الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة منزل ثلاثة أسرار طلسمية حكمية تشير إلى معرفة منزل السبب وأداء حقه وهو من الحضرة المحمدية | |
|
الإيجاد والتقدير من المدة وفيه علم ترتيب الموجودات في الإيجاد بمرور الأزمان وعلى من مرت هل على الموجد أو على الموجودات فيعلم من تقيد بها وهل كان ذلك التقييد بها اختيارا أو شيئا لا بد منه وفيه علم ما إذا توجه الحق على إيجاد أمر ما هل في ذلك أعراض عن أمر آخر أم لا وفيه علم لما ذا يستند الفكر في حكمه وهل له سلطان إلهي يعضده حتى يتمسك بذلك أهل الأفكار أم لا وإن لم يشعروا بذلك أو ربما أحالوه لو بين لهم وهو في نفس الأمر صحيح وفيه علم نزول الأمر الإلهي ورجوعه إلى ما منه نزل وكم مدة ذلك من الزمان وفيه علم ارتباط السبب بالمسبب اسم فاعل بكسر الباء وهل يصح فعل ذلك من الله من غير هذا السبب المعين أو من غير سبب أم لا وفيه علم ارتباط العلم والرحمة والعزة مع ما بين الرحمة والعزة من التنافر وفيه علم الأعلى في الأنزل وما ثم علم الأنزل في الأعلى وفيه علم الأحسن في عالم الأمر والخلق وبما هو أحسن وما ثم قبيح ولا مفاضلة في الحسن وفيه علم منزلة هذه النشأة الإنسانية على غيرها من النشآت والعناية بها مع كونها خلقت لشقاء ولسعادة وكان الأمر يقتضي أن لا شقاء لما ظهر من العناية بها وفيه علم ما يتولد عن هذا الإنسان في العالم من الأمور وفيه علم المساكن وما قدم منها وما أخر وما يتبدل منها وما لا يتبدل وما يلحقه التغيير وما لا يلحقه التغيير وفيه علم ما يختلف فيه نشأة الإنسان في الدارين من حيث صورته الظاهرة وما لا يختلف من نشأته في صورة روحه أو لتلك النشأة الأخرى روح آخر يخلقه الله لها بحسب استعدادها وكيف هو الأمر في نفسه إذ قد وردت الإعادة فما حقيقتها وفيما ذا تكون وهو علم غريب وفيه علم كون الحق لا يلقاه العبد إلا بالموت وهل هو لقاء خاص أو ما ثم لقاء إلا بالموت وفيه علم الموت وبيد من هو وفيه علم اختلاف العالم لما ذا يرجع في صوره وتخيله وفيه علم التحديد الإلهي في الآخرة مع كونها دار كشف للحقائق عند الناس أو حكمها حكم الدنيا في بعض الأمور وفيه علم ما يردك إلى مشاهدة حقيقتك وأن في ذلك سعادتك وفيه علم حب الإنسان بالطبع في أن يكون قيوما مع ذله وافتقاره وما الذي يدعوه إلى ذلك ثم اختلافهم في القيام فمنهم من يقوم عبدا ومنهم من يقوم سيدا والذي يقوم سيدا منهم من يقوم سيدا بالحجاب ومنهم من يقوم سيدا بكشف صحيح وفيه علم ما لا يعلم إلا هناك وفيه علم أدنى الدني وأدنى الدنو وما حقيقة هذا وفيه علم اختلاف أسماء أهل الاستحقاق مع وجود الاستحقاق وفيه علم الأولوية وفيه علم الحكم الإلهي يوم القيامة بما ذا يحكم ويفصل وفيه علم الإستبصار وعلم ما ينفع من الخطاب وعلم الفتح الإلهي والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ انتهى السفر الثالث والعشرون ( (بسم الله الرحمن الرحيم)) «الباب الثالث والخمسون وثلاثمائة في معرفة منزل ثلاثة أسرار طلسمية حكمية تشير إلى معرفة منزل السبب وأداء حقه وهو من الحضرة المحمدية»قل للإمام أبي إن كنت تأنس بي *** فإن أنسي بربي لا بأشكالي أنسي بربي لا بالوالدين ولا *** بالأهل إن وجود المثل أمثالي مني هربت ومني استوحشت خلقي *** فكيف أنسي بالماضي وبالحال وكيف يؤنسني من لا يناسبني *** ولا يناسبه شيء من أحوالي والمثل ضد فكيف الأنس يا سكنى *** والعقل يمنعه فالحال كالحال لما جهلت الذي لا شيء يشبهه *** سواى أخطرته جهلا على بالي ما لي أقول بأن الحق يطلبني *** ولست أعرفه مالي به مالي الأنس يطلبنا بأن يقوم بنا *** وليس يأنس دون الدون بالعالي قد حرت فيه وإيحاشي يلازمني *** ولست أطرده إلا بآمالي لا ذاق أنسا حكيم ما بدت مثل *** لعينه من علوم أو من أعمالي [أن الله سلط على النفس الناطقة بهذه النشأة الدنيوية ثلاثة أشياء]اعلم أيدك الله بروح منه أن الله لما خلق النفس الناطقة المدبرة لهذا الهيكل المسمى إنسانا سلط عليه في هذا المزاج الخاص بهذه النشأة الدنيوية ثلاثة أشياء جعلها من لوازم نشأته النفس النباتية والنفس الشهوانية والنفس الغضبية فأما النفس النباتية والغضبية فيزولان في نشأة أهل السعادة في الجنان ولا يبقى في تلك النشأة إلا النفس الشهوانية فهي لازمة للنشأتين وبها تكون اللذة لأهل النعيم وأما النفس النباتية فهي التي تطلب الغذاء لتجبر به ما نقص منه فينمي به الجسم فلا ينفك يتغذى دائما فأما من خارج يجلب إليها وهو المعبر عنه بالأكل وإما من حيث شاء الله من غير تعيين ولها أربعة وزعة الجاذب والماسك والهاضم والدافع فأما الجاذب فحكمه أن ينقل الغذاء من مكان إلى مكان فينقله من الفم إلى المعدة ومن المعدة إلى الكبد ومن الكبد إلى القلب وإلى سائر العروق وأجزاء البدن فإنه المقسم على أجزاء البدن ما يحتاج إليه مما يكون به قواها ويساعده الدافع فإنه يدفع به عن مكانه إذا رآه قد استوفى حقه من ذلك المكان وما بقي له فيه شغل ودفع به حتى لا يزاحم غيره إذا ورد فهو يساعد الجاذب وأما الماسك فهو الذي يمسكه في كل مكان حتى بأخذ التدبير فيه حقه فإذا رأى أنه وفى حقه ترك يده عنه فتولاه الدافع والجاذب وأما الهاضم فهو الذي يغير صورة الغذاء ويكسوه صورة أخرى حتى يكون على غير الصورة التي كان عليها فإنه كان على صورة حسنة وذا رائحة طيبة فلما حصل بيده وغير صورة شكله وكساه صورة متغيرة لريح مبددة النظم ولهذا سمي هاضما من الاهتضام ولكن وجود الحكمة في هذا الاهتضام فإنه لو لا الهضم ما وجد المقصود الذي قصده الغاذي بالغذاء فظاهر الأمر فساد وباطنه صلاح ولا يزال هذا الهاضم بنقله من صورة إلى صورة والماسك يمسك عليه بقاءه حتى يدبر فيه ما يعطيه علمه وما وكل به فإذا استوفياه بحسب ذلك الموطن تركاه وأخذه الجاذب والدافع فإذا أنزلاه ونقلاه إلى المكان الآخر رداه إلى الماسك وإلى الهاضم فيفعلان فيه مثل ما فعلاه في المكان الذي قبله ويفتح فيه صورا مختلفة فيأخذه الجاذب والدافع فيسلكان بتلك الصور طرقا معينة لا يتعديانها ما دام يريد الله إبقاء هذه النشأة الطبيعية ولو لا هؤلاء الوزعة ما تمكنت النفس النباتية من مطلوبها فإذا أراد الله هلاك هذه النشأة الطبيعية طلبت النفس النباتية مساعدة الشهوة لها حتى تنبعث النفس المدبرة لجلب ما تشتهي فلم تفعل وأضعفها الله باستيلاء سلطان الحرارة على محلها فضعفت كما يضعف السراج في نور الشمس فيبقى لا حكم له فتبقى النفس النباتية بحقيقتها تقول لوزعتها لا بد لي من شيء أتغذى به فتتغذى بأخلاط البدن وما بقي فيه من الفضول ووزعتها قد ضعفوا أيضا مثلها فلا تزال النشأة في نقص متزايد والدافع يقوى والجاذب يضعف وكذلك الماسك إلى أن يموت الإنسان ولو لا هذا التدبير بهذه الآلات لهذه النشأة ما سمعت أذن ولا نظر بصر ولا كان حكم لشيء من هذه القوي الحسية والمعنوية وأما النفس الشهوانية فسلطانها في هذا الهيكل طلب ما يحسن عندها ولا تعرف هل يضرها ذلك أو ينفعها وهذا ليس إلا في نشأة الإنسان وأما سائر الحيوان فلا يتناول الغذاء إلا بالإرادة لا بالشهوة ليدفع عن نفسه ألم الجوع والحاجة فلا يقصد إلا لما له فيه المنفعة ويبقى حكم الشهوة في الحيوان في الاستكثار من الغذاء فمنه يدخل عليه الخلل والإنسان يدخل عليه الخلل كذلك من الاستكثار مما ينفع القليل منه ومن تناوله ما لا ينفعه أصلا مما يطلبه الشهوة ويتضرر به المزاج فهذا الفارق بين الإنسان والحيوان في تناول الغذاء فالنفس الشهوانية للنفس النباتية كما قيل في ذلك إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت *** له عن عدو في ثياب صديق فلها الصداقة مع النفس النباتية لأنها المساعدة لها على الغذاء وتناوله وهي العدوة حيث تدخل عليها من الأغذية ما يضرها ولا ينفعها فمساعدتها للنفس النباتية إنما هو بالعرض لا بالذات فهي العدو اللازم الذي لا يمكن مفارقته ولا يؤمن شره وأما النفس الغضبية وهي السبعية فهي التي تطلب القهر لما رأت من تفوقها على سائر الحيوان بما أعطيت من القوي والتمكن من التصرف وأبصرت العالم مسخرا لنشأتها ولمدبرها ورأت أن في الوجود عوارض تعرض اتفاقية أو لأسباب تظهر يمنعها ذلك كله من وصولها إلى أغراضها فتغضب لعدم حصول الغرض فإن كان لها سلطان قوي مساعد من همة فعالة أو آمرة من خارج لها بها إمضاء غضبها في المغضوب عليه أهلكته وأظهرت الانتقام منه ولا تعرف ميزان الظلم والعدل في ذلك الانتقام والقهر لأن ذلك ما هو لها وإنما ذلك للعقل وناموس الوقت ولذا أخطأ الشاعر الذي قال الظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم فلو قال القهر بدلا من الظلم لقال الصحيح فإن الظلم لا يأتي به إلا الشرعي فمنه يعرف فليس للنفس إلا القهر حمية جاهلية فإن صادفت الحق كانت حمية دينية ولهذا يحمد الغضب لله وفي الله ويذم الغضب لغير الله وفي غير الله وهذا من تدبير الحكيم الحق الذي رتب الأمور مراتبها وأعطى كل شيء خلقه ليكون آية له لأولي الألباب ولسائر أهل الآيات من العالم إذ كانوا مختلفي المأخذ في ذلك كما عددهم الله في كتابه العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ وضم هذه الآيات كلها في كتاب الوجود الذي ما فيه سوى البيان والرحمة لا غير فكل ما ظهر في العالم من جانب الحق أو من معاملة بعضه بعضا يناقض الرحمة فأمر عرضي في الكتاب أبان عنه البيان حيث هو ذلك العارض ما هو في نفس هذا الكتاب فالكتاب رحمة كله من حيث ذاته وبيان فما جعله الله عذابا