الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة الفناء وأسراره |
قال تعالى وخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً حكم اقتضاه الموطن [الخلق كلهم في قبضة الحق]واعلم أيها الولي الحميم أن الخلق كان في قبض الحق للحق فلما انبسط ظهر للعالم قال الله تعالى لآدم ويداه مقبوضتان يا آدم اختر أيتهما شئت فقال آدم اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة فبسطها فإذا فيها آدم وذريته ولو فتح الأخرى لكان فيها سائر العالم فانظر إلى كون الإنسان في اليمين الحق إذ علم آدم أن بين اليدين فرقانا ولذلك قال أدبا وكلتا يدي ربي يمين مباركة فاختار القوة نظرا إلى نفسه لما علم أنه على الصورة وأنه خليفة فعلم إن القوة له فاختار الأقوى بأدب ولما كان الخلق مطويا في الحق لم ير نفسه وهو مشهود لله فلما كان البسط الإلهي ظهر العالم لنفسه فرأى نفسه ورأى من كان في قبضته عن شهود نفسه فعلم من أين صدر وكيف صدر وما علم هل له رجوع أم لا فقيل له وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وعلم أن الرجوع إنما هو رد إلى الأصل وقد علم أصل الوجود فعلم إلى أين يرجع وقد كان في الأصل لا يعلم نفسه فعلم أنه يرجع إلى منزله لا بعلم نفسه مع ظهور عينه كما لم يشهد نفسه إذ كان في قبضة موجدة فيكون مال العارفين ورجوعهم مع ثبوت عينهم إلى أن الحق عينهم لا هم وهذا مقام لا يكون إلا للعارفين فهم مقبوضون في حال بسطهم ولا يصح لعارف قط إن يكون مقبوضا في غير بسط ولا مبسوطا في غير قبض وما سوى العارف إذا كان في حال قبض لا يكون له حال بسط وإذا كان في حال بسط لا يكون له حال قبض فالعارف لا يعرف إلا بجمعه بين الضدين فإنه حق كله كما قال أبو سعيد الخراز وقد قيل له بم عرفت الله فقال بجمعه بين الضدين لأنه شاهد جمعهما في نفسه وقد علم أنه على صورته وسمعه يقول هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ وبهذه الآية احتج في ذلك ثم نظر إلى العالم فرآه إنسانا كبيرا في الجرم ورآه قد جمع بين الضدين فإنه رأى فيه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ورأى فيه الأضداد وهو أيضا على صورة العالم كما هو على صورة الحق فانظر ما أعجب هذه اللفظة من أبي سعيد ولهذا المقام كان يشير ذو النون المصري في مسائله من إيراد الكبير على الصغير وإدخال الواسع في الضيق من غير إن يوسع الضيق أو يضيق الواسع وقد ذكرنا هذه المسألة في معرفة الخيال من باب المعرفة من هذا الكتاب مستوفاة فبسط العلماء بالله من البسط المنسوب إلى الحق بل هو عين البسط المنسوب إلى الحق لأنهم إليه رجعوا فلم يكن البسط الإله *** فهم أهل محو وإن أثبتوا وهذا القدر كاف في تحقيق البسط من العلم الإلهي «الباب العشرون ومائتان في معرفة الفناء وأسراره»إن الفناء أخو العدم *** وله التسلط إن حكم هو عن كذا لا غيره *** فبعن له فينا قدم ثم الفناء عن الفناء *** حجاب ما ينفي الظلم فشبيهه بل عينه *** ما قيل في عدم العدم هي لفظة ما تحتها *** عين ولكن تحتكم ما زال تطلبه الرجاء *** ل فمن يقوم به عصم فيه إذا سلطانه يمضيه تحصين الحكم [ما المراد بالفناء]اعلم أن الفناء عند الطائفة يقال بإزاء أمور فمنهم من قال إن الفناء فناء المعاصي ومن قائل الفناء فناء رؤية العبد فعله بقيام الله على ذلك وقال بعضهم الفناء فناء عن الخلق وهو عندهم على طبقات منها الفناء عن الفناء وأوصله بعضهم إلى سبع طبقات فاعلموا أيدنا الله وإياكم بروح القدس أن الفناء لا يكون إلا عن كذا كما إن البقاء لا يكون إلا بكذا ومع كذا فعن للفناء لا بد منه ولا يكون الفناء في هذا الطريق عند الطائفة إلا عن أدنى بأعلى وأما الفناء عن الأعلى فليس هو اصطلاح القوم وإن كان يصح لغة فأما الطبقة الأولى في الفناء فهي إن تفني عن المخالفات فلا تخطر لك ببال عصمة وحفظا إلهيا ورجال الله هنا على قسمين القسم الواحد رجال لم يقدر عليهم المعاصي فلا يتصرفون إلا في مباح وإن ظهرت منهم المخالفات المسماة بالمعاصي شرعا في الأمة إلا إن الله وفق هؤلاء فكانوا ممن أذنبوا فعلموا إن لهم ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فقيل لهم على سماع منهم لهذا القول اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وكأهل بدر ففنيت عنهم أحكام المخالفات فما خالفوا فإنهم ما تصرفوا إلا فيما أبيح لهم فإن الغيرة الإلهية تمنع أن ينتهك المقربون عنده حرمة الخطاب الإلهي بالتحجير وهو غير مؤاخذ لهم لما سبقت لهم به العناية في الأزل فأباح لهم ما هو محجور على الغير وسائر من ليس له هذا المقام لا علم له بذلك فيحكم عليه بأنه ارتكب المعاصي وهو ليس بعاص بنص كلام الله المبلغ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأهل البيت حين أذهب الله عنهم الرجس ولا رجس أرجس من المعاصي وطهرهم تطهيرا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ وخبر الله صدق وقد سبقت به الإرادة الإلهية فكل ما ينسب إلى أهل البيت مما يقدح فيما أخبر الله به عنهم من التطهير وذهاب الرجس فإنما ينسب إليهم من حيث اعتقاد الذي ينسبه لأنه رجس بالنسبة إليه وذلك الفعل عينه ارتفع حكم الرجس عنه في حق أهل البيت فالصورة واحدة فيهما والحكم مختلف والقسم الآخر رجال اطلعوا على سر القدر وتحكمه في الخلائق وعاينوا ما قدر عليهم من جريان الأفعال الصادرة منهم من حيث ما هي أفعال لا من حيث ما هي محكوم عليها بكذا أو كذا وذلك في حضرة النور الخالص الذي منه يقول أهل الكلام أفعال الله كلها حسنة ولا فاعل إلا الله فلا فعل إلا لله وتحت هذه الحضرة حضرتان حضرة السدفة وحضرة الظلمة المحضة وفي حضرة السدفة ظهر التكليف وتقسمت الكلمة إلى كلمات وتميز الخير من الشر وحضرة الظلمة هي حضرة الشر الذي لا خير معه وهو الشرك والفعل الموجب للخلود في النار وعدم الخروج منها وأن نعم فيها فلما عاين هؤلاء الرجال من هذا القسم ما عاينوه من حضرة النور بادروا إلى فعل جميع ما علموا أنه يصدر منهم وفنوا عن الأحكام الموجبة للبعد والقرب ففعلوا الطاعات ووقعوا في المخالفات كل ذلك من غير نية لقرب ولا انتهاك حرمة فهذا فناء غريب أطلعني الله عليه بمدينة فاس ولم أر له ذائقا مع علمي بأن له رجالا ولكن لم ألقهم ولا رأيت أحدا منهم غير أني رأيت حضرة النور وحكم الأمر فيها غير أنه لم يكن لتلك المشاهدة فينا حكم بل أقامني الله في حضرة السدفة وحفظني وعصمني فلي حكم حضرة النور وإقامتي في السدفة وهو عند القوم أتم من الإقامة في حضرة النور فهذا معنى قول بعضهم في الفناء إنه فناء المعاصي «و أما النوع الثاني» من الفناء فهو الفناء عن أفعال العباد بقيام الله على ذلكمن قوله أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فيرون الفعل لله من خلف حجب الأكوان التي هي