Mekkeli Fetihler: futuhat makkiyah

Gözat Başlıkları Bölüm I: Bilgi Üzerine (Maarif) Bölüm II: Etkileşimler (Muamalat) Bölüm IV: Meskenler (Manazil) Girişler Bölüm V: Tartışmalar (Munazalat) Bölüm III: Eyaletler (Ahwal) Bölüm VI: İstasyonlar (Kutup Makamı) Birinci Bölüm İkinci Bölüm Üçüncü Bölüm Dördüncü Bölüm

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة مقام المحبة

بحقيقة الصفة الواردة الموصوف بها ذاتا مجهولة وقد نصحتك فاعلم واثبت على ما جاءتك به الشريعة تسلم فهو أعلم بنفسه وأصدق في قوله وما عرفنا إلا بما هو عليه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏

(الباب الثامن والسبعون ومائة في معرفة مقام المحبة)

الحب ينسب للإنسان والله *** بنسبة ليس يدري علمنا ما هي‏

الحب ذوق ولا تدري حقيقته *** أ ليس ذا عجب والله والله‏

لوازم الحب تكسوني هويتها *** ثوب النقيضين مثل الحاضر الساهي‏

بالحب صح وجوب الحق حيث يرى *** فينا وفيه ولسنا عين أشباه‏

استغفر الله مما قلت فيه وقد *** أقول من جهة الشكر لله‏

(و مما يتضمن هذا الباب أيضا قولنا)

أحببت ذاتي حب الواحد الثاني *** والحب منه طبيعي وروحاني‏

والحب منه إلهي أتتك به *** ألفاظ نور هدى في نص قرآن‏

وقد سألت وما أدري سؤالكم *** عن أي حب ولا عن أي ميزان‏

فكل حب له بدء يحققه *** علمي سوى حب رب ما له ثاني‏

وكل حب له بدء وليس له *** نهاية غير حب الطبع واثنان‏

لا يوصفان إذا حققت شأنهما *** وما هما بنهايات ونقصان‏

فغاية الحب في الإنسان وصلته *** روحا بروح وجثمانا بجثمان‏

وغاية الوصل بالرحمن زندقة *** فإن إحسانه جزء إحسان‏

إن لم أصوره لم تعلم بمن كلفت *** نفسي وتصويره رد لبرهان‏

(و مما يتضمنه هذا الباب أيضا قولنا)

أنا محبوب الهوى لو تعلموا *** والهوى محبوبنا لو تفهموا

فإذا أنتم فهمتم غرضي *** فاحمدوا الله تعالى واعلموا

ما لقومي عن كلامي أعرضوا *** أبهم عن درك لفظي صمم‏

ما لقومي عن عيان ما بدا *** من حبيبي في وجودي قد عموا

لست أهوى أحدا من خلقه *** لا ولا غير وجودي فافهموا

مذ تألهت رجعت مظهرا *** وكذا كنت فبي فاعتصموا

أنا حبل الله في كونكم *** فالزموا الباب عبيدا واخدموا

وإذا قلت هويت زينبا *** أو نظاما أو عنانا فأحكموا

إنه رمز بديع حسن *** تحته ثوب رفيع معلم‏

وأنا الثوب على لابسه *** والذي يلبسه ما يعلم‏

ليس في الجبة شي‏ء غير ما *** قاله الحلاج يوما فأنعموا

وحياة الحب لو أشهده *** لاعترانى لشهودي بكم‏

ما يرى عين وجود الحق من *** أصله في كل حال عدم‏

(و مما يتضمنه هذا الباب قولنا)

إن الوجود لحرف أنت معناه *** وليس لي أمل في الكون إلا هو

الحرف معنى ومعنى الحرف ساكنه *** وما تشاهد عين غير معناه‏

والقلب من حيث ما تعطيه فطرته *** يجول ما بين مغناه ومعناه‏

عز الإله فما يحويه من أحد *** وبعد هذا فإنا قد وسعناه‏

وما أنا قلت بل جاء الحديث به *** عن الإله وهذا اللفظ فحواه‏

لما أراد الإله الحق يسكنه *** لذاك عدله خلقا وسواه‏

فكان عين وجودي عين صورته *** وحي صحيح ولا يدريه إلا هو

الله أكبر لا شي‏ء يماثله *** وليس شي‏ء سواه بل هو إياه‏

فما ترى عين ذي عين سوى عدم *** فصح إن الوجود المدرك الله‏

فلا يرى الله إلا الله فاعتبروا *** قولي ليعلم منحاه ومعزاه‏

(و مما يتضمنه هذا الباب أيضا قولنا) في واقعة رأيت الحق فيها يخاطبني بمعنى ما في هذه الأبيات وسماني باسم ما سمعت به قط إلا منه تعالى في تلك الواقعة وهو نرديار فسألته تعالى عن تفسير هذا اللفظ فقال ممسوك الدار وهي هذه الأبيات وقد تقدمت في هذا الكتاب بأطول مما هي هنا وما سقت منها هنا إلا ما وقع‏

مسكتك في داري لإظهار صورتي *** فسبحانكم مجلى وسبحان سبحانا

فما نظرت عيناك مثلي كاملا *** ولا نظرت عين كمثلك إنسانا

فلم يبق في الإمكان أكمل منكم *** نصبت على هذا من الشرع برهانا

فأي كمال كان لم يك غيركم *** على كل وجه كان ذلك ما كانا

ظهرت إلى خلقي بصورة آدم *** وقررت هذا في الشرائع إيمانا

فلو كان في الإمكان أكمل منكم *** لكان وجود النقص في إذا كانا

لأنك مخصوص بصورة حضرتي *** وأكمل مني ما يكون فقد بأنا

(و مما ضمنته هذا الباب أيضا قولنا)

الله أكبر أن يخطئ به أحد *** وهو الحبيب العلي السيد الصمد

الشمس تدركنا والشمس ندركها *** نعم ومنها إلينا العطف والرفد

وإننا لنراها وهي ظاهرة *** مثل التجلي ولم يظفر به أحد

النور يمنعنا من أن نكيفها *** فكيف من لا له كيف فيتحد

الكيف والكم من نعت الجسوم وما *** هناك جسم ولا حال ولا عدد

(و مما يتضمنه هذا الباب أيضا قولنا)

بادر لجبر الذي قد فات من عمرك *** ولتتخذ زادك الرحمن في سفرك‏

وقل له بالهوى يا منتهى أملي *** ما أشوق السر والمعنى إلى خبرك‏

لقد علمت بأني حين أبصر من *** كان الوجود به ما زلت من نظرك‏

لو لا الفناء ونفي المثل عنك وما *** قد جاء عنك من الإحراق من بصرك‏

ما كان لي أمل في غير مشهدكم *** ولا قرأت كتابا ليس في سيرك‏

إني سألتك يا من لا شبيه له *** أمرا أراد به المحتوم من قدرك‏

فقال لي من قضائي إن ترى قدري *** يرده قدري والكل من أترك‏

قد جاءكم عن نبي في إزالة ما *** قضيته وبما يزيد في عمرك‏

لكم كلام نفيس كله درر *** وذا من الدر فلنلحقه في دررك‏

(و مما يتضمنه هذا الباب في حب الحب قولنا)

ولما رأيت الحب يعظم قدره *** ومالي به حتى الممات يدان‏

تعشقت حب الحب دهري ولم أقل *** كفاني الذي قد نلت منه كفاني‏

فابد إلى المحبوب شمس اتصاله *** أضاء بها كوني وعين جناني‏

وذاب فؤادي خيفة من جلاله *** فوقع لي في الحين خط أمان‏

ونزهني في روض إنس جماله *** فغبت عن الأرواح والثقلان‏

وأحضرني والسر مني غائب *** وغيبني والأمر مني داني‏

فإن قلت أنا واحد فوجوده *** وإن أثبتوا عيني فمزدوجان‏

ولكنه مزج رقيق منزه *** يرى واحدا والعلم يشهد ثاني‏

فقلت له وهو القوول وإنه *** عبارته المثلى جرت بلسان‏

أيا من بدا في نفسه لنفيسه *** ولا عدد فالعين مني فإني‏

فنفسك شاهدت النفيسة منعما *** بنفسك وانظر في المراة تراني‏

فيا غائبا من كان هذا مقامه *** يرى في جنان الناعمات بجان‏

فلا والذي طارت إلى حسن ذاته *** قلوب فأفناها عن الطيران‏

[أن الحب مقام إلهي‏]

اعلم وفقك الله أن الحب مقام إلهي فإنه وصف به نفسه وتسمى بالودود وفي الخبر بالمحب ومما أوحى الله به إلى موسى في التوراة يا ابن آدم أنى وحقي لك محب فبحقي عليك كن لي محبا

وقد وردت المحبة في القرآن والسنة في حق الله وفي حق المخلوقين وذكر أصناف المحبوبين بصفاتهم وذكر الصفات التي لا يحبها الله وذكر الأصناف الذين لا يحبهم الله فقال تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم آمرا أن يقول لنا قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ وقال في ذكر الأصناف الذين يحبهم إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ويُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ويُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ويُحِبُّ الصَّابِرِينَ ويحب الشاكرين ويحب المتصدقين ويُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ويُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ كما نفى عن نفسه أن يحب قوما لأجل صفات قامت بهم لا يحبها ففحوى الخطاب أنه سبحانه يحب زوالها ولا تزول إلا بضدها ولا بد فقال إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ولا يُحِبُّ الْفَسادَ وضده الصلاح فعين ترك الفساد صلاح وقال إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ولا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ولا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ولا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ولا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ولا يحب الْجَهْرَ بِالسُّوءِ من الْقَوْلِ ولا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ثم إنه سبحانه حبب إلينا أشياء منها بالتزيين ومنها مطلقة فقال ممتنا علينا ولكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وقال زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ الآية وقال في حق الزوجين وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً ونهانا أن نلقي بالمودة إلى أعداء الله فقال لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ والمحبة الواردة في القرآن كثيرة وأما الأخبار

فقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن الله إنه قال كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني‏

فما خلقنا إلا له لا لنا لذلك قرن الجزاء بالأعمال فعملنا لنا لا له وعبادتنا له لا لنا وليست العبادة نفس العمل فالأعمال الظاهرة في المخلوقين خلق له فهو العامل ويضاف إليه حسنها أدبا مع الله مع كونها كل من عند الله لأنه قال ونَفْسٍ وما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ وقال الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فدخلت أعمال العباد في ذلك وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله يقول ما تقرب المتقربون بأحب إلي من أداء ما افترضته عليهم ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به‏

الحديث ومن هذا التجلي قال من قال بالاتحاد وبقوله وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ وبقوله وما تَعْمَلُونَ وفي الخبر أن الله‏

يحب كل مفتن تواب‏

وفي الخبر وجبت للمتحابين في‏

وفي الخبر حبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه‏

وفي الخبر أن الله جميل يحب الجمال وأن الله يحب أن يمدح‏

وقال عليه السلام حبب إلي من دنياكم ثلاث‏

الحديث والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا واعلم أن مقامها شريف وإنها أصل الوجود

وعن الحب صدرنا *** وعلى الحب جبلنا

فلذا جئناه قصدا *** ولهذا قد قبلنا

ولهذا المقام أربعة ألقاب‏

[اللقب الأول‏] منها الحب‏

وهو خلوصه إلى القلب وصفاؤه عن كدورات العوارض فلا غرض له ولا إرادة مع محبوبه‏

(و اللقب الثاني) الود

وله اسم إلهي وهو الودود والود من نعوته وهو الثابت فيه وبه سمي الودود الثبوتة في الأرض‏

(و اللقب الثالث) العشق‏

وهو إفراط المحبة وكنى عنه في القرآن بشدة الحب في قوله والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وهو قوله قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي صار حبها يوسف على قلبها كالشغاف وهي الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب فهي ظرف له محيطة وقد وصف الحق نفسه في الخبر بشدة الحب غير أنه لا يطلق على الحق اسم العشق والعاشق والعشق التفاف الحب على المحب حتى خالط جميع أجزائه واشتمل عليه اشتمال الصماء مشتق من العشقة

(و اللقب الرابع) الهوى‏

وهو استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به في أول ما يحصل في القلب وليس لله منه اسم ولحصوله سبب نظرة أو خبر أو إحسان وأسبابه كثيرة ومعناه‏

في الخبر الإلهي الصحيح حب الله عبده إذا أكثر نوافل الخيرات‏

وكذلك اتباع الرسول فيما شرع وهذا منزلته فينا مسمى الهوى قال بعضهم في الحب المولد عن الخبر

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة *** والأذن تعشق قبل العين أحيانا

(و لنا في الحب المولد عن النظر والخبر في الغزليات)

حبي لغيرك موقوف على النظر *** إلا هواك فمبناه على الخبر

إنه يعلم أني ما علمت لها *** على الذي قيل لي أختا من البشر

فبغيتى من عزلتي إن أفوز بها *** وأن تجود على عيني بالنظر

(و لنا أيضا في هذا المعنى)

حقيقتي همت بها *** وما رآها بصري‏

ولو رآها لغدا *** قتيل ذاك الحور

فعند ما أبصرتها *** صرت بحكم النظر

فبت مسحورا بها *** أهيم حتى السحر

يا حذرى من حذرى *** لو كان يغني حذرى‏

حكم القضاء والقدر *** وإنما هيمني‏

والله ما هيمني *** جمال ذاك الخفر

يا حسنها من ظبية *** ترعى بذات الخمر

إذا رنت أو عطفت *** تسبى عقول البشر

تفتر عن ظلم وعن *** حب غمام نشر

كأنما أنفاسها *** أعراف مسك عطر

كأنها شمس ضحى *** في النور أو كالقمر

إن سفرت أبرزها *** نور صباح مسفر

أو سدلت غيبها *** ظلام ذاك الشعر

يا قمرا تحت دجى *** خذي فؤادي وذر

عيني لكي أبصركم *** إذ كان حظي نظري‏

فإن مبني كلفي *** بحبها من خبري‏

(و لنا أيضا في هذا المعنى)

الأذن عاشقة والعين عاشقة *** شتان ما بين عشق العين والخبر

فالإذن تعشق ما وهمي يصوره *** والعين تعشق محسوسا من الصور

فصاحب العين إن جاء الحبيب له *** يوما ليبصره يلتذ بالنظر

وصاحب الأذن إن جاء الحبيب له *** في صورة الحس ما ينفك عن غير

إلا هوى زينب فإنه عجب *** قد استوى فيه حظ السمع والبصر

وألطف ما في الحب ما وجدته وهو أن تجد عشقا مفرطا وهوى وشوقا مقلقا وغراما ونحولا وامتناع نوم ولذة بطعام‏

ولا يدري فيمن ولا بمن ولا يتعين لك محبوبك وهذا ألطف ما وجدته ذوقا ثم بعد ذلك بالاتفاق أما يبدو لك تجل في كشف فيتعلق ذلك الحب به أو نرى شخصا فيتعلق ذلك الوجد الذي تجده به عند رؤيته فتعلم إن ذلك كان محبوبك وأنت لا تشعر أو يذكر شخص فتجد الميل إليه بذلك الهوى الذي عندك فتعلم أنه صاحبك وهذا من أخفى دقائق استشراف النفوس على الأشياء من خلف حجاب الغيب فتجهل حالها ولا تدري بمن هامت ولا فيمن هامت ولا ما هيمها ويجد الناس ذلك في القبض والبسط الذي لا يعرف له سبب فعند ذلك يأتيه ما يحزنه فيعرف أن ذلك القبض كان لهذا الأمر أو يأتيه ما يسره فيعرف أن ذلك البسط كان لهذا الأمر وذلك لاستشراف النفس على الأمور من قبل تكوينها في تعلق الحواس الظاهرة وهي مقدمات التكوين ويشبه ذلك أخذ الميثاق على الذرية بأنه ربنا فلم يقدر أحد على إنكاره بعد ذلك فتجد في فطرة كل إنسان افتقارا لموجود يستند إليه وهو الله ولا يشعر به ولهذا قال يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله يقول لهم ذلك الافتقار الذي تجدونه في أنفسكم متعلقة الله لا غيره ولكن لا تعرفونه فعرفنا الحق به ولما ذقنا هذا المقام قلنا فيه‏

علقت بمن أهواه عشرين حجة *** ولم أدر من أهوى ولم أعرف الصبرا

ولا نظرت عيني إلى حسن وجهها *** ولا سمعت أذناي قط لها ذكرا

إلى أن تراءى البرق من جانب الحمى *** فنعمني يوما وعذبني دهرا

ولنا أيضا في هذا المعنى ذوقا فإنا لا نعبر إلا عما ذقناه‏

علقت بمن أهواه من حيث لا أدري *** ولا أدري من هذا الذي قال لا أدري‏

فقد حرت في حالي وحارت خواطري *** وقد حارت الحيرات في وفي أمري‏

فبينا أنا من بعد عشرين حجة *** أترجم عن حب يعانقه سرى‏

ولم أدر من أهوى ولا أعرف اسمه *** ولا أدر من هذا الذي ضمه صدري‏

إلى أن بدا لي وجهها من نقابها *** كمثل سحاب الليل أسفر عن بدر

فقلت لهم من هذه قيل هذه *** بنية عين القلب بنت أخي الصد

فكبرت إجلالا لها ولأصلها *** فليلي بها أربى على ليلة القدر

ولنا في هذا المعنى ذوقا في أول دخولي إلى الشام وجدت ميلا مجهولا مدة طويلة في قصة طويلة إلهية متخيلة في صورة جسدية فقلنا نخاطبها في ذلك بالحال ولسانه‏

أقول وعندي من هواك الذي عندي *** مقالة من قال الحبيب له قل لي‏

ولما دخلت الشام خولطت في عقلي *** فلم أر قبلي في الهوى عاشقا مثلي‏

عشقت وما أدري الذي قد عشقته *** أ خالقي المحبوب أم هو من شكلي‏

ولا سمعت أذناي قط بذكره *** فهل قال هذا عاشق غيرنا قبلي‏

فجبت بلاد الله شرقا ومغربا *** لعلي أرى شخصا يوافقني علي‏

فلم أر إلا ذا حبيب معين *** يلازمه طبعا ملازمة الظل‏

فقلت إلهي أن قلبي مهيم *** ولم أدر فانظر في مقامي وفي ذلي‏

فنادى منادي الحب من بين أضلعي *** لقد غصت يا مسكين في أبحر الجهل‏

ألا فاستمع قولي وخذ سر حكمتي *** فإني من أهل التعاليم والفضل‏

بسبع وعشر ثم خمسين بعدها *** إذا أنت حصلت اثنتين على وصلي‏

يقوم لكم شكل بديع مربع *** تماما على الوصل الذي فيه والفصل‏

كمثل اسمه الله بيانا محققا *** فكان اسم محبوبي على صورة الأصل‏

فذاك اسم من تهواه إن كنت عالما *** وهذا من العلم المضاف إلى البخل‏

فإن كنت ذا فهم فلا تبتغي سوى *** مثلثة التربيع جامعة الشمل‏

فثليثها بيت وبيت مصحف *** لها حسن إدلال يدل على دلى‏

فبيت إلى لعين عين وثم بيت لماجد *** هما أهل بيت للسماحة والبذل‏

وأوله حرف نزيه مسبع *** من الستة الأعلام من أحرف الفصل‏

[مقام حب الحب وهو الشغل بالحب عن متعلقة]

وهذا ألطف ما يكون من المحبة ودونه حب الحب وهو الشغل بالحب عن متعلقة جاءت ليلى إلى قيس وهو يصيح ليلى ليلى ويأخذ الجليد ويلقيه على فؤاده فتذيبه حرارة الفؤاد فسلمت عليه وهو في تلك الحال فقالت له أنا مطلوبك أنا بغيتك أنا محبوبك أنا قرة عينك أنا ليلى فالتفت إليها وقال إليك عني فإن حبك شغلني عنك وهذا ألطف ما يكون وأرق في المحبة ولكن هو دون ما ذكرناه في اللطف وكان شيخنا أبو العباس العريبي رحمه الله يسأل الله أن يرزقه شهوة الحب لا الحب واختلف الناس في حده فما رأيت أحدا حده بالحد الذاتي بل لا يتصور ذلك فما حده من حده إلا بنتائجه وآثاره ولوازمه ولا سيما وقد اتصف به الجناب العزيز وهو الله وأحسن ما سمعت فيه ما حدثنا به غير واحد عن أبي العباس ابن العريف الصنهاجى قالوا سمعناه يقول وقد سئل عن المحبة فقال الغيرة من صفات المحبة والغيرة تأبى إلا الستر فلا تحد

[أن الأمور المعلومات على قسمين منها ما يحد ومنها ما لا يحد]

واعلم أن الأمور المعلومات على قسمين منها ما يحد ومنها ما لا يحد والمحبة عند العلماء بها المتكلمين فيها من الأمور التي لا تحد فيعرفها من قامت به ومن كانت صفته ولا يعرف ما هي ولا ينكر وجودها

[حب الشي‏ء يعمى ويصم‏]

واعلم أن كل حب لا يحكم على صاحبه بحيث أن يصمه عن كل مسموع سوى ما يسمع من كلام محبوبه ويعميه عن كل منظور سوى وجه محبوبه ويخرسه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبه وذكر من يحب محبوبه ويختم على قلبه فلا يدخل فيه سوى حب محبوبه ويرمي قفله على خزانة خياله فلا يتخيل سوى صورة محبوبه إما عن رؤية تقدمته وإما عن وصف ينشئ منه الخيال صورة فيكون كما قيل‏

خيالك في عيني وذكرك في فمي *** ومثواك في قلبي فأين تغيب‏

فيه يسمع وله يسمع وبه يبصر وله يبصر وبه يتكلم وله يتكلم ولقد بلغ بي قوة الخيال إن كان حبي يجسد لي محبوبي من خارج لعيني كما كان يتجسد جبريل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلا أقدر أنظر إليه ويخاطبني وأصغى إليه وأفهم عنه ولقد تركني أياما لا أسيغ طعاما كلما قدمت لي المائدة يقف على حرفها وينظر إلي ويقول لي بلسان أسمعه بإذني تأكل وأنت تشاهدني فامتنع من الطعام ولا أجد جوعا وأمتلئ منه حتى سمنت وعبلت من نظري إليه فقام لي مقام الغذاء وكان أصحابي وأهل بيتي يتعجبون من سمني مع عدم الغذاء لأني كنت أبقى الأيام الكثيرة لا أذوق ذواقا ولا أجد جوعا ولا عطشا لكنه كان لا يبرح نصب عيني في قيامي وقعودي وحركتي وسكوني‏

[لا يستغرق الحب المحب كله إلا إذا كان محبوبه الحق تعالى‏]

واعلم أنه لا يستغرق الحب المحب كله إلا إذا كان محبوبه الحق تعالى أو أحدا من جنسه من جارية أو غلام وأما ما عدى من ذكرته فإنه لا يستغرقه حبه إياه وإنما قلنا ذلك لأن الإنسان لا يقابل بذاته كلها إلا من هو على صورته إذا أحبه فما فيه جزء إلا وفيه ما يماثله فلا تبقي فيه فضلة يصحو بها جملة واحدة فيهيم ظاهره في ظاهره وباطنه في باطنه أ لا ترى الحق قد تسمى بالظاهر والباطن فتستغرق الإنسان المحبة في الحق وفي أشكاله وليس ذلك فيما سوى الجنس من العالم فإنه إذا أحب صورة من العالم إنما يستقبله بالجزء المناسب ويبقى ما بقي من ذاته صاحية في شغلها وأما استغراق حبه إذا أحب الله فلكونه على صورته كما ورد في الخبر فيستقبل الحضرة الإلهية بذاته كلها ولهذا تظهر فيه جميع الأسماء الإلهية ويتخلق بها من ليست عنده صفة الحب وبكونها من عنده صفة الحب فلهذا يستغرق الإنسان الحب وإذا تعلق بالله وكان الله محبوبه فيفني في حبه في الحق أشد من فنائه في حب أشكاله فإنه في حب أشكاله فاقد في غيبته ظاهر المحبوب وإذا كان الحق هو المحبوب فهو دائم المشاهدة ومشاهدة المحبوب كالغذاء للجسم به ينمي ويزيد فكلما زاد مشاهدة زاد حبا ولهذا الشوق يسكن باللقاء والاشتياق يهيج باللقاء وهو الذي يجده العشاق عند الاجتماع‏

بالمحبوب لا يشبع من مشاهدته ولا يأخذ نهمته منا لأنه كلما نظر إليه زاد وجدا به وشوقا مع حضوره معه كما قيل‏

ومن عجب إني أحن إليهم *** وأسأل شوقا عنهم وهم معي‏

وتبكيهم عيني وهم في سوادها *** وتشتاقهم نفسي وهم بين أضلعي‏

وكل حب يبقى في المحب عقلا يعقل به عن غير محبوبه أو تعقلا فليس بحب خالص وإنما هو حديث نفس قال بعضهم‏

ولا خير في حب يدبر بالعقل‏

وحكايات المحبين في هذا الباب أكثر من أن تحصى ولنا في ازدياد المحبة مع المشاهدة والشوق‏

أغيب فيفني الشوق نفسي فالتقى *** فلا أشتفي فالشوق غيبا ومحضرا

ويحدث لي لقياه ما لم أظنه *** مكان الشفا داء من الوجد آخرا

لأني أرى شخصا يزيد جماله *** إذا ما التقيناه نخوة وتكبرا

فلا بد من وجد يكون مقارنا *** لما زاد من حسن نظاما محررا

أشير إلى تجليه سبحانه في صور مختلفة في الآخرة لعباده وفي الدنيا لقلوب عباده كما ورد في صحيح مسلم من تحوله سبحانه في الصور كما ينبغي لذاته من غير تشبيه ولا تكييف فو الله لو لا الشريعة التي جاءت بالأخبار الإلهي ما عرف الله أحد ولو بقينا مع الأدلة العقلية التي دلت في زعم العقلاء على العلم بذاته بأنه ليس كذا وليس كذا ما أحبه مخلوق فلما جاء الخبر الإلهي بالسنة الشرائع بأنه سبحانه كذا وأنه كذا من أمور تناقض ظواهرها الأدلة العقلية أحببناه لهذه الصفات الثبوتية ثم بعد أن أوقع النسب وثبت السبب والنسب الموجبات للمحبة قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فثبت الأسباب الموجبة للحب التي نفاها العقل بدليله وهذا معنى‏

قوله فخلقت الخلق فتعرفت إليهم فعرفوني‏

فما يعرف الله إلا بما أخبر به عن نفسه من حبه إيانا ورحمته بنا ورأفته وشفقته وتحببه ونزوله في التحديد لمثله تعالى ونجعله نصب أعيننا في قلوبنا وفي قبلتنا وفي خيالنا حتى

كأنا نراه لا بل نراه فينا لأنا عرفناه بتعريفه لا بنظرنا ومنا من يراه ويجهله فكما أنه لا يفتقر إلى غيره كذلك والله لا يحب في الموجودات غيره فهو الظاهر في كل محبوب لعين كل محب وما في الموجود إلا محب فالعالم كله محب ومحبوب وكل ذلك راجع إليه كما أنه لم يعبد سواه فإنه ما عبد من عبد إلا بتخيل الألوهية فيه ولولاها ما عبد يقول تعالى وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وكذلك الحب ما أحب أحد غير خالقه ولكن احتجب عنه تعالى بحب زينب وسعاد وهند وليلى والدنيا والدرهم والجاه وكل محبوب في العالم فأفنت الشعراء كلامها في الموجودات وهم لا يعلمون والعارفون لم يسمعوا شعرا ولا لغزا ولا مديحا ولا تغزلا إلا فيه من خلف حجاب الصور وسبب ذلك الغيرة الإلهية أن يحب سواه فإن الحب سببه الجمال وهو له لأن الجمال محبوب لذاته‏

والله جميل يحب الجمال‏

فيحب نفسه وسببه الآخر الإحسان وما ثم إحسان إلا من الله ولا محسن إلا الله فإن أحببت للإحسان فما أحببت إلا الله فإنه المحسن وإن أحببت للجمال فما أحببت إلا الله تعالى فإنه الجميل فعلى كل وجه ما متعلق المحبة إلا الله ولما علم الحق نفسه فعلم العالم من نفسه فأخرجه علم صورته فكان له مرآة يرى صورته فيه فما أحب سوى نفسه فقوله يُحْبِبْكُمُ الله على الحقيقة نفسه أحب إذ الاتباع سبب الحب واتباعه صورته في مرآة العالم سبب الحب لأنه لا يرى سوى نفسه وسبب الحب النوافل وهي الزيادات وصورة العالم زيادة في الوجود فأحب العالم نافلة فكان سمعه وبصره حتى لا يحب سوى نفسه وما أغمضها من مسألة وما أسرع تفلتها من الوهم فإنه اتفق في الوجود أمر غريب وذلك أن ثم أمورا يتحقق بها العقل ويثبت عليها ولا يتزلزل وتتفلت من الوهم ولا يقدر يبقى على ضبطها مثل هذه المسألة يثبتها العقل ولا يقدر يزول عنها وتتفلت من الوهم ولا يقدر على ضبطها وثم أمور أخر بالعكس تتفلت من العقل وتثبت في الوهم ويحكم عليها ويؤثر فيها كمن يعطيه العقل بدليله أن رزقه لا بد أن يأتيه سعى إليه أو لم يسع فيتفلت هذا العلم عن العقل ويحكم عليه الوهم بسلطانه إنك إن لم تسع في طلبه تموت فيغلب عليه فيقوم يتعمل في تحصيله فحقه من جهة عقله زائل وباطله من جهة وهمه ثابت لا يتزلزل وكمن يرى حية أو أسدا على صورة لا يتمكن فيما يغطيه العقل أن يصل ضرره إليه فيغيب عن ذلك الدليل ويتوهم ضرره فينفر منه‏

ويتغير وجهه وباطنه بحكم الوهم وسلطانه وهذا موجود فللوهم سلطان في مواطن وللعقل سلطان في مواطن فلنذكر في هذا الباب إن شاء الله من لوازم الحب ومقاماته ما تيسر

[إن الحب تعلق خاص من تعلقات الإرادة]

فنقول إن الحب تعلق خاص من تعلقات الإرادة فلا تتعلق المحبة إلا بمعدوم غير موجود في حين التعلق يريد وجود ذلك المحبوب أو وقوعه وإنما قلت أو وقوعه لأنها قد تتعلق بإعدام الموجود وإعدام الموجود في حال كون الموجود موجودا ليس بواقع فإذا عدم الموجود الذي تعلقت به المحبة فقد وقع ولا يقال وجد الإعدام فإنه جهل من قائله وقولنا يريد وجود ذلك المحبوب وأن المحبوب على الحقيقة إنما هو معدوم فذلك أن المحبوب للمحب هو إرادة أوجبت الاتصال بهذا الشخص المعين كائنا من كان إن كان ممن من شأنه أن يعانق فيحب عناقه أو ينكح فيحب نكاحه أو يجالس فيحب مجالسته فما تعلق حبه إلا بمعدوم في الوقت من هذا الشخص فيتخيل إن حبه متعلق بالشخص وليس كذلك وهذا هو الذي يهيجه للقائه ورؤيته فلو كان يحب شخصه أو وجوده في عينه فهو في شخصيته أو في وجوده فلا فائدة لتعلق الحب به فإن قلت أنا كنا تحب مجالسة شخص أو تقبيله أو عناقه أو تأنيسه أو حديثه ثم نرى تحصل ذلك والحب لا يزول مع وجود العناق والوصال فإذا متعلق الحب قد لا يكون معدوما قلنا أنت غالط إذا عانقت الشخص الذي تعلقت المحبة بعناقه أو مجالسته أو مؤانسته فإن متعلق حبك في تلك حال ما هو بالحاصل وإنما هو بدوام الحاصل واستمراره والدوام والاستمرار معدوم ما دخل في الوجود ولا تتناهى مدته فإذا ما تعلق الحب في حال الوصلة إلا بمعدوم وهو دوامها وما أحسن ما جاء في القرآن قوله يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ بضمير الغائب والفعل المستقبل فما أضاف متعلق الحب إلا لغائب ومعدوم وكل غائب فهو معدوم إضافي‏

[من أوصاف المحبة أن يجمع المحب في حبه بين الضدين‏]

فمن أوصاف المحبة أن يجمع المحب في حبه بين الضدين ليصح كونه على الصورة لما فيه من الاختيار وهذا هو الفرق بين الحب الطبيعي والروحاني والإنسان يجمعهما وحده والبهائم تحب ولا تجمع بين الضدين بخلاف الإنسان وإنما جمع الإنسان في حبه بين الضدين لأنه على صورته وقد وصف نفسه بالضدين وهو قوله هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ وصورة جمع الحب بين الضدين أن الحب من صفاته اللازمة له حب الاتصال بالمحبوب ومن صفاته اللازمة حب ما يحبه المحبوب فيحب المحبوب الهجر فإن أحب المحب الهجر فقد فعل ما لا نقتضيه المحبة فإن المحبة تطلب الاتصال وإن أحب الاتصال فقد فعل ما لا تقتضيه المحبة فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ولم يفعل فالمحب محجوج على كل حال وغاية الجمع بينهما أن يحب حب المحبوب للهجر لا الهجر ويحب الاتصال ولا تخرج هذه المسألة على أكثر من هذا كالراضي بالقضاء فيصح له اسم الرضاء بالقضاء مع كونه لا يرضى بالمقضي إذا كان المقضي به كفرا كذا ورد الشرع وهكذا في مسألة الحب يحب المحب الاتصال بالمحبوب ويحب حب المحبوب الهجر لا يحب الهجر لأن الهجر ما هو عين حب المحبوب الهجر كما أن القضاء ما هو عين المقضي فإن القضاء حكم الله بالمقضي لا عين المقضي فيرضى بحكم الله وحب الحيوان ليس كذلك لأنه حب طبيعي لا روحاني فيطلب الاتصال بمن يحب خاصة ولا يعلم أن محبوبه له حب في كذا لا علم له بذلك فلهذا قسمنا الحب الذي هو صفة للإنسان إلى نوعين فيه حب طبيعي وبه يشارك البهائم والحيوانات وحب روحاني وبه ينفصل ويتميز عن حب الحيوان وإذا تقرر هذا وصل‏

[الحب إما روحاني وإما طبيعي‏]

فاعلم أن الحب منه إلهي وروحاني وطبيعي وما ثم حب غير هذا فالحب الإلهي هو حب الله لنا وحبنا الله أيضا قد يطلق عليه أنه إلهي والحب الروحاني هو الذي يسعى به في مرضاة المحبوب لا يبقى له مع محبوبه غرض ولا إرادة بل هو بحكم ما يراد به خاصة والحب الطبيعي هو الذي يطلب به جميع نيل أغراضه سواء سر ذلك المحبوب أو لم يسره وعلى هذا أكثر حب الناس اليوم فلنقدم أولا الكلام على الحب الإلهي في وصل ثم يتلوه وصل في الحب الروحاني ثم يتلوه وصل ثالث في الحب الطبيعي والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الوصل الأول) في الحب الإلهي‏

وهو أن يحبنا لنا ولنفسه أما حبه إيانا لنفسه فهوقوله أحببت أن أعرف فخلقت الخلق فتعرفت إليهم فعرفوني‏

فما خلقنا إلا لنفسه حتى نعرفه وقوله (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فما خلقنا إلا لنفسه وأما حبه إيانا لنا فلما عرفنا به من الأعمال التي تؤدينا إلى سعادتنا ونجاتنا من الأمور التي لا توافق أغراضنا ولا تلائم طباعنا خلق سبحانه الخلق ليسبحوه فنطقهم بالتسبيح له والثناء عليه والسجود له ثم عرفنا بذلك فقال‏

وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي بالثناء عليه بما هو عليه وما يكون منه وعرفنا أيضا فقال أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ والطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ فلزم ذلك وثابر عليه وخاطب بهذه الآية نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الذي أشهده ذلك ورآه فقال له أَ لَمْ تَرَ ولم يقل أ لم تروا فإنا ما رأينا فهو لنا إيمان وهو لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عيان وكذا قال له أيضا لما أشهده سجود كل شي‏ء أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ من في السَّماواتِ ومن في الْأَرْضِ والشَّمْسُ والْقَمَرُ والنُّجُومُ والْجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ من النَّاسِ فما ترك أحدا فإنه ذكر من في السموات ومن في الأرض فذكر العالم العلوي والسفلي فأشهده سجود كل شي‏ء فكل من أشهده الله ذلك ورآه دخل تحت هذا الخطاب وهذا تسبيح فطري ذاتي عن تجل تجلى لهم فأحبوه فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتي وهذه هي العبادة الذاتية التي أقامهم الله فيها بحكم الاستحقاق الذي يستحقه وكذلك قال في أهل الكشف وهم عامة الإنس وكل عاقل أَ ولَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ الله من شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وهُمْ داخِرُونَ هذا حظ النعيم البصري ثم أخبر أن ذلك التفيؤ يمينا وشمالا أنه سجود لله وصغار وذلة لجلاله فقال سُجَّداً لِلَّهِ وهُمْ داخِرُونَ فوصفهم بعقليتهم أنفسهم حتى سجدوا لله داخرين ثم أخبر فقال متمما ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ من دابَّةٍ أي ممن يدب عليها يقول يمشي وهم يعني أهل السموات والملائكة يعني التي ليست في سماء ولا أرض ثم قال وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني عن عبادة ربهم ثم وصفهم بالخوف ليعلمنا أنهم عالمون بمن سجدوا له ثم وصف المأمورين منهم إنهم يفعلون ما يؤمرون وهم الذين قال فيهم لا يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ثم قال في الذين هم عند ربهم يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يملون كل ذلك يدل على أن العالم كله في مقام الشهود والعبادة إلا كل مخلوق له قوة التفكر وليس إلا النفوس الناطقة الإنسانية والجانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم فإن هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له والسجود فأعضاء البدن كلها بتسبيحه ناطقة أ لا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر وجميع القوي فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ وهذا كله من حكم حبه إيانا لنفسه فمن وفي شكره ومن لم يوف عاقبه فنفسه أحب وتعظيمه والثناء عليه أحب وأما حبه إيانا لنا فإنه عرفنا بمصالحنا دنيا وآخرة ونصب لنا الأدلة على معرفته حتى نعلمه ولا نجهله ثم إنه رزقنا وأنعم علينا مع تفريطنا بعد علمنا به وإقامة الدليل عندنا على أن كل نعمة نتقلب فيها إنما ذلك من خلقه وراجعة إليه وإنه ما أوجدها إلا من أجلنا لننعم بها ونقيم بذلك وتركنا نرأس ونربع ثم إنه بعد هذا الإحسان التام لم نشكره والعقل يقضي بشكر المنعم وقد علمنا أنه لا محسن إلا الله فمن إحسانه أن بعث إلينا رسولا من عنده معلما ومؤدبا فعلمنا بما لنا في نفسه فشرع لنا الطريق الموصل إلى سعادتنا وأبانه وحذرنا من الأمور المردية واجتناب سفساف الأخلاق ومذامها ثم أقام الدلالة على صدقه عندنا فجاء بالبينات وقذف في قلوبنا نور الايمان وحببه إلينا وزينه في قلوبنا وكره إلينا الْكُفْرَ والْفُسُوقَ والْعِصْيانَ فآمنا وصدقنا ثم من علينا بالتوفيق فاستعملنا في محابه ومراضيه فعلمنا أنه لو لا ما أحبنا ما كان شي‏ء من هذا كله ثم إن رحمته سبقت غضبه وإن شقي من شقي فلا بد من شمول الرحمة والعناية والمحبة الأصلية التي تؤثر في العواقب ولما سبقت المحبة وحقت الكلمة وعمت الرحمة وكانت الدار الدنيا دار امتزاج وحجاب بما قدره العزيز العليم خلق الآخرة ونقلنا إليها وهي دار لا تقبل الدعاوي الكاذبة فأقر الجميع بربوبيته هناك كما أقروا بربوبيته في قبضة الذر من ظهر آدم فكنا

في الدار الدنيا وسطا بين طرفين طرفي توحيد وإقرار وفي الوسط وقع الشرك مع ثبوت الوجود فضعف الوسط ولذلك قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فنسبوا العظمة والكبرياء إلى الله تعالى في شركهم ثم أخبر تعالى أنه طبع على قلب كل من ظهر في ظاهر لقومه بصفة الكبرياء والجبروت وما جعل ذلك في قلوبهم بسبب طابع العناية فهم عند نفوسهم بما يجدونه من العلم الضروري أذلاء صاغرين لذلك الطابع فما دخل الكبرياء على الله قلب مخلوق أصلا وإن ظهرت منه صفات الكبرياء فثوب ظاهر لا بطانة له منه وهذا كله من رحمته ومحبته في خلقه ليكون المال إلى‏

السعادة فلما ضعف الوسط وتقوى الطرفان غلب في آخر الأمر وامتلأت الدار إن وجعل في كل واحدة منهما نعيما لأهلها يتنعمون به بعد ما طهرهم الله بما نالوه من العذاب لينالوا النعيم على طهارة أ لا ترى المقتول قودا كيف يطهره ذلك القتل من ظلم القتل الذي قتل من قتل به فالسيف محاء وكذلك إقامة الحدود في الدنيا كلها تطهير للمؤمنين حتى قرصة البرغوث والشوكة يشاكها وثم طائفة أخرى تقام عليهم حدود الآخرة في النار ليتطهروا ثم يرحمون في النار لما سبق من عناية المحبة وإن لم تخرجوا من النار فحب الله عباده لا يتصف بالبدء ولا بالغاية فإنه لا يقبل الحوادث ولا العوارض لكن عين محبته لعباده عين مبدأ كونهم متقدميهم ومتأخريهم إلى ما لا نهاية له فنسبة حب الله لهم نسبة كينونته كانت معهم أينما كانوا في حال عدمهم وفي حال وجودهم فكما هو معهم في حال وجودهم هو معهم في حال عدمهم لأنهم معلومون له مشاهد لهم محب فيهم لم يزل ولا يزال لم يتجدد عليه حكم لم يكن عليه بل لم يزل محبا خلقه كما لم يزل عالما بهم‏

فقوله فأحببت أن أعرف‏

تعريفا لنا مما كان الأمر عليه في نفسه كل ذلك كما لا يليق بجلاله لا يعقل تعالى إلا فاعلا خالقا وكل عين فكانت معدومة لعينها معلومة له محبوبا له إيجادها ثم أحدث له الوجود بل أحدث فيها الوجود بل كساها حلة الوجود فكانت هي ثم الأخرى ثم الأخرى على التوالي والتتابع من أول موجود المستند إلى أولية الحق وما ثم موجود آخر بل وجود مستمر في الأشخاص فالآخر في الأجناس والأنواع وليس الأشخاص في المخلوقات إلا في نوع خاص متناهية في الآخرة وإن كانت الدنيا متناهية فالأكوان جديدة لا نهاية لتكوينها لأن الممكنات لا نهاية لها فأبدها دائم كما الأزل في حق الحق ثابت لازم فلا أول لوجوده فلا أول لمحبته عباده سبحانه ذكر المحبة يحدث عند المحبوب عند التعريف الإلهي لا نفس المحبة القرآن كلام الله لم يزل متكلما ومع هذا قال معرفا ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فحدث عندنا الذكر لا في نفسه من سيدنا ومالكنا ومصلحنا ومغذينا وما يأتينا من ذِكْرٍ من الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ فحدث عندنا الذكر من الرحمن لا في نفسه فالرحمة والنعمة والإحسان في البدء والعاقبة والمال ولم يجر لاسم من أسماء الشقاء ذكر في الإتيان إنما هو رب أو رحمن ليعلمكم ما في نفسه لكم‏

(تكملة في الحب الإلهي)

وهي كوننا نحب الله فإن الله يقول يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ ونسبة الحب إلينا ما هو نسبة الحب إليه والحب المنسوب إلينا من حيث ما تعطيه حقيقتنا ينقسم قسمين قسم يقال فيه حب روحاني والآخر حب طبيعي وحبنا الله تالى بالحبين معا وهي مسألة صعبة التصور إذ ما كل نفس ترزق العلم بالأمور على ما هي عليه ولا نرزق الايمان بها على وفق ما جاء من الله في إخباره عنه ولذلك امتن الله بمثل هذا على نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال وكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً من أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الْكِتابُ ولا الْإِيمانُ ولكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي به من نَشاءُ من عِبادِنا فنحن بحمد الله ممن شاء من عباده وما بقي لنا بعد التقسيم في حبنا إياه إلا أربعة أقسام وهي إما أن نحبه له أو نحبه لأنفسنا أو نحبه للمجموع أو نحبه ولا لواحد مما ذكرناه وهنا يحدث نظر آخر وهو لما ذا نحبه إذ وقد ثبت إنا نحبه فلا نحبه له ولا لأنفسنا ولا للمجموع فما هو هذا الأمر الرابع هذا فصل وثم تقسيم آخر وهو وإن أحببناه فهل نحبه بنا أو نحبه به أو نحبه بالمجموع أو نحبه ولا بشي‏ء مما ذكرناه وكل هذا يقع الشرح فيه والكلام عليه إن شاء الله وكذلك نذكر في هذه التكملة ما بدء حبنا إياه وهل لهذا الحب غاية فيه ينتهي إليها أم لا فإن كانت له غاية فما تلك الغاية وهذه مسألة ما سألني عنها أحد إلا امرأة لطيفة من أهل هذا الشأن ثم نذكر أيضا إن شاء الله هل الحب صفة نفسية في المحب أو معنى زائد على ذاته وجودي أو هو نسبة بين المحب والمحبوب لا وجود لها كل ذلك تحتاج إليه هذه التكملة

[إن الحب لا يقبل الاشتراك‏]

فاعلم إن الحب لا يقبل الاشتراك ولكن إذا كانت ذات المحب واحدة لا تنقسم فإن كانت مركبة جاز أن يتعلق حبها بوجوه مختلفة ولكن لأمور مختلفة وإن كانت العين المنسوب إليها تلك الأمور المختلفة واحدة أو تكون تلك الأمور في كثيرين فيه فتتعلق المحبة بكثيرين فيحب الإنسان محبوبين كثيرين وإذا صح أن يحب المحب أكثر من واحد جاز أن يحب الكثير كما قال أمير المؤمنين‏

ملك الثلاث الآنسات عناني *** وحللن من قلبي بكل مكان‏

هنا سر خفي في قوله عناني فأفرد وما أعطى لهؤلاء المحبوبين من نفسه أعنة مختلفة فدل أن هذا المحب وإن كان مركبا فما أحب إلا معنى واحدا قام له في هؤلاء الثلاثة أي ذلك المعنى موجود في عين كل واحدة منهن والدليل على ذلك قوله في تمام البيت وحللن من قلبي بكل مكان فلو أحب من كل واحدة معنى لم يكن في الأخرى لكان العنان الذي يعطي لواحدة غير العنان الذي يعطي الأخرى ولكان المكان الذي تحله الواحدة غير المكان الذي تحله الأخرى فهذا واحد أحب واحدا وذلك الواحد المحبوب موجود في كثيرين فأحب الكثير لأجل ذلك وهذا كحبنا الله تعالى له ومنا من يحبه لنفسه ومنا من يحبه للمجموع وهو أتم في المحبة لأنه أتم في المعرفة بالله والشهود لأن منا من عرفه في الشهود فأحبه للمجموع ومنا من عرفه لا في الشهود ولكن في الخبر فأحبه له ومنا من عرفه في النعم فأحبه لنفسه ومنا من أحبه للمجموع وذلك أن الشهود لا يكون إلا في صورة والصورة مركبة والمحب ذو صورة مركبة فيسمع من وجه فيحبه للخبر مثل‏

قوله على لسان نبيه هل واليت لي وليا أو عاديت في عدوا

فإذا أحببت الأشياء من أجله وعاديت الأشياء من أجله فهذا معنى حبنا له ليس غير ذلك فقمنا بجميع ما يحبه منا أن نقوم به عن طيب نفس ويكون من لا يشاهده من صورتي في حكم التبع كما هي الجوارح منا وحيوانيتنا بحكم النفس الناطقة لا تقدر على مخالفتها لأنها كالآلات لها تصرفها كيف تريد في مرضاة الله وفي غير مرضاته وكل جزء من جوارح الإنسان إذا ترك بالنظر إلى نفسه لا يتمكن له أن يتصرف إلا فيما يرضى الله فإنه له وجميع ما في الوجود بهذه المثابة إلا الثقلان وهو قوله وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ يريد بذلك التسبيح الثناء على الله لا للجزاء لأنه في عبادة ذاتية لا يتصور معها طلب مجازاة فهذا من حبه له سبحانه إلا بعض النفوس الناطقة لما جعل لها في معرفة الله القوة المفكرة لم تفطر على العلم بالله ولهذا قبض عليها في قبض الذرية من ظهورهم وأَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ شهادة قهر فسجدت لله كرها لا طوعا من أجل القبض عليها ثم أرسلها مسرحة من تلك القبضة الخاصة وهي مقبوض عليها من حيث لا تشعر فتخيلت أنها مسرحة فلما وجدت مدبرة لهذا الهيكل المظلم جرت في الأمور بحسب ما يعطيها غرضها لا تحب من الأمور إلا ما يلائم طبعها وغفلت عن مشهد الإقرار بالربوبية عليها لموجدها فبينا هي كذلك إذ قالت لها القوة المفكرة جميع القوي قد استعملتها وغفلت عني وتركتني وأنا من بعض آلاتك وما لك بي عناية فاستعمليني فقالت لها نعم لا تؤاخذيني فإني جهلت رتبتك وقد أذنت لك في التصرف فيما تعطيه حقيقتك حتى أتحقق بما أنت عليه فأصرفك فيه وأستعملك فقالت سمعا ثم ردت وجهها القوة الفكرية إليها كالمعلمة وقالت لها لقد غفلت عن ذاتك وعن وجودك أنت لم تزالي هكذا موجودة لذاتك أو لم تكوني ثم كنت قالت النفس لم أكن ثم كنت قال الفكر فهذا الذي كونك عينك أو غيرك فكري وحققي واستعمليني فلهذا العمل أنا ففكرت النفس فعلمت بما أعطاها الدليل أنها لم توجد عينها وأنها موجودة لغيرها فالفقر للموجد لها ذاتي بما تجده في نفسها مما يقوم بها من الآلام الطبيعية فتفتقر إلى الأسباب المعتادة لإزالة تلك الآلام فبذلك الافتقار علمت أنها فقيرة في وجود عينها للسبب الموجد لها فلما ثبت لها حدوثها وثبت أن لها سببا أوجدها ثم فكرت فعلمت إن ذلك السبب لا ينبغي أن يشبهها فيكون فقيرا مثلها وإنه لا يناسب هذه الأسباب المزيلة لآلامها لمشاهدتها حدوث هذه الأسباب بعد أن لم تكن وقبولها للاستحالات والفساد فثبت عندها أن لها موجدا أوجدها وأوجد كل من يشبهها من الحوادث والأسباب المزيلة لآلامها فتنبهت أن ثم أمرا ما لولاه لبقيت ذات مرض وعلة فمن رحمته بها أوجد لها هذه الأسباب المزيلة آلامها وقد كانت تحب هذه الأسباب وتجري إليها بالطبع فانتقل تعلق ذلك الحب في السبب الموجد تلك الأسباب وقالت هو أولى بي إن أحبه ولكن لا أعلم ما يرضيه حتى أعامله به فحصل عندها حبه فأحبته لما أنعم عليها من وجودها ووجود ما يلائمها وهنا وقفت وهي في ذلك كله غافلة ناسية إقرارها بربوبية موجدها في قبضة الذر فبينا هي كذلك إذ جاءها داع من خارج من جنسها ادعى أنه رسول من عند هذا الذي أوجدها فقالت له أنت مثلي وأخاف أن لا تكون صادقا فهل عندك من يصدقك فإن لي قوة مفكرة بها توصلت إلى معرفة موجدي فقام لها بدليل يصدقه‏

في دعواه ففكرت فيه إلى أن ثبت صدقه عندها فآمنت به فعرفها أن ذلك الموجد الذي أوجدها كان قد قبض عليها وأشهدها على نفسها بربوبيته وإنها شهدت له بذلك فقالت ما عندي من ذلك خبر ولكن من الآن أقوم بواجب ذلك الإقرار فإنك صادق في خبرك ولكن ما أدري ما يرضيه من فعلي فلو حددت حدودا ورسمت لي مراسم أقف عندها حتى تعلم أني ممن وفي بشكره على ما أنعم به علي فرسم لها ما شرع فقامت بذلك شكرا وإن خالف غرضها ولم تفعل ذلك خوفا ولا طمعا لأنه لما رسم لها ما رسم ابتداء وعرفها أن وقوفها عند تلك المراسم يرضيه وما ذكر لها ما لها في ذلك من الثواب وما عليها إن خالفت من العقاب فبادرت هذه النفس الزكية لمراضيه في ذلك فقالت لا إله إلا الله كما قيل لها ثم بعد ذلك عرفها بما لها في ذلك من الثواب الجزيل والإنعام التام وما لمن خالف شرعه من العقاب فانضاف إلى عبادتها إياه حبا ورضي خاصة عبادة أخرى تطلبها رغبة في الثواب ورهبة من العقاب فجمعت في عبادتها بين أمرين بين عبادة له وعبادة رغبة ورهبة فأحبته له ولنفسها من حيث ما هي كثيرة بطبيعتها وروحانيتها فتعلقت الرغبة والرهبة من حيث طبيعتها وتعلقت عبادتها إياه محبة له من روحانيتها فإن أحبت شيئا من الموجودات سواه فإنما تحبه من روحانيتها له ومن طبيعتها النيل غرضها فلما رآها الحق على ذلك وقد علم أن من حقيقتها الانقسام وقد جمعت بين الحبين وهو قد وصف نفسه بالغيرة فلم يرد المشاركة وأراد أن يستخلصها لنفسه فلا تحب سواه فتجلى لها في صورة طبيعية وأعطاها علامة لا تقدر على إنكارها في نفسها وهي المعبر عنها بالعلم الضروري فعلمت أنه هو هذه الصورة فمالت إليه روحا وطبعا فلما ملكها وعلم أن الأسباب لا بد أن تؤثر فيها من حيث طبيعتها أعطاها علامة تعرفه بها ثم تجلى لها بتلك العلامة في جميع الأسباب كلها فعرفته فاحبت الأسباب من أجله لا من أجلها فصارت بكلها له لا لطبيعتها ولا لسبب غيره فنظرته في كل شي‏ء فزهت وسرت ورأت أنها قد فضلت غيرها من النفوس بهذه الحقيقة فتجلى لها في عين ذاتها الطبيعية والروحانية بتلك العلامة فرأت أنها ما رأته إلا به لا بنفسها وما أحبته إلا به لا بنفسها فهو الذي أحب نفسه ما هي أحبته ونظرت إليه في كل موجود بتلك العين عينها فعلمت أنه ما أحبه غيره فهو المحب والمحبوب والطالب والمطلوب وتبين لها بهذا كله أن حبها إياه له ولنفسها فما شاهدته في هذه المرتبة الأخرى من حبها إياه إنما كان به لا بها ولا بالمجموع وما ثم أمر زائد إلا العدم فأرادت أن تعرف ما قدر ذلك الحب وما غايته فوقفت على‏

قوله كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف‏

وقد عرفته لما تجلى لها في صورة طبيعية فعلمت أنه يستحق من تلك الصورة التي ظهر لها فيها اسم الظاهر والباطن فعلمت أن الحب الذي أحب به أن يعرف إنما هو في الباطن المنسوب إليه وعلمت أن المحب من شأنه إذا قام بالصورة أن يتنفس لما في ذلك التنفس من لذة المطلوب فخرج ذلك النفس عن أصل محبة في الخلق الذي يريد التعرف إليهم

ليعرفوه فكان العماء المسمى بالحق المخلوق به فكان ذلك العماء جوهر العالم فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها وهو قابل إلى ما لا يتناهى فهذا بدء حبه إيانا وأما حبنا إياه فبدؤه السماع لا الرؤية وهو قوله لنا ونحن في جوهر العماء كن فالعماء من تنفسه والصور المعبر عنها بالعالم من كلمة كن فنحن كلماته التي لا تنفد قال تعالى وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وهي عيسى ورُوحٌ مِنْهُ وهو النفس وتلك الحقيقة سارية في الحيوان فإذا أراد الله أمانته أزال عنه النفس فبالنفس كانت حياته وسيأتي في باب النفس صور التكوينات عنه في العالم فلما سمعنا كلامه ونحن ثابتون في جوهر العماء لم نتمكن أن نتوقف عن الوجود فكنا صورا في جوهر العماء فأعطينا بظهورنا في العماء الوجود للعماء بعد ما كان معقولي الوجود حصل له الوجود العيني فهذا كان سبب بدء حبنا إياه ولهذا نتحرك ونطيب عند سماع النغمات لأجل كلمة كن الصادرة من الصورة الإلهية غيبا وشهادة فشهادة صورة كلمة كن اثنان كاف ونون وهكذا عالم الشهادة له وجهان ظاهر وباطن فظاهره النون وباطنه الكاف ولهذا مخرج الكاف في الإنسان أدخل لعالم الغيب فإنه من آخر حروف الحلق بين الحلق واللسان والنون من حروف اللسان وغيب هذه الكلمة هو الواو بين الكاف والنون وهي من حروف الشفتين فلها الظهور وهي حرف علة لا حرف صحيح ولهذا وجد عنه التكوين لأنه حرف علة ولما كان من حروف الشفتين بامتداد النفس من خارج الشفتين إلى ظاهر الكون لهذا

كان ظهور الحكم في الجسم للروح فظهرت منه الأفعال والحركات من أجل روحه وكان روحه غيبا لأن الواو لا وجود لها في الشهادة لأنها حذفت لسكونها وسكون النون فهي تعمل من خلف الحجاب فهي غائبة العين ظاهرة الحكم فغاية حبنا إياه أن نعلم حقيقة ما حبنا هل هو صفة نفسية للمحب أو معنوية فيه أو نسبة بين المحب والمحبوب وهي العلاقة التي تجذب المحب لطلب الوصلة بالمحبوب فقلنا هي صفة نفسية للمحب فإن قيل نراها تزول قلنا من المحال زوالها إلا بزوال المحب من الوجود والمحب لا يزول من الوجود فالمحبة لا تزول وإنما الذي يعقل زواله إنما هو تعلقه بمحبوب خاص يمكن أن يزول ذلك التعلق الخاص وتزول تلك العلاقة بذلك المحبوب المعين وتتعلق بمحبوب آخر وهي متعلقة بمحبوبين كثيرين فتنقطع العلاقة بين المحب ومحبوب خاص وهي موجودة في نفسها فإنها عين المحب فمن المحال زوالها فالحب هو نفس المحب وعينه لا صفة معنى فيه يمكن أن ترتفع فيرتفع حكمها فالعلاقة هي النسبة بين المحب والمحبوب والحب هو عين المحب لا غيره فصف بالحب من شئت من حادث وغيره فليس الحب سوى عين المحب فما في الوجود إلا محب ومحبوب لكن من شأن المحبوب أن يكون معدوما ولا بد فيجب إيجاد ذلك المعدوم أو وقوعه في موجود ولا بد لا في معدوم هذا أمر محقق لا بد منه فالعلاقة التي في المحب إنما هي في ذلك الموجود الذي يقبل وجود ذلك المحبوب أو وقوعه لا وجوده إذا كان المحبوب لا يمكن أن يتصف بالوجود ولكن يتصف بالوقوع مثال ذلك أن يحب إنسان إعدام أمر موجود لما في وجوده من الضرر في حقه كالألم فإنه أمر وجودي في المتألم فيحب إعدامه فمحبوبه الإعدام وهو غير واقع فإذا زال الألم فازالته عدمه بعد وجوده بانتقاله إلى العدم فلهذا قلنا في مثل هذا بالوقوع لا بالوجود فالمحبوب معدوم أبدا ولا تصح محبة الموجود جملة واحدة إلا من حيث العلاقة إذ لا تتعلق إلا بموجود يظهر فيه وجود ذلك المحبوب المعدوم وقد بيناه قبل هذا في هذا الباب فقد تبين لك في هذه التكملة ماهية الحب وبدؤه وغايته وبما أحب المحب وحبه لمحبوبه أو لنفسه كل ذلك قد تبين فلنعدل إلى الكلام في الوصل الثاني إن شاء الله تعالى فقد حصل في الحب الإلهي ما فيه غنية على قدر الوقت انتهى الجزء الثاني عشر ومائة

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(الوصل الثاني) في الحب الروحاني‏

وهو الحب الجامع في المحب أن يحب محبوبه لمحبوبه ولنفسه إذ كان الحب الطبيعي لا يحب المحبوب إلا لأجل نفسه‏

[ما هو الحب وما معنى المحب وما حقيقة المحبوب وما يريد من المحبوب‏]

فاعلم أن الحب الروحاني إذا كان المحب موصوفا بالعقل والعلم كان بعقله حكيما وبحكمته عليما فرتب الأمور ترتيب الحكمة ولم يتعد بها منازلها فعلم إذا أحب ما هو الحب وما معنى المحب وما حقيقة المحبوب وما يريد من المحبوب وهل لمحبوبه إرادة واختيار فيحب ما يحب المحبوب أم لا إرادة له فلا يحب إلا لنفسه أو الموجود الذي لا يريد وجود محبوبه إلا في عين ذلك الموجود فبهذا القدر نقول في الموجود إنه محبوب وإن لم يكن إلا فيه لا عينه فذلك الموجود إن كان ممن يتصف بالإرادة فيمكن أن يحبه له لا لنفسه وإن لم يتصف بالإرادة فلا يحب المحب محبوبه إلا لنفسه أعني لنفس المحب لا لمحبوبه فإن محبوبه غير موصوف بأن له محبة في شي‏ء أو غرضا لكن الذي يوجد فيه هذا المحبوب قد يكون ذا إرادة فيتعين على المحب أن يحب محبوب ذلك الموجود فيحبه له ولكن بحكم التبع هذا تعطيه المحبة فإن المحب يطلب بذاته الوصلة بعد طلبه وجود محبوبه فإن عين وجود محبوبه عين وصلته لا بد من ذلك وهو قولنا

زمان الوجود زمان الوصال *** زمان الوداد كلوا واشربوا

وهذا البيت من قصيدة لنا في مجلى حقيقة تجلت لنا في حضرة شهودية وهي‏

تعجبت من زينب في الهوى *** وليس لنا غيرها مذهب‏

فلما تجلى لنا نور من *** أنار الحشى فانجلى الغيهب‏

بذلت لها نفسها ضنة *** بها والهوى أبدا متعب‏

فلم يك بين حصول الهوى *** ونيل المنى أمد يضرب‏

لأنه عند ما يحصل الهوى يقع التنفس والتنهد فيخرج النفس بشكل ما تصور في نفس المحب من صورة المحبوب‏

فيظهره صورة من خارج يشاهدها فيحصل له مقصوده ونعيمه بها من غير زمان كما تقدم في ذكر وجود العماء فتممنا وقلنا بعد هذا في القصيدة عينها

تعجبت من رحمة الله بي *** ومن مثل ذا ينبغي تعجبوا

زمان الوداد زمان الوجود *** زمان الوصال كلوا واشربوا

فأين الغرام وأين السقام *** وأين الهيام إلا فأعجبوا

مطهرة الثوب محجوبة *** فليست إلى أحد تنسب‏

فإن المحبوب كما قلنا لا بد أن يكون معدوما وفي حال عدمه فهو طاهر الثوب في أول ما يوجد لأنه ما اكتسب منه مما يشينه ويدنسه في أول ظهوره ووجوده فالأصل الطهارة وهوقوله كل مولود يولد على الفطرة

وهي الطهارة وقولنا محجوبة هو عدمها الذي قلنا من شهود الوجود وقولنا فليست إلى أحد تنسب لأن المعدوم لا ينسب ولكن المحب يطلبه لنفسه ثم تممنا فقلنا وهو آخر القصيدة

فقد وجب الشكر لله إذ *** هي البكر لي وأنا الثيب‏

لأن المحبوب وجد عن عدم فهو بكر وقد كنت أحببت قبل ذلك فإنا ثيب فإذا كان المحبوب الذي هو المعدوم إذا وجد لا يوجد في موجود يتصف بالإرادة لم يتصف هذا المحب بأنه يريده له فيحبه لنفسه بالضرورة كالحب الطبيعي فإذا كان المحبوب لا يوجد إلا في موجود متصف بالإرادة كالحق تعالى أو جارية أو غلام وما ثم من يتعلق به حب المحب إلا من ذكرناه فحينئذ يصح أن يحب ما يحب هذا الموجود الذي لا يوجد محبوبه إلا فيه فإن اتفق أن يكون ذلك لا يريد ما أحب هذا المحب بقي المحب على أصله في محبته محبوبه لأن محبوبه ما له إرادة كما قلنا فلا يلزم من هذا أن يحب ما أحب هذا الموجود الذي لا يحب ما يحبه هذا المحب إذ كان ذلك الموجود ما هو عين المحبوب وإنما هو محل لوجود ذلك المحبوب وليس في قوة المحب إيجاد ذلك المحبوب في هذا الموجود إلا إن أمكنه من نفسه وأما إن كان المحبوب ممن لا يكون وجوده في موجود فلا يتمكن له إيجاد المحبوب البتة إلا أن تقوم من الحق به عناية فيعطيه التكوين كعيسى عليه السلام ومن شاء الله من عباده فإذا أعطى هذا فبالضرورة يحمله الحب على إيجاد محبوبه وهذه مسألة لا تجدها محققة على ما ذكرناه فيها في غير هذا الكتاب لأني ما رأيت أحدا حقق فيها ما ذكرناه وإن كان المحبون كثيرين بل كل من في الوجود محب ولكن لا يعرف متعلق حبه وينحجبون بالموجود الذي يوجد محبوبه فيه فيتخيلون أن ذلك الموجود محبوبهم وهو على الحقيقة بحكم التبعية فعلى الحقيقة لا يحب أحد محبوبا لنفس المحبوب وإنما يحبه لنفسه هذا هو التحقيق فإن المعدوم لا يتصف بالإرادة فيحبه المحب له ويترك إرادته لإرادة محبوبه ولما لم يكن الأمر في نفسه على هذا لم يبق إلا أن يحبه لنفسه فافهم فهذا هو الحب الروحاني المجرد عن الصورة الطبيعية فإن تلبس بها وظهر فيها كما قلنا في الحب الإلهي وهو في الروحاني أقرب نسبة لأنه على كل حال صورة من صور العالم وإن كان فوق الطبيعة

[إذا قبل الروح الصورة الطبيعية]

فاعلم أنه إذا قبل الروح الصورة الطبيعية في الأجساد المتخيلة لا في الأجسام المحسوسة التي جرت العادة بإدراكها فإن الأجساد المتخيلة أيضا معتادة الإدراك لكن ما كل من يشهدها يفرق بينها وبين الأجسام الحقيقية عندهم ولهذا

لم يعرف الصحابة جبريل حين نزل في صورة أعرابي وما علمت أن ذلك جسد متخيل حتى عرفهم النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لما قال لهم هذا جبريل‏

ولم يقم بنفسهم شك أنه عربي وكذلك مريم حين تمثل لها الملك بَشَراً سَوِيًّا لأنه ما كانت عندها علامة في الأرواح إذا تجسدت وكذا يظهر الحق لعباده يوم القيامة فيتعوذون منه لعدم معرفتهم به فكان الحكم في الجناب الإلهي والروحاني في الصور سواء في حق المتجلي له من الجهل به فلا بد لمن اعتنى الله به من علامة بها يعرف تجلى الحق من تجلى الملك من تجلى الجان من تجلى البشر إذا أعطوا قوة الظهور في الصور كقضيب البان وأمثاله فإذا كان البشر بهذه النشأة الترابية العنصرية له قوة التحول في الصور في عين الرائي وهو على صورته فهذا التحول في الأرواح أقرب فاعلم من ترى وبما ذا ترى وما هو الأمر عليه وقد بينا ذلك في باب المعرفة في علم الخيال فانظره هناك فإذا

تجلى الروح في صورة طبيعية مشى الحكم عليها كما ذكرناه في الحب الإلهي سواء من حيث قبول تلك الصورة للظاهر والباطن لا تعدل عن ذلك المجرى فاعلم ذلك فيجمع الروحاني بين الحب الطبيعي والروحاني وبين الحب لنفسه ولمحبوبه إن كان محبوبه كما قلنا ذا إرادة ويتبين لك بما قررناه أن الناس لا يعرفون ما يحبون وأنه يندرج محبوبهم في موجود ما فيتخيلون أنهم يحبون ذلك الموجود وليس كذلك فاعلم قدر ما أعلمتك به واشكر الله حيث خلصك من الجهل بي وهذا القدر كاف في الغرض المقصود فإن فيه تفاريع كثيرة وغرضنا في هذا الكتاب تحصيل الأصول والحمد لله‏

(الوصل الثالث) في الحب الطبيعي‏

وهو نوعان طبيعي وعنصري ونسينا أن تذكر غاية الحب الروحاني فلنذكره‏

في الحب الطبيعي‏

لتعلقه بالصورة الطبيعية فغايته الاتحاد وهو أن تصير ذات المحبوب عين ذات المحب وذات المحب عين ذات المحبوب وهو الذي تشير إليه الحلولية ولا علم لها بصورة الأمر فاعلم أن الصورة الطبيعية على أي حال كان ظهورها جسما أو جسدا بأي نسبة كانت فإن المحبوب الذي هو المعدوم وإن كان معدوما فإنه ممثل في الخيال فله ضرب من ضروب الوجود المدرك بالبصر الخيالي في الحضرة الخيالية بالعين الذي تليق بها فإذا تعانق

الحبيبان وامتص كل واحد منهما ريق صاحبه وتحلل ذلك الريق في ذات كل واحد من الحبيبين وتنفس كل واحد من الصورتين عند التقبيل والعناق فخرج نفس هذا فدخل في جوف هذا ونفس هذا في جوف هذا وليس الروح الحيواني في الصور الطبيعية سوى ذلك النفس وكل نفس فهو روح كل واحد من المتنفسين وقد حيي به من قبله في حال التنفيس والتقبيل فصار ما كان روحا لزيد هو بعينه يكون روحا لعمرو وقد كان ذلك النفس خرج من محب فتشكل بصورة حب فصحبته لذة المحبة فلما صار روحا في هذا الذي انتقل إليه وصار نفس الآخر روحا في هذا الآخر عبر عن ذلك بالاتحاد في حق كل واحد من الشخصين وصح له أن يقول‏

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

وهذا غاية الحب الروحاني في الصور الطبيعية وهو قوله في القصيدة في أول هذا الباب‏

روحا بروح وجثمانا بجثمان‏

ثم نرجع إلى الحب الطبيعي فنقول إن الحب الطبيعي هو العام فإن كل ما تقدم من الحب في الموصوفين به قبلوا الصور الطبيعية على ما تعطيه حقائقهم فاتصفوا في حبهم بما تتصف به الصور الطبيعية من الوجد والشوق والاشتياق وحب اللقاء بالمحبوب ورؤيته والاتصال به وقد وردت أخبار كثيرة صحاح في ذلك يجب الايمان بها مثل‏

قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه‏

مع كونه ما زال من عينه ولا يصح أن يزول عن عينه فإنه عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ورقيب ومع هذا فجاء باللقاء في حقه وفي حق عبده ووصف نفسه بالشوق إلى عباده وأنه أشد فرحا ومحبة في توبة عبده من الذي ضلت راحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية ثم يجدها بعد ما يئس من الحياة وأيقن بالموت‏

فكيف يكون فرحه بها فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الشخص براحلته مع غناه سبحانه وقدرته ونفوذ إرادته في عباده ولكن انظر في سر قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فتعلم أنه ما تعدى بالأمور استحقاقها وأن مرتبة العلم ما فوقها مرتبة وقد قال ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنه خلاف المعلوم فوقوعه محال فالأمر وإن كان ممكنا بالنظر إليه فليس بممكن بالنظر إلى علم الله فيه بوقوع أحد الإمكانين وأحدية المشيئة فيه وما تعلقت المشيئة الإلهية بكونه فلا بد من كونه وما لا بد من وقوعه لا يتصف بالإمكان بالنظر إلى هذه الحقيقة ولهذا عدل من عدل من الناظرين في هذا الشأن من إطلاق اسم الممكن عليه إلى اسم الواجب الوجود بالغير وهو أولى في التحقيق لأحدية المشيئة ولهذا قال ولو شاء حيث ما قاله ولو حرف امتناع لامتناع فقد سبقت المشيئة بما سبقت كما قال ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ فكان اسم وجوب الوجود بالغير أكمل في نسبة الأمر من اسم الممكن إذ ما ثم إلا أمر واحد كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فزال الاحتمال فزال الإمكان فما ثم إلا وجوب مطلق أو وجوب مقيد ثم نرجع ونقول‏

[أن الحب الطبيعي من ذاته إذا قام بالمحب أن لا يحب المحبوب إلا من النعيم به‏]

اعلم أن الحب الطبيعي من ذاته إذا قام بالمحب أن لا يحب المحبوب إلا لما له فيه من النعيم به واللذة فيحبه لنفسه لا لعين المحبوب وقد تبين لك فيما تقدم أن هذه الحقيقة سارية في الحب الإلهي والروحاني فأما بدء الحب الطبيعي فما هو للانعام والإحسان فإن الطبع لا يعرف ذلك جملة واحدة وإنما يحب الأشياء لذاته خاصة فيريد الاتصال بها والدنو منها وهو سار في كل حيوان وهو في الإنسان بما هو حيوان فيحبه الحيوان في نفس الأمر لقوام وجوده‏

به لا لأمر آخر ولكن لا يعرف معنى قوام وجوده وإنما يجد داعية من نفسه للاتصال بموجود معين ذلك الاتصال هو محبوبه بالأصالة وذلك لا يكون إلا في موجود معين فيحب ذلك الوجود بحكم التبعية لا بالأصالة فاتصاله اتصال محسوس وقرب محسوس وهو قولنا وجثمانا بجثمان فهذا هو غاية الحب الطبيعي فإن كان نكاحا عين محبوبه في موجود ما فغايته حصول ذلك المحبوب في الوجود فيطلب ويشتاق للمحل الذي يظهر فيه عين محبوبه ولا يظهر إلا بينهما لا في واحد منهما لأنها نسبة بين اثنين وكذلك إن كان عناقا أو تقبيلا أو مؤانسة أو ما كان ولا فرق بين أن تقول طبيعة الشي‏ء أو حقيقته كل ذلك سائغ في العبارة عنه وهو في الإنسان أتم من غيره لأنه جامع حقائق العالم والصورة الإلهية فله نسبة إلى الجناب الأقدس فإنه عنه ظهر وعن قوله كن تكون وله نسبة إلى الأرواح بروحه وإلى عالم الطبيعة والعناصر بجسمه من حيث نشأته فهو يحب كل ما تطلبه العناصر والطبيعة بذاته وليس إلا عالم الأجسام والأجساد والأرواح ومنها أجسام عنصرية وكل جسم عنصري فهو طبيعي ومنها أجسام طبيعية غير عنصرية فما كل جسم طبيعي عنصري فالعناصر من الأجسام الطبيعية لا يقال فيها عنصرية وكذلك الأفلاك والأملاك ولهذا عرفنا إن الملأ الأعلى يختصمون فيدخلون في قوله تعالى ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا من رَحِمَ رَبُّكَ وهم يخالفون هؤلاء المرحومين مخالفيهم ولِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي من أجل الخلاف خلقهم لأن الأسماء الإلهية متفاضلة فمن هناك صدر الخلاف أين الضار من النافع والمعز من المذل والقابض من الباسط وأين الحرارة من البرودة وأين الرطوبة من اليبوسة وأين النور من الظلمة وأين العدم من الوجود وأين النار من الماء وأين الصفراء من البلغم وأين الحركة من السكون وأين العبودية من الربوبية أ ليست هذه متقابلات ف لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ وأين التحليل من التحريم في العين الواحدة للشخصين فيحرم على هذا ما يحل لهذا فيتوارد حكمان مختلفان على عين واحدة فانظر حكم الطبيعة المتضادة من أين صدرت وما كان سبب وجودها متقابلة من العلم الإلهي لتعلموا أنه ليس بيد أحد من المخلوقين مما سوى الله من الأمر شي‏ء لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى أن الآخرة ذات دارين رؤية وحجاب فالحمد لله الذي أبان لنا عن الأمور ومصادرها ومواردها وجعلنا من العارفين بها فالله يجعلنا ممن أسعده بما علمه فقد تبين لك أن المحبوب هو الاتصال بموجود ما من كثيرين أو قليلين ومع كونه مؤانسة ومجالسة وتقبيلا وعناقا وغير ذلك بحسب ما تقتضيه حقيقة الموجود فيه عين المحبوب وبحسب حقيقة المحب فالمحبوب واحد العين متنوع وهو حب الاتصال خاصة إما بحديث أو ضم أو تقبيل هذا تنوعه في واحد أو كثيرين فلا يصح أن يحب المحب اثنين أصلا لأن القلب لا يسعهما فإن قلت هذا يمكن أن يصح في حب المخلوق وأما في حب الخالق فلا فإنه قال يحبهم فأحب كثيرين قلنا الحب معقول المعنى وإن كان لا يحد فهو مدرك بالذوق غير مجهول ولكن عزيز التصور وهو مجهول النسبة إلى الله تعالى فإن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فقولك وأما في حب الحق فلا هذا تحكم منك فإنه لا يقول هذا إلا من يعرف ذات الحق وهي لا تعرف فلا تعرف النسبة وتعرف المحبة فإنه ما خاطب عباده إلا بلسانهم وبما يعرفونه في لحنهم من كل ما ينسبه إلى نفسه ووصف أنه عليه ولكن كيفية ذلك مجهولة

(وصل) وأما القسم الثاني وهو الحب العنصري‏

فهو وإن كان طبيعيا فبين القسمين فارق وذلك أن الطبيعي لا يتقيد بصورة طبيعية دون صورة طبيعية وهو مع كل صورة كما هو مع الأخرى في الحب مثل الكهرباء مع ما يتعلق بها ومسكه بالخاصية وأما العنصري فهو الذي يتقيد بصورة طبيعية وحدها كقيس ليلى وقيس لبني وكثير عزة وجميل بثينة ولا يكون هذا إلا لعموم المناسبة بينهما كمغناطيس الحديد ويشبهه في الحب الروحاني وما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ويشبهه من الحب الإلهي التقييد بعقيدة واحدة دون غيرها كما يشبه الروحاني الطبيعي في الطهارة ويشبه الإلهي الطبيعي في الذي يراه في جميع العقائد عينا واحدة

(وصل) [للحب أربعة ألقاب‏]

واعلم أن الحب كما قلناه وإن كان له أربعة ألقاب فلكل لقب حال فيه ما هو عين الآخر فلنبين ذلك كله فمن ذلك الهوى ويقال على نوعين وهما في الحب النوع الواحد سقوطه في القلب وهو ظهوره من الغيب إلى الشهادة في القلب يقال هوى النجم إذا سقط يقول تعالى والنَّجْمِ إِذا هَوى‏ فهو من أسماء الحب في ذلك الحال والفعل منه هوى‏

يهوى بكسر عين الفعل في الماضي وفتحها في المستقبل والاسم منه هوى وهو الهوى وهذا الاسم هو الفعل الماضي من الهوى الذي هو السقوط يقال هوى بفتح عين الفعل في الماضي يهوي بكسرها في المستقبل والاسم منه هوى وسبب حصول المعنى الذي هو الهوى في القلب أحد ثلاثة أشياء أو بعضها أو كلها إما نظرة أو سماع أو إحسان وأعظمها النظر وهو أثبتها فإنه لا يتغير باللقاء والسماع ليس كذلك فإنه يتغير باللقاء فإنه يبعد أن يطابق ما صوره الخيال بالسماع صورة المذكور وأما حب الإحسان فمعلول تزيله الغفلة مع دوام الإحسان لكون عين المحسن غير مشهودة وأما الهوى الثاني فلا يكون إلا مع وجود حكم الشريعة وهو قوله لداود فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ يعني لا تتبع محابك بل اتبع محابي وهو الحكم بما رسمته لك ثم قال فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله أي يحيرك ويتلفك ويعمى عليك السبيل الذي شرعته لك وطلبت منك المشي عليه وهو الحكم به فالهوى هنا محاب الإنسان فأمره الحق بترك محابه إذا وافق غير الطريق المشروعة له فإن قلت فقد نهاه عما لا يصح أن ينتهي عنه فإن الحب الذي هو الهوى سلطانه قوي ولا وجود لعين العقل معه قلنا ما كلفه إزالة الهوى فإنه لا يزول إلا أن الهوى كما قلنا يختلف متعلقة ويكون في موجودين كثيرين وقد بينا أن الهوى الذي هو الحب حقيقته حب الاتصال في موجود ما أو كثيرين فطلب منه تعالى أن يعلقه بالحق الذي شرع له وهو سبيل الله كما يعلقه بسبل كثيرة ما هي سبيل الله فهذا معنى قوله ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فما كلفه ما لا يطيق فإن تكليف ما لا يطاق محال على العالم الحكيم أن يشرعه فإن احتججت بتكليف الايمان من سبق في علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل وأمثاله قلنا الجواب من وجهين الوجه الواحد إني لست أعني بتكليف ما لا يطاق إلا ما جرت العادة به أنه لا يطيقه المكلف مثل أن يقول له اصعد إلى السماء بغير سبب واجمع بين الضدين فقم في الوقت الذي لا يقوم وإنما كلفه ما جرت العادة به أن يطيقه وهو اعتقاد الايمان أو التلفظ به وكلاهما يجد كل إنسان في نفسه التمكن من مثل هذا كسبا أو خلقا كيفما شئت فقل ولهذا تقوم الحجة به لله على العبد يوم القيامة وقد قال قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فلو كلفه ما ليس في وسعه عادة لم يصح قوله فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ بل كان يقول ولله أن يفعل ما يريد كما قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ومعنى ذلك أنه لا يقال للحق لم كلفتنا ونهيتنا وأمرتنا مع علمك بما قدرته علينا من مخالفتك هذا موضع لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فإنه يقول لهم هل أمرتكم بما تطيقونه أو بما لا تطيقونه عندكم فلا بد أن يقولوا بما جرت العادة به أن نطيقه فقد كلفهم ما يطيقونه فثبت إن لله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فإنهم جاهلون بعلم الله فيهم زمان التكليف والجواب الثاني قد تقدم من أنه لا بد من الايمان به وقد وقع في قبض الله الذرية ويظهر حكمه في الآخرة فلا يبقى إلا مؤمن وهو في الدار الدنيا معترف بوجوده وإن أشرك فما يشرك إلا بموجود ولهذا ما طلب منه إلا توحيد الأمر له خاصة وهو محبوب الحق وهو معدوم منهم وهو يحب توحيده أن يظهر في هؤلاء الموجودين فهو وإن أحب واحدا فأحبه من كثيرين فمن اتصف به أحبه الله لكون محبوبه وهو التوحيد ظهر فيه ومن أبغضه فلكون محبوبه لم يظهر فيه وهو التوحيد فمال الكل إلى الايمان وقد قررنا ذلك في سبق الرحمة غضب الله فقد تبين لك معنى الهوى وأما الحب فهو أن يتخلص هذا الهوى في تعلقه بسبيل الله دون سائر السبل فإذا تخلص له وصفا من كدورات الشركاء من السبل سمي حبا لصفائه وخلوصه ومنه سمي الحب الذي يجعل فيه الماء حبا لكون الماء

