا استوفى حقوقهم بالعقوبة والانتقام رجع الأمر إليه على الانفراد وانقضت الأيام التي استوجب الشركاء فيها حقوقهم فلما انفرد ورجع الأمر إليه رحمهم فيما هو حق له بهذه الحجب التي ذكرناها لعلمه بما وضع وبأنه أنطق ألسنتهم بما قالوه وخلق في نفوسهم ما تخيلوه فسبحانه من حكم عدل لطيف خبير يفعل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي لا إله إلا هو فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ

(التوحيد التاسع عشر)

من نفس الرحمن هو قوله وما أَرْسَلْنا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ هذا توحيد الاقتدار والتعريف وهو من توحيد الإنابة وهو توحيد عجيب ومثل هذا يسمى التعريض أي كذا فكن أنت مثل قوله ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ من قَبْلِكَ وجاء بالعبادة ولم يذكر الأعمال المعينة فإنه قال لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً وذلك تعيين الأعمال وهي التي ينتهي فيها مدة الحكم المعبر عنه بالنسخ في كلام علماء الشريعة وما ثم من الأعمال العامة السارية في كل نبوة إلا إقامة الدين والاجتماع عليه وكلمة التوحيد وهو قوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ ومُوسى‏ وعِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وبوب البخاري على هذا باب ما جاء أن الأنبياء دينهم واحد وليس إلا التوحيد وإقامة الدين والعبادة ففي هذا اجتمعت الأنبياء عليه السلام واختصاص هذا الوحي بالأناية دل على أنه كلام إلهي بحذف الوسائط فما أوحي إليهم منهم فإنه لا يقول إنا إلا من هو متكلم فإن قيل فقد قال إنه ينزل بمثل هذا الملائكة فهذا لا يبعد أن تأخذه الرسل من وجهين إذا نزلت به الملائكة يكون على الحكاية كما قال‏

سمعت الناس ينتجعون غيثا *** فقلت لصيدح انتجعي بلالا

فرفع السين من الناس على الحكاية فلو كان هذا السامع انتجاعهم لنصب السين فهذا قوله أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ونزلت به الملائكة وإذا ورد مثل هذا معرى عن القرائن أو النص عليه حمل على ما هو الأصل عليه فما يقول أنا إلا المتكلم أ لا ترى ما ذكرناه في الحديث المتقدم إن الله يصدق عبده في موطن كما يحكي عنه في موطن فقال في التصديق إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال لا إله إلا أنا وأنا أكبر فهو القائل بالأناية لا غيره وأما حكايته ما قال فهو قوله لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنا بهذا اللفظ عينه فإن حكي على المعنى فمثل قوله عن فرعون يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً فإنه قالها بلسان القبط ووقعت الترجمة عنه باللسان العربي والمعنى واحد فهذه الحكاية على المعنى فهكذا فلتعرف الأمور إذا وردت حتى يعلم قول الله من قول ما يحكيه لفظا أو معنى كل إنسان بما هو عليه فقول الله وإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ من كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ به ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُمْ عَلى‏ ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا وانتهى كلام الله ثم حكى معنى قولهم مترجما عنهم أَقْرَرْنا وكذلك قوله وإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا إلى هنا قول الله آمَنَّا حكاية وإِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ قالُوا إلى هنا قول الله إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ حكاية فإذا ذكرت فاعلم بلسان من تذكر وإذا تلوت فاعلم بلسان من تتلو وما تتلو وعمن تترجم‏

(التوحيد العشرون)

من نفس الرحمن هو قوله وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى‏ في الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ من الظَّالِمِينَ هذا توحيد الغم وهو توحيد المخاطب وهو توحيد التنفيس كما نفس الرحمن عن محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بالأنصار

فقال إن نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن‏

فكانت الأنصار التي تكونت من ذلك النفس‏

الرحماني وهي كلمات الحق كما نفس الله عن يونس بالخروج من بطن الحوت فعامل قومه بما عاملهم به من كونه كشف عنهم العذاب بعد ما رأوه نازلا بهم فآمنوا أرضاه الله في أمته فنفعها إيمانها ولم يفعل ذلك مع أمة قبلها إذ كان غضبه لله ومن أجله وظنه بربه أنه لا يضيق عليه وكذلك فعل ففرج الله عنه بعد الضيق ليعلم قدر ما أنعم الله به عليه ذوقا كما قيل‏

أحلى من الأمن عند الخائف الوجل‏

فدل على أن يونس كان محبوبا لله حيث خص قومه من أجله بما لم يخص به أمة قبلها وعرفنا بذلك فقال فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ في الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ فأمد لهم في التمتع في مقابلة ما نالوه من الألم عند رؤية العذاب فإنه معلوم من النفوس الإنسانية أن ليالي الأنس والوصال قصار وإن كانت في نفس الأمر لها مدة طويلة وليالي الهجران والعذاب طوال وإن كانت في نفس الأمر قصارى كما ذكروا في تفسير أيام الدجال أنه أول يوم كسنة لشدة فجأة البلاء يطول عليهم ثم كشهر ثم كجمعة فإذا استصحبوه كان كسائر الأيام المعلومة التي لا يطولها حال ولا يقصرها حال وكما قيل في يوم القيامة إن مقداره خمسون ألف سنة لهول المطلع وما يرى الخلق فيه من الشدة وهو عند الآمنين الذين لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ في الامتداد كركعتي الفجر وأين زمان ركعتي الفجر من زمان خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فلما اشتد البلاء على قوم يونس وكانت اللحظة الزمانية عندهم في وقت رؤية العذاب كالسنة أو أطول ذكر أنه تعالى جعل في مقابلة هذا الطول الذي وجدوه في نفوسهم إن متعهم إلى حين فبقوا في نعيم الحياة الدنيا زمانا طويلا لم يكن يحصل لهم ذلك لو لا هذا البلاء فانظر ما أحسن إقامة الوزن في الأمور وقد قيل إن الحين الذي جعله غاية تمتعهم أنه القيامة والله أعلم ورأينا من رأى منهم رجلا رأينا أثر رجله في الساحل وكان أمامي بقليل فلم ألحقه فاكتلت طول قدمه في الرمل ثلاثة أشبار وثلثي شبر وكان من قوم يونس وبعث إلينا بكلام عن حوادث تحدث بالأندلس حيث كنا سنة خمس وثمانين وسنة ست وثمانين وخمسمائة فما ذكر شيئا إلا رأيناه وقع كما ذكر فانظر في هذه العناية الإلهية بهذا النبي وما جاء به من الاعتراف في توحيده‏

(التوحيد الحادي والعشرون)

من نفس الرحمن فَتَعالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ هذا توحيد الحق وهو توحيد الهوية قال تعالى ما خَلَقْنَا السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ وهو قوله أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً فلا إله إلا هو من نعت الحق فالأمر الذي ظهر فيه وجود العالم هو الحق وما ظهر إلا في نفس الرحمن وهو العماء فهو الحق رب العرش الذي أعطاه الشكل الإحاطي لكونه بكل شي‏ء محيطا فالأصل الذي ظهر فيه صور العالم بكل شي‏ء من عالم الأجسام محيط وليس إلا الحق المخلوق به فكأنه لهذا القبول كالظرف يبرز منه وجود ما يحوي عليه طبقا عن طبق عينا بعد عين على الترتيب الحكمي فأبرز ما كان فيه غيبا ليشهده فيوحده مع صدوره عنه فيحار إن عدده فما ثم غيره وإن وحده فيرى إن عينه ليس هو فأوجد طرفين وواسطة لتميز الأعيان في العين الواحدة فتعددت الصور وما تعددت الخشبية ولا العودية فالعودية في كل صورة بحقيقتها من غير تبعيض وهذه الصورة ما هي هذه الصورة وليس ثم شي‏ء زائد على العودية فقيل ما ثم شي‏ء فقال وما خَلَقْنَا السَّماءَ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ قيل فأين هو قال في عين التمييز فلا أقدر على إنكار التمييز ولا أقدر أثبت سوى عين واحدة ف لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏

(التوحيد الثاني والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هذا توحيد الخب‏ء وهو من توحيد الهوية لما كان الخب‏ء النباتي تخرجه الشمس من الأرض بما أودع الله فيها من الحرارة ومساعدة الماء بما أعطى الله فيه من الرطوبة فجمع بين الحرارة ومنفعل البرودة حتى لا تستقل الشمس بالفعل فظهرت الحياة في الحي العنصري وكان الهدهد دون الطير قد خصه الله بإدراك المياه كان يرى للماء السلطنة على بقية العناصر تعظيما لنفسه وحماية لمقامه حيث اختص بعلمه ليشهد له بالعلم بأشرف الأشياء حيث كان العرش المستوي عليه الرحمن على الماء فكان يحامي عن مقامه ووجد قوما يعبدون الشمس وهي على النقيض من طبع الماء الذي جعل الله منه كل شي‏ء حي وعلم أنه لو لا حرارة الشمس ما خرج هذا الخب‏ء وأنها مساعدة للماء فأدركته العيرة في المنافر فوشى إلى سليمان عليه السلام بعابديها وزاد للتغليظ بقوله من دون الله ينبهه على موضع الغيرة والشمس وإن أخرجت خب‏ء الأرض بحرارتها فهي تخبأ الكواكب‏

بإشراقها وتظهر المحسوسات الأرضية بشروقها فلها حالة الخب‏ء والإظهار وبها حد الليل والنهار فزاحمت من يُخْرِجُ الْخَبْ‏ءَ في السَّماواتِ والْأَرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ فابتلى الله الماء فأصبح غورا وابتلى الشمس فأمست آفلة ففجر العيون فأظهر خب‏ء الماء وفارَ التَّنُّورُ فأظهر خب‏ء الشمس فأخرج الخب‏ء في السموات والأرض فوسع كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وعِلْماً فاستوى على العرش العظيم إذ حكم على فلك الشمس بدورته وعلى الماء باستقراره وجريته فهما في كل درجة في خب‏ء وظهور فوحده الظهور بظهوره ووحده الخب‏ء بسدل ستوره فعلم سبحانه ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ فهو الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏

(التوحيد الثالث والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله وهُوَ الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ في الْأُولى‏ والْآخِرَةِ ولَهُ الْحُكْمُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذا توحيد الاختيار وهو من توحيد الهوية لما كان العالم كلمات الله تعالى كانت نسبة هذه الكلمات إلى النفس الرحماني الطاهرة فيه نسبة واحدة فكان يعطي هذا الدليل أنه لا يكون في العالم تفاضل ولا مختار بفضل عند الله على غيره ورأينا الأمر على غير هذا خرج في الوجود عاما في الموجودات فقال تعالى ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهُمْ في الْبَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْناهُمْ من الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا وقال تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وقال فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ وقال ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ في الْأُكُلِ مع كونها يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ فما ثم آية أحق بما هو الوجود عليه من التفاضل من هذه الآية حيث قال يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ فظهر الاختلاف عن الواحد في الطعم بطريق المفاضلة والواقع من هذا كثير في القرآن من تفضيل كل جنس بعضه على بعض حتى القرآن وهو كلام الله يفضل على سائر الكتب المنزلة وهي كلام الله والقرآن نفسه يفضل بعضه على بعض مع نسبته إلى الله أنه كلامه بلا شك فآية الكرسي سيدة آي القرآن وهي قرآن وآية الدين قرآن فما أعجب هذا السر فعلمنا من هذا أن الحكمة التي يقتضيها النظر العقلي ليست بصحيحة وأن حكمة الله في الأمور هي الحكمة الصحيحة التي لا تعقل وإن كانت لا تعلم فما تجهل لكن لا تعين بمجرد فكر ولا نظر بل يُؤْتِي الْحِكْمَةَ من يَشاءُ ومن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ولقد رأيت في حين تقييدي لهذا التوحيد الذي يعطي التفاضل واقعة عجيبة أعطيت رقا منشورا عرضه فيما يعطي البصر ما يزيد على العشرين ذراعا وأما طوله فلا أحققه وهو على هذا الشكل المصور في الهامش وهو جلد واحد جلد كبش تنظره فتراه أبيض عند القراءة وتنظر إليه في غير قراءة فتراه أخضر فإذا قرأته تراه جلدا وإذا لم تقرأه تراه شقة لا أدري حريرا أو كتانا وهو صداق أهلي فيقال لي هذا صداق إلهي لأهلك ولا أسأل عن الزوج ولا أعلم أنها خرجت عن عصمة نكاحي وأنا فارح بهذا الأمر مسرور غاية السرور ثم يؤتى بسرقة حرير خضراء تنبعث من الكتاب كأنها منه تكونت فيها ألف دينار ذهبا عينا كل دينار ثقيل لا أدري ما وزنه فيقال قسمه على أهلها خمسة دنانير لكل شخص فأول ما آخذ أنا منها خمسة دنانير عليها نور ساطع أعظم من ضياء أضوأ كوكب في السماء له شعاع وأرى نفس ذلك الكتاب هو عين أهلي ما كتابها غيرها وأنا بكل جسمي راقد عليها متكئ فكنت أنظر إلى رقم ذلك الكتاب فأجده بخط زين الدين عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن المعروف بابن الأستاذ قاضي مدينة حلب كتبه عن إملاء القاضي الكبير بهاء الدين بن شداد والصداق من أوله إلى آخره مسجع الألفاظ تسجيعا واحدا على روى الراء المفتوحة والهاء فضبطت منه بعد البسملة الحمد لله الذي جعل قرآنه وفرقانه وتوراته وإنجيله وزبوره رقوم هذا الكتاب المكنون وسطوره وأودعه كل آية في الكتب وسورة وأظهره في الوجود في أحسن صوره وجعل إعلامه في العالم العلوي والسفلي مشهورة وآياته غير متناهية ولا محصورة وكلماته بكل لسان في كل زمان وغير زمان مذكوره هكذا على هذا الروي إلى آخره إن كان له آخر بخط مثل الذر فلما رددت إلى حسي وجدتني أكتب‏

هذا الفصل من فصول التوحيد وإذا به توحيد الاختيار فعلمت أن ذلك عين هذا الفصل وأن لأهلي من هذا الفصل أوفر حظ وأعظم نصيب فلما رأينا التفاضل والاختيار وقع في العالم حتى في الأذكار الإلهية المشروعة كما ذكرنا علمنا إن ثم أمرا معقولا ما هو عين النفس ولا هو غير النفس الذي تتكون فيه الكلمات وهي أعيان الكائنات فإذا بذلك عين المشيئة فيها ظهر هذا التفضيل في الواحد والتفضيل في المتساوي والواحد لا يتصف بالتفضيل والمتساوي لا ينعت بالتفضيل فعلمنا أن سر الله مجهول لا يعلمه إلا هو فوجدناه توحيد الاختيار في حضرة السر لا إله إلا هو له الحمد في الأولى وهو حمد الإجمال والآخرة وهو حمد التفصيل فتميزت المحامد في العين الواحدة فكان حمدها عينها فما أعجب مقام هذا التوحيد لمن شاهده وتعجبت من اسم أهلي في الواقعة واسمها مريم ومعنى هذا الاسم معلوم في اللسان الذي فيه سميت وهي محررة لله حاملة لروح الله محل لكلمة الله مثنى عليها بكلام الله مبرأة بشهادة ما سقط من التمر في هزها جذع النخلة اليابس ونطق ابنها في المهد بأنه عبد الله وهما شاهدان عدلان عند الله فكانت كلها لله وبالله وعن الله ولهذا غبطها زكريا نبي الله فتمنى مثلها على الله فأعطاه يحيى حصورا مثلها لم يجعل له سميا من قبل من أنبياء الله فخصه بالأولية من أسماء الله فانظر في بركة هذا الاسم في وجود الله بين عباد الله فهذا ما كان إلا من اختيار الله ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ بل هي لله والله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ

(التوحيد الرابع والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله ولا تَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ هذا توحيد الحكم بالتوحيد الذي إليه رجوع الكثرة إذ كان عينها وهو توحيد الهوية فنهى كونه أن يدعو مع الله إلها فنكر المنهي عنه إذ لم يكن ثم إذ لو كان ثم لتعين ولو تعين لم يتنكر فدل على أنه من دعا مع الله إلها آخر فقد نفخ في غير ضرم واستسمن ذا ورم وكان دعاؤه لحما علي وضم ليس له متعلق يتعين ولا حق يتضح ويتبين فكان مدلول دعائه العدم المحض فلم يبق إلا من له الوجود المحض فكل شي‏ء يتخيل فيه أنه شي‏ء فهو هالك في عين شيئيته عن نسبة الألوهية إليه لا عن شيئيته فوجه الحق باق وهو ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ والآلاء الجسام فما دعا من دعا إلا إلى معروف فما هو الذي نكر فما هو عين ما ذكر فالحق الخالص من كان في ذاته يعلم فلا يجهل ويجهل فلا يحاط به علما فعلم من حيث إنه لا يحاط به علما وجهل من حيث إنه لا يحاط به علما فعلم من حيث جهل فالعلم به عين الجهل به فما ثم من يقبل الأضداد في وصفه إلا الله‏

(التوحيد الخامس والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله هَلْ من خالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ من السَّماءِ والْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ هذا توحيد العلة وهو من توحيد الهوية لو لم يوحد بالعلة كما يوحد بغيرهما لم يكن إلها لأن من شأن الإله أن لا يخرج عنه وجود شي‏ء إذ لو خرج عنه لم يكن له حكم فيه وقد قال وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فلا بد أن يكون له توحيد العلة وهو أن يعبد بهذا التوحيد لسبب لكون العابد في أصل كونه مفتقرا إلى سبب فلم يخرج عن حقيقته وسببه رزقه الذي به بقاء عينه فتخيله المحجوب في الأسباب الموضوعة وهو تخيل صحيح أنه في الأسباب الموضوعة لكن بحكم الجعل لا بحكم ذاتها فجاعل كونها رزقا هو الله الذي يَرْزُقُكُمْ من السَّماءِ بما ينزل منها من أرزاق الأرواح والْأَرْضِ بما يخرج منها من أرزاق الأجسام فهو الرازق الذي بيده هذا الرزق غير أن الحجب لما أرسلها الله على بعض أبصار عباد الله ولم يدركوا إلا مسمى الرزق لا مسمى الرازق قالوا هذا فقيل لهم ما هو هذا هو في هذا مجعول من الذي خلقكم فكما خلقكم هو رزقكم فلا تعدلوا به ما هو له ومنه فأنتم ومن اعتمد تم عليه سواء فلا تعتمدوا على أمثالكم فتعتمدوا على الكثرة والاعتماد على الكثرة يؤدي إلى عدم حصول ما وقع فيه الاعتماد إذ كل واحد من الكثيرين يقول غيري يقوم له بذلك فلا يقوم له شي‏ء فيدعوه الحال الصحيح إلى التفرغ والتجرد إلى واحد على علم من ذلك الواحد أنه تجرد إليه وتفرغ مما سواه فتعين القيام به عليه فادى إلى حصول المطلوب من وراء حجاب في حق قوم وعلى الشهود والكشف في حق آخرين وهم أهل الله وخاصته‏

(التوحيد السادس والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ هذا توحيد التعجب وهو توحيد الله لا توحيد الهوية فقوله يَسْتَكْبِرُونَ أي يستعظمون ذلك ويتعجبون منه كيف يصح في الكون لا إله إلا الله والشي‏ء لا يكون إلا على صورة

واحدة وعين واحدة والصور كثيرة مختلفة بالحد والحقيقة وبيدها المنع والعطاء وذلك لله أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ أي الكثرة في عين الواحد ما سَمِعْنا بِهذا في آبائِنَا الْأَوَّلِينَ فما أنكروه ولا ردوه بل استعظموه واستكبروه وتعجبوا كيف تكون الأشياء شيئا واحدا واستكبروا مثل هذا الكلام من مثل هذا الشخص حيث علموا أنه منهم وما شاهد إلا ما شاهدوه فمن أين له هذا الذي ادعاه فحجبهم الحس عن معرفة النفس والاختصاص الإلهي فامتثلوا أمر الله من حيث لا يشعرون لأنه الآمر عباده بالاعتبار وهو التعجب فقال إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ وقال فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاعتبروا كما أمروا فهم من أولي الأبصار وقولهم إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ لما جاءهم التعريف بهذا على يدي واحد منهم ولم يعرفوا العناية الإلهية والاختصاص الرباني والاختلاق لم يكن فيما تعجبوا منه لأنه لو أحالوه بالكلية ما تعجبوا وإنما نسبوا الاختلاق لمن جاء به إذ كان من جنسهم ومما يجوز عليه ذلك حتى يتبين لهم برؤية الآيات فيعلمون أنه ما اختلق هذا الرسول وأنه جاءه من عند الله الذي عبد هؤلاء هذه المسماة آلهة عندهم على جهة القربة إلى الله الكبير المتعالي فأنزلوهم بمنزلة الحجة للملك وأعطوهم اسمه كما يعطي اسم الولاية لكل وال وإن كان الوالي هو الله فالولاة كثيرون فكأنه أخبرهم عن الله أنه ما ولي هؤلاء الذي يعبدون بل آباؤكم نصبوهم آلهة هذا الإله الذي أدعوكم إليه تعرفونه وأنه اسمه الله لا تنكرونه وأنتم القائلون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فسميتموه فسموا آلهتكم فتعرفوا عند ذلك الأمر الحق بيد من هو هل هو بأيديكم أو بيدي يقول الرسول فلما عرفوا قوله وتحققوه علموا أنهم في فضيحة لأنهم إذا سموهم لم يسموهم الله ولا عقلوا من أسمائهم مسمى الله فإنهم عارفون بأسمائهم فقالوا مثل ما قال قوم إبراهيم لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فتلك الحجة الإلهية عليهم منهم فما حاجهم إلا بهم وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ‏

(التوحيد السابع والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ هذا توحيد الإشارة فما في الكون مشار إليه إلا هو فَأَنَّى تُصْرَفُونَ لأن الإشارة لا تقع من المشير إلا لأمر حادث عنده وإن لم يكن في عينه في نفس الأمر حادثا ولكنه يعلم أنه حدث عنده وما يحدث أمر عند من يحدث عنده إلا ولا بد أن يجهل أمره عند ما يحدث عنده لشغله بحدوثه عنده وأثره فيه فيشير إليه في ذلك الوقت وفي تلك الحالة رفيقه وهو على نوعين إذ ما له رفيق سوى اثنين إما عقله السليم وإما شرعه المعصوم وما ثم إلا هذا لأنه ما ثم من يقول له في هذه الإشارة ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إلا أحد هذين القرينين إما العقل السليم أو الشرع المعصوم وما عدا هذين فإنه يقول له خلاف ما قال هذان القرينان فيقول له هذا الدهر وتصرفه ويقول الآخر هذه الطبيعة وأحكامها ويقول الآخر هذا حكم الدور فيصرفه كل قائل إلى ما يراه فهو قول هذين القرينين فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ف فَيُضِلُّ الله من يَشاءُ ويَهْدِي من يَشاءُ بالقرآن وما يُضِلُّ به إِلَّا الْفاسِقِينَ الخارجين عن حكم هذين القرينين والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(التوحيد الثامن والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ هذا توحيد الصيرورة وهو من توحيد الهوية وهو على الحقيقة مقام الايمان لأن المؤمن من اعتدل في حقه الخوف والرجاء واستوت فيهما قدماه فلم يحكم فضله في عدله ولا عدله في فضله فكما تجلى في شديد العقاب تجلى في الطول الأعم المؤيد بغافر الذنب وقابل التوب ولم يجعل للشديد العقاب مؤيدا وذلك للدعوى في الشدة فوكل إلى ما ادعاه فهو غير معان ومن لم يدع فهو معان فإنها ولاية في الخلق ولأنه جاء بالشدة في العقاب ولم يجي‏ء في الطول مثل هذه الصفة فلهذا شدد أزره بغافر الذنب وقابل التوب فأشار إلى ذوي الأفهام من عباده بإعانة ذي الطول بغافر الذنب وقابل التوب على الشديد العقاب إلى ترك الدعوى فإن الشديد في زعمه أنه لا يقاوم ولو علم أن ثم من يقاومه ما ادعى ذلك فنبه تعالى عباده على ترك الدعوى فيكون الحق يتولى أمورهم بنفسه وعصمهم في حركاتهم وسكناتهم ليقفوا عند ذلك ويعلموا أنه الحق‏

(التوحيد التاسع والعشرون)

من نفس الرحمن هو قوله ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ هذا توحيد الفضل وهو من توحيد الهوية لأنه جاء بعد قوله إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ‏

فيكون هذا التوحيد شكرا لما تفضل به الله على الناس مع قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أراد في المنزلة فإن الجرم يعلمه كل أحد ولكن ما تفطن الناس لقوله تعالى أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ من كونهم ناسا ولم يقل أكبر من آدم ولا من الخلفاء فإنه ما خلق على الصورة من كونه من الناس إذ لو كان كذلك لما فضل الناس بعضهم بعضا ولا فضلت الرسل بعضهم بعضا ففضل الصورة لا يقاومها فضل فقوله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إذ كان الفاضل ممن له أيضا هذا الاسم والمراد بالفضل العام والخاص فوحده بلسان العموم والخصوص فظهر توحيد الفضل من حضرة الكرم والبذل‏

(التوحيد الثلاثون)

من نفس الرحمن هو قوله هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا توحيد الحياة وهو توحيد الكل وهو من توحيد الهوية الخالصة والحياة شرط في كل متنفس فلهذا هذا العالم حي بما فيه من الأبخرة الصاعدة منه فتوحيد الحياة توحيد الكل فإنه ما ثم إلا حي فإنه ما ثم إلا الحق وهو المسبح نفسه بما أعطى الرحمن في نفسه من الكلام الإلهي فقال سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ فَسُبْحانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ وما ثم إلا العالم وما من شي‏ء من العالم إلا وهو مسبح بحمده ولا ثناء أكمل من الثناء بالأحدية فإن فيها عدم المشاركة فالتوحيد أفضل ثناء وهو لا إله إلا الله فلهذا قلنا إنه توحيد الحياة وتوحيد الكل وهو إخلاص التوحيد لله من الله ومن العالم‏

(التوحيد الحادي والثلاثون)

من نفس الرحمن هو قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي ويُمِيتُ رَبُّكُمْ ورَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ هذا توحيد البركة لأنه في السورة التي ذكر فيها أنه أنزله في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وهي لَيْلَةُ الْقَدْرِ الموافقة ليلة النصف من شعبان المخصوصة بالآجال ولهذا نعت هذا التوحيد بأنه يُحْيِي ويُمِيتُ وهو قوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي محكم فتظهر الحكم فيه التي جاءت بها الرسل الإلهيون ونطقت بها الكتب الإلهية رحمة بعباد الله عامة وخاصة فكل موجود يدركها وما كل موجود يعلم من أين صدرت فهي عامة الحكم خاصة العلم إذ كانت الاستعدادات من القوابل مختلفة فأين نور الشمس من نور السراج في الإضاءة ومع هذا فأخذ الشمس من السراج اسمه وافتقر إليه مع كونه أضوأ منه وجعل نبيه في هذا المقام

سراجا منيرا وبه ضرب الله المثل في نوره الذي أنار به السموات والأرض فمثل صفته بصفة المصباح ثم ذكر ما أوقع به التشبيه مما ليس في الشمس من الإمداد والاعتدال مع وجود الاختلاف بذكر الشجرة من التشاجر الموجود في العالم لاختلاف الألسنة والألوان التي جعل الله فيها من الآيات في خلقه وذكر المشكاة وما هي للشمس فلنور السموات والأرض الذي هو نور الله مشكاة يعرفها من وحده بهذا التوحيد المبارك الذي هو توحيد البركة وفي هذه المشكاة مصباح وهو عين النور الذي تحفظه هذه المشكاة من اختلاف الأهواء وحكمها فيما يقع في السرج من الحركة والاضطراب وإذا تقوت الأهواء أدى إلى طفئ السرج كذلك يغيب الحق بين المتنازعين ويخفى ويحصل فيه الحيرة لما نزلت ليلة القدر تلاحا رجلان فارتفعت فإنها لا تقبل التنازع ولما كانت الأنبياء لا تأتي إلا بالحق وهو النور المبين لذلك‏

قال عليه السلام عند نبي لا ينبغي تنازع‏

فلا ينازع من عنده نور ثم إن لهذا المصباح الذي ضرب به المثل زجاجة فللنور الإلهي زجاجة يعرفك هذا التوحيد ما هي تلك الزجاجة وليس ذلك للشمس والزجاجة تشبه الكوكب الدري فإذا كان المحل الذي ظهر فيه المصباح مشبه بالكوكب الدري الذي هو الشمس فكيف يكون قدر السراج في المنزلة وهو صاحب المنزل ثم قال في هذا السراج إنه اسْتَوْقَدَ أي يتوقد ويضي‏ء من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ فلا بد للنور الإلهي من حقيقة بها يقع التشبيه بالشجرة كما جاء في اختلاف الأسماء الإلهية من الضار النافع والمعز المذل والمحيي المميت وأسماء التقابل ثم إن هذه الشجرة لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ فوصفها بالاعتدال فلهذا كان السراج المذكور الذي وقع به التشبيه هو السراج الذي في المشكاة والزجاجة فيكون محفوظا عن الحركة والاضطراب لكون الشجرة لا شرقية ولا غربية فهذا كله لا يوجد في غير السراج ولا بد أن يعتبر هذا كله في النور الإلهي‏

(التوحيد الثاني والثلاثون)

من نفس الرحمن هو قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الله واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْواكُمْ هذا توحيد الذكرى وهو توحيد الله فاعلم أن الإنسان لما جبله الله على الغفلات رحمة به فيغفل‏

عن توحيد الله بما يطالعه في كل حين من مشاهدة الأسباب التي يظهر التكوين عندها وليس ثمة إدراك يشهد به عين وجه الحق في الأسباب التي يكون عنها التكوين وهو لاستيلاء الغفلة وهذا الغطاء يتخيل أن التكوين من عين الأسباب فإذا جاءته الذكرى على أي وجه جاءته علم بمجيئها إنها تدل لذاتها على أنه لا إله إلا الله وأن تلك الأسباب لو لا وجه الأمر الإلهي فيها أو هي عين الأمر الإلهي ما تكون عنها شي‏ء أصلا فلما كان هذا التوحيد بعد ستر رفعته الذكرى أنتج له أن يسأل ستر الله للمؤمنين والمؤمنات فإن لرفع الستر ووجود الكشف عند الرفع أو العلم بأنه عين الستر لا غيره لذة لا يقدر قدرها فهي من منن الله على عبده‏

(التوحيد الثالث والثلاثون)

من نفس الرحمن هو قوله هُوَ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هذا توحيد العلم وهو من توحيد الهوية وهو توحيده من حيث التفرقة لأنه ميز بين الغيب والشهادة وجمع بين العلم والرحمة وهذا لا يكون إلا في العلم اللدني وهو العلم الذي ينفع صاحبه قال في عبده خضر آتَيْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وهو قوله الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ثم قال وعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً من قوله عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ فعلم الرحمة يكون معه اللين والعطف وهو الذي من لدنه والغصن اللدن هو الرطيب ويُؤْتِ من لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فعظمه وما أَرْسَلْناكَ وما أرسل إلا بالعلم إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فجعل إرساله رحمة فهو علم يعطي السعادة في لين فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ فالعلم وإن كان شريفا فإن له معادن أشرفها ما يكون من لدنه فإن الرحمة مقرونة به ولها النفس الذي ينفس الله به عن عباده ما يكون من الشدة فيهم‏

(التوحيد الرابع والثلاثون)

من نفس الرحمن هو قوله هُوَ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ هذا توحيد النعوت وهو من توحيد الهوية المحيطة فله النعوت كلها نعوت الجلال فإن صفات التنزيه لا تعطي الثبوت والأمر وجودي ثابت فلهذا قدم الهوية وأخرها حتى إذا جاءت نعوت السلب وحصلت الحيرة في قلب السامع منعت الهوية بإحاطتها أن يخرج السامع إلى العدم فيقول فما ثم شي‏ء وجودي إذ قد خرج عن وجود العقل والحس فيلحقه بالعدم فتمنعه الهوية فإن الضمير لا بد أن يعود على أمر مقرر فافهم‏

(التوحيد الخامس والثلاثون)

من نفس الرحمن هو قوله الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ هذا توحيد الرزايا والرجوع فيها إلى الله ليزول عنه ألمها إذ رأى ما أصيب فيه قد حصل بيد من يحفظ عليه وجوده ولهذا أثنى الله على من يقول إذا أصابته مصيبة إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فهم لله في حالهم وهم إليه راجعون عند مفارقة الحال فمن حفظ عليه وجوده وحفظ عليه ما ذهب منه وكان ما حصل عنده أمانة إلى وقتها فما أصيب ولا رزئ فتوحيد الرزايا أنفع دواء يستعمل ولذلك أخبر بما لهم منه تعالى في ذلك فقال أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ من رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ والرحمة لا يكون معها ألم وأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ يقول الذين تبين لهم الأمر على ما هو عليه في نفسه فسمين مصيبة في حقه لنزولها به وفي حق من ليس له هذا الذوق لنزول ألمها في قلبه فيتسخط فيحرم خيرها

(التوحيد السادس والثلاثون)

من نفس الرحمن هو قوله رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا هذا توحيد الوكالة وهو من توحيد الهوية في هذا التوحيد ملك الله العالم الإنساني جميع ما خلقه له من منافعه وأمره أن يوكل الله في ذلك ليتفرغ الإنسان لما خلق له من عبادة ربه في قوله وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وأين هذا المقام من قوله وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فجعل الإنفاق بأيديهم والملك لله وفي هذا القدر الذي أمرهم به من الإنفاق فيه أمرهم أن يتخذوه وكيلا فلا تنافر بين المقامين فالملك لله والإنفاق للعبد بحث الأمر وما أطلق له في ذلك وفي الإنفاق أمر الله أن يوكل الله في ذلك لعلمه بمواضع الإنفاق والمصارف التي ترضي رب المال في الإنفاق فنزل الشرائع أبانت له مصارف المال فأنفق على بصيرة بنظر الوكيل فمن أنفق فيما لم يأمره الوكيل بالإنفاق فيه فعلى المنفق قيمة ما استهلك من مال من استخلفه فيه ولا شي‏ء له فإنه مفلس بحكم الأصل فلا حكم عليه فأعطاه هذا التوحيد رفع الحكم عنه فيما أتلف من مال من استخلفه وهذا آخر تهليل ورد في القرن الذي وصل إلينا وهو ستة وثلاثون مقاما قد ذكرناها بكمالها مبينة إلهية قرآنية ذكر الله بها نفسه وأمرنا أن نذكره بها فامتثلنا فلما ذكرناه بها علمنا من لدنه علما وكان ذكرها رحمة

منه بنا فهذا قد أدينا العشر الواجب علينا مكملا فوقع في يد الحق فيتولى تربيته إلى وقت اللقاء ورد الأمانات إلى أهلها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الفصل العاشر في الذكر بالحوقلة)

وهو قول لا حول ولا قوة إلا بالله وهو ذكر كل حامل بقدر ما حمل فالذاكرون به على طبقات كما أنهم في الصورة على طبقات فمن كان أكثر دخولا كان أكثر دؤبا على هذا الذكر والذي حاز الكمال فيها كان شرطه أن لا يفتر من هذا الذكر بالقول كما أنه لا يفتر عنه بشاهد الحال وهو كل مكلف في العالم والعالم كله مكلف وما كلف به من العالم ومن العالم ما هو مجبور فيما كلف حمله وهو المعبر عنه بفرائض الأعيان وفرائض الكفاية ما لم يقم واحد به فيسقط الفرض عن الباقي ومن العالم ما لم يجير في الحمل وإنما عرض عليه فإن قبله فما قبله إلا لجهله بقدر ما حمل من ذلك كالإنسان لما عرضت عليه الأمانة وحملها كانَ لذلك ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا بقدرها والسموات والأرض والجبال لما عرضت عليهن أبين أَنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها لمعرفتهن بقدر ما حملوا فلم يظلموا أنفسهم ولكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فما وصف أحد من المخلوقات بظلمه لنفسه إلا الإنسان فكان خلق السموات والأرض أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ في المنزلة فإنهن كن أعلم بقدر الأمانة من الإنسان فبهذا كن أيضا أكبر من خلق الناس في المنزلة من العلم فإنهن ما وصفن بالجهل كما وصف الإنسان وكذلك لما أمرنا بالإتيان أمر وجوب فإن لم يجبن جي‏ء بهن على كره ف قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ لعلمهن بأن الذي أمرهن قادر على الإتيان بهن على كره منهن فقلن أتينا طائعين فالإتيان حاصل والطوع في معرض الاحتمال أن يكن صدقن في دعواهن فإن كان الحق القائل فما كذبا بل صدقا وإن كان القول بالواسطة فيحتمل ما قلناه فالعالم منا إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقولها على امتثال الأمر الإلهي والاقتداء فالاقتداء قوله وإياك نستعين إذا كان الحق المتكلم وهي الاستعانة بالأسباب التي لا يمكن رفعها ولا وجود المسبب إلا بوجودها والأمر قوله اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا على حمل هذه المشقات بلا حول ولا قوة إلا بالله انتهى الجزء العشرون ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(الفصل الحادي عشر في الاسم الإلهي) البديع‏

وتوجهه على كل مبدع وعلى إيجاد العقل الأول وهو القلم وتوجهه على إيجاد الهمزة من الحروف ومراتبها وتوجهه على إيجاد الشرطين من المنازل وتوجهه بالإمداد الإلهي النفسي بفتح الفاء الذاتي منه والزائد وسبب زيادته‏

[أول ما خلق الله‏]

قال الله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ والْأَرْضِ لكونهما ما خلقا على مثال متقدم وأول ما خلق الله العقل وهو القلم فهو أول مفعول إبداعي ظهر عن الله تعالى وكل خلق على غير مثال فهو مبدع بفتح الدال وخالقه مبدعه بكسر الدال فلو كان العلم تصور المعلوم كما يراه

بعضهم في حد العلم لم يكن ذلك المخلوق مبدعا بفتح الدال لأنه على مثال في نفس من أبدعه أوجده عليه مطابقا له وذلك الذي في نفس الحق منه على قول صاحب هذا الحد للعلم لم يزل واجب الوجود في نفس الحق فلم يبتدعه في نفسه كما يفعله المحدث إذا ابتدع ولا وجد في العين إلا على الصورة التي قامت في نفس المصور لمثلها لا لها إذ ليس محلا لما يخلقه فما هو بديع وهو بديع فليس في نفسه صورة ما أبدع ولا تصورها وهذه مسألة مشكلة فإن من المعلومات ما يقبل التصور ومنها ما لا يقبل التصور وهو معلوم فما حد العلم تصور المعلوم وكذلك الذي يعلم قد يكون ممن يتصور لكونه ذا قوة متخيلة وقد يكون ممن يعلم ولا يتصور لكونه لا يجوز عليه التمثل فهو تصور من خارج ولا يقبل الصورة في نفسه لما صوره من خارج لكن يعلمه‏

[أن الإبداع في الصور خاصة]

واعلم أولا أن الإبداع لا يكون إلا في الصور خاصة لأنها التي تقبل الخلق فتقبل الابتداع وأما المعاني فليس شي‏ء منها مبتدعا لأنها لا تقبل الخلق فلا تقبل الابتداع فهي تعقل ثابتة الأعيان هذه هي حضرة المعاني المحققة وثم صور تقبل الخلق والابتداع تدل عليها كلمات هي أسماء لها فيقال تحت هذا الكلام أو لهذه الكلمة معنى تدل عليه ويكون ذلك المعنى الذي تتضمنه تلك الكلمة صورة لها وجود عيني ذو شكل ومقدار كلفظ زيد فهذه كلمة تدل على معنى يفهم منها وهو الذي وضعت له وهو شخص من الأناسي ذو قامة

منتصبة وطول وعرض وجهات فمثل هذا يسمى معنى لهذه الكلمة فهذا المعنى يقبل الخلق ولسنا نريد بالمعاني إلا ما لا يقبل الخلق وكل ما لا يقبل الخلق فإنه لا يقبل المثل فلا يقبل المثل إلا الصورة خاصة المادية وغير المادية وأعني بالمادية المركبة وهي الأجسام على تنوع ضروبها وأعني بغير المادية كالبسائط التي لا جزء لها سوى عينها ولكنها تقبل المجاورة فتقبل التركيب فينشأ لذلك صور مختلفة إلى ما لا يتناهى فالأول منها وإن كان صورة فهو المبدع والثاني ليس بمبدع فإنه على مثاله ولكنه مخلوق فهو بالخلق الأول بديع وبالخلق الثاني المماثل للخلق الأول خالق فأول ما خلق الله العقل أظهره في نفس الرحمن في العماء في أول درجته التي هي في نفس الإنسان المخلوق على صورة الهمزة فهي أول مبدع من حروف تنفس الإنسان ولها وجوه وأحكام مثل ما للعقل في النفس فمن ذلك الإمداد الإلهي الذي في قوله لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وفي قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‏ وزِيادَةٌ والزيادة حيث وقعت من الخير والشر ولا تعقل الزيادة إلا بعد عقل الأصل فإذا علم مقداره علم الزائد لئلا يتخيل في الزائد أنه أصل فأقل الزيادة مثل الأصل إلى رابع درجة وليس فوقها زيادة وكل زيادة زائدة على الزيادة مثل الأصل سواء مثاله الأصل وجود عين العقل والزائد وجود النفس وهو على قدر العقل ثم الطبيعة وهي على قدر العقل ثم الهباء وهو على مقدار العقل ثم الجسم الكل وهو الرابع وليس وراءه شي‏ء إلا الصور وكذلك المد الطبيعي بمنزلة العقل مثل مد الألف من قال وشبهه فهذا سار في كل موجود فإن له من الحق إمدادا به بقاؤه فما زاد على ما به بقاؤه وظهور عينه فلسبب آخر ولما كان العقل أول موجود جعل سببا لكل إمداد إلهي في الوجود كذلك الهمزة في النفس الإنساني أوجبت الإمداد في الصوت سواء تأخرت أو تقدمت وتنتهي الزيادة في ذلك على المد الطبيعي إلى أربع مراتب كل زيادة على قدر الأصل التي هي الألف الطبيعية في كل ممدود مثال ذلك أامن في قراءة أبي عمرو وأاامن في قراءة ابن عامر والكسائي وأااامن في قراءة عاصم وأاااامن في قراءة ورش وحمزة وكذلك جاء وجااء وجاااء وجااااء على ما ذكرناه فهذا الإمداد الإلهي قبل الموجب له وبعده هو بحسب المعرفة بالله فمن لم يعرف الله بدليل العالم عليه كان الإمداد متقدما على العلم بالله من حيث لا يعلم العبد فهو يتقلب في نعمة الله ولا علم له بالمنعم من هو على التعيين ومن عرف العالم بالله كان الإمداد متأخرا لأنه علم الله فرآه قبل إمداده وإن كان علمه به من إمداده ولكن ذلك هو المد الطبيعي فالإمداد في النفس الرحماني إيجاد النعم على التضعيف بالزيادة منها والله يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ كما هو في النفس الإنساني مد الصوت طلبا للوصول إلى الموجب أو خروجا من عند الموجب بالإمداد الإلهي لعين الحرف المطلوب وهو العين المقصود بذلك النعيم من الكائنات كما يطلب الوصول إلى حرف الميم بالمد من أامن وإلى حرف الدال من آدم فاعلم ذلك‏