محل ظهور الأفعال فيها وهو قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي ستره واسع والأكوان كلها ستره وهو الفاعل من خلف هذا الستر وهُمْ لا يَشْعُرُونَ والمثبتون من المتكلمين أفعال العباد خلقا لله يشعرون ولكن لا يشهدون لحجاب الكسب الذي أعمى الله به بصيرتهم كما أعمى بصيرة من يرى الأفعال للخلق حين أوقفه الله مع ما يشاهده ببصره فهذا لا يشعر وهو المعتزلي وذلك لا يشهد وهو الأشعري فالكل عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «و أما النوع الثالث» فهو الفناء عن صفات المخلوقين بقوله تعالى في الخبر المروي النبوي عنه كنت سمعه وبصره وكذا جميع صفاته والسمع والبصر وغير ذلك من أعيان الصفات التي للعبد أو الخلق قل كيف شئت وعرف الحق أن نفسه هي عين صفاتهم لا صفته فأنت من حيث صفاتك عين الحق لا صفته ومن حيث ذاتك عينك الثابتة التي اتخذها الله مظهرا أظهر نفسه فيها لنفسه فإنه ما يراه منك إلا بصرك وهو عين نظرك فما رآه إلا نفسه وأفناك بهذا عن رؤيته فناء حقيقة شهودية معلومة محققة لا يرجع بعد هذا الفناء حالا إلى حال يثبت لك أن لك صفة محققة ليست عين الحق وصاحب هذا الفناء دائما في الدنيا والآخرة لا يتصف في نفسه ولا عند نفسه بشهود ولا كشف ولا رؤية مع كونه يشهد ويكشف ويرى ويزيد صاحب هذا الفناء على كل مشاهد وراء ومكاشف أنه يرى الحق كما يرى نفسه لأنك رأيته به لا بك وهذا مشهد عزيز لم أر له بالحال ذائقا فإنه دقيق فمن زعم أنه ذاقه ثم رجع بعد ذلك إلى حسه ونفسه وأثبت لنفسه صفة ليست هي عين الحق التي علمها فليس عنده خبر بما قاله ولا يعرف من شاهد ولا ما شاهد ثم إن صاحب هذا الفناء مهما فرق بين صفاته في حال الفناء فرأى غير ما سمع وسمع غير ما سعى وسعى غير ما شم وطعم وطعم غير ما علم وعلم غير ما قدر وميز وفرق بين هذه النسب وادعى أنه صاحب هذا النوع من الفناء فليس هو وإذا توحدت عنده العين فسمع بما به رأى بما به تكلم بما به علم وسعى وشم وطعم وأحس ولم يختلف عليه الإدراك باختلاف الحكم فهو صاحب هذا الفناء ذوقا صحيح الحال «و أما النوع الرابع» من الفناء فهو الفناء عن ذاتك وتحقيق ذلك أن تعلم أن ذاتك مركبة من لطيف وكثيف وأن لكل ذات منك حقيقة وأحوالا تخالف بها الأخرى وأن لطيفتك متنوعة الصور مع الآنات في كل حال وأن هيكلك ثابت على صورة واحدة وإن اختلفت عليه الأعراض فإذا فنيت عن ذاتك بمشهودك الذي هو شاهد الحق من الحق وغير الحق ولا تغيب في هذه الحال عن شهود ذاتك فيه فما أنت صاحب هذا الفناء فإن لم تشهد ذاتك في هذا الشهود وشاهدت ما شاهدت فأنت صاحب هذا النوع من الفناء وإنما قلنا شاهدت ما شاهدت ولم نخصص شهود الحق وحده فإن صاحب هذا الفناء قد يكون مشهوده كونا من الأكوان وهو حال يعصم ذات الإنسان من التأثر أخبرني الأستاذ النحوي عبد العزيز بن زيدان بمدينة فاس وكان ينكر حال الفناء وكان يختلف إلينا وكانت فيه إنابة فلما كان ذات يوم دخل علي وهو فارح مسرور فقال لي يا سيدي الفناء الذي تذكره الصوفية صحيح عندي بالذوق قد شاهدته اليوم قلت له كيف قال أ لست تعلم أن أمير المؤمنين دخل اليوم من الأندلس إلى هذه المدينة قلت له بلى قال اعلم إني خرجت أتفرج مع أهل فاس فأقبلت العساكر فلما وصل أمير المؤمنين ونظرت إليه فنيت عن نفسي وعن العسكر وعن جميع ما يحسه الإنسان وما سمعت دوي الكوسات ولا صوت طبل مع كثرة