يصفو فيه ويروق وينزل كدرة إلى قعره وكذلك الحب في المخلوقين إذا تعلق بجناب الحق سبحانه وتخلص له من علاقته بالأنداد الذين جعلها المشركون شركاء لله في الألوهة سمي ذلك حبا بل قال فيه تعالى والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وسبب ذلك أنه إذا كشف الغطاء وتَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا فزال‏

حبهم إياهم في ذلك الموطن وبقي المؤمنون على حبهم لله فكانوا أشد حبا لله بما زادوا على أولئك في وقت رجوعهم عن حيهم آلهتهم حين لم تغن عنهم من الله شيئا فلا يبقى مع المشركين يوم القيامة إلا حبهم لله خاصة فإنهم في الدنيا أحبوه وأحبوا شركاءهم على أنهم آلهة ولو لا ذلك التوهم والغلط ما أحبوهم فكان محبوبهم الألوهة وتخيلوها في كثيرين فأحبوه وأحبوا الشركاء فإذا كان في القيامة كما ذكرنا لم يبق عندهم سوى حبهم لله تعالى فكانوا في الآخرة أشد حبا لله منهم له في الدنيا لكون‏

حبهم كان منقسما فاجتمع عليه في الآخرة لما لم يعاين محبوبه وهو الألوهة إلا فيه خاصة فلذلك كان سبق الرحمة وقوة الطرفين وضعف الواسطة بما فيها من الشركة وقد بينا ذلك كله فيما تقدم فهذا الفرق بين الحب والهوى وأما العشق فهو إفراط المحبة أو المحبة المفرطة وهو قوله في الذين آمنوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وهو مع صفاته لو أخذ الذي هو مسمى الحب وظهوره في حبة القلب الذي أيضا به سمي حبا فإذا عم الإنسان بجملته وأعماه عن كل شي‏ء سوى محبوبه وسرت تلك الحقيقة في جميع أجزاء بدنه وقواه وروحه وجرت فيه مجرى الدم في عروقه ولحمه وغمرت جميع مفاصله فاتصلت بوجوده وعانقت جميع أجزائه جسما وروحا ولم يبق فيه متسع لغيره وصار نطقه به وسماعه منه ونظره في كل شي‏ء إليه ورآه في كل صورة وما يرى شيئا إلا ويقول هو هذا حينئذ يسمى ذلك الحب عشقا كما حكي عن زليخا أنها افتصدت فوقع الدم في الأرض فانكتب به يوسف يوسف في مواضع كثيرة حيث سقط الدم لجريان ذكر اسمه مجرى الدم في عروقها كلها وهكذا حكي عن الحلاج لما قطعت أطرافه انكتب بدمه في الأرض الله الله حيث وقع ولذلك قال رحمه الله‏

ما قد لي عضو ولا مفصل *** إلا وفيه لكم ذكر

فهذا من هذا الباب وهؤلاء هم العشاق الذين استهلكوا في الحب هذا الاستهلاك وهو الذي يسمى بالغرام وسيأتي ذكره في نعت المحبين إن شاء الله‏

[الود]

وأما الود فهو ثبات الحب أو العشق أو الهوى أية حالة كانت من أحوال هذه الصفة فإذا ثبت صاحبها الموصوف بها عليها ولم بغيره شي‏ء عنها ولا أزاله عن حكمها وثبت سلطانها في المنشط والمكره وما يسوء ويسر في حال الهجر والطرد من الموجود الذي يحب أن يظهر فيه محبوبه ولم يبرح تحت سلطانه لكونه مظهر محبوبه سمي لذلك ودا وهو قوله تعالى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي ثباتا في المحبة عند الله وفي قلوب عباده هذا معنى الود وللحب أحوال كثيرة جدا في المحبين سأذكرها إن شاء الله مثل الشوق والغرام والهيام والكلف والبكاء والحزن والكبد والذبول والانكسار وأمثال ذلك مما يتصف به المحبون ويذكرونه في أشعارهم مفصلة إن شاء الله وقد يقع في الحب أغاليط كثيرة أولها ما ذكرناه وهو إنهم يتخيلون أن المحبوب أمر وجودي وهو أمر عدمي يتعلق الحب به أن يراه موجودا في عين موجودة فإذا رآه انتقل حبه إلى دوام تلك الحال التي أحب وجودها من تلك العين الموجودة فلا يزال المحبوب معدوما وما يشعر بذلك أكثر المحبين إلا أن يكونوا عارفين بالحقائق ومتعلقاتها وقد بينا ذلك وأكثر كلامنا في هذا الباب إنما هو في المحبة المفرطة فإنها تذهب بالعقول أو تورث النحول والفكر الدائم والهمم اللازم والقلق والأرق والشوق والاشتياق والسهاد وتغيير الحال وكسوف البال والوله والبله وسوء الظن بالمحبوب أعني الموجود الذي تحب ظهور محبوبك فيه الذي تزعم العامة فيه أنه المحبوب لها ونحن فيه على نوعين طائفة منا نظرت إلى المثال الذي في خيالها من ذلك الموجود الذي يظهر محبوبه فيه ويعاين وجود محبوبه وهو الاتصال به في خياله فيشاهده متصلا به اتصال لطف ألطف منه في عينه في الوجود الخارج وهو الذي اشتغل به قيس المجنون عن ليلى حين جاءته من خارج فقال لها إليك عني لئلا تحجبه كثافة المحسوس منها عن لطف هذه المشاهدة الخيالية فإنها في خياله ألطف منها في عينها وأجمل وهذا ألطف المحبة وصاحب هذا النعت لا يزال منعما لا يشكو الفراق ولنا في هذا النعت اليد الطولى بين المحبين فإن مثل هذا في المحبين عزيز الوجود لغلبة الكثافة عليهم وسبب ذلك عندنا أنه من استفرغ في حب المعاني المجردة عن المواد فغايته إذا كثفها أن ينزلها إلى الخيال ولا ينزل بها أكثر فمن كان أكشف حاله الخيال فما ظنك بلطافته في المعاني وهذا الذي حاله هذا هو الذي يمكن أن يحب الله فإن غايته في حبه إياه إذا لم يجرده عن التشبيه أن ينزله إلى الخيال وهوقوله عليه السلام اعبد الله كأنك تراه‏

فإذا أحببنا ونحن بهذه الصفة موجودا نحب ظهور محبوبنا فيه من المحسوسات عالم الكثائف نلطفه بأن نرفعه إلى الخيال لنكسوه حسنا فوق حسنه ونجعله في حضرة لا يمكنه الهجر معها ولا الانتقال عنها فلا يزال في اتصال دائم ولنا في ذلك‏

ما لمجنون عامر من هواه *** غير شكوى البعاد والاغتراب‏

وأنا ضده فإن حبيبي *** في خيالي فلم أزل في اقتراب‏

فحبيبي مني وفي وعندي *** فلما ذا أقول ما بي وما بي‏

أما قولنا يذهب الحب بالعقول فإنهم قالوا

ولا خير في حب يدبر بالعقل‏

وقال أبو العباس المقراني الكساد الحب أملك للنفوس من العقول وإنما قالوا ذلك لأن العقل يقيد صاحبه والحب من أوصافه الضلال والحيرة والحيرة تنافي العقل فإن العقل يجمعك والحيرة تفرقك قال إخوة يوسف ليعقوب إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ يريدون حيرته في حب يوسف والحيرة تفرق ولا تجمع ولهذا وصفت المحبة بالبث وهو تفرق هموم المحب في وجوه كثيرة قال تعالى وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً وكذلك قوله هَباءً مُنْبَثًّا والمحب في حكم محبوبه فلا تدبير له في نفسه وإنما هو يحكم ما يعطيه ويأمره به سلطان الحب المستولي على قلبه ومن ضلالته في حبه أنه يتخيل في كل شخص أن محبوبه حسن عنده وأنه يرى منه مثل ما يراه هذا المحب وهذا من الحيرة وعلى هذا جرى المثل حسن في كل عين من تود يعني عندك أيها المحب تتخيل أن كل من يرى محبوبك يحسن عنده كما يحسن عندك ومن ضلالة المحب أنه يتحير في الوجوه التي يرى أنه يحصل محبوبه منها فيقول أفعل كذا لنصل بهذا الفعل إلى محبوبي أو كذا وكذا فلا يزال يحار في أي الوجوه يشرع لأنه يتخيل أن وجود اللذة بمحبوبه في الحس أعظم منها في الخيال وذلك لغلبة الكثافة على هذا المحب ويغفل عن لذة التخيل في حال النوم فإنه أشد من التذاذه بالخيال لأنه أشد اتصالا به من الخيال والاتصال بالخيال أشد من الاتصال بالخارج وهو المحسوس فلذته بمعنى أشد اتصالا من الخيال فيحار المحب في تحصيل الوجوه التي بها يصل إلى الاتصال من خارج ويسأل عن ذلك من يعرف أن عنده خبرا من هذا الشأن عسى يجد عنده حيلة في ذلك ولا سيما وقد سمع في ذلك في قول القائل‏

لو صح منك الهوى أرشدت للحيل‏

يعني فيما تصنع حتى تتصل بالمحبوب‏

(وصل)

فأول ما أذكره من نعوت المحبين ما حدثنا به يونس بن يحيى بن أبي الحسن الهاشمي العباسي القصار بمكة تجاه الركن اليماني من الكعبة المعظمة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال أخبرنا ابن عبد الباقي أخبرنا أحمد بن أحمد أخبرنا أحمد بن عبد الله حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا أبو بكر الدينوري المفسر سنة ثمان وثمانين ومائتين حدثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال سمعت ذا النون يقول إن لله عبادا ملأ قلوبهم من صفاء محض محبته وفسح أرواحهم بالشوق إلى رؤيته فسبحان من شوق إليه أنفسهم وأدنى منه فهمهم وصفت له صدورهم فسبحان موفقهم ومؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم إلهي لك تواضعت أبدانهم وإلى الزيادة منك انبسطت أيديهم فاذقتهم من حلاوة الفهم عنك ما طيبت به عيشهم وأدمت به نعيمهم ففتحت لهم أبواب سماواتك وأبحت لقلوبهم الجولان في ملكوتك بل ما نسيت محبة المحبين وعليك معول شوق المشتاقين وإليك حنت قلوب العارفين وبك أنست قلوب الصادقين وعليك عكفت رهبة الخائفين وبك استجارت أفئدة المقصرين قد يئست الراحة من فتورهم وقل طمع الغفلة فيهم فهم لا يسكنون إلى محادثة الفكرة فيما لا يعنيهم ولا يفترون عن التعب والسهر يناجونه بألسنتهم ويتضرعون إليه بمسكنتهم يسألونه العفو عن زلاتهم والصفح عما وقع من الخطاء في أعمالهم فهم الذين ذابت قلوبهم بفكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار ومن نعوتهم رضي الله عنهم النحول وهو نعت يتعلق بكنائفهم وبلطائفهم فأما تعلقه بلطائفهم فإن أرواح المحبين وإن لطفت عن إدراك الحواس ولطفت عن تصوير الخيال فإن الحب يلطفها لطافة السراب لمعنى أذكره وذلك أن السراب يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً وذلك لظمئه لو لا ذلك ما حسبه ماء لأن الماء موضع حاجته فيلجأ إليه لكونه مطلوبه ومحبوبه لما فيه من سر الحياة ف إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وإذا لم يجده شيئا وَجَدَ الله عِنْدَهُ عوضا من الماء فكان قصده حسا للماء والله يقصد به إليه من حيث لا يشعر فكما أنه تعالى يمكر بالعبد من حيث لا يشعر كذلك يعتني بالعبد في الالتجاء إليه والرجوع إليه والاعتماد عليه بقطع الأسباب عنه عند ما يبديها له من حيث لا يشعر فوجود الله عنده عند فقد الماء المتخيل له في السراب هو رجوعه إلى الله لما تقطعت به الأسباب وتغلقت دون مطلوبه الأبواب رجع إلى من بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وهو كان المطلوب به من الله هذا فعله مع أحباه يردهم إليه اضطرارا واختيارا كذلك أرواحهم يحسبونها قائمة بحقوق الله التي فرضها عليها وإنها المتصرفة عن أمر الله محبة لله وشوقا إلى مرضاته‏

ليراها حيث أمرها فإذا كشف لها الغطاء واحتد بصرها وجدت نفسها كالسراب في شكل الماء فلم تر قائما بحقوق الله إلا خالق الأفعال وهو الله تعالى فوجدت الله عين ما تخيلت أنه عينها فذهبت عينها عنه وبقي المشهود الحق بعين الحق كما فنى ماء السراب عن السراب والسراب مشهود في نفسه وليس بماء كذلك الروح موجود في نفسه وليس بفاعل فعلم عند ذلك أن المحب عين المحبوب وأنه ما أحب سواه ولا يكون إلا كذلك وألطف من هذا النحول في الأرواح فلا يكون وأما النوع المتعلق من النحول بكثائفهم فهو ما يتعلق به الحس من تغير ألوانهم وذهاب لحوم أبدانهم لاستيلاء جولان أفكارهم في أداء ما كلفهم المحبوب أداءه مما افترضه عليهم فبذلوا المجهود ليتصفوا بالوفاء بالعهود إذ كانوا عاهدوا الله على ذلك وعقدوا عليه في إيمانهم به وبرسوله وسمعوه يقول آمرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وقال أَوْفُوا بِعَهْدِي ولا تنقضوا الميثاق وقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلًا فهذا سبب نحول أجسامهم ومن نعوت المحبين الذبول وهو نعت صحيح في أرواحهم وأجسامهم أما في أجسامهم فسببه ترك ملاذ الأطعمة الشهية التي لها الدسم والرطوبة وهي مستلذة للنفوس وتورث في الأجسام نضرة النعيم فلما رأوا رضي الله عنهم أن الحبيب كلفهم القيام بين يديه ومناجاته ليلا عند تجليه ونوم النائمين ورأوا أن الرطوبات الحاصلة في أجسامهم تصعد منها أبخرة إلى الدماغ تخدر الحواس وتغمرها فيغلبهم النوم عما في نفوسهم من القيام بين يدي محبوبهم لمناجاته في

خلواتهم حين ينامون ثم إن تلك الأبخرة تورث قوة في أبدانهم تؤدي تلك القوة الجوارح إلى التصرف في الفضول الذي حجر عليهم التصرف فيه محبوبهم فتركوا الطعام والشراب إلا قدر ما تمس الحاجة إليه من ذلك فقلت الرطوبة في أجسامهم فزالت عنهم نضرة النعيم وذبلت شفاههم واسترخت أبدانهم وراح نومهم وتقوى سهرهم فنالوا مقصودهم من القيام بين يديه ووجدوا المعونة على ذلك بما تركوه فذلك هو ذبول الأجسام وأما ذبول أرواحهم فإن لهم نعيما بالمعارف والعلوم لأن لهم نسبة إلى أرواح الملإ الأعلى ليأنسوا بالجنس رغبة في المعاونة لما سمعوا الله تعالى يقول وتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوى‏ فتخيلوا أنهم المخاطبون بذلك وليس الأمر كذلك فإن الذين خوطبوا بذلك هم الذين يليق بهم أن يتعاونوا على الإثم والعدوان ولذلك أردف بالنهي فقال ولا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ والْعُدْوانِ واتَّقُوا الله وهذا ليس من صفات الملإ الأعلى فلما عرفوا غلطهم في ذلك عدلوا عن هذه الآية إلى قوله اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا أي احبسوا نفوسكم مع الله فلما فارقوا الجنس بهذه الآية ذبلت أرواحهم وقد كانت في نضرة النعيم بمجالسة الجنس لأنها تعلقت بمن لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فلم تعرف بينها وبينه مناسبة مثلية فتتعلق بها فقالت لها المعرفة بالله هو ما خاطبك سبحانه إلا بلسانك ولحنك ولغتك وما تواطأ عليه أهل ذلك اللسان الذين أنت منهم فارجع إلى مفهوم ما خاطبك به فإنه لم يخرجه عن حقيقة مدلوله ولا تنال بجهلك النسبة إليه من ذلك فإن تلك الصفة التي خاطبك بها تطلبه بذاتها لأنه وصف نفسه بها ولا تكون صفاته إلا بمناسبة خاصة منا إليه فإذا تعلقت أنت بتلك الصفة ولزمتها بالضرورة تحصلك عنده فتعلم عند ذلك صورة نسبتها إليه علم ذوق وتجل إلهي فيزيد ذبولك حتى تصير كالنقطة المتوهمة كما قال بعضهم‏

أصبحت فيك من الضنا *** كالنقطة المتوهمة

وهي التي لا وجود لها إلا في الوهم فهذا نعتهم في الذبول وقدر وينافي خبر مؤيد بكشف أن إسرافيل عليه السلام وهو من أرفع الأرواح العلوية يتضاءل في نفسه كل يوم لاستيلاء عظمة الله على قلبه سبعين مرة حتى يصير كالوضع كما يحشر المتكبرون في نفوسهم على عباد الله يوم القيامة كأمثال الذر ذلة وصغارا وذلك لما ظهروا به في الدنيا من التعاظم والتكبر فهذا نعت ذبولهم في أرواحهم وأجسامهم ومن نعوت المحبين أيضا الغرام وهو الاستهلاك في المحبوب بملازمة الكمد قال تعالى إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي مهلكا لملازمة شهود المحبوب فإن الغريم هو الذي لزمه الدين وبه سمي غريما ومقلوبة أيضا الرغام وهو اللصوق بالتراب فإن الرغام التراب يقال رغم أنفه إذ كان الأنف محل العزة قوبل بالرغام في الدعاء فألصقوه بالتراب فيكون الغرام حكمه في المغرم من المقلوب فهو موصوف‏

بالذلة لأن التراب أذل‏

الأذلاء ولهذا وصفت الأرض بأنها ذلول على طريق المبالغة لكون الأذلاء يطئونها ولما لازم الحب قلوب المحبين والشوق قلوب المشتاقين والأرق نفوس الأرقين وكل صفة للحب موصوفها منه سمي صاحب هذه الملازمات كلها مغرما وسميت صفته غراما فهو اسم يعم جميع ما يلزم المحب من صفة الحب فليس للمحب صفة أعظم إحاطة من الغرام ومن نعوت المحبين الشوق وهو حركة روحانية إلى لقاء المحبوب وحركة طبيعية جسمانية حسية إلى لقاء المحبوب إذا كان من شكله ذلك المحبوب فإذا لقيه أي محبوب كان فإنه يجد سكونا في حركة فيتحير لما ذا ترجع تلك الحركة مع وجود اللقاء ويراها تتزيد ويدركه معها خوف في حال الوصلة فيجد الخوف متعلقة توقع الفرقة ويجد الحركة الاشتياقية تطلب استدامة حالة الوصلة ولذلك يهيج باللقاء كما قيل في الشوق‏

وأبرح ما يكون الشوق يوما *** إذا دنت الديار من الديار

وقال الآخر فيما ذكرناه من الخوف في حال الوصلة

وأبكي إن ناءوا شوقا إليهم *** وأبكي إن دنوا خوف الفراق‏

هذا جزاء من أحب غير عينه وجعل وجود عين محبوبه فيما هو خارج عنه فلو أحب الله لم تكن هذه حالته فمحب الله لا يخاف فرقة وكيف يفارق الشي‏ء لازمه وهو في قبضته لا يبرح وبحيث يراه محبوبه وهو أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ أين الفراق وما في الكون إلا هويقول الله تعالى من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا

الحديث فهكذا ينبغي أن تعرف يا أخي قدر من أحبك لله أو لنفسه إذا كان الحق مع غناه عن العالم إذا أحبه عبده سارع إليه بالوصلة وقربه وأدنى مجلسه وجعله من خواص جلسائه فأنت أولى بهذه الصفة إذا أحبك شخص فقد أعطاك السيادة عليه وجعل نفسه محلا لتحكمك فيه فينبغي لك إن كنت عاقلا أن تعرف قدر الحب وقدر من أحبك ولتسارع إلى وصلته تخلقا بأخلاق الله مع محبته فإنه من بدأك بالمحبة فتلك يدله عليك لا تكافئها أبدا وذلك لأن كل ما يفعله من الحب بعد ابتدائه معه فإنما هو نتيجة عن ذلك الحب الذي أحبك ابتداء ومن نعوت المحبين الهيام وهم المهيمون الذين يهيمون على وجوههم من غير قصد جهة مخصوصة والمحبون لله أولى بهذه الصفة فإن الذي يحب المخلوق إذا هام على وجهه فهو لقلقه ويأسه من مواصلة محبوبه ومحب الله متيقن بالوصلة وقد علم أنه سبحانه لا يتقيد ولا يختص بمكان يقصد فيه لأن حقيقة الحق تأبى ذلك ولذلك قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله وقال وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ بمحبة مهيم في كل واد وفي كل حال لأن محبوبه الحق فلا يقصده في وجه معين بل يتجلى له في أي قصد قصده على أي حالة كان فهم أحق بصفة الهيمان من محبي المخلوقين فهو تعالى المشهود عند المحبين من كل عين والمذكور بكل لسان والمسموع من كل متكلم هكذا عرفه العارفون وبهذه الحقيقة تجلى للمحبين ومن نعوت المحبين الزفرات وهي نار نور محرقة يضيق القلب عن حملها فتخرج منضغطة لتراكمها مما يجده المحب من الكمد فيسمع لخروجها صوت تنفس شديد الحرارة كما يسمع لصوت النار صوت يسمى ذلك الصوت زفرة ولا يكون ذلك إلا في الجسم الطبيعي خاصة وقد يكون في الصورة المتجسدة ولهذا تتصف الصورة المتجسدة عن المعنى المجرد إذا ظهر فيها وقيل هذه صورته بالغضب والرضي كالأجسام الطبيعية كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن نفسه إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وأرضى كما يرضى البشر

وإذا كان الجناب الإلهي الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ قد وصف نفسه بالرضى والغضب في هاتين الصفتين وفي أمثالهما مما وصف الحق بها نفسه ومن تلك الحقيقة ظهرت في العالم ولهذا قلنا إن الله سبحانه علمه بنفسه علمه بالعالم لا يكون إلا هكذا فكل حقيقة ظهرت في العالم وصفة فلها أصل إلهي ترجع إليه لو لا ذلك الأصل الإلهي يحفظ عليها وجودها ما وجدت ولا بقيت ولا يعلم ذلك إلا الآحاد من أهل الله فإنه علم خصوص قال تعالى وغَضِبَ الله عَلَيْهِ ثم ورد في الخبر ما هو أشد من هذا لمن عقل عن الله وهو ما

ورد في الحديث الصحيح من قول الأنبياء في القيامة أن الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله‏

فهذا أشد من ذلك حيث اتصف غضبه بالحدوث والزوال وفي ذلك المقام‏

يقول محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيمن بدل من أصحابه بعده سحقا سحقا

لاقتضاء الحال والموطن فإن صاحب السياسة

يجري في أحكامه بحسب الأحوال والمواطن ومن نعوت المحبين الكمد وهو أشد حزن القلب لا يجري معه دمع إلا أن صاحبه يكون كثير التأوه والتنهد وهو حزن يجده في نفسه لا على فائت ولا تقصير وهذا هو الحزن المجهول الذي هو من نعوت المحبين ليس له سبب إلا الحب خاصة وليس له دواء إلا وصال المحبوب فيفنيه شغله به عن الإحساس بالكمد وإن لم تقع الوصلة بالمحبوب اتصال ذوات فيكون المحبوب ممن يأمره فيشغله القيام بأوامره وفرحه بذلك عن الكمد فأكثر ما يكون الكمد إذا لم يقع بينه وبين المحبوب ما يشغله عن نفسه وليس للمحب صفة تزول مع الاشتغال غير الكمد ونعوت المحبة كثيرة جدا مثل الأسف الوله البهت الدهش الحيرة الغيرة والخرس السقام القلق الخمود البكاء التبريح والوجد والسهاد وما ذكره المحبون في أشعارهم من ذلك وكلامنا في هذا الباب ما يختص بحب الله لعباده وحب العباد لله لا غير ذلك فالله سبحانه قد ذكرا قواما بأنه يحبهم لصفة قامت بهم أحبهم لأجلها كما سلب محبته عن قوم لصفات قامت بهم ذكر ذلك في كتابه وعن لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم انتهى الجزء الثالث عشر ومائة بانتهاء السفر الخامس عشر

(بسم الله الرحمن الرحيم)

[أن لله محبتين‏]

فمن ذلك الاتباع لرسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيما شرع قال تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله فاعلم إن لله محبتين أو تعلقين محبته لعباده الذي هو خصوص إرادة التعلق الأول حبه إياهم ابتداء بذلك الحب وفقهم للاتباع اتباع رسله سلام الله على جميعهم ثم أنتج لهم ذلك الاتباع تعلقين من المحبة لأن الاتباع وقع من طريقين من جهة أداء الفرائض والتعلق الآخر من جهة ملازمة النوافل‏

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال الحديث وفيه وما تقرب إلى عبدي بشي‏ء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا

وإذا كان الحق سمع العبد وقواه في النوافل فكيف بالحب الذي يكون من الحق له بأداء الفرائض وهو أن يكون الحق يريد بإرادة هذا العبد المجتبى ويجعل له التحكم في العالم بما شاء بمشيئته تعالى الأولية التعلق التي بها وفقه فاندرج هذا التعلق في الأول وهو قوله وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله وكل صفة ذكرها الحق أنه يحب من أجلها من قامت به فما حصلت له تلك الصفة إلا بالاتباع فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم سنها وذلك عن الله فإنه ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ وإنه يفعل به وبنا فنفى أن يكون الفعل له ولنا كما يراه بعضهم وهو قوله ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ وما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ فهو قوله ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ومعنى الاتباع أن نفعل ما يقول لنا فإن قال اتبعوني في فعلي اتبعناه وإن لم يقل فالذي يلزمنا الاتباع فيما يقول فينتج لنا الاتباع فيما أمرنا به ونهانا عنه والوقوف عند حدوده أن نتبعه في أفعاله في خلقه وهي المسماة كرامة وآية أي علامة على صدق الاتباع والرسل أيضا تابعون فإنه يقول عليه السلام إن أتبع إلا ما يوحى إلي فيكون ما يظهر عليه من الاتباع في فعل الله نتيجة اتباعه لأوامر الله آية ويكون لنا ذلك كرامة وهو الفعل بالهمة والتوجه من غير مباشرة فيظهر على يد هذا العبد من خرق العوائد مما لا ينبغي أن يكون إلا على ذلك الوجه من غير سبب إلا مجرد الإرادة إلا لله تعالى فإن ذلك الفعل إذا ظهر عن سبب موضوع ظاهر لم يكن من هذا الباب كطيران الطائر بسبب ظاهر وإن كان لا يمسكه إلا الله أي الله الذي وضع له أسباب الإمساك في الهواء والإنسان إذا اخترق الهواء ومشى فيه بمجرد الإرادة لا بسبب ظاهر معتاد أشبه فعل الحق في تكوين الأشياء بالإرادة فهذا الفارق بينه وبين وقوع ذلك بالأسباب وأصله التحقق بالاتباع والمتبع في التشريع إنما هو الله والمتبع في الفعل بالإرادة إنما هو الله والكل بعناية الله ومشيئته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ومن ذلك حبه سبحانه التوابين فالتواب صفته ومن أسمائه تعالى يقول عز وجل أَنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ فما أحب إلا اسمه وصفته وأحب العبد لاتصافه بها ولكن إذا اتصف بها على حد ما أضافها الحق إليه وذلك أن الحق يرجع على عبده في كل حال يكون العبد عليه مما يبعده من الله وهو المسمى ذنبا ومعصية ومخالفة فإذا أقيم العبد في حق من‏

أساء إليه من أمثاله وأشكاله فرجع عليه بالإحسان إليه والتجاوز عن إساءته فذلك هو التواب ما هو الذي رجع إلى الله فإنه لا يصح أن يرجع إلى الله إلا من جهل إن الله معه على كل حال وما خاطب الحق بقوله تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله إلا من غفل عن كون الله معه على كل حال كما قال وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ فإن رجعت إليه من حيث حساب أو سؤال فذلك رجوع في الحقيقة من حال أنت عليها لحال ما أنت عليها ولما كانت الأحوال كلها بيد الله أضيف الرجوع إلى الله على هذا الوجه فالراجع إلى الله إنما يرجع من المخالفة إلى الموافقة ومن المعصية إلى الطاعة فهذا معنى حب التوابين فإذا كنت من التوابين على من أساء في حقك كان الله توابا عليك فيما أسأت من حقه فرجع عليك بالإحسان فهكذا فلتعرف حقائق الأمور وتفهم معاني خطاب الله عباده وتميز بين المراتب فتكون من العلماء بالله وبما قاله وجاء ذكره لهذه المحبة في التوابين عقب ذكر الأذى الذي جعله في المحيض وكذلك‏

قال عليه السلام إن الله يحب كل مفتن تواب‏

أي مختبر يريد أن يختبره الله بمن يسي‏ء إليه من عباد الله فيرجع عليهم بالإحسان إليهم في مقابلة إساءتهم وهو التواب لا إن الله يختبر عباده بالمعاصي حاشا الله أن يضاف إليه مثل هذا وإن كانت الأفعال كلها لله من حيث كونها أفعالا وما هي معاصي إلا من حيث حكم الله فيها بذلك فجميع أفعال الله حسنة من حيث ما هي أفعال فافهم ذلك ومن ذلك حبه للمتطهرين قال تعالى ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فالتطهير صفة تقديس وتنزيه وهي صفته تعالى وتطهير العبد هو أن يميط عن نفسه كل أذى لا يليق به أن يرى فيه وإن كان محمودا بالنسبة إلى غير وهو مذموم شرعا بالنسبة إليه فإذا ظهر نفسه من ذلك أحبه الله تعالى كالكبرياء والجبروت والتفخر والخيلاء والعجب فمنها صفات لا تدخل القلب جملة واحدة للطابع الإلهي الذي على القلوب وهو قوله كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيظهر في ظاهره الكبرياء والجبروت على من استحق من قومه إما في زعمه وتحيله وإما في نفس الأمر وهو في قلبه معصوم من ذلك الكبرياء والجبروت لأنه يعلم عجزه وذلته وفقره لجميع الموجودات وأن قرصة البرغوث تؤلمه والمرحاض يطلبه لدفع ألم البول والخراءة عنه ويفتقر إلى كسيرة خبز يدفع بها عن نفسه ألم الجوع فمن صفته هذه كل يوم وليلة كيف يصح أن يكون في قلبه كبرياء وجبروت وهذا هو الطبع الإلهي على قلبه فلا يدخله شي‏ء من ذلك وأما ظهور ذلك على ظاهره فمسلم ولكن جعل الله لها مواطن يظهر فيها بهذه الأوصاف ولا يكون مذموما وجعل لها مواطن يذمه فيها فمن طهر ذاته عن أن ترى عليه هذه النعوت في غير مواطنها فهو متطهر ويحبه الله كما نفى محبته عن كل مختال فخور فإنه لا يظهر بهذه الصفة إلا من هو جاهل والجهل مذموم ولهذا نهى الله نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يكون جاهلا وقال لنوح عليه السلام إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ من الْجاهِلِينَ فإنه لا يخلو أن يفتخر على مثله أو على ربه وخالقه فإن افتخر على مثله فقد افتخر على نفسه والشي‏ء لا يفتخر على نفسه ففخره واختياله جهل ومحال أن يفتخر على خالقه لأنه لا بد إن يكون عارفا بخالقه أو غير عارف بأن له خالقا فإن عرف وافتخر عليه فهو جاهل بما ينبغي أن يكون لخالقه من نعوت الكمال وإن لم يعرف كان جاهلا فما أبغضه الله ولم يحبه إلا لجهله إذ لم يكن هذا في غير موطنه إلا لجهله والجهل موت والعلم حياة وهو قوله تعالى أَ ومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ يعني بالعلم وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ وذلك نور الايمان والكشف الذي أوحى الله به إليه أو امتن به عليه فالمتطهر من مثل هذه النعوت محبوب لله فافهم‏

[إن الله يحب المطهرين‏]

ومن ذلك حبه المطهرين قال الله تعالى والله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ وهم الذين طهروا غيرهم كما طهروا نفوسهم فتعدت طهارتهم إلى غيرهم فقاموا فيها مقام الحق نيابة عنه فإنه المطهر على الحقيقة والحافظ والعاصم والواقي والغافر فمن منع ذاته وذات غيره إن يقوم بها ما هو مذموم في حقها عند الله فقد عصمها وحفظها ووقاها وسترها عن قيام أمثال هذه بها فهو مطهر لها بما علمها من علم ما ينبغي لينفر عنه بنور العلم وحياته ظلمة الجهالة وموتها فيكون في ميزانه يوم القيامة ومن الأنوار التي تسعى بين يديه وهو محبوب عند الله مخصوص بعناية ولاية إلهية واستخلاف والولاة الخلفاء من المقربين ممن استخلفهم عليهم لأنهم موضع مقصور من استخلفهم دون غيرهم وكل إنسان وال على جوارحه فما فوق ذلك وقد أعلمه الله بما هي الطهارة التي يطهر بها رعاياه‏

[إن الله يحب الصابرين‏]

ومن ذلك حبه للصابرين وهو قوله والله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وهم الذين ابتلاهم الله فحبسوا نفوسهم عن الشكوى إلى‏

غير الله الذي أنزل بهم هذا البلاء فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ في سَبِيلِ الله وما ضَعُفُوا عن حمله لأنهم حملوه بالله وإن شق عليهم لا بد من ذلك وإن لم يشق عليهم فليس ببلاء وما اسْتَكانُوا لغير الله في إزالته ولجئوا إلى الله في إزالته كما قال العبد الصالح مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فرفع الشكوى إليه لا إلى غيره فأثنى الله عليه بأنه وجده صابرا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ مع هذه الشكوى فدل إن الصابر يشكو إلى الله لا إلى غيره بل يجب عليه ذلك لما في الصبر إن لم يشك إلى الله من مقاومة القهر الإلهي وهو سوء أدب مع الله والأنبياء عليه السلام أهل أدب وهم على علم من الله فإنك تعلم أن صبرك ما كان إلا بالله ما كان من ذاتك ولا من حولك وقوتك فإن الله يقول واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ فبأي شي‏ء تفتخر وهو ليس لك فما ابتلى الله عباده إلا ليلجئوا في رفع ذلك إليه ولا يلجئوا في رفعه إلى غيره فإذا فعلوا ذلك كانوا من الصابرين وهو محبوب الله ومن أسمائه تعالى النعتية الصبور فما أحب إلا من رأى خلعته عليه ثم إن هنا سرا وأقامك فيه مقامه فإن الصبر لا يكون إلا على أذى وقد عرفنا إن في خلقه من يؤذي الله ورسوله ونعتهم لنا لنعرفهم فندفع ذلك الأذى عنه تعالى بمقاتلتهم أو بتعليمهم إن كانوا جاهلين طالبين العلم وقد سمي نفسه صبورا وقد رفع إلينا ما أوذى به وعرفنا بهم لنذب عنه وندفع الأذى مع الاتصاف بالصبور لنعلم أنا إذا شكونا إليه ما نزل من البلاء وسألناه في رفعه عنا وسؤالنا إياه لا يزول عنا اسم الصبر فلا تزول عنا محبته كما لم يزل عنه اسم الصبور بتعريفه إيانا من أذاه حتى ندفع عنه فإنه‏

ورد في الصحيح ليس أحد أصبر على أذى من الله‏

فاجعل بالك لما نبهناك عليه‏

[إن الله يحب الشاكرين‏]

ومن ذلك حب الشاكرين فوصف الحق نفسه في كتابه إنه يحب الشاكرين والشكر نعمته فإنه شاكِرٌ عَلِيمٌ فما أحب من العبد إلا ما هو صفة له ونعت والشكر لا يكون إلا على النعم لا على البلاء كما يزعم بعضهم ممن لا علم له بالحقائق لأنه تعالى أبطن نعمته في نقمته ونقمته في نعمته فالتبس على من لا علم له بالحقائق أي بحقائق الأمور فتخيل أنه يشكر على البلاء وليس بصحيح كشارب الدواء المكروه وهو من جملة البلاء ولكن هو بلاء على من يهلك به وهو المرض الذي لأجله استعمله فالألم هو عدو هذا الدواء إياه يطلب ولكن لما قام البلاء بهذا المحل الواجد للألم ورد عليه المنازع الذي يريد إزالته من الوجود وهو الدواء فوجد المحل لذلك كراهة وعلم أنه في طي ذلك المكروه نعمة لأنه المزيل للألم فشكر الله تعالى على ما فيه من النعمة وصبر على ما يكره من استعماله لعلمه بأنه طالب ذلك الألم حتى يزيله فما سعى إلا في راحة هذا المحل فتفطن لهذا فلهذا كان شاكرا فلما شكره على ما في هذا المكروه من النعمة الباطنة زاده نعمة أخرى وهي العافية وإزالة المرض وتصبره الدواء الكرة عليه ولذلك قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فزاده العافية وكذلك أيضا لما أوذى الحق وسعينا في إزالة ذلك المؤذي بأن آذيناه أو سسناه حتى رجع عن الأمر الذي كان يؤذي الحق به فإن كنا قد آذينا هذا المؤذي بقتال وأمثاله كان ذلك للحق بمنزلة شرب الدواء الذي يكرهه المريض في الحال ويراه نعمة لما فيه من إزالة ذلك الأمر المؤذي وإنما قلنا ذلك لأن الكل من فعله وقضائه وقدره وقد أوحى الله لنبيه داود أن يبني له بيتا يعني بيت المقدس فكلما بناه تهدم فقال له ربه فيما أوحى إليه أنه لا يقوم على يديك فإنك سفكت الدماء فقال له يا رب ما كان ذلك إلا في سبيلك فقال صدقت ما كان إلا في سبيلي ومع هذا أ ليسوا عبيدي فلا يقوم هذا البيت إلا على يد مطهرة من سفك الدماء فقال يا رب اجعله مني فأوحى الله إليه أنه يقوم على يد ولدك سليمان فبناه سليمان ع‏

فهذا عين ما نبهتك عليه إن تفطنت ومن هنا تعرف الأمر على ما هو عليه وأن مبني الأمر الإلهي أبدا على هو لا هو فإن لم تعرفه كذا فما عرفته وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فهذا عين ما قلناه من أنه هو لا هو وهنا حارت عقول من لم يشاهد الحقائق على ما هي عليه فلما أزال العبد هذا الأذى عن جناب الحق وإن كان فيه ما في استعمال الدواء شكره الله على ذلك والشكر يطلب المزيد فطلب من عباده سبحانه بشكره أن يزيدوه فزادوه في العمل وهوقوله عليه السلام أ فلا أكون عبدا شكورا

فزاد في العبادة لشكر الله له شكرا فزاد الحق في الهداية والتوفيق في موطن الأعمال حتى إلى الآخرة حيث لا عمل ولا ألم على السعداء وأما التنبيه على استعمال الدواء الكرة في إماطة الأذى عن الله فقد أبان عنه الحق في‏

قوله في قبضه نسمة عبده المؤمن فوصف نفسه تعالى بأنه يكره مساءة عبده لكون العبد يكره الموت ولا بد له منه‏

مع أنه‏

وصفه نفسه بأنه كاره لذلك فهذا عين كراهة ما يجده المريض في شرب الدواء لأن مرتبة العلم تعطي ذلك فإنه وقوع خلاف المعلوم محال فلا بد من وجوب وجود العالم لما تعطيه الحقائق الإلهية وأين الإمكان من الوجوب فاشحذ فؤادك واعلم فَإِنَّ الله شاكِرٌ عَلِيمٌ فاردف وصفه نفسه بالشكر وصفه بالعلم فزد في عملك تكن قد جازيت ربك على شكره إياك على ما عملت له وذلك العمل هو الصوم فإنه له ودفع الأذى عنه وهوقوله هل واليت في وليا أو عاديت في عدوا

وهوقوله وجبت محبتي للمتحابين في والمتزاورين في والمتجالسين في والمتباذلين في‏

والله يجعلنا ممن أنعم عليه فرأى نعمة الله عليه في كل حال فشكر

[إن الله يحب المحسنين‏]

ومن ذلك حب المحسنين وهو قوله والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والإحسان صفته وهو المحسن المجمل فصفته أحب وهي الظاهرة في نفسه والإحسان الذي به يسمى العبد محسنا هو أن يعبد الله كأنه يراه أي يعبده على المشاهدة وإحسان الله هو مقام رؤيته عباده في حركاتهم وتصرفاتهم وهو قوله أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فشهوده لكل شي‏ء هو إحسانه فإنه بشهوده يحفظه من الهلاك فكل حال ينتقل فيه العبد فهو من إحسان الله إذ هو الذي نقله تعالى ولهذا سمي الإنعام إحسانا فإنه لا ينعم عليك بالقصد إلا من يعلمك ومن كان علمه عين رؤيته فهو محسن على الدوام فإنه يراك على الدوام لأنه يعلمك دائما وليس الإحسان في الشرع إلا هذا وقد قال له فإن لم تكن تراه فإنه يراك أي فإن لم تحسن فهو المحسن وهذا تعليم النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لجبريل بحضور الصحابة من باب قولهم‏

إياك أعني فاسمعي يا جارة

فالمخاطب غير مقصود بذلك العلم فإنه عالم به والمقصود به من حضر من السامعين وبهذا فسره رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال في هذا الحديث هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ومن ذلك حب المقاتلين في سبيل الله بوصف خاص قال تعالى إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ يريد لا يدخله خلل فإن الخلل في الصفوف طرق الشياطين والطريق واحدة وهي سبيل الله وإذا قطع هذا الخط الظاهر من النقط ولم يتراص لم يظهر وجود للخط والمقصود وجود الحظ وهذا معنى الرص لوجود سبيل الله فمن لم يكن له تعمل في ظهور سبيل الله فليس من أهل الله وكذلك صفوف المصلين لا تكون في سبيل الله حتى تتصل ويتراص الناس فيها وحينئذ يظهر سبيل الله في عينه فمن لم يفعل وأدخل الخلل كان ممن سعى في قطع سبيل الله وإزالته من الوجود فأراد الله من عباده في مثل هذا أن يجعلهم من الخالقين ولذلك قال فَتَبارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ولا يكون السبيل إلا هكذا كالخط الموجود من النقط المتجاورة التي ليس بين كل نقطتين حيز فارغ لا نقطة فيه وحينئذ تظهر صورة الحظ كذلك الصف لا يظهر فيه سبيل الله حتى يتراص الناس فيه فهو يطلب الكثرة وهو في جناب الله تراص أسمائه تبارك وتعالى فيظهر عن تراصها سبيل الخلق فيكون الحي وإلى جانبه العليم ولا يكون بينهما فراغ لاسم آخر ويكون إلى جانبه المريد ويكون إلى جانبه القائل ويكون إلى جانبه القادر ويكون إلى جانبه الحكم وإلى جانبه المقيت وإلى جانبه المقسط وإلى جانبه المدبر وإلى جانبه المفصل وإلى جانبه الرازق وإلى جانبه المحيي فهكذا يكون صف الأسماء الإلهية لإيجاد سبيل الخلق الذي يكون بهذا التراص وجوده فإذا ظهرت هذه السبيل وليست بزائدة على تراص هذه الأسماء فاتصف الخلق بهذه الأسماء لأنها بتراصها وهو حالها عن طريق الخلق فلا تزال ظاهرة في الخلق لا تعقل إلا هكذا فالعالم حي عالم مريده قائل قادر حكم مقيت مقسط مدبر مفصل هكذا إلى بقية الأسماء الإلهية وهو المعبر عنه في الطريق بالتخلق بالأسماء فتظهر في العبد كما تظهر في إيجاد الطريق المستقيم بتراصها فإن دخلها في الكون خلل زال سبيل الله وظهرت سبل الشياطين التي تتخلل خلل الصفوف كما

ورد في الخبر فاجعل بالك لما نبهتك عليه‏

فإذا قام العبد بأسماء الحق مقام الأسماء في إيجاد الخلق وقاتل بهذه الصفة الأعداء الذين هم بمنزلة الشياطين التي تتخلل خلل الصف فبالضرورة ينصرون لأنه لم يبق هناك خلل يدخل منه العدو فأحب الله من هذه صفتهم وكذا الإنسان وحده هو صف في كل ما هو فيه متحرك فتكون حركاته كلها لله لا يتخللها شي‏ء لغير الله فلا يقاومه أحد فإن الأعداء أبصارهم إليه محدقة ينظرون في حركاته وأفعاله عسى يجدون خللا يدخلون عليه منه فيقطعون بينه وبين الله بقطع سبيل الله وكل فعل خط فإنه مجموع أسماء إلهية وصفات محمودة والأفعال كثيرة فيكثف الأمر ويعظم وتظهر صور المركبات في العالم إذ كل خطين فما زاد سطح وكل سطحين جسم‏

وكل جسم فمركب من ثمانية وهو صورة كمال ظهرت عن ذات وسبع صفات فغاية التركيب الجسم وليس وراءه مرتبة وقد قام على ثمانية بلا خلاف بين الجميع وما زاد على هذا فهو أجسم أي أكثر سطوحا وإذا كان أكثر سطوحا كان أكثر خطوطا وإذا كان أكثر خطوطا كان أكثر نقطا فلم يزد على ما تركب منه الجسم الذي هو أول الأجسام مادة غير ما قبله الأول أو كان به الجسم الأول فمن تراص في صفة كان خلاقا قال تعالى فَتَبارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فأثبت لهم هذا الوصف وجعل نفسه أحسن لا وليته في ذلك إذ لولاه ما ظهرت أعيان هؤلاء الخالقين فأثبت ما أثبت الله ولا تزله فتحرم فائدة العلم بموافقة الحق فتكون من المخالفين فتكون من الجاهلين فمن كان بهذه الصفة كان محبوبا لله تعالى ومن كان محبوبا لم يدر أحد ما يعطيه محبه إذ لنفسه يعطي وقد تعرضت هنا مسألة يحب بيانها وهي أن الله أحب أولياءه والمحب لا يؤلم محبوبه وليس أحد بأشد ألما في الدنيا ولا بلاء من أولياء الله رسلهم وأنبيائهم وأتباعهم المحفوظين المعانين على أتباعهم فمن أي حقيقة استحقوا هذا البلاء مع كونهم محبوبين فلنقل إن الله قال يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ والبلاء أن لا يكون أبدا إلا مع الدعوى فمن لم يدع أمرا ما لا يبتلى بإقامة الدليل على صدق دعواه فلو لا الدعوى ما وقع البلاء غير أن الرسول ما يطالب بالدليل فإنه ما ادعى ولهذا يقال ليس على النافي إقامة دليل وليس الأمر كذلك بل عليه الدليل إذا ادعى النفي فإن ادعى النفي في أمر ما فذلك ثبوت عين الدعوى فيطالب النافي من حيث دعواه على إقامة لدليل لأنه مثبت ولما أحب الله من أحب من عباده رزقهم محبته من حيث لا يعلمون فوجدوا في نفوسهم حبا لله فادعوا أنهم من محبي الله فابتلاهم الله من كونهم محبين وأنعم عليهم من كونهم محبوبين فإنعامه دليل على محبته فيهم فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وابتلاؤه إياهم لما ادعوه من حبهم إياه فلهذا ابتلى الله أحبابه من المخلوقين والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

[إن الله يحب الجمال‏]

ومن ذلك حب الجمال هو نعت إلهي‏

ثبت في الصحيح أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال إن الله جميل يحب الجمال‏

فنبهنا بقوله جميل أن نحبه فانقسمنا في ذلك على قسمين فمنا من نظر إلى جمال الكمال وهو جمال الحكمة فأحبه في كل شي‏ء لأن كل شي‏ء محكم وهو صنعة حكيم ومنا من لم تبلغ مرتبته هذا وما عنده علم بالجمال إلا هذا الجمال المقيد الموقوف على الغرض وهو في الشرع موضع‏

قوله اعبد الله كأنك تراه‏

فجاء بكاف الصفة فتخيل هذا الذي لم يصل إلى فهمه أكثر من هذا الجمال المقيد فقيده به كما قيده بالقبلة فأحبه لجماله ولا حرج عليه في ذلك فإنه أتى بأمر مشروع له على قدر وسعه ولا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وبقي علينا حبه تعالى للجمال‏

[إن الله يحب الجمال‏]

فاعلم إن العالم خلقه الله في غاية الإحكام والإتقان كما قال الإمام أبو حامد الغزالي من أنه لم يبق في الإمكان أبدع من هذا العالم فأخبر أنه تعالى خلق آدم على صورته والإنسان مجموع العالم ولم يكن علمه بالعالم تعالى إلا علمه بنفسه إذ لم يكن في الوجود إلا هو فلا بد أن يكون على صورته فلما أظهره في عينه كان مجلاه فما رأى فيه إلا جماله فأحب الجمال فالعالم جمال الله فهو الجميل المحب للجمال فمن أحب العالم بهذا النظر فقد أحبه بحب الله وما أحب إلا جمال الله فإن جمال الصنعة لا يضاف إليها وإنما يضاف إلى صانعه فجمال العالم جمال الله وصورة جماله دقيق أعني جمال الأشياء وذلك أن الصورتين في العالم وهما مثلا شخصان ممن يحبهما الطبع وهما جاريتان أو غلامان قد اشتركا في حقيقة الإنسانية فهما مثلان وكمال الصورة التي هي أصول من كمال الأعضاء والجوارح وسلامة المجموع والآحاد من العاهات والآفات ويتصف أحدهما بالجمال فيحبه كل من رآه ويتصف الآخر بالقبح فيكرهه كل من رآه فما هو الجمال الذي انطلق عليه اسم الجمال حتى أحبه كل من رآه فقد وكلناك في علم ذلك إلى نفسك ونظرك فهذا إذا وقع حب الشخص من مجرد الرؤية خاصة لا بعد الصحبة والمعاشرة فدبروا نظر تعثر إن شاء الله على عين الأمر في وصف الحق نفسه بأنه جميل وبحبه للجمال مع خلقه المكروه والمضار وما لا يلائم الطباع ولا يوافق الأغراض فهذا قد ذكرنا طرفا من الصفات التي يحب الله من اتصف بها وهي كثيرة جدا فقد نبهناك بما ذكرناه على مأخذها وكيف يتصرف الإنسان فيها فلنذكر طرفا من نعوت الحب الذي ينبغي أن يكون المحب عليها إن شاء الله‏

وبها يسمى محبا فهي كالحدود للحب فمن ذلك أنه موصوف بأنه مقتول تألف سائر إليه بأسمائه طيار دائم السهر كامن الغم راغب في الخروج من الدنيا لي لقاء محبوبه متبرم بصحبة ما يحول بينه وبين لقاء محبوبه كثير التأوه يستريح إلى‏

كلام محبوبه وذكره بتلاوة ذكره موافق لمحاب محبوبه خائف من ترك الحرمة في إقامة الخدمة يستقل الكثير من نفسه في حق ربه ويستكثر القليل من حبيبه يعانق طاعة محبوبه ويجانب مخالفته خارج عن نفسه بالكلية لا يطلب الدية في قتله يصبر على الضراء التي ينفر منها الطبع لما كلفه محبوبه من تدبيره هائم القلب مؤثر محبوبه على كل مصحوب محو في إثبات قد وطأ نفسه لما يريده به محبوبه متداخل الصفات ما له نفس معه كله له يعتب نفسه بنفسه في حق محبوبه ملتذ في دهش جاوز الحدود بعد حفظها غيور على محبوبه منه يحكم حبه فيه على قدر عقله جرحه جبار لا يقبل حبه الزيادة بإحسان المحبوب ولا النقص بجفائه ناس حظه وحظ محبوبه غير مطلوب بالآداب مخلوع النعوت مجهول الأسماء كأنه سأل وليس بسال لا يفرق بين الوصل والهجر هيمان متيم في إدلال ذو تشويش خارج عن الوزن يقول عن نفسه إنه عين محبوبه مصطلم مجهود لا يقول لمحبوبه لم فعلت كذا أو قلت كذا مهتوك الستر سره علانية فضيحة الدهر لا يعلم الكتمان لا يعلم أنه محب كثير الشوق ولا يدري إلى من عظيم الوجد ولا يدري فيمن لا يتميز له محبوبه مسرور محزون موصوف بالضدين مقامه الخرس حاله يترجم عنه لا يحب العوض سكران لا يصحو مراقب متحر لمراضيه مؤثر في المحبوب الرحمة به والشفقة لما يعطيه شاهد حاله ذو أشجان كلما فرغ نصب لا يعرف التعب روحه عطية وبدنه مطية لا يعلم شيئا سوى ما في نفس محبوبه قرير العين لا يتكلم إلا بكلامه هم المسمون بحملة القرآن لما كان المحبون جامعين جميع الصفات كانوا عين القرآن كما

قالت عائشة وقد سألت عن خلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقالت كان خلقه القرآن‏

لم تجب بغير هذا وسئل ذو النون عن حملة القرآن من هم فقال هم الذين أمطرت عليهم سحاب الأشجان وأنصبوا الركب والأبدان وتسربلوا الخوف والأحزان وشربوا بكأس اليقين وراضوا أنفسهم رياضة الموقنين فكان قرة أعينهم فيما قل وزجا وبلغ وكفا وستر ووارى كحلوا أبصارهم بالسهر وغضوها عن النظر وألزموها العبر وأشعروها الفكر فقاموا ليلهم أرقا واستهلت آماقهم نسقا صحبوا القرآن بأبدان ناحلة وشفاه ذابلة ودموع زائلة وزفرات قاتلة فحال بينهم وبين نعيم المتنعمين وغاية آمال الراغبين فاضت عبراتهم من وعيده وشابت ذوائبهم من تحذيره فكان زفير النار تحت أقدامهم وكان وعيده نصب قلوبهم ومن ألطف ما روينا في حال المحب عن شخص من المحبين دخل على بعض الشيوخ فتكلم الشيخ له على المحبة فما زال ذلك الشخص ينحل ويذوب ويسيل عرقا حتى تحلل جسمه كله وصار على الحصير بين يدي الشيخ بركة ماء ذاب كله فدخل عليه صاحبه فلم ير عند الشيخ أحدا فقال له أين فلان فقال الشيخ هو ذا وأشار إلى الماء ووصف حاله فهذا تحليل غريب واستحالة عجيبة حيث لم يزل ينحف عن كثافته حتى عاد ماء فكان أولا حيا بماء فعاد الآن يحيي كل شي‏ء لأن الله قال وجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ فالمحب على هذا من يحيا به كل شي‏ء (و أخبرني) والدي رحمه الله أو عمي لا أدري أيهما أخبرني أنه رأى صائدا قد صاد قمرية حمامة أيكة فجاء ساق حر وهو ذكرها فلما نظر إليها وقد ذبحها الصائد طار في الجو محلقا إلى أن علا ونحن ننظر إليه حتى كاد يخفى عن أبصارنا ثم إنه ضم جناحيه وتكفن بهما وجعل رأسه مما يلي الأرض ونزل نزولا له دوي إلى أن وقع عليها فمات من حينه ونحن ننظر إليه هذا فعل طائر فيا أيها المحب أين دعواك في محبة مولاك (و حدثنا) محمد بن محمد عن هبة الرحمن عن أبي القسم بن هوازن قال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أحمد بن علي يقول سمعت إبراهيم بن فاتك يقول سمعت سمنونا وهو جالس يتكلم في المسجد في المحبة وجاء طير صغير قريبا منه ثم قرب فلم يزل يدنو حتى جلس على يده ثم ضرب بمنقاره الأرض حتى سأل منه الدم ومات هذا فعل الحب في الطائر قد أفهمه الله قول هذا الشيخ فغلب عليه الحال وحكم عليه سلطان الحب موعظة للحاضرين وحجة على المدعين لقد أعطانا الله منها الحظ الوافر إلا أنه قوانا عليه والله إني لأجد من الحب ما لو وضع في ظني على السماء لانفطرت وعلى النجوم لانكدرت وعلى الجبال لسيرت هذا ذوقي لها لكن قواني الحق فيها قوة من ورثته وهو رأس المحبين إني رأيت فيها في نفسي من العجائب ما لا يبلغه وصف واصف والحب على قدر التجلي والتجلي على قدر المعرفة وكل من ذاب فيها وظهرت عليه أحكامها فتلك المحبة الطبيعية ومحبة العارفين لا أثر لها في الشاهد فإن المعرفة تمحو آثارها لسر تعطيه لا يعرفه إلا العارفون فالمحب العارف حي لا يموت روح مجرد لا خبر للطبيعة

بما يحمله من المحبة حبه إلهي وشوقه رباني مؤيد باسمه القدوس عن تأثير الكلام المحسوس برهان ذلك هذا الذي ذاب حتى صار ماء لو لم يكن ذا حب ما كان هذا حاله فقد كان محبا ولم يذب حتى سمع كلام الشيخ فثار كامن حبه فكان منه ما كان فحب لا حكم له في المحب حتى يثيره كلام متكلم حب طبيعي لأن الطبيعة هي التي تقبل الاستحالة والإثارة إذ قد كان موصوفا بالحب قبل كلام الشيخ ولم يذب هذا الذوبان الذي صيره ماء بعد ما كان عظما ولحما وعصبا فلو كان إلهي الحب ما أثرت فيه كلمات الحروف ولا هزت روحانيته هذه الظروف فاستحى من دعواه في الحب وقام في قلبه نار الحياء فما زال يحلله إلى أن صار كما حكي فلا يلحق التغيير في الأعيان والتنقل في أطوار الأكوان إلا صاحب الحب الطبيعي وهذا هو الفرقان بين الحب الروحاني الإلهي وبين الحب الطبيعي والحب الروحاني وسط بين الحب الإلهي والطبيعي فيما هو إلهي يبقى عينه وبما هو طبيعي يتغير الحال عليه ولا يفنيه فالفناء أبد من جهة الحب الطبيعي وبقاء العين من جانب الحب الإلهي جبريل لما كان حبه روحانيا وهو روح وله وجه إلى الطبيعة من حيث جسميته لأن الأجسام الطبيعية الخارجة عن العناصر لا تستحيل بخلاف الأجسام العنصرية فإنها تستحيل لأنها عن أصول مستحيلة والطبيعة لا تستحيل في نفسها لأن الحقائق لا تنقلب أعيانها فغشي على جبريل ولم يذب عين جوهر جسمه كما ذاب صاحب الحكاية فغشي عليه من حيث ما فيه من حب الطبيعة وبقي العين منه من حيث حبه الإلهي فالمحب الإلهي روح بلا جسم والمحب الطبيعي جسم بلا روح والمحب الروحاني ذو جسم وروح فليس للمحب الطبيعي العنصري روح يحفظه من الاستحالة فلهذا يؤثر الكلام في المحبة في المحب الطبيعي ولا يؤثر في المحب بالحب الإلهي ويؤثر بعض تأثير في المحب بالحب الروحاني حدثنا محمد بن إسماعيل اليمني بمكة قال حدثنا عبد الرحمن بن علي قال أنا أبو بكر بن حبيب العامري قال أنا علي بن أبي صادق قال أخبرنا أبو عبد الله بن باكويه الشيرازي قال أخبرنا بكران بن أحمد قال سمعت يوسف بن الحسين قال كنت قاعدا بين يدي ذي النون وحوله ناس وهو يتكلم عليهم والناس يبكون وشاب يضحك فقال له ذو النون ما لك أيها الشاب الناس يبكون وأنت تضحك فأنشأ يقول‏

كلهم يعبدون من خوف نار *** ويرون النجاة حظا جزيلا

ليس لي في الجنان والنار رأى *** أنا لا أبتغي بحبي بديلا

فقيل له فإن طردك فما ذا تفعل فقال‏

فإذا لم أجد من الحب وصلا *** رمت في النار منزلا ومقيلا

ثم أزعجت أهلها ببكائي *** بكرة في ضريعها وأصيلا

معشر المشركين نوحوا على *** أنا عبد أجبت مولا جليلا

إن لم أكن في الذي ادعيت صدوقا *** فجزاني منه العذاب الوبيلا

وخدمت أنا بنفسي امرأة من المحبات العارفات بإشبيلية يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي خدمتها سنين وهي تزيد في وقت خدمتي إياها على خمس وتسعين سنة وكنت أستحي أن أنظر إلى وجهها وهي في هذا السن من حمرة خديها وحسن نعمتها وجمالها تحسبها بنت أربع عشرة سنة من نعمتها ولطافتها وكان لها حال مع الله وكانت تؤثرني على كل من يخدمها من أمثالي وتقول ما رأيت مثل فلان إذا دخل علي دخل بكله لا يترك منه خارجا عني شيئا وإذا خرج من عندي خرج بكله لا يترك عندي منه شيئا وسمعتها تقول عجبت لمن يقول إنه يحب الله ولا يفرح به وهو مشهوده عينه إليه ناظرة في كل عين لا يغيب عنه طرفة عين فهؤلاء البكاءون كيف يدعون محبته ويبكون أ ما يستحيون إذا كان قربه مضاعفا من قرب المتقربين إليه والمحب أعظم الناس قربة إليه فهو مشهوده فعلى من يبكي إن هذه لأعجوبة ثم تقول لي يا ولدي ما تقول فيما أقول فأقول لها يا أمي القول قولك قالت إني والله متعجبة لقد أعطاني حبيبي فاتحة الكتاب تخدمني فو الله ما شغلتني عنه فذلك اليوم عرفت مقام هذه المرأة لما قالت إن فاتحة الكتاب تخدمها فبينا نحن قعود إذ دخلت امرأة فقالت لي يا أخي إن زوجي في شريش شذونة أخبرت أنه يتزوج بها فما ذا ترى قلت لها وتريدين أن يصل قالت نعم‏

فرددت وجهي إلى العجوز وقلت لها يا أم أ لا تسمعين ما تقول هذه المرأة قالت وما تريد يا ولدي قلت قضاء حاجتها في هذا الوقت وحاجتي أن يأتي زوجها فقالت السمع والطاعة إني أبعث إليه بفاتحة الكتاب وأوصيها أن تجي‏ء بزوج هذه المرأة وأنشأت فاتحة الكتاب فقرأتها وقرأت معها فعلمت مقامها عند قراءتها الفاتحة وذلك إنها تنشيها بقراءتها صورة مجسدة هوائية فتبعثها عند ذلك فلما أنشأتها صورة سمعتها تقول لها يا فاتحة الكتاب تروحي إلى شريش وتجيئني بزوج هذه المرأة ولا تتركيه حتى تجي‏ء به فلم يلبث إلا قدر مسافة الطريق من مجيئه فوصل إلى أهله وكانت تضرب بالدف وتفرح فكنت أقول لها في ذلك فتقول لي إني أفرح به حيث اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطنعني لنفسه ومن أنا حتى يختارني هذا السيد على أبناء جنسي وعزة صاحبي لقد يغار على غيرة ما أصفها ما ألتفت إلى شي‏ء باعتماد عليه عن غفلة إلا أصابني ببلاء في ذلك الذي التفت إليه ثم أرتني عجائب من ذلك فما زلت أخدمها بنفسي وبنيت لها بيتا من قصب بيدي على قدر قامتها فما زالت فيه حتى درجت وكانت تقول لي أنا أمك الإلهية ونور أمك الترابية وإذا جاءت والدتي إلى زيارتها تقول لها يا نور هذا ولدي وهو أبوك فبريه ولا تعقيه أخبرنا يونس بن يحيى بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال أخبرنا أبو بكر بن الغزال قال أخبرنا أبو الفضل بن أحمد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال حدثنا محمد ابن إبراهيم المذكر حدثنا محمد بن يزيد قال سمعت ذا النون يقول خرجت حاجا إلى بيت الله الحرام فبينا أنا أطوف إذ أنا بشخص متعلق بأستار الكعبة وإذا هو يبكي ويقول في بكائه كتمت بلائي من غيرك وبحت بسري إليك واشتغلت بك عمن سواك عجبت لمن عرفك كيف يسلو عنك ولمن ذاق حبك كيف يصبر عنك ثم أنشأ يقول‏

ذوقتني طعم الوصال فزدتني *** شوقا إليك مخامر الأحشاء

ثم أقبل يخاطب نفسه فقال أمهلك فما ارعويت وستر عليك فما استحييت وسلبك حلاوة المناجاة فما باليت ثم قال عزيزي مالي إذا قمت بين يديك ألقيت على النعاس ومنعتني حلاوة مناجاتك لم قرة عيني لمة ثم أنشأ يقول‏

روعت قلبي بالفراق فلم أجد *** شيئا أمر من الفراق وأوجعا

حسب الفراق بأن يفرق بيننا *** ولطالما ما قد كنت منه مروعا

قال ذو النون فأتيت إليه فإذا به امرأة (حكاية) محب أذاع سر محبوبه أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف حدثنا عبد الرحمن بن علي أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي وحدثني أيضا عنهما يونس بن يحيى قالا أخبرنا حمد بن أحمد أخبرنا أحمد بن عبد الله حدثنا أحمد بن محمد المتوكلي حدثنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا علي بن القاسم الشاهد قال سمعت أحمد بن محمد بن عيسى الرازي قال سمعت يوسف بن الحسين يقول كان شاب يحضر مجلس ذي النون المصري مدة ثم انقطع عنه زمانا ثم حضر عنده وقد اصفر لونه ونحل جسمه وظهرت آثار العبادة عليه والاجتهاد فقال له ذو النون يا فتى ما الذي أكسبك خدمة مولاك واجتهادك من المواهب التي منحك بها ووهبها لك واختصك بها فقال الفتى يا أستاذ وهل رأيت عبدا اصطنعه مولاه من بين عبيده واصطفاه وأعطاه مفاتيح الخزائن ثم أسر إليه سرا أ يحسن أن يفشي ذلك السر ثم أنشأ يقول‏

من سارروه فأبدى السر مجتهدا *** لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وباعدوه فلم يسعد بقربهم *** وأبدلوه من الإيناس إيحاشا

لا يصطفون مذيعا بعض سرهم *** حاشى ودادهم من ذلكم حاشا

يقول لا يصح لاجتهاد في سر المحبوب المحب بل ينتظر أمر محبوبه فإن أمره بإذاعته أذاعه وإن لم فالأصل الكتمان ولقد منحني الله سرا من أسراره بمدينة فاس سنة أربع وتسعين وخمسمائة فاذعته فإني ما علمت أنه من الأسرار التي لا تذاع فعوتبت فيه من المحبوب فلم يكن لي جواب إلا السكوت إلا أني قلت له تول أنت أمر ذلك فيمن أودعته إياه إن كانت لك غيرة عليه فإنك تقدر ولا أقدر وكنت قد أودعته نحوا من ثمانية عشر رجلا فقال لي أنا أتولي ذلك ثم أخبرني أنه سله من صدورهم وسلبهم إياه وأنا بسبتة فقلت لصاحبي عبد الله الخادم‏

إن الله أخبرني أنه فعل كذا وكذا فقم بنا نسافر إلى مدينة

فاس حتى نرى ما ذكر لي في ذلك فسافرت فلما جاءتني تلك الجماعة وجدت الله قد سلبهم ذلك وانتزعه من صدورهم فسألوني عنه فسكت عنهم وهذا من أعجب ما جرى لي في هذا الباب فلله الحمد حيث لم يعاقبني بالوحشة التي قالها هذا الشاب لذي النون ولما كان طريق الله ذوقا تخيل هذا الشاب أن الذي عامله به الحق هكذا يعامل به جميع الخلق فذوقه صحيح وحكمه في ذلك على الله ليس بصحيح وهذا يقع في الطريق كثيرا إلا من المحققين فإنه لا يقع لهم مثل هذا لمعرفتهم بمراتب الأمور وحقائقها وهو علم عزيز المنال (و روينا) عن ذي النون من حديث محمد بن يزيد عن ذي النون قال قلت لامرأة متى يحوي الهموم قلب المحب قالت إذا كان للتذكار مجاورا وللشوق محاضرا يا ذا النون أ ما علمت إن الشوق يورث السقام وتجديد التذكار يورث الحزن ثم قالت‏

لم أذق طيب طعم وصلك حتى *** زال عني محبتي للأنام‏

قال فأجبتها

نعم المحب إذا تزايد وصله *** وعلت محبته بعقب وصال‏

فقالت أوجعتني أوجعتني أ ما علمت أنه لا يوصل إليه إلا بترك من دونه قلت لو قالت لي مثل هذا قلت لها إذا كان ثم (و حدثنا) غير واحد منهم ابن أبي الصيف عن عبد الرحمن بن علي قال أخبرنا إبراهيم بن دينار قال حدثنا إسماعيل بن محمد إنا عبد العزيز بن أحمد أخبرني أبو الشيخ عبد الله بن محمد قال سمعت أبا سعيد الثقفي يحكي عن ذي النون قال كنت في الطواف فسمعت صوتا حزينا وإذا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول‏

أنت تدري يا حبيبي *** يا حبيبي أنت تدري‏

ونحول الجسم والروح *** يبوحان بسري‏

يا عزيزي قد كتمت الحب *** حتى ضاق صدري‏

قال ذو النون فشجاني ما سمعت حتى انتحبت وبكيت وقالت إلهي وسيدي ومولاي بحبك لي إلا غفرت لي قال فتعاظمني ذلك وقلت يا جارية أ ما يكفيك أن تقولي بحبي لك حتى تقولي بحبك لي فقالت إليك يا ذا النون أ ما علمت إن لله قوما يحبهم قبل أن يحبوه أ ما سمعت الله يقول فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ فسبقت محبته لهم قبل محبتهم له فقلت من أين علمت أني ذو النون فقالت يا بطال جالت القلوب في ميدان الأسرار فعرفتك ثم قالت انظر من خلفك فأدرت وجهي فلا أدري السماء اقتلعتها أم الأرض ابتلعتها قلت يقرب حديث هذه الجارية من حال موسى عليه السلام مع ربه انظر إلى الجبل لله تعالى ميادين تسمى ميادين المحبة كلها ثم يختص كل ميدان منها باسم من نعوت المحبة مثل ميدان الوجد وميدان الشوق وكل حال يكون فيه جولان وحركة فله ميدان هذا أمر كلي وكذلك أيضا للمعارف حضرات ومجالس ما هي ميادين إلا إذا أشهدك سبحانه في معرفته تفرقة في أعيان الأكوان فإن شاهدت أنه العين الظاهرة فيها بأسمائها فتلك ميادين الأسرار وإن شاهدت معيته للأكوان بأسمائه فتلك ميادين الأنوار وإن اختلط عليك الأمر فترى أمرا فتقول هو هو ثم ترى أمرا فتقول ما هو هو ثم ترى أمرا فتقول لا أدري أ هو هو أم لا هو هو فتلك ميادين الحضرة ولكل عين كون علامة يعرفها من جال في هذه الميادين فيعرف بتلك العلامة من قامت به في عالم الشهادة في هذه الهياكل المظلمة بالطبع المنورة بالمعرفة فمن هناك يسمونهم بأسمائهم مثل حال هذه الجارية وروينا من حديث موسى بن علي الإخميمي عن ذي النون أنه لقي رجلا باليمن كان قد رحل إليه في حكاية طويلة وفيها ثم قال له ذو النون رحمك الله ما علامة المحب لله فقال له حبيبي إن درجة الحب درجة رفيعة قال فإنا أحب أن تصفها لي قال إن المحبين لله شق لهم عن قلوبهم فأبصروا بنور القلوب عز جلال الله فصارت أبدانهم دنياوية وأرواحهم حجبية وعقولهم سماوية تسرح بين صفوف الملائكة وتشاهد تلك الأمور باليقين فعبدوه بمبلغ استطاعتهم حبا له لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار فشهق الفتى شهقة كانت فيها نفسه قلنا كان هذا القائل من العارفين فإنه ذكر ما يدل على ذلك وهي ثلاثة ألقاب ليس في الكون إلا هي فقال أبدانهم دنياوية لأنه قال وفي الْأَرْضِ إِلهٌ فلا بد أن يترك له من حقائقه من يكون معه في الدنيا إذ كان الإنسان مجموع العالم وليس إلا بدنه لأنه أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ

وهو عرق بدني فلو مشى بكله لكان ناقص الحال والثاني عقولهم سماوية لأن العقول صفات تقييد فإن العقل يقيد إذ كان من العقال والسموات محال الملائكة المقيدة بمقاماتها فقالت وما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فلا تتعداه قد حبسه فيه من أوجده له ولهذا فسره بأن قال تسرح بين صفوف الملائكة فهم بعقولهم في السموات وما في الكون المركب الا سماء وأرض والثالث أرواحهم حجبية لأنه لما سوى سبحانه الصورة البدنية احتجب بل حجبها عن ظهوره في عينها ونفخت فيه من روحي فظهرت أرواحهم عن هذا الروح الحجابي فهم مشاهدون أصلهم عالمون بأنه حجاب ليعلموا من هو الظاهر في أعيانهم ومن المسمى فلانا ولم سمي وهنا أسرار دقيقة وحكايات المحبين العارفين كثيرة انتهى الجزء الرابع عشر ومائة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل) نختم به هذا الباب يسمى عندنا مجالي الحق للعارفين المحبين‏

في منصات الأعراس لإعطاء نعوت المحبين في المحبة فمن ذلك‏

منصة ومجلى نعت المحب بأنه مقتول‏

وذلك لأنه مركب من طبيعة وروح‏

والروح نور والطبيعة ظلمة *** وكلاهما في عينه ضدان‏

والضدان متنافران والمتنافران متنازعان كل واحد يطلب الحكم له وأن يرجع الملك إليه والمحب لا يخلو إما أن تغلب الطبيعة عليه فيكون مظلم الهيكل فيحب الحق في الخلق فيدرج النور في الظلمة اعتمادا على الأصل في قوله وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ والنهار نور فعلم أنهما متجاوران وإن كانا ضدين وأن أحدهما يجوز أن يكون مبطونا في الآخر فما يضرني أن أحب الحق في الخلق لا جمع بين الأمرين وإما إن غلب عليه الروح فيكون منور الهيكل فيحب الخلق في الحق‏

لقوله حبوا الله لما يغذوكم به من نعمه‏

فأحبته في النعم عن أمره فمشهوده الحق ومهما وقعت الغيرة بين الضدين ورأى كل ضدان مطلوبه ربما يتخلص لضده يقول أقتله حتى لا يظهر به ضدي دوني فإن قتلته الطبيعة مات وهو محب للاكوان وإن قتله الروح كان شهيدا حيا عند ربه يرزق فهو مقتول بكل حال كل محب في العالم وإن كان لا يشعر بذلك‏

منصة ومجلى نعت المحب بأنه تألف‏

وذلك أنه خلقه الله من اسمه الظاهر والباطن فجعله عالم غيب وشهادة وخلق له عقلا يفرق به بين حكم الاسمين لإقامة الوزن بين العالمين في ذاته ثم تجلى له في اسمه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فحيره فلم يعطه هذا التجلي إقامة الوزن ولا سيما وقد قال له وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فتلف من حيث لم ير حالا توجب العدل وإقامة الوزن فخرج عن حد التكليف إذ لا يكلف إلا عاقل لما تقيد بعقله فهذا نعت المحب بأنه تألف‏

منصة ومجلى نعته بأنه سائر إليه بأسمائه‏

وذلك أنه تجلى له في أسماء الكون وتجلى له في أسمائه الحسنى فتخيل في تجليه بأسماء الكون أنه نزول من الحق في حقه ولم يك ذلك من أفقه فلما نخلق بأسمائه الحسنى غلبه ما جرت عليه طريقة أهل الله من التخلق وهو يتخيل أن أسماء الكون خلقت له لا لله وأن منزلة الحق فيها بمنزلة العبد في أسمائه الحسنى فقال لا أدخل عليه إلا بأسمائي وإذا خرجت إلى خلقه أخرج إليهم بأسمائه الحسنى تخلقا فلما دخل عليه بما يظن أنها أسماؤه وهي أسماء الكون عنده رأى ما رأته الأنبياء من الآيات في إسرائها ومعارجها في الآفاق وفي أنفسهم فرأى إن الكل أسماؤه تعالى وأن العبد لا اسم له حتى إن اسم العبد ليس له وإنه متخلق به كسائر الأسماء الحسنى فعلم إن السير إليه والدخول عليه والحضور عنده ليس إلا بأسمائه وأن أسماء الكون أسماؤه فاستدرك الغلط بعد ما فرط ما فرط فجبر له هذا الشهود ما فاته حين فرق بين العابد والمعبود وهذا مجلى عزيز في منصة عظمى كانت غاية أبي يزيد البسطامي دونها فإن غايته ما قاله عن نفسه تقرب إلي بما ليس لي فهذا كان حظه من ربه ورآه غاية وكذلك هو فإنه غايته لا الغاية وهذه طريقة أخرى ما رأيتها لأحد من الأولياء ذوقا إلا للأنبياء والرسل خاصة من هذا المجلى وصفوه سبحانه بما يسمى في علم الرسوم صفات التشبيه فيتخيلون إن الحق وصف نفسه بصفات الخلق فتأولوا ذلك وهذا المشهد يعطي أن كل اسم للكون فأصله للحق حقيقة وهو للخلق لفظا دون معنى وهو به متخلق فافهم‏

منصة ومجلى‏

نعت المحب بأنه طيار *** علم صحيح ما عليه غبار

هذا بيت غير مقصود هو ما ذكرناه من أسماء الكون كان يتخيل أن تلك الأسماء وكره فلما تبين له أنه في غير وكره ظهر فطار عن كونه وكره وحلق في جو كونه اسما حقه فهو في كل نفس يطير منه إلى نفس آخر لأن عين الأسماء كلها لمن هو كل يوم في شأن فما من يوم وإلا والمحب يطير فيه من شأن إلى شأن هذا يعطيه شهوده‏

منصة ومجلى نعت المحب بأنه دائم السهر

لما رأى أن المحبوب لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ علم إن ذلك من مقام حبه لحفظ العالم ودعاه إلى هذا النظر كون الحق يتجلى في الصور وللصور أحكام ومن أحكام بعض الصور النوم ورآه في مثل هذه الصورة لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ من حيث هذه الصورة فعلم إن ذلك من مقام حبه لحفظ العالم وإذا كان المحب جليس محبوبه ومحبوبه بهذه الصفة فالنوم عليه حرام فالمحب يقول مع الفراق إن النوم عليه حرام فكيف مع الشهود والمجالسة قال بعضهم في سهر الفراق‏

النوم بعدكم علي حرام *** من فارق الأحباب كيف ينام‏

فالنوم مع المشاهدة أبعد وأبعد

منصة ومجلى نعت المحب بأنه كامن الغم‏

أي غمه مستور لا ظهور له فسبب ذلك قوله تعالى وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ ثم يرى في شهوده أنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه إذ هو محركها بما تتحرك فيه ويرى في شهوده ما يقابل الكون به خالقه من سوء الأدب وما لا ينبغي أن يوصف به مما مدلوله العدم فيريد أن يتكلم ويبدي ما في نفسه من الغيرة التي تقتضيها المحبة ثم يرى أن ذلك بإذنه لأنه ممن يرى الله قبل الأشياء مقام أبي بكر فيسكن ولا يتمكن له أن يظهر غمه لأن الحب حكم عليه بأن ذلك الذي يعامل به المحبوب لا يليق به ويرى أنه سلط خلقه عليه بما أنطقهم به وما عذرهم وأرسل الحجاب دونهم فكمن غم هذا المحب في الدنيا فإنه في الآخرة لا غم له ولهذا يطلب الخروج من الدنيا

منصة ومجلى نعت المحب بأنه راغب في الخروج من الدنيا إلى لقاء محبوبه‏

هو لما ذكرناه في هذا الفصل قبله لأن النفس من حقيقتها طلب الاستراحة والغم تعب وكمونه أتعب والدنيا محل الغموم والذي تختص به هذه المنصة رغبته في لقاء محبوبه وهو لقاء خاص عينه الحق إذ هو المشهود في كل حال ولكن لما عين ما شاء من المواطن وجعله محلا للقاء مخصوص رغبنا فيه ولا نناله إلا بالخروج من الدار التي تنافي هذا اللقاء وهي الدار الدنيا

خير النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بين البقاء في الدنيا والانتقال إلى الأخرى فقال الرفيق الأعلى‏

فإنه في حال الدنيا في مرافقة أدنى وورد في الخبر أنه من أحب لقاء الله يعني بالموت أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه‏