فالله أكرم أن يعذب خلقه عذابا لا ينتهي الأمر فيه إلى أجل ضمه وعينه بيان الكتاب ثم يرجع الحكم للرحمة هذا ما لا بد منه والله غَفُورٌ رَحِيمٌ [اطلاع ابن العربي عن حكم غريب إلهي يتعلق بالعالم الإنساني]ثم لتعلم إن الله أطلعني على حكم غريب يتعلق بالعالم الإنساني ولا أدري هل له تعلق بما عدا الإنسان من العالم أم لا ما أطلعني الله على ذلك ولا ينبغي لي أن أقول عن الله ما لا أعلم الله يعصمني وإياكم من ذلك وهذا الحكم يظهر في العالم الإنساني عند انقضاء كل ثلاثة آلاف عام من أعوام الدنيا وهو عند الله يوم واحد لا أدري لأي اسم إلهي يرجع هذا اليوم لأني ما عرفت به غير إن الحق تعالى قسمه لي ثلاثة أثلاث كل ثلث ألف سنة والألف سنة يوم واحد من أيام الرب هذا الذي أخبرني به ربي وهذه المدة التي هي ثلاثة آلاف سنة حكمها في الإنسان حكم بدء وعود وحياة وموت كيف يشاء الله وحيث يشاء الله غير إن الله لما رقم لي هذا الأمر في درجي كلمات وقفت عليها مشاهدة جعل كلمة بفضة وكلمة بذهب على هذه الصورة رقمها فعلمت أنها أحوال وأحكام تظهر في الإنسان في الجنة بمرور هذه المدة المعينة وما أثروا لله عندي خبر إلهي ورد على ما أثر هذا من الجزع والخوف المقلق فما سكن روعي إلا كون الكلمات من ذهب وفضة الكلمة الذهبية إلى جانبها الكلمة الفضية ولما فرغ هذا الإلقاء الإلهي والتعريف الرباني وسكن عني ما كنت أجده من ألم هذا التجلي في هذه الصورة وسرى عني نظمت نظم إلهام لا نظم روية ما أذكره لنا حبيب نزيه لا أسميه *** وهو الحبيب الذي حار الورى فيه إن قلت هذا فإن الحد يحصره *** أو قلت هو فكلام لست أدريه كيف السبيل إلى غيب وأعيننا *** في كل حين تراه من تجليه أو قلت عندي جاء الظرف يطلبه *** والظرف حق ولكن ليس يحويه ما إن رأيت وجودا لست أدريه *** إلا الذي أنا معنى من معانيه قد حرت فيه وحار الكون في وكم *** أذناي قد سمعت من قولة فيه هذا الذي وجلال الحق أمرضه *** فهل له عوض منه فيشفيه هو الشفاء هو الداء فأين أنا *** العين واحدة وكلنا فيه ضمير أمرضه يعود على الكون [أن لنا من الله الإلهام لا الوحي]واعلم أن لنا من الله الإلهام لا الوحي فإن سبيل الوحي قد انقطع بموت رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وقد كان الوحي قبله ولم يجيء خبر إلهي أن بعده وحيا كما قال ولَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وإِلَى الَّذِينَ من قَبْلِكَ ولم يذكر وحيا بعده وإن لم يلزم هذا وقد جاء الخبر النبوي الصادق في عيسى عليه السلام وقد كان ممن أوحي إليه قبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه عليه السلام لا يؤمنا إلا منا أي بسنتنا فله الكشف إذا نزل والإلهام كما لهذه الأمة ولا يتخيل في الإلهام أنه ليس بخبر إلهي ما هو الأمر كذلك بل هو خبر إلهي وإخبار من الله للعبد على يد ملك مغيب عن هذا الملهم وقد يلهم من الوجه الخاص فالرسول والنبي يشهد الملك ويراه رؤية بصر عند ما يوحى إليه وغير الرسول يحس بأثره ولا يراه رؤية بصر فيلهمه الله به ما شاء أن يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط وهو أجل