[توجه البديع على إيجاد الشرطين من المنازل‏]

وكذلك توجه هذا الاسم على إيجاد الشرطين من المنازل ليبين بذلك عين البروج المقدرة في الفلك الأطلس إذ ليس لها علامة تعرف بها فجعل لها هذه المنازل علامة على تلك المقادير تقطع في هذا الفلك الأطلس الجواري الخنس الكنس فيعرف بالمنازل كم قطعت من ذلك الفلك ولهذه المنازل أيضا وكل كوكب في الفلك المكوكب قطع في هذا الأطلس لكن لا يبلغ عمر الشخص الواحد إلى الشعور به وقد نقل إلينا أن بعض أهرام مصر وجد تاريخ عمله والنسر في الأسد وهو اليوم في الجدي فانظر ما مر عليها من السنين ويقول أصحاب تسيير الكواكب إن هذه الكواكب الثابتة تقطع في كل ستين سنة من الفلك درجة واحدة ونقلت عن بعضهم مائة سنة فمتى يدرك الحس انتقاله كما يدرك انتقال الجواري الخنس الكنس ثم إنا نعود إلى كلامنا في العقل الأول ومنزلته في النفس الرحماني منزلة الهمزة من حروف الإنسان فنقول إن الله لما خلق الملائكة وهي العقول المخلوقة من العماء وكان القلم الإلهي أول مخلوق منها اصطفاه الله وقدمه وولاة على ديوان إيجاد العالم كله وقلده النظر في مصالحه وجعل ذلك عبادة تكليفه التي تقربه من الله فما له نظر إلا في ذلك وجعله بسيطا حتى لا يغفل ولا ينام ولا ينسى فهو أحفظ الموجودات المحدثة وأضبطه لما علمه الله من ضروب العلوم وقد كتبها كلها مسطرة في اللوح المحفوظ عن التبديل والتحريف ومما كتب فيه فأثبته علم التبديل أي علم ما يبدل وما يحرف في عالم التغيير وإلا حالة فهو على صورة علم الله لا يقبل التبديل فلما ولاة الله ما ولاة أعطاه من أسمائه المدبر والمفصل من غير فكر ولا روية وهو في الإنسان‏

الفكر والتفكر فإذا انفرد بذلك في نفسه كان له حكم وإذا دبر مع غيره كان له حكم يقال له في عالم الإنسان المشاورة يقول تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم آمرا وشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله فحكم التدبير الذي يدبر به ولايته على أقسام سواء انفرد بالتدبير أو طلب المشاركة بحكم المشورة والسبب الموجب للمشورة كون الحق له وجه خاص في كل موجود لا يكون لغير ذلك الموجود فقد يلقى إليه الحق سبحانه في أمر ما ما لا يلقيه لمن هو أعلى منه طبقة كعلم الأسماء لآدم مع كون الملإ الأعلى عند الله أشرف منه ومع هذا فكان عند آدم ما لم يكن عندهم وقد ذكرنا في هذا الكتاب دليل تفضيل الملإ الأعلى من الملائكة على أعلى البشر أعطاني ذلك الدليل رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في رؤيا رأيتها وقبل تلك الرؤيا ما كنت أذهب في ذلك إلى مذهب جملة واحدة وإذا كان هذا فقد ينفرد في أمور نصبها في العالم بما هو مدبر ومفصل لا عن فكر فإنه ليس من أهل الأفكار وقد يشاركه في تدبيره عقل آخر مثل النفس الكلية التي أذكرها في الفصل الذي يلي هذا إن شاء الله فمثل هذا هو حظ المشورة في عالم الخلق وسبب ذلك توفية الألوهة ما تستحقه لما علم أن لله تعالى في كل موجود وجها خاصا يلقى إليه منه ما يشاء مما لا يكون لغيره من الوجوه ومن ذلك الوجه يفتقر كل موجود إليه وإن كان عن سبب فإن قلت فقد أعلمه الله علمه في خلقه حين قال له اكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة قلنا الجواب على هذا من وجهين الوجه الواحد وإن علم ما يكون فمن جملة ما أعلمه به من الكون مشورته ومشاركة غيره له في تدبيره كما نعلم أن الله يعلم ما يكون من خلقه ولكنه قال ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وأعلم من الله فلا يكون وقد جاء مثل هذا في حق الله والوجه الآخر في الجواب وهو إنا قد علمنا إن لله في كل كائن وجها يخصه وذلك الوجه الإلهي لا يتصف بالخلق وقال للقلم اكتب علمي في خلقي وما قال له اكتب علمي في الوجه الذي مني لكل مخلوق على انفراده فهو سبحانه يعطي بسبب وهو الذي كتبه القلم من علم الله في خلقه ويعطي بغير سبب وهو ما يعطيه من ذلك الوجه فلا تعرف به الأسباب ولا الخلق فوقعت المشورة ليظهر عنها أمر يمكن أن يكون من علم ذلك الوجه فيلقي إليه من شاوره في تدبيره علما قد حصل له من الله من حيث ذلك الوجه الذي لم يكتب علمه ولا حصل في خلقه ولهذا قال الله لرسوله فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله يعني على إمضاء ما اتفقتم عليه في المشورة أو ما انفردت به دونهم وقوله فَتَوَكَّلْ عَلَى الله في مثل هذا ما لم يقع الفعل فإن العزم يتقدم الفعل فقيل له توكل على الله فإنه ما يدرى ما لم يقع الفعل ما يلقي الله في نفسك من ذلك الوجه الخاص الإلهي الخارج عن الخلق وهو الأمر الإلهي فإن له الخلق والأمر فما كان من ذلك الوجه فهو الأمر وما كان من غير ذلك الوجه فهو الخلق وكذلك جرى الأمر في حركات الكواكب فيعطي كل كوكب في الدرجة الفلكية على انفراده من الحكم ما لا يعطيه إذا اجتمع معه في تلك الدرجة كوكب آخر أو أكثر فاجتماعهم بمنزلة المشورة وعدم اجتماعهم بمنزلة ما ينفرد به فيكون عن الاجتماع ما لا يكون عن الانفراد ف أَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها مما تنفرد به ومما لا تنفرد به فذلك ما يحدث من الاجتماع فإنه خارج عن الأمر الذي تنفرد به كل سماء ثم في الاجتماعات أحوال مختلفة فيكون ما يحدث بحسب اختلاف الأحوال والأحوال هنالك في القرانات كالأغراض عندنا فكل يقول بحسب غرضه ونظره قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ ثم ينزل الأمر إلى النفس الإنساني فيكون حكم الحرف الواحد خلاف حكمه إذا اجتمع مع غيره فالقاف في ق مفرد يدل على الأمر بالوقاية فإذا اجتمع مع لام جاء منه صورة تسمى قل فحدث للقاف أمر بالقول وأين هو من الأمر بالوقاية وكذلك لو اجتمع بحرف الميم ظهر من هذا الاجتماع صورة قم فحدث للقاف أمر بالقيام وهكذا ما زاد على حرف من حروف متصلة لإبراز كلمة أو منفصلة لإبراز كلمات فتحدث أمور لحدوث هذه‏

الكلمات فيقول السيد لعبده قل فيحدث في العبد القول فيقول أو قم فيقوم فيظهر من المأمور حركة تسمى قياما عن ظهور صورة ذلك الاجتماع فهكذا تحدث الكائنات في النفس الرحماني فتظهر أعيان الكلمات وهو المعبر عنها بالعالم فالكلمة ظهورها في النفس الرحماني والكون ظهورها في العماء فبما هو للنفس يسمى كلمة وأمر أو بما هو في العماء يسمى كونا وخلقا وظهور عين فجاء بلفظة كن لأنها لفظة وجودية فنابت مناب جميع الأوامر الإلهية كما نابت الفاء والعين واللام الذي هو فعل في الأوزان مناب جميع الأوزان‏

وجميع الموزونات من الأسماء والأفعال فهي حروف وزن الكلمة ووزن عين الموجود فكن قامت مقام قل وقم وخذ وقص واخرج وادخل واقترب وجميع ما يقع به الأمر فيكون إن كان أمر قيام فقيام وإن كان أمر قعود فقعود إلى جميع الأعيان فتحدث الكلمة في النفس فيحدث الكون في العماء على الميزان صلة في ذلك وهذه الصلة في أنواع ما يحدثه التدبير على الانفراد وبالمشورة في الكون فأما ما يحدث من ذلك على الانفراد وهو إذا حكم على المدبر اسمان الهيان أو خاطران في حق أصحاب الخواطر وهو في الإلهيات التردد ولا يخلو هذا المدبر في هذه الحال وغيرها من الأحوال أن يكون تحت حكم اسم إلهي من الأسماء السبعة المتحكمة في النفس وما يظهر فيه من الكلمات وهو الاسم الجامع والنافع والعاصم وهو الواقي والسريع والستار وهذه الخمسة الأسماء هي التي تعطي مقام العبودية في العالم والاسم البصير والبارئ وهما اللذان يعطيان مقام الحرية في الاسم الجامع فمنه يكون الإمداد لأهل الفضائل وهم الذين يثابرون على مكارم الأخلاق ومن هذا الاسم‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏

ويمد أيضا أهل الجمع والوجود والحماية وترك المؤاخذة بالجرائم فيذبون عن أصحابها ما يريد بهم الاسم المنتقم والمعاقب فهو معطي الأمان وهو قوله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ الله وفعله أبدا لا يكون إلا فيمن هو في مقام العبودية

وأما الاسم الإلهي النافع‏

فمنه يكون الإمداد للعلماء بالله على مراتبهم وأكثر ما يكون إمداده فيهم في علماء الأرواح وهو قوله تعالى أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً من أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الْكِتابُ ولا الْإِيمانُ ولكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً أي نور هداية ويمد أيضا أهل الجود من أصناف الكرماء خاصة وهم الذين يجودون بالعطاء قبل السؤال من كل ما يقع به المنفعة للمعطي إياه وهو مختص العطاء وإمداد هذا الاسم بالذين أقامهم الله في مقام العبودية والعبودة فإن رجال الله على إحدى حالتين إما حال عبودية أو حال حرية وقد تقدم لك باب العبودية وباب الحرية في هذا الكتاب‏

وأما الاسم الواقي‏

فهو الاسم العاصم من أمر الله فمنه يكون الإمداد للصديقين وأصحاب الأسرار وأهل النظر والأفكار في مباحثهم في المناظرات لاستخراج الفوائد في مجالس أهل الله من غير منازعة ولا يمد هذا الاسم إلا لأرباب مقام العبودية وأهل الاستكفاء بالله وهم المتوكلون على الله توكل العبد على سيده لا توكل الابن على أبيه ولا الميت على غاسله ولا الأجير على من آجره ولا توكل الموكل على وكيله‏

وأما الاسم السريع‏

فإنه مثل الواقي في أنه لا يمد إلا أهل هذا التوكل الخاص ومن هو في مقام العبودية ويكون إمداده للمنفقين بالخلف وهو قوله تعالى وما أَنْفَقْتُمْ من شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ويمد أيضا أهل البقاء لأهل الفناء وعنه يأخذون وإليه يلجئون‏

وأما الاسم الستار

وهو الغفار والغفور والغافر فهو في الإمداد مثل السريع والواقي في العبد والمتوكلين ومن هذا الاسم يكون الإمداد لأهل الاكتساب والقائلين بالأسباب مع الاعتماد على الله غير أنهم وإن اعتمدوا على الله فما في ظاهرهم الاكتفاء بالله وهكذا كل ذي سبب وإن كان من المتوكلين فما كل متوكل يظهر منه الاكتفاء بالله في ظاهره وهذا الاسم يمد أيضا أصحاب المنازل والمنازلات ولهم أبواب في هذا الكتاب نحوا من مائتي باب ترد فيما بعد إن شاء الله‏

وأما الاسم الباري‏

فمنه يكون الإمداد للاذكياء المهندسين أصحاب الاستنباطات والمخترعين الصنائع والواضعين الأشكال الغريبة عن هذا الاسم يأخذون وهو الممد للمصورين في حسن الصورة في الميزان وأعجب ما رأيت من ذلك في قونية من بلاد يونان في مصور كان عندنا اختبرناه وأفدناه في صنعته من صحة التخيل ما لم يكن عنده فصور يوما حجلة وأخفى فيها عيبا لا يشعر به وجاء بها إلينا ليختبرنا في ميزان التصوير وكان قد صورها في طبق كبير على مقدار صورة الحجلة في الجرم وكان عندنا بازي فعند ما أبصرها أطلقه من كان في يده عليها فركضها برجله لما تخيل أنها حجلة في صورتها وألوان ريشها فتعجب الحاضرون من حسن صنعته فقال لي ما تقول في هذه الصورة فقلت له هي على غاية التمام إلا أن فيها عيبا خفيا وكان قد ذكره للحاضرين فيما بينه وبينهم فقال لي وما هو هذه أوزانها صحيحة قلت له في رجليها من الطول عن موازنة الصورة قدر عرض شعيرة فقام وقبل رأسي وقال بالقصد فعلت ذلك لأجربك فصدقه الحاضرون وقالوا إنه ذكر ذلك لهم قبل أن يوقفني عليها فتعجبت من وقوع البازي عليها وطلبه إياها ويمد أيضا هذا الاسم أرباب الجود في وقت المسغبة خاصة لا المنفقين على الإطلاق من غير تقييد وهذا

الاسم لا ينظر من الرجال إلا لمن أقيم في مقام الحرية ما بينه وبين من أقيم في العبودية إمداد

وأما الاسم البصير

فإنه يمد أهل الحرية والعبودة وإمداد أهل الحرية أكثر ونظره إليهم أعظم وهذا الاسم والاسم الباري يمدان أهل الفصاحة والعبارات ولهما إعجاز القرآن وحسن نظم الكلام الرائق هذا لهذين الاسمين ويمد هذا الاسم البصير أصحاب المنازل والمنازلات في بصائرهم وهم الذين تعملوا في اكتسابها الذين أكلوا من تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ما أنزلوها بطرق العناية من غير عمل لأن أهل هذا المقام على نوعين فطائفة نزلت هذه المنازل عن تعمل واكتسبتها وطائفة نزلتها بالإنزال الإلهي عناية من غير تعمل ولا تقدم عمل بل باختصاص إلهي ويمد أيضا هذا الاسم أهل التفرقة وهم الذين يميزون ما تعطيه أعيان المظاهر في الظاهر باستعداداتها وهو مقام عجيب لا يعرفه أكثر أهل التفرقة وأكثر علم أهل التفرقة العلم بمعاني الأسماء الإلهية من حيث معانيها لا من وجه دلالتها على الذات فهذا حصر ما تعطيه هذه الأسماء وحصر من تعطيه ومنتهى العالم في هذا الباب الذي شاهدناه كشفا ألفا من العالمين لا زائد على ذلك والذي شاهدناه ذوقا وجاريناهم قدما بقدم وسابقناهم وسبقناهم في حضرتين حضرة النكاح وحضرة الشكوك ستة عشر عالما من ثماني حضرات وباقي العالم كشفا وتعريفا لا ذوقا فدخلنا في كل ما ذكرناه في هذه الإمدادات الإلهية ذوقا مع عامة أهل الله وزدنا عليهم باسم إلهي وهو الآخر أخذنا منه الرئاسة وروح الله الذي يناله المقربون من قوله تعالى فَأَمَّا إِنْ كانَ من الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ ونلت هذه المقامات في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة في مدة يسيرة في حضرة النكاح مع أهل الصفاء وفي حضرة الشكوك مع أهل القهر والغلبة من أجل الاختلال في الشروط وهي المواثيق التي أخذت على العالم بالله فمنا من غدر ومنا من وفى فكنا ممن وفى بحمد الله وهذه علوم غريبة وأذواق عزيزة لقينا من أربابها رجالا بالمغرب ورجالا بالإسكندرية ورجلين أو ثلاثة بدمشق ورجلا بسيواس كان قد نقصه من هذا المقام شي‏ء قليل فعرضه علينا فأتممناه له حتى تحقق به في زمان يسير وكان غريبا لم يكن من أهل البلاد كان من أهل أخلاط ولكل طائفة ممن ذكرنا ممن هم تحت إحاطة هذه الأسماء الإلهية التميز في ثلاث حضرات حضرة عليا وحضرة وسطي وحضرة سفلي وحضرة مشتركة

[الأسماء المتقابلة أو المتقاربة]

فلا تخلو هذه العقول المدبرة أن تكون في إحدى هذه الحضرات في زمان مرور الخواطر عليها أو الأسماء المتقابلة أو المتقاربة فالمتقابلة كالضار والنافع أو المعز والمذل أو المحيي والمميت ومثل المقاربة كالعليم والخبير أو القدير والقاهر أو الكبير والعظيم وما جرى هذا المجرى في عالم الخلق والأمر وها أنا إن شاء الله أذكر ما يحدث من حكم ذلك كله في العالم‏

تفصيل‏

أما تفصيل ما ذكرناه فهو أن نقول بعد أن تعلم أن كل من ذكرنا من هؤلاء الطبقات فإنما هم أهل الأنفاس خاصة من أهل الله لا غيرهم إن المدبر من عالم الأنفاس إذا أراد تنفيذ أمر ما برزخي يطلب تنفيذه حكمين والأمر واحد فإن الاسم الجامع والنافع والبصير والقائلين بالجود على مسغبة ينظرون إلى الحكم الأسهل فيحكمون به على ذلك الأمر والعلماء بالله يجعلون التوحيد بين الحكمين ويحكم بالأسهل من الحكمين وأما الباري والسريع والواقي والغفور فإنهم يسلكون طريق التحقيق في ذلك فيعطي كل حكم حقه لا يراعى جانبا دون جانب ولا يحكمون بذلك إلا المكملون من رجال الله فإن كان أحد الحكمين برزخيا والآخر سفليا فالاسم الجامع والنافع والبصير يحكمون بما فيه رفع الحرج غير أن الاسم البصير وأهل الجود يجعلان التوحيد بين الحكمين حتى يرفعان الاشتراك وبقية الأسماء السبعة وجميع الطبقات الخارجين عن طبقات هؤلاء الأسماء الثلاثة يسلكون مسلك الاعتدال فيوفون الحقوق على ما تعطي المراتب مثال الأول البرزخى أن ترى الحق في صورة يدركها الحس فالمحققون يعطون الألوهية حقها ويعطون الحضرة التي ظهر الحق فيها بهذه الصورة حقها والطائفة الأخرى تحكم على الحق بالصورة وتقول لو لا أنه على حقيقة تقبلها ما صح أن يظهر بها إذ لم تكن غيره في وقت التجلي وأما الذين جعلوا التوحيد بين الحكمين فقالوا الحق على ما هو عليه في نفسه وهذه الصورة ظهرت بالحق لا إن الحق ظهر بها وجعلوا التوحيد فاصلا بين الحق والصورة وهكذا في الحالة الثانية ومثال ذلك في الحالة الثانية هو تجلى من يقول في رؤيته جميع الأكوان ما رأيت إلا الله من حيث إن البرزخ لا يتعين فيه الصور إلا من عالم الطبيعة وهو المحسوس والحكم كما قررناه فإن كان‏

الأمر بين حكم برزخي وصورة عليا كرؤية الحق في صورة ملك فالجامع والبصير والنافع يرفعون الحرج فيما وقع فيه التشبيه ويوفون حق أحد الحكمين وهو الحكم الذي يلي جانب العزة وأصحاب الجود الإلهي يعتبرون التوحيد فيبرزونها مع رفع الحرج فالتوحد مثل قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ورفع الحرج تمام الآية وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ مرتبة أخرى إذا ظهر أمران الهيان في صورتين مختلفتين والأمران برزخيان فالحكم الإلهي في ذلك وهو أن ترى صورة الحق في البرزخ وصورة الملك في البرزخ على صورة إنسيين كصورة موسى وهارون مثلا أو ترى الحق في صورة شخصين معا في رؤيا واحدة في عالم البرزخ مثل أن ترى الحق في صورة شاب وشيخ في حال واحدة ولا شك إنها الحق ليس غيره فحكم العلم من العلماء بالله وأهل الجود الإلهي في هذه الواقعة أن هذا إمداد إلهي لهذه الصورة التي ظهر فيها الحق وأهل الجود أيضا والفضلاء أصحاب الزيادات من العلم الإلهي مع الاسم البصير من الأسماء الإلهية يزيلون الحق ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ويتأولون الصورة بما يليق بها وما بقي من الأسماء الإلهية والطبقات من أهل الله أرباب المقامات والتحقيق يتركون الحق حقا بما يليق به والصورة صورة بما يليق بها وهو الأولى عندي مرتبة أخرى نبي من الأنبياء كعيسى روح الله وكلمته يظهر حقا من كونه كلمة الله وظهر

ملكا من كونه روح الله فالحكم في هذه الواقعة عند العلماء بالله وأهل الجود من أهل الله يلحقون الملك بذلك النبي وينزهون الحق عن تلك الصورة وأما الراسخون في العلم وهم أهل الزيادات ويوافقهم أيضا أهل الجود الإلهي يقولون الجناب الإلهي أقبل للصور من العالم فيلحقون بصورة ذلك النبي ويبقون صورة الملك على ما هي عليه لا يتأولونها ولا سيما في عيسى فإنه تمثل لأمه بشرا سويا حين أعطاها عيسى وأما الاسم الإلهي البصير فإنه يسقط صورة الحق من ذلك تنزيها ويبقى ما بقي على حاله مرتبة أخرى ملك من الملائكة ظهر في صورة محسوسة وظهر في مقام حق وقال أنا الحق كما سمع موسى الخطاب من الشجرة إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فحكم العلماء العارفون وأهل الجود الإلهي يقولون في الصورة المحسوسة إنها ملك وفي مقام الحق أنه حق وأما أهل الزيادات من العلماء بالله وأهل الجود الإلهي يوافقونهم على حكمهم أيضا يحكمون على الحق بالملكية والاسم البصير الإلهي يسقط بحكمه الحق من أجل ما دخله من التشبيه ويبقى ما بقي على ما هو عليه وجميع أهل الله يقولون لما كان الحق يقبل الصور لم يبعد على الصور أن تدعى فيه وتقول أنا الحق فالذي يعتمد عليه في هذه المسألة أن يعطي الحق من جهة الشرع حقه لا من جهة العقل ويعطي الحس حقه ويعطي الملك حقه ومع هذا فلا بد عند غير المحققين أن يصحبوا التوحيد بين الحكمين مخافة الاشتراك والمحقق لا يبالي فإنه قد عرف ما ثم مرتبة أخرى إذا كانت إحدى الصورتين علوية والأخرى برزخية فالأسماء الثلاثة الجامع والبصير والنافع يرفعون الحرج في الصورة البرزخية وغيرها ولا يعطون كل ذي حق حقه من الصورتين‏

[أن الأمر حق وخلق وأنه وجود محض لم يزل ولا يزال‏]

واعلم أن جميع ما ذكرناه هو حكم العقل في الأمور فتارة يعطي التشديد فيها وتارة يعطي اليسر فيها وتارة يعطي كل ذي حق حقه فيكون في كل حكم بحسب ما يتجلى له الحق فيه سواء كان ذلك في الإلهيات أو في الطبيعيات أو فيما تركب منهما في الجمع والفرق والفناء والبقاء والصحو والسكر والغيبة والحضور والمحو والإثبات إفصاح بما هو الأمر عليه اعلم أن الأمر حق وخلق وأنه وجود محض لم يزل ولا يزال وإمكان محض لم يزل ولا يزال وعدم محض لم يزل ولا يزال فالوجود المحض لا يقبل العدم أزلا وأبدا والعدم المحض لا يقبل الوجود أزلا وأبدا والإمكان المحض يقبل الوجود لسبب ويقبل العدم لسبب أزلا وأبدا فالوجود المحض هو الله ليس غيره والعدم المحض هو المحال وجوده ليس غيره والإمكان المحض هو العالم ليس غيره ومرتبته بين الوجود المحض والعدم المحض فبما ينظر منه إلى العدم يقبل العدم وبما ينظر منه إلى الوجود يقبل الوجود فمنه ظلمة وهي الطبيعة ومنه نور وهو النفس الرحماني الذي يعطي الوجود لهذا الممكن فالعالم حامل ومحمول فبما هو حامل هو صورة وجسم وفاعل وبما هو محمول هو روح ومعنى ومنفعل فما من صورة محسوسة أو خيالية أو معنوية إلا ولها تسوية من جانب الحق وتعديل كما يليق بها وبمقامها وحالها وذلك قبل التركيب أعني اجتماعها مع المحمول الذي تحمله فإذا سواها الرب بما شاءه من قول أو يد أو يدين أو أيد وما ثم سوى هذه الأربعة لأن الوجود على التربيع قام وعدله وهو التهيؤ والاستعداد للتركيب والحمل تسلمه الرحمن فوجه عليه نفسه‏

وهو روح الحق في قوله فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي وهو عين هذا النفس قبلته تلك الصورة واختلف قبول الصور بحسب الاستعداد فإن كانت الصورة عنصرية واشتعلت فتيلتها بذلك النفس سميت حيوانا عند ذلك الاشتعال وإن لم يظهر لها اشتعال وظهر لها في العين حركة وهي عنصرية سميت نباتا وإن لم يظهر لها اشتعال ولا حركة أعني في الحس وهي عنصرية سميت معدنا وجمادا فإن كانت الصورة منفعلة عن حركة فلكية سميت ركنا وهي على أربع مراتب ثم انفعلت عن هذه الأركان صورة مسواة معدلة سميت سماء وهي على سبع طبقات فوجه الرحمن عز وجل نفسه على هذه الصور فحييت حياة لا يدركها الحس ولا ينكرها الايمان ولا النفس ولذلك لم يقبل الاشتعال فكل موضع كان في هذه السموات قبل الاشتعال سمي نجما فظهرت النجوم وتحركت أفلاكها بها فكانت كالحيوان فيما اشتعل منها وكالنبات فيما تحرك منها وإن كانت الصورة عن حركة معنوية وقوة عملية وتوجه نفسي سميت جسما كلا وعرشا وكرسيا وفلكا فلك برج وفلك منازل وتوجه الرحمن بنفسه على هذه الصور فما قبل منها الاشتعال سمي نجوما وهي له كالحدق في وجه الإنسان وما لم يقبل الاشتعال سمي فلكا فإن كانت الصورة عقلية انبعثت انبعاثا ذاتيا عن عقل مجرد تطلب باستعدادها ما تحمله توجه الرحمن عليها عند تسويتها التي سواها ربها بنفسه فما اشتعل منها سمي نور علم وما تحرك منها ولم يشتعل سمي عملا والذات الحاملة لهاتين القوتين نفسا فإن كانت الصورة الإلهية فلا تخلو إما أن تكون جامعة فهي صورة الإنسان أو غير جامعة فهي صورة العقل فإذا سوى الرب الصورة العقلية بأمره وصور الصورة الإنسانية بيديه توجه عليهما الرحمن بنفسه فنفخ فيهما روحا من أمره فأما صورة العقل فحملت في تلك النفخة بجميع علوم الكون إلى يوم القيامة وجعلها أصلا لوجود العالم وأعطاه الأولية في الوجود الإمكانى وأما صورة الإنسان الأول المخلوق باليدين فحمل في تلك النفخة علم الأسماء الإلهية ولم يحملها صورة العقل فخرج على صورة الحق وفيه انتهى حكم النفس إذ لا أكمل من صورة الحق ودار العالم وظهر الوجود الإمكانى بين نور وظلمة وطبيعة وروح وغيب وشهادة وستر وكشف فما ولي من جميع ما ذكرناه الوجود المحض كان نورا وروحا وما ولي من جميع ما ذكرناه العدم المحض كان ظلمة وجسما وبالمجموع يكون صورة فإن نظرت العالم من نفس الرحمن قلت ليس إلا الله وإن نظرت في العالم من حيث ما هو مسوى ومعدل قلت المخلوقات وما رَمَيْتَ من كونك خلقا إِذْ رَمَيْتَ من كونك حقا ولكِنَّ الله رَمى‏ لأنه الحق فبالنفس كان العالم كله متنفسا والنفس أظهره وهو للحق باطن وللخلق ظاهر فباطن الحق ظاهر الخلق وباطن الخلق ظاهر الحق وبالمجموع تحقق الكون وبترك المجموع قيل حق وخلق فالحق للوجود المحض والخلق للإمكان المحض فما ينعدم من العالم ويذهب من صورته فمما يلي جانب العدم وما يبقى منه ولا يصح فيه عدم فمما يلي جانب الوجود ولا يزال الأمران حاكمين على العالم دائما فالخلق جديد في كل نفس دنيا وآخرة فنفس الرحمن لا يزال متوجها والطبيعة لا تزال تتكون صورا لهذا النفس حتى لا يتعطل الأمر الإلهي إذ لا يصح التعطيل فصور تحدث وصور تظهر بحسب الاستعدادات لقبول النفس وهذا أبين ما يمكن في إبداع العالم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الفصل الثاني عشر) من هذا الباب في الاسم الإلهي الباعث وتوجهه على إيجاد اللوح المحفوظ

وهو النفس الكلية وهو الروح المنفوخ منه في الصور المسواة بعد كمال تعديلها فيهبها الله بذلك النفخ أية صورة شاء من قوله في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ وتوجهه على إيجاد الهاء من الحروف وهاء الكنايات وتوجهه على إيجاد البطين من المنازل المقدرة

اعلم أن هذه النفس هي اللوح المحفوظ

وهو أول موجود انبعاثي وأول موجود وجد عند سبب وهو العقل الأول وهو موجود عن الأمر الإلهي والسبب فله وجه إلى الله خاص عن ذلك الوجه قبل الوجود وهو وكل موجود في العالم له ذلك الوجه سواء كان لوجوده سبب مخلوق أو لم يكن‏

[الأسباب إما خلقية وإما معنوية نسبية]

واعلم أن الأسباب منها خلقية ومنها معنوية نسبية فالأسباب الخلقية كوجود مخلوق ما على تقدم وجود مخلوق قبله له إلى وجوده نسبة ما بأي وجه كان إما بنسبة فعلية أو بنسبة بخاصية لا بد من ذلك وحينئذ يكون سببا وإلا فليس بسبب وقد يكون ذلك الأثر في غير مخلوق كقوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ فالسؤال سبب في وجود الإجابة كان المجيب ما كان ومن هذه الحقيقة نزل قوله تعالى ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ‏

أي أحدثت بعض هذه الأمور السؤالات وأما السبب المعنوي فهو من جهة المسبب بفتح الباء اسم مفعول ومن المسبب اسم فاعل فمن جهة المسبب اسم المفعول استعداده لقبول الأثر فيه إذ لو لم يكن فيه استعداد لما وقع فيه الأثر فذلك الاستعداد أمنع من المحال فما يكون ومع هذا فله استعداد في قبول الفرض فيه فلهذا نفرض المحال في بعض المسائل وإن كان لا يقبل الوجود لنستخرج من ذلك الفرض علما لم يكن عندنا فلو لا استعداده لقبول الفرض ما تمكن للعقل أن يفرضه فالممكن أقبل لعين الوجود والسبب الذي من جهة المسبب اسم فاعل فما ذكر الله تعالى إِنَّما قَوْلُنا فأثبت عينه وقوله إِذا أَرَدْناهُ فأثبت الإرادة والتعلق بالمراد فلا بد من هذا شأنه أن يكون عالما حيا له اقتدار على ما يريد تكوينه فهذه كلها استعدادات نسبية معنوية إلا العين الذي هو المسبب فإنه سبب وجودي لا يكون علة لكن هو شرط ولا بد ولما خلق الله هذا العقل الأول قلما طلب بحقيقته موضع أثر لكتابته فيه لكونه قلما فانبعث من هذا الطلب اللوح المحفوظ وهو النفس فلهذا كانت أول موجود انبعاثي لما انبعثت من الطلب القائم بالقلم ولم يكن في القوة العقلية الاستقلال بوجود هذا اللوح فتأيد بالاسم الباعث وبالوجه الخاص الذي انبعثت عنه هذي النفس فالقى العقل إليها جميع ما عنده إلى يوم القيامة مسطرا منظوما وهو موجود ثالث بين اللوح والقلم مرتبته وبعد اللوح وجوده وجعل الله في القلم الإلقاء لما خلق فيه وجعل في اللوح القبول لما يلقى إليه فكان ما ألقى إليه وما ضمه اللوح من الكلمات المخلوقة في ذات القلم واللوح بعد فراغه من الكتابة مائتي ألف آية وتسعا وستين ألف آية ومائتي آية وهو ما يكون في الخلق إلى يوم القيامة من جهة ما تلقيه النفس في العالم عند الأسباب وأما ما يكون من الوجوه الخاصة الإلهية في الموجودات فذلك يحدث وقت وجوده لا علم لغير الله به ولا وجود له إلا في علم الله وهذا جميع ما حصله العقل من النفس الرحماني من حيث ما كلمه به ربه تعالى كما كلم موسى ربه باثنتي عشرة ألف كلمة في كل كلمة يقول له يا موسى وصورة التلقي الإلهي للعقل تجل رحماني عن محبة من المتجلي والمتجلي له‏

[جعل الله المودة والرحمة بين الزوجين‏]

ومن هذا المقام جعل الله بين الزوجين المودة والرحمة ليسكن إليها وجعل الزوجة مخلوقة من عين الزوج ونفسه كما قال ومن آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ أي علامة ودليلا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون أنه الحق وفائدة هذا التفكر أن الإنسان إذا تزوج بالمرأة ووجد السكون إليها وجعل الله بينهما المودة والرحمة علم أن الله يريد التحامهما فإذا ارتفع السكون من أحدهما إلى صاحبه أو منهما وزالت المودة وهي ثبوت هذا السكون وبهذا سمي الحب ودا لثبوته وتسمى بالودود لثبوت حبه من أحب من عباده وزالت الرحمة من بينهما أو من أحدهما بصاحبه فأعرض عنه فيعلم أن الله قد أراد طلاقهما فيبادر لذلك فيفوز عند الله بهذا المقام فإن لج وعاند يحرم القرب الإلهي فإن الحضرة الإلهية لا تقبل اللجاج والمعاندة وقد ثبت في الشرع ما ثبت وما يعرف ما قلناه إلا أهل التفكر من عباد الله فإن الله ما جعله آية إلا لهم فجعل سبحانه سبب حصول هذه العلوم في ذات العقل التجلي‏

[أن سبب وجود العالم هو الحب‏]

ومنه تلقى ذلك وكان سبب التجلي الحب فإنه أصل سبب وجود العالم والسماع سبب كونه وقد بينا هذا في باب السماع والمحبة وأما صورة تلقي النفس ما عندها من العلوم فهو على وجهين هي وكل موجود عن سبب ويختلف باختلاف تنوع الأسباب الوجه الواحد إذا كان التلقي لكل موجود عند سبب من وجهه الخاص به فلا يكون إلا عن تجل إلهي سواء علمه المتجلي له أو لم يعلمه فإن علمه كان من العلماء بالله وإن لم يعلمه كان من أهل العناية وهو لا يشعر إنه معتنى به فإن أكثر الناس لا يعلمون حديث هذا الوجه الخاص ولا يعرفونه فإنه علم خاص لا يعطيه الله إلا لمن اختصه واصطنعه لنفسه من عباده‏

[إن الأسباب مختلفة]

وأما الوجه الآخر من التلقي فهو ما يستفيده من السبب ولا تحصى طرقه فإن الأسباب مختلفة فأين سببية العقل فيما يظهر على النفس من توجهه وتلقيها من سببية السماء فيما يظهر على الأرض من النبات من توجهها عليها بما تلقيه من الغيث فيها وتلقيها لذلك ولكل حركة فلكية ونظر كوكب في العالم العلوي وإمداد الطبيعة كل ذلك أسباب لوجود زهرة تظهر على وجه الأرض أين هذا من توجه سببية العقل فلهذا قلنا ما تنحصر أسبابه مع كونها منحصرة في نفس الأمر فمن النفس إلى آخر ركن في العالم وبعض المولدات ما بين النفس وآخر ركن‏

من الأفلاك والكواكب والحركات في وجود عين تلك الزهرة والورقة أثر وحكم عن أمر إلهي قد يعلمه السبب الحادث وقد لا يعلمه وهي أسباب ذاتية كلها ومنها عرضية كإلقاء المدرس الدرس على الجماعة فهذا من الأسباب العرضية وهو كل ما كان للسبب فيه إرادة وما عدا ذلك فهو ذاتي فالعلاقة التي بين الأسباب والمسببات لا تنقطع فإنها الحافظة لكون هذا سببا وهذا مسببا عنه ولما أوجد الله هذه النفس الكلية من نفس الرحمن بعد العقل كوجود الهاء بعد الهمزة أو الهمزة بعد الهاء في النفس الإنساني المخلوق على الصورة فهو في النفس الرحماني نفس كلية وفي النفس الإنساني هاء وضمير وكناية فهي تعود من حيث ما هي ضمير على من أوجدها فإنها عين الدلالة عليه فافهم فإن الدلالة لا تكون إلا في الثاني فإنه يطلب الأول وليس الأول يطلب الثاني بحكم الدلالة ولهذا

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من عرف نفسه عرف ربه‏

وهو الثاني فإنه موضع الدلالة وقال في الأول فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فنزهه عن الدلالة ولهذا لا يصح أن يكون علة وإليه الدلالة

بقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان الله ولا شي‏ء معه‏

فهو غني عن الدلالة وفي هذه الرتبة أوجد الله البطين من المنازل التي تنزلها الجواري والكواكب البطيئة الحركة

[أن للنفس قوتين‏]

وأعطى الله هذه النفس قوتين قوة علمية وقوة عملية فبالقوة العلمية تظهر أعيان الصور وبالقوة العلمية تعلم المقادير والأوزان ومن الوجه الخاص يكون القضاء والقدر لهذا ولا يعرف ذلك إلا بعد وقوعه إلا من عرفه الله بذلك فحكم القضاء والقدر لا بعرف إلا مما ذكرناه بخلاف المقادير والأوزان فإن ذلك في علم النفس ونسبة هذه النفس إلى كل صورة في العالم نسبة واحدة من غير تفاضل إلا أن الصور تقبل من ذلك بحسب استعداداتها التي هي عليا في ذاتها فيظهر التفاضل وأما هناك فلا تفاضل إلا بينها وبين العقل ولما بينت لك حصر الآيات في الكلام الإلهي الظاهرة في النفس الرحماني كالآيات في القرآن العزيز وفي الكتب المنزلة والصحف المرسلة فإن لها سورا تجمع تلك الآيات وتفصل بعضها من بعض كما جاءت سور القرآن وهي منازله المعلومة الجامعة للآيات كما الآيات جامعات للكلمات كما الكلمات جامعة للحروف كما هي الحروف ظروف المعاني فسور هذه الآيات عشر سور من غير زيادة ولا نقصان فمنها سورة الأصل وهي السورة التي تتضمن كل آية تدل على عين قائمة بنفسها في العالم الحاملة غيرها السورة الثانية سورة المحمول وهي تتضمن كل آية تدل على عين لا تقوم بنفسها بل تفتقر إلى محل وعين يظهر وجودها بذلك المحل وقد تكون تلك العين لازمة وقد تكون عرضية على قدر ما تعطيه حقيقتها والسورة الثالثة سورة الدهر والرابعة سورة الاستواء وله أصلان الأصل الأول ظرفية العماء والأصل الثاني ظرفية العرش فالأول ظرفية المعاني والثاني ظرفية السور والسورة الخامسة سورة الأحوال والسورة السادسة سورة المقدار والسورة السابعة سورة النسب والسورة الثامنة سورة التوصيل والأحكام والعبارات والإشارات والإيماء وما يقع به الإفهام بين المخاطبين وهو نطق العالم وقول كل قائل وهي الأسماء الإلهية التي علم الله آدم فمنها ما كانت الملائكة تعلمه وما اختص آدم إلا بالكل وما عرض من المسميات إلا ما كانت الملائكة تجهله والسورة التاسعة سورة الآثار الوجودية والسورة العاشرة سورة الكائنات وهي الانفعالات الإلهية والكونية فهذه عشر تتضمن هذه الآيات فمن علمها كشفا علم الحق والخلق ومن علمها دلالة لم يكمل في علمها كمال أصحاب الكشف ولا تقل هذا رمز بل هذا كله تصريح وإيضاح يعرفه كل عاقل إذا حقق النظر فيه أن الآيات كلها محصورة في هذه السور قديما وحديثا والنفس الكلية هي التي ظهرت عنها معرفة هذه السور لأنها كانت محل إلقاء القلم الإلهي إليها فهي أول منكوح لناكح كوني وكل ما دونها فهو من عالم التولد العقل أبوه والنفس أمه فافهم ولا تلحق بمن قال الله فيهم إنهم لفي لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ وهم الذين أعرضوا عن كل ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وقد قلنا في مرتبتنا في هذا

أنا في خلق جديد *** كل يوم في مزيد

وأنا من حيث حبي *** بين وجد ووجود

شاكرا شكر محب *** قائل هل من مزيد

فأنا واحد وقتي *** في وجودي وشهودي‏

يا رفيع الدرجات *** في منازل السعود

ارفع اللهم عني *** في معارج الصعود

كل ستر في طريقي *** في هبوطي وصعودي‏

واجعل اللهم حظي *** في اسمك الله الودود

(الفصل الثالث عشر) في الاسم الإلهي الباطن وتوجهه على خلق الطبيعة

وما تعطيه من أنفاس العالم وحصرها في أربع حقائق وافتراقها واجتماعها وتوجهها على إيجاد العين المهملة من الحروف وإيجاد الثريا من المنازل المقدرة

[أن الطبيعة في المرتبة الثالثة من وجود العقل الأول‏]

اعلم أن الطبيعة في المرتبة الثالثة عندنا من وجود العقل الأول وهي معقولة الوجود غير موجودة العين فمعنى قولنا مخلوقة أي مقدرة لأن الخلق التقدير وما يلزم من تقدير الشي‏ء وجوده قال الشاعر

ولأنت تفري ما خلقت *** وبعض الناس يخلق ثم لا يفري‏

وهو من الثلاثي لأنه قصد المدح وليس من الرباعي فإن الرباعي لا يقال إلا في معرض الذم والهجاء فما كل من قدر أمرا أوجده ومن هذه الحقيقة الإلهية ظهر في الوجود النظري عند العلماء فرض المحال في العلوم فهو يقدر ما لا يصح وجوده وقد يقدر ما يصح وجوده ولا يوجد وكذلك قال هذا العربي وبعض الناس يعد بالخير ولا يفعله وأنت أيها الملك ما ترى مصلحة إلا وتفعلها فالخالق له معنيان المقدر والموجد فمن خلق فقد قدر أو أوجد فقدر سبحانه مرتبة الطبيعة أنه لو كان لها وجود لكان دون النفس فهي وإن لم تكن موجودة العين فهي مشهودة للحق ولهذا ميزها وعين مرتبتها وهي للكائنات الطبيعية كالاسماء الإلهية تعلم وتعقل وتظهر آثارها ولا تجهل ولا عين لها جملة واحدة من خارج كذلك الطبيعة تعطي ما في قوتها من الصور الحسية المضافة إليها الوجودية ولا وجود لها من خارج فما أعجب مرتبتها وما أعلى أثرها فهي ذات معقولة مجموع أربع حقائق يسمى أثر هذه الأربع في الأجسام المخلوقة الطبيعية حرارة ويبوسة وبرودة ورطوبة وهذه آثار الطبيعة في الأجسام لا عينها كالحياة والعلم والإرادة والقول في النسب الإلهية وما في الوجود العيني سوى ذات واحدة فالحياة تنظر إلى الحرارة والعلم ينظر إلى البرودة والإرادة تنظر إلى اليبوسة والقول ينظر إلى الرطوبة ولهذا وصفه باللين فقال فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً فهو يقبل اللين والخشونة والإرادة يبوسة فإنه يقول فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ وقال وجدت برد أنامله‏

فعلمت فلهذا جعلنا العلم للبرودة في الطبيعة وكذلك الحياة للحرارة فإن الحي الطبيعي لا بد من وجود الحرارة فيه‏

[الحياة العقلية]

وأما الذي تعطيه من أنفاس العالم فهو ما تقع به الحياة في الأجسام الطبيعية من نمو وحس لا غير ذلك وكل نفس غير هذا فما هو من الطبيعة بل علته أمر آخر وهي الحياة العقلية حياة العلم وهي عين النور الإلهي والنفس الرحماني ثم لتعلم أن مسمى النفس من هذه الحقيقة الوجودية لا يكون إلا إذا كانت للرحمن وما يماثله من الأسماء الإلهية وقد تكون حقيقة لأسماء أخر تقتضي النقيض فلا تكون عند ذلك نفسا من التنفيس في حق ذلك الكائن منه فهو وإن كان حقيقة فكونه نفسا باعتبار خاص يقع به التنفيس إما في حق من ينفس الله عنه من الكائنات ما يجده من الضيق والحرج وإما في حق من هو صفته من حيث نفوذ إرادته وأما إذا لم ينظر من هذه الجهة فهو عبارة عن حياة من وصف به من حيث حقيقته لا غير أ لا ترى النفس الحيواني يرفع وجوده فيه اسم الموت به سمي نفسا فإن الموت صفة مكروهة من حيث الألفة المعهودة إذ كان الموت مفرقا فيكون مكروها عنده فإذا نظر من يلقاه في ذلك الموت وهو الله فيكون تحفة عند ذلك ويكون اسم النفس به أحق في هذا الشهود ولما كان لها وجود أعيان الصور لهذا كان لها من الحروف العين المهملة لأن الصورة الطبيعية لا روح لها من حيث الطبيعة وإنها روح للصور الطبيعية من الروح الإلهي وكان لها وجود الثريا وهي سبع كواكب لأن الطبيعة في المرتبة الثالثة وهي أربع حقائق كما تقدم فكان من المجموع سبعة وظهرت عنها الثريا وهي سبعة أنجم كما كان للعقل ثلاث نسب ووجوه فوجدت عنه الكثرة التي ذكرها بعض أهل النظر في سبب صدور الكثرة عن العقل الأول مع كونه واحدا فكان الشرطين ثلاثة أنجم والنفس مثل العقل في ذلك فكان البطين ثلاثة أنجم ومن كون النفس ثانية كان البطين في المرتبة الثانية من الشرطين وعن هذه السبعة التي ظهرت في الطبيعة ظهرت المسبعات في العالم وهي أيضا السبعة الأيام أيام الجمعة اعتبر ذلك محمد بن سيرين رحمه الله جاءته امرأة فقالت له أريت البارحة القمر في الثريا فقال أنا قمر هذا الزمان في هذه البلدة والثريا سبعة أنجم وبعد سبعة أقبر فإن الثريا من الثرى وهو اسم للأرض فمات إلى سبعة أيام فانظر ما أعجب هذا وبينا أنا أقيد هذه المسألة من الكلام في الطبيعة إذ غفوت فرأيت أمي وعليها ثياب بيض حسنة

فحسرت عنها ذيلها إلى أن بد إلى فرجها فنظرت إليه ثم قلت لا يحل لي أن أنظر إلى فرج أمي فسترته وهي تضحك فوجدت نفسي قد كشفت في هذه المسألة وجها ينبغي أن يستر فسترته بألفاظ حسنة بعد كشفه قبل إن أرى هذه الواقعة فكانت أمي الطبيعة والفرج ذلك الوجه الذي ينبغي ستره والكشف إظهاره في هذا الفصل والتغطية بذلك الثوب الأبيض الحسن ستره بألفاظ وعبارات حسنة ثم إني أيضا كما أنا في كلامي على الطبيعة في هذا الفصل أخذتني سنة فرأيت كأني على فرس عظيم وقد جئت إلى ضحضاح من الماء أرضه حجارة صغار فأردت عبوره فرأيت أمامي رجلا على فرس شهباء يعبر وإذا فيه مثل الساقية عميقة مردومة بتلك الحجارة لا يشعر بها حتى يغرق فيها وإذا بذلك الفارس قد غرق فيها فرسه وقد نشب إلى أن وصل الماء إلى كفل فرسه ثم خلص إلى الجانب الآخر فنظرت من أين أعبر فوجدت مبنيا عليه مجازا ذا أدراج من الجهتين للرجالة لا يمكن للفرس أن يصعد عليه فيصعد فيه بإدراج متقاربة جدا وأعلاه عرض شبر وينزل من الجانب الآخر بإدراج فركضت جنب فرسي والناس يتعجبون ويقولون ما يقدر فرس على عبوره وأنا لا أكلمهم ففهم الفرس عني ما أريده منه فصعد برفق فلما وصل إلى أعلاه وأراد الانحدار توقف وخفت عليه وعلى نفسي من الوقوع فنزلت من عليه وعبرت وأخذت بعنانه وما زال من يدي فعبر الفرس وتخلصنا إلى الجانب الآخر والناس يتعجبون‏

فسمعت بعض الناس يقولون لو كان الايمان بالثريا لنالته رجال من فارس‏

فقلت ولو كان العلم بالثريا لنالته العرب والايمان تقليد فكم بين عالم وبين من يقلد عالما فقالوا صدق فالعربي له العلم والايمان والعجم مشهود لهم بالإيمان خاصة في دين الله ورددت إلى نفسي فوجدتني في مسألة في الطبيعة تطابق هذه الرؤيا فتعجبت من هاتين الواقعتين في هذا الفصل ونظرت في كواكب المنازل من كوكب واحد كالصرفة إلى اثنين كالذراع إلى ثلاثة كالبطين إلى أربعة كالجبهة إلى خمسة كالعوا إلى ستة كالدبران إلى سبعة كالثريا إلى تسعة كالنعائم ولم أر للثمانية وجودا في نجوم المنازل فعلمت أنه لما لم تكن للثمانية صورة في نجوم المنازل لهذا كان المولود إذا ولد في الشهر الثامن يموت ولا يعيش أو يكون معلولا لا ينتفع بنفسه فإنه شهر يغلب على الجنين فيه برد ويبس وهو طبع الموت وله من الجواري كيوان وهو بارد يابس فلذلك لم أر للثمانية وجودا في المنازل ثم علمت أن السيارة لا نزول لها ولا سكون بل هي قاطعة أبدا وقد يكون مرورها على عين كواكب المنزلة وقد يكون فوقها وتحتها على الخلاف الذي في حد المنزلة ما هو فسميت منزلة مجازا فإن الذي يحل فيها لا استقرار له وإنه سابح كما كان قبل وصوله إليها في سباحته فراعى المسمى ما يراه البصر من ذلك فإنه لا يدرك الحركة ببصره إلا بعد المفارقة فبذلك القدر يسميها منزلة لأنه حظ البصر فغلبه‏

[أن الطبيعة لا يمكن أن تثبت على حالة واحدة]

واعلم أن الطبيعة هذا حكمها في الصور لا يمكن أن تثبت على حالة واحدة فلا سكون عندها ولهذا الاعتدال في الأجسام الطبيعية العنصرية لا يوجد فهو معقول لا موجود ولو كانت الطبيعة تقبل الميزان على السواء لما صح عنها وجود شي‏ء ولا ظهرت عنها صورة ثم نشأة الصور الطبيعية دون العنصرية إذا ظهرت أيضا لا تظهر والطبيعة معتدلة أبدا بل لا بد من ظهور بعض حقائقها على بعض لأجل الإيجاد ولو لا ذلك ما تحرك فلك ولا سبح ملك ولا وصفت الجنة بأكل وشرب وظهور في صور مختلفة ولا تغيرت الأنفاس في العالم جملة واحدة وأصل ذلك في العلم الإلهي كونه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ واليوم الزمن الفرد والشأن ما يحدث الله فيه فمن أين يصح أن تكون الطبيعة معتدلة الحكم في الأشياء وليس لها مستند في الإلهيات فهذا قد أبنت لك وجود الطبيعة انتهى الجزء الحادي والعشرون ومائة

(الفصل الرابع عشر في الاسم الإلهي) الآخر

وتوجهه على خلق الجوهر الهبائي الذي ظهرت فيه صور الأجسام وما يشبه هذا الجوهر في عالم المركبات وتوجهه على إيجاد حرف الحاء المهملة من الحروف وإيجاد الدبران من المنازل‏

[إن الطبيعة لا عين له في الوجود وإنما تظهره الصورة]

اعلم أن هذا الجوهر مثل الطبيعة لا عين له في الوجود وإنما تظهره الصورة فهو معقول غير موجود الوجود العيني وهو في‏

المرتبة الرابعة من مراتب الوجود كما هو الحاء المهملة في المرتبة الرابعة من مخارج الحروف في النفس الإنساني غير أن الحرف له صورة لفظية في القول محسوسة للسمع وليس لهذا الجوهر الهبائي مثل هذا الوجود وهذا الاسم الذي اختص به منقول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأما نحن فنسميه العنقاء فإنه يسمع بذكره ويعقل ولا وجود له في العين ولا يعرف على الحقيقة إلا بالأمثلة المضروبة كما أن كون الحق نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ لم يعرف بحقيقته وإنما عرفنا الحق به بضرب المثل فقال مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ الآية فذكر الأمور التي تنبغي للمصباح المشبه به نور السموات والأرض وهو الذي أنارت به العقول العلوية وهو قوله السموات والصور الطبيعية وهو قوله والأرض كذلك هذا المعقول الهبائي لا يعرف إلا بالمثل المضروب وهو كل أمر يقبل بذاته الصور المختلفة التي تليق به وهو في كل صورة بحقيقته وتسميه الحكماء الهيولى وهي مسألة مختلف فيها عندهم ولسنا ممن يحكى أقوالهم في أمر ولا أقوال غيرهم وإنما نورد في كتابنا وجميع كتبنا ما يعطيه الكشف ويمليه الحق هذا طريقة القوم كما سئل الجنيد عن التوحيد فأجاب بكلام لم يفهم عنه فقيل له أعد الجواب فإنا ما فهمنا فقال جوابا آخر فقيل له وهذا أغمض علينا من الأول فأمله علينا حتى ننظر فيه ونعلمه فقال إن كنت أجريه فأنا أمليه أشار إلى أنه لا تعمل له فيه وإنما هو بحسب ما يلقى إليه مما يقتضيه وقته ويختلف الإلقاء باختلاف الأوقات‏

[من علم الإلهي علم أنه لا يتكرر شي‏ء في الوجود]

ومن علم الاتساع الإلهي علم أنه لا يتكرر شي‏ء في الوجود وإنما وجود الأمثال في الصور يتخيل أنها أعيان ما مضى وهي أمثالها لا أعيانها ومثل الشي‏ء ما هو عينه واعلم أن هذا المعقول الرابع من وجود العقل فيه تظهر العين التي تقبل حكم الطبيعة وهو الجسم الكل الذي يقبل اللطيف والكثيف والكدر والشفاف وهو الذي يأتي ذكره في الفصل الثاني بعد هذا وهذا المعقول إنما قيدنا مرتبته بأنها الرابعة من حيث نظرنا إلى قبوله صورة الجسم خاصة وإنما بالنظر إلى حقيقته فليست هذه مرتبته ولا ذلك الاسم اسمه وإنما اسمه الذي يليق به الحقيقة الكلية التي هي روح كل حق ومتى خلى عنها حق فليس حقا ولهذا قال عليه السلام لكل حق حقيقة فجاء باللفظ الذي يقتضي الإحاطة إذا تعرى عن القرائن المقيدة وهو لفظة كل كمفهوم العلم والحياة والإرادة فهي معقولة واحدة في الحقيقة فإذا نسب إليها أمر خاص لنسبة خاصة حدث لها اسم ثم إنه إذا نسب ذلك الأمر الخاص إلى ذات معلومة الوجود وإن لم يعلم حقيقتها فنسب إليها ذلك الأمر الخاص بحسب ما تقتضيه تلك الذات المعينة فإن اتصفت تلك الذات بالقدم اتصف هذا الأمر بالقدم وإن اتصفت بالحدوث اتصف هذا الأمر بالحدوث والأمر في نفسه لا يتصف بالوجود إذ لا عين له ولا بالعدم لأنه معقول ولا بالحدوث لأن القديم لا يقبل الاتصاف به والقديم لا يصح أن يكون محلا للحوادث ولا يوصف بالقدم لأن الحادث يقبل الاتصاف به والحادث لا يوصف بالقديم ولا يصح أن يكون القديم حالا في المحدث فهو لا قديم ولا حادث فإذا اتصف به الحادث سمي حادثا وإذا اتصف به القديم سمي قديما وهو قديم في القديم حقيقة وحادث في المحدث حقيقة لأنه بذاته يقابل كل متصف به كالعلم يتصف به الحق والخلق فيقال في علم الحق إنه قديم فإن الموصوف به قديم فعلمه بالمعلومات قديم لا أول له ويقال في علم الخلق إنه محدث فإن الموصوف به لم يكن ثم كان فصفته مثله إذ ما ظهر حكمها فيه إلا بعد وجود عينه فهو حادث مثله والعلم في نفسه لا يتغير عن حقيقته بالنسبة إلى نفسه وهو في كل ذات بحقيقته وعينه وما له عين وجودية سوى عين الموصوف فهو على أصله معقول لا موجود ومثاله في الحس البياض في كل أبيض والسواد في كل أسود هذا في الألوان وكذلك في الأشكال التربيع في كل مربع والاستدارة في كل مستدير والتثمين في كل مثمن والشكل بذاته في كل متشكل وهو على حقيقته من المعقولية والذي وقع عليه الحس إنما هو المتشكل لا الشكل والشكل معقول إذ لو كان المتشكل عين الشكل لم يظهر في متشكل مثله ومعلوم أن هذا المتشكل ليس هو المتشكل الآخر فهذا مثل مضروب للحقائق الكلية التي اتصف الحق والخلق بها فهي للحق أسماء وهي للخلق أكوان فكذلك هذا المعقول الرابع لصور الطبيعة يقبل الصور بجوهره وهو على أصله في المعقولية والمدرك الصورة لا غيرها ولا تقوم الصورة إلا في هذا المعقول فما من موجود إلا وهو معقول بالنظر إلى ما ظهرت فيه صورته موجود بالنظر إلى صورته أ لا ترى الحق تعالى ما تسمى باسم ولا وصف نفسه بصفة ثبوتية إلا والخلق يتصف بها وينسب إلى كل موصوف بحسب‏

ما تعطيه حقيقة الموصوف وإنما تقدمت في الحق لتقدم الحق بالوجود وتأخرت في الخلق لتاخر الخلق في الوجود فيقال في الحق إنه ذات يوصف بأنه حي عالم قادر مريد متكلم سميع بصير ويقال في الإنسان المخلوق إنه حي عالم قادر متكلم سميع بصير بلا خلاف من أحد والعلم في الحقيقة والكلام وجميع الصفات على حقيقة واحدة في العقل ثم لا ينكر الخلاف بينهم في الحكم فإن أثر القدرة يخالف أثر غيرها من الصفات وهكذا كل صفة والعين واحدة ثم حقيقة الصفة الواحدة واحدة من حيث ذاتها ثم يختلف حدها بالنسبة إلى اختصاص الحق بها وإلى اتصاف الخلق بها وهذه الحقيقة لا تزال معقولة أبدا لا يقدر العقل على إنكارها ولا يزال حكمها موجودا ظاهرا في كل موجود

فكل موجود لها صورة *** فيه ولا صورة في ذاتها

فحكمها ليس سوى ذاتها *** وذلك الحكم من آياتها

تجتمع الأضداد في وصفها *** فنفيها في عين إثباتها

فالمعنى القابل لصورة الجسم هو المذكور المطلوب في هذا الفصل وهو المهيا له والجسم القابل للشكل هو هباء لأنه الذي يقبل الأشكال لذاته فيظهر فيه كل شكل وليس في الشكل منه شي‏ء وما هو عين الشكل والأركان هباء للمولدات وهذا هو الهباء الطبيعي والحديد وأمثاله هباء لكل ما تصور منه من سكين وسيف وسنان وقدوم ومفتاح وكلها صور أشكال ومثل هذا يسمى الهباء الصناعي فهذه أربعة عند العقلاء والأصل هو الكل وهو الذي وضعنا له هذا الفضل وزدنا نحن حقيقة الحقائق وهي التي ذكرناها في هذا الفصل التي تعم الخلق والحق وما ذكرها أحد من أرباب النظر إلا أهل الله غير أن المعتزلة تنبهت على قريب من ذلك فقالت إن الله قائل بالقائلية وعالم بالعالمية وقادر بالقادرية لما هربت من إثبات صفة زائدة على ذات الحق تنزيها للحق فنزعت هذا المنزع فقاربت الأمر وهذا كله أعني ما يختص بهذا الفصل من حكم الاسم الآخر الظاهر التي هي كلمة النفس الرحماني وهو الذي توجه على الدبران من المنازل وكواكبه ستة وهو أول عدد كامل فهو أصل كل عدد كامل فكل مسدس في العالم فله نصيب من هذه الكمالية وعليه أقامت النحل بيتها حتى لا يدخله خلاء ومن أهل الله من يراه أفضل الأشكال فإنه قارب الاستدارة مع ظهور الزوايا وجعله أفضل لأن الشكل المسدس كبيوت النحل لا يقبل الخلل مع الكثرة فيظهر الخلو والمستدير ليس كذلك وإن أشبهه غيره في عدم قبول الخلل كالمربع فإنه يبعد عن المستدير والاستدارة أول الأشكال التي قبل الجسم وجعل بعضها في جوف بعض لأن الخلأ مستدير ولو لم يكن كذلك ما استدار الجسم لأنه ما ملأ إلا الخلأ فلا يقبل استدارة أخرى من خارج فإنه ما ثم خلاء غير ما عمره الجسم فلو عمر بعض الخلأ لم يقبل سوى الشكل المسدس وإنما وصف بالكمال لأنه يظهر عن نصفه وثلثه وسدسه فيقوم من عين أجزائه‏

(الفصل الخامس عشر) من النفس الرحماني في الاسم الإلهي الظاهر

وتوجهه على إيجاد الجسم الكل ومن الحروف على حرف الغين المعجمة ومن المنازل على رأس الجوزاء وهي الهقعة وتسمى الميسان‏

[أن الله لما جعل في النفس القوة العملية أظهر بها صورة الجسم الكل في جوهر الهباء]

اعلم أن الله تعالى لما جعل في النفس القوة العملية أظهر الله بها صورة الجسم الكل في جوهر الهباء فعمر به الخلأ والخلأ امتداد متوهم في غير جسم ولما رأينا هذا الجسم الكل لم يقبل من الأشكال إلا الاستدارة علمنا أن الخلأ مستدير إذ كان هذا الجسم عمر الخلأ فالخارج عن الجسم لا يتصف بخلاء ولا ملا ثم إن الله فتح في هذا الجسم صور العالم وجعل هذا الجسم لما أوجده مستديرا لما عمر به جميع الخلأ كانت حركته في خلائه فما هي حركة انتقال عنه وإنما حركته فيه بكله كحركة الرحى تنظر في حركتها بجميعها فتجدها لم تنتقل عن موضعها وتنظر إلى حركة كل جزء منها فتجده منتقلا عن حيزه إلى حيز آخر بحركة الكل وهكذا كل حركة مستديرة فهي متحركة ساكنة لأنها ما أخلت حيزها بالانتقال من حيث جملتها ولا سكنت فتتصف بالسكون وهذا لا يكون إلا في المستدير وأما غير المستدير فلا يسمى لشكله فلكا أي مستديرا وهذا هو أول الصور الطبيعية فأظهرت الطبيعة فيه حكمها فقبل الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة بحكم التجاوز في النقيضين خاصة فتحرك بغلبة الحرارة عليه فإن الاعتدال لا يظهر عنه شي‏ء

أصلا ولهذا وصف الحق نفسه بالرضا والغضب والرحمة والانتقام والحلم والقهر فالاعتدال لا يصح معه وجود ولا تكوين أ لا ترى أنه لو لا التوجه الإلهي على إيجاد كون ما ما وجد ولو لا ما قال له كن ما تكون فلما كانت كمية الحرارة أكثر من غيرها في الجسم أعطته الحركة وما ثم خلاء إلا ما عمره هذا الجسم ولا بد له من الحركة فتحرك في مكانه وهي حركة الوسط لأنه ليس خارجه خلاء فيتحرك إليه والحركة تطلبها الحرارة وهي حركة في الجميع من انتقال وأظهر الله صور العالم كله في هذا الجسم على استعدادات مختلفة في كل صورة وإن جمعها جسم واحد وحاكم واحد فقبلت الصور الأرواح من النفس الرحماني كما قبلت الحروف المعاني عند خروجها لتدل على المعنى الذي خرجت له وظهر حكم الزمان بالحركة فظهرت الصور بالترتيب فقبلت التقدم والتأخر الزماني وظهر حكم الأسماء الإلهية بوجود هذه الصور وما تحمله وقد ذكرنا في عقلة المستوفز ترتيب وجود العالم كيف كان ولله كما ذكرنا فيه وجه خاص وفي كل ما وجد فيه وعن ذلك الوجه الخاص وجد ولا يعرف السبب قط ذلك الوجه الخاص الذي لمسببه المنفعل عنه ولا عقل ولا نفس إلا الله خاصة وهو رقيقة الجود فتحرك بالوجود الإلهي لا بفعل النفس وهي حركة النفس الرحماني لإيجاد الكلمات فسوى العرش ووحد فيه الكلمة الرحمانية ثم أوجد صورة الكرسي وانقسمت فيه الكلمة وتدلت إليه القدمان ولهذا التدلي انقسمت الكلمة فله الخلق والأمر وكان انقسامها إلى حكم وخبر ثم أدار الفلك الأطلس بتوجه خاص لحكمة أخفاها عمن شاء وأظهرها وقسمه على اثني عشر مقدارا فعمت المقادير وجعلها بروجا لأرواح ملكية على طبائع مختلفة سمي كل برج باسم ذلك الملك الذي جعل ذلك المقدار برجاله يسكنه كالأبراج الدائرة بسور البلد وكمراتب الولاة في الملك وهي البروج المعلومة عند أهل التعاليم ولكل برج ثلاث وجوه فإن العقل الأول له ثلاث وجوه وإن كان واحدا وما من حقيقة تكون في الأول إلا ولا بد أن يتضمنها الثاني ويزيد بحكم لا يكون للأول إذا كان المتقدم غير الله و

[إن الله مع كل شي‏ء]

أما الله فهو مع كل شي‏ء فلا يتقدمه شي‏ء ولا يتأخر عنه شي‏ء وليس هذا الحكم لغير الله ولهذا له إلى كل موجود وجه خاص لأنه سبب كل موجود وكل موجود واحد لا يصح أن يكون اثنين وهو واحد فما صدر عنه إلا واحد فإنه في أحدية كل واحد وإن وجدت الكثرة فبالنظر إلى أحدية الزمان الذي هو الظرف فإن وجود الحق في هذه الكثرة في أحدية كل واحد فما ظهر منه إلا واحد فهذا معنى لا يصدر عن الواحد إلا واحد ولو صدر عنه جميع العالم لم يصدر عنه إلا واحد فهو مع كل واحد من حيث أحديته وهذا لا يدركه إلا أهل الله وتقوله الحكماء على غير هذا الوجه وهو مما أخطأت فيه وجعل الله لكل وال ساكن في هذا البرج أحكاما معلومة عن‏

دورات محصورة ليس هذا الفصل موضع حصرها ولا تعيينها ثم فتح الله صورة الفلك المكوكب وبعده الأرض والماء والهواء والنار عن حركة فلك البروج وشعاعات كواكب الفلك المكوكب ثم علا الدخان من نار الأركان لما كانت نارا مركبة فأظهر في ذلك الدخان صور السموات أفلاكا مستدبرة وجعل في كل فلك كوكبا كما سيأتي ذكر ذلك كله إن شاء الله تعالى وعن هذا الاسم الإلهي أوجد في النفس الإنساني الغين المعجمة ومنزلة الهقعة

(الفصل السادس عشر) في الاسم الإلهي الحكيم‏

وتوجهه على إيجاد الشكل وحرف الخاء المعجمة ومنزله النحية من المنازل وتسمى الهنعة الشكل القيد وبه سمي ما تقيد به الدابة في رجلها شكالا والمتشكل هو المقيد بالشكل الذي ظهر به يقول الله كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ أي ما يعمل إلا ما يشاكله وإلى هذا يرجع معناه يقول ذلك الذي ظهر منه يدل على أنه في نفسه عليه والعالم كله عمل الله فعمله على شاكلته فما في العالم شي‏ء لا يكون في الله والعالم محصور في عشر لكمال صورته إذ كان موجودا على صورة موجدة فجوهر العالم لذات الموجد وعرض العالم لصفاته وزمانه لأزله ومكانه لاستوائه وكمه لأسمائه وكيفه لرضاه وغضبه ووضعه لكلامه وإضافته لربوبيته وأن يفعل لإيجاده وأن ينفعل لإجابته من سأله فعمل العالم على شاكلته فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى‏ سَبِيلًا وإنه عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فالعالم على صراط مستقيم اعوجاج القوس استقامته فلا تحجب أ لا ترى الخلأ حكم على الجسم بالاستدارة فأظهره فلكا مستديرا فتلك شاكلته فحكمت عليه شاكلة الموطن جبريل ظهر في صورة دحية فجهل فقيل فيه إنسان وهو ملك وعلم من علمه ملكا والصورة إنسان فلم يؤثر علم الملكية منه في صورة إنسانيته ولم يؤثر الجهل بها فيها فالأشكال مقيدة أبدا هذا ما أعطاه الاسم الحكيم مرتب الأمور مراتبها ومنزل الأشياء مقاديرها وظهر من النفس الإنساني في المخارج حرف الخاء المعجمة ومن المنازل النحية وما من شي‏ء ظهر في تفاصيل العالم إلا وفي الحضرة الإلهية صورة تشاكل ما ظهر أي يتقيد بها ولو لا هي ما ظهر أ لا ترى الفلك الأطلس كيف ظهر من الحيرة في الحق لأن المقادير فيه لا تتعين للتماثل في الأجزاء كالاسماء والصفات للحق لا تتعدد فالحيرة ما ظهرت إلا في الفلك الأطلس حيث قيل إن فيه بروجا ولا تتعين فوضع على شكل الحيرة ووضع الفلك المكوكب بالمنازل على شكل الدلالات على ما وقعت فيه الحيرة فاستدل بالمنازل على ما في الأطلس من البروج فهو على شكل الدلالة وجعل تنوع الأحكام بنزول السيارة في المنازل والبروج بمنزلة الصور الإلهية التي يظهر فيها الحق فبما للاطلس فيها من الحكم تجهل ويقال ليس لله صورة بالدلالة العقلية وبما للمنازل فيها من الدلالات تعلم ويقال هذا هو الحق فانظر حكم الإشكال ما فعل ومنه الإشكال في المسائل فإنه يعطي الحيرة في المعلوم وشكل الشي‏ء شبهه والشكل يألف شكله الشكل يألف شكله والضد يجهل ضده والدنيا للامتزاج والآخرة للتخليص فهي على شكل القبضتين‏

(الفصل السابع عشر) في الاسم المحيط

وتوجهه على إيجاد العرش والعرش الممجدة والمعظمة والمكرمة وحرف القاف ومن المنازل الذراع‏

[إحاطة العرش بالعالم‏]

اعلم أن العرش أحاط بالعالم لاستدارته بما أحاط به من العالم وكل ما أحاط به فيه الاستدارة ظاهرة حتى في المولدات وانظر في تشبيه‏

النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الكرسي أنه في جوف العرش كحلقة في فلاة من الأرض‏

فشبهه بشكل مستدير وهو الحلقة والأرض وكذلك شبه السموات في الكرسي كحلقة والأركان الكرية في جوف الفلك الأدنى كذلك ثم ما تولد عنها لا يكون أبدا في صورته إلا مستديرا أو مائلا إلى الاستدارة معدنا كان أو نباتا أو حيوانا وذلك لأن الحركة دورية فلا تعطي إلا ما يشاكلها فالعرش أعظم الأجسام من حيث الإحاطة فهو العرش العظيم جرما وقدرا وبحركته أعطى ما في قوته لمن هو تحت إحاطته وقبضته فهو العرش الكريم لذلك وبنزاهته أن يحيط به غيره من الأجسام كان له الشرف فهو العرش المجيد ثم إنه ما استوى عليه الاسم الرحمن إلا من أجل النفس الرحماني وذلك أن المحاط به في ضيق من علمه بأنه محاط به من حيث صورته فأعطاه النفس الرحماني روحا من أمره فكان مجموع كل موجود في العالم صورته وروحه المدبر له وجعل روحه لا داخلا في الصورة ولا خارجا عنها لأنه غير متحيز فانتفى المشروط والشرط فإن النفس الذي صدرت عنه الأرواح لا داخل في العالم ولا خارج عنه فإذا نظر الموجود في كونه محاطا به ضاق صدره من حيث صورته وإذا نظر في نفسه من حيث روحانيته نفس الله عنه ذلك الضيق بروحه لما علم أنه لا توصف ذاته بأنه محاط به إحاطة العرش بالصور فزال عنه وأورثه ذلك الابتهاج والسرور والفرح بذاته من حيث روحه فلهذا كان الاستواء بالاسم الرحمن وإحاطة هذا العرش من الإحاطة الإلهية بالعلم في قوله أحاط بكل شي‏ء علما فهو من ورائهم محيط وليس وراء الله مرمى لرام ووراء العالم الله فهو المنتهى وما له انتهاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم فالكلمة في العرش من النفس الرحماني واحدة وهو الأمر الإلهي لإيجاد الكائنات فالنفس سار إلى منتهى الخلأ فبه حيي كل شي‏ء فإن العرش على الماء فقبل الحياة بذاته فخلق الله تعالى منه كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ بما يرونه من حياة الأرض بالمطر وحياة الأشجار بالسقي حتى الهواء إن لم يكن فيه مائية وإلا أحرق‏

[أن للعرش قوائم النورانية]

واعلم أن هذا العرش قد جعل الله له قوائم نورانية لا أدري كم هي لكني أشهدتها ونورها يشبه نور البرق ومع هذا فرأيت له ظلا فيه من الراحة ما لا يقدر قدرها وذلك الظل ظل مقعر هذا العرش يحجب نور المستوي الذي هو الرحمن ورأيت الكنز الذي تحت العرش الذي خرجت منه لفظة لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإذا الكنز آدم صلوات الله عليه ورأيت تحته كنوزا كثيرة أعرفها ورأيت طيورا حسنة تطير في زواياه فرأيت فيها طائرا من أحسن الطيور فسلم علي فالقى لي فيه أن آخذه صحبتي إلى بلاد الشرق وكنت بمدينة مراكش حين كشف لي عن هذا كله فقلت ومن هو قيل لي محمد الحصار بمدينة فاس سأل الله الرحلة إلى بلاد الشرق فخذه معك فقلت السمع والطاعة فقلت له وهو عين ذلك الطائر تكون صحبتي إن شاء الله فلما جئت إلى مدينة فاس سألت عنه فجاءني فقلت له هل سألت الله في حاجة فقال نعم سألته أن يحملني إلى بلاد الشرق فقيل لي إن فلانا يحملك وأنا أنتظرك من ذلك الزمان فأخذته صحبتي سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأوصلته إلى الديار المصرية ومات بها رحمه الله فإن قلت والملائكة الحافون من حول العرش ما بقي لهم خلاء يتصرفون فيه والعرش قد عمر الخلأ قلنا لا فرق بين كونهم حافين من حول العرش وبين الاستواء على العرش فإنه من لا يقبل التحيز لا يقبل الاتصال والانفصال ثم إن الملائكة الحافين من حول العرش فما هو هذا الجسم الذي عمر الخلأ وإنما هو ذلك العرش الذي يأتي الله به للفصل والقضاء يوم القيامة وهذا العرش الذي استوى عليه هو

عرش الاسم الرحمن أ ما سمعته يقول وتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ من حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عند الفراغ من القضاء فذلك يوم القيامة تحمله الثمانية الأملاك وذلك بأرض الحشر ونسبة العرش إلى تلك الأرض نسبة الجنة إلى عرض الحائط في قبلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وهو في صلاة الكسوف وهذا من مسائل ذي النون المصري في إيراد الواسع على الضيق من غير أن يوسع الضيق أو يضيق الواسع ومن عرف المواطن هان عليه سماع مثل هذا

(الفصل الثامن عشر) في الاسم إلهي الشكور

وتوجهه على إيجاد الكرسي والقدمين ومن الحروف حرف الكاف ومن المنازل النثرة قال تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والْأَرْضَ‏

[الكلمة الإلهية تنقسم إلى حكم وخبر]

قال بعض أهل المعاني يريد العلم ونقلوه لغة إلا أنه في هذه الآية ليس إلا جسم محسوس هو في العرش كحلقة ملقاة في فلاة إلا أنه كالعرش لا حركة فيه ومن هذا الكرسي تنقسم الكلمة الإلهية إلى حكم وخبر وهو للقدمين الواردين في الخبر كالعرش لاستواء الرحمن وله ملائكة قائمون به لا يعرفون إلا الرب تعالى فإن ظرفية العماء للرب والعرش للرحمن والكرسي لضمير الكناية عن الله تعالى وهذه الثلاثة الأسماء هي أمهات الأسماء وإذا تتبعت القرآن العزيز وجدت هذه الأسماء الثلاثة الله والرب والرحمن دائرة فيه وله ما بين سماء وسماء كرسي سوى هذا الكرسي الأعظم وسمي منسوبا أي لا يعقل إلا هكذا بخلاف غيره من الموجودات ومن هنا كان للرب الذي لا يعقل إلا مضافا وغيره الذي هو الاسم الله والرحمن قد ورد غير مضاف إلا الرب فلا يرد حيث ورد إلا مضافا فإنه يطلب المربوب بذاته ربنا رَبُّكُمْ ورَبُّ آبائِكُمُ رَبُّ السَّماواتِ رَبُّ الْمَشْرِقِ فأثرت هذه الحقيقة في المرتبة المكانية الذي هو الكرسي فورد منسوبا والنسبة إضافة وجاء في الدرجة الثالثة وهي أول الأفراد ولما كان الرب الثابت فكذلك الكرسي حكم عليه الاسم الإلهي بالثبوت فالثبوت أيضا الموصوف به العرش يؤذن بأن الاسم الرحمن ثابت الحكم في كل ما يحوي عليه وهو قوله ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فمال الكل إلى الرحمة وإن تخلل الأمر آلام وعذاب وعلل وأمراض مع حكم الاسم الرحمن فإنما هي أعراض عرضت في الأكوان دنيا وآخرة من أجل أن الرحمن له الأسماء الحسنى ومن الأسماء الضار والمذل والمميت فلهذا ظهر في العالم ما لا تقتضيه الرحمة ولكن لعوارض وفي طي تلك العوارض رحمة ولو لم يكن إلا تضاعف النعيم والراحة عقيب زوال حكمه ولهذا قيل أحلى من الأمن عند الخائف الوجل فما تعرف لذات النعم إلا بأضدادها فوضعت لاقتناء العلوم التي فيها شرف الإنسان فكانت كالطريق الموصلة أو الدليل الموصل إلى مدلوله ذوقا وحصول العلم بالأذواق أتم منه بطريق الخبر أ لا ترى الحق وصف نفسه على ألسنة رسله بالغضب والرضاء ومن هاتين الحقيقتين ظهر في العالم اكتساب العلوم من الأذواق الظاهرة كالطعوم وأشباهها والباطنة كالآلام من الهموم والغموم مع سلامة الأعضاء الظاهرة من كل سبب يؤدي إلى ألم فانظر ما أعجب هذا فثبت العرش لثبوت الرحمة السارية التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فلها الإحاطة وهي عين النفس الرحماني فبه ينفس الله كل كرب في خلقه فإن الضيق الذي يطرأ أو يجده العالم كونه أصلهم في القبضة وكل مقبوض عليه محصور وكل محصور محجور عليه والإنسان لما وجد على الصورة لم يحتمل التحجير فنفس الله عنه بهذا النفس الرحماني ما يجده من ذلك كما كان تنفسه من حكم الحب الذي وصف به نفسه في‏

قوله أحببت أن أعرف‏

فأظهره في النفس الرحماني فكان ذلك التنفس الإلهي عين وجود العالم فعرفه العالم كما أراد فعين العالم عين الرحمة لا غيرها فاشحذ فؤادك فما يكون العالم رحمة للحق ويكون الحق يسرمد عليه الألم أ لله أكرم وأجل من ذلك فانظر ما أعجب ما أعطاه مقام الكرسي من انقسام الكلمة الإلهية فظهر الحق والخلق ولم يكن يتميز لو لا الكرسي الذي هو موضع القدمين الواردتين في الخبر وعن هذا الاسم وجد في النفس الإنساني حرف الكاف وفي فلك المنازل منزلة النثرة لما وجد فلكها

(الفصل التاسع عشر) في الاسم الغني‏

وتوجهه على إيجاد الفلك الأطلس وهو فلك البروج واستعانته بالاسم الدهر وإيجاد حرف الجيم من الحروف والطرف من المنازل‏

[أن الغنى جعل الفلك أطلس متماثل الأجزاء مستدير الشكل‏]

اعلم أن هذا الاسم جعل هذا الفلك أطلس لا كوكب فيه متماثل الأجزاء مستدير الشكل لا تعرف لحركته بداية ولا نهاية وما له طرف بوجوده حدثت الأيام السبعة والشهور والسنون ولكن ما تعينت هذه الأزمنة فيه إلا بعد ما خلق الله في جوفه من العلامات التي ميزت هذه الأزمنة وما عين منها هذا الفلك سوى يوم واحد وهي دورة واحدة عينها مكان القدم من الكرسي فتعينت من أعلى فذلك القدر يسمى يوما وما عرف هذا اليوم إلا الله تعالى لتماثل أجزاء هذا الفلك وأول ابتداء حركته وكان ابتداء حركته وأول درجة من برج الجوزاء يقابل هذا القدم وهو من البروج الهوائية فأول يوم في العالم ظهر كان بأول درجة من الجوزاء ويسمى ذلك اليوم الأحد فلما انتهى ذلك الجزء المعين عند الله من هذا الفلك إلى مقارنة ذلك القدم من الكرسي‏

انقضت دورة واحدة هي المجموع قابلت أجزاء هذا الفلك كلها من الكرسي موضع القدم منه فعمت تلك الحركة كل درجة ودقيقة وثانية وما فوق ذلك في هذا الفلك فظهرت الأحياز وثبت وجود الجوهر الفرد المتحيز الذي لا يقبل القسمة من حركة هذا الفلك ثم ابتدأ عند هذه النهاية بانتقال آخر في الوسط أيضا إلى أن بلغ الغاية مثل الحركة الأولى بجميع ما فيه من الأجزاء الأفراد التي تألف منها لأنه ذو كميات وتسمى هذه الحركة الثانية يوم الإثنين إلى أن كمل سبع حركات دورية كل حركة عينتها صفة إلهية والصفات سبع لا تزيد على ذلك فلم يتمكن أن يزيد الدهر على سبعة أيام يوما فإنه ما ثم ما يوجبه فعاد الحكم إلى الصفة الأولى فأدارته ومشى عليه اسم الأحد وكان الأولى بالنظر إلى الدورات أن تكون ثامنة لكن لما كان وجودها عن الصفة الأولى عينها لم يتغير عليها اسمها وهكذا الدورة التي تليها إلى سبع دورات ثم يبتدئ الحكم كما كان أول مرة عن تلك الصفة ويتبعها ذلك الاسم أبد الآبدين دنيا وآخرة بحكم العزيز العليم فيوم الأحد عن صفة السمع فلهذا ما في العالم إلا من يسمع الأمر الإلهي في حال عدمه بقوله كُنْ ويوم الإثنين وجدت حركته عن صفة الحياة وبه كانت الحياة في العالم فما في العالم جزء إلا وهو حي ويوم الثلاثاء وجدت حركته عن صفة البصر فما في العالم جزء إلا وهو يشاهد خالقه من حيث عينه لا من حيث عين خالقه ويوم الأربعاء وجدت حركته عن صفة الإرادة فما في العالم جزء إلا وهو يقصد تعظيم موجدة ويوم الخميس وجدت حركته عن صفة القدرة فما في الوجود جزء إلا وهو متمكن من الثناء على موجدة ويوم الجمعة وجدت حركته عن صفة العلم فما في العالم جزء إلا وهو يعلم موجدة من حيث ذاته لا من حيث ذات موجدة وقيل إنما وجد عن صفة العلم يوم الأربعاء وهو صحيح فإنه أراد علم العين وهو علم المشاهدة والذي أردناه نحن إنما هو العلم الإلهي مطلقا لا العلم المستفاد وهذا القول الذي حكيناه أنه قيل ما قاله لي أحد من البشر بل قاله لي روح من الأرواح فأجبته بهذا الجواب فتوقف فالقى عليه أن الأمر كما ذكرناه ويوم السبت وجدت حركته عن صفة الكلام فما في الوجود جزء إلا وهو يسبح بحمد خالقه ولكن لا نفقة تسبيحه إن الله كانَ حَلِيماً غَفُوراً فما في العالم جزء إلا وهو ناطق بتسبيح خالقه عالم بما يسبح به مما ينبغي لجلاله قادر على ذلك قاصد له على التعيين لا لسبب آخر فمن وجد عن سبب مشاهدة عظمة موجدة حي القلب سميع لأمره فتعينت الأيام أن تكون سبعة لهذه الصفات وأحكامها فظهر العالم حيا سميعا بصيرا عالما مريدا قادرا متكلما فعمله على شاكلته كما قال تعالى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ والعالم عمله فظهر بصفات الحق فإن قلت فيه إنه حق صدقت فإن الله قال ولكِنَّ الله رَمى‏ وإن قلت فيه إنه خلق صدقت فإنه قال إِذْ رَمَيْتَ فعرى وكسى وأثبت ونفى فهو لا هو وهو المجهول المعلوم ولِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ وللعالم الظهور بها في التخلق فلا يزاد في الأيام السبعة ولا ينقص منها وليس يعرف هذه الأيام كما بيناها إلا العالم الذي فوق الفلك الأطلس لأنهم شاهدوا التوجهات الإلهيات من هناك على إيجاد هذه الأدوار وميزوا بين التوجهات فانحصرت لهم في سبعة ثم عاد الحكم فعلموا النهاية في ذلك وأما من تحت هذا الفلك فما علموا ذلك إلا بالجواري السبعة ولا علموا تعيين اليوم إلا بفلك الشمس حيث قسمته الشمس إلى ليل ونهار فعين الليل والنهار اليوم ثم إن الله تعالى جعل في هذا الفلك الأطلس حكم التقسيم الذي ظهر في الكرسي لما انقسمت الكلمة فيه بتدلي القدمين إليه وهما خبر وحكم والحكم خمسة أقسام وجوب وحظر وإباحة وندب وكراهة والخبر قسم واحد وهو ما لم يدخل تحت حكم واحد من هذه الأحكام فإذا ضربت اثنين في ستة كان المجموع اثني عشر ستة إلهية وستة كونية لأنها على الصورة فانقسم هذا الفلك الأطلس على اثني عشر قسما عينها ما ذكرناه من انقسام الكلمة في الكرسي وأعطى لكل قسم حكما في العالم متناهيا إلى غاية ثم تدور كما دارت الأيام سواء إلى‏

