الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة منازلة إلىِّ كونك وإِلُّك كونى |
التعليم كما قال الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ فالتعليم هو عين الفتح ومن هذا الباب فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله كالصلاة على الراحلة فالمستقبل لا يتقيد فهو بحسب ما تمشي به كذلك لا يعرف العارف أين يسلك به ربه في مناجاته فإنه بحسب ما يناجيه به من كلامه وكلامه سور القرآن فأي سورة أو أي آية شاء قرأ من غير تعيين لأن الشارع ما قيده بسورة بعينها فهو بحسب ما يلقى في خاطره وذلك إلى الله فكما لا علم له بما يلقيه في نفسه مما يناجيه به إلا حتى يلقيه كذلك لا يعلم ما يقول له الحق في مناجاته في منازلته ومن هذا الباب قوله فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وأيام الله التي بقطعها العبد بعمرة لا يعين قدرها ولهذا نكرها فالذي يجب على المكلف في سفره عدة من أيام أخر له الاختيار في تعيينها ولكن لا يدري ما يعين منها إلا بإلقاء الله في نفسه ذلك والصوم لا مثل له فلا يدري في أي صفة يقيمه مما لا مثل لها من جانب الحق وهي كل صفة إلهية لا يمكن للعبد الاتصاف بها وإن علمها كما يعلم أن الحق لا يماثله ولا يكون بهذا العلم إلها لأن الألوهة ليست صفته وهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حين سأل ربه اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم غيبك فدخل في هذا كل اسم ممكن أن يتصف به وكل اسم لا يمكن أن يتصف به فما لا يتصف به من الأسماء لا مثل له فيكون معلوما لنا في صومنا غير قائم بنا بحيث أن نتصف به هذا فائدة عدم التعيين في الأيام التي نصومها إذا كنا مسافرين فأفطرنا فنقضي أيام رمضان أو نؤديه في أيام غير معينة فصاحب هذه المنازلة يقصد الله تعالى في عروجه فارغ القلب خالي النفس عريا عن قصد اسم معين إلهي بما أنت عبد وبما هو إله فعال لما يشاء لا يخطر لك أمر تطلبه منه إنما هو أن تكون معه في عروجك بحسب ما يكون منه مع حفظ أوقاتك فيما وقع عليك من التكليف لاقتضاء حق الوقت ومراعاة خطاب الشرع مع غيبتك عنك في ذلك بتوليه فيما أنت فيه وأنت محل لجريان مقاديره مع التحفظ ولزوم الأدب أن يجعلك محلا لما حجره عليك فإن أنت سلكت على هذا الأسلوب يبدو لك من الحق في منازلته ما لم يخطر لك بخاطر بل ما لا ينقال ولا تسعه العبارة «الباب التاسع والثمانون وثلاثمائة في معرفة منازلة إلى كونك وأ لك كوني»إلي منك الدنو وقتا *** وثم وقتا إليك مني أخذت عنك العلوم فضلا *** وأنت أيضا أخذت عني إنيتي فيك يا حبيبي *** إذا يقول اللسان إني ما أصعب القول منك عندي *** إذ يقول الفؤاد صلني ولم أغب عنه إذ تجلى *** ولو دري لاشتهى التمني [مقام قاب قوسين]قال الله تعالى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فهذه عين المنازلة لأن كل صورة منهما فارقت مكانها فكانت كل صورة من الأخرى أدنى من قاب قوسين لكل واحدة من الصورتين قوس أظهر التقويس والفرقان بين الصورتين الخط الذي قسم الدائرة بنصفين فكان الأمر عينا واحدة ثم ظهر بالصورة أمران فلما صار الحكم أمرين كان من الأمر الواحد تدليا لأن العلو كان له وفي عين هذا التدلي دنو من الأمر الآخر وكان من الآخر تدان إلى من تدلى إليه فكان دنوه عروجا لأن تدلى الأمر الآخر إليه أعلمنا أن السفل كان قسم هذا الآخر وما تدانى كل واحد من الآخر إلا ليرجع الأمر كما كان دائرة واحدة لا فصل بين قطريها فكلاهما يسعيان في إزالة الخط الذي أوجب التقسيم في الدائرة فموضع التقسيم قوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل وما للعبد سؤال إلا إزالة هذه القسمة حتى يعود الأمر كما كان فأجابه الحق إلى سؤاله بقوله ولعبدي ما سأل فقال وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فتدليه دنو *** وتدانينا عروج وافترقنا واجتمعنا *** إننا زوج بهيج حدثت حين افترقنا *** في سمائها بروج ولها من أجل كوني *** في ذواتنا فروج فنكاح مستمر *** وولوج وخروج «و من ذلك»فكان منه التدلي *** وكان مني التداني حتى أراه بعيني *** كما يقول يراني ولما التقينا عن حب واشتياق خاطبني من أعلم في سرى اجعل يديك على الكبد *** تجد الذي منكم أجد وأبرح إلى طلب الوصال *** وقل له هبني وزد لو لا وجود العلم فيه *** ما تذكر من عبد فإن أنكروا هذا فقل *** إن القرآن بذا ورد قال الله عز وجل هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ فخص طائفة بالتعيين ولِيُنْذَرُوا به فعين طائفة أخرى ولِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فعين طائفة أخرى ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ فعيننا وهؤلاء هم الذين ذكرناه وهم العلماء بالله وبالأمر على ما هو عليه فلم يكن الخط الذي قسم الدائرة إلا عين تميزي عنه وتميزه عني من الوجه الذي كان به إلها وكنت به عبدا فلما تحقق التمييز ووقع الانفصال بالتكوين وأظهر الخط حكمه ووصفنا بالحجاب عنه ووصف نفسه بحجب الأنوار والظلم عنا وشرع لنا ما شرع وأمرنا بالإنابة إليه ووصف نفسه بالنزول إلينا علمنا أنه يريد رجوع الأمر إلى ما كان عليه بعد علمنا بما قد علمنا وتحققنا بما به تحققنا قال عن نفسه إنه سمعنا الذي نسمع به وبصرنا الذي نبصر به وذكر لنا جميع القوي التي نجدها من نفوسنا وأثبت في هذا الوصل أعياننا فلا يشبه ما رجع الأمر إليه ما كان عليه قبل الفصل لأن الذي أثبته الخط من الحكم ما يزول وإن زال الخط فأثره باق لأنا قد علمنا إن الدائرة قابلة للقسمة بلا شك ولم نكن نعلم ذلك قبل فإذا اتصلت الدائرة فلا يزول العلم منا أنها ذات قسمين من أي جزء فرضته فيها وإنما تقبلها من أي حد فرضته فيها لما ورد في الأخبار الإلهية من اتصاف الحق تعالى بصفات الخلق واتصاف الخلق بصفات الحق كما قال تعالى قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فإن قلت الرحمن سميته بجميع الأسماء الحسنى وإن قلت الله سميته بجميع الأسماء الحسنى وكذلك تقول الخلق الذي هو العالم يقبل أسماء الحق وصفاته وكذلك الحق يقبل صفات الخلق لا أسماءه بالتفصيل ولكن يقبلها بالإجمال فقبوله بالإجمال مثل قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وكونه لا يقبل أسماء العالم بالتفصيل فأعني بذلك الأسماء الإعلام وهو قوله قُلْ سَمُّوهُمْ يريد الأسماء الأعلام وما عدا الأسماء الأعلام فيقبلها الحق على التفصيل فإن الحق ما له اسم علم لا يدل على معنى سوى ذاته فكل أسمائه مشتقة تنزلت له منزلة الأعلام ولهذا وقع الاشتراك بالتفصيل في أسماء الحق ولم يقع الاشتراك بالتفصيل في أسماء العالم فتحقق ما نبهنا عليه فأعظم ما أخذه من صفاتنا الذي يدل الدليل على إحالته ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ فما كان بعد هذا فهو أهون من تحوله في الصور وغير ذلك وعلى الحقيقة فكلها نعوته وأعظم من أخذنا نحن منه علمنا به الذي يحيله الدليل وهو قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من عرف نفسه عرف ربه فأخذنا عنه وأخذ عنا فيا حيرة أبدت حقائق كونه *** ويا خيبة للعبد حين تفوته فمن كان أحياه يحير ذاته *** ومن لم يحر فيه فعنه يميته إذا كان قوت الخلق كونا محققا *** فإله الحق للعبد قوته قيل لسهل بن عبد الله ما القوت قال الله [الإل بكسر الهمزة هو الله تعالى]واعلم أن الإل بكسر الهمزة هو الله تعالى والإل أيضا العهد بكسر الهمزة فقوله إلى كونك أي الوهتي ما ظهرت إلا بك فإن المألوه هو الذي جعل في نفسه وجود الإله ولهذا قال من عرف نفسه عرف ربه فمعرفتك بالله أنه أهلك أنتجته معرفتك بذاتك ولذلك ما أحالك الله في العلم به إلا عليك وعلى العالم فكل ما ثبت لله تعالى من الأحكام ما ثبت إلا بالعالم فعين الإل من حيث عينه هو الموصوف بهذه الأحكام فلو ارتفع العالم من الذهن ارتفعت الأحكام الإلهية كلها وبقي العين بلا حكم وإذا بقي بلا حكم وإن كان واجب الوجود لذاته لم يلزم أن يكون له حكم الألوهة فوجود أعياننا من وجوده ووجودنا أثبت العلم به في ذواتنا ولو لا إن ذاته أعطت وجودنا ما صح لنا وجود عين وهذا معنى قول العلماء إن العالم استفاد الوجود من الله وأما قوله أ لك كوني فهو عين قوله كنت سمعه وبصره فجعل هويته عين مسمى سمعنا وقوانا وليس العالم إلا بهذا الحكم فإن فنيت لم أكن *** وإن بقيت لم أكن فكلنا لكنا *** وكلنا من قول كن منا ومنه فاعتبر *** تجده فيك يستكن فاستره لا تظهره *** كما أتى في لم يكن فيها بدت مشرقة *** شمس له ما قد سكن فما لنا سواه من *** مستند ومن سكن فالحق مصرف العالم والعالم مصرف الحق أ لا تراه يقول أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أ ليست الإجابة تصريفا هل يتصور إجابة من غير نداء وسؤال لا يصح أن يتصرف في نفسه فما له تصرف إلا فينا فتصرفه إيجاده إيانا دائما فأعيان تظهر وأحكام له تحدث وتعلقات لا تنكر فإن قلت أنا واحد كنت صادقا *** وإن قلت لسنا واحدا لم تكذب فيا ليت شعري من يجهل وما ثم إلا الله فالكل عالم بما لا يعلمه ثم يعلمه ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وقد ظهر بعض رشح من هذا المشهد على طائفة من أصحاب النظر لا يعرف من أين جاءهم ذلك فحكى عنهم أنهم يقولون إن الله لا يعلم نفسه لأن العلم بالشيء يقتضي الإحاطة بالمعلوم وهو لا يتناهى وجوده ووجوده عين ماهيته ليس غيرها وما لا يتناهى لا يكون محاطا به إلا أنه لا يتناهى وأحاط علما به أنه لا يتناهى لا له ولا للعالم وهذا وإن كان قولا فاسدا فإن له وجها إلى الصحة وذلك أنه لا يعلم نفسه على جهة الإحاطة بل يعلم نفسه أنها لا تقبل الإحاطة كما يعلم الممكنات وجميع المقدورات أنها لا تتناهى فانظر في هذا الرش من هذا البحر الغمر كيف أثر في العالم نحلة ظهرت في العين وبدت إلى عالم الكون حتى سطرت في الدفاتر وسارت بها الركبان وتسامر بها العلماء وما ثم قائل إلا الله ولا منطق إلا الله وما بقي إلا فتح عين الفهم لتنطق الله من حيث إنه لا ينطق إلا بالصواب فكل كلام في العالم فهو إما من الحكمة أو من فصل الخطاب فالكلام كله معصوم من الخطاء والزلل إلا أن للكلام مواطن ومحال وميادين له فيها مجال رب تتسع ميادينه بحيث أن تنبو عن إدراك غايتها عيون البصائر فينطق حين ينطق بالصواب *** على ما يقتضي فصل الخطاب وترجع حسرا أبصار قوم *** عموا فيها عن الأمر العجاب فإذا أردت السبيل إلى فهم هذه المعاني فتعمل في تكثير النوافل التي لها أصل في الفرائض وإن تمكن لك أن تكثر من نوافل النكاح فإنه أعظم فوائد نوافل الخيرات لما فيه من الازدواج والإنتاج فتجمع بين المعقول والمحسوس فلا يفوتك شيء من العالم الصادر عن الاسم الظاهر والباطن فيكون اشتغالك بمثل هذه النافلة أتم وأقرب لتحصيل ما ترومه من ذلك فإذا فعلت هذا أحبك الحق وإذا أحبك غار عليك أن تشهدك عين أو يقيدك كون فأدخلك في حمى حرمه وجعلك من جملة أحبابه وأهلك له فصرت له أهلا كما قال في الحديث في أهل القرآن إنهم أهل الله وخاصته خرج ذلك الترمذي في منصفه وإذا أتخذك أهلا جعلك محلا لإلقائه وعرشا لاستوائه وسماء لنزوله وكرسيا لقدميه فظهر لك فيك منه ما لم تره مع كونه فيك وهو قوله تعالى فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ من قُرَّةِ أَعْيُنٍ لأن جنوبهم تجافت عن المضاجع الطبيعية وصاروا أهلا للموارد الإلهية والشوارد الربانية فمياههم عذبة صافية وعروشهم عن كل ما سوى ما يلقي الله إليهم خاوية آبارهم معطلة وأبوابهم مقفلة وقصورهم مشيدة ضاعت مفاتح أقفالها وتقطعت حبال آبارها فتنظر إلى مياهها ولا تذاق فتستحسن على جهالة فإذا سردت أخبارها قرآنا ظهر إعجازها فلم يستطع أحد معارضتها فيستحليها فإذا سئل عن معانيها لا يدري ما يقول إذ لا ذوق له فيها إلا ما أعطاه الشهود فغايته أن يقول إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ لاختلاط ضوئه بظلمته تشبيها بسحر الليل وبالسحر الذي يخرج الهواء الحار ويسوق الهواء البارد لتبقى بذلك الحياة على هيكل الحيوان فلا يدري الناظر فيه أي وجه يستقبل به فإنه مهما أقبل على وجه أعرض عن الآخر إلا أن يكون نبيا فيرى من خلفه كما يرى من أمامه فيكون وجها كله وذلك هو المعبر عنه بالذوق الذي يكون عنه حقيقة الاشتياق والشوق فما ينطق عن هوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى علمه ذو القوة المتين في صورة شديد القوي ف ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فإنه من عين القرب أخبر لأنه من دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ كما تقدم قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وما هو من مرجمات الظنون كما يقولون في أصحاب الكهف الفتية المعلومة ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ويَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ يقول ما هو علي تحقيق فيما يخبرون به من عددهم هذا رجم في العدد وأين أنت لو أخذوا في حقيقة المعدود لخاضوا وما حصلوا على طائل |