الإلقاء وأشرفه وهو الذي يجتمع فيه الرسول والولي أيضا فأصابع الرحمن للوجه الخاص ولمة الملك للوجه المشترك والإلهام إلهي أكثره لا واسطة فيه فمن عرفه عرف كيف يأخذه ومحله النفس قال تعالى فَأَلْهَمَها فالفاعل هويته فهو الملهم لا غيره فُجُورَها ليعلمه لا ليعمل به وتَقْواها ليعلمه ويعمل به فهو إلهام إعلام لا كما يظنه من لا علم له ولذلك قال وقَدْ خابَ من دَسَّاها والدس إلحاق خفي بازدحام فالحق العمل بالفجور بالعمل بالتقوى وما فرق في موضع التفريق فجمع بينهما في العلم والعمل والأمر ليس كذلك وسبب جهله بذلك أنه رمى ميزان الشرع من يده فلو لم يضع الميزان من يده لرأى أنه مأمور بالتقوى منهي عن الفجور مبين له الأمران معا ولما أضاف الله الفجور لها والتقوى علمنا أنه لا بد من وقوعهما في الوجود من هذه النفس الملهمة وكان الفجور لها ما انفجر لها عن تأويل تأولته فما أقدمت على المخالفة انتهاكا للحرمة الإلهية ولا يتمكن لها ذلك وكان هذا من رحمة الله بالأنفس ولما كان الفجر فجرين فجر كاذب وفجر صادق وهو الفجر المستطيل الكاذب ألهمها تقواها أي تتقي في فجورها الفجر المستطيل لأنه يستطيل عليها بالأولية لتاخر المستطير الذي يطير حكمه عنها فألهمها في فجورها الفجر المستطيل فتبين لها بهذا الانفجار ما هو المشكوك فيه من غير المشكوك وتقواها وما تتقي به ما يضرها حكمه فيها فلو لا ما مكنها مما تتقي به وهو المعنى الذي ألهمها لتتنبه النفس على استعماله فتفرق ما بين الشبهة والدليل ما تمكنت من الفرق بينهما فإن الله سبحانه كما لم يأمر بالفحشاء لم يلهم العبد العمل بالفحشاء كما يراه بعضهم ولو ألهمه العمل بالفحشاء لما قامت الحجة لله على العبد بل هذه الآية مثل قوله وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي الطريقين بيناهما له فقال إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له إِمَّا شاكِراً فيعمل في السبيل بمقتضاه إن كان نهيا انتهى وإن كان أمرا فعل وإِمَّا كَفُوراً يقول يستر على نفسه فيخادعون أنفسهم فإنه ما ضل أحد إلا على علم فإن بيان الحق ليس بعده بيان ولا فائدة للبيان إلا حصول العلم ثم يستره العالم به عن نفسه لغرض يقوم له فتقوم الحجة لله عليه فالإلهام إعلام إلهي فمن زكى نفسه بالتقوى فاتقى من الفجور ما ينبغي أن يتقى منه وأخذ منه ما ينبغي أن يؤخذ منه ومن دس نفسه في موضع قيل له لا تدخل منه فقد خاب فمن أراد طريق العلم والسعادة فلا يضع ميزان الشرع من يده نفسا واحدا فإن الله بيده الميزان لا يضعه يخفض القسط ويرفعه وهو ما هو الوجود عليه من الأحوال فلو وضع الحق الميزان من يده لفنى العالم دفعة واحدة عند هذا الوضع وكذلك ينبغي للمكلف بل للإنسان أن لا يضع الميزان المشروع من يده ما دام مكلفا لأنه إن وضعه من يده نفسا واحدا فنى الشرع كله كما فنى العالم لو وضع الحق الميزان من يده فإن كل حركة في المكلف ومن المكلف وسكون لميزان الشرع فيه حكم فلا يصح وضعه مع بقاء الشرع فهذا الميزان له من كونه مكلفا وأما الميزان الآخر الذي لا ينبغي أن يضعه الإنسان لا من كونه مكلفا بل هو بيده دنيا وآخرة فذلك