غير نهاية فأعطى قسما منها اثنتي عشر ألف سنة وهو قسم الحمل كل سنة ثلاثمائة وستون دورة مضروبة في اثني عشر ألفا فما اجتمع من ذلك فهو حكم هذا القسم في العالم بتقدير العزيز العليم الذي أوحى الله فيه من الأمر الإلهي الكائن في العالم ثم تمشي على كل قسم بإسقاط ألف حتى تنتهي إلى آخر قسم وهو الحوت وهو الذي يلي الحمل والعمل في كل قسم بالحساب كالعمل الذي ذكرناه في الحمل فما اجتمع من ذلك فهو الغاية ثم يعود الدور كما بدأ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فالمتحرك ثابت العين والمتجدد إنما هي الحركة فالحركة لا تعود عينها أبدا لكن مثلها

والعين لا تنعدم أبدا فإن الله قد حكم بإبقائها فإنه أحب أن يعرف فلا بد من إبقاء أعين العارفين وهم أجزاء العالم وهذا الفلك هو سقف الجنة وعن حركته يتكون في الجنة ما يتكون وهو لا ينخزم نظمه فالجنة لا تفني لذاتها أبدا ولا يتخلل نعيمها ألم ولا تنغيص وإن كانت طبائع أقسام هذا الفلك مختلفة فما اختلفت إلا لكون الطبيعة فوقه فحكمت عليه بما تعطيه من حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة إلا أنه لما كان مركبا ولم يكن بسيطا لم يظهر فيه حكم الطبيعة إلا بالتركيب فتركب الناري من هذه الأقسام من حرارة ويبوسة وتركب الترابي منها من برودة ويبوسة وتركب الهوائي منها من حرارة ورطوبة وتركب المائي منها من برودة ورطوبة فظهرت على أربع مراتب لأن الطبيعة لا تقبل منها إلا أربعة تركيبات لكونها متضادة وغير متضادة على السواء فلذلك لم تقبل إلا أربع تركيبات كما هي في عينها على أربع لا غير وإن كانت الطبيعة في الحقيقة اثنين لأنها عن النفس‏

[أن للنفس قوتين‏]

والنفس ذات قوتين علمية وعملية فالطبيعة ذات حقيقتين فاعلتين من غير علم فهي تفعل بعلم النفس لا بعلمها إذ لا علم لها ولها العلم فهي فاعلة بالطبع غير موصوفة بالعلم فهي من حيث الحرارة والبرودة فاعلة ثم انفعلت اليبوسة عن الحرارة والرطوبة عن البرودة فكما كانت الحرارة تضاد البرودة كان منفعل الحرارة يضاد منفعل البرودة فلهذا ما تركب من المجموع سوى أربع فظهر حكمها في أقسام هذا الفلك بتقدير العزيز العليم ثم جعلها

على التثليث كل ثلث أربع فإذا ضربت ثلاثة في أربعة كان المجموع اثني عشر فلكل برج ثلاثة أوجه مضروبة في أربعة أبراج كان المجموع اثني عشر وجها والأربعة الأبراج قد عمت تركيب الطبائع لأنها منحصرة في ناري وترابي وهوائي ومائي فإذا ضربت ثلاث مراتب في اثني عشر وجها كان المجموع ستة وثلاثين وجها وهو عشر الدرج أي جزء من عشرة والعشرة آخر نهاية الأحقاب والحقبة السنة فأرجو أن يكون المال إلى رحمة الله في أي دار شاء فإن المراد أن تعم الرحمة الجميع حيث كانوا فيحيي الجميع بعد ما كان منه من لا يموت ولا يحيا وذلك حال البرزخ‏

[أن الكرسي موضع القدمين‏]

واعلم أن هذا الفلك يقطع بحركته في الكرسي كما يقطعه من دونه من الأفلاك ولما كان الكرسي موضع القدمين لم يعط في الآخرة إلا دارين نارا وجنة فإنه أعطى بالقومين فلكين فلك البروج وفلك المنازل الذي هو أرض الجنة وهما باقيان وما دون فلك المنازل يخرب نظامه وتبدل صورته ويزول ضوء كواكبه كما قال يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ والسَّماواتُ وقال فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ فما ذكر من السموات إلا المعروفة بالسموات وهي السبع السموات خاصة وأما مقعر فلك المنازل فهو سقف النار ومن فعل هاتين القدمين في هذا الفلك ظهر في العالم من كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بتقدير العزيز لوجود حكم الفاعلين من الطبيعة والقوتين من النفس والوجهين من العقل والحرفين من الكلمة الإلهية كن من الصفتين الإلهية في لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهي الصفة الواحدة وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وهي الصفة الأخرى فمن نزه فمن لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ومن شبه فمن وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فغيب وشهادة غيب تنزيه وشهادة تشبيه فافهم إن كنت تفهم واعلم ما الحقيقة التي حكمت على الثنوية حتى أشركوا وهم المانية مع استيفائهم النظر وبذل الاستطاعة فيه فلم يقدروا على الخروج من هذه الاثنينية إلى العين الواحدة وما ثم إلا الله ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به فلم يعذر لأنه نزل عن هذه الدرجة فقلد فنجا صاحب النظر وهلك المقلد فإنه استند إلى أمر محقق في الصفة والكلمة وأَضَلَّهُ الله عَلى‏ عِلْمٍ وخَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ فلم يسمع وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وختم على قلبه فلم يعلم أنه إله واحد لأنه لم يشاهد تقليب قلبه وجَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فلم يدرك فردية الكلمة بالواو التي بين الكاف والنون فمنعته الغشاوة من إدراكها فلم يشاهد إلا اثنين الكاف والنون لفظا وخطا والكاف كافان كاف كن وهي كاف الإثبات وكاف لم يكن وهي كاف النفي وفي هذه الكاف طلعت لنا الشمس سنة تسعين وخمسمائة فأثبتنا نفي التشبيه بطلوع الشمس في لم يكن ومن لم تطلع له فيه شمس قال بالتعطيل والشمس طالعة ولا بد في لم يكن نصف القرص منها ظاهر والنصف فيها مستتر والغشاوة منعت هذا الرائي أن يدرك طلوعها فقال بالتعطيل وهو النفي المطلق فما من ناظر إلا وله عذر والله أجل من أن يكلف نفسا ما ليس في وسعها

فكلهم في رحمة الله خالد *** موحده أو ذو الشريك وجاحد

ومن هذا الاسم وجد حرف الجيم والطرف من المنازل وسيأتي الكلام على كل واحد من هذه الحروف والمنازل في بابها

(الفصل العشرون في الاسم المقدر)

وتوجهه على إيجاد فلك المنازل والجنات وتقدير صور الكواكب في مقعر هذا الفلك وكونه أرض الجنة وسقف جهنم وله حرف الشين المعجمة من الحروف ومنزلة جبهة الأسد قال تعالى والْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ... ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فالمنازل مقادير التقاسيم التي في فلك البروج عينها الحق تعالى لنا إذ لم يميزه البصر بهذه المنازل وجعلها ثماني وعشرين منزلة من أجل حروف النفس الرحماني وإنما قلنا ذلك لأن الناس يتحيلون أن الحروف الثمانية والعشرين من المنازل حكم هذا العدد لها وعندنا بالعكس بل عن هذه الحروف كان حكم عدد المنازل وجعلت ثماني وعشرين مقسمة على اثني عشر برجا ليكون لكل برج في العدد الصحيح قدم وفي العدد المكسور قدم إذ لو كان لبرج من هذه البروج عدد صحيح دون كسر أو مكسور دون صحيح لم يعم حكم ذلك البرج في العالم بحكم الزيادة والنقص والكمال وعدم الكمال ولا بد من الزيادة والنقص لأن الاعتدال لا سبيل إليه لأن العالم مبناه على التكوين والتكوين بالاعتدال لا يصح فلا بد من عدد مكسور وصحيح في كل برج فكان لكل برج منزلتان وثلث فثم برج يكون له منزلتان صحيحتان وثلث منزلة كسر وثم برج يكون له منزلة صحيحة في الوسط ويكون في آخره كسر وفي أوله كسر فيلفق من الكسرين منزلة صحيحة مختلفة المزاج وثلث منزلة وإنما قلنا مختلفة المزاج فإن كل منزلة على مزاج خاص فإذا جمع جزء منزلة إلى جزأي منزلة أخرى ليكمل بذلك عين منزلة لأن المنزلة مثلثة كالبرج له ثلاثة وجوه ومن وجوه منازله سبعة وجوه فكل برج ذو سبعة أوجه وله من نفسه ثلاثة أوجه فكان المجموع عشرة أوجه فالمنزلة الصحيحة ذات مزاج واحد والمنزلة الكائنة من منزلتين بمنزلة المولد من اثنين يحدث له مزاج آخر ليس هو في كل واحد من الأبوين وفيه سر عجيب وهو أحدية المجموع فإن لها من الأثر ما ليس لاحدية الواحد أ لا ترى أن العالم ما وجد إلا بأحدية المجموع وأن الغني لله ما ثبت إلا بأحدية الواحد فهذا الحكم يخالف هذا الحكم بلا شك فالثريا لها مزاج خاص وقد أخذ الحمل منها ثلثها وجاء الثور يحتاج إلى منزلتين وثلث فأخذ منزلة الدبران صحيحة بمزاج واحد أحدي وبقي له منزلة وثلث لم يجد منزلة صحيحة ما يأخذ فأخذ ثلثي الثريا وأضاف إلى ذلك ثلثي الهقعة فكملت له منزلة واحدة بأحدية المجموع فتعطيه هذه المنزلة عين حكم الثريا وعين حكم الهقعة ثم يأخذ الثلث الثاني من الهقعة فلا يعمل من الهقعة إلا بالثلث الوسط وأما الثلث الأول المضاف إلى ثلثي الثريا لكمال المنزلة فإنه يحدث لهذا الثلث ويحدث لثلث الثريا بكمال وصورة منزلة ما هي عين واحدة منهما حكم ليس هو لثلثي أحدهما ولا لثلث الآخر فهذا هو السبب الذي يكون لأجله للبرج ثلاثة أوجه فمنه برج خالص وبرج ممتزج وهل كل برج يكون من ثلثين وثلثين وهي بروج معلومة يعينها لك تقسيم المنازل عليها وقد تكون المنزلة المركبة قامت من منزلة سعيدة ونحسة فتعطي بالمجموع سعدا ولا يظهر لنحس الأخرى أثر وقد تعطي نحسا ولا يظهر لسعد الأخرى أثر بخلاف المنزلة الصحيحة فإنها تجري على ما خلقت له فإن الله أعطاها خلقها كما أعطى للمركبة خلقها فكل علامة ودليل على برج لا بد فيه من التركيب ويكون بالتثليث فإن الدليل أبدا مثلث النشأة لا بد من ذلك مفردان وجامع بينهما وهو الوجه الثالث لا بد من ذلك في كل مقدمتين من أجل الإنتاج كل أ ب وكل ب ج فتكررت الباء فقام الدليل من ألف با جيم فالوجه الجامع الباء لأنه تكرر في المقدمتين فانتج كل ألف جيم وهو كان المطلوب الذي ادعاه صاحب الدعوى فإنه ادعى أن كل ألف جيم فنوزع فساق الدليل بما اعترف به المنازع فإنه سلم إن كل أ ب وسلم أن كل ب ج فثبت عنده صحة قول المدعي أن كل أ ج فمن هنا ظهرت البراهين في عالم الإنسان وعن هذه التقاسيم التي أعطت المنازل في البروج وبعد أن علمت هذا

[أن الكرسي والعرش فوق فلك الأطلس‏]

فاعلم أن هذا الفلك الأطلس لما قام له الكرسي مقام العرش وفوق الأطلس الكرسي والعرش أعطت هذه الثلاثة وجود فلك المنازل كما أعطت المقدمات المركبة من ثلاث النتيجة وكما حملت النتيجة قوى الثلاث اللاتي في المقدمتين حمل فلك الكواكب قوة الأطلس والكرسي والعرش والكرسي هو الوجه الجامع بين المقدمتين لأنه الوسط بين العرش والأطلس فله وجه إلى كل واحد منهما فمن قوة العرش اتحدت أو توحدت فيه الكلمة الإلهية فكان أهل الجنة وهم أهل هذا الفلك المكوكب يقولون للشي‏ء كن فيكون ومن قوة الكرسي كان لكل إنسان فيه زوجتان لأنه موضع القدمين ومن قوة الفلك الأطلس‏

غابت إنسانيته في ربه فتكونت عنه الأشياء ولا تتكون إلا عن الله وغابت الربوبية في إنسانيته فالتذ بالأشياء وتنعم وأكل وشرب ونكح فهو خلق حق فجهل كما أن الفلك الأطلس مجهول فلهذا قلنا إن هذا الفلك قد حصل قوة ما فوقه لأنه مواد عنه وهكذا كل ما تحته أبدا المولد يجمع حقائق ما فوقه حتى ينتهي إلى الإنسان وهو آخر مولد فتجمع فيه قوى جميع العالم والأسماء الإلهية بكمالها فلا موجود أكمل من الإنسان الكامل ومن لم يكمل في هذه الدنيا من الأناسي فهو حيوان ناطق جزء من الصورة لا غير لا يلحق بدرجة الإنسان بل نسبته إلى الإنسان نسبة جسد الميت إلى الإنسان فهو إنسان بالشكل لا بالحقيقة لأن جسد الميت فاقد في نظر العين جميع القوي وكذلك هذا الذي لم يكمل وكماله بالخلافة فلا يكون خليفة إلا من له الأسماء الإلهية بطريق الاستحقاق أي هو على تركيب خاص يقبلها إذ ما كل تركيب يقبلها وهذا من الأسرار الإلهية التي تجوزها العقول وهي محال كونها ولما خلق الله هذا الفلك كون في سطحه الجنة فسطحه مسك وهو أرض الجنة وقسم الجنات على ثلاثة أقسام للثلاثة الوجوه التي لكل برج جنات الاختصاص وهي الأولى وجنات الميراث وهي الثانية وجنات الأعمال وهي الثالثة ثم جعل في كل قسم أربعة أنهار مضروبة في ثلاثة يكون منها اثنا عشر نهرا ومنها ظهر في حجر موسى اثنتا عشرة عينا لاثنتي عشرة سبطا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ النهر الواحد نهر الماء الذي هو غير آسن يقول غير متغير وهو علم الحياة ونهر الخمر وهو علم الأحوال ونهر العسل وهو علم الوحي على ضروبه ولهذا تصعق الملائكة عند ما تسمع الوحي كما يسكر شارب الخمر ونهر اللبن وهو علم الأسرار واللب الذي تنتجه الرياضات والتقوى فهذه أربعة علوم والإنسان مثلث النشأة نشأة باطنة معنوية روحانية ونشأة ظاهرة حسية طبيعية ونشأة متوسطة جسدية برزخية مثالية ولكل نشأة من هذه الأنهار نصيب كل نصيب نهر لها مستقل يختلف مطعمه باختلاف النشأة فيدرك منه بالحس ما لا يدركه بالخيال ويدرك منه بالخيال ما لا يدركه بالمعنى وهكذا كل نشأة فللإنسان اثنا عشر نهرا في جنة الاختصاص أربعة وفي جنة الميراث مثلها وفي جنة الأعمال مثلها لمن له جنة عمل إما من نفسه وإما ممن أهدى له من الأعمال شيئا فيحصل للإنسان من العلوم في كل جنة بحسب حقيقة تلك الجنة وبحسب مأخذ النشآت منه فإنها تختلف مأخذها وتختلف العلوم وتختلف الجنات فتختلف الأذواق ونفس الرحمن فيها دائم لا ينقطع تسوقه ريح تسمى المثيرة وفي الجنة شجرة ما يبقى بيت في الجنة إلا دخل فيه منها تسمى المؤنسة يجتمع إلى أصلها أهل الجنة في ظلها يتحدثون بما ينبغي لجلال الله بحسب مقاماتهم في ذلك بطريق الإفادة فيحصل بينهم لكل واحد علم لم يكن يعرفه فتعلو منزلته بعلو ذلك العلم فإذا قاموا من تحت تلك الشجرة وجدوا لهم درجات ومنازل لم يكونوا يعرفونها في جناتهم فيجدون من اللذة بها ما لا يقدر قدره فيتعجبون ولا يعرفون من أين ذلك فتهب عليهم الريح المثيرة من نفس الرحمن تخبرهم أن هذه الدرجات التي حصلتموها هي منازلكم في منازل العلم الذي اكتسبتموه تحت الشجرة المؤنسة في ناديكم هذه منازله فيحصل لكل واحد منزل يعلمه فلا يمر لهم نفس إلا ولهم فيه نعيم مقيم جديد فهذا ما يحوي عليه سطح هذا الفلك وأمثال هذا ووجدت هذه الجنان بطالع الأسد وهو برج ثابت فلها الدوام وله القهر فلهذا يقول أهله للشي‏ء كن فلا يأبى إلا أن يكون لأنه ليس في البروج من له السطوة مثله فله القهر على إبراز الأمور من العدم إلى الوجود وأما مقعر هذا الفلك فجعله الله محلا للكواكب الثابتة القاطعة في فلك البروج ولها من الصور فيه ألف صورة واحدي وعشرون صورة وصور السبعة الجواري في السموات السبع فمبلغ الجميع ألف وثمان وعشرون صورة كلها تقطع في فلك البروج بين سريع وبطي‏ء ويوم كل كوكب منها بقدر قطعه فلك البروج فأسرعها قطعا القمر فإن يومه ثمانية وعشرون يوما من أيام الدورة الكبرى التي تقدر بها هذه الأيام وهي الأيام المعهودة عند الناس كما أشار إلى ذلك تعالى في قوله وإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ يعني‏

هذه الأيام المعروفة فأقصر أيام هذه الكواكب يوم القمر ومقداره ثمانية وعشرون يوما مما تعدون وأطول يوم لكوكب منه مقداره ست وثلاثون ألف سنة مما تعدون ويوم ذي المعارج من الأسماء الإلهية خمسون ألف سنة ويوم الاسم الرب كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ولكل اسم إلهي يوم فإذا أردت أن تعرف جميع أيام صور الكواكب أعني مقدارها من الأيام المعروفة فاضرب ألفا وأحدا وعشرين‏

في ستة وثلاثين ألف سنة فما خرج فذلك حصر أيام الكواكب من الأيام المعروفة فإن يوم كل واحد منها ست وثلاثون ألف سنة ثم تضيف إلى المجموع أيام الجواري السبعة فما اجتمع فهو ذلك ثم تأخذ هذا المجموع وتضربه فيما اجتمع من سنى البروج وسنى ما اجتمع من ضرب ثلاثمائة وستين في مثلها فما خرج لك من المجموع فهو عدد الكوائن في الدنيا من أول ما خلقها الله إلى انقضائها فاعلم ذلك والمجموع من ضرب ثلاثمائة وستين في مثلها مع سنى البروج مائتا ألف وسبعة آلاف وستمائة وفي هذا المجموع تضرب ما اجتمع من عدد أيام الكواكب كلها فهذا تقدير الكواكب التي وقتها وقدرها العزيز العليم فيبقى في الآخرة في دار جهنم حكم أيام الكواكب التي في مقعر هذا الفلك والجواري السبعة مع انكدارها وطمسها وانتثارها فتحدث عنها في جهنم حوادث غير حوادث إنارتها وثبوتها وسير أفلاكها بها وهي ألف وثمانية وعشرون فلكا كلها تذهب وتبقي السباحة للكواكب بذاتها مطموسة الأنوار ويبقى في الآخرة في الجنة حكم البروج وحكم مقادير العقل عنها يحدث في الجنان ما يحدث ويثبت وأما كثيب المسك الأبيض الذي في جنة عدن الذي تجتمع فيه الناس للرؤية يوم الزور الأعظم وهو يوم الجمعة فأيامه من أيام أسماء الله ولا علم لي ولا لأحد بها فإن لله أسماء استأثر بها في علم غيبه فلا تعلم فلا تعلم أيامها فعدن بين الجنات كالكعبة بيت الله بين بيوت الناس والزور الأعظم فيه كصلاة الجمعة والزور الخاص كالصلوات الخمس في الأيام والزور الأخلص الأخص كمساجد البيوت لصلاة النوافل فتزور الحق على قدر صلاتك وتراه على قدر حضورك فأدناه الحضور في النية عند التكبير وعند الخروج من الصلاة وأعظمه استصحاب الحضور إلى الخروج من الصلاة وما بينهما في كل صلاة فهنا مناجاة وهناك مشاهدة وهنا حركات وهناك سكون ولهذا الاسم من الحروف الشين المعجمة ومن المنازل الجبهة انتهى الجزء الثاني والعشرون ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(الفصل الحادي والعشرون) في الاسم الرب‏

وتوجهه على إيجاد السماء الأولى والبيت المعمور والسدرة والخليل ويوم السبت وحرف الياء بالنقطتين من أسفل والخرتان وكيوان قال الله تعالى وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فما طلب الزيادة من العلم إلا من الرب ولهذا جاء مضافا لاحتياج العالم إليه أكثر من غيره من الأسماء لأنه اسم لجميع المصالح وهو من الأسماء الثلاثة الأمهات فجاء رَبُّكُمْ ورَبُّ آبائِكُمُ ورَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ ورَبُّ الْمَشارِقِ والْمَشْرِقَيْنِ والْمَشْرِقِ ورب المغارب والمغرب والمغربين وهو المتخذ وكيلا و

[الاسم الرب‏]

هذا الاسم أعطى السدرة نبقها وخضرتها ونورها منه ومن الاسم الله وأعطى الاسم الرحمن من نفسه عرفها كما قال في الجنة عَرَّفَها لَهُمْ يعني بالنفس من العرف وهي الرائحة ومن الاسم الله أصولها وزقومها لأهل جهنم وقد جلل الله هذه السدرة بنور الهوية فلا تصل عين إلى مشاهدتها فتحدها أو تصفها والنور الذي كساها نور أعمال العباد ونبقها على عدد نسم السعداء لا بل على عدد أعمال السعداء لا بل هي أعيان أعمال السعداء وما في جنة الأعمال قصر ولا طاق إلا وغصن من أغصان هذه السدرة داخل فيه وفي ذلك الغصن من النبق على قدر ما في العمل الذي هذا الغصن صورته من الحركات وما من ورقة في ذلك الغصن إلا وفيها من الحسن بقدر ما حضر هذا العبد مع الله في ذلك العمل وأوراق الغصن بعدد الأنفاس في ذلك العمل وشوك هذه السدرة كله لأهل الشقاء وأصولها فيهم والشجرة واحدة ولكن تعطي أصولها النقيض مما تعطيه فروعها من كل نوع فكل ما وصفنا به الفروع حد النقيض في الأصول وهذا كثير الوقوع في علم النبات كما حكي أن أبا العلا بن زهر وكان من أعلم الناس بالطب ولا سيما بعلم الحشائش وأبا بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة وكان دون ابن زهر في معرفة الحشائش إلا أنه كان أفضل منه في العلم الطبيعي وكان يتخيل في زعمه أنه أعلم من ابن زهر في علم الحشائش فركبا يوما فمرا بحشيشة فقال ابن زهر لغلامه اقطع لنا من هذه الحشيشة وأشار إلى حشيشة معينة فأخذ شيئا منها وفتلها في يده وقربها من أنفه كأنه يستنشقها ثم قال لأبي بكر انظر ما أطيب ريح هذه الحشيشة فاستنشقها أبو بكر فرعف من حينه فما ترك شيئا يمكن في علمه أن يقطع به الرعاف مما هو حاضر إلا وعمله وما نفع حتى كاد يهلك وأبو العلا يتبسم‏

ويقول يا أبا بكر عجزت قال نعم فقال أبو العلا لغلامه استخرج لي أصول تلك الحشيشة فجاء بها فقال له يا أبا بكر استنشقها فاستنشقها أبو بكر فانقطع الدم عنه فعلم فضله عليه في علم الحشائش وأسعد الناس بهذه السدرة أهل بيت المقدس كما

أن أسعد الناس بالمهدي أهل الكوفة

كما أنه أسعد الناس برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أهل الحرم المكي كما أنه أسعد الناس بالحق أهل القرآن وإذ أكل أهل السعادة من هذه الشجرة زال الغل من صدورهم ومكتوب على ورقها سبوح قدوس رب الملائكة والروح وإلى هذه السدرة تنتهي أعمال بنى آدم ولهذا سميت سدرة المنتهى وللحق فيها تجل خاص عظيم يقيد الناظر ويحير الخاطر وإلى جانبها منصة وتلك المنصة مقعد جبريل عليه السلام وفيها من الآيات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما قال رسول الله ص‏

فيها إنها غشيها من نور الله ما غشى فلا يستطيع أحد أن ينعتها إنما ينظر الناظر إليها فيدركه البهت وأوجد الله في هذه السماء البيت المعمور المسمى بالضراح وهو على سمت الكعبة كما

ورد في الخبر لو سقطت منه حصاة لوقعت على الكعبة

وهذا البيت في هذه السماء والسماء ساكنة لا حركة فيها ولهذا لا ينتقل البيت من سمت الكعبة لأن الله جعل هذه السموات ثابتة مستقرة هي لنا كالسقف للبيت ولهذا سماها السقف المرفوع إلا أنه في كل سماء فلك وهو الذي تحدثه سباحة كوكب ذلك السماء فالكواكب تسبح في أفلاكها لكل كوكب فلك فعدد الأفلاك بعدد الكواكب يقول تعالى كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وأجرام السموات أجرام شفافة وهي مسكن الملائكة والأفلاك لو لا سباحة الكواكب ما ظهر لها عين في السموات فهي فيها كالطرق في الأرض تحدث كونها طريقا بالماشي فيها فهي أرض من حيث عينها طريق من حيث المشي فيها وهذا البيت له بابان يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك ثم يخرجون على الباب الذي يقابله ولا يعودون إليه أبدا يدخلون فيه من الباب الشرقي لأنه باب ظهور الأنوار ويخرجون من الباب الغربي لأنه باب ستر الأنوار المذهبة فيحصلون في الغيب فلا يدري أحد حيث يستقرون وهؤلاء الملائكة يخلقهم الله في كل يوم من نهر الحياة من القطرات التي تقطر من انتفاض جبريل لأن الله قد جعل له في كل يوم غمسة في نهر الحياة وبعدد هؤلاء الملائكة في كل يوم تكون خواطر بنى آدم فما من شخص مؤمن ولا غيره إلا ويخطر له سبعون ألف خاطر في كل يوم لا يشعر بها إلا أهل الله وهؤلاء الملائكة الذين يدخلون البيت المعمور يجتمعون عند خروجهم منه مع الملائكة الذين خلقهم الله من خواطر القلوب فإذا اجتمعوا بهم كان ذكرهم الاستغفار إلى يوم القيامة فمن كان قلبه معمورا بذكر الله مستصحبا كانت الملائكة المخلوقة من خواطره تمتاز عن الملائكة التي خلقت من خواطر قلب ليس له هذا المقام وسواء كان الخاطر فيما ينبغي أو فيما لا ينبغي فالقلوب كلها من هذا البيت خلقت فلا تزال معمورة دائما وكل ملك يتكون من الخاطر يكون على صورة ما خطر سواء وخلق الله في هذه السماء كوكبا وأوحى فيها أمرها وأسكنها إبراهيم الخليل وجعل لهذا الكوكب حركة في فلكه على قدر معلوم ومن أعجب المسائل مسألة هذه الحركات فإنها من خفي العلم فإنه يعطي أنه لا يستحيل مؤثر فيه بين مؤثرين لأن مثل هذه الحركة لهذا الكوكب يكون عن حكمين مختلفين حكم قسري وحكم إرادي أو طبيعي وذلك له مثال ظاهر وهو أنه إذا كان حيوان على جسم قاصدا جهة بحركته من هذا إلا لجسم وتحرك الجسم إلى غير تلك الجهة فتحرك الحيوان إلى جهة حركة هذا الجسم مع حركته إلى النقيض فيجمع بين حركتين متقابلتين معا في زمان واحد فهو يقطع في ذلك الجسم الذي هو عليه والجسم يقطع به في جسم آخر فيقطع الحيوان فيه بحكم التبعية كنملة على ثوب مطروح في الأرض تمشي فيه مشرقة ويجذب جاذب ذلك الثوب إلى جهة الغرب فتكون متحركة إلى جهة الشرق في الآن الذي تتحرك فيه بتحرك الثوب إلى جهة الغرب فهي حركة قهرية لها غالبة عليها وهاتان حركتان متقابلتان في آن واحد فانظر هل لاجتماع الضدين وجود في هذه المسألة أم لا فإن الكواكب تقطع في الفلك في رأى العين من الغرب إلى الشرق والفلك الأكبر المحيط يقطع بها من الشرق إلى الغرب فالكوكب متحرك من الشرق إلى الغرب في الآن الذي هو فيه متحرك من الغرب إلى الشرق ففلكه الذي تحدثه حركته شرقا عين فلكه الذي تحدثه حركته غربا فهذه مثل مسألة الجبر في عين‏

الاختيار فالعبد مجبور في اختياره ومن هذه المسألة تعرف أفعال العباد لمن هي منسوبة بحكم الخلق هل ينفرد بها أحد القادرين أو هل هي لقادرين لكل قادر فيها نسبة خاصة بها وقع التكليف ومن أجلها كان العقاب والثواب وقد ذكرنا ما لهذا الفلك من الأثر في قلوب العارفين وذكر غيرنا وذكرنا ما له من الأثر في عالم الخلق من الكون والفساد وهو عالم الأركان والمولدات كل ذلك من هذا النفس الرحماني لأنه يعطي الحركات والحركة سبب الوجود أ لا ترى الأصل لو لا توجه الإرادة وهي حركة معنوية والقول وهو حركة معنوية وبها سميت اللفظة لفظة لهذه الحركة ما ظهر وجود ومن هذا الفلك أعطى الله وجود يوم السبت وهو يوم الأبد فليله في الآخرة لا انقضاء له ونهاره أيضا في المحل الثاني لا انقضاء له وفيه تحدث الأيام السبعة ومنها السبت وهذا من أعجب الأمور أيضا أن الأيام التي منها السبت تحدث في يوم السبت فهو من جملة الأيام وفيه يظهر الأيام ولهذا مستند في الحقيقة الإلهية وذلك‏

أن الترمذي خرج في غريب الحسان عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال له الحق قل الحمد لله فقال الحمد لله فحمد الله بإذنه فقال له يرحمك ربك يا آدم لهذا خلقتك هذه الزيادة ليست من الترمذي ثم رجعنا إلى حديث الترمذي يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم قالوا وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال إن هذه تحيتك وتحية بينك وبينهم فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت قال اخترت يدي ربي وكلتا يمين ربي يمين مباركة وبسطها وإذا فيها آدم وذريته‏

الحديث فهذا آدم في تلك القبضة في حال كونه خارجا عنها وهكذا عين هذه المسألة وإذا نظرت وجدت العالم مع الحق بهذه المثابة موضع حيرة هو لا هو ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فختم بما به بدأ فيا ليت شعري من الوسط فإنه وسط بين نفي وهو قوله وما رَمَيْتَ وبين إثبات وهو قوله ولكِنَّ الله رَمى‏ وهو قوله ما أنت إذ أنت لكن الله أنت فهذا معنى قولنا في كلامنا في الظاهر والمظاهر وإنه عينه مع اختلاف صور المظاهر فنقول في زيد إنه واحد مع اختلاف أعضائه فرجله ما هي يده وهي زيد في قولنا زيد وكذلك أعضاؤه كلها وباطنه وظاهره وغيبه وشهادته مختلف الصور وهو عين زيد ما هو غير زيد ثم تضاف كل صورة إليه ويؤكد بالعين والنفس والكل والجمع وفي هذا الفلك عين الموت ومعدن الراحة وسرعة الحركة في ثبات وطرح الزينة والأذى وله حصل هذا الكوكب في برج الأسد وهو نقيضه في الطبع ونظيره في الثبوت ومن هنا يعرف قول من قال إن المثلين ضدان هل أخطأ أو أصاب وإذا نزل الكوكب في البرج هل يمتزج الحكم فيكون للمجموع حكم ما هو لكل واحد منهما على انفراد أو يغلب حكم المنزلة والبرج على الكوكب النازل فيه أو يغلب حكم الكوكب على البرج أو يتصف أحدهما بالأكثر في الحكم والآخر بالأقل مع وجود الحكمين فعندنا لا يحكم واحد في آخر وإن حكم جمعيتهما يظهر في المحكوم فيه ولكل واحد منهما قوة في ذلك المحكوم فيه بذلك الحكم لأنه عنهما صدر ذلك الحكم من حالة تسمى الاجتماع كما يكون ذلك في الاقترانات بين الكواكب وهذا نوع من الاقتران وليس باقتران ولكنه نزول في منزل‏

(الفصل الثاني والعشرون في الاسم العليم)

وتوجهه على إيجاد السماء الثانية وخانسها ويوم الخميس وموسى عليه السلام وحرف الضاد المعجمة والصرفة من المنازل قال الله تعالى آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً الكلام في كون هذه السماء وباقي السموات والأفلاك كما تقدم غير أني أشير إلى ما يختص به كل سماء خاصة من الحكم فأما هذه السماء فأوحى الله فيها أمرها وتفصيل أمر كل سماء يطول وقد ذكرنا من ذلك طرفا جيدا في التنزلات الموصلية فمن أمرها حياة قلوب العلماء بالعلم واللين والرفق وجميع مكارم الأخلاق ولذلك لم ينبه أحد من سكان السموات من أرواح الأنبياء عليهم السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فرض الله على أمته صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة غير موسى عليه السلام فإنه قال له راجع ربك فإنه كان أعلم منه بهذه الأمور لذوقه مثله في بنى إسرائيل وما ابتلي به منهم فتكلم عن ذوق وخبرة فكل شيخ لا يتكلم في العلوم عن ذوق ومجلى إلهي لا عن كتب ونقل فليس بعالم ولا أستاذ فلولاه لكان الفرض علينا في الصلاة خمسين صلاة مع كونه أرسله الله رحمة للعالمين ومن كثر تكليفه قلت رحمته فقيض الله له في مدرجة إسرائه موسى عليه السلام فخفف الله عن هذه الأمة به صلى الله عليه وسلم فهذا ما كان إلا من حكم أمر هذه‏

السماء الذي أوحى الله فيها أمرها ولها من الأيام يوم الخميس فكل سر يكون للعارفين وعلم وتجل فمن حقيقة موسى من هذه السماء وكل أثر يظهر في الأركان والمولدات يوم الخميس فمن كوكب هذه السماء وحركة فلكها مجملا من غير تفصيل ولها الضاد المعجمة ومن المنازل الصرفة فأما وجود الحروف المذكورة في كل سماء فلتلك السماء أثر في وجودها وأما قولنا إن لها من المنازل الصرفة أو كذا لكل سماء فلسنا نريد أن لها أثرا في وجود المنزلة كما أردنا بالحرف وإنما أريد بذلك أن هذا الكوكب الخاص بهذا الفلك أول ما أوجده الله وتحرك أوجده في المنزلة التي نذكرها له بعينها فهي منزلة سعده حيث ظهر فيها وجوده فهذا معنى قولي له من المنازل كذا ولكل سماء وفلك أثر في معدن من المعادن السبعة يختص به وينظر إلى ذلك المعدن بقوته‏

(الفصل الثالث والعشرون) في الاسم القاهر

توجه هذا الاسم الإلهي على إيجاد السماء الثالثة فأظهر عينها وكوكبها وفلكه وجعلها مسكن هارون عليه السلام وبهذا الاسم الإلهي أوحى فيها أمرها وكان وجود كوكبها حركة فلكه في منزلة العوا يوم الثلاثاء فمن الأمر الموحى فيها إهراق الدماء والحميات وعن حركة هذا الفلك ظهر حرف اللام من الحروف اللفظية فكل علم وسر من الأسرار الإلهية يظهر على العارفين يوم الثلاثاء فهو من هذه السماء من روح هارون وكل أثر في الأركان والمولدات فمن أمر هذا الفلك وحركة كوكبه فإن الله لما أوحى في كل سماء أمرها أوحى بالاسم الإلهي الخاص بذلك فذلك الاسم هو الممد لها

(الفصل الرابع والعشرون) في الاسم النور

وتوجه هذا الاسم الإلهي على إيجاد السماء الرابعة وهي قلب العالم وقلب السموات فأظهر عينها يوم الأحد وأسكن فيها قطب الأرواح الإنسانية وهو إدريس عليه السلام وسمى الله هذه السماء مكانا عليا لكونها قلبا فإن التي فوقها أعلى منها فأراد علو مكانة المكان فلهذا المكان من المكانة رتبة العلو وأوجدها في منزلة السماك وأظهر كوكبها وفلكه وكون حرف النون عنها وأظهر بحركة كوكبها الليل والنهار فقسم اليوم فتقسم فيه الحكم الإلهي في العالم فجعل كل واحد منهما أنثى والآخر ذكر الإنتاج ما يظهر في الأركان من المولدات فكل ما ولد وظهر من الآثار عموما في الأيام كلها بالنهار فأمه النهار وأبوه الليل وما ظهر من ذلك بالليل فأمه الليل وأبوه النهار ف يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ إذا كان النهار أنثى ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ إذا كان الليل أنثى وقد بينا ذلك في كتاب الشأن فكل ما ظهر من العلم والآثار في المولدات يوم الأحد فمن هذه السماء وساكنها لا بل في كل يوم وفي كل العالم الذي تحت حيطته ولا يخنس كوكبها

(الفصل الخامس والعشرون) في الاسم المصور

توجه هذا الاسم الإلهي على إيجاد السماء الخامسة وفلكها وكوكبها وكان ظهور ذلك في منزلة الغفر وأوحى فيها إظهار صور الأرواح والأجسام والعلوم في العالم العنصري واختصت بالأثر الكامل بطريق التولية بيوم الجمعة وأسكن فيها يوسف عليه السلام وعنها ظهر حرف الراء

(الفصل السادس والعشرون) في الاسم المحصي‏

قال تعالى وأَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً يريد موجودا وتوجه هذا الاسم الإلهي على إيجاد السماء السادسة وكوكبها وفلكها يوم الأربعاء في منزلة الزبانا وأسكن فيها عيسى عليه السلام فكل ما ظهر في يوم الأربعاء في العالم العنصري من الآثار الحسية والمعنوية وما يحصل للعارفين في قلوبهم من ذلك فمن وحي هذه السماء ومنها ظهر حرف الطاء المهملة

(الفصل السابع والعشرون) في الاسم المبين‏

توجه هذا الاسم على إيجاد السماء الدنيا وكوكبها وفلكه يوم الإثنين في منزلة الإكليل وعن حركة هذا الفلك حرف الدال المهملة وله كل حكم يظهر في العالم يوم الإثنين روحا وجسما وهذا كله بنهار ذلك اليوم لا بليله فإن ليلة كل يوم ما هي الليلة التي يكون ذلك اليوم في صبيحتها ولا الليلة التي تكون بغروب شمسه في ذلك اليوم وقد ذكرنا ذلك في كتاب الشأن وإنما ليلته التي لذلك اليوم هي في أول ساعة من الليل الذي هو حاكم في أول ساعة من النهار فذلك يوم تلك الليلة وتلك الليلة ليلة ذلك اليوم فهذا أريد

[الإنسان سريع التغيير في باطنه كثير الخواطر]

اعلم أن هذه السماء الدنيا أوحى الله فيها أمرها وأسكنها آدم وهو الإنسان الفرد أصل هذا النوع وهو قوله تعالى خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ إلا أنه جعله الله‏

أعني الإنسان سريع التغيير في باطنه كثير الخواطر يتقلب في باطنه في كل لحظة تقلبات مختلفة لأنه على الصورة الإلهية وهو سبحانه كل يوم في شأن فمن المحال ثبوت العالم زمانين على حالة واحدة بل يتغير عليه الأحوال والأعراض في كل زمان فرد وهو الشئون التي هو الحق فيها لمن علم ما قال الله ولا يظهر سلطان ذلك إلا في باطن الإنسان فلا يزال يتقلب في كل نفس في صور تسمى الخواطر لو ظهرت إلى الأبصار لرأيت عجبا وأسرع الحركات الفلكية حركة هذا الفلك بكوكبه الذي هو القمر فهو أسرع سير في قطع فلك المنازل من غيره من السيارة وله في كل يوم منزلة فيقطع الفلك في ثمانية وعشرين يوما فكان ظهور الأثر في الكون سريعا لسرعة الحركة فناسب آدم في سرعة خواطره فأسكنه هذه السماء وجعل نسم بنيه عن يمينه ويساره أسودة يرى شخوصها أهل الكشف وعن يمينه عليون وعن يساره السفل فلا يخفى عنه من أحوال بنيه شي‏ء

[إن آدم عليه السلام يتنوع في حالاته تنوع الأسماء الإلهية]

واعلم أن هذه الحقيقة التي جعلته يسمى إنسانا مفردا هي في كل إنسان ولكن كانت في آدم أتم لأنه كان ولا مثل له ثم بعد ذلك انتشأت منه الأمثال فخرجت على صورته كما انتشا هو من العالم ومن الأسماء الإلهية فخرج على صورة العالم وصورة الحق فوقع الاشتراك بين الأناسي في أشياء وانفرد كل شخص بأمر يمتاز به عن غيره كما هو العالم فبما ينفرد به الإنسان يسمى الإنسان المفرد وبما يشترك به يسمى الإنسان الكبير ولما كان آدم أبا البشر كانت منه رقيقة إلى كل إنسان ونسبة ولما كان هو من العالم ومن الحق بمنزلة بنيه منه كانت فيه رقيقة من كل صورة في العالم تمتد إليه لتحفظ عليه صورته ورقيقة من كل اسم إلهي تمتد إليه لتحفظ عليه مرتبته وخلافته فهو يتنوع في حالاته تنوع الأسماء الإلهية ويتقلب في أكوانه تقلب العالم كله وهو صغير الحجم لطيف

الجرم سريع الحركة فإذا تحرك حرك جميع العالم واستدعى بتلك الحركة توجه الأسماء الإلهية عليه لترى ما أراد بتلك الحركة فتفضي في ذلك بحسب حقائقها ولم يكن في الأفلاك أصغر من فلك سماء الدنيا فأسكنه الله فيها للمناسبة ولصغر هذا الفلك كان أسرع دورة فناسب سرعة الخواطر التي في الإنسان فأسكنه فيه من حيث إنه إنسان مفرد خاصة لا من حيث اشتراكه ثم إنه جعل الله له من بنيه في كل سماء شخصا وهو عيسى ويوسف وإدريس وهارون ويحيى وموسى وإبراهيم عليهم السلام فهو ناظر إليهم في كل يوم بما هو أب لهم وهم ناظرون إليه من حيث ما هم في منازل معينة لا من حيث هم أبناء له وهذا الإنسان المفرد يقابل بذاته الحضرة الإلهية وقد خلقه الله من حيث شكله وأعضاؤه على جهات ستة ظهرت فيه فهو في العالم كالنقطة من المحيط وهو من الحق كالباطن ومن العالم كالظاهر ومن القصد كالأول ومن النش‏ء كالآخر فهو أول بالقصد آخر بالنش‏ء وظاهر بالصورة وباطن بالروح كما أنه خلقه الله من حيث طبيعته وصورة جسمه من أربع فله التربيع من طبيعته إذ كان مجموع الأربعة الأركان وأنشأ جسده ذا أبعاد ثلاثة من طول وعرض وعمق فأشبه الحضرة الإلهية ذاتا وصفات وأفعالا فهذه ثلاث مراتب مرتبة شكله وهو عين جهاته ومرتبة طبيعته ومرتبة جسمه ثم إن الله جعل له مثلا وضدا وما ثم سوى هذه الخمسة واختص بالخمسة لأنه ليس في الأعداد من له الاسم الحفيظ إلا هي وهي تحفظ نفسها وغيرها بذاتها وهو قوله تعالى ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما فثنى وهو قولنا تحفظ نفسها وغيرها فأما كونه ضدا فبما هو عاجز جاهل قاصر ميت أعمى أخرس ذو صمم فقير ذليل عدم وبما هو مثل ظهوره بجميع الأسماء الإلهية والكونية فهو مثل للعالم ومثل للحضرة فجمع بين المثليتين وليس ذلك لغيره من المخلوقين فهو حي عالم مريد قادر سميع بصير متكلم عزيز غني إلى جميع الأسماء الإلهية كلها والأسماء الكونية فله التخلق بالأسماء فله حالات خمس يقابل بها كل ما سواه بحسب ما ينظرون إليه إذ هو الكلمة الجامعة وأعطاه الله من القوة بحيث إنه ينظر في النظرة الواحدة إلى الحضرتين فيتلقى من الحق ويلقي إلى الخلق فمنهم الناظر إليه من حيث شكله فيمده من ذلك المقام بأمور خاصة تختص بالشكل ومنهم الناظر إليه من حيث طبيعته فيمده من ذلك المقام بأمور خاصة تختص بالطبع كما يمده الحق في شكله من اسمه المحيط وفي طبيعته من حياته وعلمه وإرادته وقدرته ومنهم من ينظر إليه من حيث جسمه فيمده من ذلك المقام بأمور خاصة تختص بالجسم كما يمده الحق من حضرته بما يظهر في ذاته وصفاته وأفعاله ومنهم الناظر إليه كفا حالا منازعة فيمده من ذلك المقام بأمور خاصة تختص بالمكافحة كما يمده الحق من اسمه البعيد والمعز إن كان ذليلا والمذل إن كان‏

عزيزا ومنهم الناظر إليه من حيث إنه مثل له في المرتبة فإنه بالمرتبة كان خليفة وقد شورك فيها فقال هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في الْأَرْضِ وقال يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فهم نواب الحق في عباده فيمدهم من ذلك المقام بأمور خاصة تختص بتلك المثلية كما يمده الحق من صورته بجميع أسمائه وليس إلا هذه‏

[إن الله قسم خلقه إلى شقي وسعيد]

وقد قسم الله خلقه إلى شقي وسعيد وجعل مقر عباده في دارين دار جهنم وهي دار كل شقي ودار جنان وهي دار كل سعيد وسموا هؤلاء أشقياء لأنهم أقيموا فيما يشق عليهم وهو المخالفة وسموا هؤلاء سعداء لأنهم أقيموا فيما يسهل عليهم وهو المساعدة والموافقة فمن كان مع الله على مراد الله فيه وفي خلقه لم يشق عليه شي‏ء مما يحدث في العالم (حكي) عن رابعة رضي الله عنها أنه ضرب رأسها ركن جدار فأدماها فما التفتت فقيل لها في ذلك فقالت شغلي بموافقة مراده فيما جرى شغلني عن الإحساس بما ترون من شاهد الحال فما شق عليها ما جرى فلو شق عليها لتعذبت في نفسها منها فالأشقياء ليس لهم عذاب إلا منهم لأنهم أقيموا في مقام الاعتراض والتعليل لأفعال الله في عباده ولأي شي‏ء كان كذا ولو كان كذا كان أحسن وأليق ونازعوا الربوبية وشاقوا الله ورسوله فشقاؤهم شقاقهم فهي دار الأشقياء بدخولها في هذه الحال فإذا طال عليهم الأمد تغير الحال لأن طول الأمد له حكم بقوله تعالى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ فإذا طال الأمد على الأشقياء وعلموا أن ذلك ليس بنافع قالوا فالموافقة أولى فتبدلت صورهم فأثر ذلك التبديل هذا الحكم فزالت المشاققة فارتفع العذاب عن بواطنهم فاستراحوا في دارهم ووجدوا في ذلك من اللذة ما لا يعلمه إلا الله لأنهم اختاروا ما اختار الله لهم وعلموا عند ذلك أن عذابهم لم يكن إلا منهم فحمدوا الله على كل حال فأعقبهم ذلك أن يحمدوا الله المنعم المتفضل‏

[درجات الجنان ودركات النار]

ثم إن لهذا الإنسان المفرد الذي هو آدم ولكل إنسان أقيم فيما هو منفرد به نظر آخر إلى منازل السعداء وهي التي عينها الفلك المكوكب وهي منازل الجنان ومنازل النار فان الجنة مائة درجة والنار مائة درك على عدد الأسماء الإلهية فهي بحكم الاشتراك تسعة وتسعون اسما ينالها كل إنسان بما هو مشارك غيره والاسم الموفي مائة وهو وتر الغيب كما كانت التسعة والتسعون ونر الشهادة لأن الله وتر يحب الوتر فالاسم الموفي مائة مفرد منه يتجلى الحق للإنسان المفرد إذا كان مع الأمر الذي يسمى به إنسانا مفردا وإذا كان مع هذا الاسم الفرد كانت منازله ثمانيا وعشرين منزلة لأن حروف نفسه ثمانية وعشرون حرفا ظهر منها في مقام الجمع والوجود علامات تدل على الحق وهي خمس آلاف علامة وثمانمائة علامة وثمان وثلاثون علامة وهذه كلها منازل في هذه المنازل‏

[اقرأ وارق‏]

ولهذا

يقال يوم القيامة لقارئ القرآن اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ

ولهذا تمدح أبو يزيد بأنه ما مات حتى استظهر القرآن وينبغي لقارئ القرآن إذا لم يكن من أهل الكشف ولا من أهل التعليم الإلهي أن يبحث ويسأل علماء الرسوم أي شي‏ء يثبت عندهم أو رأوه أنه كان قرآنا ونسخ لفظه من هذا المصحف العثماني ولا يبالي إذا قالوا له كذا وكذا صحيحا كان الطريق إلى ذلك أو غير صحيح فينبغي إن يحفظه فإنه يزيد بذلك درجات وقد اختلفت المصاحف فهذا ينفعه ولا يضره فإن هذا الذي بأيدينا هو قرآن بلا شك ونعلم أنه قد سقط منه كثير فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جمعه لوقفنا عنده وقلنا هذا وحده هو الذي نتلوه يوم القيامة إذا قيل لقارئ القرآن اقرأ وارق والاحتياط فيما قلناه ولكن لا أريد بذلك أنه يصلي به وإنما يحفظه خاصة فإنه ليس بمتواتر مثل هذا وما نازع أحد من الصحابة في مصحف عثمان إنه قرآن فإذا حصل الإنسان بما انفرد به في منزلة من هذه المنازل فإنها تعطيه حقيقة ما هي عليه مما وضعها الله له من الأمور الظاهرة في أفعال العباد في حركاتهم وسكونهم وتصرفاتهم وما منعني من تعيينها إلا ما يسبق إلى القلوب الضعيفة من ذلك ووضع الحكمة في غير موضعها فإن الحافظين أسرار الله قليلون وإذا وفى الإنسان المفرد علم هذه الأمور ودخل الجنات الثمانية ورأى الكثيب الأبيض وعاين درجات الناس في الرؤية وتميز مراتبهم ومنازلهم في ذلك ونظر إلى التكوينات الجنانية والرقائق الممتدة إليها من فلك البروج علم إن لله أسرارا في خلقه فأراد أن يعرفه آثار ذلك فارتقى بنفسه إلى هذا الفلك ودار معه دورة واحدة لكل برج حتى أكمل اثنتي عشرة دورة ونظر بحلوله في كل دورة ما يعطي من الأثر في جنات النعيم وفي جهنم وفي عالم الدنيا وفي البرزخ وفي يوم القيامة وفي أحوال الكائنات العرضيات في العالم والخاصة بجسد الإنسان وروحه‏

والمولدات وربما نشير إلى شي‏ء من هذه الأسرار متفرقا في هذا الكتاب في المنازل منه إن شاء الله تعالى‏

[لكل اسم من هذه الأسماء الإلهية روحانية ملك تحفظه وتقوم به‏]

وجميع الأسماء الإلهية المختصة بهذا الإنسان الموصوف بهذه الصفة التي ينزل بها هذه المنازل معلومة محصاة وهي الرفيع الدرجات الجامع اللطيف القوي المذل رزاق عزيز مميت محي حي قابض مبين محص مصور نور قاهر عليم رب مقدر غني شكور محيط حكيم ظاهر باطن باعث بديع ولكل اسم من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه وتقوم به وتحفظها لها صور في النفس الإنساني تسمى حروفا في المخارج عند النطق وفي الخط عند الرقم فتختلف صورها في الكتابة ولا تختلف في الرقم وتسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح بأسماء هذه الحروف فلنذكرها على ترتيب المخارج حتى تعرف رتبتها فأولهم ملك الهاء ثم الهمزة وملك العين المهملة وملك الحاء المهملة وملك العين المعجمة وملك الخاء المعجمة وملك القاف وهو ملك عظيم رأيت من اجتمع به وملك الكاف وملك الجيم وملك الشين المعجمة وملك الياء وملك الضاد المعجمة وملك اللام وملك النون وملك الراء وملك الطاء المهملة وملك الدال المهملة وملك التاء المعجمة باثنتين من فوقها وملك الزاي وملك السين المهملة وملك الصاد المهملة وملك الظاء المعجمة وملك الثاء المعجمة بالثلاث وملك الذال المعجمة وملك الفاء وملك الباء وملك الميم وملك الواو وهذه الملائكة أرواح هذه الحروف وهذه الحروف أجساد تلك الملائكة لفظا وخطا بأي قلم كانت فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر المتصورة في الخيال فلا يتخيل أن الحروف تعمل بصورها وإنما تعمل بأرواحها ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد يعظم بذلك كله خالقه ومظهره وروحانيته لا تفارقه وبهذه الأسماء يسمون هؤلاء الملائكة في السموات وما منهم ملك إلا وقد أفادني وكذلك هذه الكواكب التي ترونها إنما هي صور لها أرواح ملكية تدبرها مثل ما لصورة الإنسان فبروحه يفعل الإنسان وكذلك الكوكب والحرف لو لا الروح ما ظهر منه فعل فإن الله سبحانه ما يسوي صورة محسوسة في الوجود على يد من كان من إنسان أو ريح إذا هبت فتحدث أشكالا في كل ما تؤثر فيه حتى الحية والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق فذلك الطريق صورة أحدثها الله يمشي هذه الدودة أو غيرها فينفخ الله فيها روحا من أمره لا يزال يسبحه ذلك الشكل بصورته وروحه إلى أن يزول فتنتقل روحه إلى البرزخ وذلك قوله كُلُّ من عَلَيْها فانٍ وكذلك الأشكال الهوائية والمائية لو لا

أرواحها ما ظهر منها في انفرادها ولا في تركيبها أثر وكل من أحدث صورة وانعدمت وزالت وانتقل روحها إلى البرزخ فإن روحها الذي هو ذلك الملك يسبح الله ويحمده ويعود ذلك الفضل على من أوجد تلك الصورة الذي كان هذا الملك روحها فما يعرف حقائق الأمور إلا أهل الكشف والوجود من أهل الله ولهذا نبه الله قلوب الغافلين ليتنبهوا على الحروف المقطعة في أوائل السور فإنها صور ملائكة وأسماؤهم فإذا نطق بها القارئ كان مثل النداء بهم فأجابوه فيقول القارئ ألف لام ميم فيقول هؤلاء الثلاثة من الملائكة مجيبين ما تقول فيقول القارئ ما بعد هذه الحروف تاليا فيقولون صدقت إن كان خيرا ويقولون هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق فيستغفرون له وهم أربعة عشر ملكا ألف لام ميم صاد راء كاف هاء ياء عين طاء سين حاء قاف نون ظهروا في منازل من القرآن مختلفة فمنازل ظهر فيها واحد مثل ق ن صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ومنازل ظهر فيها اثنان مثل طس يس حم وهي سبعة أعني الحواميم طه ومنازل ظهر فيها ثلاثة وهم الم البقرة والم آل عمران والر يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر وطسم الشعراء والقصص والعنكبوت ولقمان والروم والسجدة ومنها منازل ظهر فيها أربعة هم المص الأعراف والمر الرعد ومنازل ظهر فيها خمسة وهي مريم والشورى وجميعها ثمان وعشرون سورة على عدد منازل السماء سواء فمنها ما يتكرر في المنازل ومنها ما لا يتكرر فصورها مع التكرار تسعة وسبعون ملكا بيد كل ملك شعبة من الايمان وإن الايمان بضع وسبعون شعبة أرفعها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق‏

والبضع من واحد إلى تسعة فقد استوفى غاية البضع فمن نظر في هذه الحرف بهذا الباب الذي فتحت له يرى عجائب وتكون هذه الأرواح الملكية التي هذه الحروف أجسامها تحت تسخيره وبما بيدها من شعب الايمان تمده وتحفظ عليه إيمانه وهذا كله من النفس الرحماني الذي‏

نفس الله به عن خلقه واعلم أن هذه الحروف الأربعة عشر التي في أوائل السور كل حرف منها له ظاهر وهو صورته وله باطن وهو روحه ولكل حرف ليلة من الشهر أعني الشهر الذي يعرف بالقمر فإذا مشى القمر وقطع في سيره أربع عشرة منزلة أعطى في كل حرف من هذه الحروف من حيث صورها قوتين من حيث ذاته ومن حيث نوره وأعطاه قوتين أخريين من حيث المنزلة التي نزل بها ومن حيث البرج الذي لتلك المنزلة ولكن بقدر ما لتلك المنزلة من البرج فيصير في ذلك الحرف أربع قوى فيكون عمله أقوى من عمل كل واحد من أصحاب هذه القوي ويكون عمله في ظهور أعيان المطلوب فإذا أخذ القمر في النقص فقد أخذ في روحانية هذه الحروف إلى أن يكملها بكمال المنازل فتلك ثمان وعشرون والقوي مثل القوي إلا أنه يكون العمل غير العمل فالعمل الظاهر في المنافع والعمل الثاني في دفع المضار وفي قوة النور الذي للقمر لهذا الحرف مراتب بحسب المنزلة والبرج الذي تكون فيه الشمس واتصالات القمر بالمنزلة في تسديسها وتربيعها وتثليثها ومقابلتها ومقارنتها فتختلف الأحكام باختلاف ذلك هذا للحرف من قوة النور القمري فالعمل بالحروف يحتاج إلى علم دقيق فهذه القوي تحصل للحرف من سير القمر وقد ذكرنا حرف كل منزلة وأما لام ألف فمرتبته مرتبة الجوزهر وهو من الحروف المركبة أنزلوه منزلة الحرف الواحد لكمال نشأة الحروف ولهذا الحرف ليلة السرار الذي يكون للقمر فإن كسف القمر الشمس فذلك أسعد الحالات وأقواها في العمل بلام ألف وإن لم يكسفها ضعف عمله بقدر ما نزل عنها وكذلك اتصالات القمر بالخمسة لها أثر في الحرف على ما وقع عليه اتصاله بذلك الكوكب من الأحكام الخمسة كما كان حاله مع الشمس ويعتبر العامل أيضا شرف القمر وهبوطه وكونه خالي السير وبعيد النور وكونه مع الرأس وكونه مع الذنب لأن الله ما قدر هذا القمر مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ واختصه بالذكر سدى بل ذلك لحكمة إلهية يعلمها من أوتي الحكمة التي هي الخير الكثير الإلهي فإن الستة الباقية قدرها أيضا منازل في نفس الأمر وما حصها بالذكر فلما دخل القمر في الذكر كان له من القوة الإلهية والشرف في الولاية والحكم الإلهي ما ليس لغيره فإنه ما ذكر إلا بالحروف وبها نزل إلينا الذكر فكان نسبته إلى الحروف أتم من نسبة غيره فصار إمداده للحروف إمدادين إمداد جزاء وشكر لأن بها حصل له الذكر وإمدادا طبيعيا كإمداد سائر الستة لهذه الحروف وإنما ذكرنا ما يختص بالقمر دون سائر الستة لأنا في سماء الدنيا وهو موضع القمر وهو في ليلة السرار بارد رطب وفي ليلة الإبدار حار رطب لما فيه من النور فهو مائي هوائي وفيما بينهما بحسب ما فيه من النور فإن النور له الشرف ولما اجتمع النار مع النور في الإحراق وقوة الفعل في بقية العناصر لهذا افتخر إبليس على آدم وتكبر عليه فإن النار لا يقبل التبريد بخلاف بقية الأركان فإن الهواء يسخن وكذلك الماء وكذلك التراب فللنار في نفس الأركان أثر ليس لواحد منها في النار أثر وكذلك الماء له أثر في الهواء والتراب فيبرد الهواء ويزيد في رطوبته ويرطب التراب ويزيد في برودتها وليس للهواء والتراب في هذين العنصرين أثر فأقوى الأركان النار وبعده الماء فالحرارة للنار والبرودة للماء ولهذا جعلهما فاعلين والاثنين الآخرين منفعلين رطوبة الهواء ويبوسة التراب سبحان الخبير العليم الخلاق مرتب الأمور ومقدرها لا إله إلا هو العزيز الحكيم وفي ليلة تقييدي لهذا الفصل وهي الليلة الرابعة من شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وستمائة الموافقة ليلة الأربعاء الذي هو الموفي عشرين من شباط رأيت في الواقعة ظاهر الهوية الإلهية وباطنها شهودا محققا ما رأيتها قبل ذلك في مشهد من مشاهدنا فحصل لي من مشاهدة ذلك من العلم واللذة والابتهاج ما لا يعرفه إلا من ذاقه فما كان أحسنها من واقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ وصورتها مثالا في الهامش كما هو فمن صوره لا يبدله والشكل نور أبيض في بساط أحمر له نور أيضا في طبقات أربع صورة وأيضا روحها في ذلك البساط في الطرف الآخر في طبقات أربع فمجموع الهوية ثمانية في طرفين مختلفين‏

من بساط واحد فأطراف البساط ما هي البساط ولا غير البساط فما رأيت ولا علمت ولا تخيلت ولا خطر على قلبي صورة ما رأيت في هذه الهوية ثم إنها لها حركة خفية في ذاتها أراها وأعلمها من غير نقلة ولا تغير حال ولا صفة

(الفصل الثامن والعشرون) في الاسم الإلهي القابض‏

وتوجهه على إيجاد ما يظهر في الأثير من ذوات الأذناب‏

والاحتراقات ووجود حرف التاء المعجمة باثنتين من فوقها من الحروف وله من المنازل منزلة القلب الأثير ركن النار وهذه الأركان وجودها قبل وجود هذه الأفلاك من حيث ما تقول سماوات لا من حيث ما هي أفلاك وهو متصل بالهواء والهواء حار رطب فبما في الهواء من الرطوبة إذا اتصل بهذا الأثير أثر فيه لتحركه اشتعالا في بعض أجزاء الهواء الرطبة فبدت الكواكب ذوات الأذناب وذلك لسرعة اندفاعها تظهر في رأى العين تلك الأذناب‏

[الشياطين عرجوا إلى السماء الدنيا يسترقون السمع‏]

وإذا أردت تحقيق هذا فانظر إلى شرر النار إذا ضرب الهواء النار بالمروحة وغيرها يتطاير منها شرر أمثال الخيوط في رأى العين ثم تنطفئ كذلك هذه الكواكب وجعلها الله من زمان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رُجُوماً لِلشَّياطِينِ فإن الشياطين وهم كفار الجن لهم عروج إلى السماء الدنيا يسترقون السمع أي ما تقوله الملائكة في السماء وتتحدث به مما أوحى الله به فيها فإذا سلك الشيطان أرسل الله عليه شِهاباً رَصَداً ثاقبا ولهذا يعطي ذلك الضوء العظيم الذي تراه ويبقى ذلك الضوء في أثره طريقا ورأيت مرة طريقه قد بقي ضوؤه ساعة وأزيد من ساعة وأنا بالطواف رأيته أنا وجماعة الطائفين بالكعبة وتعجب الناس من ذلك وما رأينا قط ليلة أكثر منها ذوات أذناب الليل كله إلى أن أصبح حتى كانت تلك الكواكب لكثرتها وتداخل بعضها على بعض كما يتداخل شرر النار تحول بين أبصارنا وبين رؤية الكواكب فقلنا ما هذا إلا لأمر عظيم فبعد قليل وصل إلينا أن اليمن ظهر فيه حادث في ذلك الوقت الذي رأينا هذا وجاءتهم الريح بتراب شبيه التوتياء كثير إلى أن عم أرضهم وعلا على الأرض إلى حد الركب وخاف الناس وأظلم عليهم الجو بحيث إن كانوا يمشون في الطرق في النهار بالسرج وحال تراكم الغمام بينهم وبين نور الشمس وكانوا يسمعون في البحر بزبيد دويا عظيما وذلك في سنة ستمائة أو تسع وتسعين وخمسمائة الشك مني فإني ما قيدته حين رأيت ذلك وما قيدته في هذا المكان إلا في سنة سبع وعشرين وستمائة ولذلك أصابني الشك لبعد الوقت لكنه معروف عند الخاص والعام من أهل الحجاز واليمن ورأينا في تلك السنة عجائب كثيرة وفي تلك السنة حل الوباء بالطائف حتى ما بقي فيها ساكن حل بهم من أول رجب إلى أول رمضان سنة تسع وتسعين وخمسمائة عن تحقيق وكان الطاعون الذي نزل بهم إذا كانت علامته في أبدانهم ما يتجاوزون خمسة أيام حتى يهلك فمن جاز خمسة أيام لم يهلك وامتلأت مكة بأهل الطائف وبقيت ديارهم مفتحة أبوابها وأقمشتهم ودوابهم في مراعيها فكان الغريب في تلك المدة إذا مر بأرضهم فتناول شيئا من طعامهم أو قماشهم أو دوابهم إذ لم يكن هناك حافظ يحفظه أصابه الطاعون من ساعته وإذا مر ولم يتناول شيئا سلم فحمى الله أموالهم في تلك المدة لمن بقي منهم ولمن ورثهم وتابوا وورثوا البنات في تلك السنة وسكنت الفتن التي كانت بينهم فلما نجاهم الله من ذلك ورفعه عنهم واستمر لهم الأمان عادوا إلى ما كانوا عليه من الإدبار وهذه الكواكب ذوات الأذناب ما تحدث في الأثير وإنما يحدث منه في الهواء تشعله فهو على الحقيقة هواء محترق لا مشتعل هذا هو الأثير فهو كالصواعق فإنها أهوية محترقة لا شعلة فيها فما تمر بشي‏ء إلا أثرت فيه ولا يحدث في هذا الركن شي‏ء سوى ما ذكرناه إلا أنه في نفس الأمر ملك كريم له تسبيح خاص وسلطان قوي والسماء الدنيا في غاية من البرودة لو لا أن الله حال بيننا وبين برد هذه السماء بهذه النار التي بين الهواء وبين السماء ما كان حيوان ولا نبات ولا معدن في الأرض لشدة البرد فسخن الله عالم الأرض والماء والهواء بما ترميه الكواكب من الشعاعات إلى الأرض بوساطة هذا الأثير فسخن العالم فتسري فيه الحياة وذلك بتقدير

العزيز العليم لا إله إلا هو رب كل شي‏ء ومليكه‏

(الفصل التاسع والعشرون) في الاسم الإلهي الحي‏

وتوجهه على إيجاد ما يظهر في ركن الهواء وله من الحروف حرف الزاي ومن المنازل منزلة الشولة قال الله تعالى فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ فجعلها مأمورة يعلمنا أنها تعقل ولا يسمى الهواء ريحا إلا إذا تحرك وتموج فإن اشتدت حركته كان زعزعا وإن لم تشتد كان رخاء أي ريحا لينة والريح ذو روح يعقل كسائر أجسام العالم وهبوبه تسبيحه تسري به الجواري ويطفئ السرج ويشعل النيران ويحرك المياه والأشجار ويموج البحار ويزلزل الأرض ويلعب بالأغصان ويزجي السحاب‏

[إن الإنسان أقوى موجود لقوة الصورة التي خلق عليها]

وهو ركن أقوى من الماء والماء أقوى من النار والنار أقوى من الحديد والحديد أقوى من الجبال والجبال أقوى من‏

الأرض وما ثم شي‏ء أقوى من الهواء إلا الإنسان حيث يقدر على قمع هواه بعقله الذي أوجده الله فيه فيظهر عقله في حكمه على هواه فإنه لقوة الصورة التي خلق عليها الرئاسة له ذاتية ولكونه ممكنا الفقر والذلة له ذاتية فإذا غلب فقره على رياسته فظهر بعبوديته ولم يظهر لربوبية الصورة فيه أثر لم يكن مخلوق أشد منه وهكذا أخبر صلى الله عليه وسلم على ما

حدثناه محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفاسى قال حدثنا عمر بن عبد المجيد الميانشي حدثنا عبد الملك ابن قاسم الهروي حدثنا محمود بن القاسم الأزدي حدثنا عبد الجبار بن محمد الجراحي حدثنا محمد بن أحمد المحبوبي حدثنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون حدثنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال فقالوا يا رب هل من خلقك شي‏ء أشد من الجبال قال نعم الحديد فقالوا يا رب فهل من خلقك شي‏ء أشد من الحديد قال نعم النار قالوا يا رب فهل من خلقك شي‏ء أشد من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شي‏ء أشد من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شي‏ء أشد من الريح قال ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله‏

هذا حديث غريب ففي هذا الحديث علم جوارح الإنسان بالأشياء ولهذا وصفها الله تعالى يوم القيامة بأنها تشهد فقال يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فالهواء موجود عظيم وهو أقرب الأركان نسبة إلى نفس الرحمن فهو أحق بهذا الباب والهواء هو نفس العالم الكبير وهو حياته وله القوة والاقتدار وهو السبب الموجب لوجود النغمات بتحريك الآلات من حركات الأفلاك وأغصان الأشجار وتقاطع الأصوات فيؤثر السماع الطبيعي في الأرواح فيحدث فيها هيمان وسكر وطرب فالهواء إذا تحرك أقوى المؤثرات الطبيعية في الأجسام والأرواح وقد جعل الله هذا الركن أصل حياة العالم الطبيعي كما جعل الماء أصل الصور الطبيعية فصورة الهواء من الماء وروح الماء من الهواء ولو سكن الهواء لهلك كل متنفس وكل شي‏ء في العالم متنفس فإن الأصل نفس الرحمن وجعله الله لطيفا ليقبل سرعة الحركة فإن العالم المتنفس يحتاج في وقت إلى نفس كثير وفي وقت إلى نفس قليل أ لا ترى الإنسان في زمان الصيف إذا حمي بدنه حرك الهواء بالمروحة ليبرد عنه ما يجده من الحرارة لما في الهواء من برودة الماء من حيث صورته وإن كانت له حركة خفية ولكن لا تكفي المحرور كما أنه إذا كثر بحيث أن يتأذى منه الإنسان طلب التستر عنه لأنه ليس في قوة الحيوان تقليله الهواء إلا إذا كان الإنسان هو الذي يثير حركة الهواء فإنه يقدر على تقليله بضعف حركة السبب الذي به أثاره وأما إذا كان السبب خارجا عن حكم الإنسان فإنه لا يقدر على تقليله والهواء هو الذي يسوق الأرواح إلى المشام من طيب وخبيث وفيه تظهر صور الحروف والكلمات فلو لا الهواء ما نطق ناطق ولا صوت مصوت‏

[أن علم الباري تعالى بالعالم علمه بنفسه‏]

ولما كان البارئ متكلما ووصف نفسه بالكلام وصف نفسه بأن له نفسا وإن كان ليس كمثله شي‏ء ولكن نبه عباده العارفين أن علمه بالعالم علمه بنفسه ووصف نفسه سبحانه بأنه ينفخ الأرواح فيعطي الحياة في الصور المسواة فجاء بالنفخ الذي يدل على النفس فحياة العالم بالنفخ الإلهي من حيث إن له نفسا فلم يكن في صور العالم أحق بهذه الحياة من الهواء فهو الذي خرج على صورة النفس الرحماني الذي ينفس الله به عن عباده ما يجدونه من الكرب والغم الذي تعطيه الطبيعة وبعد أن عرفتك بمنزلة الهواء من العالم فلنذكر ما يحدث فيه فمما يحدث فيه صور الجنين في النكاح والثمر في اللقاح قال تعالى وأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ وهذا معروف بالمشاهدة في تلقيح الثمار فالهواء ينكح بما يحمله من روائح الذكورية والعقيم منه ما عدا اللواقح واللواقح من الرياح ليست مخصوصة بالثمر وإنما هي كل ريح تعطي الصور والعقيم كل ريح تذهب بالصور فالهواء الذي يشعل النار من الرياح اللواقح والذي يطفئ السرج من الريح العقيم وإن كانت واحدة في العين فما هي واحدة عند من يرى تجديد العالم في كل نفس فإنهم في لبس من خلق جديد وأصل هذا في العلم الإلهي أن اللواقح ما تعطيه الربوبية من وجود أعيان المربوبين والعقيم سبحات الوجه المذهبة أعيان الكائنات من خلقه ومما وجد من العالم في الهواء البرد والثلج والجليد إذا غلب عليه برد الماء فتشكل البرد من استدارته وجليده من اليبوسة التي تعطيه برد التراب والثلج دون الجليد في‏

اليبوسة والمطر من رطوبته وما يزيده الماء من رطوبته فإنه يزيد في كميتها ويتكون في هذا الهواء في الجبال التي ذكر الله أمرها في قوله ويُنَزِّلُ من السَّماءِ من جِبالٍ فِيها من بَرَدٍ وقد بيناها فيما قبل من هذا الكتاب تغلب الرطوبة في الهواء بما يزيده في رطوبته الماء وتعطيه النار من الحرارة ما يزيد في كمية حرارة الهواء فيحدث في الجو في هذه الجبال تعفين لأن هذه الأركان مركبة من الأربع الحقائق الطبيعية كل ركن منها وهذا سبب قبولها صور الكائنات فيها ولو لم يكن كذلك ما قبلت المولدات فإذا تعفن ما تعفن من ذلك كون الله في ذلك التعفين حيوانات هوائية جوية على صور حيات بيض وحيوانات للاستدارة أما هذه المستديرة فرأيناها وأما الحيات البيض فرأينا من رآها وقد وقفنا على ذكرها في بعض كتب الأنواء وإن البزاة البلنسية إذا علت في الجو في أوقات ووقعت بشي‏ء منها نزلت بها على مرأى من أصحابها وممن رآها والدي وقد نزل بها البازي من الجو في أيام السلطان محمد بن سعد صاحب شرق الأندلس وهذا الصنف المستدير الذي عايناه من ذلك التكوين يسمى بالأندلس بالشلمندار وأكثر ما ينزل في الكوانين مع المطر وفيه خواص إذا لعق باللسان لكن خرجت عني معرفة تلك الخواص في هذا الوقت وهو مجرب عندنا ومما يحدث في هذا الركن مما يلي ركن النار منه الصواعق وهي هواء محترق والبروق وهو هواء مشتعل تحدثه الحركة الشديدة والرعود وهو هبوب الهواء تصدع أسفل السحاب إذا تراكم وهو تسبيح إذ كل صوت في العالم تسبيح لله تعالى حتى الصوت بالكلمة القبيحة هي قبيحة وهي تسبيحة بوجه يعلمه أهل الله في أذواقهم لمن عقل عن الله وهذا الملك المسمى بالرعد هو مخلوق من الهواء كما خلقنا نحن من الماء وذلك الصوت المسمى عندنا بالرعد تسبيح ذلك الملك وفي ذلك الوقت يوجده الله فعينه نفس صوته ويذهب كما يذهب البرق وذوات الأذناب فهذه حوادث هذا الركن في العالم العنصري وله حرف الزاي وهو من حروف الصفير فهو مناسب له لأن الصفير هواء بشدة وضيق وله الشولة وهي حارة فافهم‏

(الفصل الثلاثون) في الاسم الإلهي المحيي‏

وتوجهه على إيجاد ما يظهر في ركن الماء وله حرف السين المهملة من الحروف وله من المنازل المقدرة منزلة النعائم قال تعالى وجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ وقال تعالى ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ به ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ولِيَرْبِطَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ ويُثَبِّتَ به الْأَقْدامَ فأعاد الضمير من به الاقدام على المطر

[ما المراد بالرجس‏]

والرجس بالسين القذر عند القراء وهو هنا القذر المعنوي لأنه مضاف إلى الشيطان فلا يدل إلا على ما يلقيه من الشبه والجهالات والأمور التشكيكية ليقذر بها محل هذا القلب فيذهب الله ذلك بما في الماء المنزل من الحياة العلمية بالبراهين والكشف فإذا زال ذلك القذر الشبهي بهذا الماء المنزل من عند الله زال الوسخ الجهلي وارتفع الغطاء عن القلب فنظر بعينه في ملكوت السموات والأرض فربط ذاته بما أعطاه العلم فعلم ما أريد به في كل نفس ووقت فعامله بما أعطاه العلم المنزل الذي ظهره به في ذلك الماء الذي جعل نزوله في الظاهر علامة على فعله في الباطن فكان من مواطنه مقابلة الأعداء فأداه ما عاينه وربط قلبه به إن ثبتت قدمه يوم الزحف عند لقاء الأعداء فما ولوا مدبرين وأنزل الله نصره وهو تثبيت الاقدام فهذا ما أعطاه الله في الماء من القوة الإلهية حيث أنزله منزلة الملائكة بل أتم من الملائكة وإنما قلنا بل أتم فإن الله جعل الماء سبب تثبيت أقدام المجاهدين المؤمنين فقال ويُثَبِّتَ به الْأَقْدامَ فأنزله منزلة المعين على ما يريد وقال في الملائكة إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ لما علم من ضعفهم أعلمهم أن الله معهم من حيث أنيته ليتقوى جأشهم فيما يلقونه في قلوب المؤمنين المجاهدين أن يثبتوا ويصابروا العدو ولا ينهزموا وهذه من لمات الملائكة فقال لهم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي اجعلوا في قلوبهم إن يثبتوا ثم أعانهم فقال سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أخبرهم بذلك ليلقوا في نفوس المجاهدين هذا الكلام فإنه من الوحي فيجد المجاهد في نفسه ذلك الإلقاء وهو وحي الملك في لمته‏

[الماء من نهر الحياة الطبيعية الذي فوق الأركان‏]

فانظر كم بين مرتبة الماء ومرتبة هؤلاء الملائكة والماء وإن كان من الملائكة فهو ملك عنصري وأصله في العنصر من نهر الحياة الطبيعية الذي فوق الأركان وهو الذي ينغمس فيه جبريل كل يوم غمسة وينغمس فيه أهل النار إذا خرجوا منها بالشفاعة فهذا الماء العنصري من ذلك الماء الذي هو نهر الحياة وهذه الملائكة التي تقوى قلوب المجاهدين وتثبتهم‏

وتوحي إليهم قوله سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ هم الملائكة الذين يدخلون البيت المعمور الذي في السماء السابعة المخلوقين من قطرات ماء نهر الحياة في انتفاض الروح الأمين من انغماسه ولهذا قرن الملائكة بالمجاهدين في التثبيت مع الماء المنزل لنثبت به الاقدام فقد أبان الله في هذه عن مرتبة الماء من مراتب الملائكة ليعقلها العالمون من عباد الله وما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ فجعل الله من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ وهذا الركن هو الذي يعطي الصور في العالم كله وحياته في حركاته ثم إن هذا الركن جعله الله مالحا لما فيه من مصالح العالم فإنه بما فيه من الملوحة يصفي الجو من الوخم والعفونات التي تطرأ فيه من أبخرة الأرض وأنفاس العالم وذلك أن الأرض بطبعها ما تعطي التعفين لأنها باردة يابسة فيحصل فيها من الماء رطوبات عرضية تكثر فإذا كثرت وسخنتها أشعة الكواكب مثل الشمس وغيرها بمرور هذه الأشعة على الأثير ثم بما في جو الأرض من حركات الهواء المنضغط فإن الحركة سبب موجب لظهور الحرارة ويظهر ذلك في الحمامات في الأرض الكبريتية فإذا تضاعفت كمية الحرارة على هذه الرطوبات صعدت بها علوا بخارا فمن هنالك يطرأ التعفين في الجو فيذهب ذلك التعفين ما في البحر من الملوحة فيصفو الجو وذلك من رحمة الله بخلقه فلا يشعر بذلك إلا العلماء من عباد الله‏

[إن الله جعل للبقاع في الماء حكما]

ثم إن الله جعل للبقاع في الماء حكما وأصل ذلك الحكم من الماء هذا هو العجب فجعل من الأرض سباخا تعطي ماء مالحا إذا عظم ذلك منها وتعطي فعاما ومرا وزعاقا كما تعطي أيضا عذبا فراتا كل ذلك بجعل الله تعالى وأصل هذا كله مما أعطى الماء الأرض من الرطوبات وأعطاها الهواء والحركات من الحرارة وتختلف أمزجة الأرض فمن الماء عذب فرات لمصالح العباد فيما يستعملونه من الشرب وغير ذلك ومنه ملح أجاج لمصالح العباد فيما يذهب به من عفونات الهواء فما من ركن إلا وقد جعله الله مؤثرا ومؤثرا فيه أصل ذلك في العلم الإلهي وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وكل مؤثر فيه من العالم فمن الإجابة الإلهية وأما اسم الفاعل من ذلك فهو معلوم عند كل أحد فما نبهنا إلا على ما يمكن أن يغفل عنه أكثر الناس كما قال في أشياء ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ثم إن الله عز وجل ما جعل التكوينات التي هي دواب البحر في البحر الملح إلا في العذب منه خاصة فلو لا وجود الهواء فيه والماء العذب ما تكون فيه حيوان أ لا ترى البخار الصاعد من الأنهار والبحار ولا سيما في زمان البرد ذلك هو النفس يصعد من الأرض ومن البحر كما يخرج النفس من المتنفس يطلب ركنه الأعظم فيستحيل ماء ويلحق بعنصره منه على قدر ما سبق في علم الله من ذلك فهو دولاب دائر منه يخرج وإليه يرجع بعضه أصله في العلم الإلهي إن الله كان ولا شي‏ء وأوجد الأشياء وأظهر فيها الدعاوي بما جعل فيها من استحالات بعضها إلى بعض وبما أعطاها من القوي التي تفعل بها وقال بعد هذا كله وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فجعل صعود البخار من الماء وهو ماء استحال هواء يسمى بخارا ليقع الفرق بين الهواء الأصلي وبين الهواء المستحيل ثم يصير غما ما متراكما ثم ينزل ماء كما كان أول مرة فعاد إلى أصله الذي خرج منه ثم يعود الدور فلهذا شبهناه بالدولاب وقلنا إنه يرجع وذلك بتقدير العزيز العليم انتهى الجزء الثالث والعشرون ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(الفصل الحادي والثلاثون) في الاسم إلهي المميت‏

وتوجهه على إيجاد ما يظهر في الأرض وله حرف الصاد المهملة ومن المنازل البلدة قال تعالى خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ وقال وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وهي أول مخلوق من الأركان ثم الماء ثم الهواء ثم النار ثم السموات وأخبر تعالى عنها بأمور تقضي أنها تعقل فوصفها بالقول والإباية وقال لها وقالت له ونعتها بالطاعة والأخذ بالأحوط ليدل بذلك على علمها وعقلها وجعلها محلا لتكوين المعادن والنبات والحيوان والإنسان وجعلها حضرة الخلافة والتدبير فهي موضع نظر الحق وسخر في حقها جميع الأركان والأفلاك والأملاك وأنبت فِيها من كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل ذكر وأنثى وما جمع لمخلوق بين يديه سبحانه إلا لما خلق منها وهي طينة آدم عليه السلام خمرها بيديه وهو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وأقامها مقام العبودية فقال الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا وجعل لها مرتبة النفس الكلية التي ظهر عنها العالم كذلك ظهر عن هذه الأرض من العالم المولدات إلى مقعر فلك المنازل وهذا الركن لا يستحيل إلى‏

شي‏ء ولا يستحيل إليه شي‏ء وإن كان بهذه المثابة بقية الأركان ولكنه في هذا الركن أظهر حكما منه في غيره و

[الوجود الذهني والوجود العيني‏]

اعلم أن كل معلوم يدخله التقسيم فإنه يدخل في الوجود الذهني لا بد من ذلك وقد يكون هذا الداخل في الوجود الذهني ممن يقبل الوجود العيني وقد يكون ممن لا يقبل الوجود العيني كالمحال والذي يقبل الوجود العيني لا يخلو إما أن يكون قائما بنفسه وهو المقول عليه لا في موضوع وإما أن لا يكون فأما قسم ما يكون قائما بنفسه فلا يخلو إما أن يكون متحيزا أو غير متحيز وأما قسم لا في موضوع غير متحيز فلا يخلو إما أن يكون واجب الوجود لذاته وهو الله تعالى وإما أن يكون واجبا بغيره وهو الممكن وهذا الممكن إما أن يكون متحيزا أو غير متحيز والقسمة فيما هو قائم بنفسه من الممكنات فغير المتحيز كالنفوس الناطقة المدبرة لجوهر العالم النوراني والطبيعي والعنصري والمتحيز إما أن يكون مركبا ذا أجزاء وإما أن لا يكون ذا أجزاء فإن لم يكن ذا أجزاء فهو الجوهر الفرد وإن كان ذا أجزاء فهو الجسم وأما القسم الذي هو في موضوع وهو الذي لا يقوم بنفسه ولا يتحيز إلا بحكم التبعية فلا يخلو إما أن يكون لازما للموضوع أو غير لازم في رأى العين وأما في نفس الأمر فلا شي‏ء مما لا يقوم بنفسه يكون باقيا في نفس الأمر زائدا على زمان وجوده لكن منه ما تعقبه الأمثال ومنه ما يعقبه ما ليس بمثل فأما الذي يعقبه الأمثال فهو الذي يتخيل أنه لازم كصفرة الذهب وسواد الزنجي وأما الذي لا تعقبه الأمثال فهو المسمى بالعرض واللازم يسمى صفة وليست المعلومات التي لها وجود عيني سوى ما ذكرنا

[أن العالم واحد بالجوهر كثير بالصورة]