ذلك ولا البوقات ولا ضجيج الناس ولا رأيت ببصري أحدا من العالم جملة واحدة سوى شخص أمير المؤمنين ثم إنه ما أزاحني أحد عن مكاني ووقفت في طريق الخيل وازدحام الناس وما رأيت نفسي ولا علمت أني ناظر إليه بل فنيت عن ذاتي وعن الحاضرين كلهم بشهودي فيه ولما انحجب عني ورجعت إلى نفسي أخذتني الخيل وازدحام الناس فازالونى عن موضعي وما تخلصت من الضيق إلا بشدة وأدرك سمعي الضجيج وأصوات الكوسات والبوقات فتحققت إن الفناء حق وأنه حال يعصم ذات الفاني من أن يؤثر فيه ما فنى عنه هذا يا أخي فناء في مخلوق فما ظنك بالفناء في الخالق فإن شاهدت في هذا الفناء تنوع ذاتك اللطيفة ولم تشاهد معها سواها ففناؤك عنك بك لا بسواك فأنت فإن عن ذاتك ولست فانيا عن ذاتك فإنك لك بك مشهود من حيث لطيفتك وإنك لك بك مفقود من حيث هيكلك فإن شاهدت مركبك في حال هذا الفناء فمشهودك خيال ومثال ما هو عينك ولا غيرك بل حالك في هذا الفناء حال النائم صاحب الرؤيا «و أما النوع الخامس من الفناء» وهو فناؤك عن كل العالم بشهودك الحق أو ذاتك فإن تحققت من تشهد منك علمت أنك شاهدت ما شاهدته بعين حق والحق لا يفنى بمشاهدة نفسه ولا العالم فلا تفني في هذه الحال عن العالم وإن لم تعلم من يشهد منك كنت صاحب هذا الحال وفنيت عن رؤية العالم بشهود الحق أو بشهود ذاتك كما فنيت عن ذاتك بشهود الحق أو بشهود كون من الأكوان فهذا النوع يقرب من الرابع في الصورة وإن كان يعطي من الفائدة ما لا يعطيه النوع الرابع المتقدم «و أما النوع السادس من الفناء» فهو إن تفني عن كل ما سوى الله بالله ولا بد وتفني في هذا الفناء عن رؤيتك فلا تعلم أنك في حال شهود حق إذ لا عين لك مشهودة في هذا الحال وهنا يطرأ غلط لبعض الناس من أهل هذا الشأن وأبينه لك إن شاء الله حتى يتخلص لك المقام وإن الله ألهمني لهذا البيان وذلك أن صاحب هذا الحال إذا فنى عن كل ما سوى الله بشهود الله فيما يقول فلا يخلو في شهوده ذلك إما أن يرى الحق في شئونه أو لا يراه في شئونه فإنه لا يزال في شئون إذ لا غيبة له عن العالم ولا عن أثر فيه فإن شاهده في شئونه فما فنى عن كل ما سوى الله وإن شاهده في غير شئونه بل في غناه عن العالم فهو صحيح الدعوى فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وهذا المشهد كان للصديق فإنه قال ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فأثبت أنه رآه ولا شيء ثم أقيم في مشهد آخر فرأى صدور الشيء عنه وقد كان رآه ولا شيء فجعل تلك الرؤية قبل هذا الشهود فقال ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فقد أبنت لك الأمر على ما هو عليه «و أما النوع السابع من الفناء» فهو الفناء عن صفات الحق ونسبها وذلك لا يكون إلا بشهود ظهور العالم عن الحق لعين هذا الشخص لذات الحق ونفسه لا لأمر زائد يعقل ولكن لا من كونه علة كما يراه بعض النظار ولا يرى الكون معلولا وإنما يراه حقا ظاهرا في عين مظهر بصورة استعداد ذلك المظهر في نفسه فلا يرى للحق أثرا في الكون فما يكون له دليل على ثبوت نسبة ولا صفة ولا نعت فيفنيه هذا الشهود عن الأسماء والصفات والنعوت بل إن حققه يرى أنه محل التأثر حيث أثر فيه استعداد الأعيان الثابتة من أعيان الممكنات ومما يحقق هذا كونه تعالى وصف نفسه في كتابه وعلى ألسنة رسله بما وصف به المخلوقات المحدثات وإما أن تكون هذه الصفات في جنابه حقا ثم نعتنا بها |