هو ميزان العلم الذي ميزان الشرع حكم من أحكامه وهو مثل الميزان الذي بيد الحق فبه يشهد وزن الحق فنسبته إلى ميزان الحق نسبة شخص بيده ميزان وشخص آخر بيده مرآة فرأى في مرآته التي في يده صورة ذلك الميزان والوزان والوزن فعلم صورة الأمر من شهوده في وجوده وكان هذا الأمر من ورائه غيبا له لو لا المرآة ما شهده فأضاف ما رآه في مرآته إليه لكون مرآته ليس غيره فالغيب الذي يزن والوزن والميزان حضرة الحق والمرآة حضرة الإنسان فالوزن لله تعالى والشهود لمن كانت نفسه مرآة فهو السعيد الصادق وإنما كشف الله هذا السر لمن كشفه ليري في مرآته صورة الخلق الإلهي وكيف صدور الأشياء وظهورها في الوجود من عنده وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فيرى من أين صدر ذلك الشيء فيكون صاحب هذا الكشف خلاقا وهو الذي أراده الحق منه بهذا الكشف بل يعلم أنه خلاق من هذا الكشف ولم يزل كذلك وهو لا يشعر فأفاده هذا الكشف العلم بما هو الأمر عليه لا أنه بالكشف صار خلاقا فأمره الله عند ذلك أن يعطي كل شيء حقه من صورته كما أعطاه الله خلقه في صورته فلا تتوجه عليه مطالبة لمخلوق كما لا يتوجه على الحق تعالى مطالبة لمخلوق هذا ما أعطاه ذلك الكشف من الفائدة فإذا أقامه الحق تعالى في فعل من أفعاله المأمور بها أو المحجور عليه فيها نظر إلى ما لها من الحق قبله فوفى ذلك الفعل حقه فإن كان من الأمور المأمور بفعلها أعطاها حقها في نشأتها حتى تقوم سوية الخلق معدلة النشء فلم يتوجه لذلك الفعل حق على فاعله فلله الخلق وللعبد الحق فالحق أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ والخلق أعطى كل شيء حقه فدخل الحق في الخلق ودخل الخلق في الحق في هذه المسألة وإن كان من الأمور المنهي عنها فحقها على هذا العبد أنه لا يوجدها ولا يظهر لها عينا أصلا فإن لم يفعل فما وفاها حقها وتوجهت عليه المطالبة لها فلم يعط كل شيء حقه فلم يقم في الحق مقام الحق في الخلق فكان محجوجا فهكذا ينبغي أن تعرف الأمور والأوامر الإلهية وصورة التروك في الجناب الإلهي هو الذي لم يوجد من أحد الممكنين لوجود الآخر المرجح وجوده فهو من حيث إنه لم يوجد ترك له وهذه مسألة نبهناك عليها لعلمنا أنك ما تجدها في غير هذا الكتاب لأنها عزيزة التصور قريبة المتناول لمن اعتنى الله به تعطي الأدب مع الله وحفظ الشريعة على عباد الله وهي من الأسرار المخزونة عند الله التي لا تظهر إلا على العارفين بالله ولا ينبغي كتمها عن أحد من خلق الله فإن كتمها العالم بها فقد غش عباد الله ومن غشنا فليس منا أي ليس من سنتنا الغش ولما وقفنا على هذه المسألة في كتاب الرحمة الإلهية الذي هو سرح عيون قلوب العارفين شكرنا الله تعالى حيث رفع الغطاء وأجزل العطاء فله الحمد والمنة وإذا قام العبد صورة ما ذكرناه من كونه خلاقا تعين عليه من تمام الصورة الإلهية التي هو عليها أن يحفظ على ما أوجده صورته ليكون له البقاء أعني لذلك الموجود عنه فيدفعه لمن يحفظ البقاء عليه وهو الله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا في ذلك الأمر وأمثاله عن أمر ربه فلا ينسب إلى سوء الأدب في ذلك فالعبد