واعلم أن العالم واحد بالجوهر كثير بالصورة وإذا كان واحدا بالجوهر فإنه لا يستحيل وكذلك الصورة أيضا لا تستحيل لما يؤدي إليه من قلب الحقائق فالحرارة لا تكون برودة واليبوسة لا تكون رطوبة والبياض لا يستحيل سوادا والتثليث لا يصير تربيعا لكن الحار قد يوجد بارد إلا في زمان كونه حارا وكذلك البارد قد يوجد حار إلا في زمان كونه باردا وكذلك الأبيض قد يكون أسود بمثل ما ذكرنا والمثلث قد يكون مربعا فبطلت الاستحالة فالأرض والماء والهواء والأفلاك والمولدات صور في الجوهر فصور تخلع عليه فيسمى بها من حيث هيأة وهو الكون وصور تخلع عنه فيزول عنه بزوالها ذلك الاسم وهو الفساد فما في الكون استحالة يكون المفهوم منها أن عين الشي‏ء استحال عينا آخر إنما هو كما ذكرنا والعالم في كل زمان فرد يتكون ويفسد ولا بقاء لعين جوهر العالم لو لا قبول التكوين فيه فالعالم يفتقر على الدوام أما افتقار الصور فلبروزها من العدم إلى الوجود وأما افتقار الجوهر فلحفظ الوجود عليه إذ من شرط وجوده وجود تكوين ما هو موضوع له لا بد من ذلك وكذلك حكم الممكن القائم بنفسه الذي لا يتحيز هو موضوع لما يحمله من الصفات الروحانية والإدراكات التي لا بقاء لعينه إلا بها وهي تتجدد عليه تجدد الأعراض في الأجسام وصورة الجسم عرض في الجوهر وأما الحدود إنما محلها الصور فهي المحدودة ولا بد أن يوجد في حدها الجوهر الذي تظهر فيه وبهذا القدر يسمون الصور جوهرا لكونهم يأخذون الجوهر في حد الصورة وبالجملة فالنظر في هذه الأمور من غير طريق الكشف الإلهي لا يوصل إلى حقيقة الأمر على ما هي عليه لا جرم أنهم لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ولهذا عدلت الطائفة السعيدة المؤيدة بروح القدس إلى التجرد عن أفكارها والتخلص عن قيد قواها واتصلت بالنور الأعظم فعاينت الأمر على ما هو عليه في نفسه إذ كان الحق عز وجل بصرها فلم تشاهد إلا حقا كما قال الصديق ما رأيت شيئا أ لا رأيت الله قبله فيرى الحق ثم يرى أثره في الكون وهو الوقوف على كيفية الصدور فكأنه عاين الممكنات في حال ثبوتها عند ما رش على ما رش منها من نوره الأعظم فاتصفت بالوجود بعد ما كانت تنعت بالعدم فمن هذا مقامه فقد ارتفع عنه غطاء العمي والحيرة فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ... إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ فما جعل العلم إلا في الشهود فالحاكم يحكم بغلبة ظنه والشاهد يشهد بعلم لا بظن ثم اعلم أن أجسام العالم تنقسم إلى لطيف وكثيف وشفاف وكدر ومظلم ومنور وإلى كبير وصغير وإلى مرئي وغير مرئي فالوجود كله عطاء

ليس عند الله منع *** كل ما منه عطاء

فإذا ما قيل منع *** لم يكن الا عطاء

فإنا ما بين شيئين *** غطاء ووطاء

وأنا لكل ما في *** الكون من خير وعاء

[اتباع الناس عن رجل الذي رأى الحق حقا وقمع هواه‏]

فالرجل الذي رأى الحق حقا فاتبعه وحكم الهوى وقمعه فإذا جاع جوع اضطرار وحضر بين يديه أشهى ما يكون من الأطعمة تناول منه بعقله لا بشهوته ودفع به سلطان ضرورته ثم أمسك عن الفضل غنى نفس وشرف همة

فذلك سيد الوقت فاقتد به وذلك صورة الحق أنشأها الله صورة جسدية بعيدة المدى لا يبلغ مداها ولا يخفى طريق هداها وهذا هو طبع الأرض فهي الذلول التي لا تقبل الاستحالة

فيظهر فيها أحكام الأركان ولا يظهر لها حكم في شي‏ء تعطي جميع المنافع من ذاتها هي محل كل خير فهي أعز الأجسام لا تزاحم المتحركات بحركتها لأنها لا تفارق حيزها يظهر فيها كل ركن سلطانه وهي الصبور القابلة الثابتة الراسية سكن ميدها جبالها التي جعلها الله أوتادها لما تحركت من خشية الله آمنها الله بهذه الأوتاد فسكنت سكون الموقنين ومنها تعلم أهل اليقين يقينهم فإنها الأم التي منها أخرجنا وإليها نعود ومنها نخرج تارة أخرى لها التسليم والتفويض هي ألطف الأركان معنى وما قبلت الكثافة والظلمة والصلابة إلا لستر ما أودع الله فيها من الكنوز لما جعل الله فيها من الغيرة فحار السعاة فيها فلم يخرقوها ولا بلغوا جبالها طولا أعطاها صفة التقديس فجعلها طهورا في أشرف الحالات وذلك عند الاضطرار لما أقامها مقامه مثل الظمآن يرى السراب فيحسبه ماء ف إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً يعني ماء ووَجَدَ الله عِنْدَهُ فما وجد الله إلا عند الضرورة كذلك طهارة الأرض لا تكون إلا لفاقد الماء على ما كان من الأحوال فانظر ما أشرف منزلها ثم أنزلتها منزلة النقطة من المحيط فهي تقابل بذاتها كل جزء من المحيط وينظر إليها كل جزء من المحيط فكل خط منها يخرج إلى المحيط على السواء والاعتدال لأنها ما تعطي إلا بحسب صورتها وكل خط من المحيط إليها يقصد فلو زالت زال المحيط ولو زال المحيط لم يلزم زوالها فهي الدائمة الباقية في الدنيا والآخرة أشبهت نفس الرحمن في التكوين‏

[أن الله تعالى جعل هذه الأرض كالجسم الواحد]

واعلم أن الله تعالى قد جعل هذه الأرض بعد ما كانت رتقا كالجسم الواحد كما كانت السماء ففتق رتقها وجعلها سبعة أطباق كما فعل بالسموات وجعل لكل أرض استعداد انفعال لأثر حركة فلك من أفلاك السموات وشعاع كوكبها فالأرض الأولى وهي التي نحن عليها للفلك الأول من هناك ثم تنزل إلى أن تنتهي إلى الأرض السابعة والسماء الدنيا ولذلك‏

قال عليه السلام فيمن غصب شبرا من الأرض طوقه الله به من سبع أرضين‏

لأنه إذا غصب شيئا من الأرض كان ما تحت ذلك المغصوب مغصوبا إلى منتهى الأرض ولو لم تكن طباقا بعضها فوق بعض لبطل معقول هذا الخبر وكذلك الخبر الوارد في سجود العبد على الأرض طهر الله بسجدته إلى سبع أرضين وقال تعالى أَنَّ السَّماواتِ والْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً أي كل واحدة منهما مرتوقة ثم قال فَفَتَقْناهُما يعني فصل بعضها من بعض حتى تميزت كل واحدة عن صاحبتها كما قال خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ومن الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ الظاهر يريد طباقا ثم قال يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي بين السموات والأرض ولو كانت أرضا واحدة لقال بينهما هذا هو الظاهر وهو الذي يعطيه الكشف والأمر النازل بينهن هذا الأمر الإلهي الذي يكون بين السماء الدنيا والأرض التي نحن عليها ينزل من السماء ثم يطلب أرضه وهو قوله وأَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فذلك الأمر هو الذي ينزل إلى أرضه بما أوحى الله فيه على عامر تلك الأرض من الصور والأرواح وجعل هذه الأرض سبعة أقاليم واصطفى من عباده المؤمنين سبعة سماهم الأبدال لكل بدل إقليم يمسك الله وجود ذلك الإقليم به فالإقليم الأول ينزل الأمر إليه من السماء الأولى من هناك وتنظر إليه روحانية كوكبه والبدل الذي يحفظه على قلب الخليل عليه السلام والإقليم الثاني ينزل الأمر إليه من السماء الثانية وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب موسى عليه السلام والإقليم الثالث ينزل إليه الأمر الإلهي من السماء الثالثة وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب هارون ويحيى عليهما السلام بتأييد محمد عليه الصلاة والسلام والإقليم الرابع ينزل الأمر إليه من قلب الأفلاك كلها وتنظر إليه روحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قدم إدريس عليه السلام وهو القطب الذي لم يمت إلى الآن والأقطاب فينا نوابه والإقليم الخامس ينزل إليه الأمر من السماء الخامسة وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظ الله به ذلك الإقليم على قلب يوسف عليه السلام ويؤيده محمد صلى الله عليه وسلم والإقليم السادس ينزل الأمر إليه من السماء السادسة وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب عيسى روح الله ويحيى عليهما السلام والإقليم السابع ينزل الأمر إليه من السماء الدنيا وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب آدم عليه السلام واجتمعت بهؤلاء الأبدال السبعة بحرم مكة خلف حطيم الحنابلة وجدتهم يركعون هناك فسلمت عليهم وسلموا علينا وتحدثت معهم‏

فما رأيت فيما رأيت أحسن سمتا منهم ولا أكثر شغلا منهم بالله ما رأيت مثلهم إلا سقيط الرفرف ابن ساقط العرش بقونية وكان فارسيا

(وصل)

واعلم أن الفرق الذي بين مزاج العنصر الواحد وامتزاجه بعضه ببعضه أو امتزاجه بعنصر آخر كامتزاج الماء بالتراب فيحدث اسم الطين فما هو تراب وما هو ماء والامتزاج في العنصر الواحد كالنيل والإسفيداج إذا مزجا بالسحق واختلطت أجزاؤهما وامتزجت امتزاجا لا يمكن الفصل بينهما يحدث بينهما لون آخر ما هو لواحد منهما ويحدث لهذا الامتزاج حكم في آخر الأفعال الطبيعية وكالماء العذب والماء الملح إذا امتزجا حدث بينهما طعم آخر ما هو ملح ولا عذب فهذا ما أعطاه الامتزاج في العنصر الواحد وكذلك الماء بما هو بارد إذا أعطت النار فيه التسخين بحيث أن لا تبقيه باردا ولا تبلغ به درجتها في السخانة فيكون فاترا حارا ولا باردا فهذا امتزاج لا يشبه امتزاج العنصر بعضه في بعضه ولا امتزاج العنصرين وأما المزاج فهو ما كان به وجود عين العنصر وهو المسمى بالطبع فيقال طبع الماء أو مزاج الماء أن يكون باردا رطبا والنار حارة يابسة والهواء حارا رطبا والتراب باردا يابسا فما ظهرت أعيان هذه الأركان إلا بهذا المزاج الطبيعي فكل مزاج طبيعي وليس الامتزاج كذلك فبالامتزاج الذي ذكرناه في عنصر الماء نعلم قطعا إن أجزاء الماء الملح مجاورة أجزاء الماء العذب وأجزاء النيل مجاورة أجزاء الإسفيداج مجاورة بالعقل لا يدركها الحس ولا يفصلها ولكن في الامتزاج يحدث للطبيعة حكم في هذه الصور الظاهرة من الامتزاج كتركيب الأدوية فكل عقار فيه له نفع على حدة ثم إذا مزج الكل كان بهذه المثابة وكان للطبيعة في المجموع حكم ولا بد فإذا جعل الكل في إناء واحد وصب على الجميع ماء واحد أعطى كل عقار في كل جوهر من ذلك الماء قوة فيكون في الجوهر الواحد من الماء قوة كل واحد من العقاقير ما لم تتضاد القوي فهذا وإن كان امتزاجا فما هو مثل ذلك الامتزاج ولا بلغ حكمه حكم المزاج فهذه حالة معقولة بين المزاج وبين الامتزاج لا يقال فيه مزاج ولا امتزاج وكذلك الأرض وإن كانت سبعة طباق فقد يعسر في الحس الفصل بينهن مع علمنا بأن كل واحدة منهن لا تكون بحيث الأخرى كما لا يكون الجوهر بحيث جوهر آخر وعرضه يكون بحيث موضوعة وحامله فهكذا يكون كون الأشياء وفسادها وما يلحقها من التغيير انتهى الجزء الثالث والعشرون ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(وصل)

وأما ما يلحق الأجسام العنصرية من لواحق الطبيعة في الأجسام فكثير فمن ذلك حركة العنصر وسكونه هل هو مخالف لحركة الفلك وسكونه لو فرض سكونه أو هل سكونه كسكون السماء الذي لا يقول به إلا أهل هذا الشأن منا فأما حركة الفلك وهو من الأجسام الطبيعية فإنه يتحرك بمحرك ليس هو وهكذا كل متحرك في العالم وساكن ما هو متحرك لذاته ولا ساكن لذاته بل بمحرك ومسكن وذلك المحرك له لا بد أن يكون محركا له بذاته أو محركا له بما هو يريد تحريكه فأما من يرى أن محركه يحركه لذاته فهو القائل بخلق الحركة في الجسم والحركة تعطي لذاتها فيمن قامت به التحرك فهي محركة المتحرك لذاتها والسكون مثل ذلك وإن كان المحرك بما هو يريد تحريكه فقد يحركه بواسطة وبغير واسطة أي بواسطة لا تتصف بأنها مريدة لتحريكه ولو كانت ذا إرادة كالمجبور فيمن كان ذا إرادة أو تحريك الغصن بتحريك الريح التي تحدثه حركة المروحة من حركة يد الذي يروحه بها وبغير واسطة كإنسان هز عصا في يده فاضطربت أو يكون المتحرك هو المتحرك بالإرادة في ذاته كتحرك الإنسان في الجهات التحرك الإرادي فالفلك عندنا متحرك تحرك الإنسان في الجهات لأنه يعقل ويكلف ويؤمر كما

قال عليه السلام في ناقته إنها مأمورة

وقال عليه السلام في الشمس إنها تستأذن في الطلوع وحينئذ تطلع فيؤذن لها فإذا جاء وقت طلوعها من مغربها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مغربها فذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها

فالفلك متحرك بالإرادة ليعطي ما في سمائه من الأمر الإلهي الذي يحدث أشياء في الأركان والمولدات وبتلك الحركات الفلكية يظهر الزمان فالزمان لا يحكم‏

في مظهره وإنما يحكم فيما دونه فلا حكم للزمان في حركات الفلك لأنه المظهر عينه وللحوادث الظاهرة والطارئة في الأفلاك والسموات والعالم العلوي أسباب غير الزمان وحركات الفلك مرتبة متتالية الأجزاء على طريقة واحدة كتحرك الرحى فكل جزء لا يفارق مجاوره وحركة الأركان ليست كذلك فإن حركة العنصر متداخلة بعضها في بعض يزول كل جزء عن الجزء الذي كان يجاوره ويعمر أحيازا غير أحيازه التي كان فيها فأسباب حركة العنصر تخالف أسباب حركة الفلك لأن حركة الفلك ما تعرف سوى ما تعطيه في الأركان من التحريك وشعاعات كواكبها بما أودع الله فيها من العقل والروح والعلم تعطي في أشخاص كل نوع من المولدات على التعيين من معدن ونبات وحيوان وجن وملك مخلوق من عمل أو نفس بقول من تسبيح وذكر أو تلاوة وذلك لعلمها بما أودع الله لديها وهو قوله تعالى وأَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فمن لا كشف له يرى أن ذلك كله الكائن عن سريانها إنها مسخرات في حركاتها لإيجاد هذه الأمور كتحريك الصانع للآلات لإيجاد صورة ما يريد إيجادها كالصورة في الخشب وغيره ولا تعرف الآلات شيئا من ذلك ولا ما صدر عنها وإن كانت تلك الصور لا تظهر إلا بهذه الآلات هكذا يزعم من يذهب إلى غير ما ذهبنا إليه وذهب إليه أهل الله من أهل الكشف والوجود ونحن نقول إن آلة النجار ربما تعلم أكثر مما يعلم الصانع بها فإنها حية ناطقة عالمة بخالقها مسبحة بحمد ربها عالمة بما خلقت له عند أهل الكشف فإن المكاشف إذا كشف الله عن بصره وسمعه تناديه أشجار الأرض ونجمها بمنافعها ومضارها كما

قالت الأحجار لداود عليه السلام يقول كل حجر يا داود خذني فأنا أقتل جالوت وقال له الحجر الآخر خذني فإني أجعل الكسرة في ميمنة عسكره فقد علم كل حجر ما خلق له فأخذ داود تلك الأحجار فوقع الأمر كما ذكرت‏

ولما لم يبلغ بعض الناس هذه الدرجة ولا طولع بها أنكرها ولم يكن ينبغي له ذلك فما من متحرك في العالم إلا وهو عالم بما إليه يتحرك إلا الثقلين فقد يجهلون ما يتحركون إليه بل يجهلون إلا من شاء الله من أهل الكشف من مريد وغيره قال الله للسماء والأرض ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وإتيان الأرض حركة وانتقال لما دعيت إليه فجاءت طائعة فكل جزء في الكون عالم بما يراد منه فهو على بصيرة حتى أجزاء بدن الإنسان فما يجهل منه إلا لطيفته المكلفة الموكلة إلى استعمال فكرها أو تنظر بنور الايمان حتى يظهر ذلك النور على بصرها فيكشف ما كان خبرا عندها فإذا كانت حركة العنصر تخالف حركة الفلك بالتداخل وبما يطرأ عليها من السكون في بعض أجزاء العنصر لا في كله فنعلم قطعا إن حكم الحركة في العنصر يخالف حكم حركة الفلك فحكم حركة العنصر أي عنصر كان فإن كان بين عنصرين كالهواء والماء أو لا يكون بين عنصرين كالنار والأرض فحركة الهواء العنصري يظهر فيه من الأثر بحسب ما يباشر منه ما فوقه وما تحته وكذلك عنصر الماء وأما حركة النار فلا تؤثر فيه إلا الهواء وحركة الأرض لا تؤثر فيه إلا الماء والهواء وبهذا يفارق هذا العنصر عنصر النار فإذا أثر النار التسخين فيما عداه من الأركان فيأخذ أمرين إما بوساطة شعاع الكوكب الأعظم وهو الشمس فإن شعاعها يمر على الأثير فيكتسب زيادة كميات في حرارته أو بوساطة النار المحمولة في الفحم أو الحطب وهذه الآثار التي تظهر في العنصر من غيره إن لم يكن له إمداد من العنصر الذي ظهر عنه ذلك الأثر والأغلب عليه حكم العنصر الذي ظهر فيه الأثر فأفسده فهذا من أنواع الكون والفساد الظاهر في أجسام العناصر

[نسبة الحركة والسكون‏]

ثم لتعلم إن التحقيق في الحركة والسكون أنهما نسبتان للذوات الطبيعية المتحيزة المكانية أو القابلة للمكان إن كانت في الإمكان وذلك أن المتحيز لا بد له من حيز يشغله بذاته في زمان وجوده فيه فلا يخلو ما أن يمر عليه زمان ثان أو أزمنة وهو في ذلك الحيز عينه فذلك المعبر عنه بالسكون أو يكون في الزمان الثاني في الحيز الذي يليه وفي الزمن الثالث في الحيز الذي يلي الحيز الثاني فظهوره وأشغاله لهذه الأحياز حيزا بعد حيز لا يكون إلا بالانتقال من حيز إلى حيز ولا يكون ذلك إلا بمنقل فإن سمي ذلك الانتقال حركة مع عقلنا إنه ما ثم إلا عين المتحيز والحيز وكونه شغل الحيز الآخر المجاور لحيزه الذي شغله أولا فلا يمنع ومن ادعى أن ثم عينا موجودة تسمى حركة قامت بالمتحيز أوجبت له الانتقال من حيز إلى حيز فعليه بالدليل فما انتقل إلا بمنقل أما إن كان ذا إرادة فبإرادته أو بمنقل غيره نقله من حيز إلى حيز وكذلك الاجتماع والافتراق نسبتان للمتحيزات فالاجتماع كون متحيزين متجاورين في حيزين لا يعقل بينهما ثالث والافتراق أن‏

يعقل بينهما ثالث أو أكثر فاعلم ذلك ثم إن الزمان والمكان من لواحق الأجسام الطبيعية أيضا غير أن الزمان أمر متوهم لا وجود له تظهره حركات الأفلاك أو حركات المتحيزات إذا اقترن بها السؤال بمتى فالحيز والزمان لا وجود له في العين أيضا وإنما الوجود لذوات المتحركات والساكنات وأما المكان فهو ما تستقر عليه المتمكنات لا فيه فإن كانت فيه فتلك الأحياز لا المكان فالمكان أيضا أمر نسبي في عين موجودة يستقر عليها المتمكن أو يقطعه بالانتقالات عليه لا فيه فإن اتصلت المتحيزات بطريق المجاورة على نسق خاص لا يكون فيه تداخل فذلك الاتصال فإن توالت الانتقالات حالا بعد حال فذلك التتابع والتتالي من غير أن يتخللها فترة فإن دخل بعضها على بعض ولم يفصل الداخل بين المتصلين فذلك الالتحام فما دخل في الوجود منه وصف بالتناهي وما لم يدخل قيل فيه إنه لا يتناهى إن فرض متتاليا أبدا وإن أعطت هذه الانتقالات استحالة كان الكون والفساد فانتقال الشي‏ء من العدم إلى الوجود يكون كونا وإزالة ما ظهر عنه من صورة الكون يسمى فسادا فإذا انتقل من وجود إلى وجود يسمى متحركا وأما ما يلحق هذه الأجسام من الألوان والأشكال والخفة والثقل واللطف والكثافة والكدورة والصفا واللين والصلابة وما أشبه ذلك من لواحقه فإنه يرجع إلى أسباب مختلفة فأما الألوان فعلى قسمين منها ألوان تقوم بنفس المتلون ومنها ألوان تظهر لناظر الرائي وما هي في عين المتلون لاختلاف الأشكال وما يعطيه النور في ذلك الجسم فإنه بالنور يقع الإدراك وكذلك الأشكال مثل الألوان ترجع إلى أمرين إلى حامل الشكل وإلى حس المدرك له وأما ما عداه مما ذكرناه من لواحق الأجسام فهي راجعة إلى المدرك لذلك لا إلى أنفسها ولا إلى الذات الموصوفة التي هي الأجسام الطبيعية هذا عندنا فإن اللطيفة كالهواء لا تضبط صورة النور والجسم الكثيف يظهره ورأينا من لا يحجبه الكثائف وصورتها عنده صورة اللطائف في نفوذ الإدراك فإذا ما هي كثائف إلا عند من ليس له هذا النفوذ فمنا من لا يحجبه الجدران ولا يثقله شي‏ء فصار مال هذه الأوصاف إلى المدرك ولو كانت لذوات الأجسام لوقع التساوي في ذلك كما وقع التساوي في كونها أجساما فإذا ليس حكم اللواحق يرجع إلى ذوات الأجسام عندنا وأما عند الطبيعيين فإنهم وإن اختلفوا فما هم على طريقنا في العلم بهذا

[أن الشي‏ء الواحد العين إذا ظهرت عنه الآثار المختلفة فإن ذلك من حيث القوابل‏]

واعلم أن الشي‏ء الواحد العين إذا ظهرت عنه الآثار المختلفة فإن ذلك من حيث القوابل لا من حيث عينه ومن هنا إذا حققت هذه المسألة يبطل قول الحكيم لا يصدر عن الواحد إلا واحد وصورة ذلك في العنصر الذي نحن بصدده إن النار بما هي نار لا يتغير حكمها من حيث ذاتها وتجد آثارها مختلفة الحكم فتنير أجساما ولا تنير أجساما مع أن إنارتها بالاشتعال فالهواء لها مساعد وتعقد أشياء وتسيل أشياء وتسود وتبيض وتسخن وتحرق وتنضج وتذيب الجوامد وهي على حقيقة واحدة واستعداد القوابل مظهر اختلاف الآثار منها في الحكم‏

فالعين واحدة والحكم مختلف *** ويدرك العلم ما لا يدرك البصر

[أن الأشياء بأنه أشياء لها حكم‏]

واعلم أن الأشياء بآحادها لها حكم وبامتزاجاتها تحدث لها أحكام لم تكن ولا لواحد منها ولا يدرى على الحقيقة من هو المؤثر من أحد الممتزجين هل هو لواحد أو هل لكل واحد فيه قوة والذي حدث لا يقدر على إنكاره فإنا نعرف سواد المداد حدث بعد أن لم يكن من امتزاج الزاج والعفص فهل الزاج صبغ العفص وهو المؤثر والعفص هو المؤثر فيه اسم مفعول ولو كان ذلك لبقي الزاج على حاله إذا كان غير ممتزج وينصبغ ماء العفص والمشهود خلاف ذلك وكذلك القول في العفص فلم يبق إلا حقيقة المزج وهي التي أحدثت السواد ما هو لواحد بعينه حقيقة ما قلناه في الإلهيات سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ويأتي الله يوم القيامة للفصل والقضاء وبيده الميزان يخفض ويرفع الله ولا عالم هل يتصف بوقوع هذا الفعل فظهر بالعالم ما لم يظهر ولا عالم فليس الحكم على السواء

فقال النبي صلى الله عليه وسلم كان الله ولا شي‏ء معه‏

ولم يقل وهو الآن على ما عليه كان كيف يقول ذلك صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالله وهو الذي جاء من عند الله بقوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ وسَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وفرغ ربك من كذا وكذا وينزل ربنا إلى السماء وقد كان ولا سماء ولا عالم هل كان يوصف بالنزول إلى من أو من أين ولا أين ثم أحدث الأشياء فحدثت النسب فاستوى ونزل وأخذ الميزان فخفض ورفع بذا وردت الأخبار التي لا تردها العقول السليمة من الأهواء والايمان بها واجب والكيف غير معقول فهو الواحد الواجد الأحد الماجد الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ لو لا وجود النفس واستعدادات المخارج‏

في المتنفس ما ظهر للحروف عين ولو لا التأليف ما ظهر للكلمات عين فالوجود مرتبط بعضه ببعض فلو لا الحرج والضيق ما كان للنفس الرحماني حكم فإن التنفيس هو إزالة عين الحرج والضيق فالعدم نفس الحرج والضيق فإنه يمكن أن يوجد هذا المعدوم فإذا علم الممكن إمكانه وهو في حال العدم كان في كرب الشوق إلى الوجود الذي تعطيه حقيقته ليأخذ بنصيبه من الخير فنفس الرحمن بنفسه هذا الحرج فأوجده فكان تنفيسه عنه إزالة حكم العدم فيه وكل موجود سوى الله فهو ممكن فله هذه الصفة فنفس الرحمن هو المعطي صور الممكنات الوجود كما أعطى النفس وجود الحروف فالعالم كلمات الله من حيث هذا النفس كما قال وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وهو عين عيسى عليه السلام وأخبر أن كلمات الله لا تنفد فمخلوقاته لا تزال توجد ولا يزال خالقا وكذلك لما رأينا في هذه الأجسام العنصرية أمورا مختلفة الصور مختلفة الأشكال مختلفة المزاج ومع هذا ما يخرجها ذلك الاختلاف عن حقيقة كونها يجمعها حد واحد وحقيقة واحدة كأشخاص الحيوان على اختلاف أنواعه وأشكاله كالطير لا يخرجه ما ظهر فيه من اختلاف المقادير والأشكال والألوان عن كونه طيرا فعلمنا إن هذا الاختلاف ما هو لكونه إنسانا ولا لكونه طيرا فإن الإنسانية في كل واحد واحد من أشخاصها مع ظهور الاختلاف فلا بد لذلك من حقائق أخر معقولة أوجبت لها ذلك الاختلاف فبحثنا عن ذلك في العلم الإلهي الذي هو مطلوبنا إذ كان الوجود مرتبطا به فوجدناه تعالى لا يكرر تجليا ويظهر في صورة ينكر فيها وفي صورة يعرف فيها وهو الله تعالى في الصورتين الأولى والآخرة وفي كل صور التجلي فقامت صور التجلي في الألوهة مقام اختلاف أحوال صور أشخاص النوع في النوع فعلمنا أن تغير أشخاص النوع من هذه الحقيقة الإلهية فعلمنا إنا ما علمنا من الحق إلا ما أشهدنا وأن الله تجلى للنوع من حيث ما هو نوع فلم يتغير عن نوعيته كما لم يزل إلها في ألوهته ثم يظهر لذلك النوع في صور مختلفة اقتضتها ذاته تعالى فظهر في أشخاص النوع اختلاف صور على وزنها ومقدارها فلو لا أنه في استعداد هذا النوع المتغير بالشخص في الأشكال والألوان والمقادير التي لا تخرجه عن نوعيته لما قبل هذا التغيير ولكان على صورة واحدة وإذا كان الكثيف مع كثافته مستعد القبول الصور المختلفة بصنعة الصانع فيه كالخشب وما تصور

منه بحسب ما يقوم في نفس الصانع من الصور المختلفة فاللطيف أقبل للاختلاف كالماء والهواء فما كان ألطف كان أسرع بالذات لقبول الاختلاف فتبين لك أن اختلاف صور العالم من أعلاه لطفا إلى أسفله كثافة لا يخرج كل صورة ظهر فيها عن كونه نفس الرحمن قال تعالى والله أَنْبَتَكُمْ من الْأَرْضِ نَباتاً فالأرض واحدة وأين صورة النجم من صورة الشجر على اختلاف أنواعها من صورة الإنسان من صور الحيوان وكل ذلك من حقيقة عنصرية ما زالت عنصريتها باختلاف ما ظهر فيها فاختلاف العالم بأسره لا يخرجه عن كونه واحد العين في الوجود فزيد ما هو عمرو وهما إنسان فهما عين الإنسان لا غيره فمن هنا تعرف العالم من هو وصورة الأمر فيه إن كنت ذا نظر صحيح وفي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ما ثم إلا النفس الناطقة وهي العاقلة والمفكرة والمتخيلة والحافظة والمصورة والمغذية والمنمية والجاذبة والدافعة والهاضمة والماسكة والسامعة والباصرة والطاعمة والمستنشقة واللامسة والمدركة لهذه الأمور واختلاف هذه القوي واختلاف الأسماء عليها وليست بشي‏ء زائد عليها بل هي عين كل صورة وهكذا تجده في صور المعادن والنبات والحيوان والأفلاك والأملاك فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها

فما نظرت عيني إلى غير وجهه *** وما سمعت أذني خلاف كلامه‏

فكل وجود كان فيه وجوده *** وكل شخيص لم يزل في منامه‏

فتعبير رؤيانا لها في منامنا *** فمن لام فليلحق به في ملامه‏

ومما يتعلق بهذا الباب وبباب ركن الماء ما يظهر فيهما من السخانة عن الشعاعات النورية المنفهقة من ذات الشمس أين أصلها في العلم الإلهي فإن الأجسام الأرضية والمائية إذا اتصلت بها أشعة الأنوار الشمسية والكوكبية يرى بعض الأجسام يسخن عند انبساط الشعاع عليه وبعض الأجسام على برده لا يقبل التسخين مع اختراق الشعاعات ذلك الجسم كدائرة الزمهرير وما علا من الجولا أثر لحر الشعاعات فيه‏

[إن للوجه الإلهي سبحات محرقات لو لا الحجب لأحرقت العالم‏]

فاعلم إن للوجه الإلهي سبحات محرقات لو لا الحجب‏

لأحرقت العالم فلا تخلو هذه الحجب إما أن تكون من العالم ولا شك أن السبحات لو لم تنبسط على الحجب لما كانت حجبا عنها ولو اقتضت السبحات الإحراق احترقت الحجب ثم لا تخلو الحجب أن تكون كثيفة أو لطيفة فإن كانت لطيفة لم تحجب كما لم يحجب الهواء اتصال شعاع الشمس بالأجسام الأرضية وإن كانت كثيفة كالجدران وأشباهها فلا خفاء إن الجدار يسخن بشعاع الشمس إذا كان متراص الأجزاء غير مخلخل ثم إن النور لا تحجبه الظلمة لأنه ينفرها فلا تجتمع به لكن تجاوره من خلف الحجاب الموجد للظلمة التي تباشر النور فالظلمة تجاور الشعاع والموجد للظلمة يقبل انبساط الشعاع عليه فلا تكون الظلمة حجابا بهذا الاعتبار وقد ثبت كونها حجابا وكون النور حجابا على نور الوجه والنور يتقوى بالنور لا يحجبه فافهم حقيقة سبحات الوجه وإنها دلائل ذاتية إذا ظهرت أحرقت نسبا لا أعيانا فتبين أنها عين تلك الأعيان أعني الوجه فزال الجهل الذي كانت ثمرته إن العالم ما هو عين الوجه فبقي العالم على صورته لم تذهبه السبحات بل أثبتته وأبانت عن وجه الحق ما هو فكان الحجاب معنويا فاحترقت النسبة

(الفصل الثاني والثلاثون) في الاسم الإلهي العزيز

وتوجهه على إيجاد المعادن وله حرف الظاء المعجمة ومن المنازل سعد الذابح‏

[رجوع جميع الصفات والأسماء إلى الذات الباري تعالى‏]

اعلم أن الذات لما اختصت بسبع نسب تسمى صفات إليها يرجع جميع الأسماء والصفات وقد ذكرنا رجوعها إليها في كتاب إنشاء الجداول كما ذكرها من تقدم قبلنا غير أني زدت على من تقدم بإلحاق الاسم المجيب مع الاسم الشكور لصفة الكلام فإن المتقدمين قبلنا ما ألحقوا بالاسم الشكور الاسم المجيب وكانت السموات سبعا والسيارة سبعة والأرضون سبعة والأيام سبعة جعل الله تكوين المعادن في هذه الأرض عن سباحة هذه السبعة الدراري بسبعة أفلاكها في الفلك المحيط فأوجد فيها سبعة معادن ولما كان الاسم العزيز المتوجه على إيجادها ولم يكن لها مشهود سواه عند وجودها أثر فيها عزة ومنعا فلم يقو سلطان الاستحالة التي تحكم في المولدات والأمهات من العناصر يحكم فيها بسرعة الإحالة من صورة إلى صورة مثل ما يحكم في باقي المولدات فإن الاستحالة تسرع إليهم ويظهر سلطانها فيهم بزيادة ونقص وخلع صورة منهم وعليهم وهذا يبعد حكمه في المعادن فلا تتغير الأحجار مع مرور الأزمان والدهور إلا عن بعد عظيم وذلك لعزتها التي اكتسبتها من الاسم الإلهي العزيز الذي توجه على إيجادها من الحضرة الإلهية ثم إن هذا الاسم طلب بإيجادها رتبة الكمال لها حتى تتحقق بالعزة فلا يؤثر فيها دونه اسم إلهي نفاسة منه لأجل انتسابها إليه وعلم العلماء بأن وجودها مضاف إليه فلم يكن القصد بها إلا صورة واحدة فيها عين الكمال وهو الذهبية فطرأت عوارض لها في الطريق من الاسم الضار وإخوانه فأمرض أعيانهم وعدل بهم عن طريقهم حكمت عليهم بذلك المرتبة التي مروا عليها ولا يتمكن لاسم أن يكون له حكم في مرتبة غيره فإن صاحب المنزل أحق بالمنزل وهم أرباب الأدب الإلهي ومعلمو الأدب فبقي الاسم العزيز في هذه المرتبة يحفظ عين جوهر المعدن وصاحب المرتبة من الأسماء يتحكم في صورته لا في عين جوهره وللأسماء الإلهية في المولدات والعناصر سدنة من الطبائع ومن العناصر يتصرفون في هذه الأمور بحكم صاحب المرتبة الذي هو الاسم الإلهي وهم المعدن وحرارته وبرد الشتاء وحرارة الصيف والحرارة المطلقة والبرودة والرطوبة واليبوسة ولكل واحد مما ذكرناه حكم يخصه يظهر في جوهر المولدات والعناصر فيسخف ويكثف ويبرد ويسخن ويرطب وييبس ورتبة الكمال من تعتدل فيه هذه الأحكام وتتمانع ولا يقوى واحد منهم على إزالة حكم صاحبه فإذا تنزه الجوهر عن التأثير فخلع صورته عنه ومنع نفسه من ذلك فذلك حكم رتبة الكمال وليس إلا الذهب في المعدن وأما سائر الصور فقامت بها أمراض وعلل أخرجتهم عن طريق الكمال فظهر الزئبق والأسرب والقزدير والحديد والنحاس والفضة كما ظهر الياقوت الأصفر والأكهب في جوهر الياقوت ولما فارقت المعدن الذي هو موطنها في ركن الأرض بقيت على مرضها ظاهرة بصورة الاعتلال دائما فالحاذق النحرير من علماء الصنعة إذا عرف هذا وأراد أن يلحق ذلك المعدن برتبة الكمال ولا يكون ذلك إلا بإزالة المرض وليس المرض إلا زيادة أو نقصا في الجوهر وليس الطب إلا زيادة تزيل حكم النقص أو نصا يزيل حكم الزيادة وليس الطبيب إلا أن يزيد في الناقص أو ينقص من الزائد فينظر الحاذق من أهل النظر في طب المعادن ما الذي صيره حديدا أو نحاسا أو ما كان وحال بينه‏

وبين الذهبية أن يصل إلى منزلتها ويظهر صورتها فيه فيفوز بدرجة الكمال ويجوز صفة العزة والمنع عن التأثير فيه وتساعد هذا الطبيب سباحة الأنوار السبعة في أفلاكها أعني الدراري وهي القمر والكاتب والزهرة والشمس والأحمر والمشتري وكيوان بما في قوتها لما يعطيه بعضها من اختلاف الزمان وحكم كل زمان يخالف حكم الذي يليه من وجه ويوافقه من وجه ويخالفه من جميع الوجوه ولا يمكن أن يوافقه من جميع الوجوه إذ لو وافقه لكان عينه ولم يكن اثنان وهما اثنان بلا شك فالموافقة من جميع الوجوه لا تكون ولكرور هذه الأزمان وتوالي الجديدين أثر في الأركان وأثر في عين الولد في تسوية جوهره وتعديله فإذا سواه وعدله وهو أن يصيره جوهرا قابلا لأي صورة يريد الحق أن يركبه فيها والصور مختلفة فاختلفت المعادن كما اختلف النبات بالصورة كما اختلف الحيوان بالصورة وهو من حيث الجوهر الطبيعي واحد العين ولهذا يعمه من حيث جوهره حد واحد وما تختلف الحدود فيه إلا من أجل الصورة وكذلك في الآباء والأمهات بل جوهر العالم كله واحد بالجوهرية والعين تختلف بالصور وما يعرض له من الأعراض فهو المجتمع المفترق والواحد الكثير صورة الحضرة الإلهية في الذات والأسماء فيرد الحاذق الجوهر المعلول الذي عدلت به علته عن طريق الكمال إلى طريقه ليتمكن من تدبيره وحفظ بقاء صحته عليه ويحفظه مما بقي له في طريقه من منازل التغييرات الحائلة بينه وبين رتبة الكمال وإنما فعل الله هذا بهذا الجوهر في الطريق وسلط عليه من يعله ويمرضه حتى يحول بينه وبين بلوغه إلى رتبة الكمال العدني لمصالح هذا النوع الإنساني لعلمه بأنه يحتاج إلى آلات وأمور لا بد له منها ولا يكون له هذه الآلات إلا بقيام هذه الأمراض بهذا الجوهر وعدوله عن الطريق وحال الله سبحانه بين الأطباء وبين العلم بإزالة هذه الأمراض من هذا الجوهر إلا الأمناء منهم الذين علم الله منهم أنهم يبقون الحكمة على ما وضعها الله في العالم فيبقى الحديد حديدا لما فيه من المنافع التي لا تكون في الذهب ولا في غيره من المعادن كما قال تعالى وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ يريد أنه أنزله عن رتبة الكمال لأجل ما فيه من منافع الناس فلو صح من مرضه لطغى وارتفع ولم توجد تلك المنافع وبقي الإنسان الذي هو العين المقصودة معطل المنافع المتعلقة بالحديد التي لا تكون إلا فيه ففيه كما قال الله بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ وهكذا سائر المعادن فيها منافع للناس وقد ظهرت واستعملها الإنسان فانظر ما أشد عناية الله بهذا النوع الإنساني وهو غافل عن الله كافر لنعمه متعرض لنقمه ولما علم الله أن في العالم الإنساني من حرمه الله الأمانة ورزقه إذاعة الأسرار الإلهية وسبق في علمه أن يكون لهذا الذي هو غير أمين رزقه في علم التدبير رزقه الشح به على أبناء جنسه بخلا وحسدا ونفاسة أن يكون مثله غيره فترك العمل به غير مأجور فيه ولا موافق لله ثم إن الله كثر المعادن ولم يجعل لهذا الإنسان أثرا إلا فيما حصل بيده منها وما عسى أن يملك من ذلك فيظهر في ذلك القدر تدبيره وصنعته ليعلم العقلاء الحكماء أنه غير أمين فيما أعطاه الله فإنه ما أذن له في ذلك من الله ثم إن الله جعل للملوك رغبة في ذلك العلم فإذا ظهر به من ليس بأمين عندهم سألوه العلم فإن منعهم إياه قتلوه حسدا وغيظا وإن أعطاهم علم ذلك قتلوه خوفا وغيرة ولما علم العالم أن ما له مع الملوك إلا مثل هذا لم يظهر به عندهم ولا عند العامة لئلا يصل إليهم خبره لا أمانة وإنما ذلك خوفا على نفسه فلا يظهر في هذه الصنعة عالم بها جملة واحدة والمتصور فيها بصورة العلم يعلم في نفسه أنه ما عنده شي‏ء وأنه لا بد أن يظهر للملك

دعواه الكاذبة فيأمن غائلته في الغالب من القتل ويقنع بما يصل إليه من جهته من الجاه والمال للطمع الذي قام بذلك الملك فما ظهر عالم بهذه الصنعة قط ولا يظهر غيرة إلهية مع كونه قد رزقه الله الأمانة في نفسه ومن هذا الاسم الإلهي وجود الأحجار النفيسة كاليواقيت واللآلي من زبرجد وزمرد ومرجان ولؤلؤ وبلخش وجعل في قوة الإنسان إيجاد هذا كله أي هو قابل إن يتكون عنه مثل هذا ويسمى ذلك في الأولياء خرق عادة والحكايات في ذلك كثيرة ولكن الوصول إلى ذلك من طريق التربية والتدبير أعظم في المرتبة في الإلهيات ممن يتكون عنه في الحين بهمته وصدقه فإن الشرف العالي في العلم بالتكوين لا في التكوين لأن التكوين إنما يقوم مقام الدلالة على إن الذي تكون عنه هذا بالتدبير عالم وصاحب خرق العادة لا علم له بصورة ما تكون عنه بكيفية تكوينها في الزمن القريب والعالم يعلم ذلك‏

(الفصل الثالث والثلاثون) في الاسم الإلهي الرزاق‏

وتوجهه على إيجاد النبات من المولدات وله من الحروف الثاء المعجمة بالثلاث وله من المنازل سعد بلع قال تعالى إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وقال أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً ومَتاعاً لِلْمُقْوِينَ فجعلها للعلماء تذكرة

[فبالاختلاف المرزوقين اختلف الأرزاق‏]

فجاء بالاسم الرزاق بهذه البنية للمبالغة لاختلاف الأرزاق وهي مع كثرتها واختلافها منه لا من غيره وإن المرزوقين مختلف قبولهم للأرزاق فما يتغذى به حيوان ما قد لا يصلح أن يكون لحيوان آخر لأن المراد بتناول الرزق بقاء المرزوق فإذا أكل ما فيه حتفه فما تغذى به وما هو رزق له وإن كان به قوام غيره فلذلك تسمى ببنية المبالغة في ذلك ونعت هذا الرزاق بذي القوة المتين ولو نعت به الله لقال ذا القوة المتين فنصب ولا يتمكن نعت الاسم الله من حيث دلالته فإنه جامع للنقيضين فهو وإن ظهر في اللفظ فليس المقصود إلا اسما خاصا منه تطلبه قرينة الحال بحسب حقيقة المذكور بعده الذي لأجله جاء الاسم الإلهي فإذا قال طالب الرزق المحتاج إليه يا الله ارزقني والله هو المانع أيضا فما يطلب بحاله إلا الاسم الرزاق فما قال بالمعنى إلا يا رزاق ارزقني ومن أراد الإجابة في الأمور من الله فلا يسأله إلا بالاسم الخاص بذلك الأمر ولا يسأل باسم يتضمن ما يريده وغيره ولا يسأل بالاسم من حيث دلالته على ذات المسمى ولكن يسأل من حيث المعنى الذي هو عليه الذي لأجله جاء وتميز به عن غيره من الأسماء تميز معنى لا تميز لفظ

[الأرزاق إما معنوي وإما حسي‏]

واعلم أن الأرزاق منها معنوي ومنها حسي والمرزوقين منهم معقول ومنهم محسوس ورزق كل مرزوق ما كان به بقاؤه ونعيمه إن كان ممن يتنعم وحياته إن كان ممن يوصف بأنه حي وليست الأرزاق لمن جمعها وإنما الأرزاق لمن تغذى بها يحكي أنه اجتمع متحرك وساكن فقال المتحرك الرزق لا يحصل إلا بالحركة وقال الساكن الرزق يحصل بالحركة والسكون وبما شاء الله وقد فرغ الله منه فقال المتحرك فأنا أتحرك وأنت اسكن حتى أرى من يرزق فتحرك المتحرك فعند ما فتح للباب وجد حبة عنب فقال الحمد لله غلبت صاحبي فدخل عليه وهو مسرور فقال له يا ساكن تحركت فرزقت ورمى بحبة العنب إلى الساكن فأخذها الساكن فأكلها وحمد الله وقال يا متحرك سكنت فأكلت والرزق لمن تغذى به لا لمن جاء به فتعجب المتحرك من ذلك ورجع إلى قول الساكن والمقصود من هذه الحكاية أن الرزق لمن تغذى به فأول رزق ظهر عن الرزاق ما تغذت به الأسماء من ظهور آثارها في العالم وكان فيه بقاؤها ونعيمها وفرحها وسرورها وأول مرزوق في الوجود الأسماء فتأثير الأسماء في الأكوان رزقها الذي به غذاؤها وبقاء الأسماء عليها وهذا معنى قولهم إن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت الربوبية فإن الإضافة بقاء عينها في المتضايفين وبقاء المضافين من كونهما مضافين إنما هو بوجود الإضافة فالإضافة رزق المتضايفين وبه غذاؤهما وبقاؤهما متضايفين فهذا من الرزق المعنوي الذي يهبه الاسم الرزاق وهو من جملة المرزوقين فهو أول من تغذى بما رزق فأول ما رزق نفسه ثم رزق الأسماء المتعلقة بالرزق الذي يصلح لكل اسم منها وهو أثره في العالم المعقول والمحسوس ثم نزل في النفس الإلهي بعد الأسماء فوجد الأرواح الملكية فرزقها التسبيح ثم نزل إلى العقل الأول فغذاه بالعلم الإلهي والعلم المتعلق بالعالم الذي دونه وهكذا لم يزل ينزل من عين ما يطلب ما به بقاؤه وحياته إلى عين حتى عم العالم كله بالرزق فكان رزاقا فلما وصل إلى النبات ورأى ما يحتاج إليه من الرزق المعين فأعطاه ما به غذاؤه فرأى جل غذائه في الماء فأعطاه الماء له ولكل حي في العالم وجعله رزقا له ثم جعله رزقا لغيره من الحيوان فهو والحيوان رزق ومرزوق فيرزق فيكون مرزوقا ويرزق به فيكون رزقا وهكذا جميع الحيوان يتغذى ويتغذى به فالكل رزق ومرزوق وإنما أعطى الماء رزقا لكل حي لأنه بارد رطب والعالم في عينه غلبت عليه الحرارة واليبوسة وسبب ذلك أن العالم مقبوض عليه قبضا لا يتمكن له الانفكاك عنه لأنه قبض إلهي واجب على كل ممكن فلا يكون إلا هكذا والانقباض في المقبوض يبس بلا شك فغلب عليه اليبس فهو يطلب بذاته لغلبة اليبس ما يلين به ويرطب فتراه محتاجا من حيث يبسه إلى الرطوبة وأما احتياجه إلى البرودة فإن العالم مخلوق على الصورة ورأى أن من خلق على صورته مطلق الوجود يفعل ما يريد فأراد أن يكون بهذه المثابة ويخرج عن القبض عليه فيكون مسرح العين غير مقبوض عليه في الكون والإمكان يأبى ذلك والصورة تعطيه القوة لهذا الطلب ولا ينال مطلوبه فيدركه الغبن فيحمى فتغلب الحرارة عليه فيتأذى فيخاف الانعدام‏

فيجنح إلى طلب البرودة ليسكن بها ما يجده من ألم الحرارة ويحيي بها نفسه ويبس القبض الذي هو عليه يطلب الرطوبة فنظر الاسم الرزاق في غذاء يحيا به يكون باردا ليقابل به الحرارة وسلطانها ويكون رطبا فيقابل به سلطان اليبس فوجد الماء باردا رطبا فجعل منه كل شي‏ء حي في كل صنف صنف بما يليق به قال تعالى وجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ أي يصدقون بذلك وإنما قرن به الايمان لجواز خلافه عقلا الذي هو ضد الواقع من أنه لو غلب عليه خلاف ما غلب عليه أهلكه فلا بد أن تكون حياته في نقيض ما غلب عليه أ لا ترى لو غلب عليه البرد والرطوبة هلك ولم يكن له حياة إلا الحرارة واليبس فكان يقال في تلك الحال وجعلنا من النار كل شي‏ء حي ولو غلب عليه البرد واليبس لكانت حياته بالهواء فيقال في تلك الحال وجعلنا من الهواء كل شي‏ء حي ولو أفرطت فيه الحرارة والرطوبة لكانت حياته بالتراب وكان يقال لتلك الحالة وجعلنا من التراب كل شي‏ء ثم هذا ما يحتمله التقسيم في هذا لو كان فلما كان الواقع في العالم غلبة الحرارة واليبوسة عليه لما ذكرناه من سبب الصورة والقبض ثار عليه سلطان الحرارة واليبس فلم تكن له حياة إلا ببارد رطب فكان الماء فقال وجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ وينظرون في قولنا من الماء فيعلمون طبع الماء وأثره وفيمن يؤثر وما ذا يدفع به فيعلم إن العالم موصوف بنقيض ما يقتضيه الماء فيحكم عليه به فيعلم الناظر من طبع الدواء ما يقابل به طبع المرض الذي نزل بهذا المريض فنفس الرحمن عنه ما كان يجده هذا المريض فهذا من النفس الرحماني فالأرزاق كلها عند المحقق أدوية لأن العالم كله يخاف التلف على نفسه لأن عينه ظهر عن عدم وقد تعشق بالوجود فإذا قام به من يمكن عنده إذا غلب عليه إن يلحقه بالعدم سارع إلى طلب ما يكون به بقاؤه وإزالة حكم مرضه أو توقع مرضه فذلك رزقه الذي يحيا به ودواؤه الذي فيه شفاؤه أي نوع كان في الشخصيات وكل ما يقبل النمو فهو نبات والذي ينمو به هو رزقه‏

[الرزق إما حلال وإما حرام‏]

ثم إن الرزق على نوعين في الميزان الموضوع في العالم لإقامة العدل وهو الشرع النوع الواحد يسمى حراما والنوع الآخر يسمى حلالا وهو بقية الله التي جاء نصها في القرآن قال تعالى بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فهذه هي التي بقيت للمؤمنين من قوله خَلَقَ لَكُمْ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً والايمان لا يقع إلا بالشرع وجاء هذا القول في قصة شعيب صاحب الميزان والمكيال فهذا علم مستفاد من الإعلام الإلهي والرزاق هو الذي بيده هذا المفتاح فرزق الله عند بعض العلماء جميع ما يقع به التغذي من حلال وحرام فإن الله يقول وما من دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُها وهو ظاهر لا نص وقال فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ الله والله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وقد نهانا عن التغذي بالحرام فلو كان رزق الله في الحرام ما نهانا عنه فاذن ما هو الحرام رزق الله وإنما هو رزق ورزق الله هو الحلال وهو بقية الله التي أبقاها لنا بعد وقوع التحجير وتحريم بعض الأرزاق علينا ولتعلم من جهة الحقيقة أن الخطاب ليس متعلقة إلا فعل المكلف لا عين الشي‏ء الممنوع التصرف فيه فالكل رزق الله والمتناول هو المحجور عليه لا المتناول بفتح الواو فإن الرزاق لا يعطيك إلا رزقك وما يعطي الرزاق لا يطعن فيه فلهذا علق الذم بفعل المكلف لا بالعين التي حجر عليه تناولها فإن المالك لها لم يحجر عليه تناولها والحرام لا يملك وهذه مسألة طال الخبط فيها بين علماء الرسوم وأما قوله فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالًا طَيِّباً من العامل في الحال فظاهر الشرع يعطي أن العامل رزقكم فإن من هنا في قوله مِمَّا رَزَقَكُمُ الله للتبيين لا للتبعيض فإنه لا فائدة للتبعيض فإن التبعيض محقق مدرك ببديهة العقل لأنه ليس في الوسع العادي أكل الرزق كله وإذا كانت للتبيين وهي متعلقة بكلوا فبين إن رزق الله هو الحلال الطيب فإن أكل ما حرم عليه فما أكل رزق الله فتدبر وانظر ما به حياتك فذلك رزقك ولا بد ولا يصح فيه تحجير وسواء كان في ملك الغير أو لم يكن وهذه إشارة في تلخيص المسألة وهي التي يطلبها الاسم الرزاق فإن المضطر لا حجر عليه وما عدا المضطر فما تناول الرزق لبقاء الحياة عليه وإنما تناوله للنعيم به وليس الرزق إلا ما تبقي به حياته عليه فقد نبهت خاطرك إلى فيصل لا يمكن رده من أحد من علماء الشريعة فإن الله يقول فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ بعد التحجير وقال إِلَّا ما اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وذلك هو الرزق الذي نحن بصدده وهو الذي يعطيه الرزاق جعلنا الله من المرزوقين الذين لا يكونون أرزاقا فإن الله أنبتنا من الأرض‏

نباتا

(وصل)

ثم اعلم أن الحركات في النبات على ثلاثة أقسام وأن الرأس من النبات هو الذي يطلب الحركات فحيثما توجه من الجهات نسب إليها فإذا قابل غيرها كان نكسا في حقه ثم اعتبر العلماء الجهات بوجود الإنسان وجعلوا الاستقامة في نشأته وحركته إلى جهة رأسه فسموا حركته مستقيمة وكل نبات إنما يتحرك إلى جهة رأسه فكل حركة تقابل حركة الإنسان على سمتها تسمى منكوسة وذلك حركة الأشجار وإذا كانت الحركة بينهما يقابل المتحرك برأسه الأفق كانت حركته أفقية فالنبات الذي لا حس له وله النمو حركته كلها منكوسة بخلاف شجر الجنة فإن حركة نبات الجنة مستقيمة لظهور حياتها فإنها الدار الحيوان والنبات الذي له حس على قسمين منه ما له الحركة المستقيمة كالإنسان ومنه من له الحركة الأفقية كالحيوان وبينهما وسائط فيكون أول الإنسان وآخر الحيوان فلا يقوي قوة الإنسان ولا يبقى عليه حكم الحيوان كالقرد والنسناس كما بين الحيوان والنبات وسط مثل النخلة كما بين المعدن والنبات وسط مثل الكمأة فحركة النبات منكوسة ومنها مخلقة وغير مخلقة فالمخلقة تسمى شجرا وهو كل نبات قام على ساق وغير المخلقة يسمى نجما وهو كل نبات لم يقم على ساق بل له الطلوع والظهور على وجه الأرض خاصة وهو قوله تعالى والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدانِ أي ما قام على ساق من النبات وما لم يقم على ساق فتمام الخلق في النبات القيام على ساق فلذلك كان النجم غير مخلق كما جاء في خلق الإنسان ومن خلق من نطفة في قوله تعالى ثُمَّ من مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ويدخل الكل في حكم أعطى كل شي‏ء خلقه فأعطى غير المخلقة خلقها كما أعطى المخلقة خلقها كما أنه من كمال الوجود وجود النقص فيه ولما حكم العلماء على حركة النبات على ما قررناه من الانتكاس ما وفوا النظر حقه بل حركته عندنا مستقيمة فإنه ما تحرك إلا للنمو وما تحرك حيوان ولا إنسان هذه الحركة التي لنموه إلا من كونه نباتا ولا يقال في النبات إنه مختلف الحركات من حيث هو نبات وإنما تختلف الحركات إذا كانت لغير النمو مثل الحركات في الجهات فإن الحركات في الجهات من المتحرك إنما ذلك نسبة إرادة التحرك لذلك الجسم من المحرك وقد يكون المحرك عين المتحرك مثل حركة الاختيار وقد تكون الحركة في المتحرك عن متحرك آخر ولذلك الآخر آخر حتى ينتهي إلى المحرك أو المتحرك بالقصد لما ظهر من هذه الحركات وأما الحركة للزيادة في الأجسام فمن كون الجسم نباتا في حيوان كان أو في غيره فهي حركة واحدة وهي حركة عن أصل البزرة التي عنها ظهر الجسم بحركة النماء فيتسع في الجهات كلها بحسب ما يعطيه الإمداد في تلك الجهة فقد تكون حركته إلى جهة اليمين تعطي نموا أقل من حركته إلى الفوق وكذلك ما بقي وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النشأة تقوم على عجب الذنب‏

فإذا أظهرت الرجل والساق والفخذ والمقعدة فعن حركة منكوسة وما ظهر من عجب الذنب إلى وجود الرأس فعن حركة مستقيمة وما ظهر في الاتساع عن جهة اليمين والشمال والخلف والأمام فعن حركة أفقية وكل ذلك عندنا حركة مستقيمة وإنما الحركة المنكوسة عندنا كل حركة في متحرك يكون بخلاف ما يقتضيه طبعه وذلك لا يكون إلا في الحركة القهرية لا في الحركة الطبيعية فإذا تحرك كل جسم نحو أعظمه فتلك حركته الطبيعية المستقيمة كحركة اللهب نحو الأثير وجسم الحجر نحو الأرض فإذا تحرك الجسم الناري نحو الأرض والسفل وتحرك الحجر نحو العلو كانت الحركة منكوسة وهي الحركة القسرية فإذا انتهى النمو في الجسم بحيث أن لا يقبله الجسم من الوجه الذي لا يقبله ثم تحرك ذلك الجسم في ذلك الوجه فما حركته حركة إنبات ونمو كالجسم الذي قد تناهي في الطول إلى غايته فيه على التعيين فما له حركة نمو في تلك الجهة فإذا تحرك إلى جهة الطول تحرك بكله لا للطول بل للانتقال من مكانه إلى مكان الطول سفلا أو علوا وانظر فيما حررناه في حركة النبات في أنها ليست بحركة منكوسة فإذا البذرة تمد فروعا إلى جهة الفوق وتمد فروعا إلى جهة التحت وغذاؤها ليس أخذ النبات له من الفروع التي في التحت المسماة أصولا وإنما أخذ النبات الغذاء من البذرة التي ظهرت عنها هذه الفروع ولهذا يحصل اليبس في بعض فروع التحت كما يحصل في الفروع الظاهرة الحاملة الورق والثمر مع وجود النمو والحياة في باقي العروق والفروع كما ينقسم الدم من الكبد في العروق إلى سائر الأعضاء علوا وسفلا فالذي‏

ينبغي أن يقال في الحركات المعنوية والحسية إنها ثلاث حركات حركة من الوسط وهي التي تعطي ما ظهر عن الأصل الذي منه تنشأ الأجسام الطبيعية وحركة إلى الوسط وهي الإمداد الإلهي وحركة في الوسط وهي ما به بقاء عين الأصل وما من نبات إلا وهو دواء وداء أي فيه منفعة ومضرة بحسب قبول الأمزجة البدنية وما هي عليه من الاستعداد فيكون المضر لبعض الأمزجة عين ما هو نافع لمزاج غيرها فلو كان لعينه لم يختلف حكمه وإنما كان للقابل والقابل نبات كما هو نبات فما أثر بضرره ولا نفعه إلا في نفسه من كونه نباتا وإن كثرت أشخاصه وتميزت بالشخصية وإنما نبهنا بهذا على أعيان أشخاص العالم وما أثر بعضه في بعضه والعين واحدة بالحد الذاتي كثير بالصور العرضية وقد أعلمتك في غير موضع من هو عين العالم الظاهر وأنه غير متغير الجوهر ولمن هو الحكم الذي ظهر به التغيير في هذه العين وأنه مثل ظهور التغيير في صور المرآة لتغيير هيأت الرائي وقد يكون لتغيير المتجليات في أنفسها والمرآة محل ظهور ذلك لعين الرائي فالعماء الذي هو النفس الإلهي هو القابل لهذه الصور كلها فاعلم ذلك والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الرابع والثلاثون» في الاسم الإلهي المذل‏

وتوجهه على إيجاد الحيوان وله من الحروف الذال المعجمة ومن المنازل سعد السعود قال تعالى وذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ ومِنْها يَأْكُلُونَ وقال وسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فدخل الحيوان في ذلك‏

[جعل الله الحيوان مسخرا للإنسان باسم المذل‏]

وهذا حكم الاسم المذل في العالم بالتسخير حتى في المسخر له جعل الله بعضه مسخر البعض من الاسم المذل فإن أصل الكل مخلوق من الأرض وهي الذلول بالجعل الإلهي كما هي العزيزة بالأصالة وجعل علة تسخير بعضها لبعض مع كون العالم مسخرا لنا رفعة لبعضنا على بعض بالدرجة التي يحتاج إليها المسخر المفعول قال تعالى ورَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فاعلم أيدك الله بروح منه أني ما أتكلم في هذه الموجودات في هذا النفس الإلهي إلا من حيث حكم الاسم الإلهي الذي أذكره مع ذلك الموجود من العالم خاصة وبعض ما له فيه من الأثر

[أن التسخير قد يكون إذلالا وقد يكون للقيام بما يحتاج إليه ذلك المسخر له بالحال‏]

فاعلم أن التسخير قد يكون إذلالا وقد يكون للقيام بما يحتاج إليه ذلك المسخر له بالحال وهذا الفرقان بين التسخيرين بما تعطيه حقيقة المسخر والمسخر له فالعبد الذي هو الإنسان مسخر لفرسه ودابته فينظر منها في سقيها وعلفها وتفقد أحوالها مما فيه صلاحها وصحتها وحياتها وهي مسخرة له بطريق الإذلال لحمل أثقاله وركوبه واستخدامه إياها في مصالحه وهكذا في النوع الإنساني برفع الدرجات بينهم فبالدرجة يسخر بعضهم بعضا فتقتضي درجة الملك أن يسخر رعيته فيما يريده بطريق الإذلال للقيام بمصالحه لافتقاره إلى ذلك وتقتضي درجة الرعايا والسوقة أن تسخر الملك في حفظها والذب عنها وقتال عدوها والحكم فيما يقع بينها من المخاصمات وطلب الحقوق فهذه سخرية قيام لا سخرية إذلال اقتضتها درجة السوقة ودرجة الملك والمذل من الأسماء هو الحاكم في الطرفين ثم يأتي الكشف في هذه المسألة بأمر عجيب ينطق به القرآن ويشهده العيان فقال وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الْأَرْضِ وقال وسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ وقال لقمان لابنه يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّماواتِ أَوْ في الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله فإنه في الأرض وهو في السماء وهو في الصخرة ومعنا أينما كنا فإن الخالق لا يفارق المخلوق والمذل لا يفارق الإذلال إذ لو فارقه لفارقه هذا الوصف وزال ذلك الاسم وقال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي يتذللوا إلي ولا يتذللون إلي إلا حتى يعرفوا مكانتي وعزتي فخلقهم باسم المذل لأنه خلقهم لعبادته ووصف نفسه بأنه القيوم القائم عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وقال ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما فوصف نفسه بأنه يحفظ ما في السموات وما في الأرض فبالدرجة يكون حافظا لما يطلبه العالم من حفظ الوجود عليه وبالدرجة يكون العالم محفوظا له فإذا علمت أن السيد يسخر عبده بالدرجة والعبد يسخر سيده بالحال وما يفعل ذلك السيد للعبد بطريق الجبر من العبد والإذلال وإنما يفعله لثبوت سيادته عليه فما سخره للعبد إلا حظ نفسه أ لا ترى أنه يزول عن السيد اسم السيد إذا باع عبده أو هلك فانظر في حكم هذا الاسم ما أعجبه وإنما اختص بالحيوان لظهور حكم القصد فيه ولأنه مستعد للاباية لما هو عليه من الإرادة فلما توجه عليه الاسم المذل صار حكمه تحت حكم من لا إرادة له ولا قدرة لما

تعطي هاتان الصفتان من العزة لمن قامتا به فأصحب الله من شاء صفة الافتقار والفاقة والحاجة فذل لكل ذلول يرى أن له عنده حاجة يفتقر إليه فيها وينحط عن رتبة عزه بسببها فربط الله الوجود على هذا وكان به صلاح العالم فليس في الأسماء من أعطى الصلاح العام في العالم ولا من له حكم في الحضرة الإلهية مثل هذا الاسم المذل فهو ساري الحكم دائما في الدنيا والآخرة فمن أقامه الحق من العارفين في مشاهدته وتجلى له فيه ومنه فلا يكون في عباد الله أسعد منه بالله ولا أعلم منه بأسرار الله على الكشف وهذا القدر من الإيماء في هذا الفصل كاف في علم التسخير الإلهي والكوني فإنه ألحق السيد بالعبيد وألحق العبيد بالسيد والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الخامس والثلاثون» في الاسم الإلهي القوي‏

وتوجهه على إيجاد الملائكة وله من الحروف حرف الفاء ومن المنازل المقدرة سعد الأخبية قال الله تعالى عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ وقال في الملائكة ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ وقال لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وإِلَّا ما آتاها والأمر تكليف فظهرت القوة في الملائكة بإمداد الاسم القوي فإنه بقوته أمدهم وليس في العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه إلا من عرف فيم وجد العالم وبأي حركة أوجده الحق تعالى وأنه عن مقدمتين فإنه نتيجة والناكح طالب والطالب مفتقر والمنكوح مطلوب والمطلوب له عزة الافتقار إليه والشهوة غالبة فقد بان لك محل المرأة من الموجودات وما الذي ينظر إليها من الحضرة الإلهية وبما ذا كانت ظاهرة القوة وقد نبه الله على ما خصها به من القوة في قوله في حق عائشة وحفصة وإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي تتعاونا عليه فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلاهُ أي ناصره وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ هذا كله في مقاواة امرأتين وما ذكر إلا الأقوياء الذين لهم الشدة والقوة فإن صالح المؤمنين يفعل بالهمة وهو أقوى الفعل فإن فهمت فقد رميت بك على الطريق فأنزل الملائكة بعد ذكره نفسه وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ منزلة المعينين ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فدل أن نظر الاسم القوي إلى الملائكة أقوى في وجود القوة فيهم من غيرهم فإنه منه أوجدهم فمن يستعان عليه فهو فيما يستعان فيه أقوى مما يستعان به فكل ملك خلقه الله من أنفاس النساء هو أقوى الملائكة فإنه من نفس الأقوى فتوجه الاسم الإلهي القوي في وجود القوة على إيجاد ملائكة أنفاس النساء أعطى للقوة فيهم من سائر الملائكة

[اختصاص الملائكة بالقوة لأنها أنوار]

وإنما اختصت الملائكة بالقوة لأنها أنوار وأقوى من لنور فلا يكون لأن له الظهور وبه الظهور وكل شي‏ء مفتقر إلى الظهور ولا ظهور له إلا بالنور في العالم الأعلى والأسفل قال تعالى الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له أ رأيت ربك فقال صلى الله عليه وسلم نوراني أراه‏

وقال لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه‏

والسبحات الأنوار فهي المظهرة للأشياء والمغنية لها ولما كان الظل لا يثبت للنور والعالم ظل والحق نور فلهذا يفنى العالم عن نفسه عند التجلي فإن التجلي نور وشهود النفس ظل فيفني الناظر المتجلي له عن شهود نفسه عند رؤية الله فإذا أرسل الحجاب ظهر الظل ووقع التلذذ بالشاهد وهذا الفصل علم فيه عظيم لا يمكن أن ينقال ولا سره أن يذاع من علمه علم صدور العالم علم كيفية والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل السادس والثلاثون» في الاسم الإلهي اللطيف‏

وتوجهه على إيجاد الجن وله من الحروف حرف الباء المعجمة بواحدة ومن المنازل المقدم من الدالي قال الله تعالى في الجان إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ من حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فوصفهم باللطافة وخلقهم الله من مارِجٍ من نارٍ والمرج الاختلاط فهم من نار مركبة فيها رطوبة المواد ولهذا يظهر لها لهب وهو اشتعال الهواء فهو حار رطب والشياطين من الجن هم الأشقياء المبعدون من رحمة الله منهم خاصة والسعداء بقي عليهم اسم الجن وهم خلق بين الملائكة والبشر الذي هو الإنسان وهو عنصري ولهذا تكبر فلو كان طبيعيا خالصا من غير حكم العنصر ما تكبر وكان مثل الملائكة وهو برزخي النشأة له وجه إلى الأرواح النورية بلطافة النار منه فله الحجاب والتشكل وله وجه إلينا به كان عنصريا ومارجا فأعطاه الاسم اللطيف أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم ولا يشعر به ولو لا تنبيه الشارع على لمة الشيطان ووسوسته في صدور الناس ما علم غير أهل الكشف إن ثم شيطانا ومن حكم هذا الاسم اللطيف في الشياطين من الجن قوله تعالى لإبليس واسْتَفْزِزْ من اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشارِكْهُمْ في الْأَمْوالِ والْأَوْلادِ وعِدْهُمْ‏

قال إبليس فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ يعني الذين اصطنعهم الحق لنفسه فجعل من لطفه لإبليس متعلقا يتعلق به في موطن خاص يعرفه العارفون بالله‏

[أن الشيطان يعدهم الفقر]

ثم أخبر الله أن الشيطان يعدهم الفقر لقوله تعالى وعِدْهُمْ فأدرج الرحمة من حيث لا يشعر بها ولو شعر إبليس بهذا الاستدراج الرحماني ما طلب الرحمة من عين المنة ولكن حجبته قرائن الأحوال عن اعتبار الحق صفة الأمر الإلهي فالاسم اللطيف أورث الجان الاستتار عن أعين الناس فلا تدركهم الأبصار إلا إذا تجسدوا وجعل سماعهم القرآن إذا تلي عليهم أحسن من سماع الإنس فإن الإنسان وجد عن الاسم الجامع فما انفرد بخلق الاسم اللطيف الإلهي دون مقابله من الأسماء

فلما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فما قال في آية منها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا قالت الجن ولا بشي‏ء من آلائك ربنا نكذب ثم تلاها بعد ذلك صلى الله عليه وسلم على الإنس من أصحابه فلم يظهر منهم من القول عند التلاوة ما ظهر من الجن فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه إني تلوت هذه السورة على الجن فكانوا أحسن استماعا لها منكم وذكر الحديث‏

ويقول الله عز وجل آمرا وإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا وأخبر عن الجن فقال وإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً من الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ من بَعْدِ مُوسى‏ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ الله وآمِنُوا به يَغْفِرْ لَكُمْ من ذُنُوبِكُمْ ويُجِرْكُمْ من عَذابٍ أَلِيمٍ وما قال الله ولا روى عن أحد من الإنس أنه قال مثل هذا القول فأثر فيهم الاسم اللطيف هذه الآثار في المؤمنين منهم والشياطين وهل حكي عن أحد من كفار الإنس قول مثل قول إبليس وهو قوله بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في الْأَرْضِ ولَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ لما قال الله له إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فقطع يأسه منهم أن يكون له عليهم سلطان وحكم فيهم فهم المعصومون والمحفوظون في الباطن وفي الظاهر من الوقوع عن قصد انتهاك حرمة الله فخواطر المعصومين والمحفوظين كلها ما بين ربانية أو ملكية أو نفسية وعلامة ذلك عند المعصوم أنه لا يجد ترددا في أداء الواجب بين فعله وتركه ويجد التردد بين المندوب والمكروه ولا في ترك واجب تركه لا يجد فيه التردد لأن التردد في مثل هذين هو من خاطر الشيطان فمن وجد من نفسه هذه العلامة علم أنه معصوم فقوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ عن تخلق من قوله فَبِما أَغْوَيْتَنِي والتزيين الذي جاء به من قوله وعِدْهُمْ فإنه يتضمنه فما خرج في أفعاله في العباد عن الأمر اللطيف الذي تجعله قرائن الأحوال وعيدا وتهديدا وللظاهر تعلق بالحكم لاستواء الرحمن على العرش واتساع الرحمة وعمومها حيث لم تبق شيئا إلا حكمت عليه ومن حكمها كان قوله واسْتَفْزِزْ من اسْتَطَعْتَ الآيات فتدبر يا ولي حكم هذا الاسم في الجان مؤمنهم وكافرهم إن لم تكن من أهل الكشف والوجود فتتبع ما ذكر الله في القرآن من أخبارهم وحكايات أفعالهم وأقوالهم مؤمنهم وكافرهم ومن أثر الاسم اللطيف لطف إبليس في آدم في قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى‏ فصدقه وهو الكذوب ولم يكن كذبه إلا في قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ثم علل فقال خَلَقْتَنِي من نارٍ فجمع بين الجهل والكذب فإنه ما هو خير منه لا عند الله ولا في النشأة وفضل بين الأركان ولا فضل بينها في الحقائق فتلطف في الإغواء تلطف المستدرج في الاستدراج والماكر في المكر والخادع في الخداع‏

إن اللطيف من الأسماء معلوم *** ولطفه ظاهر في الخلق موسوم‏

هو اللطيف فما يبدو لناظرنا *** وكيف يدرك لطف الذات معدوم‏

لطف اللطيف بنا نعت له ولنا *** فاللطف في عينه عليه محكوم‏

[أن صورة الروح الناري مجهولة عند البشر]

ثم اعلم أن نسبة الأرواح النارية في الصورة الجرمية أقرب مناسبة للتجلي الإلهي في الصور المشهودة للعين من الجسم الإنساني وما قرب من النسب إلى ذلك الجناب كان أقوى في اللطافة من الأبعد فلا تزال صورة الروح الناري مجهولة عند البشر لا تعلم إلا بإعلام إلهي فإنه إعلام لا يدخله ما يخرجه عن الصدق وكذلك إعلام الأرواح الملكية وأما لو وقع الإعلام من الجن لم نثق به لأنه عنصري الأصل وكل موجود عنصري يقبل الاستحالة مثل أصله والموجود عن الطبيعة من غير وساطة لا يقبل الاستحالة فلهذا لا يدخل أخباره الكذب فلطافته أخفته حتى جهلت صورته فإن قلت فالأرواح الملكية

جعلت لها الاسم الإلهي القوي مع وجود هذا اللطف فيها من الاسم الإلهي اللطيف قلنا صدقت لتعلم أني ما قصدت الاسم الإلهي المعين في إيجاد صنف من أصناف الممكنات إلا لكون ذلك الاسم هو الأغلب عليه وحكمه أمضى فيه مع أنه ما من ممكن يوجد إلا وللأسماء الإلهية المتعلقة بالأكوان فيه أثر لكن بعضها أقوى من بعض في ذلك الممكن المعين وأكثر حكما فيه فلهذا ننسبه إليه كما نسبت يوم السبت لصاحب السماء السابعة والأحد لصاحب السماء الرابعة وهكذا كل يوم لصاحب سماء ومع هذا فلكل صاحب سماء في كل يوم حكم وأثر لكن صاحب اليوم الذي ننسبه إليه أكثر حكما وأقواه فيه من غيره فاعلم هذا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل السابع والثلاثون» في الاسم الإلهي الجامع‏

وتوجهه على إيجاد الإنسان وله من الحروف حرف الميم وله من المنازل المقدرة الفرع المؤخر الاسم الجامع هو الله ولهذا جمع الله لنشأة جسد آدم بين يديه فقال لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وأما خلق الله السماء بأيد فتلك القوة فإن الأيد القوة قال تعالى داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي صاحب القوة ما هو جمع يد وقد جاء في حديث آدم قوله اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة

فلما أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه وأعطاها جميع حقائق العالم وتجلى لها في الأسماء كلها فحازت الصورة الإلهية والصورة الكونية وجعلها روحا للعالم وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبر له فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم كما أنه إذا فارق منه ما فارق كان فراقه لذلك الصنف من العالم كالخدر لبعض الجوارح من الجسم فتتعطل تلك الجارحة لكون الروح الحساس النامي فارقها كما تتعطل الدنيا بمفارقة الإنسان فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه فلما كان له هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته فصحت له الخلافة وتدبير العالم وتفصيله فإذا لم يحز إنسان رتبة الكمال فهو حيوان تشبه صورته الظاهرة صورة الإنسان وكلامنا في الإنسان الكامل‏

[إن الله خلق النوع الإنساني كاملا]

فإن الله ما خلق أولا من هذا النوع إلا الكامل وهو آدم عليه السلام ثم أبان الحق عن مرتبة الكمال لهذا النوع فمن حازها منه فهو الإنسان الذي أريده ومن نزل عن تلك الرتبة فعنده من الإنسانية بحسب ما تبقي له وليس في الموجودات من وسع الحق سواه وما وسعه إلا بقبول الصورة فهو مجلى الحق والحق مجلى حقائق العالم بروحه الذي هو الإنسان وأعطى المؤخر لأنه آخر نوع ظهر فأوليته حق وآخريته خلق فهو الأول من حيث الصورة الإلهية والآخر من حيث الصورة الكونية والظاهر بالصورتين والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وقد ظهر حكم هذا في عدم علم الملائكة بمنزلته مع كون الله قد قال لهم إنه خليفة فكيف بهم لو لم يقل لهم ذلك فلم يكن ذلك إلا لبطونه عن الملائكة وهم من العالم الأعلى العالم بما في الآخرة وبعض الأولى فإنهم لو علموا ما يكون في الأولى ما جهلوا رتبة آدم عليه السلام مع التعريف وما عرفه من العالم إلا اللوح والقلم وهم العالون ولا يتمكن لهم إنكاره والقلم قد سطره واللوح قد حواه فإن القلم لما سطره سطر رتبته وما يكون منه واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه قال الله تعالى لإبليس أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ على طريق استفهام التقرير بما هو به عالم ليقيم شهادته على نفسه بما ينطق به فقال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فاستكبر عليه لا على أمر الله وما كان من العالين فأخذه الله بقوله وكانَ من الْكافِرِينَ نعمة الله عليه حين أمره بالسجود لآدم وألحقه بالملإ الأعلى في الخطاب بذلك فحرمه الله لشؤم النشأة لعنصرية ولو لا إن الله تعالى جمع لآدم في خلقه بين يديه فحاز الصورتين وإلا كان من جملة الحيوان الذي يمشي على رجليه ولهذا

قال صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران‏

فالكمل هم الخلائف واستخدم الله له العالم كله فما من حقيقة صورية في العالم الأعلى والأسفل إلا وهي ناظرة إليه نظر كمال أمينة على سر أودعها الله إياه لتوصله إليه وقولي صورية أي لها صورة معينة في العالم تحوز مكانها ومكانتها وهذا القدر من الإشارة إلى حكم هذا الاسم الإلهي الجامع في هذا النوع كاف في حصول الغرض من نفس الرحمن فإنه حاز العماء كله ولهذا كان له حرف الميم من حيث صورته وهو آخر الحروف وليس بعده إلا الواو الذي هو للمراتب فيدخل فيه الحق والخلق لعموم الرتبة فلنذكرها في الفصل الذي يلي هذا الفصل وأي اسم لها فنقول‏

«الفصل الثامن والثلاثون» في الاسم الإلهي رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ‏

وتوجهه على تعيين المراتب لا على إيجادها

لأنها نسب لا تتصف بالوجود إذ لا عين لها ولها من الحروف حرف الواو ومن المنازل المقدرة الرشاء وهو الحبل الذي للفرع وهذه صورته في الهامش‏

[ظهور أعلى مراتب إلهية في الإنسان‏]

اعلم أن المراتب كلها إلهية بالأصالة وظهرت أحكامها في الكون وأعلى رتبة إلهية ظهرت في الإنسان الكامل فأعلى الرتب رتبة الغني عن كل شي‏ء وتلك الرتبة لا تنبغي إلا لله من حيث ذاته وأعلى الرتب في العالم الغني بكل شي‏ء وإن شئت قلت الفقر إلى كل شي‏ء وتلك رتبة الإنسان الكامل فإن كل شي‏ء خلق له ومن أجله وسخر له لما علم الله من حاجته إليه فليس له غنى عنه والحاجة لا تكون إلا لمن بيده قضاؤها وليس إلا الله الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فلا بد أن يتجلى لهذا الإنسان الكامل في صورة كل شي‏ء ليؤدي إليه من صورة ذلك الشي‏ء ما هو محتاج إليه وما يكون به قوامه ولما اتصف الله لعباده بالغيرة أظهر حكمها فأبان لهم أنه المتجلي في صورة كل شي‏ء حتى لا يفتقر إلا إليه خاصة فقال عز وجل يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله فافهم وتحقق ركون الناس إلى صور الأسباب وافتقارهم إليها وأثبت الله افتقار الناس إليه لا إلى غيره ليبين لهم أنه المتجلي في صور الأسباب وأن الأسباب التي هي الصور حجاب عنه ليعلم ذلك العلماء لعلمهم بالمراتب‏

[أن لكل اسم من الأسماء مرتبة ليست للآخر]

واعلم أن لكل اسم من الأسماء مرتبة ليست للآخر ولكل صورة في العالم رتبة ليست للصورة الأخرى فالمراتب لا تتناهى وهي الدرجات وفيها رفيع وأرفع سواء كانت إلهية أو كونية فإن الرتب الكونية إلهية فما ثم رتبة إلا رفيعة وتقع المفاضلة في الرفعة ومن هنا تعرف مال الثقلين عرفان ذوق فإن ما لهم لا بد أن يكون إلى مرتبة إلهية وما عدا الثقلين فما لهم معروف عند العلماء الإلهيين ومال الثقلين لا يعلم مرتبته إلا الخصوص من العلماء بالله وإنما كان لها الواو لأن الواو لها الستة من مراتب العدد وهي أول عدد كامل والكمال في العالم إنما كان بالمرتبة فأعطيناه الواو ومن المنازل الرشاء وهو الحبل والحبل الوصل وبه يكون الاعتصام كما هو بالله فأنزل الحبل منزلته فلو لا إن رتبة الحبل أعطت ذلك ما ثبت قوله واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله كما قال واعْتَصَمُوا بِاللَّهِ فافهم أين جعل رتبة الحبل وبأي اسم قرنه وإلى أي اسم أضافه‏

[أن الصور سبب تمييز الأعيان‏]

واعلم أنه لو لا الصور ما تميزت الأعيان ولو لا المراتب ما علمت مقادير الأشياء ولا كانت تنزل كل صورة منزلتها كما قالت عائشة أنزلوا الناس منازلهم وبالرتبة علم الفاضل والمفضول وبها ميز بين الله والعالم وبها ظهرت حقائق ما هي عليه الأسماء الإلهية من عموم التعلق وخصوصه فلنذكر في هذا الفصل مناسبة الأسماء الإلهية التي ذكرناها للحروف التي عيناها والمنازل التي أوردناها ليرتبط الكل بعضه ببعضه فكما جمع العماء صور الموجودات الذي هو النفس الإلهي كذلك جمع الحروف النفس الإنساني كما جمع الفلك المنازل المقدرة لنزول الدراري فيها المبينة مقادير البروج في الفلك الأطلس فنقول إني ما قصدت بهذا المساق ترتيب إيجاد العالم وإنه وجد هذا بعد هذا فإن ترتيب إيجاد العالم قد ذكرناه في هذا الكتاب وإنه على خلاف ما يقوله حكماء الفلاسفة وإنما قصدنا معرفة ما أثرت الأسماء الإلهية في الممكنات في ممكن ممكن منها سواء تقدم على المذكور قبله أو تأخر ورتبة الموجودات على ما هي الآن عليه في وصفها وتقييدها وذكرنا المنازل على ما هي الآن عليه في وضعها وترتيب الحروف على مخارجها ولا يلزم من هذا ترتيبها في الكلمات المؤلفة منها فقد تكون الكلمة الأولى من حروف الوسط مثل كلمة كن وقبلها حروف مخارجها متقدمة عليها فتنظر الاسم الإلهي الذي يقتضي أن يكون له الأثر في العالم ابتداء فتجده البديع لأنه لم يتقدم العالم عالم يكون هذا على مثاله فالبديع له الحكم في ابتداء العالم على غير مثال وليس المبدئ كذلك والمعيد يطلب المبدئ ما يطلب البديع والبديع له الحكم في النشأة الآخرة فينا كما كان له الحكم في النشأة الدنيا فإنها على غير مثال هذه النشأة وهو قوله تعالى ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ يعني أنها كانت على غير مثال سبق وقال كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي على غير مثال فالبديع حيث كان حكمه ظاهر نفي المثال وما انتفى عنه المثال فهو أول فأعطيناه أول الزمان اليومي وهو الذي ظهر بوجود الشمس في الحمل وأوله الشرطين وأعطيناه من الحروف الهاء فإنها أول حرف ظهر في المخرج الأول والاسم أعطى العين الموجودة والعين الموجودة ظهر بها الزمان الذي هو مقارنة حادث لحادث يسأل عنه بمتى فإن كان الموجود ذا نفس في مادة أعطى الحرف وترتيب المنازل بحلول الشمس لإظهار أعيان الفصول التي بها قوام المولدات فالحروف تحكم على الكلمات والكواكب تحكم على فصول الزمان والأسماء تحكم في الموجودات والأعيان مقسمة بين فاعل ومنفعل فإذا فهمت هذا نسبت كل‏

اسم إلهي إلى متعلقة غالبا وإن كان لغيره فيه حكم وقد تقدم الكلام في مثل هذا ومتعلقة موجود ما أو حكم في موجود ثم ربط الوجود بعضه ببعضه بين فاعل ومنفعل وجوهر وعرض ومكان وزمان وإضافة وغير ذلك من تقاسيم الأشياء فيه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل التاسع والثلاثون» في النقل في الأنفاس‏

[ما المراد بالنقل‏]