فلقيه في الموت بما يكرهه وهو أن حجبه عنه وتجلى لمن أحب لقاه من عباده ولقاء الحق بالموت له طعم لا يكون في لقائه بالحياة الدنيا فنسبة لقائنا له بالموت نسبة قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ والموت فينا فراغ لأرواحنا من تدبير أجسامها فأرادوا حب هذا المحب أن يحصل ذلك ذوقا ولا يكون ذلك إلا بالخروج من دار الدنيا بالموت لا بالحال وهو أن يفارق هذا الهيكل الذي وقعت له به هذه الألفة من حين ولد وظهر به بل كان السبب في ظهوره ففرق الحق بينه وبين هذا الجسم لما ثبت من العلاقة بينهما وهو من حال الغيرة الإلهية على عبيده لحبه لهم فلا يريد أن يكون بينهم وبين غيره علاقة فخلق الموت وابتلاهم به تمحيصا لدعواهم في محبته فإذا انقضى حكمه ذبحه يحيى عليه السلام بين الجنة والنار فلا يموت أحد من أهل الدارين فهذا سبب رغبتهم في الخروج من الدنيا إلى لقاء المحبوب لأن الغيرة نصب ويحيي الموت بالذبح حياة خاصة كما حكمنا بعد الموت‏

فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا

منصة ومجلى نعت المحب بأنه متبرم بصحبة ما يحول بينه وبين لقاء محبوبه‏

هذا النعت أعم من الأول في المحب فإن العارف ما يحول بينه وبين لقاء محبوبه إلا العدم وما هو ثم وليس الوجود سواه فهو شاهده في كل عين تراه فليس بين المحب والمحبوب إلا حجاب الخلق فيعلم أن ثم خالقا ومخلوقا فلم يقدر على رفع صحبة هذه الحقيقة فإنها عينه والشي‏ء لا يرتفع عن نفسه ونفسه تحول بينه وبين لقاء محبوبه فهو متبرم بنفسه لكونه مخلوقا وصحبته لنفسه ذاتية لا ترتفع أبدا فلا يزال متبرما أبدا فلهذا يتبرم لأنه يتخيل أنه إذا فارق هذا الهيكل فارق التركيب فيرجع بسيطا لا ثاني له فينفرد بأحديته فيضربها في أحدية الحق وهو اللقاء فيكون الحق الخارج بعد الضرب لا هو فهذا يجعله يتبرم والعارف المحب لا يتبرم من هذا لمعرفته بالأمر على ما هو عليه كما ذكرناه في رسالة الاتحاد

منصة ومجلى نعت المحب بأنه كثير التأوه‏

وهو قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وصف الحق من كونه اسمه الرحمن أن له نفسا ينفس به عن عباده وفي ذلك النفس ظهر العالم ولذلك جعل تكوين العالم بقول كُنْ والحرف مقطع الهواء فالهواء يولده ما هو هو لأنه لا يظهر الحرف إلا عند انقطاع الهواء والهواء نفس ولهذا الهواء في العناصر هو نفس الطبيعة ولهذا يقبل الحروف وهو ما يظهر فيه من الأصوات عند الهبوب والظاهر من تلك الأصوات حرف الهاء والهمزة وهما أقصى المخارج مخارج الحروف فإنهما مما يلي القلب وهما أول حروف الحلق بل حروف الصدر فهما أول حرف يصوره المتنفس وذلك هو التأوه لقربه من القلب الذي هو محل خروج النفس وانبعاثه فيظهر عنه جميع الحروف كما يظهر العالم بالتكوين عن قول كُنْ وهو سر عجيب سأذكره في باب النفس بفتح الفاء إن شاء الله فإذا تجلى الحق من قلب المحب ونظرت إليه عين البصيرة لأن القلب وسع الحق ورأى ما يقع من الذم على هذه النشأة الطبيعية وهي تحتوي على هذه الأسرار الإلهية وإنها من نفس الرحمن ظهرت في الكون فذمت وجهل قدرها فكثر منه التأوه لهذه القادحة لما يرى في ذلك من الوضوح والجلاء والناس في عماية عن ذلك لا يبصرون فيتأوه غيرة على الله وشفقة على المحجوبين‏

لكون النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم جعل كمال الايمان في المؤمن أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه‏

فلهذا يتأسف على من حرمه الله هذا الشهود ويتأوه لحبه في محبوبه من أجل ما يراه من عمى الخلق عنه ومن شأن المحب الشفقة على المحبوب لأن الحب يعطي ذلك‏

منصة ومجلى نعت المحب بأنه يستريح إلى كلام محبوبه وذكره بتلاوة ذكره‏

قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فسمى كلامه ذكرا فاعلم إن أصل وجود الكون لم يكن عن صفة إلهية إلا عن صفة الكلام خاصة فإن الكون لم يعلم منه إلا كلامه وهو الذي سمع فالتذ في سماعه فلم يتمكن له إلا أن يكون ولهذا السماع مجبول على الحركة والاضطراب والنقلة في السامعين لأن السامع عند ما سمع قول كن انتقل وتحرك من حال العدم إلى حال الوجود فتكون فمن هنا أصل حركة أهل السماع وهم أصحاب وجد ولا يلزم فيمن فإن الوجد لذاته يقتضي ما يقتضي وإنما المحبوب يختلف فالحب والوجد والشوق وجميع نعوت الحب وصف للحب كان المحبوب ما كان إلا أني اختصصت في هذا الكتاب الحب المتعلق بالله الذي هو المحبوب على الحقيقة وإن كان غير مشعور به في مواطن عند قوم ومشعورا به عند قوم وهم العارفون فما أحبوا إلا الله مع كونهم يحبون أرواحهم وأهليهم وأصحابهم فاعلم ذلك حتى إن بعض الصالحين حكى لنا عنه أنه قال إن قيسا المجنون كان من المحبين لله وجعل حجابه ليلى وكان من المولهين وأخذت صدق هذا القول من حكايته التي قال فيها لليلى إليك عني فإن حبك شغلني عنك وما قربها ولا أدناها ومن شأن الحب أن يطلب المحب الاتصال بالمحبوب وهذا الفعل نقيض المحبة ومن شأن المحب أن يغشى عليه عند فجأة ورود المحبوب عليه ويدهش وهذا يقول لها إليك عني وما دهش ولا فنى فتحقق عندي بهذا الفعل صدق ما قاله هذا العارف في حق قيس المجنون وليس ببعيد فلله ضنائن من عباده فمن هناك استراح المحبون إلى كلام المحبوب وذكره والقرآن كلامه وهو ذكر فلا يؤثرون شيئا على تلاوته لأنهم ينوبون فيه عنه فكأنه المتكلم كما قال فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله والتالي إنما هو محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته فهم الأحباب المحبون‏

منصة ومجلى نعت المحب بأنه موافق لمحاب محبوبه‏

هذا ما يكون إلا من نعوت المحبين لله خاصة لكونه تعالى لا يحد ولا يتقيد وهو المتجلي في الاسم القريب كما يتجلى في الاسم البعيد فهو البعيد القريب قال المحب‏

وكل ما يفعل المحبوب محبوب‏

فإذا فعل البعد كان محبوبه البعد عن المحبوب لأنه محبوب المحبوب فإنه أحبه لحب المحبوب لا بنفسه ولا يحبه بحب المحبوب لا بنفسه حتى يكون المحبوب صفة له وإذا كان المحبوب من صفات المحب قام به وإذا قام به فهو في غاية الوصلة في عين البعد أوصل منه به في القرب لأنه في القرب بصفة نفسه لا بصفة محبوبه لأنه لا يقوم بالمحل علتان لمعلول واحد هذا لا يصح فما يحب القرب إلا لنفسه كما لا يحب البعد إلا بمحبوبه فهو في حب البعد أتم منه محبة في حب القرب ولنا في هذا المعنى‏

هوى بين الملاحة والجمال *** يقاسيه القوي من الرجال‏

ويضعف عنه كل ضعيف قلب *** تقلب في النعيم وفي الدلال‏

وتقليبي مع الهجران عندي *** ألذ من العناق مع الوصال‏

فإني في الوصال عبيد نفسي *** وفي الهجران عبد للموالي‏

وشغلي بالحبيب بكل وجه *** أحب إلي من شغلي بحالي‏

ففي هذا الشعر ايثار مآثره المحبوبة ويتضمن ما أشرنا إليه في كلامنا قبله وأما قولنا إن المحبوب صفة المحب فيما ذكرناه فهوقوله تعالى فإذا أحببته كنت سمعه وبصره‏

فجعل عينه سمع العبد وبصره فأثبت أنه صفته فما أحب المحب البعد إلا بمحبوبه وهذا غاية الوصلة في عين البعد

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه خائف من ترك الحرمة في إقامة الخدمة

وذلك أنه لا يخاف من هذا إلا عارف متوسط لم يبلغ التحقيق في المعرفة إلا أنه يشعر به من غير ذوق سوى ذوق الشعور وهو محب والمحب مطيع لمحبوبه في جميع أوامره وتحقيق الأمر يعطي أن الآمر عين المأمور والمحب عين المحبوب إلا إن الظاهر يظهر بحسب ما تعطيه حقيقة المظهر وبالمظاهر تظهر التنوعات في الظاهر وتختلف الأحكام والأسامي وبها يظهر الطائع والعاصي فالذي هو في مقام الشعور ولم يحصل في حد أن ينزل الأشياء منازلها في الظاهر يخاف أن يصدر منه ما يناقض الحرمة في خدمته إذ يقول ليس إلا هو كما يذهب إلى ذلك من يرى الأعيان عينا واحدة ولكن لا يعرف كيف فلا يزال يسي‏ء الأدب لأنه أخذ ذلك عن غير ذوق وهذا مذهب من يرى أن المدبر أجسام الناس روح واحدة وأن عين روح زيد هو عين روح عمرو وفيه من الغلط ما قد ذكرناه في غير هذا الموضع وهو أنه يلزم ما يعلمه زيد لا يجهله عمرو لأن العالم من كل واحد عين روحه وهو واحد والشي‏ء الواحد لا يكون عالما بالشي‏ء جاهلا به فيخاف المحب إن صدرت منه قلة حرمة بهفوة وغلط أن يستند فيها بعد وقوعها إلى ما ذكرناه فيحصل في قلة المبالاة بما يظهر عليه من ذلك والمحبة تأبى إلا حرمة المحبوب وإن كان المحب مدلا بحبه لغلبة الحب عليه وأنه يرى نفسه عين محبوبه فيقول‏

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

فهذا سبب خوفه لا غير

(منصة ومجلى) نعت المحب أن يستقل الكثير من نفسه في حق ربه‏

ويستكثر القليل من حبيبه وذلك أنه يفرق بين كونه محبا لما يرى في نفسه من الانكسار والذلة والدهش والحيرة التي هي أثر الحب في المحبين ويرى نخوة المحبوب وتيهه ورياسته وإعجابه عليه فيرى أنه إذا أعطاه جميع ما يملكه فهو قليل لما أعطاه من نفسه وأن حق محبوبه أعظم عنده من حق نفسه بل لا يرى لنفسه حقا وإن كان في الحقيقة ما يسعى إلا في حق نفسه هكذا تعطيه المحبة كان لبعض الملوك مملوك يحبه اسمه إياس فدخل على الملك بعض جلسائه ورأى قدمي المملوك في حجر الملك والملك يكبسهما فتعجب فقال إياس يا هذا ما هذه أقدام إياس هذه قلب الملك في حجره يكبسه هذا معنى قولنا إن المحب في حق نفسه يسعى فإنه له في ذلك الفعل لذة عظيمة لا ينالها إلا بذلك الفعل فالمحبوب ممتن عليه إذ أمكنه مما تقع للمحب به لذة من المحبوب فيرى المحب أي شي‏ء جاء من المحبوب فهو كثير فهو إنعام سيد على عبد وأي شي‏ء كان من المحب في حق المحبوب ولو كان تلف الروح والمهجة في رضاه لكان قليلا لأنه طاعة عبد لسيد محسان وما قدروا الله حق قدره فالمحبوب غني فقليله كثير والمحب فقير فكثيره قليل ولكن وإن كان هذا نعت المحب عندهم فهو نعت محب ناقص المعرفة كثير الحب على عماية لأن المحب إذا كان المخلوق ليس له حتى يستقل أو يستكثر وأما إذا كان المحب الله فإنه يستكثر القليل من عبده وهو قوله فَاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ ولا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وأما استقلاله الكثير في حق أحبابه من عباده فإن ما عند الله ما له نهاية ودخول ما لا نهاية له في الوجود محال فكل ما دخل في الوجود فهو متناه فإذا أضيف ما تناهي إلى ما لا يتناهى ظهر كأنه قليل أو كأنه لا شي‏ء وإن كان كثيرا وهنا نظر يطول فاقتصرنا

(منصة ومجلى) نعت المحب يعانق طاعة محبوبه ويجانب مخالفته‏

قال شاعرهم‏

تعصى الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في القياس بديع‏

لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع‏

المحب عبد والعبد من وقف عند أوامر سيده وتجنب مخالفة أوامره ونواهيه فلا يراه حيث نهاه ولا يفقده حيث أمر

لا يزال ماثلا بين يديه فإذا أمره رأى هذا المحب أنه قد امتن عليه حيث استعمله وأمره وإن هذا من عنايته به وإن فقد رؤيته ومشاهدته فيما شغله به فهو في نعيم ولذة بكونه يتصرف في مراسيم سيده وعن إذنه فإن كان المحب الله فأمر المحبوب له دعاؤه ورغبته فيما يعن له ويحبه ثم إنه يكره أشياء فيدعوه بصفة النهي مثل قوله لا تُزِغْ قُلُوبَنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا به فهذا سؤال بصفة نهي فقد وقع منه الأمر والنهي لسيده وإجابة الحق هذا العبد من حيث هو محب لهذا العبد كالطاعة من العبد لأوامر سيده ومجانبة مخالفته‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه خارج عن نفسه بالكلية

اعلم أن نفس الشخص الذي يتميز به عن كثير من المخلوقات إنما هو إرادته فإذا ترك إرادته لما يريد به محبوبه فقد خرج عن نفسه بالكلية فلا تصرف له فإذا أراد به محبوبه أمرا ما وعلم هذا المحب ما يريده محبوبه منه أو به سارع أو تهيأ لقبول ذلك ورأى أن ذلك التهيؤ والمسارعة من سلطنة الحب الذي تحكم فيه فلم ير المحبوب في محبه من ينازعه فيما يريده به أو منه لأنه خرج له عن نفسه بالكلية فلا إرادة له معه ولكن مع وجود نفسه وطلبه الاتصال به وإن لم يكن كذلك فهو في مرتبة الجماد الذي لا إرادة له فما له لذة إلا اللذة التي متعلقها التذاذ محبوبه بما يراه منه في قبوله المحب الله أوحى الله إلى موسى يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك يعني الدنيا والآخرة لأنه العين المقصودة وهو رأس الأحباء محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فالكل في تسخير هذه النشأة الإنسانية الأفلاك وما تحتوي عليه والكواكب وما في سيرها هذا في الدنيا وأما في الآخرة فما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر حتى نهاية الأمر وهو التجلي الإلهي يوم الزور الأعظم فهذا معنى خروج المحب عن نفسه بالكلية في كل ما يمكن أن يحتاج إليه المحبوب وما لا حاجة للمحبوب به ولا يعود عليه منه لذة وابتهاج فلا يدخل تحت هذا الباب‏

(منصة ومجلى) نعت المحب لا يطلب الدية في قتله‏

لأنا قد وصفناه أولا بأنه مقتول قتل المحب شهادة فقتله حياته والحي لا دية فيه إنما يؤدي القتيل الذي يموت فله شرعت الدية المحب الله كون العبد محبوبا إرادته نافذة لا إرادة للمحب تنازع إرادته المقتول لا إرادة له ومن كان بإرادة محبوبه فلا إرادة له وإن كان مريدا ولا دية له لأن الحي لا دية فيه والحياة الذاتية له وهو حب الفرائض إذا أداها أحبه الله ففي النوافل يكون سمع العبد وبصره وفي الفرائض يكون العبد سمع الحق وبصره ولهذا ثبت العالم فإن الله لا ينظر إلى العالم إلا ببصر هذا العبد فلا يذهب العالم للمناسبة فلو نظر إلى العالم ببصره لاحترق العالم بسبحات وجهه فنظر الحق العالم ببصر الكامل المخلوق على الصورة هو عين الحجاب الذي بين العالم وبين السبحات المحرقة

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه يصبر على الضراء

التي ينفر منها الطبع لما كلفه محبوبه من تدبيره الإنسان مجموع الطبع والنور فالطبع يطلبه والنور يطلبه وكلف النور أن يغتبن ويترك كثيرا مما ينبغي له وتطلبه حقيقته لما يطلبه الطبع من المصالح وأمر النور الذي هو الروح أن يوفيه حقه وهوقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لمن قال له من أبر قال أمك ثلاث مرات ثم قال له في الرابعة ثم أباك‏

فرجح بر الأم على بر الأب والطبيعة الأم وهوقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن لنفسك عليك حقا وهي النفس الحيوانية ولعينك عليك حقا

فهذا كله من حقوق الأم التي هي طبيعة الإنسان وأبوه هو الروح الإلهي وهو النور فإذا ترك أمورا كثيرة من محابه من حيث نوريته فإنه يتصف بأنه مضرور وهو مأمور بالصبر فهذا معنى يصبر على الضراء وإن كانت حقيقته تنفر من ذلك ولكن أمر الله أوجب ثم قال له في صبره واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ فإن الله تسمى بالاسم الصبور فكأنه قال له أنا على عزة جلالي قد وصفت نفسي بأني أؤذى وإني أحلم وأصبر وتسميت بالصبور وأنا غير مأمور ولا محجور علي فأدخلت نفسي تحت محاب خلقي وتركت ما ينبغي لي لما ينبغي لخلقي إيثار الهم ورحمة مني بهم فأنت أحق بأن تصبر على الضراء بي أي بسبب أمري وبسبب كوني صبورا على أذى خلقي حين وصفوني بما لا يقتضيه جلالي وهذا من كون الله محبا في هذا المجلى وأما كونه كذلك لما كلفه محبوبه من تدبير نشأته الطبيعية فإذا كان المحبوب الخلق والمحب الحق فصورة التكليف ما يطلبه العبد من سيده إذا عرف أنه محبوب لسيده من تدبير مصالحه بشرط الموافقة لأغراضه ومحابه فيفعل الحق معه ذلك فهذا ذلك المعنى الذي نعت به المحب‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه هائم القلب‏

لما كان القلب سمي بذلك لكثرة تصرفاته وتقليبه كثرت وجوهه وتوجهاته وهذه صفة

الهائم ولا سيما إذا كان الحق يظهر له في كل وجه يتوجه إليه وفي كل مصرف يتصرف فيه فإنه ناظر إلى عين محبوبه في كل وجه المحب الله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ‏

ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله‏

كثرة الوجوه في الأمر الواحد تؤدي إلى التردد أيها يفعل وكلها رضي المحبوب فنحن لا نعرف الأرضى وهو يعرف الأرضى في حقنا غير أنا نعرف الأرضي ما بين النوافل والفرائض فنقول الفرائض أرضى ولكن إذا اجتمعت بحكم التخيير كالكفارة التي فيها التخيير لا يعرف الأرضي إلا بتعريف مجدد وكذلك الأرضي في النوافل لا يعرف إلا بتوقيف والنوافل كثيرة وما منها إلا مرضي من وجه وأرضى من وجه فلا بد من تعريف جديد ففي مثل هذا يكون المحب هائم القلب أي حائرا في الوجوه التي يريد أن يتقلب فيها

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه مؤثر محبوبه على كل مصحوب‏

لما كان العالم كله كل جزء منه عنده أمانة للإنسان وقد كلف بأداء الأمانة وأماناته كثيرة ولأدائها أوقات مخصوصة له في كل وقت أمانة منها ما نبه عليه أبو طالب من أن الفلك يجري بأنفاس الإنسان بل بنفس كل متنفس والمقصود الإنسان بالذكر خاصة لأنه بانتقاله ينتقل الملك ويتبعه حيث كان فلا يزال العالم يصحبه الإنسان لهذه العلة ثم إن الإنسان مفتقر لهذه الأمانات التي عند العالم ومع افتقاره إليها فإن المحبين من رجال الله العارفين شغلوا نفوسهم بما أمرهم به محبوبهم فهم ناظرون إليه حبا وهيما ناقد تيمهم بحبه وهيمهم بين بعده وقربه فمن هنا نعتوا بأنهم آثروه على كل مصحوب لأنه صاحبهم لقوله تعالى وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وكل من في العالم يصحبه أيضا لأجل الأمانة التي بيده فيؤثر الإنسان لمحبته لله جناب الله على كل مصحوب قيل لسهل ما القوت قال الله قيل له ما نريد إلا ما تقع به الحياة قال الله فلم ير إلا الله فلما ألحوا عليه وقالوا له إنما نريد ما به عمارة هذا الجسم فلما رآهم ما فهموا عنه عدل إلى جواب آخر فقال دع الديار إلى بانيها إن شاء عمرها وإن شاء خربها يقول ليس من شأن اللطيفة الإنسانية صحبة هذا الهيكل الخاص ولا بد تشتغل هي بما كلفها المحبوب الذي هو عين حياتها ووجودها وأي بيت أسكنها فيه سكنته هذا إن كان يقول بعدم التجريد عن النشأة الطبيعية كما نقول وكما أعطاه الكشف وإن كان يقول بالتجريد عن الطبيعة وارتفاع العلاقة فهو على كل حال ممن يؤثر الله على كل مصحوب المحب الله آثر الإنسان من كونه محبوبه على جميع العالم فأعطاه الصورة الكاملة ولم يعطها لأحد من أصناف العالم وإن كان موصوفا بالطاعة والتسبيح لله فقد آثره على كل مصحوب قال تعالى وإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً أعطاه جميع الأسماء كلها الإلهية فسبحه بكل اسم إلهي له بالكون تعلق ومجده وعظمه لا اسم القصعة والقصيعة الذي ذهب إليه من لا علم له بشرف الأمور ولذلك قالت الملائكة نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ ولا يقدس ولا يسبح إلا بأسمائه فأعلمهم بأن لله أسماء في العالم ما سبحته الملائكة ولا قدسته بها وقد علمها آدم فلما أحضر ما أحضره من خلقه مما لا علم للملائكة به ف فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ التي تسبحونى بها وتقدسوني قالُوا لا عِلْمَ لَنا فقال لآدم أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ علموا إن لله أسماء لم يكن لهم بها علم يسبحه بها هؤلاء الذين خلقهم وعلمها آدم فسبح الله بها كما قال للملائكة لما طافت به بالبيت ما كنتم تقولون قالت الملائكة كنا نقول في طوافنا به قبلك سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقال لهم آدم وأنا أزيدكم لا حول ولا قوة إلا بالله أعطاها الله إياه من كنز من تحت العرش لم تكن الملائكة تعلم ذلك فلو أراد المفسر بقوله حتى القصعة والقصيعة الاسم الإلهي المتوجه على الصغير والكبير فسبحه الصغير في تصغيره بما لا يسبحه به الكبير في تكبيره أصاب وإنما قصد لفظة القصعة والقصيعة ولا شرف في مثل هذا فإنه راجع لما يصطلح عليه إذ لها في كل لسان اسم مركب من حروف لا يشبه الاسم الآخر فليس المراد إلا ما تقع به الفائدة التي يماثل بها قول الملائكة في فخرها على الإنسان إنها مسبحة ومقدسة فاراها الله تعالى شرف آدم من حيث دعواها وهو ما ذكرناه ليس غيره وما ثم في المخلوقات أشرف من الملك ومع هذا فقد فضل عليه الإنسان الكامل بعلم الأسماء فهو في هذه الحضرة وهذا المقام أفضل فهذا حد إيثار الحق له‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه محو في إثبات‏

أما إثباته فظهر في تكليفه ومن العبادات الفعلية في صلاته فقسمها بينه وبين عبده فأثبته وأما محوه في هذا الإثبات فقوله والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ وقوله لَيْسَ لَكَ من الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ وقوله إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وقوله‏

وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ وقوله مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فهذا في غاية البيان من كتاب الله محو في إثبات فالمحب ما له تصرف إلا فيما يصرف فيه قد حبره حبه الآن يريد سوى ما يريده به والحقيقة في نفس الأمر تأبى إلا ذلك وكل ما يجري منه فهو خلق لله وهو مفعول به لا فاعل فهو محل جريان الأمور عليه فهو محو في إثبات المحب الله محو في إثبات لا تقع العين إلا على فعل العبد فهذا محو الحق ولا يعطي الدليل العقلي والكشف إلا وجود الحق لا وجود العبد ولا الكون فهذا إثبات الحق فهو محو في عالم الشهادة إثبات في حضرة الشهود

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه قد وطأ نفسه لما يريده به محبوبه‏

وذلك أن الحب لما حال بينه وبين رؤية الأسباب ولم يبق له نظر إلا إلى جناب محبوبه تعالى جهل ما يحتاج العالم إليه فيه ولا بد له في نفس الأمر أن يؤدي إليه ما يطلبه به من حقوقه كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولزورك عليك حق‏

فأتى بما يدخل فيه جميع العالم وهو الزيارة وهذا من جوامع كلمه فوطأ هذا المحب نفسه لما يريده به محبوبه فعلم ما للعالم من الحقوق عليه من جهة ما أراده به محبوبه من تصريفه فيما صرفه والحق حكيم فلا يحركه إلا في العمل الخاص وأداء الحق الخاص فيما يطلبه به من كان من العالم في ذلك الوقت فيعرف العالم من الله فيربح شهود الحق وهو قول الصديق ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فشاهد عين العالم في شهود الله المحب الله لما كان في نفس الأمر أن الحق سبحانه لا تقبل ذاته التصريف فيها وجعل في نفوس العالم الافتقار إليه فيما فيه بقاؤهم ومصالحهم وتمشية أغراضهم فكأنه قد وطأ نفسه لجميع ما يريدونه منه وما يريدونه به ولهذا إذا سألوه فيما لم يجي‏ء وقته قال لهم سَنَفْرُغُ لَكُمْ فهو الفاعل في كل حال وليست ذاته بمحل لظهور الآثار فقد وقعت التوطئة أنه مهيأ لما يحتاج إليه الكون لا لنفسه وله في كل ما أوجده تسبيح هو غذاء ذلك الموجود فلهذا أخبر سبحانه أنه ما من شي‏ء إلا وهو يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وقد ذكرناه في مقام الفتوة

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه متداخل الصفات‏

وذلك أن المحب يطلب الاتصال بالمحبوب ويطلب اتباع إرادة المحبوب وقد يريد المحبوب ما يناقض الاتصال فقد تداخلت صفات المحب في مثل هذا المحب الله هو الأول من عين ما هو آخر فدخلت آخريته على أوليته ودخلت أوليته على آخريته وما ثم إلا عينه فأوليته عينه وآخريته عبده وهو محبوبه فقد تداخلت صفاته في صفات محبوبه فإن قلت عبد لم تخلص وإن قلت سيد لم تخلص وأنت صادق في الأمرين فهذا حكم التداخل‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه ما له نفس مع محبوبه‏

يقول ما هو مستريح مع محبوبه لأنه مراقب محبوبه في كل نفس يرى أين محابه فيتصرف فيها فلا يبرح ذا عناء ببذل المجهود في رضي المحبوب ورضاه مجهول فلا راحة للمحب فهذا معنى قولهم ما له نفس أي لا يستريح من التنفيس وهو إزالة الكرب والشدة وهذا نعت المحب الصادق في حبه المحب الله قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ولا يتصرف إلا في حق عباده ولا يقصد من عباده إلا أحبابه وينتفع الباقي بحكم التبعية يأكلون فضلات موائدهم فشغله بمصالحهم دنيا وآخرة غير أنه موصوف بأنه لا يمسه لغوب يقول تعالى ولَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أَيَّامٍ وما مَسَّنا من لُغُوبٍ وهو قوله أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني في كل نفس هو تعالى في خلق جديد في عباده وهو قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ وقال في أهل السعادة لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ مع كونهم في كل حال يتصرفون في حق الله لا في حق نفوسهم ثم إن ذلك يعود عليهم لا يقصدونه من أجل عوده عليهم بل الحقائق تعطي ذلك فلهذا وصف المحب بأنه لا نفس له مع محبوبه‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه كله لمحبوبه‏

وذلك أنه مجموع وبحكم جمعيته ظهر عينه فآحاده لله إذ الأحدية لله وليس المجموع سوى هذه الآحاد فكله لله فإن كل واحد من المجموع إذا ضربته في الواحد الحق كان الخارج من ذلك واحد الحق فهذا معنى كله لمحبوبه وهو واحد المجموع لأن المجموع له أحدية وعلى هذا يخرج إذا كان المحب الله فالكل في حق الله مع أحديته إنما ذلك الأسماء الإلهية وهي التسعة والتسعون فظهرت الكثرة في الأسماء فصح اسم الكل وآحاد هذا الكل عين كل اسم على حدة يطلب من العبد ذلك الاسم حقيقة واحدة يظهر سلطانه فيها ولا تكون إلا واحدة فتضرب الواحد في الواحد فيظهر في الشاهد واحد العبد وهو المحبوب فكله لله لأن الأسماء كلها تظهر أحكامها في العبد والأسماء لله‏

فالكل للعبد المحبوب عند الله فما في الحضرة الإلهية شي‏ء إلا للعبد المحبوب فَإِنَّ الله بذاته غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فهو غني عن الكثرة وعن الدلالة عليه‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه يعتب نفسه بنفسه في حق محبوبه‏

وذلك أن المحب يرى أنه يعجز عما لمحبوبه عليه من الحقوق التي أوجبها حبه عليه ولا علم له بطريق الإحاطة بمحاب محبوبه فيجهد في أنه يعمل بقدر ما علم من ذلك ثم يقول لنفسه لو صدقت في حبك لكشف لك عن جميع محابه فإنك في دار التكليف وهي دار محصورة ومحاب الحبيب فيها معينة بخلاف الآخرة فإنك مسرح العين فيها لأنها كلها محابه فلا عتاب هناك فلهذا عتب المحب هنا نفسه بنفسه في حق محبوبه المحب الله وصف نفسه بالتردد في حق حبه للعبد المؤمن إذ من حق المحبوب أن لا يعمل له المحب ما يكرهه والمحبوب يكره الموت والحق يكره مساءته من حيث ما هو محبوب له فهذا معنى العتب ولا بد له من الموت لما سبق من العلم ولكن لجهل العبد بما له في اللقاء من الخير بخلاف المحبين فإنهم يحبون الموت لا للراحة بل للالتقاء مع المحبوب ومن المحبين من يغلب عليه رضي المحبوب ويرى أنه لا يحصل ذلك على حالة يعرف بها قدر حب المحب إلا بوجود التحجير وتميز ما يرضى مما يسخط ولا يكون له ذلك إلا في دار التكليف وأما في الآخرة فلا تحجير فيقع التساوي فيرتفع تميز قدر المحب في تصرفه من غير المحب فيكره بعض المحبين الموت لهذا المعنى وهذا لصدقهم في المحبة والمحب الله أيضا في هذه الحقيقة وقد قضى بالموت على الجميع وكان غرض هذه الطائفة المخصوصة التي تريد التمييز أن لا يرتفع عنها التحجير لتعلم قدر محبتها لسيدها على غيرها من الطوائف ويأبى سبق العلم بالكائن إلا أن يكون فهذا القدر يسمى عتبا في حق الحق يميزه قوله تعالى فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا بل يميزه ويختار خاصة والذي يفهم أيضا من قوله ولَوْ شاءَ فهذا وأمثاله موجب العتب لا الإرادة ولا العلم فإن الحكم لهما فتفطن لما ذكرناه فكل ذلك أسرار إلهية غاروا عليها أصحابنا لما رأوا من عظيم قدرها وهو كما قالوه غير إن هذا الذي أبرزنا منها بالنظر إلى ما عندنا من العلم بالله قشر فهذا سبب أقدامنا على إبرازه ولما فيه من المنفعة في حق العباد

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه ملتذ في دهش الدهش سببه فجأة المحبوب‏

وهو المعبر عنه بالهجوم وسيأتي له باب في هذا الكتاب ولما كان الحق دعا قلوب العباد إليه وشرع لهم الطريق الموصلة المشروعة وتعرف إليهم بالدلالات فعرفوه وتحبب إليهم بالنعم فأحبوه فلما تجلى لهم على غير موعد عند ما دخلوا عليه وهم غير عارفين بأنهم في حال دخول عليه فجئهم تجليه فعرفوه بالعلامة فدهشوا لفجأة التجلي والتذوا لعلمهم بالعلامة في نفوسهم أنه حبيبهم ومطلوبهم فهذا التذاذهم في دهش المحب الله وصف نفسه بالاختيار وأَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ وإنه لو شاء فعل وإنه لا مكره له وهو الصادق في قوله وما حكم به على نفسه وهو أيضا المقيت فقد ترتبت الأمور ترتيب الحكمة ف لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فهو في كل حال يفعل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي فعل حكيم عالم بالمراتب فتأتيه أسئلة السائلين وما يوافق توقيت الإجابة في عين ما سألوه فيه وقد تقرر أنه لا مكره له ولا بد من التوقف عند هذا السؤال لمناقضته إذا أجابه ترتيب الحكمة فهذا المقدار يسمى دهشا وأما التذاذه فإن السائل في ذلك محبوب فهو يحب سؤاله ودعاءه كما

قد ورد في الخبر أن شخصين محبوب لله وبغيض سألا الله في حاجة فأوحى الله للملك أن يقضي حاجة البغيض مسرعا حتى يشتغل عن سؤاله لكونه يبغضه ويبغض صوته ويقول للملك توقف عن حاجة فلان فإني أحب أن أسمع صوته وسؤاله فإني أحبه‏

فهذا مقضي الحاجة على بغض وهذا غير مقضي الحاجة مع حب وعناية فلو كشف لهذا المحبوب هذا السر في وقت تأخر الإجابة ما وسعه شي‏ء من الفرح بذلك فالتوقف عن الإجابة كتوقف الداهش لصدق قوله في أنه لا مكره له والالتذاذ علمه بأنه لا بد من وصوله إلى ما طلب وفرحه به فسبحان العزيز الحكيم‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه جاوز الحدود بعد حفظها

هذا معين في أحباء أهل بدر فإنهم ممن جاوزوا الحدود بعد حفظها فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأما في غير المعينين في العموم وهم معينون في الخصوص وقد عين الحق صفتهم فهو ما ذكر الله سبحانه في‏

قوله أذنب عبد ذنبا فعلم إن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فقال في الرابعة أو في الثالثة اعمل ما شئت فقد غفرت لك‏

فأباح له وأخرجه من التحجير في الدنيا إذ كان الله لا يأمر بالفحشاء فما عصى الله صاحب هذه‏

الصفة بل تصرف فيما أباحه الله له وقد كان قبل هذه الصفة من أهل الحدود فجاوزها بعد حفظها فهذا أعطاه شرف العلم مع وجود عقل التكليف بخلاف صاحب الحال فإن حكم صاحب الحال حكم المجنون الذي ارتفع عنه القلم فلا يكتب لا له ولا عليه وهذا يكتب له ولا عليه فهذا قدر ما بين العلم والحال فما أشرف العلم فالمحب إذا كان صاحب علم هو أتم من كونه صاحب حال فالحال في هذه الدار الدنيا نقص وفي الآخرة تمام والعلم هنا تمام وفي الآخرة تمام وأتم المحب الله لما علم من عباده المحبين له أنهم غير مطالبين لله ما أوجبه لهم على نفسه جاوزوا الحدود بعد حفظها فأعطاهم ما أوجبه على نفسه وهو حفظها ثم أعطاهم بغير حساب وهو مجاوزته الحدود فإن الحد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ومجاوزة الحدود الزيادة في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‏ وهو حفظ الحد وزِيادَةٌ وهي ما جاوز الحد هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه غيور على محبوبه منه‏

وهذا أحق ما يوجد في حق من يحب الله وهذا مقام الشبلي أداه إلى ذلك تعظيم محبوبه في نفسه وحقارة قدره فرأى أنه لا يليق بذلك الجناب العزيز إدلال المحبين فإن المحبين لهم إدلال في الحضرة الإلهية إلا المحبين الموصوفين بالغيرة فإنهم لا إدلال لهم لما غلب عليهم من التعظيم فهم الموصوفون بالكتمان وسببه الغيرة والغيرة من نعوت المحبة فهم لا يظهرون عند العالم بأنهم من المحبين وهذا مقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فإنه وصف نفسه بأنه أغير من سعد بعد ما وصف سعدا بأنه غيور فإني ببنية المبالغة في غيرة سعد ثم‏

ذكر أنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أغير من سعد

فستر محبته وما لها من الوجد فيه بالمزاح وملاعبة الصغير وإظهار حبه فيمن أحبه من أزواجه وأولاده وأصحابه هذا كله من باب الغيرة وقوله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ فلم يجعل عند نفسه أنه من المحبين فجهلته طبيعته وتخيلت أنه معها لما رأته يمشي في حقها أو يؤثرها ولم تعلم بأن ذلك عن أمر محبوبه إياه بذلك‏

فقيل إن محمدا صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يحب عائشة والحسن والحسين وترك الخطبة يوم الجمعة ونزل إليهما لما رآهما يعثران في أذيالهما وصعد بهما وأتم خطبته‏

هذا كله من باب الغيرة على المحبوب إن تنتهك حرمته وإن هذا ينبغي أن يكون الأمر عليه تعظيما للجناب الأقدس أن يعين ثم لا يظهر ذلك الاحترام من الكون فسدل ستر الغيرة في قلوب عباده المحبين المحب الله‏

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في هذا الحديث والله أغير مني ومن غيرته حرم الفواحش‏

ليفتضح المحبون في دعواهم محبته فغار أن يدعي فيه الكاذب دعوى الصادق ولا يكون ثم ميزان يفصل بين الدعوتين فحرم الفواحش فمن ادعى محبته وقف عند حدوده فتبين الصادق من الكاذب والكل بالله قائم فغار على محبوبه منه فأضاف الأفعال إليه لا إلى العبد حتى لا ينسب نقص للعبد

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه يحكم حبه فيه على قدر عقله‏

لأن عقله قيده فعقله قيده وما خاطب تعالى إلا العقلاء وهم الذين تقيدوا بصفاتهم وميزوها عن صفات خالقهم فلما وقع التباين حصل التقييد فكان العقل ولهذا أدلة العقول تميز بين الحق والعبد والخالق والمخلوق فمن وقف مع عقله في حال حبه لم يتمكن أن يقبل من سلطان الحب إلا ما يقتضيه دليله النظري ومن وقف مع قبول عقله لا مع نظر عقله فقبل من الحق ما وصف به نفسه تحكم فيه سلطان الحب بحسب ما قبله عقله من ذلك فالعقل بين النظر والقبول فحكم الحب في العقل الناظر والقابل ليس على السواء فافهم فإن هنا أسرارا المحب الله نسبة العقل إلينا نسبة العلم إليه فلا يكون إلا ما سبق به علمه كما لا يكون منا إلا قدر ما اقتضاه عقلنا فحكم حبه في خلقه لا يجاوز علمه وحكم حبنا فيه لا يجاوز عقلنا نظرا أو قبولا فافهم‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه مثل الدابة جرحه جبار

(حكي) أن خطافا راود خطافة كان يحبها في قبة لسليمان عليه السلام وكان سليمان عليه السلام في القبة فسمعه وهو يقول لها لقد بلغ مني حبك أن لو قلت لي أهدم هذه القبة على سليمان لفعلت فاستدعاه سليمان عليه السلام وقال له ما هذا الذي سمعته منك فقال يا سليمان لا تعجل على إن للمحب لسانا لا يتكلم به إلا المجنون وأنا أحب هذه الأنثى فقلت ما سمعت والعشاق ما عليهم من سبيل فإنهم يتكلمون بلسان المحبة لا بلسان العلم والعقل فضحك سليمان ورحمه ولم يعاقبه‏

فهذا جرح قد جعله جبارا وأهدره ولم يؤاخذه به كذلك المحب لله كل ما أعطاه إدلال الحب وصدق المودة من الخلل في ظاهر الأمر لا يؤاخذ به المحب فإن ذلك حكم الحب والحب مزيل للعقل وما يؤاخذ الله إلا العقلاء

لا المحبين فإنهم في أسره وتحت حكم سلطان أحب المحب الله جرحه جبار وهو الصادق وتوعد على الخطيئة بما توعد به ثم عفا ولم يؤاخذ من غير توبة من العاصي بل امتنانا منه وفضلا فأهدر ما كان له أن يأخذ به كان ما اجترحه المسي‏ء جبارا وما توعده به الحق من وقوع الانتقام به جبار لأنه عفا عنه من غير سبب البهيمة لا تقصد ضرر العباد ولا تعقل فجرحها جبار المحب محكوم عليه فغيره هو القاتل فجرحه جبار فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه لا يقبل حبه الزيادة بإحسان المحبوب ولا النقص بجفائه‏

هذا الحكم لا يكون إلا في محب أحبه لذاته عن تجل تجلى له فيه من اسمه الجميل فلا يزيد بالبر ولا ينقص بالإعراض بخلاف حب الإحسان والنعم فإنه يقبل الزيادة والنقص وهو الحب المعلول قالت المحبة لو قطعتني إربا إربا لم أزدد فيك إلا حبا يعني أنه لا ينقص حبنا لذلك وهو قول المرأة المحبة يقال إن هذا قول رابعة العدوية المشهورة التي أربت على الرجال حالا ومقاما وقد فصلت وقسمت رضي الله عنها وهو أعجب الطرق في الترجمة عن الحب‏

أحبك حبين حب الهوى *** وحبا لأنك أهل لذاك‏

فأما الذي هو حب الهوى *** فشغلي بذكرك عمن سواك‏

وأما الذي أنت أهل له *** فكشفك للحجب حتى أراك‏

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا وذاك‏

(و قالت الأخرى جارية عتاب الكاتب)

يا حبيب القلوب من لي سواكا *** ارحم اليوم زائرا قد أتاكا

أنت سؤلي وبغيتي وسروري *** قد أبي القلب أن يحب سواكا

يا منايا وسيدي واعتمادي *** طال شوقي متى يكون لقاكا

ليس سؤلي من الجنان نعيما *** غير أني أريدها لأراكا

(و لنا في هذا النعت)

نعيمك أو عذابك لي سواء *** فحبك لا يحول ولا يزيد

فحبي في الذي تختار مني *** وحبك مثل خلقك لي جديد

هذا ميزان الاعتدال وهو الميزان الإلهي لا تؤثر فيه العوارض ولا يتأثر بالأحوال المحب الله لا ينتفع بالطاعة ولا يتضرر بالمخالفة من أحبه من عباده لم تضره الذنوب ولا قدحت في منزله بل بشره فقال عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فقدم العفو على السؤال عندنا وعلى العتاب عند غيرنا لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ فقدم المغفرة على الذنب وليس يذنب عنده وإنما ذكره لتعرف العناية الإلهية بإحبابه لا ذنب لمحبوب ولا حسنة لمحب عند نفسه ومع هذا كله فإنه مقام خفي غير جلي سريع التفلت في المحب يتصور فيه المطالبة مع الأنفاس مدعية حافظ لميزانه إن أخل به قامت الحجة عليه من الجانبين فلا يحفظه إلا ذو معرفة تامة وذو حب صادق قوي السلطان ثابت الحكم‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه غير مطلوب بالآداب‏

إنما يطلب بالأدب من كان له عقل وصاحب الحب ولهان مدله العقل لا تدبير له فهو غير مؤاخذ في كل ما يصدر عنه إذا كان المحب الله فهو الكبير المالك مشرع الآداب في العقلاء مؤدب أوليائه كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله أدبني فأحسن أدبي‏

والسيد لا يقال يتأدب مع غلامه وإنما يقال السيد يعطي ما يستحقه العبد المحبوب عنده المكرم لديه منة منه وفضلا فالسيد غير مطالب بالأدب مع عبده وإن كان محبوبا له‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه ناس حظه وحظ محبوبه استفرغه الحب فأنساه المحبوب وأنساه نفسه‏

وهذا هو حب الحب والحقيقة الإلهية التي صدرت منها هذه الحقيقة لا تنقال نعم تنقال إلا أنها من الأسرار التي لا تذاع فمن كشفها عرفها ولا يجوز له أن يعرف بها وآيتها من كتاب الله نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ ومن نسي صورته نسي نفسه‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه مخلوع النعوت‏

المحب لا نعت له يقيد به ولا صفة فإنه بحيث يريد محبوبه أن يقيمه فيه فنعته ما يراد به‏

وما يراد به لا يعرفه فهو مخلوع النعوت المحب الله هو كامل لذاته لا يكمل بالزائد فلا نعت له ولا صفة لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ف سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه مجهول الأسماء

قال الشاعر

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي‏

فهذا مثل قولهم فيه إنه مخلوع النعوت فالعبودية له ذاتية فما له اسم معين سوى ما يسميه به محبوبه فبأي اسم سماه ودعاه به أجابه ولباه فإذا قيل للمحب ما اسمك يقول سل المحبوب فما سماني به فهو اسمي لا اسم لي أنا المجهول الذي لا يعرف والنكرة التي لا تتعرف المحب الله لا اسم له يدل على ذاته وإنما المألوه الذي هو محبوبه نظر إلى ما له فيه من أثر فسماه بآثاره فقبل الحق ما سماه به فقال المألوه يا الله قال الله له لبيك قال المربوب يا رب قال له الرب لبيك قال المخلوق له يا خالق قال الخالق لبيك قال المرزوق يا رزاق قال الرزاق لبيك قال الضعيف يا قوي قال القوي أجبتك فأحوالنا تدعوه دعاء تحقيق فيتخذها أسماء ولهذا تختلف ألفاظها وتركيب حروفها بحسب اللسان والمعنى الموجب للاسم معقول عند المخلوقين فيقول العربي يا الله للذي يقول له الفارسي أي خداي ويقول له الرومي أيشا ويقول له الأرمني أي اصفاج ويناديه التركي أي تنكري ويناديه الإفرنجي أي كريطور ويقول له الحبشي واق فهذه ألفاظ مختلفة لمعنى واحد مقصود من كل مخلوق فلهذا قلنا إنه مجهول الأسماء إذ الأسماء دلائل فالمحبوب بأي اسم دعا محبه أجابه‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه كأنه سأل وليس يسأل‏

وهذا النعت يسمى البهت والسبات ولا يكون له هذا إلا في حال الاستغراق فيما عنده من حب محبوبه حتى إن محبوبه ربما يكون بإزائه ولا يعرفه به ويناديه ولا يعرف صوته مع نظره إليه فهو كالسالي في حاله وهو في غاية الهيمان فيه المحب الله يقول فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ويطالبهم بأنفاسهم أن يكون تنفسهم بذكره وإنه سَمِيعُ الدُّعاءِ

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه لا يفرق بين الوصل والهجر لشغله بما عنده من محبوبه‏

فهو مشهوده دائما أو يكون كما قال القائل‏

فالليل إن وصلت كالليل إن هجرت *** أشكو من الطول ما أشكو من القصر

فهو في الحالتين صاحب شكوى فما تغير عليه الحال في عذاب دائم وأما نحن فعلى المذهب الأول ما لنا شغل إلا به فهو مشهودنا لا نعرف غيره ولا نشهد سواه ولنا في ذلك‏

شغلي بها وصلت ليلا وإن هجرت *** فما أبالي أطال الليل أم قصرا

المحب الله الكلمة الإلهية واحدة قال تعالى وما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ لا تفريق عنده فبعده عين قربه وقربه عين بعده فهو البعيد القريب ما عنده وصل بنا فيقبل الفصل ولا هجر فيقبل الوصل‏

فعين الوصل عين الهجر فيه *** وما يدريه إلا من رآه‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه متيم في إدلال المتيم الذي تعبده الحب‏

وأذله مع إدلال يجده عنده ولا يعرف سببه سوى ما تعطي الحقائق من أن المحب يعطي المحبوب سيادته عليه فكأنه ولاة ومن حالته هذه فلا بد أن تشم منه رائحة إدلال في إذلال وخضوع وهذا يعطيه مقام الحب المحب الله‏

عبدي جعت فلم تطعمني ظمئت فلم تسقني مرضت فلم تعدني من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا

فضاعف التقريب من ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ فتضاعف الأجر إدلال والسؤال سؤال‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه ذو تشويش‏

وسبب ذلك جهله بما في نفس المحبوب فلا يدري بأي حالة يكون معه أما إذا كان الحق محبوبه فإنه قد عرف ذلك بما شرع له فلا يبقى عليه تشويش في قلبه إلا فيما منحه من الأسرار وما حاباه به من اللطائف وهو يحب أن يحببه إلى خلقه حتى تجتمع الهمم والقلوب كلها عليه ولا يتمكن له ذلك إلا بإذاعة أسراره لأن النفوس مجبولة على حب المنح والهبات والعطايا ثم إنه لا يعلم هل يرضى إذاعة تلك الأسرار به أم لا فهذا سبب تشويش قلوب المحبين لله المحب الله نفذ الأمر الإلهي بأن يؤمن من سبق علمه فيه إنه لا يؤمن وقوله وعلمه واحد فمن أي حقيقة قال آمرا من علم أنه لا يمتثل أمره فقد عرضه للمعصية وهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فمن هنا صدر التشويش في العالم واختلاف الأغراض والمنازعات‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه خارج عن الوزن التصرفات على الوزن المعتبر في الحكمة

يطلب الفكر الصحيح والمحب لا فكرة له في تدبير الكون وإنما همه وشغله بذكر محبوبه قد أفرط فيه الخيال فلا يعرف المقادير فإن كان محبوبه الله لما وسعه قلبه فذلك الخارج عن الوزن فلا يزنه شي‏ء أ لا ترى إلى التلفظ بذكره وهي لفظة لا إله إلا الله لا تدخل الميزان ولما دخلت بطاقتها من حيث ما هي مكتوبة في الميزان لصاحب السجلات طاشت السجلات وما وزنها شي‏ء ولو وضعت أصناف العالم ما وزنتها وهي لفظة من قائل لم يتصف بالمحبة فما ظنك بقول محب فما ظنك بحاله فما ظنك بقلبه الذي هو أوسع من

رحمة الله وسعته إنما كانت من رحمة الله فهذا من أعجب ما ظهر في الوجود إن اتساع القلب من رحمة الله وهو أوسع من رحمة الله يقول أبو يزيد لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها فكيف حال المحب المحب الله تعالى عن الموازنة محبوب الحق عند الحق لأن المحب لا يفارق محبوبه وما عند الله باق فالمحبوب باق وما يبقى ما يوازنه ما يفنى‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بكونه يقول عن نفسه إنه عين محبوبه لاستهلاكه فيه‏

فلا يراه غير إله قال قائلهم في ذلك‏

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

وهذه حالة أبي يزيد المحب الله أحب بعض عباده فكان سمعه وبصره ولسانه وجميع قواه‏

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه مصطلم مجهود لا يقول لمحبوبه لم فعلت كذا لم قلت كذا

قال أنس بن مالك رضي الله عنه خدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عشر سنين فما قال لي لشي‏ء فعلته لم فعلته ولا لشي‏ء لم أفعله لم لم تفعله لأنه كان يرى تصريف محبوبه فيه وتصريف المحبوب في المحب لا يعلل بل يسلم لا بل يستلذ لأن المحب مصطلم بنار تحرق كل شي‏ء تجده في قلبه ما سوى محبوبه غيرة فهو يبذل المجهود ولا يرى أنه وفي ولا يخطر له أنه تحرك فيما يرضي محبوبه المحب الله في هذا الموطن لا تتحرك ذرة إلا بإذنه فكيف يقول لم وما فعل إلا هو يقول الحق لمحبوبه أنا يدك اللازم له لكل محبوب تجل لا يكون لغيره فما يجتمع عنده اثنان ولا يصح فهذا الاصطلام ونعته بالمجهود ما نسب إليه من التردد

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه مهتوك الستر سره علانية فضيحة الدهر لا يعلم الكتمان‏

قال المحب الصادق‏

من كان يزعم أن سيكتم حبه *** حتى يشكك فيه فهو كذوب‏

الحب أغلب للفؤاد بقهره *** من أن يرى للستر فيه نصيب‏

وإذا بدا سر اللبيب فإنه *** لم يبد إلا والفتى مغلوب‏

إني لأحسد ذا هوى متحفظا *** لم تتهمه أعين وقلوب‏

الحب غلاب لا يبقي سترا إلا هتكه ولا سرا إلا أعلنه زفراته متصاعدة وعبراته متتابعة تشهد عليه جوارحه بما تحمله من الأسقام والسهر وتنم به أحواله إن تكلم تكلم بما لا يعقل ما له صبر ولا جلد همومه مترادفة وغمومه متضاعفة المحب الله‏

إذا أحب الله العبد أوحى إلى الملك أن ينادي به في السموات إن الله أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض فتقبله البواطن وإن أنكرته الظواهر من بعض الناس‏

فلأغراض قامت بهم فإنهم في هذا الشأن مثل سجودهم لله كل من في العالم ساجد لله وكَثِيرٌ من النَّاسِ ما قال كلهم وهكذا حب هذا العبد في قلوبهم وإن وضع له القبول في الأرض فتحبه بقاع الأرض كلها وجميع ما فيها وكثير من الناس على أصلهم في السجود لله سواء

(منصة ومجلى) نعت المحب بأنه لا يعلم أنه محب كثير الشوق لا يدري لمن عظيم الوجد

لا يدري فيمن لا يتميز له محبوبه القرب المفرط حجاب فيجد آثار الحب وقد لبسته صورة محبوبه مما يحكم في خياله فيطلبه من خارج فلا يجد ما عانق من صورته في نفسه لكثافة الظاهر عن لطف الباطن المحب مع المعنى الذي يأخذه من المحبوب ويرفعه في نفسه وذلك المعنى المرفوع عند المحب منه هو الذي يقلقه ويزعجه فهو فيه ولا يدرى أنه هو فيه فلا يطلبه إلا به اللطيف يغيب عن الحواس يقول ولا يعقل ما يقول ولا بقوله قلبي عند محبوبي‏

ضاع قلبي أين أطلبه *** ما أرى جسمي له وطنا

ولا بقوله محبوبي في قلبي لا أدري في أي الحالتين هو أصدق بجمع بين الضدين هو عندي ما هو عندي المحب الله‏

تجلى الله لآدم ويداه مقبوضتان فقال يا آدم اختر أيتهما شئت قال اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة فبسطها فإذا فيها



Bazı içeriklerin Arapçadan Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!