في كل نفس مشغول بخلق ما أمر بخلقه والحق بتوكيل هذا العبد له قائم بحفظ ما خلقه بإذن ربه في الخلق والتوكيل وهذا علم دقيق إلهي وهو رد الحفظ إلى الله بحكم الوكالة عن أمر الله وإيجاد الأشياء عن العبد بأمر الله فلم يزل هذا العبد في كل حال تحت أمر الله ومن لم يزل تحت أمر الله في جميع أحواله لم يزل عند الله في شهوده أبدا دائما دنيا وآخرة فإنه له النشء حيث كان في الأولى والآخرة عن أمر الله قال تعالى في حق عيسى وإِذْ تَخْلُقُ من الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وكذلك أمر المكلف بالعمل فما عمل إلا بإذن الله وموطن هذا العبد واستقراره إنما هو عند ربه من حيث هو خير وأبقى وهو الآخرة التي هي خَيْرٌ وأَبْقى ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ من الْأُولى ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وهو عطاء كُنْ في ظاهر العين كما هو له في الباطن فإن الإنسان له في باطنه قوة كن وما له منها في ظاهره إلا الانفعال وفي الآخرة يكون حكم كن منه في الظاهر وقد يعطي لبعض الناس في الدنيا وليس لها ذلك العموم فمن رجال الله من أخذ بها ومن رجال الله من تأدب مع الله فيها لعلمه أن هذا ليس بموطن لها ولا سيما وقد رأى الأكابر الذين لا خلاف في تقدمهم عليه وعلينا قد قيل له إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ وقيل له أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ من في النَّارِ لأنه إذا أسلم فليس من أهل النار فلما رآها رجال الله غير عامة الحكم في هذه الدار جعلوا حكم ما لا تعم إلى حكم ما تعمه فترك الكل إلى موطنه وهذه حالة الأدباء العلماء بالله الحاضرين معه على الدوام فالأديب خلاق في هذه الدار بالعمل لا بكن بل ببسم الله الرحمن الرحيم ليسلم في عمله من مشاركة الشيطان حيث أمره الله بالمشاركة في الأموال والأولاد فهو ممتثل هذا الأمر الإلهي حريص عليه ونحن مأمورون باتقائه في هذه المشاركة فطلبنا ما نتقيه به لكونه غيبا عنا لا نراه فأعطانا الله اسمه فلما سمينا الله على أعمالنا عند الشروع فيها توحدنا بها وعصمنا من مشاركة الشيطان فإن الاسم الإلهي هو الذي يباشره ويحول بيننا وبينه وإن بعض أهل الكشف ليشهدون هذه المدافعة التي بين الاسم الإلهي من العبد في حال الشروع وبين الشيطان وإذا كان العبد بهذه الصفة كان على بينة من ربه وفاز ونجا من هذه المشاركة وكان له البقاء في الحفظ والعصمة في جميع أعماله وأحواله وهذا المنزل يحوي على علوم منها علم الفرق بين الدليل والآية وأن صاحب الآية هو الأولى بنسبة الحكمة إليه وبالاسم الحكيم من صاحب الدليل فإن الآية لا تقبل الشبهة ولا تكون إلا لأهل الكشف والوجود وليس الدليل كذلك وفيه علم الاختراع الدائم ولا يكون في الأمثال إلا فيما تتميز به بعضها عن بعض ذلك القدر هو حكم الاختراع فيها وما وقع فيه الاشتراك فليس بمخترع فافهم وفيه علم الخواص وفيه علم السبب الذي لأجله لا يرفع العالم بما علمه رأسا مع تحققه أن ذلك الوضع له يضره وفيه علم الفرق بين قول الإنسان في الشيء نعم بفتح العين وبين كسرها وأين يقول |