اعلم أن المراد بالنقل أن ينقل حكم الآخر إلى الأول ويجعل محله من الأول آخرا وقد كان في الآخر أولا ويزيل من الآخر عين ما ظهر فيه هذا الحكم والعين واحدة فإنه قال هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والهوية واحدة العين وانتقل الحكم من آخر إلى أول في عين واحدة ولا يكون هذا النقل الخاص في هذا الباب إلا نقل الموجود من حال شدة إلى حال رخاء ومن عسر إلى يسر فالنقل تسهيل طريق إلى وجود الرحمة وهذا النقل يظهر في ثلاث مراتب المرتبة الأولى أن يظهر في الصور الممثلة على صورة المحسوس فيكون لها حكم المحسوسات وليست بمحسوسات وهي من وجه محسوسات فينتقل إليها ذلك الحكم ليعلم أن للظهور في صورة ما من الموجود المنزه عن التأثير حكم الصورة التي ظهر فيها فانتقل الحكم إلى الذي كان لا يقبله قبل هذا لظهوره بالصورة التي هذا الحكم لها كما انتقل حكم البشر إلى الروح لما ظهر بصورة البشر فأعطى الولد الذي هو عيسى وليس ذلك من شأن الأرواح ولكن انتقل حكم الصورة إليها بقبوله للصورة فمن ظهر في صورة

كان له حكمها ومن هنا تعرف مرتبة الإنسان الكامل الذي خلقه الله على صورته ولتلك الصورة حكم فتبع الحكم الصورة فلم يدع الألوهية لنفسه أحد من خلق الله إلا الإنسان الذي ظهر بأحكام الأسماء والنيابة فكان ملكا مطاعا كفرعون وغيره وقد يظهر حكم النقل في مرتبة المعرفة وهي المرتبة الثانية

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرف نفسه عرف ربه‏

وذلك بنقل الحكم الذي كان لنفسه إلى ربه لما علم أنه ما في الوجود إلا الله والمرتبة الثالثة الانتقال في جميع المراتب فينتقل حكم المنزلة للنازل فيها كانت المنزلة ما كانت مما تحمد أو تذم وإذا انتقل الحكم انتقل الحكم فيها بحسب ما تقرر في العرف والوضع العادي والشرعي أ لا ترى الروح الجني إذا لبس صورة الحية والحكم فيها منا القتل قتلناه لصورته ولو علمنا أنه جان ما قتلناه كما انتقل حكم الصورة في الجان فحكمت عليه أنه حية عاملناه فحكمنا في تلك الصورة

روينا حديثا عن شخص من جن وفد نصيبين الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الوفد من الجن لما كان لهم الظهور في أي صورة شاءوا فحكم عليهم إنه من تصور في غير صورته فقتل فلا عقل فيه ولا قود

فإنه من قتل حية أو عقربا لا يقتل به ولا تؤخذ فيه دية فمن ظهر في صورة من هذا حكمه انسحب عليه هذا الحكم‏

«الفصل الأربعون» في الجلي والخفي من الأنفاس‏

فالجلي ما ظهر والخفي ما استتر ولا يكون الاستتار والخفاء إلا في الأمثال وأما في غير الأمثال فلا لأن غير المثل لا يقبل صورة من ليس مثله أ لا ترى‏

قوله عليه السلام حين قال إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

لأنه قال فيه إنه خلقه على صورته فجعله مثلا ثم نفى أن يماثل ذلك المثل فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ أي ليس مثل مثله شي‏ء فنفى أن يماثل المثل فاستتر الحق بصورة العبد في قوله سمع الله لمن حمده فإن المترجم عنه اسم مفعول يستتر بظهور المترجم اسم فاعل في باب المماثلة له فيما يطلبه من الأمور التي لا صورة لها في المترجم لهم من حيث ما يعرفها المترجم عنه في لسانه فيظهر المترجم عنه بصورة المترجم عنه المعنوية وبصورة المترجم لهم المحسوسة فيظهر بالصورتين فإنه سماه عبدا وهو عبد قائل عن حق فكان لسانه لسان حق في قوله سمع الله لمن حمده وما زال عن كونه عبدا في ذلك فالله تعالى يظهرنا وقتا ويستر نفسه فيما هو له ووقتا يظهر نفسه ويسترنا بحسب المواطن حكمة منه فالكامل من أهل الله ينظر مراد الله في الوقائع فأي عين أراد الله ظهورها أظهر وأي عين أراد الله سترها سترها والأدب يقضي بأمر كلي أن ما حسن عرفا وشرعا نسبة للحق فأظهر الحق فيه وجلاه للبصائر والأبصار وما قبح عرفا وشرعا نسبه إلى نفسه إن شاء وأظهر نفسه فيه وجلاه أو نسبه إلى الشيطان إن شاء وأظهر عين الشيطان فيه وجلاه فيكون باطنه حقا لقوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها وكُلٌّ من عِنْدِ الله ولكن مع هذا كله لا بد إن لم يكن مثلا يصيره مثلا وحينئذ يستره وإلا فما يستتر فإنه ما ثم مثل إلا الإنسان فهو يقبل الاستتار وما عدا الإنسان فلا يقبله فإنه ليس بمثل فإذا أردت أن تستره‏

في الحق صيرته مثلا وحينئذ يقبل الستر بالصيرورة فالأسباب كلها خلاف إلا الإنسان قال الله تعالى من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله فحلاه باسمه وكان ظاهرا فستره إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله فأظهره بكاف الخطاب ثم ستره وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ كما أنه ميز وعين وفرق فقال أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله حكما وإلى الرَّسُولَ عينا فمن أهل الله من يقيم مثل هذا إذا ورد نشأة ذات روح وجسد فيستر بالحركة المحسوسة فعل الروح بصرا ويستر بالمحرك فعل الجسد بصيرة وفيها يكون الإنسان خالقا ويكون الحق أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ومن أهل الله من لا يرى إلا الله فلا ستر عنده ومن أهل الله من لا يرى إلا الخلق فلا ظهور عنده وكل مصيب وأهل الأدب هم الكمل فيحكمون في هذا الأمر بما حكم الله من ستر وتجل وإخفاء وإظهار كما قدمنا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الحادي والأربعون» في الاعتدال والانحراف من النفس‏

[إن أهل الله على أقسام‏]

اعلم أن أهل الله في هذا الباب على ثلاثة أقسام قسم يرى أن الحق لا يميل ولا يمال إليه وهم الذين يحدون الحب بالميل الدائم من المحب للمحبوب وقسم يرى أن خلق الإنسان على الصورة يعطي الاعتدال وإن لم يكن الاعتدال فما هو على الصورة فيميل حيث مال الحق مثل قوله تعالى وأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً في شرع خاص فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ثم قال ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ به فجعل هذا التعريف وصية ليعمل بها وهذا عين الميل عن قوله وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وعن قوله ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها فأهل الاعتدال هم القائمون بين الانحرافين وأهل الانحراف عن هذا الاعتدال هم الذين يثبتون في الأفعال الكونية علوا وسفلا حقا بلا خلق وهم طائفة وطائفة أخرى يثبتونها خلقا بلا حق حقيقة من الطائفتين لا على طريق المجاز وهم الذين يقولون إنه ما صدر عن الحق إلا واحد وعن الترجيح في رفع التجريح والنظر في الخطاب الإلهي ففي أي موضع جعل الحكم لأحد الانحرافين جعلناه وفي أي موضع عدل إلى الاعتدال عدلنا وهذا نعت الأدباء مع الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الثاني والأربعون» في الاعتماد على الناقص والميل إليه‏

هذا باب الاعتماد على الأسباب كلها إلا السبب الإنساني الكامل فإنه من اعتمد عليه فما اعتمد على ناقص لظهوره بالصورة وما عداه من الأسباب فهو ناقص عن هذه المرتبة نقص المرأة عن الرجل بالدرجة التي بينهما وإن كملت المرأة فما كمالها كمال الرجل لأجل تلك الدرجة فمن جعل الدرجة كون حواء وجدت من آدم فلم يكن لها ظهور إلا به فله عليها درجة السببية فلا تلحقه فيها أبدا وهذه قضية في عين ونقابلها بمريم في وجود عيسى فإذا الدرجة ما هي سبب ظهورها عنه وإنما المرأة محل الانفعال والرجل ليس كذلك ومحل الانفعال لا يكون له رتبة أن يفعل فلها النقص ومع النقص يعتمد عليها ويمال إليها لقبولها الانفعال فيها وعندها فما وضع الله الأسباب سدى إلا لنقول بها ونعتمد عليها اعتمادا إلهيا أعطت الحكمة الإلهية ذلك مع نظرنا إلى الوجه في كل منفعل بها سواء شعر السبب بذلك الوجه أو لم يشعر فالحكيم الإلهي الأديب من ينزل الأسباب حيث أنزلها الله فمن يشاهد الوجه الخاص في كل منفعل يقول إن الله يفعل عندها لا بها ومن لا يشاهد الوجه الخاص يقول إن الله يفعل الأشياء بها فيجعل الأسباب كالآلة يثبتها ولا يضيف إليها كالنجار الذي لا يصل إلى عمل صورة تابوت أو كرسي إلا بآلة القدوم والمنشار وغيرهما من الآلات مما لا يتم فعله إلا بها لا عندها فتثبتها ولا تضيف صنعة التابوت إليها وإنما يثبت ذلك للنجار صاحب التدبير والعلم بما ظهر عنه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الثالث والأربعون» في الإعادة

الإعادة تكرار الأمثال أو العين في الوجود وذلك جائز وليس بواقع أعني تكرار العين للاتساع الإلهي ولكن الإنسان في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ فهي أمثال يعسر الفصل فيها لقوة الشبه فالإعادة إنما هي في الحكم مثل السلطان يولي واليا ثم يعزله ثم يوليه بعد عزله فالإعادة في الولاية والولاية نسبة لا عين وجودي أ لا ترى الإعادة يوم القيامة إنما هي في التدبير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ميز بين نشأة الدنيا ونشأة الآخرة والروح المدبر لنشأة الدنيا عاد إلى تدبير النشأة الآخرة فهي إعادة حكم ونسبة لا إعادة عين فقدت ثم وجدت وأين مزاج‏

من يبول ويغوط ويتمخط من مزاج لا يبول ولا يغوط ولا يتمخط والأعيان التي هي الجواهر ما فقدت من الوجود حتى تعاد إليه بل لم تزل موجودة العين ولا إعادة في الوجود لموجود فإنه موجود وإنما هي هيأت وامتزاجات نسبية وأما قولنا بالجواز في الإعادة في الهيئة والمزاج الذي ذهب فلقوله ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ وما شاء فإن المخبر عن الله فرق بين نشأة الدنيا ونشأة الأخرى وفرق بين نشأة أهل السعادة ونشأة أهل الشقاء فنشأة أهل السعادة لها اللطف والرقة ولا سيما للمتشرعين المنكسرة قلوبهم الناظرين إلى الرسول دائما بعين حق مع شهود بشريته وإنه من الجنس ومن عادة الجنس الحسد إذا ظهر التفوق وقد ارتفع عن هؤلاء ولهم فتح البركات من السماء والأرض كما لأهل الشقاء فتح العذاب والزيادة لما زادوا هنا من المرض في قلوبهم عند ورود الآيات الإلهية لإثبات الشرائع فكلاهما أهل فتح ولكن بما ذا فاعلم ذلك فإنه في علم الأنفاس دقيق والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الرابع والأربعون» في اللطيف من النفس‏

يرجع كثيفا وما سببه والكثيف يرجع لطيفا وما سببه كالملحن في الرفع والخفض في صوته اعلم أن اللطف من المحال أن يرجع كثافة فإن الحقائق لا تنقلب ولكن اللطيف يرجع كثيفا كالحار يرجع باردا والبارد حارا

[إن الأرواح إذا تجسدت كثفت‏]

فاعلم أن الأرواح لها اللطافة فإذا تجسدت وظهرت بصورة الأجسام كثفت في عين الناظر إليها والأجسام لها الكثافة شفافها وغير شفافها فإذا تحولت في الصور في عين الرائي أو احتجبت مع الحضور فقد تروحنت أي صار لها حكم الأرواح في الاستتار وتتنوع الصور عليها كما تتنوع عليها الأعراض بحمرة الخجل وصفرة الوجل وهو انموذج منبئ أن لها قوة التحول في الصور إذا قامت بها أسباب ذلك فأما سبب كثافة الأرواح وهي من عالم اللطف فلكونهم خلقوا من الطبيعة وإن كانت أجسامهم نورية فمن نور الطبيعة كنور السراج فلهذا قبلوا الكثافة فظهروا بصور الأجسام الكثيفة كما أثر فيهم الخصام حكم الطبيعة لما

فيها من التقابل والتضاد والضد والمقابل منازع لمقابله كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى الله عنه ما كانَ لِي من عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى‏ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فوصفهم بالخصومة فمن هذه الحقيقة التي أورثتهم الخصومة تجسدوا في صور الأجسام الكثيفة وأما الكثيف يرجع لطيفا فسببه التحليل فإن الكثائف من عالم الاستحالة وكل ما يقبل الاستحالة يقبل الصور المختلفة والمتضادة وأظهر ما يكون ذلك في أهل التلحين فالصوت بما هو صوت لا تتبدل صورته فيغلظه الملحن في موضع ويرققه في موضع بحسب الرتبة التي يقصدها ليؤثر بذلك في طبيعة السامعين ما شاء من فرح وسرور وانبساط أو حزن وهم وانقباض ولهذا جعلوا ذلك في الموسيقى في أربعة في البم والزير والمثنى والمثلث فإن المحل الذي يريدون أن تؤثر فيه هذه الأصوات مركب من مشاكلتها من مرتين ودم وبلغم فيهيج سماع هذا الصوت ما يشاكله من الأخلاط التي هو عليها السامع فيكون الحكم بسبب معين يقصده الملحن حتى يكون له ذلك سببا إلى معرفة الأصل في قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ فهو قصد الملحن أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فأتى بالكلام الذي هو الصوت الممتد والمنقطع في المخارج لإظهار أعيان الحروف التي تقع بها الفائدة عند السامع أ لا ترى إلى صوت السنانير وإن لم يكن لهم حروف تتقطع في نفسها يغيرون أصواتهم لتغير أحوالهم ليعرفوا السامع ما يقصدونه بذلك الصوت فعند الجوع يرق صوت السنور ويخفى ويلطف وعند الهياج يغلظ ويجهل ويتتابع فيعلم من صوته أنه هائج أو أنه جائع فيؤثر ذلك في نفس السامع بحسب قبوله إما رقة وحنانا فيطعمه وإما غير ذلك ثم إن في هذا الباب يظهر تجلى الحق في الصور التي ينكر فيها أو يرى فيها في النوم فيرى الحق في صورة الخلق بسبب حضرة الخيال فإن الحضرات تحكم على النازل فيها وتكسوه من خلعها ما تشاء أين هذا التجلي من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ومن سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ فالحكم للحضرة والموطن لأن الحكم للحقائق والمعاني توجب أحكامها لمن قامت به وإذا كان هذا الحكم في العلم الإلهي فظهوره في أعيان المحدثات أقرب مأخذ الوجود المناسبة الإمكانية والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الخامس والأربعون» في الاعتماد على أصل المحدثات‏

أصل المحدثات هو ما ترجع إليه بعد فراغها من النظر في ذاتها وهو في‏

قول الشارع من عرف نفسه عرف ربه‏

وقد تكون المعرفة بالله الحاصلة بعد المعرفة بالنفس علما بالعجز

عن البلوغ إلى ذلك فيحصل لهم العلم بأنه ثم من لا يعلم فترك العلامة علامة فقد تميز عن خلقه بسلب لا بإثبات وقد تكون المعرفة به من كونه إلها فيعلم ما تستحقه المرتبة فيجعلون ذلك صفة لمن قامت به تلك المرتبة وظهر فيها فيكون علمهم بما تقتضيه الرتبة علمهم بصاحبها إذ هو المنعوت بها فهو المنعوت بكل ما ينبغي لها أن توصف به وعلى الحقيقة يعلم أن هذا علم بالمرتبة لا به لكن يعلم أنه ما في وسع الممكن أكثر من هذا في باب النظر وإقامة الأدلة فإن كشف الله عن بصر الممكن بتجل يظهر له به الحق يعلم عند ذلك ما هو الأمر عليه فيكون بحسب ما يعلمه ومن أهل النظر من يروم هذا الحكم الذي ذهب إليه صاحب التجلي ولكن لا يقوى فيه لأنه خائف من الغلط في ذلك لعدم الذوق فهو يرومه ولا يظهر به والمعتمدون على هذا الأصل على طبقات لاختلافهم في أحوالهم فمنهم من يعتمد عليه في كل شي‏ء عند ظهور ذلك الشي‏ء ومنهم من يعتمد عليه في الأشياء قبل ظهور الأشياء ومنهم من ترده الأشياء إليه فيعتمد عليه بعد أن كان يعتمد على الأشياء وذلك كله راجع إلى استعداداتهم‏

[علم السكون والحركة]

واعلم أن هذا الباب يتضمن علم السكون والحركة أي علم الثبوت والإقامة وعلم التغيير والانتقال قال تعالى ولَهُ ما سَكَنَ أي ما ثبت فإن نعت القديم ثابت ونعت المحدثات يثبت لثبوتها ويزول لزوالها ويتغير عليها النعت لقبولها التغيير لأنها كانت معدومة فوجدت فقبلت الوجود فلم تثبت على حالة العدم فلما كان أصلها قبول التنقل من حال إلى حال تغيرت عليها النعوت فلم تثبت الأعلى التغيير لا على نعت معين والسكون أيضا لما كان عدم الحركة لا يصح فيه دعوى أضافه الحق إليه والحركة لما كانت الدعوى تصحبها أي تصحب لمن ظهر بها لم يقل تعالى إنه له ما تحرك فإن الدعوى تدخلها من المحركين والوجه الثبوت لا العدم فله الثبوت وللعالم الزوال وإن ثبت فإن ذلك ليس من نفسه وإنما ذلك من مثبته‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول لبيد

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل‏

قال هذا أصدق بيت قالته العرب‏

وإن كانت الأشياء موجودة فهي في حكم العدم لجواز ذلك عليها وإن لم يقع والاعتماد لا نشك أنه سكون إلى من يعتمد عليه لا بد من ذلك ولا يعتمد إلا على من له ثبوت الوجود ولا يقبل التغيير ولا الانتقال من حال الثبوت ومن علم أنه يقبل الانتقال من الثبوت لا يعتمد عليه لأنه يخون المعتمد عليه ذلك الاعتماد لارتباطه بمن لا ثبوت له فلا يعتمد على محدث إلا عن كشف وإعلام إلهي فيكون اعتمادنا على من له نعت الثبوت كاعتمادنا على الشرائع فيما يجب الايمان به فلو لا التعريف الإلهي بما أظهره من الآيات على صدقه لم نثبت على ذلك كما لا نثبت على الحكم ثبوت من لا ينتقل لجواز النسخ وكل ذلك شرع يجب الايمان به فإن النسخ لما كان عبارة عن انتهاء مدة ذلك الحكم أعقبه حكم آخر لا أن الأول استحال بل انقضى لانقضاء مدته لارتباطه في الأصل بمدة يعلمها الله معينة وإن لم نعلم نحن ذلك فلا نعتمد على سبب محدث عادي إلا بإعلام من الله إنه يثبت حكمه كالإيمان الذي تثبت معه السعادة فيعتمد عليه فنقول إن السعادة مرتبطة بالإيمان بالله وبما جاء من عنده لإعلام الحق بذلك ولا يعتمد عليه في بقائه بالشخص الذي نراه مؤمنا فإنه قد يقوم به أمر عارض يحول بينه وبين الايمان الذي يعطي السعادة فتنتفى السعادة عنه لانتفاء الايمان بخلاف العلم فإن العلم له الثبوت ولا تؤثر فيه الغفلات فإنه لا يلزم العالم الحضور مع علمه في كل نفس لأنه وال مشغول بتدبير ما ولاة الله عليه فيغفل عن كونه عالما بالله ولا يخرجه ذلك عن حكم نعته بأنه عالم بالله مع وجود الضد في المحل من غفلة أو نوم ولا جهل بعد علم أبدا إلا إن كان العلم قد حصل عن نظر في دليل عقلي فإن مثل ذلك ليس عندنا بعلم لتطرق الشبه على صاحبه وإن وافق العلم وإنما العلم من لا يقبل صاحبه شبهة وذلك ليس إلا علم الأذواق فذلك الذي نقول فيه إنه علم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل السادس والأربعون» في الاعتماد على العالم‏

من كونه هو الكتاب المسطور في رق الوجود المنشور في عالم الأجرام الكائن من الاسم الله الظاهر

[الاعتماد على صاحب علم إلهى‏]

اعلم أن هذا الاعتماد لا يصح إلا أن يكون صاحبه صاحب علم بتعريف إلهي وذلك أن العالم إنما جئنا به بهذه اللفظة لنعلم إنا نريد به جعله علامة ولما ثبت أن الوجود عين الحق وأن ظهور تنوع الصور فيه علامة على أحكام أعيان الممكنات الثابتة فسميت تلك الصور الظاهرة بالحكم في عين الحق ظهور الكتاب في الرق عالما وأظهرها الاسم الإلهي الظاهر بل ظهر بها فهذا باب يتميز فيه الحق من الخلق وأن تنوع الصور لم يؤثر في العين الظاهرة

فيها هذه الصور كما لا يتغير الجوهر عن جوهريته بما يظهر عليه من الأحوال والأعراض فإن ذلك الظاهر حكم المعنى المبطون الذي لا وجود له إلا بالحكم في عين الناظر فأحكامه لا موجودة ولا معدومة وإن كانت ثابتة فيعتمد على العالم بأنه علامة لا على الله فإن الله غني عن العالمين وإنما هو علامة على ثبوت المعاني التي لها هذه الأحكام الظاهرة في عين حق فالعالم علامة على نفسه وهكذا كل شي‏ء فلا شي‏ء أدل من الشي‏ء على نفسه فإنها دلالة لا تزول والدلالات الغريبة تزول ولا تتبعت فمن اعتمد على العالم من هذا الوجه فقد اعتمد على أمر صحيح لا يتبدل ولا يكون الاعتماد على الحقيقة إلا عليه على هذا الوجه فإن الحق إذا كان كل يوم في شأن فلا يدرى ما يكون ذلك الشأن فلا يقدر على الاعتماد على من لا يعلم ما في نفسه فالكامل من أهل الله من يتنوع لتنوع الشئون فإن الحق ما يظهر في الوجود إلا بصور الشئون فيكون اعتماد هذا الشخص اعتمادا إلهيا أي هو متصف في ذلك بنعت الحق في قبوله الشئون التي تظهر للعالم بها وهذا من العلم المضنون به على غير أهله فاعلم ذلك والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل السابع والأربعون» في الاعتماد على الوعد قبل كونه‏

وهو الاعتماد على المعدوم لصدق الوعد

[إن الخبر الصادق إذا لم يكن حكما لا يدخله نسخ‏]

اعلم أن هذا الباب ما نفس الله به عن عباده وهو نفس الرحمن فإن الخبر الصدق إذا لم يكن حكما لا يدخله نسخ وقد ورد بطريق الخبر الوعد والوعيد فجاء نفس الرحمن بثبوت الوعد ونفوذه والتوقف في نفوذ الوعيد في حق شخص شخص وذلك لكون الشريعة نزلت بلسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بحسب ما تواطئوا عليه فمما تواطئوا عليه في حق المنعوت بالكرم والكمال إنفاذ الوعد وإزالة حكم الوعيد فقال أهل اللسان في ذلك على طريق المدح‏

وإني إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادى ومنجز موعدي‏

وقد ورد في الصحيح ليس شي‏ء أحب إلى الله من أن يمدح‏

والمدح بالتجاوز عن المسي‏ء غاية المدح فالله أولى به تعالى والصدق في الوعد مما يتمدح به قال تعالى فَلا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ فذكر الوعد وأخبر عن الإيعاد في تمام الآية بقوله إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ وقال في الوعيد بالمشيئة وفي الوعد بنفوذه ولا بد ولم يعلقه بالمشيئة في حق المحسن لكن في حق المسي‏ء علق المشيئة بالمغفرة والعذاب فيعتمد على وعد الله فلا ظهور له إلا بوجود ما وعد به وهو بعد ما وجد والاعتماد عليه لا بد منه لما يعطيه التواطؤ في اللسان وصدق الخبر الإلهي بالدليل والله عند ظن عبده به فليظن به خيرا والظن هنا ينبغي أن يخرج مخرج العلم كما ظهر ذلك في قوله عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ... وظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ من الله إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا وتيقنوا وقال أهل اللسان في ذلك‏

فقلت لهم ظنوا بالغي مدجج‏

أي تيقنوا

[أن مرتبة الظن برزخية]

واعلموا فإن الظن لما كانت مرتبته برزخية لها وجه إلى العلم وإلى نقيضه ثم دلت قرائن الأحوال على وجه العلم فيه حكمنا عليه بحكم العلم وأنزلناه منزلة اليقين مع بقاء اسم الظن عليه لا حكمه فإن الظن لا يكون إلا بنوع من ترجيح يتميز به عن الشك فإن الشك لا ترجيح فيه والظن فيه نوع من الترجيح إلى جانب العلم وكذا قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا فأبان أن في الظن ترجيحا ولا بد إما إلى جانب الخير وإما إلى جانب الشر والله عند ظن عبده به ولكن ما وقف هنا لأن رحمته سبقت غضبه فقال معلما فليظن بي خيرا على جهة الأمر فمن لم يظن به خيرا فقد عصى أمر الله وجهل ما يقتضيه الكرم الإلهي فإنه لو وقع التساوي من غير ترجيح كالشك لكان من أهل من يقول إن عدله لا يؤثر في فضله ولا فضله في عدله فلما كان الظن يدخله الترجيح أمرنا الحق أن نرجح به جانب الخير في حقنا ليكون عند ظننا به فإنه رحيم فمن أساء الظن بأمر فإن العائد عليه سوء ظنه لا غير ذلك والله يجعلنا من أهل العلم وإن قضى علينا بالظن فنظن الخير بالله وقد فعل بحمد الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الثامن والأربعون» في الاعتماد على الكنايات‏

وما يظهر منها من الفتوح وهي المعبر عنها بالإنية في الطريق وكيف يعتل الصحيح ويصح المعتل‏

[أن كل ما سوى الله فإنه معلول بالذات صحيح بالعرض‏]

اعلم أيدك الله أن كل ما سوى الله فإنه معتل بالذات صحيح بالعرض فإن الصحة تعرض للمحدث إذا أحبه الله حب سبب كحبه لأصحاب التقرب بالنوافل فيكون الحق سمعهم وبصرهم فيزول عنه المرض والاعتلال ويصح فينفذ بصره في كل مبصر وسمعه في كل مسموع وأما الصحيح بالذات المعتل بالعرض فهو

الذي يرى أن الوجود ليس سوى عين الحق فهو من حيث عينه لا تقوم به العلل غير أنه لما ظهر في أعين الناظرين إليه في صور مختلفة حكمت عليه بذلك أحكام أعيان الممكنات ظهر معتلا بحكم العرض الذي عرض لا عين الناظرين إليه وهو في نفسه على ما هو عليه كما يعرض للنور في عين الناظر صور الألوان وهو في نفسه غير متلون فهذا قد عاد الصحيح معتلا وأما الاعتماد على الكنايات لأنها أعرف المعارف والاعتماد لا يكون إلا على معروف لأجل التعيين فلو كان منكرا لم يتميز ولم يتعين فيكون الاعتماد على غير معتمد والأسماء لا تقوى قوة الكنايات فلا يخيب المعتمد على الكنايات وقد يخيب المعتمد على الأسماء لأنها لا تقوى قوة الكنايات في المعرفة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة لأنه لا يتغير والأسماء قد تنتقل وتستعار فمن اعتمد على الاسم في حال كونه معارا أو منتقلا يخيب المعتمد عليه فالمستعار كالاشتعال الذي هو اسم مخصوص نعت من نعوت أحوال النار المركبة فاستعير للشيب في قوله واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وأما الانتقال فمثل قوله جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فنقل اسم المريد لمن ليس من شأنه أن يريد فإن اعتمد على هذا الاسم في حال نقله خاب المعتمد عليه والكنايات ليست كذلك ولها فتوح المكاشفة بالحق وفتوح الحلاوة في الباطن كما للأسماء فتوح العبارة

«الفصل التاسع والأربعون» فيما يعدم ويوجد

مما يزيد على الأصول كالنوافل مع الفرائض اعلم أنه لا يسمى بالزائد من تطلبه الذات لكمال حقيقتها فما زاد على أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فهو زائد وهو إذا عدم لم يتأثر المعدوم عنه بعدمه وإن وجد لم يزد الموجود فيه في ذاته شيئا لم يكن عليه مثل الأحوال عند أصحاب المقامات إن وجدت فيهم لم يزد ذلك في مكانتهم وإن عدمت لم ينقص عدمها من مكانتهم ولذلك هي مواهب‏

«الفصل الخمسون» في الأمر الجامع‏

لما يظهر في النفس من الأحكام في كل متنفس حقا مشبها وخلقا وحياة ونطقا وما نفس به من الأقسام الإلهية

[إن الله أفاض للموجودات دائما]

اعلم أن الإمداد الإلهي للموجودات لا ينقطع فإذا قصر فمن القابل لا من جانب الممد فإن أضيف عدم الإمداد في أمر معين إلى جانب الحق فذلك القصر إمداد المصلحة في حق ذلك الممنوع فإنه العالم بمصالح المخلوقات ولهذا ينبغي للعلماء بالله أن لا يعينوا عند سؤالهم حاجة بعينها وليسألوا ما لهم فيه الخير من غير تعيين فكم من سائل عين فلما قضيت حاجته لحكمة يعلمها الله أدركه الندم بعد ذلك على ما عين وتمنى أنه لم يعين فالإمداد تنفس رحماني والإمداد الإلهي في الموجودات طبيعي ومزاد فالطبيعي ما تمس الحاجة إليه لقوام ذاته ودفع ألم يقوم به والمزاد ما يزيد على هذا مما لا يحتاج في نفسه إليه هذا إذا كان من أهل الله القائلين بالري عند الشرب ومن لا يقول بالري فما ثم إمداد مزاد بل كله طبيعي والمزاد على قسمين وهو ما يمده به الحق مما يحتاج إليه الغير وفيه يقول الله آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وهذا المزادان كان عن طلب من الغير وهو الموجب للزيادة مثل ما هو في نفس القاري في‏ء آمن وآدم أو يكون وإن كان إمداد من الله لهذا العبد ليمد به من يعلم الله أنه محتاج إليه ليشرف الواسطة بذلك فيجد هذا العبد في نفسه علما لا يقتضيه حاله فيعلم أن المراد به التعليم والإمداد للغير ومثاله في نفس القاري جاء وشاء ودابة وطامة وهو الموجب للزيادة في الإمداد فدابة وطامة صورتان تدبرهما روح واحدة وهو التضعيف والهمزة نصف حرف عند بعضهم وهو الاسم الظاهر والألف نصف حرف وهو الاسم الباطن فالمجموع حرف واحد وهو السبب الموجب لزيادة الإمداد لما يعلم الممد من حاجته إلى ذلك أو لطلبه وعلى كل حال فنفس الرحمن فيه موجود والزيادة في الإمداد على قدر الحاجة أو الطلب فيفضل بعضه على بعض فالمفضول قصر وجزر عن المد إلا طول الأفضل فاعلم ذلك فالمد إمداد محسوس ظاهر والجزر إمداد معنوي يطلق عليه اسم النقيض فاعلم ذلك‏

«وصل»

إذا اجتمع عارفان في حضرة شهودية عند الله ما حكمهما وهذه مسألة سألني عنها شيخنا يوسف بن يخلف الكومي سنة ست وثمانين وخمسمائة فقلت له يا سيدي هذه مسألة تفرض ولا تقع إلا إذا كان التجلي في حضرة المثل كرؤيا النائم وكحال الواقعة وأما في الحقيقة فلا لأن الحضرة لا تسع اثنين بحيث أن يشهد معها غيرها بل لا يشهد عينها في تلك الحضرة فأحرى أن يشهد عينا زائدة ولكن يتصور هذا في تجلى المثال فإذا اجتمعا

فلا يخلو كل واحد منهما أن يجمعهما مقام واحد أعلى أو أدنى أو متوسط أو لا يجمعهما فإن جمعهما مقام واحد فلا يخلو إما أن يكون ذلك المقام مما يقتضي التنزيه أو التشبيه أو المجموع وعلى كل حال فحكم التجلي من حيث الظهور واحد ومن حيث ما يجده المتجلي له مختلف الذوق لاختلافهما في أعيانهما لأن هذا ما هو هذا لا في الصورة الطبيعية ولا الروحانية ولا في المكانية وإن كان هذا مثل لهذا ولكن هذا ما هو هذا فغايتهما إما أن يتحقق كل واحد منهما بمعرفته بنفسه ونفس هذا غير هذا فيحصل من العلم لهذا ما لم يحصل لهذا فنعلم أنهما وإن اجتمعا في عين الفرق أو يتحقق الواحد بمعرفته بنفسه ويفنى الآخر عن مشاهدة ذاته فيختلفان في عين الجمع أو يعطي الواحد ما يعطي المراد ويعطي الآخر ما يعطي المريد فعلى كل وجه هما مختلفان في الوجود متفقان في الحال والشهود فإن اقتضى المقام التنزيه لكل واحد منهما فغاية تنزيه كل واحد منهما أن ينزهه عن صورة ما هو عليها في نفسه فهما مختلفان بلا شك وإن كانا مثلين وإن اقتضى ذلك المقام التشبيه فالحال مثل الحال وكذلك إن اقتضى المجموع فإن المجموع إنما هو جميع طرفين في حضرة وسطي فالحال الحال فلا يجتمعان أبدا في الوجود وإن اجتمعا في الشهود وإن لم يجمعهما مقام واحد وكان كل واحد في مقام ليس للآخر وظاهر بصورة ما هي لصاحبه وإن اجتمعا في الصورة إلا أنهما أعطيا من القوة بحيث أن يشهد كل واحد منهما حضور صاحبه في بساط ذلك المشهود لكون المشهود تجلى في صورة مثالية وهذا التجلي والشهود هو الذي يجمع فيه صاحبه بين الخطاب والشهود إن شاء المشهود وأما في غير هذه الحضرة فلا يجتمع شهود وخطاب ولا رؤية غير وحكمهما إذا كانا بهذه المثابة حكم من جمعهما مقام واحد في معرفته بنفسه أو فناء أحدهما أو يقام أحدهما مرادا والآخر مريدا فيخبر المريد عن قهر وشدة ويخبر المراد عن لين وعطف وما ثم إلا هذا ولا يخبر واحد منهما عما حصل لصاحبه فإن الإلقاء لكل واحد منهما إنما يكون بالمناسب الذي يقتضيه المزاج الخاص به الذي كان سبب اختلاف صور أرواحهما في أصل النشأة فإذا رجع إلى أصحابه من هذه حاله يقول وإن كان أحدهما في المغرب والآخر في المشرق لأصحابه في هذه الساعة أشهد فلان وعاينته وعرفت صورته ومن حليته كذا وكذا فيصفه بما هو عليه من الصفات فمن لا علم له بالحقائق منهما فإنه يقول وأعطاه الحق مثل ما أعطاني والأمر ليس كذلك فإن كل واحد منهما لم يحصل له إسماع ما للآخر وذلك لافتراقهما في المناسب كما قدمنا وإن كان من أهل الحقائق والمعرفة التامة ويقال له فما حصل له فيقول لا أدري فإني لا أعرف إلا ما تقتضيه صورتي وما أنا هو فإن الحق لا يكرر صورة

«وصل»

ولما كان هذا الباب يضم كل ذي نفس حقا وخلقا احتجنا أن نبين فيه ما نفس الرحمن به عن نفسه لما وصف نفسه بأنه أحب أن يعرف ومعلوم أن كل شي‏ء لا يعلم شيئا إلا من نفسه وهو يحب أن يعرفه غيره ولا يعرفه ذلك الغير إلا من نفسه فإن لم يكن العارف على صورة المعروف فإنه لا يعرفه فلا يحصل المقصود الذي له قصد الوجود فلا بد من خلقه على الصورة لا بد من ذلك وهو تعالى الجامع للضدين بل هو عين الضدين ف هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ فخلق الإنسان الكامل على هذه المنزلة فالإنسان عين الضدين أيضا لأنه عين نفسه في نسبته إلى النقيضين ف هُوَ الْأَوَّلُ بجسده والْآخِرُ بروحه والظَّاهِرُ بصورته والْباطِنُ بموجب أحكامه والعين واحدة فإنه عين زيد وهو عين الضدين فزيد هو عين الأخلاط الأربعة المتضادة والمختلفة ليس غيره وذو الروح النفسي والمركب الطبيعي وهنا قال الخراز عرفت الله بجمعه بين الضدين فقال صاحبنا تاج الدين الأخلاطي حين سمع هذا منا لا بل هو عين الضدين وقال الصحيح فإن قول الخراز يوهم أن ثم عينا ليست هي عين الضدين لكنها تقبل الضدين معا والأمر في نفسه ليس كذلك بل هو عين الضدين إذ لا عين زائدة فالظاهر عين الباطن والأول والآخر والأول عين الآخر والظاهر والباطن فما ثم إلا هذا فقد عرفتك بالنشأة الإنسانية أنها على الصورة الإلهية وسيرد الكلام في خلق الإنسان من حيث مجموعه الذي به كان إنسانا في الباب الحادي والستين وثلاثمائة في فصل المنازل في منزل الاشتراك مع الحق في التقدير

«وصل»

الأقسام الإلهية من نفس الرحمن الواردة في القرآن والسنة فإن بها نفس الله عن المقسوم له ما كان يجده من الحرج والضيق الذي يعطيه في الموجودات قوله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وإرادته‏

مجهولة التعلق لا يعرف مرادها إلا بتعريف إلهي فإذا أكده بالقسم عليه والإيلاء كان أرفع للحرج من نفس المقسوم له كما نفس الله عن المؤمنين غير الموقنين بقسمه على الرزق وما وعد به من الخير المطلق والمقيد بالشروط لمن وقعت منه ووجدت فيه أنه لحق مثل ما إنكم تنطقون فنفس الله عنهم بذلك وحصل لهم اليقين وما بقي لهم بعد إلا الاضطراب الطبيعي فإن الآلام الطبيعية المحسوسة ما في وسع الإنسان رفعها إذا حصلت بخلاف الآلام النفسية فإنه في وسعه رفعها فوقع التنفيس بالقسم إن الرزق من الله لا بد منه وبقي في قلب بعض الموقنين بذلك من الحرج تعيين وقت حصوله ما وقع به التعريف ولو وقع لم يرفع الاضطراب الطبيعي فلما علم الحق أنه لا ينفس في تعيين الأوقات لذلك لم يوقع بها التعريف فإن الطبع أملك والحس أقوى في الذوق من النفس وسبب ذلك أن المحسوس على صورة واحدة لا تتبدل والنفس تقبل التحول في الصور فلذلك لا يرتفع حكم الطبع في وجود الآلام الحسية لثبوته وترتفع الآلام النفسية لسرعة تبدلها في الصور ولا يفنى أحد عن الآلام الطبيعية إلا بوارد إلهي أو روحاني قوي يرفع عنه ألم الطبع إن قام به ويكون موجب ذلك الوارد إما أمر محسوس أو معقول لا يتقيد كورود غائب عليه يحبه فيفنيه شغله بما حصل له من الفرح بوروده عن ألم الجوع والعطش الذي كان يجده قبل رؤية هذا الغائب أو السماع بقدومه فهذا موجب محسوس والموجب المعقول معلوم عند العلماء فظهر في الأقسام الإلهية نفس الرحمن غاية الظهور وأعطى هذا القسم عند العلماء تعظيم المقسوم به إذ لا يكون القسم إلا بمن له مرتبة في العظمة فعظم الله بالقسم جميع العالم الموجود منه والمعدوم إذ كانت أشخاصه لا تتناهى فإنه أقسم به كله في قوله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وما لا تُبْصِرُونَ وهو الموجود الغائب عن البصر والمعدوم ودخل في هذا القسم المحدث والقديم غير أنه لما علم الله عظمته في قلوب عباده موحدهم ومشركهم ومؤمنهم وكافرهم وقد أقسم لهم بالمحدثات وبغير نفسه وعلم أنه قد تقرر عندهم أنه لا يكون القسم إلا بعظيم عند المقسم فبالضرورة يعتقد العالم تعظيم المحدثات ولا سيما وقد أيد ذلك في بعض المحدثات بقوله ومن يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله وهي محدثات فَإِنَّها من تَقْوَى الْقُلُوبِ ومن صفات الحق الغيرة فحجر من كونه غيورا علينا أن نقسم بغيره مع اعتقادنا عظمة الغير بتعظيم الله فهذا التحجير دواء نافع لما أورثه القسم بالمحدثات في القلوب الضعيفة البصائر عن إدراك الحقائق من العلل والأمراض والأقسام كثيرة ولا فائدة في ذكرها مع ما ذكرناه من الأمر الجامع لها فهو يغني عن تفصيلها فإن الكتاب يطول بذكرها وكل إنسان إذا وقف على قسم منها عرف فيما وقع وما نفس الله به وعمن نفس الله به من أول وهلة وإنما ينبغي لنا أن نذكر ما يغمض على بعض الأفهام أو أكثرها لحصول الفوائد العزيزة المنال عند أكثر الناس‏

«وصل»

ومن نفس الرحمن تشريع الاجتهاد في الحكم في الأصول والفروع ومراعاة الاختلاف وثبوت الحكم من جانب الحق بإثباته إياه أنه حكم شرعي في حق المجتهد تحرم عليه مخالفته مع التقابل في الأحكام فقرر الحكمين المتقابلين وجعل المجتهدين في ذلك مأجورين فشرع المجتهد من الشرع الذي أذن الله فيه لهذه الأمة المحمدية أن يشرعه ولا أدري هل خصت به أو لم يزل ذلك فيمن قبلها من الأمم والظاهر أنه لم يزل في الأمم فإن نفس الرحمن يقتضي العموم ولا سيما وقد جاء في القرآن ما يدل على أن ذلك لم يزل في الأمم في قوله تعالى ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها وما ابتدعوها إلا باجتهاد منهم وطلب مصلحة عامة أو خاصة وأثنى على من رعاها حق رعايتها وذكر هذا في بنى إسرائيل وكذلك في قوله في الأصول ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به يعني في زعمه فإنه في نفس الأمر ليس إلا إله واحد ولهذا قرر صلى الله عليه وسلم حكم المجتهد سواء أصاب أو أخطأ بعد توفيته حق الاجتهاد جهد طاقته وما رزقه الله من قوة النظر في ذلك وقرر له الأجر مرة واحدة إن أخطأ ومرتين إن أصاب فاعلم أن المجتهد قد يخطئ ما هو الأمر عليه في نفسه ومع هذا قد تعبده به وأعطاه على ذلك أجر الاجتهاد لما فيه من المشقة لأنه من الجهد والجهد بذل الوسع خاصة فإن الله ما كلف عباده إلا وسعهم في نفس الأمر ولم يخص صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد فرعا من أصل بل عم فمن خصص ذلك بالفروع دون الأصول فهو من الاجتهاد أيضا تخصيص ذلك وتعميمه وكلاهما مأجور في اجتهاده‏

«وصل»

ومن نفس الرحمن أيضا قوله تعالى حكاية عن معصوم في قوله عن الخطاء وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها



Bazı içeriklerin Arapçadan Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!