و يكفيه هذا القدر من جهله بما *** هو الأمر في عين الحقيقة يكفيه
إذا انكشفت الحقائق فلا ريب و لا مين و بان صبحها لذي عينين كان الاطلاع و ارتفع النزاع و حصل الاستماع و لكن بينك و بين هذه الحال مفاوز مهلكة و بيداء معطشة و طرق دارسة و آثار طامسة يحار فيها الخريت فلا يقطعها إلا من يحيي و يميت لا من يحيا و يموت فكيف حال من يقاسي هذه الشدائد و يسلك هذه المضايق و لكن على قدر آلام المشقات يكون النعيم بالراحات و ما ثم بيداء و لا مفازة سواك فأنت حجابك عنك فزل أنت و قد سهل الأمر فمن علم الخلق علم الحق و من جهل البعض من هذا الشأن جهل الكل فإن البعض من الكل فيه عين الكل من حيث لا يدري فلو علم البعض من جميع وجوهه علم الكل فإن من وجوه كونه بعضا علم الكل و هذا المنزل من المنازل التي كثرت آياتها و اتضحت دلالاتها و لكن الأبصار في حكم أغطيتها و القلوب في أكنتها و العقول مشغولة بمحاربة الأهواء فلا تتفرغ للنظر المطلوب منها و في هذا المنزل من العلوم علم مقاومة الأعداء و تقابل الأهواء بالأهواء فإن العقول إن لم تدفع الهوى بالهوى لم تحصل على المقصود فإن النفوس ما اعتادت إلا الأخذ عن هواها فإذا كان العقل عالما بالسياسة حاذقا في إنشاء الصور أنشأ للنفس صورة مطلوبه في عين هواها فقبلته قبول عشق فظفر بها و فيه علم خواص الأعداد و الحروف و فيه علم بسائط الأعداد و ما حكمها فيما تركب منها و هل يبقى فيها مع التركيب خواصها التي لها من كونها بسائط أم لا و فيه علم الظروف الزمانية و بيد من هي و فيه علم الزمان المستقبل إذا كان حالا ما حكمه و فيه علم أحدية العلم و ما ينسب إليه من الكثرة ليس لعينه و إنما ذلك لمتعلقاته و فيه علم ما ينتجه النظر الفكري في الظروف المكانية و فيه علم آجال الأكوان في الدنيا و الآخرة مع كون الآخرة لا نهاية لها و عموم قوله ﴿كُلٌّ يَجْرِي إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [لقمان:29] فلا بد لكل شيء من غاية و الأشياء لا يتناهى وجودها فلا تنتهي غاياتها فالله يجدد في كل حين أشياء و كل شيء له غاية تلك الغاية هي أجله المسمى فليس الأجل إلا لأحوال الأعيان و الأعيان غايتها عين لا غاية و فيه علم الحقيقة و المجاز و الاعتبار و مم يعبر و إلى ما ذا يعبر و ما فائدة ذلك و فيه علم عمارة الدارين و هو الذي ذكرنا منه طرفا في هذا الباب و ما استوفيناه و فيه علم اختلاف أحكام أحوال الساعة و فيه علم اختلاف المكلفين في أحوالهم و أن اللّٰه يخاطب كل صنف من حيث ما هو ذلك الصنف عليه لا يزيده على ذلك و فيه علم يقضي بأن الأمر بدء كله لا إعادة فيه و فيه علم كون الحق ينزل في الخطاب إلى فهم المخاطب و كله حق و إن تناقض و ظهر فيه تقابل فثم عين واحدة تجمعه كالسواد و البياض ضدان متقابلان يجمعهما اللون و كالألوان حقائق مختلفة يجمعهن العرض و فيه علم التوحيد بعين التشبيه و فيه علم التفضيل و فيه علم حكم كلمات اللّٰه حكم خلق اللّٰه و فيه علم تكوين الأعمال الكونية و إقامتها صورا و فيه علم الجمع و الوجود و فيه علم ما تقتضيه النشأة الطبيعية من الأحكام و فيه علم العلل و الأسباب و الجزاء و فيه علم الفرق بين أسباب الدنيا و أسباب الآخرة و فضل أسباب الدنيا عليها و فيه علم ما يعود على الإنسان من عمله و ما يضيف إلى اللّٰه من ذلك يضيفه إلى نفسه و فيه علم التكوين الإلهي من الأسباب الكونية و هي الآثار العلوية البرزخية لا غير و فيه علم تغير الأحوال لتغير الحركات الفلكية و فيه علم حال الحيوان من حين نشأته إلى حين موته و فيه علم القياس الإلهي و فيه علم تأثير الكون في الكون و علم ما يتقي به ذلك التأثير و فيه علم القيامة و أحوالها و مراتبها و فيه علم أمر العالم بجملته و فيه علم فضل أهل النواميس الإلهية على أهل النواميس العقلية الحكمية فهذا ذكر أكثر ما يحوي عليه هذا المنزل من العلوم ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4]
«الباب الخامس و الخمسون و ثلاثمائة في معرفة منزل السبل المولدة و أرض العبادة
و اتساعها و قوله تعالى
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية