الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى وصية حكمية ينتفع بها المريد السالك والواصل ومن وقف عليها إن شاء الله تعالى |
الصفحة 457 - من الجزء الرابع (عرض الصورة)الايمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق وهو ما ذكرناه وأرفعها قول لا إله إلا الله فالمؤمن الموفق يبحث عن شعب الايمان فيأتيها كلها وبحثه عن ذلك من جملة شعب الايمان فذلك هو المؤمن الذي حاز الصفة وملأ يديه من الخير وما شكرك الله بسبب أمر أتيته مما شرع لك الإتيان به إلا لتزيد في أعمال البر كما أنك إذا شكرته على ما أنعم به عليك زادك من نعمه لقوله لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ووصف نفسه بأنه يشكر عباده فهو الشكور فزاده كما زادك لشكرك ومع هذا فاعتقد إن كل شيء عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ وكل شيء في الدنيا يجري إلى أجل مسمى عند الله فما ثم شيء في العالم إلا وهو لله فإن أخذه منك فما أخذه إلا إليه وإن أعطاك فما أعطاك إلا منه فالأمر كله منه وإليه وكفى بك إذا علمت إن الأمر على ما أعلمتك أن تكون مع الله تشهده في جميع أحوالك من أخذ وعطاء فإنك لن تخلو في نفسك من أخذ وعطاء في كل نفس أول ذلك أنفاسك التي بها حياتك فيأخذ منك نفسك الخارج بما خرج من ذكر بقلب أو لسان فإن كان خيرا ضاعف لك أجره وإن كان غير ذلك فمن كرمه وعفوه يغفر لك ذلك ويعطيك نفسك الداخل بما شاءه وهو وارد وقتك فإن ورد بخير فهو نعمة من الله فقابلها بالشكر وإن كان غير ذلك مما لا يرضى الله فاسأله المغفرة والتجاوز والتوبة فإنه ما قضى بالذنوب على عباده إلا ليستغفروه فيغفر لهم ويتوبوا إليه فيتوب عليهم وورد في الحديث لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ويتوبون فيغفر الله لهم ويتوب عليهم حتى لا يتعطل حكم من الأحكام الإلهية في الدنيا ورد في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فإذا انتهى أجله انقضى وجاء غيره وإنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم هذا معرفا إيانا بما هو الأمر عليه لنسلم الأمر إليه فنرزق درجة التسليم والتفويض مع بذل المجهود فيما يحب منا أن نرجع إليه فيه بحسب الحال إن كان في المخالفة فبالتوبة والاستغفار وفي الموافقة بالشكر وطلب الإقامة على طاعة الله وطاعة رسوله ونجد عزاء في نفوسنا بمعرفتنا إن كل شيء عند الله في الدنيا يجري إلى أجل مسمى وللصابرين حمد يخصهم وهو الحمد لله على كل حال وللشاكرين حمد يخصهم وهو الحمد لله المنعم المفضل كذا كان يحمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ربه عز وجل في حالة السراء والضراء والتأسي برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في ذلك أولى من أن تسنبط حمدا آخر فإنه لا أعلى مما وضعه العالم المكمل الذي شهد الله له بالعلم به وأكرمه برسالته واختصاصه وأمرنا بالاقتداء به واتباعه فلا تحدث أمرا ما استطعت فإنك إذا سننت سنة لم يجيء مثلها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وهي حسنة فإن لك أجرها وأجر من عمل بها وإذا تركت تسنينها اتباعا لكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لم يسنها فإن أجرك في اتباعك ذلك أعني ترك التسنين أعظم من أجرك من حيث ما سننت بكثير فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان يكره كثرة التكليف على أمته وكان يكره لهم أن يسألوا في أشياء مخافة أن ينزل عليهم في ذلك ما لا يطيقونه إلا بمشقة ومن سن فقد كلف وكان النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أولى بذلك ولكن تركه تخفيفا فلهذا قلنا الاتباع في الترك أعظم أجرا من التسنين فاجعل بالك لما ذكرته لك ولقد بلغني عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه ما أكل البطيخ فقيل له في ذلك فقال ما بلغني كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يأكله فلما لم تبلغ إليه الكيفية في ذلك تركه وبمثل هذا تقدم علماء هذه الأمة على سائر علماء الأمم هكذا هكذا وإلا فلا لا فهذا الإمام علم وتحقق معنى قوله تعالى عن نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وقوله لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ والاشتغال بما سن من فعل وقول وحال أكثر من أن نحيط به فكيف أن نتفرغ لتسن فلا نكلف الأمة أكثر مما ورد (وصية) عليك بأداء الأوجب من حق الله وهو أن لا تشرك به شيئا من الشرك الخفي الذي هو الاعتماد على الأسباب الموضوعة والركون إليها بالقلب والطمأنينة بها وهي سكون القلب إليها وعندها فإن ذلك من أعظم رزية دينية في المؤمن وهو قوله والله أعلم من باب الإشارة وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ يعني والله أعلم به هذا الشرك الخفي الذي يكون معه الايمان بوجود الله |
|
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |